Uncategorized

أسملة المعارف العلمية الحديثة

إن أسلمة العلوم التجريبية الحديثة إنما يعني- في الحقيقة- ذلك المجهود الذي يستوعب هذه العلوم داخل هيكل إسلامي، ويهدف استعمالها لجني أكبر مردود للمجتمع المسلم.

إنها محاولة لفهم –وربما لتبني- كل ماهو جيد في هذه العلوم، وإدماجه مع العلوم الإسلامية التقليدية.

وهنا يبرز التساؤل، كيف يمكن القيام بهذا المجهود، وخاصة في حالة المعارف العلمية؟ كيف يمكن- أساساً- تعلم وتعليم المواد العلمية كجزء من منهج إسلامي شامل، تنتهجه المؤسسات التعليمية الإسلامية، من المدارس إلى الجامعات؟

أي منهج يجب اتباعه؟ وأي إجراء يجب تبنيه عند تخطيط المقررات الدراسية للمواد العلمية؟

كيف نقيم صلة وثيقة بين العلوم الإسلامية التقليدية من جهة، وبين التقدم العلمي المعاصر من جهة أخرى؟

ماهي المعايير الواجب تحديدها ودراستها بغية إحداث ذلك التغيير؟

إن المشكلة يجب تناولها من منظور شامل، ولذلك سوف نستعرض بالتحديد: الصورة الحالية، ثم المنجزات السابقة، ثم المشاكل الآتية، وأخيراً خطة العمل.

2– الصورة الحالية

يواجه العالم الإسلامي- اليوم- تحدياً متصلاً من الدول الصناعية. إن ذلك مرده- بصفة جزئية– إلى الموقع الاستراتيجي للعالم الإسلامي وإلى ثروته البشرية والمادية. كما أنه يرجع أيضاً- وبصفة جزئية- إلى الركام المتكاثر من الإجحاف والتحيز والتحايل الديني الواقع عليه.

لقد أصبح حزام الدول الإسلامية ميداناً للتنافس المتصاعد بين القوى المعربدة. إن نزاعات الحدود في المناطق المختلفة أصبحت- غالباً- موجهة لخلق أسواق حاضرة للأسلحة والذخائر، لكي تبقى هذه الدول مرتبطة ومنشغلة عن دفع عجلة تقدمها، أو رفع معدل نموها، وبحيث تظل تحت الخضوع الدائم، والتأثير المستمر الواقع عليها من الدول المتقدمة.

3- وفضلاً عن ذلك، فقد ترك المستعمر خلفه- في كثير من الدول الإسلامية- نماذج من المؤسسات الاجتماعية التي تتسم بالثنائية والانقسام الحاد.

فهناك في كل دولة مسلمة قطاع صغير متمدن يستمتع بمستوى مرتفع من العيش وهذا القطاع يعيش جنباً إلى جنب مع قطاع تقليدي كبير، يطحنه الفقر المتناهي وسوء التغذية والأمراض والجهل.

إن بقاء القطاع الصغير المتمدن مع استمرار الغنى المتصاعد للعالم الصناعي، يمد في أجل النظام العالمي الفاسد ذلك النظام من العلاقات غير المتكافئة والاستغلال الأقتصادي.

ولهذا القطاع تبعية وانتساب وولاء خارج دولته- إنه لا يجد نفسه بين الجماهير، فهو دائما خائف قلق مترقب أن تنقض عليه الأغلبية. ولضمان بقائه، فهو يلعب لعبة الاختباء والبحث. وهذه اللعبة تؤثر في جسم الحياة السياسية للدولة، وينتج عنها عدم الاستقرار السياسي، فضلاً عن أن الأوضاع الداخلية تتجه بسببها إلى تكريس عدم المساواة الاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي، وبالتالي تولد صراعاً داخل الدول الإسلامية.

4- ومع ذلك، فإن قوانين الطبيعة لا بد أن تشق طريقها. والتاريخ يعيد نفسه. فالعالم الإسلامي- اليوم- يتقدم، بحمد الله كرأس حربة ليؤكد- عالمياً- كرامة الإنسان في كل مكان. إنه يشهد بعثاً وتطوراً مفاجئاً لتلك الروح العلمية القديمة التي هزت الدنيا بأسرها خلال القرون الوسطى لعصرة الحاضر. إنه لمما يشجع ويبعث الأمل في النفس أن ترى في كل الدول الإسلامية في هذا العالم حماساً دافقاً لإعادة صياغة وتشكيل العلوم والتقنيات، واهتماماً متزايداً لتطبيقها بغية تحسين أحوال الحياة ورفع مستوى العيش في المجتمع المسلم.

5- ولكننا نلاحظ –حقيقة– أن المجتمعات المسلمة في كافة أنحاء العالم، مجتمعات ضجرة متململة فاقدة الصبر. إنها تريد أن تطوي صفحات التاريخ فوراً. إنها مجتمعات تواقة لأن تعكس اتجاه الهيمنة الاقتصادية والاستغلال السياسي والاجتماعي والتبعية الفكرية التي عانت منها عبر القرون، تحت وطأة الاستعمار والقوى الأجنبية.

إنها متلهفة لإحياء الروح القديمة لمجد الإسلام. إنها تحاول –يائسة– أن تعيد اكتشاف نصيبها في هذه الحضارة الجديدة المتزايدة التعقيد.

6- والعالم الإسلامي اليوم يشكل على الأقل خمس تعداد البشرية التي تسكن هذا الكوكب. وهو ينتشر من السنغال إلى أندونيسيا، شاغلاً الحزام الأوسط للكرة الأرضية، وهو موضع يفترض أن تكون أهمية استراتيجية عظمى.

إن وفرة الموارد الطبيعية منحت العالم الإسلامي مزايا هائلة، فهو ينتج حوالي 50% من نفط العالم، وحوالي 40% من صادرات العالم من المواد الخام.

وليس هذا فحسب، ولكن القوة الكامنة في الإسلام شكلت صحوة رعدية، انبعثت منها قوة دافعة هائلة، وحماساً دافقاً لتعاون وتضامن أكبر داخل الأمة الإسلامية جمعاء. إن هذه القوة الدافعة تسهم في دفع عجلة النمو في العالم الإسلامي بسرعة متزايدة.

هذه في الحقيقة هي نقطة التحول البارزة في تاريخنا المعاصر، فقد أصبح المجتمع المسلم يمتلك مرة أخرى قوة متجددة منبعثة من إيمانه وعقيدته. تلك القوة التي وضعته ذات مرة فوق قمة العالم.

7- صورة العالم الإسلامي

عاش الإسلام مجده فيما بين القرن الثامن والقرن الثاني عشر الميلاديين. ولقد كان عصراً استثنائياً تمت فيه إنجازات هامة في فكر المسلمين وفي فهمهم. فخلال هذه الحقبة روى المسلمون ظمأهم الشديد للمعرفة، وذلك لدرجة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً من قبل.

لقد بلغت الحضارة الإسلامية ذروتها وأصبح المسلمون قادة العالم في الفكر الفلسفي والعلمي. كما أنهم أحرزوا في مجال العلوم التطبيقية تقدماً رائعاً وحققوا أعظم انتصاراتهم.

هذا الفوز المتوج كان مرده إلى حد كبير إلى دوافع المذهبية الإسلامية الهائلة لدراسة الظواهر الطبيعية ومتابعة العلوم التجريبية.

8- لقد كان فقهاء المسلمين وعلمائهم –في فترة سلطانهم– يؤمنون بشكل قاطع بوحدانية الله عز وجل، وبوحدة الوجود، وبوحدة البشرية، وبقدسية الشريعة الإسلامية وعصمتها من الزلل. كل المعارف عندهم كانت تؤكد وتعزز مبدأ التوحيد.

والإسلام –في الحقيقة– لا يعرف علماً من أجل العلم، أو معرفة لأجل المعرفة. فلكل شيء في الحياة هدف ونيابة. وكان هدفهم استثمار المعرفة العلمية لصالح الإنسانية جمعاء.

أن المدخل الإسلامي لاكتساب المعرفة كان دائماً متوحداً مع أهدافها العليا. لذلك فإن الحماس الأخلاقي هو الذي كان يقود علماء المسلمين في عصرهم الذهبي، وبالتالي، نجد أنهم لم ينساقوا وراء انتشار هذه المعرفة في مسالك استغلالية أو هدامة.

إن الإنسان الذي يعرف أكثر من غيره، والذي يمتلك القدرة على الملاحظة والتفكير لنفسه إنما يحمل على عاتقه مسئولية تفوق ما يتحمله إنسان أخر، لا يملك المعرفة، ولا تسعفه قدراته على التأمل والتفكير.

ومن هنا كانت مسئوليات عالم من العلماء الذين تمرسوا على الاطلاع والملاحظة والتفكير أعظم بكثير من مسئولية رجل الشارع عن حفظ السلام والوئام، وعن أن يخلف وراءه عالماً سعيداً لذريته وللأجيال القادمة من بعده.

9- لقد واكبت النهضة العلمية والتعليمية في أوروبا عملية انفصال الدنيا عن الدين نظراً لظروف خاصة كانت سائدة في ذلك العصر.

لقد استمر هذا الهيكل القائم على المدلول المحايد للعلم عدة سنوات انتهت به إلى نسبية الأخلاق ثم إلى الفوضى الأخلاقية. وأصبحت المعرفة تقوم –بشكل متزايد– بوظيفة نفعية مصلحية، يحدد أهدافها غالباً التوزيع السائد والمسيطر للقوى الاجتماعية.

وصارت المعرفة والعلوم وسائل تسير –بصفة مستمرة– وراء غايات انتحلها لأنفسهم هؤلاء الذين يملكون أكثر من غيرهم عوامل التأثير والسيطرة والنفوذ. وأصبحت العلوم هي الأدوات الأساسية للمناورات الاجتماعية ووضعت في خدمة الأرباح.

لقد شيدت العلوم الحديثة – بطريق الخطأ – على قاعدة من الفصل بين لدين والدنيا وهي بذلك قد فقدت أساسها الأخلاقي.

أن العالم لفي أمس الحاجة إلى أن يعيد التفكير في الفرضيات التي قادت إلى خلق هذا الهيكل المتحلل من القيم. وإن البنية المتكاملة للعلوم الإسلامية تقدم نموذجاً بديلاً يسمح بالنمو العلمي والتعليمي، في الوقت الذي يحمي فيه المجتمع من سوء استغلال هذه العلوم.

10- إننا اعتبرنا العلم ظاهرة ثقافية، فإن العلم الغربي يمثل المرآة التي تعكس صورة المجتمعات الغربية. ولقد أفرز الإسلام للعالم ثقافته الفذة وتقاليده العلمية الفريدة عندما كان في أوج حضارته وذروة إنجازاته العلمية.

لقد نما في تربته طراز من العلم والمعرفة ترعرع وازدهر في ظل الإيمان بوحدانية الله عز وجل وبوحدة الوجود، وأثمر نظاماً متكاملاً للقيم الإسلامية، وعمل باستمرار على أيجاد التكامل بين المقدسات الثابتة وبين المتغيرات الدنيوية الزائلة.

إن التطبيق الإسلامي لمنجزات العلم والمعرفة موجه دائماً لصالح الأهداف التي تتفق مع مشيئة الخالق عز وجل.

ونتيجة لذلك، فإن المعرفة لا تعد هدفاً يقصد لذاته، وإنما هي مجموعة من الوسائل الرامية إلى إحراز غايات أخلاقية وروحية سامية وعلى نقيض العلم الحديث، فإن العلوم الإسلامية لا تضم بين نسيجها تجريداً أو اختلالاً أو انسلاخاً من طبيعتها الإنسانية.

ومن جهة أخرى نرى أن الصراع المبكر بين العلم والكنيسة قد أخذ بزمام العلم الغربي إلى موقف يدعي فيه لنفسه امتيازاً وحيداً لفهم الحقائق وإدراكها، وبالتالي يقلل من تقديره لكفاءة الإنسان في تطوير فهمه وإدراكه المتكامل للحقائق وتجاوبه معها عقلانياً ومنطقياً.

ووقف إنسان هذا العصر –نتيجة لذلك– مشدوهاً أمام ذلك الفقدان الكامل للقيم والغايات. إن المسلمات العلمانية للمعرفة، التي تبناها الغرب، بسبب الصراع بين الكنيسة والعلم قد وصلت بالبشرية إلى شفير الهاوية. وبرزت الحاجة إلى إعادة فحصها تحت منظار تاريخي عقلاني سليم.

11- لقد برز في تاريخ البشرية ثلاث دورات هامة. قفزت فيها العلوم التجريبية قفزات هائلة ملحوظة. وتميزت كل دورة منها عن غيرها في فلسفتها، وفي هيكلها الزمني، وفي منهجها، وفي كيفية نموها.

هذه الدورات هي: 1- الحضارات الهندية اليونانية، 2- الحضارة الإسلامية، 3- الحضارة الغربية الحديثة.

مما لا شك فيه أن اكتشافات هامة قد تمت في العصر الإغريقي ولكن العلم فيها نما وتقدم في مناخ من الخرافات والخوف. كما أن المنهج الذي تبنته هذه الحضارة لم يخضع لتصنيف أو نظام مطرد. وكان نموها متفرقاً مشتتاً يفتقر إلى التوازن. كانت هناك رعاية عامة قليلة للعلم، أما في أغلب الأحيان فقد كانت هذه الرعاية تعتمد على المشروعات الفردية والميول الخاصة. ولكن من الواجب الإشارة إلى أن بعض الإنجازات قد تحققت خلال هذه الفترة.

12- ومن جهة أخرى، جاء الإسلام فمنح اكتساب المعرفة ونشرها وتقدمها، روحاً وضميراً وأخلاقاً. ولم يعد هذا الأمر معلوماُ فحسب، ولكنه أصبح معترفاً به أيضاً على المستوى العالمي. فالتاريخ شاهد على حقيقة هامة، هي أن الفكر الفلسفي الغسلامي والمعرفة الإسلامية كان لهما أبان عصرهما الذهبي قاعدة أخلاقية دينية.

لقد كانت الجهود العلمية الخالصة مكرسة لفهم الظواهر الطبيعية، فاتحة حدوداً جديدة للمعرفة، مكتشفة مصادر جديدة كانت مخبأة، وصانعة لتقدم جديد نحو السعادة ورفاهة الإنسانية جمعاء. لقد صنعت هذه الأخلاقيات سلاماً ورخاء من خلال العلم وليس من خلال الحرب والدمار اللذين نراهما اليوم.

13- وفي مقابل ذلك، فإن التقدم المادي الهائل الذي تحقق في عالمنا الحديث عبر العلوم والتقنيات قد رافقه في صحوته نظام عالمي جائر يفتقر إلى العدالة، فهناك نزاعات واضطرابات وتشنجات تحيط بالكرة الأرضية. لقد أنتج التقدم العلمي والتقني مجتمعاً محايداً تجاه القيم أرساه على قاعدة فاقدة لحس المسئولية الأخلاقية. فهناك ضعف في الثقة على كل المستويات، وتمزق للعائلة، وفقدان للانسجام الاجتماعي.

إن الطبيعة العلمانية للتربية في المجتمع الغربي غرست في سلوكه الاجتماعي فلسفة الفوضى والغطرسة. لذلك فإن نمو العلوم قد تأثر بالمناخ الاجتماعي والفكري، كما تأثر بالبيئة الأخلاقية والدينية التي نشأ بين أحضانها.

14- يتولد العلم من خلال حالتين، 1- رغبة الإنسان في تحسين بيئته، 2- فضول الإنسان الذي يدفعه إلى معرفة المزيد عن طبيعة العالم المحيط به.

وما زالت هاتان الحالتان تقودان الإنسان إلى البحث العلمي والاستقصاء. إن هدف العلم هو أن يناقش المبادئ العامة التي تحدد كيفية سلوك الطبيعة، تلك المبادئ التي توجه كلية إلى إدراك إمكانية التنبؤ بالأحداث والعوارض الطبيعية.

ومع ذلك فإن الدوافع الرئيسية العلمية هي حبالاستطلاع والفضول العميق لدى الإنسان لاكتشاف الطبيعة والعالم.

طريقة العلم

15- الحافز الدائم لدى كل إنسان هو البحث عن النظام والتناسق. ومحاولة الإنسان التاريخية في أن يفهم بيئته قامت –في جزء كبير منها- على قاعدة من نجاحه في الملاحظة وتنظيمه وترتيبه لما يجمعه من حقائق متنامية بطريقة تبدو له نظامية ومتناسقة.

إن بحثه عن النظام يستثار دائماً عندما يجد نفسه غير قانع بافتقاد النظام من حوله وقد تزايد هذا المجهود بشكل هائل مع مرور الزمن كنتيجة لاهتمام الإنسان المتنامي بالملاحظة الذكية الواعية وبتجاربه المخططة الهادفة.

16- وليس العلم هيكلاً منظماً للمعرفة فحسب، بل هو أيضاً طريق لعمل الأشياء، إن العلم نشاط أيضاً لا مجرد كتلة من الحقائق. فهو يجمع بين المنتجات والعمليات.

ولكي نفهم ماهية العلم تماماً يجب أن ننظر إليه كطريقة للعمل: فالبحث عن الحقيقة هو من الملامح البارزة لطريقة العلمية. فالعلم لا يبجث أبداً في «الحقيقة المطلقة<<أو «الواقع المطلق<<. إنه يحاول فقط أن يقترب أو يتصق بهما.

17- والبحث العلمي يفيد ضمنا الاستقصاءات المنظمة لزيادة كمية المعرفة في الميادين العلمية بهدف أو بغير هدف محدد. ويقوم العلماء عادة بالبحث عندما يمتلكون أفكاراً جديدة، أو يقومون به في نطاق برامج مخططة.

ومع ذلك فإن طرق البحث لا تسير بالضرورة في مسار معصوم من الخطأ ينتقل بها من نجاح إلى نجاح.

وعندما يقوم العلماء باستقصاء ظاهرة طبيعية معينة فإنه يكون من المؤكد لديهم أنهم يعثرون على جديد، إلا أنه يصعب عليهم أن يعرفوا مسبقاً ما هو ذلك الجديد. ذلك أن العنصر الذي يستحيل التنبؤ به في النشاط العلمي يجعل نظام البحث معقداً. ولكن الزمن كان شاهداً على أن منعطفات غير متوقعة قد حدثت أحيانا وقادت إلى تطور تفوق أهميته ما كان الاستقصاء يقصد إليه في بادئ الأمر.

وظيفة المعرفة

إن وظيفة المعرفة هي –في الحقيقة– حل المشاكل. وأي معرفة لا تقوم أو لا تستطيع أن تقوم بحل المشاكل الدنيوية للجنس البشري، أو لا تساعد الفرد على أن تزداد معرفته بخالقه، هي في الحقيقة ليست بالمعرفة.

إن مثل هذه المعارف تعتبر -طبقاً للأحاديث- النبوية الصحيحة– شرفاً يستحق السعي وراءه أما المعارف التي تستغل للوصول إلي أغراض تافهة فقد اعتبرت معارف سامة كلدغة الأفعى.

والمعارف العلمية الحديثة، بجانب أنها توفر للرجل العادي السعادة والراحة في حياته اليومية وفي أسلوب معيشته، فإنها هي التي أدت أيضاً إلى صنع الأسلحة الفتاكة المدمرة، وإلى التسليح النووي، وإلى صناعة مواد الحرب الكيماوية الجرثومية التي إذا أطلقت من عقالها أبادت الجنس البشري من على وجه الكوكب الأرضي خلال ساعات.

إن نظام القيم الذي يوفره الإسلام يقوم –في الحقيقة– على قاعدة من العدالة والمساواة والإدانة المطلقة للاستغلال والعنف والتدمير، وغير ذلك مما تراه في النظام المتطور الناتج عن قوة المعرفة العلمية في عالمنا الحاضر.

19- لقد أطلت علينا المعرفة الحديثة من خلال مجموعتين رئيسيتين من فروع الدراسة، هما العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية.

وتعتبر العلوم الاجتماعية- بصفة أساسية –من صنع الإنسان، وهي تتطور عادة مع نمو المجتمع ونشأة ثقافة جديدة كنتيجة لهذا النمو.

والعلوم الاجتماعية الحديثة كالاقتصاد والعلوم السياسية والاجتماع وعلم النفس وغيرها هي منتجات الثقافة والمجتمع الغربيين. إن هذه العلوم تستطيع فقط أن تزدهر وأن تمارس وظيفة حل المشاكل بشكل مؤثر في البيئة الغربية والهيكل الرأسمالي.

إنها لا تستطيع أن تكون مؤثرة بنفس الدرجة في الهيكل الإسلامي، لأن الفرضيات الأساسية للنظامين مختلفة تماماً.

إن معظم علماء المسلمين المعاصرين قد تلقى تعليمه –لسوء الحظ– وفق نظام التعليم الغربي، وقد نمى خبرته –نتيجة لذلك– من خلال ذلك النظام.

إن معظم هؤلاء العلماء غير مؤهل تأهيلاً كافياً لتناول مشاكل المجتمع الإسلامي –ناهيك عن حلها– بعقلانية وكفاءة.

والنظام الإسلامي له ثقافته الخاصة وطراز علومه الاجتماعية. ومن واجب علماء المسلمين أن يقدموا ويطوروا وينشروا بين الأمة الإسلامية تلك المعارف الخاصة بالعلوم الاجتماعية في الإسلام. أنهم لسوء الحظ لم ينجحوا في القيام بهذا الواجب المقدس.

20- وعلماء المسلمين فئتان، العلماء التقليديون المتمكنون من علوم التاريخ الإسلامي والشريعة وأصول الفقه. وهؤلاء درسوا القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وشروحهما دراسة مستوفاة. وهم يعتبرون- في الحقيقة- المرجع الموثوق به في العلوم الإسلامية في عصورها المبكرة ولكنهم لا يملكون إلا القليل جدا من المعرفة بالفلسفة الحديثة وبالعلوم التي تشكل علم اليوم. أنهم ينظرون فقط إلى الماضي بكل اعتزاز وفخر، ولكنهم لا يملكون الكثير ليقدموه للحاضر أو المستقبل.

وهناك أيضاً فئة أخرى من العلماء الذين تلقوا العلم على يد النظام التربوي الغربي. وهؤلاء تتشابه معلوماتهم أساسا مع تلك التي نجدها في المجتمعات الغربية، وخاصة ما يتعلق منها بالمعارف الحديثة للعلوم الاجتماعية والطبيعية. أما معلوماتهم عن الإسلام فهي في حدود الصلاة والصيام والشعائر المتنوعة التي يؤديها في مناسبات مختلفة.

وقد يوجد عدد قليل جدا من العلماء المسلمين الذين يمسكون بناصية المعرفة الإسلامية والمعارف الحديثة للعلوم الاجتماعية والطبيعية يقدر متساو. وقد يحاول بعض هؤلاء العلماء أن يعثر على كافة التفاصيل العلمية القرآن الكريم. وفاته أن القرآن الكريم ليس مرجعاً للعلوم. إنه كتاب نور وهداية. إنه دستور للأخلاق إنه يذكر في مواقع كثيرة منه –بغير شك– وربما يشرح أحياناً أسس القوانين الطبيعية، ويتحدث عن الحقائق العلمية مرشداً وهادياً للمؤمنين، ولكنه ليس مرجعاً في علوم الطبيعة أو الكيمياء، أو علوم الحياة أو الطب، ولا هو دليل للعلوم الاجتماعية. إن عظمته تكمن في هدايته وفي النظام الذي يوفره لحياة متكاملة، وللتسليم بقوة وعظمة ورحمة الخالق عز وجل. وعلينا أن نستمد الروح والإلهام من هذا الحشد كله لندرس كافة المعارف التي سمع بها إنسان اليوم والتي قد يكتشفها إنسان الغد.

أسلمة المعرفة

ليست هذه هي المرة الأولى التي تبذل فيها محاولة لأسلمة المعارف، فقد حدث ذلك من قبل. ففي القرن الثامن والتاسع خاض العلماء المسلمون تجربة لترجمة معظم الكتابات الهندية والصينية واليونانية . فتعلموا العديد من اللغات، واستدعوا عدداً كبيراً من العلماء غير المسلمين كمدرسين وباحثين لإنشاء المكتبات وعمل الأبحاث. وأعيد تدوين المفيد من تلك المعارف واستوعبه النظام الإسلامي، واستبعدت المعارف التافهة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وإننا لنجد اليوم أن معظم هذه الكتابات وما لحق بها من تطوير، وما اتصل بها فيما بعد من إمتداد على يد العلماء المسلمين قد اتحد كله مع التراث الإسلامي. وعلى ذلك فإن المسلمين قد خاضوا التجربة من قبل ويمكنهم أن يقوموا بها مرة أخرى. إن العمل لا شك هائل ولكنه ممكن، وعلماء المسلمين قادرون على القيام به في حالة واحدة، هي أن يحملوه على عواتقهم على أنه رسالة حياتهم.

23- إن نقطة البدء في أسلمة المعارف هي –في الحقيقة– إعادة تشكيل وإنشاء التعليم في العالم الإسلامي. فالحاجة ماسة وعاجلة إلى إعادة التفكير بجدية في صيغة ومحتوى تعليم العلوم في الدول الإسلامية.

يجب تقييم المشاكل الناشئة تقييماً جديداً،  وتصميم برامج جديدة لمقابلة متطلبات كل دولة. فالمتطلبات الجديدة في الزراعة والصناعة والتجارة والهندسة والطب يجب أن يضعها في الاعتبار -بجدية- مصممو برامج الدراسة.

وعلى ذلك فإنه من الواجبات الأساسية على الإطلاق أن تعاد صياغة النظام، وأن تسلح المؤسسات الجديدة بحيث يمكن لها أن تقوم بكفاءة بتلبية الاحتياجات اللازمة المتمشية مع الأهداف المستقبلية لللمجتمع الإسلامي.

24- إن تفوق أي أمة في ميدان العلوم والتقنيات يحدده اختيارها في مؤسسات التعليم العالي والبحوث العلمية، إن الحاجات الماسة والعاجلة لكل الدول الإسلامية هي في الحقيقة رفع مستوى القوى العاملة الرائدة فيها، وكذلك رفع مستوى الخبرة الرفيعة فيها، تلك التي سوف تقود جهودها التطويرية و تصون مشروعاتها التنموية. وعلى ذلك فإنه من الأهمية الحيوية أن تهدف الدول الإسلامية إلى بناء نظام قوي منتج للتعليم العالي والبحث العلمي داخل حدودها. وفي الحقيقة يجب أن يتسع التعليم العالي ليقابل متطلبات المستقبل، وأن يقوى ويشتد ليعطي العالم الإسلامي شعوراً باحترام النفس وبالاعتماد عليها.

25- إن نظام التعليم السائد حاليا في العالم الإسلامي نظام متوارث عن عهود الاستعمار. إنه غير كفء لبعث الشباب المسلم أو لمساعدته في حل مشاكل الأمة الإسلامية. لقد أثبت –حقيقة- أن له انتاجية مضادة. فالنظام –إذاً- لا يحتاج فقط إلى إصلاح جذري عنيف،وإنما إلى تحويل كامل خلال فترة زمنية محددة إنه يحتاج إلى تغيير شخصيته، إلى تحويله إلى نظام لتقييم والتدريب الأخلاقي.

ليكن نظامنا التعليمي مرناً ليقدم فرصاً متعادلة للتعليم مدى الحياة لكل فرد، ولتكن فاعليته كافية لمقابلة المتطلبات المتنامية للمجتمع الإسلامي خلال نموه وتطويره، ليكن نظامنا التعليمي متاحاً للجميع، الغني والفقير، لصاحب الحظ والمحروم منه، للموهوب وصاحب الموهبة المتوسطة. ليكن نظامياً مشجعاً للمبادرات المتعددة، ولكل فرد، ومختلف الدراسات، والبرامج المنهجية وغير المنهجية، والمقررات الطلابية والتي يساهم فيها المجتمع بأسره، والتحول من التدريس إلى التعليم، من التحصيل المادي إلى صياغة الشخصية، ومن الفردية إلى الأهداف الاجتماعية والقومية، ليعطي الأولوية لتعليم الكبار، وللتعليم الابتدائي الشامل، وللتعليم العلمي التقني في خطة العمل الجديدة.

خطة العمل

26- لكي نعد برنامجا للعمل لأسلمة المعارف فإنه من الضروري أن يكون لدينا مقدمة أساسية لهذا البرنامج، وفيما يلي بعض النقاط التي قد تصلح لذلك.

أ- إن طلب العلم فريضة على كل مسلم. وعليه أن يواصل التعلم والبحث عن المعرفة من المهد إلى اللحد، وأن يبحث عنها حيثما استطاع الحصول عليها.

ب- إن طلب العلم مفروض على المسلمين في إطار وحدانية الله عزوجل وصالح الإنسانية جمعاء، أما البحث الذي يفتقد الهدف أو لا يستحق العناء فهو محرم في الإسلام.

جـ- الإسلام يتبني التصور المتكامل للمعرفة ورسالته ذات صلة وثيقة بالوظيفة الاجتماعية للمعارف والقيم، فالإسلام التوحد بين الإنسان وبين معارفه.

د- إن الفلسفات الغربية، الرأسمالية منها والشيوعية، وصيغها العملية، تعدو غريبة كل الغرابة عن الإسلام، ولا يمكن استيعابها استيعاباً كاملاً داخل  الهيكل الإسلامية للمعرفة والعمل.

هـ- عند القيام بعملية أسلمة المعارف يكون الالتزام بالإسلام كرسالة حياة أمراً ضرورياً، وعلى الإنسان أن يقدم على المساهمة في هذه البرامج.

و- إن علوم الوحي لها مكانة متفوقة في المجتمع الإسلامية. وعلى ذلك فكافة الأضواء يجب أن تنبثق منها، وكل الإرشادات والتعاليم يجب أن تأخذ من معينها.

27- الخطوة التالية هي التقارب بين العلماء الشرعيين والعلماء الطبيعيين. إنهم جميعاً مطالبون بأن يشغلوا أنفسهم بإعادة فحص شاملة للثقافة الإسلامية لأدراكها وامتصاصها والتكامل معها. يجب أن يضعوا في أذهانهم أن العلم قوة ثقافية، وأنه يتغلغل داخل المجتمع بسهولة وكفاءة محدثاً معه تغيراً كبيراً في تفكيره ومعاييره وأمزجته. وعلى المجتمع المسلم أن يمتلك العلم قبل استعماله لإسعاد نفسه وإراحتها. وهو ليس نقيضاً للدين. بل على العكس من ذلك إنه يقوي الإيمان لدى المؤمنين. ولكن العلم في المجتمع الغربي – لسوء الحظ- قد طلق القيم الأخلاقية، وأصبح على درجة كبيرة من الآلية وانعدام القيم. ولذلك فإن وجهة النظر الإسلامية الخاصة بأخلاقية العلم يجب إيضاحها عند تعليم العلوم للطلاب والباحثين المسلمين.

28- إن العمل لا يبدو سهلاً أو بسيطاً عندما مشرع فيه. ولكن كلما قطعنا فيه شوطاً سوف نجد أن الله سبحانه وتعالى قد وهبنا المساعدة وألهمنا الهداية للاستمرار في رسالتنا.

إن الخطوات التالية يمكن أن نستهل بها برامجنا:

أ- مطالبة العلماء المسلمين في مختلف الدول أن يكتبوا كتباً مدرسية في العلوم للمراحل الابتدائية والثانوية والمراحل الثالثة في نظامنا التعليمي. هذه الكتب المدرسية يجب أن تعكس وجهة نظر العالم الإسلامي في العلوم. وعلى الرغم من أن الحقائق العلمية لا يمكن أن تتغير، إلا أن عرضها وشرحها يمكن بالتأكيد أن يتماً بصورة تطابق مذهبيتنا ونظامنا القيمي. وعند كتابة هذه الكتب المدرسية يجب أن تؤكد على أنه حيثما تقوم بإثبات نظرية أو مبدأ علمي على أساس من المعلومات المتاحة لدينا، فإننا يجب أن تقدم برهاناً إضافياً بالاستشهاد بآية قرآنية أو حديث نبوي شريف إذا كان ذلك ممكناً. إن هذا الاستشهاد لن يكون ذا تأثير كبير على العقل المسلم فحسب، بل سيقوي إيمانه أيضاً.

ب- هناك واجب آخر على علماء المسلمين أن يقوموا به، هو أنهم عند كتابة هذه الكتب المدرسية عليهم أن يبرزوا بوضوح المساهمة الفذة التي قام بها علماء المسلمين في هذه العلوم. إننا نرى لسوء الحظ تجاهلاً غير شريف من كتاب معاصرين، لأن يذكروا مساهمة العلماء المسلمين في العلوم رغم أنهم في بعض المناسبات يذكرون إسهام علماء اليونان. وفي الحقيقة توجد شواهد تاريخية لا تقبل الجدل عن مكتشفات كثيرة نسبت في الوقت الحاضر إلى علماء غربيين وهي في حقيقتها نمت على يد عباقرة من أعلام المسلمين أمثال جابر بن حيان وابن الهيثم وعمر الخيام والطوسي وابن رشد وابن النفيس. إن مؤرخي العلوم من المسلمين يجب أن يقبلوا ذلك التحدي وأن يحطموا خرافة الإدعاءات السائدة لبعض الكتاب المعاصرين وذلك بكشف المصادر الأصلية لهذه المكتشفات.

ج- إنه من الضروري أيضاً -بجانب ذلك- البدء بوضع برنامج شامل لتدريب المعلمين. إن المجتمع الحالي لمدرسي العلوم في العالم الإسلامي يحتاج إلي تعريف كبير بالتربية الإسلامية والفكر الإسلامي. إن دور المعلم في نظام التعليم الإسلامي دور مركزي محوري هام. فهناك نوع من العلاقة الشخصية بين المدرس وتلامذته. فهو الناصح الأمين، وهو المرشد الملهم أيضاً. وبالتالي عليه أن يتسلح بما يعينه على أداء وظيفته.

29- هذه الاصلاحات سوف تحول النظام القائم للتعليم إلى نظام جديد لا يلائم الأذكياء من المسلمين فحسب، ولكنه أيضاً يتناسب مع متطلباتهم المتنامية ومع تطلعاتهم وآمالهم. ومع ذلك فإن الإصلاح التعليمي يجب أن يصاحبه تحول اجتماعي واقتصادي. وما لم نخطط لكل ذلك بحيث يواكب بعضه بعضاً، فإن التغييرات التعليمية لن يكون لها تأثير بدرجة كبيرة مفيدة. وعلى ذلك فمن الواجب تبني برنامج اجتماعي يسير متوازناً مع الإصلاح التعليمي في دفعة روحية هائلة.

30- إن كمية كبيرة من العمل العلمي والإعداد الشاق ستقع على عاتق العلماء المسلمين والفقهاء بغية تحقيق هذا الأمل في أسلمة المعارف العلمية والفلسفية. وهنا يجب أن أضيف ملاحظة تحذيرية أجدها ضرورية. ففي فورة حماسنا يجب ألا تقوم بلعبة خطرة مع العلوم. بل علينا أن نكون متسامحين، وأن ننظر إلى الأمام عند تقديمها للطلاب المسلمين. ولنتذكر أن هيكل المفاهيم والتصورات العلمية هو الذي سوف نركز فيه على وجهة نظر الإسلام. أما التفاصيل، وطرق العلم، والمحتويات نفسها، فسوف تبقى على ماهي عليه.

 

* قدم هذا البحث باللغة الإنجليزية إلى ندوة أسلمة المعرفة ، إسلام أباد 4-8 يناير 1982 

ترجمة : أ. محيي الدين عطية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر