علي الرغم من تشعب الآراء في الرؤى الحضارية ومناهج البحث فإن أي باحث منصف قد لا يستطيع أن يخالف(مالك بن نبي) فيما يتعلق بمنطلقة في فقه الحضارة، وهو ذلك المنطلق الذي يحلل الحضارة تحليلا (داخليا) ويري أن الحضارة هي التي تلك منتجاتها وليس العكس([1]) وأنها تتركب من عناصر أربعة (الفكرة الدينية، أو الأخلاقية، والإنسان والتراب والزمن….)
لكنناـــــ مع موافقتنا لنظرة(مالك بن نبي) في هذه الأساسيات الحضارية- نرانا أميل إلي الاستقلال عنه في تفرقته الحاسمة بصفة عامة- بين صورتي الإنسان قبل دخوله في دوره حضارة من الحضارات وبعد خروجه منها….
فالأول يكون منطويا علي طاقة مذخورة معينة قابلة لتأدية عمل نافع، لكن الثاني يكون قد فقد طاقته المذخورة وهو ما يعطينا صورة الإنسان المنحل حضاريا، والذي لم يعد في أمكانةــــــــــ وفق نظرية (مالك ابن بني) ـــــ أن يستعيد حالته إلا بواسطة عملية جوهرية([2]).
ومبعث خلافنا مع مالك بن نبي أن أصول حضارتنا الإسلامية، وتجربة المسلمين الحضارية، تمدنا بوجهة نظر خاصة، قد لا تخضع بنفس القدر من الحسم لهذا (الرأي العام) لمالك بن نبي… ويبدو لي – والله أعلم- أن حضارة الإسلام، تتميز ببعض الشروط والمواصفات الذاتية(3) التي تجعل الصفة (الفردية) للحضارة غير ذائبة الذوبان كله في الشروط (الجماعية) أو (العامة) التي تنتظم التجارب المتعددة للحضارة الإنسانية.
وربما تنفرد الحضارة الإسلامية بهذا البعد- من وجهة نظرنا نحن المسلمين – باعتبارها حضارة ذات مسئولية تاريخية باقية(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس) ولعل هذا المعني هو الذي قصده وأشار إليه(محمد أقبال) في بيته المشهور:
أمة الإسلام تأبي الآجل… أصلها الميثاق.. في قالوا بلي اقتباسا من قوله تعالي«ألست بربكم، قالوا بلي» !! فنحن نري مثلا في هذه الحضارة شخصا كعمر بن عبد العزيز يحدث في داخل الانحدار الأموي بالأمة المسلمة انقلابا خطيرا يكاد ينجح فيه سواء علي مستوي نفسه أو مستوي الأمة كلها- في إدارة عجلة الحضارة الإسلامية إلي مجراها الصحيح
في المغرب الإسلامي ومع بداية النصف الثاني من القرن الخامس الهجري فوجئت حركة الحضارة الإسلامية التي انحدرت في العالم الإسلامي كله عباسيا وفاطميا وأندلسيا ومغربيا – بانعطاف كبير ينقذ القافلة المنحرفة، وذلك حين المتحم أبو عمران الفاسي الفقيه، بإبراهيم بن يحيي الجدالي الزعيم، وقاما- مشتركين بعبء إعادة الحضارة الإسلامية إلي روحها ووعيها خير قيام – كما توج (صلاح الدين الأيوبي)- بكفايته ودينه- جهود عماد الدين زنكي ونور الدين محمود كذلك توّج (يوسف بن تاشفين) جهود عبد الله بن ياسين وأبي بكر بن عمر اللمتوني العظيم
وما قيل في النموذجين السابقين يقال أيضا عن التحام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالإمام محمد بن سعود في الجزيرة العربية
بل انه يقال أيضا في الثورة الجزائرية.. بعد أن ظن الكثيرون أن نموذج الأمير (عبد القادر الجزائري) لن يعود…. فإذا بعبد الحميد ابن باديس وتلامذة جمعية العلماء يلتحمون بالقوة البشرية في الشعب الجزائري ويخرج من حصاد التحامهم (ثورة إسلامية) … كان لابد لها أن تنتصر لأنها انطلقت من نقطة التقاء القيادة الروحية بالقيادة السياسية وضمنت بالتالي إمكانية أن تعتمد علي المخزون الحضاري الحقيقي الجزائري والأمة الإسلامية!!
فكيف نفسر هذا الظواهر وأمثالها؟
إن شخص عمر بن عبد العزيز – قائد الانقلاب الإسلامي- هو نفسه الذي عاني فترتي ما قبل التحلل وما بعده – بل كان هو نفسه – كذلك –شخصا مختلف السلوك قبل الانقلاب وبعده
ففي المستوي الشخصي بينما كان لا يرتدي إلا أطيب الثياب قبل الخلافة نراه لا يرتدي بعد الخلافة إلا أقل الثياب نوعا وقيمة
أما علي المستوي الحضاري العام فبينما كانت الرابطة بالإسلام قد تفككت علي المستوي السياسي علي الأقل تمكن عمر بن عبد العزيز من إعادة التوحيد بين الشريعة والواقع، وربط أجهزة الدولة جميعا بالإطارات التي رسمها القرآن والسنة، وتوجيه حياة الناس، ومعطياتهم وفق ما يريده الله ورسوله، وأثبت – بذلك- أمكان تنفيذ البرنامج الإسلامي وتطبيق شرائع الإسلام علي واقع الحياة في أية فترة يمكن أن يستلم فيها السلطان رجال يمتلكون الذكاء والحصافة والمرونة والإيمان العميق ([3])
ونحن نجد الظاهرة نفسها في شعب صنهاجة الجنوب، المعروف بالملثمين، إذا هو نفسه الشعب الذي عاش فتر التحلل التي جعلت قبائل الوثنيين في غانا تكاد تقضي علي القوة الملثمية- فلما ظهرت الحركة المرابطية – علي يد نفس الرجال – استطاعت الروح الجديدة التي أشعلها ابن ياسين وأبو بكر بن عمر أن تمتد في داخل أفريقا امتدادها الكبير، وتنشر الإسلام تؤمن مستقبل المغرب للإسلام حين قضت علي حركات ادعاء النوة في قبيلتي برغواطه وغمارة.
وفي الجزيرة العربية برزت المظاهرة نفسها بكل خصائصها
ويمكننا أن نجمع من تجارب الحضارة الإسلامية كثيرا من هذه النماذج التي تخضع لنفس الظاهرة، والتي تعطيها الحضارة الإسلامية بعدا مستقلا متميزا، يحتاج لبعض التفسير الذي نلخصه في هذه الكلمات:
أن بناء الحضارة الإسلامية«القائم علي أسس التطور الإٍسلامي»يجعل الإنسان المسلم – قادرا – دائما- علي أن يجده خلاياه، وأن ينبعث من جديدـ، بروح جديدة وكأنه ولد من جديد.
ومن خلل الرماد المتناثر، والمتمثل في أوضاع جاهلية كثيرة وصور كاسحة من التحلل يمكن في إطار هذه الحضارة، أن تشتعل الفكرة الإسلامية التي هي( زيت) الحضارة الإسلامية، وتتمكن من إشعال (فتيل) الحضارة الإسلامية المنطفئة… في الإنسان المسلم.
إن (زيت) الحضارة الإسلامية لازال موجودا…!!
وإن المصباح لم يذبل…
بل كان عهده بالوجود أمس.
وإن رنين القرآن ووقع كلماته يمكن أن تصل إلي النفس المسلمة وكأنها إنما تقع علي قلب أبي بكر وعمر ومصعب بن عمير وربعي بن عامر.
بل أن شاعرنا الحديث (محمد اقبال) قد عاش هذه اللحظة.. لحظة الاتصال النفسي المباشر بالقرآن بعد أن أستوعب نصيحة أبيه: (يا بني اقرأ القرآن كأنه أنزل عليك)
وعبد الحميد باديس… التقي بالقرآن هذا اللقاء الخاص، الذي توافق فيه الإرسال مع الاستقبال، وقد أشتمل تفسيره للقرآن علي بعض هذه الومضات، ولا شك أنها هي التي أيقظت عقول تلامذته من سباتها.
وقد وصف مالك بن نبي (الشيخ حسن البنا) بأنه رجل بسيط، يقول في أحاديه كلاما بسيطا عن الإسلام، لكن سامعيه في أحاديث الثلاثاء وغيرها كانوا يحسون وكأنهم يسمعون منه القرآن لأول مرة.
وسيد قطب قد عاش بعض هذه اللحظات (في ظلال القرآن) ووصف لحظاته تلك بأنها (نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها..نعمة ترفع العمر وتباركه تزكية ([4])
ومع الاحتفاظ للتأثير القرآني بمكانته الخاصة فلسنا نبعد عن الحقيقة إذا قلنا أن كلام الرسول r الذي لا ينطق عن الهوى، يحمل بجوامع كلمه- كثيرا من هذه الشحنات المتجددة، التي وان بقيت دون مرتبة التأثير القرآني، إلا أنها تدور في نفس الفلك القرآني، كما تدور النجوم حول القمر.
إننا نحس بعد أربعة عشر قرنا من الزمان، بأن هذه الأحاديث النبوية وكأنها إنما تنزلت من أجل قرننا هذا الربع عشر… ونحس بنوع من الواقع التأثيري المباشر – عبر آلاف الأحاديث النبوية- التي تقطع إلينا تلك المسافة الزمانية والحضارية البعيدة، وتبدو وكأنمها اتصال (هاتفي مباشر) فوق المكان والزمان يعالج اضطرابات نفوسنا وحالاتها ومجتمعاتنا وأمراضها، ويضع طرائق الإصلاح لنفوسنا ومجتمعاتنا، ولموكب الحضارة الإسلامية كله…
اقرأ معي هذا الحديث الشريف:
يروي علي رضي الله عنه، عن الرسول عليه الصلاة والسلام، أنه قال:«إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، قيل وما هي يا رسول الله؟ قال: إذا كان المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وبر صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوام أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القينات والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عن ذلك ريحا حمراء، أو خسفا، أو مسخا» ([5])وفي رواية وقعدت الحملات علي المقابر، واتخذ القرآن مزامير!!! واقرأ أيضا (لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه … قالوا: اليهود والنصارى؟..قال فمن ([6])؟(أي فمن غيرهم) أليس هذان الحديثان الشريفان لوحه حافلة بالألوان المعبرة التي تبدو وكأنها تصور في واقعية جديدة- حالة مجتمعات كثيرة من مجتمعات الحضارة الإسلامية في بعض أطوارها، وفي عصرنا الحديث!!
أن القرآن الكريم، وسنه الرسول rالقولية والفعلية- قادران – دوما علي أن تمكنا المسلم في أية مرحلة من المراحل التاريخية، من العودة إلي (داخل الحضارة)ذلك لأنهما يقدمان له – مرحلة من مراحل الرقي العقلي يستطيع الوصول إليها من جانب آخر.
وإذا كان صعبا- كما تبين مسيرة التاريخ- أن تظل أمة ما في حالة توتر ارادي دائم، مستجيبة الاستجابة الصحيحة لتطور التحديات التي تواجهها – فان الإسلام، عندما يتوافر الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة التي تصر علي الاتصال الوجودي والروحي به- يملك القدرة علي منح وارداتها البشرية التي يمكن أن تكون في حالة سكون أو خمول –وقودا كافيا لإشعال هذه الإرادة وإيجاد حالة التوتر المطلوبة« من ثم فانه ما أن تتهيأ هذه الإرادة للعمل في ميدان التاريخ، عن طريق الشحذ النفسي والاستعداد الأخلاقي، حتى تكون قادرة علي مواجهة التحديدات المادية والخارجية من أي نوع كانت وبأي درجة جاءت، فتعجنها وتصوغها من جديد لصالح الإنسان- وهكذا يعود الإنسان- في الإسلام لينتصر علي الحتميات، وليستعيد قدرته الأبدية علي التجدد والتطور والإبداع، فيما تقف في مواجهته جل المذاهب الوضعية التجدد والتطور والإبداع، فيم تقف في مواجهته جل المذاهب الوضعية لكي تؤكد أنه إذا ما أطيح بتجربة تاريخية فإنها لا قيام بعدها، لأنمه محتوم عليها أن تواجه هذا المصير في عالم لا يعترف بحرية الإنسان واختياره، ولا بقدرته علي المجابهة والاستعادة والانتصار ([7])..
ومع أن الإسلام يعترف بسقوط الدول والحضارات عندما تتكاثف الأمراض الحضارية في شكل ظاهرة يطلق عليها القرآن (الاستبدال)و(الاستخلاف). (و أن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) [8]
إلا أن الإسلام لم يجعل ذلك قدرا أو «حتمية» لا يمكن أن تفلت منها أية جماعة أو أمة استطاعت أن تستعيد أرادتها وتصحح مسارها الفكري والنفسي، في ضوء الوعي الحضاري بهاتين الآيتين المتقابلتين المتكاملتين إيجابا وسلبا: «أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» ([9]) وقوله: «ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها علي قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»([10])
بل أن القرآن والسنة ليحملان لنا وعدا صريحا بأن هذه المحاولات الانقلابية في اتجاه الحق- مستمرة إلي يوم القيامة- وهذا ما نفهمه من قوله تعالي (ييرودون لطفئوا نور الله بأفواهمم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل وسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) ([11])
وهو أيضا ما يدل علي الحديث الشريف:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحق لا يضرهم من خالفهم إلي يوم القيامة».
وإذا كان لا بد من (حتميات) في الرؤية الحضارية الإسلامية، فثمة ثلاث(حتميات) تؤمن به هذه الحضارة وتنطلق منها في صراعها المستمر الدءووب:
أولاها: أن الصراع الحضاري، بينهما وبين الحضارات الأخرى، التي تحمل في وجهة نظرها- أفكارا باطلة أنما هو صراع دائم إلي يوم القيامة (ولا يزالون مختلفين , إلا من رحم ربك وذلك خلقهم)[12] (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) ([13])
وبالتالي فلا مكان للأحلام (الطوباوية) أو النظرة الواحدية للتاريخ)!!
وثانيتهما: أن أعداء هذه الحضارة دائمات أكثر من أنصارها في التاريخ (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) ([14])
(وإن تطع أكثر من في اأرض يضلوك عن سبيل الله)…. ([15]) فالكم أو القوة الطارئة لا يجوز أن ترهب أبناء هذه الحضارة، أو تثبطهم عن رسالتهم.
ثالثتهما: أن النصر في نهاية الجولة هو لأبناء هذه ( وإن جندنا لهم الغلبون) ([16])(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) ([17]) ( ولقد كتبنا في الزابور من بعد الذكر أن الأرض يرثنا عبادي الصالحون)([18])
وفي ظل هذه الحتميات التي تمثل جزءا من الإيمان الضروري، علي المسلم أن يتحرك في موكب التاريخ، وهو واثق من إمكانية العودة لأن (دورية) حضارته قانون من قوانينها، ومعلم ثابت من معالمها.
([1]) شروط النهضة ص621بيروت
([2]) المرجع السابق.
([3]) انظر د/ عماد الدين خليل ملامح الانقلاب الإسلامي ص201
([4]) مقدمة الظلال.
([5]) رواه الترمذي
([6]) رواه البخاري ومسلم
([7]) د/ عماد الدين خليل: التفسير الإسلامي للتاريخ دار العلم للملايين ص 262.
( [8] ) محمد 38
([9]) الرعد11
([10]) الأنفال 53
([11]) الصف 9،8
[12] ) هود 119
([13]) البقرة251
([14]) يوسف103
[15]([15])الانعام116
([16]) الصافات173
([17]) الفتح28
([18]) الأنبياء105
