عرض ونقد كتب

المسلم في عالم الاقتصاد

العدد الافتتاحي

يطالعنا المفكر الجزائري الكبير في هذا الكتاب ([i]). كعادته بفكر واضح مستوعب لكثير من المسائل، فمن الاقتصاد الحديث والعلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامي والأوروبي والعالمي، وواقع الأمة الإسلامية والسياسة العالمية، يخرج لنا مالك بن نبي بهذا الكتيب الممتع الذي ينطلق فيه من منطلق جديد خلافا المنطلقات التي تعودناها في دراسات الاقتصاد الإسلامي الأخرى، لا يحدثنا عن نظرة الإسلام الاقتصادية ولا عن رأي الإسلام في المشاكل الاقتصادية، إلى غير ذلك من الآفاق التي يكتب فيها غيره من الكتاب والمؤلفين، وإنما يحاول – كما عبر بتواضع في مقدمة كتابه – أن يصه في موضوع الاقتصاد في الأذهان من الجوانب الإضافية التي تطرأ عليه، أو إذا أردنا أن نعبر باسلوبنا الخاص، فهو يعالج الاقتصاد منطلقا من الواقع، محاولا أن يلقي الأضواء اللازمة على بعض المفاهيم السائدة في هذا المجال.

ولعل في الفقرات المقتبسة من الكتاب فيما يلي ما يلقي الضوء على نظريته:

  • “ليس من اختصاص الفقهاء الإسلاميين أن يدلوا على الحلول الاقتصادية سواء مستنبطة من القرآن والسنة أو غير ذلك، وإنما اختصاصهم أن يقولوا في شأن الاولى التي يقدمها أهل الاختصاص هل هي تطابق أو لا تطابق الشريعة الإسلامية”.
  • “إن الاقتصاديين الإسلامين – بعد أن أختاروا ضمناً المبدأ الليبرالي – يريدون وضع المسحة الإسلامية عليه بحيث نرى الجهود الحميدة تنصرف بصورة عامة إلى دراسة النظم المالية في الاقتصاد (يقصد المصارف)، كأنما هي الأمر الأساس في الاقتصاد، بينما نرى أن هذه النظم، سواء أكانت متعاملة على أساس الربا أم لا، ليست إلا جانباً من عالم الاقتصاد الحديث، بحيث لو فقد هذا الجانب أو تضاءل مثلما يحدث الآن في التوجيه الاقتصادي الصيني، فلأن النشاط الاقتصادي بيستطيع مواصلة حركته الديناميكية وسديقي قائماً – أو يعيد قيامه بفضل مقدراته الأخرى مثلما حدث في ألمانيا بعد الحرب الثانية عندها انطلقت تجرية المستشار ايرهارت في خطواتها الأولى بلا رصيد من ذهب أو فضة أعني بلا تدخل مالي قائم أو غير قائم على الربا”.
  • “إن المعنى الاقتصادي لم يظفر في ضمير العالم الإسلامي بنفس النمو الذي ظفر به في المغرب في ضمير الرجل المتحضر وفي حياته، والحق أن الاقتصاد في الغرب قد صار منذ قرون خلت ركيزة أساسية للحياة الاجتماعية، وقانوناً جوهرياً لتنظيمها، أما في الشرق فقد ظل على العكس من ذلك في مرحلة الاقتصاد الطبيعي غير المنظم حتى ان النظرية الوحيدة التي تناولت تأثير العوامل الاقتصادية في التاريخ وهي نظرية ابن خلدون قد ظلت حروفا ميتة في الثقافة الإسلامية وحتي نهاية القرن الأخير.

فلم يقبل المجتمع الشرقي تحت تأثير احتياجاته الداخلية على أن يضع نظرية اقتصادية كما حدث في المجتمع الغربي، حين وضع الرأسمالية أو الشيوعية.

انه لم يقبل على هذا بسبب ما أنطوي عليه من نفسية خاصة منعقدة على “الزهد” كمثل أعلى منذ قرون، وأن فقهاً اقتصادية يستلهم خطته ومفاهيمه من مثل كهذا، ويصدر عنه لا يمكنه بداهة أن يعار بنفس الدقة العالمية عن فكرة والمنفعة والخاصة بالرأسمالية أو عن فكرة والحاجة الخاصة بالنظرية الماركسية، فالزهد والمنفعة والحاجة ثلاث حقائق لا يمكن أن تدخل في اطراد اجتماعي واحد وفي وقع اقتصادي واحد…”. (ص ۱۹ – ۱۷)

  • “منذ عصر ما بعد الموحدين نجد أن الفكر الإسلامي، المسرح من مهاته التاريخية من وجه ما، فقد وظيفته على وجه العموم فأمسى آلة تدور في الفراغ نسمع جعجعتها ولا نرى طحناً، حتى أن اتجاهاً أو مذهباً اقتصادياً إسلامياً خاصاً لم يكن ليقوى على البزوغ…!!” (ص 4۲)
  • “إذا تأملنا الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة المشكلات الاقتصادية، نرى أنه يضيق على نفسه مجال اجتهاده، بمقتضى مسلمات ضمنية يمكن حصرها تقريباً فيما يلي:
  • انه يفكر أولاً على أساس أن الموجود من المناهج الاقتصادية هو ما يمكن ايجاده.
  • أن النشاط الاقتصادي لا يمكن من دون تدخل المال كا سواء في صورة استثار تنظمه وتشرف عليه قطاعات خاصة أو استثمار تهمين عليه سلطة سياسية فيما يسمى القطاع العام.

ومن هنا يبتدي تعثر الفكر الإسلامي بصعوبات تنشأ من طبيعة موقفه من الأشياء، لا من طبيعة الأشياء ذاتها”.  (ص 4۹)

هذه بعض منطلقات مالك في هذا الكتاب، وهو بعد ذلك مليء بالنظرات العميقة التي تنفذ إلى لب المشكلة وتتناول تجارب النهوض الاقتصادي في عدة بلاد مثل المانيا بعد الحرب واليابان والصين.

ولا يسعنا أن نستعرض الآراء التي حواها الكتاب على صغر حجمه لأننا لسنا في مجال التلخيص، وإنما يهمنا أن نشير إلى خلاصة رأيه في حل المشكلة الاقتصادية :

  • “فالعالم الإسلامي متى تكونت لديه إرادة واضعة للتخلص من التخلف، سيجد أولاً في المجال النظري أن اختياره ليس محدوداً بالرأسمالية ولا بالماركسية وأنه بالتالي يستطيع التعويض بالإستثمار المالي المفقود لديه بالاستثمار الاجتماعي الموجود على أساس الساعتين :
  • لقمة العيش حق لكل فم.
  • العمل واجب على كل ساعد.

سواء كان ذلك في نطاق مخطط مرحلي خاص بظروف ما أسميناء “الاقلاع” أم كان المخطط يعني أيضاً الاستمرار، إذا ما رأى المجتمع مصلحته في ذلك”.    (ص 96، 100)

  • “يجب على البلاد العربية بوجه خاص أن تعيد النظر في تنظيم حياتها الاقتصادية على شروط تحقيق حلقة اقتصادية متكاملة داخل حدودها، وأساساً على شروط الاستثمار الاجتماعي التي قدمناها في صورة مسامتين ربما يكون تطبيقها في حدود الوطن الواصل على درعية من الصعوبة، ولكنها تنخفض بمقدار ما تتسع رقعة التطبيق”. (ص 124)

ولنا – بعد هذا العرض لكتاب المفكر الجزائري الكبير – وقفة نتساءل فيها:

كيف تتكون لدى العالم الإسلامي هذه الارادة الحضارية الواضحة للتخلص من التخلف، التي جعلها المؤلف شرطاً للإقلاع وبديلا عن الاستثمار المالي المفقود لديه؟ وضع المؤلف يده على أهم أسباب الركون إلى التخاف وهو نفسية الزهد واعتباره مثلا أعلى وما يحيط بذلك ويغذيه من روافد صوفية قوية الجذور في ضمير الأمة الإسلامية، ولا يخفى أن اكتشاف الداء لا يكفي للعلاج، إذ دون هذه الارادة الضارية معركة ضخمة طويلة المدى لتوعية المسلمين بحقيقة دينهم وبهش همههم في ظل الثورة الثقافية التي أكد المؤلف على ضرورتها.

ما هي أهداف هذه الثورة الثقافية وما هو مخططها وأين مكان القيم الاقتصادية فيها؟ ثم ما هي الملامح الاقتصادية المختلفة المرسلة الاقلاع التي قد مستمر عشرات السنان ودستغرق جيلا أو جيلين، هل تكفي المساتان اللتان محددهما المؤلف كدستور لهذه المرحلة نطلق في ظلها يد الحكام بحجة ظروف الاقلاع الاستثنائية، أم لا بد من مناخ سياسي ودستوري وقانوني وقيم اجتماعية واقتصادية يهتدي بها الحكام ويطمئن اليها المحكومون؟

أغلب الظن اننا لن نستغني عن النظريات والمنظرين لا في مرحلة الاعداد الثورة الثقافية ولا في مرحلة الاقلاع، ويظل الحوار والتنسيق والتعاون بين اتجاه المعالجة الواقعية للاقتصاد واتجاه البحث النظري ضرورة تفرضها الاعتبارات الواقعية والنظرية على حد سواء.

ولا يسعنا إلا أن نقرر في ختام هذا التعليق أن الكتاب الذي بين أيدينا عظيم الشأن جسدير بأن يقرأه المهتمون بأمر دينهم، والمتتبعون لتطور الفكر الإسلامي المعاصر بوجه عام، والاقتصادي منه بوجه خاص.

 

([i]) الكتاب من نشر دار الشروق، بيروت 1972 – 132 صفحة قطع صغير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر