أبحاث

السنة النبوية مصدرًا للمعرفة

العدد 59

بين منهجين :

في مناهج الفكر, السائدة والمؤثرة, في الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة ـــ بشقيها الليبرالي والشمولي ـــ وبسبب من النزعة المادية في دراسة الواقع والتاريخ وتفسيرهما, كانت السيادة للمناهج الوضعية التجربيية أكثر من غيرها, بل ودون غيرها فى أغلب الميادين.

فالإِنسان في نظر هذه الحضارة هو الإِنسان الدنيوى, إنسان عالم الشهادة .. إنسان ( …. ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر )(1) … وتى عندما يتدين, فإن تدينه يقف عند الطقوس, فلا يعرف طريقه إلى تشكيل واقعه ونظرته للدنيا ومناهجه في التفكير .. وبسبب من سيادة هذه النزعــة (( الدنيوية ـــ العلمانية )), لم تعتمد مناهج الفكر الوضعى هذه سوى (( الدنيا ـــ العالم ـــ المحسوس )) مصدراً وحيداً للمعرفة الحقيقية والعالم الصحيح, كما وقفت في أدوات المعرفة عند الحواس دون سواها, وقطعت, فيما يشبه الإِطلاق والتعميم, بأن ما سوى المادة والمحسوس, وما سوى الحواس ـــ والعقل قوة من قواها ـــ لا يمكن أن يثمر معرفة صادقة ولا علما يقينا, وأقصى ما يبلغه هو إنتاج (( الخيال )) و (( الميتافيزيقا )) التي إن أشبعت (( الوجدان )) فإنها لا ترقي إلى ما تطمئن إليــه (( العقول )) ! ..

ولذلك المنطلق والموقف في المذهبية الغربية كان انفراد (( المنهج التجريبي )) لديها كالمنهج الوحيد القادر والصالح لأن يثمر المعارف اليقينية التي تستحق احترام المفكرين والعلماء .. فلأن أصحاب هذه النوعة قد اختزلوا عالم الإِنسان إلي (( عالم الشهادة )) كان اختزالهم مصادر المعرفة الصحيحة إلى الظواهر المادية دون غيرها, ومن ثم اختزالهم أدوات المعرفة إلى الحواس ..

تلك هى النزعة السائدة والمؤثرة في مناهج الفكر الغربي .. النزعة الوضعية لأصحاب المنهج التجريبي ..

أما المذهبية الإِسلامية, ذات السيادة والتأثير ـــ في مناهج الفكر ـــ بالحضارة الإِسلامية, فإن لها في هذه القضية موقفا آخر مغايرا ..

فالإنسان, فى المنظور الإِسلامى, ليس دنيويا فقط, لأنه مخلوق لله الواحد, سبحانه وتعالى, وهو فى هذه الدنيا ليس موكلا إلى واقعه المحسوس وإلى حواسه وحدهما, لأنه فيها خليفة لله, سبحانه, مكلف بإعمارها وفق بنود عهد وعقد استخلاف, وهذه الأمانة التى حملها هي الابتلاء الذى سيحاسب عليه, بعد البعث في يوم الدين ..

إذاّ, ففي المنظور الإِسلامى, ليست هذه الدنيا, وليس عالم الشهادة هذا, هو العالم الوحيد الذى يؤمن بوجوده هذا الإِنسان المسلم .. فقبله كان عالم البدء .. وبعده يأتى عالم المصير .. فليست المادة والمحسوسات هى وحدها مصدر المعرفة, لأن عالمها ليس هو العالم الوحيد في هذا الكون وهذا الوجود.

ولأن الإِنسان هو واحد من مخلوقات الله, التى تجل عن عد وحصر هذا الإِنسان … وبسبب مكانته الخالصة, المميزة والمتميزة, بين سائر المخلوقات, كانت رعاية الله, سبحانه وتعالى لهذا الإنسان, وهي التي تتخذ العديد من الصور, وتسلك الكثير من الطرق والأساليب .. ولما كان مصدر هذه الرعاية, اله سبحانه وتعالى, ليس مادة, فلقد جعل لهذه الرعاية, بما تضمن من فكر وتوجيه وعلم وتعليم, مصادر ووائل غير تلك المادة المحسوسة التى تدركها حواس الإِنسان …. وهنا يأتى دور الرسالات السماوية فى مصادر المعرفة لدى المؤمنين بهذه الرسالات .. فالوحي الإِلهي ـــ عبر الرسالات والرسل ـــ هو مصدر ـــ غير مادي ـــ للمعرفة والعلم والفكر والتوجيه ..

فعالم الشهادة, هو أحد عوالم هذا الكون, وليس العالم الوحيد فيه .. والحواس التي يدرك بها الإِنسان معارف عالم الشهادة, هي حواس إنسان مخلوق, فهي إذن محدودة القدرات والآفاق, إذا ما قيست بالقدرة المطلقة والعلم الكلي والمحيط لمن خلق هذا الإِنسان ورعاه .. فإذا استقلت هذه القدرات الإِنسانية بإدراك أمر, فإنها لا تستقل بإدراك أمور, ولذلك فلقد منّ الله, سبحانه وتعالى, على هذا الإِنسان, كمظهر من مظاهر رعايته له, وبسبب مكانته الخاصة بين المخلوقات ـــ إذ هو الذي نفخ الله في طينته من روحه, وحمل, دونها, أمانة الاختيار والمسؤولية والتكليف ـــ من الله على هذا الإِنسان بأن يسر له مصادر للمعرفة وسبلاً لاحصيلها, تتيح له علم ما تعلمه أياه ظواهر المادة في عالم الشهادة المحسوس ..

إن الله تعالى لم يكاه ـــ في المعرفة ـــ إلى حواسه وحدها, وإلى قدراتأه بمفردها .. فكانت رسالات السماء مصادر للمعرفة, لا تلغي المعارف المحسوسة المشاهدة, ولا تقلل من شأن أدوات إدراكها, وإنما تضيف إلى المعرفة الانسانية معارف يقينة, لا تثمرها المادة وتستقل بإِدراكها الحواس, لأنها معارف عوالم غير مادية. وإنباء عن مقادير من علم هذه العوالم, تفضل بها على هذا الإِنسان عالم الغيب والشهادة, وذلك حتي لا يظل هذا الإِنسان ـــ المكون من الروح والجسد ـــ بمعزل عن غذاء الروح, وحبيسا للمعارف المادية دون سواها ..

كانت معارف هذه الرسالات السماوية ـــ تأكيداً للمعارف العقلية الصادقة, يطمئن الإِنسان العاقل على صدق ما وصل إليه بعقله الإنسانى, عندما وصل ذاتياً إلى تحسين الحسن وتقبيح القبيح ..

ـــ وتصحيحاً لأحكام وتصورات الحواس ـــ ومنها العقل الإِنساني ـــ التي لم تصادف الحق والصواب ـــ لنسبية قدرات هذه الحواس ومحدودية آفاقها.

ـــ وإعانه لهذا الإِنسان على معرفة وإدراك المقادير الضرورية ـــ لترشيد مسيرته ـــ من المعارف والعلوم التي لا يستطيع عقله أن يستقل بإدراكها ..

ـــ ودعوة له كي يغوص فيما لا تدركه حواسه, مما سكتت هذه الرسالات عن تفصيل خبره من المغيبات, ومن الأحكام التعبدية ..

فهى, إذاً, عوالم وميادين ومصادر للمعرفة .. وهي, أيضا, سبل متعددة لتحصيل المعارف اليقينية, يؤمن بها الإِنسان المسلم, بحكم إيمانه الدينى, وليس فقط عالم الشهادة, ولا الحواس الإِنسانية وحدها, هي مصادر وأدوات المعرفة الحقة ـــ كما في (( الوضعية ـــ المادية )) عند المفكرين الغربيين ..

إن الإنسان المسلم, بحكم إيمانه بتعدد عوالم هذا الكون وهذا الوجود, وبحكم إيمانه بالكثرة والتعددية ـــ التي لا نستطيع, لأننا بشر, حصرها ـــ في أمم المخلوقات وجماعاتها في هذا الوجود .. وبحكم إيمانه بالتكليف والمسؤولية التي ترتبت على حمله الأمانة ـــ كخليفة لله ـــ الأمر الذى يقتضي حساباً وجزاء, تنتفي بهما (( العبثية )) عن هذا الوجود .. إن هذا الإِنسان ـــ بحكم ذلك الإِيمان ـــ لا يقف بتطلع أيضا إلى ما وراء هذا العالم, ويتلمس معارف لا تحتملها حواسه وحدها, ولا تستقل بإدراك حقائقها .. وهو يشعر, بسبب تجاوزه إطار الدنيوية المحدود, بأن سعادته ـــ الدينوية والأخروية ـــ مرهونة بتكامل معارفه ـــ ولو على نحو ما ــ للكثير من ميادين المعرفة ومصادرها .. وهنا تأتى الرسالات السماوية, بما تقدم من مصادر للمعرفة غير مادية, لتبلي تطلعات هذا الإِنسان.

تلك هى المنطلقات الإِيمانية, التي جعلت للمذهبية الإِسلامية, فى مصادر المعرفة, نهجاً متميزاً من ذلك الذي ساد لدى المفكرين الوضعين الغربيين.

ولـذلك, وجدنا هذه المذهبية الإِسلامية, لا تقف بمصادر المعرفة عند (( المنهج التجريبي )) وحده .. إنها لم تهمله, ولم تغض من شأنه ولا من شأن ثمراته المعرفية, بل إنه أحد إبداعات حضارتها الإِسلامية, فيها تبلور, وأعطى ثمراته, قبل أن ينتقل ويتطور لدى الغربيين … إنها لا اهمله, ولكنها لا تقول بوحدانيته سبيلا للمعارف الإِنسانية اليقينية … وإنما هي تعتمد معه :

أ ـــ المنهج الاستنباطي : ذلك الذي يستنبط به الإِنسان من الجزئيات المادية معارف تقطع بضرورة وجود غير عادى …

إن العقل المسلم عندما ينظر في آيات الكون, وظواهر المادية, والنظام المحكم الذى يحكم كل من فيه وما فيه, لا تقف معارفه المستنبطة عند ما هو مادي منها, نستقل حواسه بإدراكها, وإنما هو يدرك, يقينا, ضرورة وجود غير مادي, مفارق لهذا العالم المادى, هو الذي منحه الوجود والنظام والانتظام ..

ب ـــ والمنهج التاريخي : الذي يستدل به الإِنسان, بواسطة التواتر النقلي, على وجود مادي تاريخي لم تشهده حواسه, ومع ذلك فإن هذه الحواس تبلغ في التصديق بوجوده مرتبة اليقين.

جـ ـــ والمنهج السمعي : ذلك الذي يكون الوحي الإِلهي ـــ البلاغ القرآني, والسنة النبوية ـــ البيان النبوي لهذا البلاغ القرآني ـــ مصدر علومه ومعارفه .. فبهذا المنهج السمعي يدرك الإِنسان المعارف المتاحة عن عالم الغيب, غير المادي, والذي يستحيل إدراكه بالأدوات المادية للإِدراك .. كما يدرك المعارف التي تعين العقل على إدراك مالا يستقل بإدراكه, وتساعد الحواس على وعي مالا تنفرد بوعيه ..

وليس أمر هذه المعارف ـــ التي تتحصل للإِنسان بالمنهج السمعي ـــ ليس أمرها في الصدق واليقين أقل مما يكون الحال عليه فى الصدق واليقين أقل مما يكون الحال عليه فى معارف المنهج التجريبي, كما حسب ويحسب ذلك الغربييون, الذين رأوها (( خيالاً ـــ وميتافيزيقا )) لا ترقى إلى مرتبة اليقين .. ليس أمر هذه المعارف وحظها من اليقين على هذا النحو من التواضع والتدني, بل إن الأمر ربما كان على النقيض من تصور الغربيين لهذا الموضوع .. موضوع يقينية المعارف المتحصلة عن طريق المنهج السمعي …

فالمنهج السمعي, إذا اكتملت مقومات الثقة بمصادر معارفه, واجتمعت شروط الصحة لمأثوراته, رواية ودراية, كان اطمئنان العقل المؤمن للمعارف المتحصلة عن طريقه, أكثر من تلك المعارف المتحصلة بحواس الإِنسان … إذ ثمة فارق عظيم وأكيد, بين خير مصدره صاحب العلم المطلق والمحيط, وبين خير مصدره علم العالم المحدود القدر والإِمكانات … وفارق عظيم بين خير المعصوم وخير الخطاء ..

وقد يتساءل الذين يتشككون فى هذه الحقيقة :

أنى للإِنسان, الذى يدرك بالحواس المادية, ويعقل بعقله, أن يتيقن بمعارف مصادرها غير مادية, ولا تستطيع الأدوات المادية للإِنسان أن تختبر صدقها, وتتحقق من درجة يقينها ؟؟ … و … ألا يكون اكليف الإِنسان ـــ وهذا حاله ـــ بالتصديق بمعارف لا تستطيع أدواته المادية اختبارها, لونـاً مـن ألــوان (( الشكل المنطقي )) ! .. ولكننا ننبه على أن المعرفة بالمنطلقات الإِيمانية الإِسلامية تنفي وجود الحاجة لهذا التساؤل من الأساس …

ذلك أن المسلم يدرك حقيقة وجود إله ـــ غير مادي ـــ خالق لهذا العالم, وقائم على رعايته … يدرك بالعقل الناظر فى (( الصنعة )) و (( المصنوع )) وفي آيـات الوجود وكتاب الكون المادي المفتوح .. فبالاستنباط العقلي يؤمن المسلم بالله المستجمع للكمالات المطلقة والقدرات المطلقة .. وبما أن رعاية الخالق لمخلوقاته هي بعض من كمالات هذا الخالق, كما اللطف الإِلهي, المتمثل في الرسل والرسالات السماوية, هداية للإنسان, وتصويبا لخطاه على درب الخلافة, وإعانة لعقله وحواسه على إدراك الضروري من المعارف التى لا تستقل قدراته بإدراكها, ولا ينفرد عقله بعقلها …. إذن …. فمصدر هذه المعارف السمعية, التى نتلقاها بالمنهج السمعي, لا يقل في المعقولية عن المصادر المادية للمعارف المستفادة بالمنهج التجريبي؛ لأن هذه المصادر الغيبية هى مصادر معقولة, عقلها الإِنسان العاقل بالمنهج الاستنباطي, فليست هي من (( الميتافيزيقا )) و (( الخيال )), الغريبين عن العقل ويقينه, كما يحسب الوضعيون الغربيون .. فإذا توفرت للأخبار السمعية شروط الصدق, رواية ودراية, بعد أن رأينا توفر معقولية مصادرها, رغم لا ماديتها ورغم غيبتها, فإنها تكون قد استجمعت وامتلكت كل شروط اليقين الذي يتطلع إليه العقل الإِنساني ويتطلبه فى المعارف اليقينية …

تلك هي منطلقات المذهبية الإِسلامية فى النظر إلة مناهج المعرفة, وذلك هو طريقها المتميز فى اعتماد المنهج السمعي واحداً من المناهج التي تثمر المعارف الصادقة واليقينة فى النسق الفكري الذي ساد غدت السنة النبوية ـــ ومن قبلها القرآن الكريم ـــ مصادر للمعرفة, والمعرفة اليقينة, فى مذهبية الإِسلام ..

القرآن … والسنة … أو : البلاغ .. والبيان :

القرآن الكريم, وهو كلام الله, ووضعه, وكتابه الذى أحكمت آياته, وبلاغه المبين, على لسان رسوله محمد بن عبد الله, ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, إلى العالمين .. هو وخي الله تعالي إلى رسوله, ومعجزة التحدي وآيـة صدق هذا الرسول .. وهو, بمقاييس أرقى مستويات المنهج السمعي, المصدر الذى لا يدانيه سواه, سواء فى الإِعجاز المتحدي, أو في الحجية المعجزة, أو في توثيق الرواية, أو فى عقلانية الدراية, أو التعهد الإِلهي له بالحفظ, وبعدم تبديل ما فيه من كلمات, وبالقطع بأن الباطل لا يأتيه من أى اتجاه ..

( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )(2) .. ( وإذا تتلي عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله, قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي, إن أتبع ما يوحي إلي, إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم )(3) .. ( لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة, لا تبديل لكلمات الله, ذلك هو الفوز العظيم )(4) … ( واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك, لا مبدل لكلماته, ولن تجد من دونه ملتحدا )(5) .. ( … وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين بديه ولا من خلفه, تنزيل من حكيم حميد )(6) …

ولقد كان تطاول القرون التي بلغت الخامس عشر حتي الآن ـــ شاهدا على صدق هذا الوعد الإِلهي بالحفظ وعدم التبديل, ونفي الباطل, ومعجزا جديدا, ودائما يشهد على أن هذا القرآن الكريم بالغ, في مصادر المعرفة, أعلى درجات الصدق والثقة واليقين .. وذلك فضلا عن دلائل صدقه المستمدة من أدلة إعجازه الأخرى, التي لا مجال للحديث عنها في هذه الإِشارة, بهذا المقام …

ولقد كانت مهمة الرسول, ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, وهو الذى بلغت دعواه الرسالة بهذا القرآن المعجز قمة اليقين المعرفي ـــ .. كانت مهمة الرسول :

أ ـــ البلاغ لهذا القرآن الكريم … وهي مهمة جاءه الأمر بها في كثير من آيات هذا القرآن .. بلفظ (( البلاغ )) ومشتقاته, وبألفاظ أخرى تحمل ذات المضمون .. مضمون إبلاغ هذا القرآن الكريم إلى العالمين .. ولقد نهض رسول الله, ـــ صّلى الله عليـه وسلم ـــ, بهذه المهمة, فبلغ الرسالة, وأشهد على ذلك الله والناس أجمعين ..

ب ـــ والبيان لهذا البلاغ القرآنى … وذلك بتفصيل مجمله .. وتفسيؤ إشاراته .. والبسط للكياته والتخصص لعامه .. والتقييد لمطلقه .. ووضع الضوابط المعينة على التمييز بين محكمة ومتشابهة … وأيضا بتوقيت الشعائر والفرائض والمناسك, وبيان مقاديرها وشروطها وأركانها وأنصبتها ومصادرهـــــا ومصارفهـــــا وهيئاتها .. الخ .. الخ .. ثم, صياغة المقاصد الشرعية الكلية في قوانين تحكم واقع الأمة وعلاقات أبنائها, وتصبغهما بصبغه الله .. الخ .. الخ ..

تلك كانت المهمة الثانية من مهام الرسالة, مهمة البيان للبلاغ القرآنى .. ولقد أنجزها الرسول , ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, وكان فيها القائم بما فرضه عليه الله .. ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون )(7) .. ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيـه وهـدى ورحمة لقــوم يؤمنون )(8) ..

جـ ـــ والتجسيد العملي للرسالـة الإِلهية : عقيدة وشريعة وقيما وأخلاقاً, التجسيد العلمي لها, بالتجربة النبوية, والتطبيق النبوي لمعالم المنهج الإِسلامي, والذي وضع الفكر القرآني في الممارسة والتطبيق, وأحال المنهج الرباني بناء معاشا فى الحياة, تخلقت من حوله إبداعات المسلمين, المصطبغة بصبغته الربانية في شكل علوم وفنون وأبنية مدنية, هي تلك التى مثلت حضارة الإِسلام ..

فالإِسلام لم يقف, في الرسالة المحمدية, عند حدود البلاغ القرآني, ولا البيان النبوي النظري لهذا البلاغ القرآني, لأنه لم يكن مجرد مذهب, أو نحلة فكرية أو وصايا يودعها الرسول أمانة لدى عدد من الحواريين .. وإنما كان, عبر التجربة النبوية, بناء حياتيا معاشا, في الممارسة والسلوك والدولة والعلاقات .. لقد غدا صبغه الله التى صبغت الواقع والأمة والفكر والحضارة .. فكان القرآن ـــ البلاغ ـــ الذى جسدته السنة النبوية ـــ بالبيان النظري والتجسيد التطبيقي ـــ كيانا حياً يحيا به المسلمون, ويحيا في هؤلاء المسلمين ! …

تلك هي السنة النبوية, في مفهوم كاتب هذه الصفحات, وتلك هي مكانتها ـــ (( مصدرا )) للمعرفة ـــ من القرآن, أول وأوثق مصادر المعرفة السمعية اليقينة في حيــاة الإِسلام والــنسق الفكـــري للمسلمين ..

ولذلك. فإنه بحكم شمول البلاغ القرآني لشؤون عالمي الغيب والشهادة. وجمعه للمبادىء والكليات والوصايــا والتوجيهات والضوابط الهادية والموجهة والمرشدة والحاكمة لكافة مناحي الحياة الإِنسانية .. ووفائه ـــ باعتباره كتاب الرسالة الخاتمة والخالدة ـــ بالإِجابة على علامات الاستفهام الإِنساني : عن البدء .. والحكمة .. والتاريخ .. والواقـــع .. والمستقبل .. والمنتهي والمصير .. وعن النعايير في كل ذلك .. بحكم شمول البلاغ القرآنس ووفائه ـــ مصدرا للــمعرفة الإِسلامية الأولى ـــ لكل هذه العوالم والميادين .. كانت السنة النبوية ـــ بحكم كونها البيان القرآني, مصدرا للمعرفة اليقينية فى كل ميادين ومناحي هذا البلاغ القرآني …

إن السنة ـــ فى عرفنا الشرعى : هى ما صدر عن رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ غير القرآن ـــ من قول ـــ هو الحديث ـــ أو فعل أو تقرير ……

ومع صدق ودقه هذا التعريف .. فإن مقاصد هذا البحث, تجعل لتعريف السنة هذا أبعادا مع هذه المقاصد, فتراها : منهج النبوة (( النظري ـــ والعملي )), الذى جسد البلاغ القرآني, وأحال كلمات الله واقعا وحضارة يحياهما الناس الذين آمنوا بهذا البلاغ .. ومن هنا تأتى مكانتها مصدراً للمعرفة, تستمد صدقها ـــ بعد اجتماع شروط الصدق في الرواية والدراية ـــ من صلتها بالقرآن الصادق باللإِعجاز .. إن إطار هذه السنة ـــ مبينة للبلاغ القرآني ـــ يحتم أن يكون لها فى هذا البلاغ معنى أو مبنى, وهي بذلك قد غدت وتغدو المصدر النبوي لبيان البلاغ الإِلهي, سواء أكان بلاغا هذا البيان النبوي أو اجتهادا نبويا أقره بلاغ القرآن ..

وبهذا المعني لعلاقة السنة النبوية بالقرآن الكريم .. وفي إطار موقف المذهبية الإِسلامية من المنهج السمعي, فإن المسلم يلتمس في هذه السنة ومنها ـــ مصدراً للمعرفة ـــ :

أ ـــ مصدراً لمعرفة أسباب نزول البلاغ القرآني والوحي الإِلهي على رسول الله, صّلى الله عليــه وسلم ـــ .. بما يمثله ذلك من علم لتفسير القرآن, ووعى بحكمة التشريع, وعون على مواكبة هذا التشريع للتطور مع تغير الزمان والمكان ..

ب ـــ ومصدرا لمعرفة التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادى والحربي والأدبي للتجربة الإِسلامية فى عصر صدر الإِسلام, وهي التى حولت البلاغ القرآني والبيان النبوي إلى كيان اجتماعى حى, ومجتمع إنسانى وبناء حضاري معاش ..

جـ ـــ ومصدراً للفروع التى وقف القرآن عند أصولها, ومنها نتعلم التميز بين الثوابت والمبادئ والأركان والأصول وبين الفروع والمتغيرات, التى تقوم وتنمو وتتجدد على هذه القواعد والأصول, مرتبطه بها. ومصطبغة بصبغتها, وفي الوقت ذاته مظلَّلة لمساحــات جديــدة مـن الوقائــع والمشكلات ..

د ـــ ومصدراً لأبنية وهياكل الدولة الإِسلامية التى أقامها المسلمون لحماية الدعوة ونصرتها .. وهي التى ـــ مع ما يماثلها ـــ تمثل نماذج (( للواجبات المدنية )) التى اقتضتها (( الفرائض الدينية )) فاكتسبت صبغة الواجبات الإِسلامية وأهميتها, حتى دون أن يرد التشريع بفريضتها صراحة في البلاغ القرآني …

هـ ـــ ومصدراً للتشريع النبوي والتراث القانوني في السنة, سواء ما كان منه التفصيل لمجمل القرآن, أو ما كان منه اجتهادا فيما لا وحي فيه .. وهي, كذلك, المصدر للتمييز في هذا الاجتهاد النبوي بين ما أقره الوحي, بالنص عليه أو بالسكوت عنه, وبين ما نزل الوحي مصوبا له أو معدلا ..

و ـــ ومصدراً للتميز ـــ فى الممارسات النبوية ـــ بين (( الدين ـــ الثابت )) الذى يجب فيه (( الاتباع )) للمنطوق والمفهوم, وبين (( المتغيرات ـــ الدنيوية )), التى يجب فيها التـزام المقاصـد, دون حرفيــة التطبيقات .. وأيضا التمييز بين (( الدين ـــ الثابت )) وبين المتغير من الأعــراف والعادات ..

ز ـــ ومصدراً للتميز بين ما لا يستقل العقل بإدراكه ـــ من حيث الحسن والقبح ـــ وفي التشريع والأحكام والفرائض والشعائر .. وفي كيفية الجزاء, ومقادير الثواب والعقاب .. وبين ما هو من شؤون الدنيا, الموكولة إلى عقول البشر, لقدرتها على أن تستقل بإِدراكها ـــ حسنا وقبحا ـــ وعلى أن تقنن لها في إطار شرع الله ..

كل هذه المعرف ـــ وغيرها مما ماثلها كثير ـــ تنهض السنة النبوية, وفى النسق الفكري الإِسلامي, ووفقا لقواعد المنهج السمعي, مصدرا للمعرفة اليقينية في ميادينها … بل إن صحيح هذه السنة, الذى اجتمعت له شروط الصدق ـــ من حيث الرواية والدراي ـــ هو كنز للمعارف الإِسلامية, شديد الغنى وعظيم الثراء وحجم الفوائد, كان ولا يزال وسيظل المنبع للصورة المكتملة الملامح لمنهج النبوة الرباني, في تطبيقات الحياتية الحية .. وهو المنهج الفاعل في أي جهد جاد من أجل الإِحياء والتجديد والتقويم لحياة الأمة عندما تتراجع تصوراتها وتطبيقاتها عن معايير ومعالم هذا المنهج, فتعدو على إسلامية فكرها وواقعها عوامل الانحراف ..

هنا تصبح السنة, الكاشفة عن معالم منهج النبوة, مصدرا غنيا للمعرفة المجددة لفكر الإِسلام ولواقع المسلمين ..

هذا عن مكان السنة النبوية مصدرا للمعرفة فى منهج الاسلام.

نماذج شاهدة :

وإذا شئنا نماذج شاهدة ـــ أو على الأقل أمثل لها ـــ تؤكد صدق الذي ذهبت وتذهب إليه هذه الصفحات, فإننا واجدون في عوالم المعارف التي ضمتها السنة النبوية, المتواترة والمشهورة, والتي تجسدت فغدت واقعا تعيشه الأمة وتمارسه منذ عصر صدر الإِسلام حتى الآن وإلى ما شاء الله .. إننا واجدون فى عوالم معارف هذا المصدر النبوى ما يشهد على أن هذا هو مكانها من عوالم معارف المصدر الإِسلامى الأول : القرآن الكريم .. البيان النبوي من (( البلاغ الإِلهي )) ..

وعلى سبيل المثال :

ـــ فالقرآن الكريم يشير إلى قضية (( بدء )) الخلق, ذلك الذي تفرد به الله سبحانه وتعالي, وجاءت إشارات القرآن لتتحدى به الطواغيت وعبدة غير الله .. ( قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق )(9) .. ( الذى أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإِنسان من طين )(10) .. (قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون )(11) .. كما يتحدث القرآن الكريم عن أحد من هؤلاء المكذبين لم يشهد (( بدء الخلق )) حتى يكون له علم به أو فيه ( ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما منت متخذ المضلين عضدا )(12).

إذا كانت هذه الإِشارات القرآنية إلى (( بدء الخلق )) هي اليقين المتاح للمعرفة الإِنسانية عن هذا الأمر الذي لم يشهده سوى الخالق, سبحانه وتعالى, فلقد مثلت السنة النبوية مصدر المعرفة الذى أتاح لنا طرفا من الحديث والعلم عن صورة الإِنسان الذي خلقه بارئه في أحسن تقويم .. ففي البخاري ـــ من حديث عمران بن حصين ـــ يقول الرسول, ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, : (( كان الله ولم يكن شئ غيره, وكان عرشه على الماء, وكتب فى الذكر كل شئ وخلق السموات والأرض )) … وفيه, كذلك ـــ من حديث عمر ـــ (( قام فينا النبي, ـــ صّلى االله عليــه وسلم ـــ مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق, حتى دخل أهل الجن منازلهم وأهل النار منازلهم, حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه )).

فمن هذا المصدر النبوي وتبعا للمصدر القرآني عرفنا ونعرف طرفا من خبر بدء الخلق الأمر الذي أتاح تصر الجلال الذى اختص به, مثلا, خلق الإِنسان, حتى لقد أمر ملائكته بالسجود له .. بينما وجدنا هذه الصورة, لدى العلم الغربي, الذى رفض المنهج السمعي, وهي صورة الحيوان البدائى والهمجي …

ـــ وتاريخ مالم يسجله ولم يحفظه التاريخ, ذلك الذى بادت آثار أهله ومعالم مجتمعاتهم, أو سبقت حقبة قدرة الإِنسان على صنع الآثار الباقيات … هذا التاريخ عن الأمم السابق والحضارات البائدة .. نجد عنه وعن أممه إشارات فى القرآن الكريم .. من ذي القرنين إلى عاد وثمود وأهل مدين, وقرى ومواطن وأخبار الأنبياء والرسل السابقين .. وإذا كانت هذه (( الإِشارات التاريخية )) هي القدر المتيقن من ذلك التاريخ, فإننا واجدون فى السنة النبوية طرفا من المعارف, فيها بعض التفصيل لما فى البلاغ القرآني من إشارات لذلك التاريخ …

ـــ وواقع الجاهلية, التى أخرج الإِسلام أهلها من ظلماتها إلى نور الإِسلام ـــ وهو واقع جماعة بشرية غلبت عليها الأمية, فكانت فقيرة فى أدوات التدوين لتاريخ مجتمعاتها ـــ هذا الواقع الجاهلي ـــ فى عاداته وتقاليده وأعرفه .. فى أديانه وأوثانه قبائله بمن جاورهم من الدول والشعوب .. في مكانة المرأة به, وأنواع الزواج وعلاقات الرجال بالنساء فى الحلال والحرام .. فى أنماط الإِنتاج وعلاقاته ومصادر الارتزاق .. الخ .. الخ .. هذا الواقع الجاهلي, والذي لا سبيل إلى فهم عمق الطور الإِسلامي وجذور الانجاز الإِسلامي إلا بتصوره, باعتباره ميدان هذا الانجاز, والسبب في مجئ البناء الحضاري الإِسلامى على هذا الواقع الجاهلي لن نجد مصدرا من مصادر المعرفة والتعريف له أغنى من سنة النبي, ـــ عليــه الصلاة والسلام …

ـــ وهذا التجسيد الذي صنعه البيان النبوي للبلاغ القرآني, والذى ميز رسالة محمد ـــ صّلى الله عليــه وسلم ،،، من كثير عن رسالات الرسل الذين سبقوه على درب اتصال السماء بالأرض … هذا البيان الذي جعل الرسالة : أمة ودولة ومجتمعا وزظاما وحضارة, اهتدت بالمنـهج الربــاني, واصطبغت بصبغة الله .. ليس كالسنة النبوية ديوان جامع لمعارفه وللتعريف بحقائقه اليقينية ـــ قبل أن تغبشها قصص القصاصين ومادئح (( المداحين )) ! ـــ … إنها التاريخ الأدق لمجتمع صدر الإِسلام, فيها معارف وصف واقعه, ونصوص دستوره وقانونه, وعاداته, وأعرافه .. وفيها صور نشاط إنسانه في كثير من ميادين الحياة, الخاصة منها والعامة .. وفيها أوفي وصف لدولة الإِسلام الأولى : رعيتها, وحدودها, وطرائق العيش وسبل التكسب فيها .. وغزواتها وفتوحاتها, وفنون قتالها, وما حدث فيها انتصارات وانتكاسات. وفيها سجل العلاقات الدولية, والمعايير التى حكمتها .. ففي هذه السنة النبوية, قبل غيرهما, وأكثر من غيرها ـــ بل وربما دون غيرها ـــ سنجد ديوان المعارف ومصدرها, الذى نعرف منه ونغترف صورة الحضر والبيد .. وماذا كانت تعنى الهجرة فى التطور من التعرب والبداوة إلى التمدن والحضارة ..وكيـــف كانت الشورى, وبدايــات مــؤسساتها .. والتراتيب الإِدارية .. والكتاب والترجمة والمكاتبــات, والــولاة والولايات والعمالات .. والأمــوال والخراج .. الخ .. الخ .. فهي, في هذه الميادين, وما ماثلها, أوثق وأغني مصادر المعرفة للقارئين والباحثين على السواء.

ـــ وإذا كان البلاغ القرآني قد حدد مكانة الرسالة الخاتمة الخالدة فى عقد الرسالات الإِلهية للبشر .. مكانة المصدق فى الاعتقاد الديني الواحد ـــ أزلا وأبدا ـــ والمهيمن فى الشريعة المتغيرة باختلاف أمم الرسالات ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى, أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )(13), ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه, فاحكم بينهم بما أنزل الله, ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق, لكل جعلنا منكم شرعة ومهاجا, ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فى ما آتاكم, فاستبقوا الخيرات, إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون )(14).

إذا كانت هذه هي مكانة الرسالة الخاتمة, هقيـدة وشـريعة, من عقـد الرسالات السـماوية وسلسلتها, فإن فى السن النبوية ـــ وهي البيان النبوي لهذا البلاغ القرآني ـــ الكثير من المعارف التي تستطيع أن نلتمسـها حول هذا الموضوع .. ففى حديث أبي هريرة, يقول رسول الله, ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : (( مثلى ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بنيانا فأحسنه وأكمله إلا موضع لبنة من زواية من زواياه, فجعل الناس يطيفون به ويعجبون منه ويقولون ما رأينا بنيانا أحسن من هذا إلا موضوع هذه اللبنة, فكنت هذه اللبنة ))(15).

وفى حديث أبي هريرة, أيضا, يقول الرسول, ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ (( بعثت لأتتم حسن الأخلاق ))(16).

بل إننا لواجدون غى التطبيقات النبوية التي جسدت علاقات المسلمين بأهل الكتاب, فى داخل المجتمع الإِسلامى الناشئ والدولة الإِسلامية الوليدة مع الدول والمجتمعات الكتابية المحيطة وهى ـــ هذه التطبيقات ـــ جزء من السنة النبوية ـــ إننا واجدون فيها كنزا غنيا من المعارف, لا سبيل إلى التماسها فى مصدر آخر من مصادر هذا الباب وذلك التاريخ ..

ـــ وإذا كان البلاغ القرآني يعلمنا ـــ ضمن ما يعلمنا ـــ المذهب الإِسلامى المتميز فى أمر السنن والقوانين المودعة فى ظواهر الطبيعة وحقائق الوجود .. وهو المذهب الذي يعترف بفعل السنن والقوانين فى المسببات المتولدة عنها, مع الإِيمان بأن هذه السنن والقوانين, مثلها مثل الظواهر والقوى التي أودعت فيها, جميعا مخلوقة لمن خلقها وخلق فيها هذه السنن والقوانين الفاعلة .. ففعلها المنظم والمطرد هو خلق الله وارادته, وله, سبحانه, القدرة على إيقاف وخرق الاطراد المعتاد لعمل هذه السنن والقوانين إذا أراد إظهار إعجاز يؤيد به رسولا أو يتحدى به من لايخصونه بالألوهية والربوبية ..

هذا ما يعلمنا إياه البلاغ القرآني عندما تشير آيات منه إلى سنن الله في الكون والوجـــود والطبيعـــة والإِنسان والمجتمعات …

( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض وتجعلهم أئمة وتجعلهم الوارثين. ونمكن لهم فى الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون )(17) .. ( .. إن الإِرض لله يورثها من يشاء من عبـاده والعاقبـة للمتــقين )(18) … ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا, وكنا نحن الوارثين. وما كان ربك مهلك عليهم آياتنا, وما كنا مهلكى القرى إلا وأهلها ظالمون )(19) .. ( وإذا أردنــا أن نهلك قرية أمرنا مترفيهاففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )(20) …

تلك بعض من آيات البلاغ القرآني التي أشارت إلى بعض من سنن الله فى الجماعات والمجتمعات .. وعلى هذا الدرب نجد السنة النبوية كنزا للمعرف التى تغني الفكر الإِنساني فى هذا الميدان ..

(( ما ظهر الغلول فى قوم إلا ألقى الله فى قلوبهم الرعب, ولا فشا الزنا فى قوم إلا وكثر فيها الموت, ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق, ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشى فيهم الدم .. ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو ))(21) .. (( لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر, ولتأخذن على يد الظالم, ولتأطرنه على الحق أطراً, أو ليضربن الله بعضكم ببعض, ثم تدعون فلا يستجاب لكم ))(22) …. (( إذا رأيتم الظالم فلم تأخذوا على يديه يوشك الله أن يعمكم بعذاب من عنده ))(23) …. (( إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم, أمرهم بالبخل فبخلوا, وأمرهم بالظلم فظلموا, وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ))(24) … (( ولا يلبث الجور بعدى إلا قليلا حتى يطلع, فكلما طلع من الجور شئ ذهب من العدل مثله, حتى يولد فى الجور من لا يعرف غيره. ثم يأتى الله, تبارك وتعالى, بالعدل, فكلما جاء من العدل شئ ذهب من الجور مثله, حتى يولد فى العدل من لا يعرف غيره ))(25) … سأل حذيفـة ابن اليمان رسول الله, ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : (( يا رسول الله, أيكون بعد الخير الذى أعطينا شر, كما كان قبله ؟

ـــ فقال ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : نعم !

ـــ قال حذيفة : فبمن نعتصم ؟

ـــ فقـال ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : بالسيف )) !.(26)

(( إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له : إنك أنك أنت ظالم, فقد تودع منهم ))(27). ومن حديث ثوبان ـــ مولى رسول الله ـــ يقول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : (( يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها. قال : قلنا : يا رسوب الله, أمن قلة بنا يومئذ ؟ ! قال : أنتم يومئذ كثير, ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل, ينتزع المهابة من قلوب عدوكم, ويجعل فى قلوبكم الوهن. قال : قلنا : وما الوهن ؟! قال : حب الحياة وكراهبة الموت )) !(28) .. (( من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه, وأيما أهل عرضة(29) اصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى ))(30) .. (( مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم غي السماء, يهتدى بها في ظلمات البر والبحر فإذا انطمست النجوم أوشك أ، تضل الهداة ))(31) ..

تلك أمثلة على أطراف من المعارف التى مصدرها السنة النبوية .. معارف السنن والقوانين التى أقامها الله وأودعها فى الجماعات والمجتمعات والاجتماع.

ـــ وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل الإِنسان خليفة فى استعمار هذا العالم الذى يعيش فيه, وعلى امتداد الآفاق التي يبلغها سلطانه .. وإذا كان البلاغ القرآني قد حث هذه الإِنسان على النهوض بمهام الإِعمار هذه, فتحدثت آياته قارنة الإِيمان العامل بالعمل المؤمن, على نحو كاد أن يكون دائما .. ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع, ذلك خير لكم أن كنتم تعملون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون )(32) .. ( فإذا فرغت فانصب. وإلى ربك فارغب )(33).

إذا كانت هذه هي إرادة الله, وهذا هو حديث البلاغ القرآني عن عمارة العالم الإِسلامي بالإِيمان العامل والعمل المؤمن, فإن البيان النبوي ـــ السن ـــ زاخرة بالمعارف التي تمثل الزاد الذي لا ينفذ في هذا الميدان .. فأحـاديث العمــل … والمأثورات التي قننت لإِحياء الأرض وعمارتها … هي مما لا يتسع المقام … بل إن تجربة البناء الاجتماعي والاقتصادي لدولة الإِسلام الأولي هي التجسيد العملي لهذا البيان النبوي في هذا الميدان .. وفي حديث أبي هريرة, يقول النبى ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : (( خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح ))(34) .. بل إن تعظيم العمــل الإِنساني يبلغ في السنة النبوية المقام الذي يتحدث عنه حديث الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, الذى يرويه أنس بن مالك : (( إذا قامت الساعة, وبيد أحدكم فسيلة, فإن استطاع أن لا يقوم حتي يغرسها فليفعل )) !(35).

تلك إشارة إلى زاد المعارف التي تقدمها لنا السنة, مصدراً للمعرفة فى هذا الميدان .. ـــ وإذا كانت العقيدة الإِسلامية تأبى (( العبثية التى ترى في هذه الحياة الدنيا نهاية المطاف بالنسبة للحياة والأحياء .. وتجعل من الإِيمان بالبعث والحساب والجزاء, في اليوم الآخر, ركنا من أركان الإِيمان … وإذا كان البلاغ القرآني قد أشار إشارات عديدة إلى (( البعث )), في معرض إقامة الحجة على منكريه … ( وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ))(36).. ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا, قل بلي وربى لتبعثن ثم لتنبئون بما عملتم, وذلك على الله يسيرا )(37) .. ( وما خلقكم لا بعثكم إلا كنفس واحدة, إن الله سميع بصير )(38) .. ( إن الذين يشترون بعـهد الله وإيمانهم ثمنا قليلا إولئك لا خلاق لهم فى الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يزم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم )(39)..

إذا كانت تلك إشارات إلى حديث البلاغ القرآني عن (( البعث )) وخبره, فإن معارف السنة النبوية عن أنباء (( البعث )) وصوره وأحوال الناس فيه, هي المصدر الذي يجد فيه المسلم ما يقرب صورة هذا الغيب, على نحو ما, إلى العقل المحدود لإِنسان عالم الشهاد, الذي تتوجه إليه الرسالة الإِلهية بالبلاغ وبالبيان …

وففي حديث أبي ذر, يقول رسول الله, ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : (( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المسبل(40), والمنان, والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ))(41) .. كما نعلم أيضا, .. (( إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة : عالما لا ينتفع بعلمه ))(42) ..

هذا إضافة إلى ما ضمنت كنوز السنة من صور تقرب للذهن الإِنساني, قدر الإِمكان, أحوال النفخ في الصور .. وأحداث ما بين النفختين … وصورة الحشر … ومكانه … وصورة الناس فيه .. والحساب … والميـزان … والجزاء … والشفاعة … ومن يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله … الخ .. الخ .. الخ .. وغيرها من المعارف المقربة والميسرة والمفسرة لإِشارات البلاغ القرآني لهذا العالم الذي يستحيل على العقل البشري إدراك كنه حقائقه, كما تستحيل على لغة البشر أن تكون وعاء يفي بحمل ما في أنبائه من مضامين ..

تلك أمثلة لنماذج شاهدة على السنة النبوية مصدرا من مصادر المعارف السمعية في النسق الفكري للإسلام .. وهي إن وقفت عند حدود (( الأمثلة )) ـــ مراعا للمقام والخبر ـــ فإنها شاهدة على صدق وفاء السنة النبوية بهذه المهمة في فكر الإِسلام وفي حضارة المسلمين …

وأخيرا :

فإن التماس الإِنسان المسلم المعارف العديدة, ومن المصادر والميادين المتعددة, بواسطة السنة النبوية, إنما يفتح للعقل الإِنساني الجديد والعديد من الآفاق, وذلك دون أن يحد من قدرات وإمكانات وآفاق هذا العقل أو يقيد من طموحاته .. بل إن هذا المنهج الإِسلامي, الذي لا يقف ـــ كالمنهج الغربي عند المنهج الحسي التجريبي ـــ إنما يقوم ـــ مع تهذيب غرور العقل ـــ بتوجيهه إلى الميادين الحقيقية التي تأهل لأن يبدع فيها, وذلك عندما يعلمه حقيقة عجزه عن الاستقلال بإدراك معارف عالم الغيب … وكأنه ـــ المنهج الاسلامي ـــ يذكر العقل بالحقيقة الخالدة التى تقول : كل ميسر لما خلق له ! ..

كذلك, فإن هذا المنهج الإِسلامي, الذي يجعل البلاغ القرآني, وبيان النبوي : مصدرا للمعرفة اليقينية في ميادين عديدة ـــ يكون في بعضها : كجرد حافز العقل على النظر, وحافظ له ما تجاوز الحدود .. ويكون في بعضها المعين والمؤازر .. ويكون في أخري : المصدر الوحيد لمعرفة ما لا قبل للعقل بالخوض فيه ..

إن هذا المنهج المتميز هو المحقق : بكامل المعرفة الإِنسانية, وذلك عندما يحقق للإِنسان قدرا من معارف عالم الغيب, وإلى جانب زاده وزاد اجتهاداته من معارف عالم الشهادة … وهذا التكامل هو الذي يحقق (( التوازن المعرفي )) للإِنسان, على النحـو الـذي يبصر لـه (( التوازن السلوكي )) … وبهما ـــ التوازن المعرفي, والتوازن السلوكي ـــ تتحقق (( المعاني )) و (( الحكم )) و (( العلل الغائية )) من وراء خلق الإِنسان, واستخلافه عن الله, سبحانه وتعالى, فى عمارة هذا العالم … فتنتفي ـــ أو تقل ـــ من حياته منغصات وأزمات (( العبثية )) و (( اللا أدريـة )) و (( الطرق المغلقة )), التي تأخذ بخناقه في ظل الحضارات المادية, والتي قادته ودفعته ـــ خارج منهج الإِسلام ووسطيته ـــ إلى مستنقعات : (( الشهوة الحيوانية )) و (( اللذة الآنية )) و (( الأناتية المتعالية )) و (( النظرة العدمية )) تجاه ما وراء عالم المحسوسات .. فلم ينجح التقدم المادي الذي أحرزه في إنتقاذه من القلق والقنوط والإِحباط .. حتى لتصدق عليه الآية القرآنية التي تتوعد فتقول : ( كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون )(43) !.. وحتى لكأنهم دهريـو العصر, القائلون : ( … ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر )(44).

هذا هو منهج الإِسلام, العاصم للإِنسان من هذا العصر … به رأينا السنة النبوية مصدراً للمعرفة, تنهض بدورها إلى جانب البلاغ القرآني في إثراء معارف الإِنسان المسلم, وإعناء النسق الفكري لحضارة الإِسلام.

 

الهوامش

*المؤتمر السابع للمجمع الملكى لبحوث الحضارة الإِسلامية ( مؤسسة آل البيت ) ـــ ندوة (( السنة النبوية ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة )), بالتعاون مع المعهد العالمى للفكر الإِسلامى / واشنطن.

عمان 15 ذى القعدة ـــ 19 ذى القعدة 1409هـ 19 / 6 ـــ 23 / 6 / 1989م.

(1)  الجاثية 24.

(2)  الحجر 9.

(3)  يونس 15.

(4)  يونس 64.

(5)  الكهف 27.

(6)  فصلت 41 ـــ 42.

(7)  النحل 44.

(8)  النحل 64.

(9)  العنكبوت : 20.

(10)  السجدة 7.

(11)  يونس 34. وانظر كذلك الأعراف : 29. والأنبياء : 104, ويونس : 4. والنمل : 64. والروم : 11 , 27, العنكبوت : 19, والبروج : 13.

(12)  الكهف 51.

(13)  الشورى : 13.

(14)  المائدة : 48.

(15)  رواه البخارى ومسلم والترمذى والإِمام أحمد والإِمام مالك فى الموطأ.

(16)  رواه مالك فى الموطأ.

(17)  القصص : 5, 6.

(18)  الأعراف : 128.

(19)  القصص : 85, 59.

(20)  الإِسراء : 4.

(21)  رواه الإِمام مالك في الموطأ.

(22)  رواه الترمذي وأبو داود والإِمام أحمد.

(23)  رواه الترمذي.

(24)  رواه الإِمام أحمد.

(25)  رواه الإِمام أحمد.

(26)  رواه أبو داود والإِمام أحمد.

(27)  رواه الأمام أحمد.

(28)  رواه أبو دواد والإِمام أحمد.

(29)  العرصة : الساحة والفضاء الذي تتحلقه وتجاوره المساكن.

(30)  رواه الإِمام أحمد.

(31)  رواه الإِمام أحمد.

(32)  الجمعة : 9, 10.

(33)  الشرح : 7, 8.

(34)  رواه الإِمام أحمد.

(35)  رواه الإِمام أحمد.

(36)  الانعام : 29.

(37)  التغابن : 7.

(38)  لقمان : 28.

(39)  آل عمران : 77.

(40)  المسبل ـــ بضم الميم وسكون السين وكسر الياء ـــ : المرخي إزاره, الجار طرفه كبرا وخيلاء.

(41)  رواه مسلم.

(42)  رواه الدامي.

(43)  المرسلات : 46.

(44)  الجاثية : 24.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر