أبحاث

العلمانية وتفكيك الجماعات العلمية العربية

Secularism and the Disjoin of Arab Learned Groups - العدد 140

تثار في هذه الأيام الدعوة إلى علمانية المجتمعات العربية كشرط ضروري لنهضة علمية تتواكب مع التقدم العلمي الذي يشهده العلم الحديث. ويستدل أصحاب هذه الدعوة بأن النهضة الأوروبية في العلوم منذ القرن السادس عشر كانت نتيجة للإصلاح الديني ثم الثورات ضد تدخل الكنيسة في الحياة السياسية والتي انتهت بعد ذلك بفصل الدين عن الدولة في القرن الثامن عشر. ويؤكد أصحاب هذه الدعوة على أن العلم يختلف تماما عن الدين، فبينما الأول وضعي وعقلاني ومتغير ونسبي فإن الثاني منزل وثابت ويقوم على الإيمان.

وبناء على ما سبق يردد القائلون بالعلمانية المقولة التي مفادها أن العلم الآن واحد وهو العلم الأوروبي الحديث، وبالتالي فليس هناك علم مصرى أو عربي أو صيني أو أمريكي أو هندي. فكل المجتمعات تأخذ من هذا العلم وينتشر بها هذا العلم.

والحقيقة أن هذه المقولة الأخيرة صحيحة إذا أخذنا في الاعتبار جانب الانتشار في هذا العلم، فهناك علم حديث واحد ينتشر في كل المجتمعات والدول بغض النظر عن العنصر أو القومية أو الدين أو المذهب. لكن الصحيح أيضا أن هذه الدول ليست متساوية من حيث الإنتاج العلمي، فدول مثل أوروبا الغربية وأمريكا تظل هي المنتج الأساسي للعلم وتأتي الصين وروسيا والهند والبرازيل في مرتبة ثانية، وتأتي بقية دول العالم الأخرى ومن بينها مصر والدول العربية في مرتبة ثالثة.

ويتضح مما سبق أنه إذا كان صحيحا مدى هذا الانتشار فإن الصحيح أيضا أن هذا الانتشار يأخذ اتجاهًا واحدًا، من دول المجموعة الأولى التي تنتجه إلى دول المجموعة الثالثة التي تستهلكه. وهو وضع لا يفيد دول هذه المجموعة التي تزداد تبعيتها العلمية لدول المجموعة الأولى. وهو ما يعني أن هناك نوعا من الاحتكار العلمي الذي يكمن خلف هذا الانتشار تمارسه دول المجموعة الأولى يضاف إلى الاحتكارات الأخرى التي تمارسها دول هذه المجموعة. إن هذا الوضع الاحتكاري يتم تكريسه من خلال هجرة الكفاءات والعقول من مجموعة الدول التي تستهلك العلم إلى مجموعة الدول التي تنتجه، وهو انتشار يسير في اتجاه عكس إتجاه انتشار وإنتاج العلم. وهو ما يجعلنا نتساءل عن سبب هذا الاحتكار العلمي بالضبط، فهل يكمن هذا الاحتكار في البناء المادي للعلم مثل هياكل ومؤسسات البحث العلمي والتي تمتلك مصر والدول العربية الكثير منها، أم يكمن هذا الاحتكار في شئ آخر تماما وهو البناء الفكري للجماعات العلمية الموجودة في هذه الدول؟

إن الدول العربية والإسلامية، ومن بينها مصر من ضمن دول المجموعة الثالثة، معنية بشكل خاص بأن تكون ضمن مجموعة الدول المنتجة للعلم وليست المستهلكة له فقط، وذلك لسببين. أولها: يتعلق بأهمية دور العلم في تقدم ونهضة المجتمعات. ثانيها: أن هذه الدول كانت المنتج الأساسي للعلم لفترة ثمانية قرون امتدت من القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر.

تعد ظاهرة العلم الحديث، شأنها شأن أي ظاهرة أخرى، من الظواهر المركبة التي تخضع لنوعين من المؤثرات، مؤثرات خارجية مثل قوة الدولة السياسية والاقتصادية وموقف النخب السياسية من دور العلم، ونسبة الإنفاق على البحث العلمي مقارنة مع الدخل القومي ودرجة الضغوط الإقليمية والدولية. بجانب هذه المؤثرات الخارجية هناك المؤثرات الداخلية وهي بنية العلم، أي النموذج الإرشادي Paradigm  الذي تنضوي تحته الجماعات العلمية لتفسير الظواهر العلمية. فالإنتاج العلمي هو ظاهرة جماعية، والعلماء لا يعملون فرادى حتى وان كانوا يعملون في أماكن مختلفة، بل لابد من اشتراكهم في التزامات فكرية ومنهجية معينة. فرغم أن الجماعات العلمية تعمل في مدن وأقطار وعواصم بعيدة عن بعضها البعض إلا أن نمط الإنتاج العلمي لهذه الجماعات ونوعيته يتسم بدرجة من الاتساق والتشابه فيما بينها.

إذا حللنا النموذج الإرشادي من وجهة نظر فلسفة وتاريخ العلم، فسوف نجد أن هذا النموذج يحتوي على موقف معرفي وموقف ميتافيزيقي، هذان الموقفان، المعرفي والميتافيزيقي، مستمدان بالضرورة من مرجعيات فكرية كما أنهما يعكسان خصوصية ثقافية. وقد تمحورت ميتافيزيقا العلم منذ العصر اليوناني حول شيء هام ألا وهو الموقف من الموجودات وطبيعتها، بمعنى أن أول ما يهم العلماء والباحثين هو الموضوع الذي يبحثون فيه. فهل الأولى بالمعرفة هى الموجودات المحسوسة أو المنظورة، أم الأولى بالمعرفة هي القوانين والنظريات؟ وهل يبدأ العلماء من الجزئيات التي تمثلها الأشياء المتحركة والأجسام، أم يبدءون من الكليات التي تمثلها القواعد والنظريات التي تنضوي تحتها هذه الجزيئات؟ هناك اذاً موقفان متعارضان داخل بنية العلم وبالتالي هناك نموذجان إرشاديان مختلفان يعكسان موقفين متباينين من ميتافيزيقا العلم. والسؤال المطروح هنا هو: إذا كانت ميتافيزيقا العلم تقوم على مرجعيات وتمثل خصوصية ثقافية، فهل يمكن للجماعات العلمية العربية والإسلامية أن تقبل ميتافيزيقا العلم الأوروبي الحديث الذي اعتمد على ميتافيزيقا العلم اليوناني؟ وإذا كانت نهضة العلم العربي تحتاج بالضرورة إلى ميتافيزيقا للعلم نابعة من الثقافة الإسلامية فهل تصلح دعوى العلمانية لإعادة تأسيس إجماع لمفاهيم حديثة للعلم بين الجماعات العلمية العربية والإسلامية التي تدين بالإسلام؟

هناك ظاهرتان علميتان أساسيتان ظهرتا حول حوض البحر المتوسط في العالم القديم والوسيط وهما ظاهرة العلم اليوناني وظاهرة العلم الإسلامي، فقد امتلك كل منهما شيئين أساسيين وهما، أولا: نموذجه الإرشادي المستمد من مرجعياته الفكرية وخصوصيته الثقافية. ثانيا: لغته الخاصة التي انتشر بها هذا العلم. وحسب مبادئ الفلسفة اليونانية فإن الموجود الحقيقي هو عالم الأفكار، لذلك فإن كل الظواهر يمكن إدراكها عن طريق النظر والتأمل، أي تأمل عالم المثل كما يرى أفلاطون. وهو العالم الأولى بالاهتمام والجدير بالمعرفة. وحسب هذه النظرة فإن الحواس كالسمع والبصر هي شهود سيئة على عالم الظواهر الجزئية والذي هو عالم الفوضى والاضطراب. كان من نتيجة ذلك تميز العلم اليوناني بميزة هامة وهي اهتمامه الأولى بصياغة النظريات التي تضع القواعد التي تفسر الأشياء والظواهر. والمنهج المتبع في هذه الحالة هو المنهج الفرضي الاستنباطي، أي تطبيق قواعد النظرية الكلية على الحالات الجزئية التي تنضوي تحتها. واستخدام القياس المنطقي هنا ضروري ولا حاجة هنا للمنهج التجريبي.

شكلت نظرية المعرفة وميتافيزيقا العلم اليوناني مرجعيات العلم اليوناني الذي انتشر على امتداد التأثير السياسي للحضارة الهلينستية. وقد كانت اللغة المستعملة بين الجماعات العلمية على امتداد المراكز العلمية المختلفة فى بلاد اليونان ومصر وبلاد النهرين وفارس هي اللغة اليونانية التي كانت لغة الإنتاج العلمي لفترة امتدت لأكثر من ثمانية قرون بين القرن الثالث ق. م والقرن السادس الميلادي.

بهذين المعيارين السابقين، ضرورة وجود مرجعيات ومبادئ يعتمد عليها العلم، ولغة موحدة لتداول الإنتاج العلمي بين العلماء، كان هناك ظاهرة العلم الإسلامي في العصر الوسيط. وقد انتشر هذا العلم بين الجماعات العلمية على امتداد الدولة الإسلامية من دلهي وكابول ونيسابور ومراغة شرقا إلى بغداد ودمشق والقاهرة امتدادا إلى القيروان وفاس وغرناطة وطليطلة وقرطبة غربا. وقد كانت اللغة العربية هي لغة تداول الإنتاج العلمي بين الجماعات العلمية المختلفة على فترة امتدت لأكثر من ثمانية قرون، من القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر الميلادي.

ليس من المعقول أن تعمل هذه الجماعات العلمية على هذا الامتداد المكاني وعلى هذا الامتداد الزمني من جيل إلى جيل بدون فلسفة للعلم مستمدة من مرجعيات ومبادئ فكرية تعكس خصوصية قيم الحضارة الإسلامية. إذ لو كانت فلسفة العلم الإسلامي هي نفسها التي كانت سائدة قبل ذلك لكان العلم العربي مقلدا للعلم اليوناني، ولم يكن لينشأ المنهج النقدي لدى العلماء العرب لنقد العلم القديم وإنتاج علم جديد بعد أن تعرض العلم اليوناني لأزمة كبرى عجز فيها عن الإنتاج العلمي.

ويمكن القول هنا أن علم الكلام والذي هو علم أصول الدين وعلم التوحيد، ونظريته في “الجزء الذي لا يتجزأ” أو “الجوهر الفرد” هو الذي يشكل فلسفة العلم السائدة بين العلماء العرب(1). “فقد أصبحت الجواهر الأفراد أو الجزء الذي لا يتجزأ عند المتكلمين المتأخرين عوامل أو مبادئ طبيعية في حدوث الأشياء”(2) وهو ما يعني انتقال نظرية “الجوهر الفرد” من مجال ما هو ديني إلى مجال ما هو علمي. ولا ينفي هذا تأثر بعض الجماعات العلمية المختلفة بتيارات فلسفية وافدة وذلك مثل الفلسفة الذرية لديموقريطيس والأفلاطونية المحدثة والفيثاغورية المحدثة والتي تأثرت بها جماعة إخوان الصفا. كان من ضمن التيارات الفلسفية الأخرى الوافدة والتي تأثر بها العلم العربي أيضا الفلسفة الأرسطية كما نراها عند الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وهي الفلسفة التي تأثر بها الأطباء العرب خاصة في مجال المنطق.

يتميز العلم اليونانى بالأنساق الكلية والنظريات المتعدية للعلوم

كان للعلم اليوناني مرجعياته، ومن ثم ميتافيزيقا للعلم خاصة به، وقد كان من نتيجة ذلك اهتمام العلم اليوناني بصياغة النظريات والأنساق الفكرية. وسوف نتعرض لنظريتين هامتين، على سبيل المثال، كانت لهما درجة كبيرة من الشيوع والانتشار والاستمرار بين الجماعات العلمية وهما النظرية الذرية لديمقريطيس ونظرية الأخلاط الأربعة لجالينوس في الطب.

ويرى ديموقريطيس (460 – 457 ق. م) إن الموجودات هي عبارة عن ذرات صغيرة جدا لا نراها، هذه الذرات تتصف باللاتناهي من حيث الشكل والوضع والترتيب، وتتحرك هذه الذرات في خلاء، أي مكان، لا متناهي هو أيضا من حيث الامتداد. هذه الذرات تتحرك في كل الاتجاهات فهي تتصادم وتتزاحم وفي بعض الأحيان تتشابك مع بعضها البعض. ومن هذه الحركة تنشأ أجسام جديدة مع احتفاظ كل ذرة بخصوصيتها.

رغم أن الجانب الأساسي في النظرية هو تفسير نشأة الكون، إلا أن استخدامها قد تعدى هذا المجال ليشمل تطبيقات أخرى مثل علم الأخلاق وعلم المعرفة، فالمعرفة هي معرفة الذرات والخلاء ولا نستطيع أن نحصل على هذه المعرفة عن طريق الحواس، بل بالفكر(3). وقد امتد تأثير هذه النظرية إلى علم الكيمياء والفيزياء، فالنار على سبيل المثال تتكون من ذرات. ويمكن القول هنا أن ديموقريطيس قد حقق أعظم نصر في تأسيس تصور الوجود اللاجسمي في الفكر العلمي “فالوجود ليس واقعا أكثر من اللاوجود، فكلاهما علتان للأشياء التي تظهر إلى الوجود”(4).

امتد تأثير النظرية الذرية إلى العصر الإسلامي وخاصة عند إخوان الصفا، ونرى هذه النظرية أيضا عند ليبنتر (1646 – 1716م) وفلسفته في “الموناد”. فالموناد هو جوهر بسيط لا يتركب من أجزاء وهو مقابل للذرة الروحية. وقد انتقل تأثير هذه النظرية حتى العصور الحديثة، فنراها عند برتراندرسل (1873 – 1972م) وفلسفته في الذرية المنطقية، ونراها أيضا عند أهم ممثليها في العصور الحديثة وهو لودفيج فتجنشتين (1889 – 1921م) وفكرته عن الذرة وفلسفة التحليل. فالعالم عبارة عن وقائع ذرية، والذرة هي أبسط العناصر. ويمتد مفهوم التحليل إلى تفتيت وتفكيك العالم واللغة والفكر لكشف عناصره الأولية والتي هي الذرات. وحسب هذه النظرية فالمادة المركبة تتكون من مجموعات ذرية، فالماء على سبيل المثال يتكون من ذرتين هيدروجين وذرة أكسجين، وبتحليل الذرة وجد أنها تتكون من أجسام أصغر منها وهي الالكترونات والبروتونات وهكذا…

النظرية الأخرى التي كان لها نفس الشيوع والانتشار والاستمرار هي نظرية الأخلاط الأربعة في الطب. وأول من قال بهذه النظرية هو إمبادوقليس في القرن الخامس ق. م. حيث رأى وجود أربع عناصر وهي التراب والماء والهواء والنار. وهي العناصر الأولية التي تفسر نشأة الحياة. وقد انتقلت هذه النظرية بعد ذلك إلى مجال الطب على يد كل من أبوقراط وجالينوس (129 – 199م).

يتضح مما سبق أن النظرية الذرية استمرت من القرن الخامس ق. م إلى القرن العشرين قابلة للتأويل والتفسير من قبل العديد من العلماء وكذلك نظرية الأخلاط الأربعة. هاتان النظريتان تتميزان بأنهما “متعديتان للعلوم” فلم تقتصر أي منهما على علم بعينه، بل امتدت تطبيقاتهما إلى علوم أخرى من علم نشأة الحياة إلى علم الأخلاق إلى نظرية المعرفة والى التحليل اللغوي والى مجال الفيزياء والكيمياء. الشئ الثانى هو أن هاتين النظريتين افترضتا وجود موجودات غير مرئية، وهي الذرات في حالة النظرية الذرية، والأخلاط الأربعة التي تتحول بتأثير قوة كانت مجهولة وغير معروفة داخل الجسم وهي قوة التمثيل الغذائي metabolism.

تبدو نظرية الأخلاط الأربعة في الطب عبارة عن فروض وتصورات مسبقة من نتاج العقل، ولم تكن نتيجة لإجراء التجارب. والمعرفة هنا هي المعرفة العقلية القائمة على المنهج الفرضي الاستنباطي. فنحن نستدل على سبب المرض لا بملاحظة تجريبية، ولكن نستدل عليه بمدى مطابقة أعراض المرض الذي يظهر أمامنا بمبادئ النظرية التي افترضناها وسلمنا بصحتها سلفا.

المفهوم “الشرعى للجسم” في فلسفة العلم العربى

للجسم في ميتافيزيقا العلم العربي وهو الموضوع الأساسي للعلم، مفهوم خاص يختلف تماما عن مفهوم الجسم في العلم اليوناني والعلم الحديث، وهو ما كان له نتائج بعيدة الأثر ليس فقط في مجال العلم ولكن أيضا في مجال السياسة والاقتصاد والفنون والتصوير وتخطيط المدينة العربية. وحسب هذا المفهوم فالجسم يتكون من جواهر، أي أجزاء متناهية في الانقسام، وأعراض أي صفات مثل السكون والحركة والسواد والبياض والخفة والثقل. واقل الأجزاء التي يتكون منها الجسم جزءان وقد تصل إلى ثمانية(5). وبذلك فالجسم هو المتحيز في مكان، أي كل ذي طول وعرض وعمق.

لم يكن كل علماء الكلام ليقبلوا هذا التعريف. ويرفض إبراهيم بن سيّار النظّام (ت:321هـ – 845م)، على سبيل المثال، وجود أجزاء متناهية تتكون منها الأجسام، وعنده فالأجسام تتكون من أجزاء لا متناهية، تتميز بالامتداد، أي لها مساحة(6). ويرفض النظّام أيضا وجود الأعراض، إلا عرضاً واحداً ملازما للجسم هو الحركة(7). فالعالم عند النظّام يتكون من أعراض(8). والأعراض كالإرادة والانفعال والعلم والجهل هي أيضا حركات، وهي أجسام لطيفة فى مقابل الأجسام الكثيفة الأخرى. إن نظرية النظّام تعنى ثلاثة أشياء على جانب كبير من الأهمية.

أولا: أن معنى وجود أجزاء لا متناهية في الصغر يمكن إدراكها عن طريق القسمة العقلية، معناه إمكانية وجود صنف آخر من الموجودات أو الأجسام غير المحسوسة.

ثانيا: إن معنى نفي الأعراض ما عدا عرض الحركة، معناه أن العالم مادة متحركة، وهو ما ظهر بعد ذلك عند جاليليو وهوبز وديكارت في القرن السابع عشر.

ثالثا: إن تصور النظّام للأعراض على أنها أجسام لطيفة معناه الاعتراف بالموجودات المجردة، مثل الزمان والمكان والحركة والسكون، منفصلة عن الأجسام، أي أنها توجد بذواتها وهو ما يتعارض مع رؤية الاشاعرة التي ترى أنه لا يمكن معرفة الأعراض بذواتها بل تعرف بملازمتها للأجسام، وبالتالي فهي لا تشكل موضوعا للمعرفة العلمية مثلها في ذلك مثل الأجسام غير المحسوسة.

كان رأي النظّام السابق خروجا على إجماع جمهرة المتكلمين في تعريفهم للجسم. وهو ما استحق ليس فقط النقد والهجوم بل التكفير بأوسع معانيه والذي جاء بعد ذلك بقرنين من قبل عبد القاهر البغدادي (ت:429هـ – 1037م) الذي كفّر النظّام في المسألتين السابقتين، مسألة إنكاره لوجود الأعراض ومسألة الجزء الذي لا يتجزأ. “واجمعوا (أي أهل السنة والجماعة)، على أن أجزاء العالم قسمان جواهر وأعراض على خلاف قول نفاة الأعراض في نفيها للأعراض”(9). ويضيف البغدادي “واجمعوا على أن أجزاء كل جوهر جزء لا يتجزأ وكفروا النظّام والفلاسفة الذين قالوا بانقسام كل جزء بلا نهاية، لأن هذا يقتضي ألا تكون أجزاؤها محصورة عند الله تعالى. وفي هذا رد قوله: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)( 10).

تزامن الخلاف حول طبيعة الجسم بين الاشاعرة والنظّام المعتزلي مع مرحلة تأسيس المفاهيم في العلم العربي في القرن 3هـ/9م والذي عاصر فترة الخليفة الأمين والمأمون. وتمثل فترة القرن 5هـ/11م وتكفير البغدادي للنظّام مرحلة استقرار المفاهيم والإجماع عليها من قبل الجماعات العلمية العربية مع أقصى اتساع للدولة العربية. وفي هذه المرحلة أصبح مفهوم الجسم والإجماع عليه يدخل ضمن العقيدة الدينية، بحيث اعتبر الخروج عليه خروجًا على العقيدة نفسها. ومنذ تلك الفترة أصبح من غير المسموح قبول رؤية مخالفة للرؤية الشرعية لمفهوم الجسم، وهو مفهوم ظني يعتمد على تأويل احد آيات القرآن الكريم. ويذكرنا هذا الإجماع الذي تستخدم فيه العقيدة الدينية لتأييد ما هو ديني لما هو علمي والتداخل بينهما “بمنشور البابا ليو الثالث عشر لعام 1878م بضرورة تأسيس المذهب الكاثوليكي وفقا لكتابات القديس توماس الاكويني والتي كانت نسقاً ميتافيزيقياً معدلا لفلسفة أرسطو”(11). وهو ما يؤكد على أهمية الإجماع على الأنساق الفكرية والميتافيزيقية بين الجماعات العلمية الأوروبية في القرن التاسع عشر ودور الكنيسة في ذلك، وقد كان للكنيسة دور مماثل في العصور الوسطى في محاربة ميتافيزيقا العلم العربي الذي انتشر بين العلماء والمفكرين الأوروبيين(12).

كان الإجماع على مفهوم الجسم عند الجماعات العلمية العربية ضروريا لانطلاق العلم العربي. وقد تحكم هذا الإجماع في مسار العلم العربي طوال مرحلة ازدهاره، كما تحكم أيضا في ردود أفعال تلك الجماعات تجاه نظريات العلم الحديثة الوافدة في فترة القرن التاسع عشر. وقد تميز مسار العلم العربي بخاصيتين أساسيتين:

أولاً: الفصل بين العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية. وبالتالى كيفية النظر ومنهج البرهان المتبع في كل منهما. “فالعلم الطبيعى موضوعه هوالنظر في الجسم المحسوس وما يلحقه من حيث صفة الحركة والسكون، علم أول صفة فيه أنه وصفى”(13). أما العلوم التعليمية فتختص بدراسة الأشياء الكمية مثل عالم الأعداد والهندسة والفلك والموسيقى. “وقد خطأ الفلاسفة الإسلاميون كل من يخلط بين النظر الطبيعى وبين الموضوعات التى تشارك فيها العلمان ولابن سينا (370-428هـ/ 980- 1036م) أقوال فى هذا أوردها في كتاب الشفاء”(14). وقد كان من نتيجة هذا الفصل بين موضوع العلمين ومناهجهما ضعف تكوين النظريات العلمية والأنساق System الفكرية المتعدية للعلوم. ثانياً: إذا كان موضوع العلم الطبيعى هوالجسم المحسوس فالمنهج السائد في العلم العربى هوالمنهج الاستقرائى القائم على الملاحظة والتجربة.

لا حاجة بنا إلى التعرض لانجازات العلم العربي في مجال المنهج التجريبي فهي أكثر من أن تعد أو تحصى. لكن من المهم التعرض لمصير ذلك النمط الآخر من الإنتاج العلمي، وفي هذا المجال فسوف نتعرض لمصير نظرية الحسن بن الهيثم في الضوء، ورد فعل المجتمعات العربية في التعامل مع وباء الطاعون، وفشل جهود الفلكيين العرب في تأسيس نظرية في الفلك، ثم مصير نظرية ابن خلدون في “علم العمران”.

موقف المتكلمين من مفهوم ابن الهيثم للجسم

إنحصر تصور القدماء لكيفية الإبصار حتى عصر ابن الهيثم (354- 430هـ/ 965-1040م) بين فريقين. ويرى أصحاب الفريق الأول أن الإبصار إنما يكون بصورة ترد من المُبصَر إلى البصر، ويمثل هذا الفريق علماء الطبيعة كالأفلاطونيين والرواقيين والابيقوريين، أما الفريق الثانى فهم متفقون على أن الإبصار إنما يكون بشعاع يخرج من البصر إلى المبصَر به يدرك به البصر صورة المبصَر في اللحظة والتو، أى دفعة واحدة. ويمثل هذا الفريق أصحاب التعاليم، أى علماء الفلك والرياضيات، أمثال فيثاغورس وأقليدس وبطليموس. وبعد أن بيّن ابن الهيثم خطأ كل من الفريقين أثبت أن الإبصار يحدث نتيجة لسقوط الضوء بتوسط الهواء. فالضوء يشرق من الأجسام المضيئة بذاتها كالشمس أو من الأجسام التي تعكس هذه الأضواء مثل الكواكب والمرايا على سمت الخطوط المستقيمة التي تمتد من سطح هذه الأجسام والبصر. وقد افترض ابن الهيثم أن الضوء يتكون من أجسام صغيرة جدا، ولكن نظرا لصغر حجمها الشديد وسرعتها الشديدة فنحن لا نراها(15). وكما أن الضوء ينعطف اذا سار خلال الوسط الشفاف كالماء والبلور، فهو ينعكس اذا اصطدم بسطوح الأجسام الكثيفة كالمرايا.

وتعكس النظرية المبتكرة لابن الهيثم تطورين على جانب كبير من الأهمية.. يتعلق أولهما بالمفهوم الجديد للجسم في فلسفة العلم الإسلامى والمفهوم الجديد للواقع من حيث أن الواقع هو أجسام إما محسوسة (كما عند الأشاعرة) أو غير محسوسة (كما عند النظّام). ومن هنا اعتبار ابن الهيثم الضوء جسمًا كغيره من الأجسام. وعلى العكس من ذلك أُعتبر علم المناظر في العصر اليونانى ضمن علم التعاليم وغلبت عليه النظرة الهندسية. “فعلم المناظر عندهم كان هندسياً وأنه من الناحية الطبيعية لم يكن له سند في صميم موضوعه من الواقع”(16). أما التطور الآخر فيتعلق بالمنهج الجديد الذى اتبعه ابن الهيثم في الجمع بين علم الطبيعة وعلم التعاليم في تفسيره لطبيعة الضوء. ويذكر ابن الهيثم في مقالته في الضوء “فالكلام في ماهية الضوء (أى طبيعته) من العلوم الطبيعية والكلام في كيفية إشراق الضوء محتاج إلى العلوم التعليمية”(17) من أجل أمتداد الضوء على سمت الخطوط المستقيمة وما يلحقها من الإنكسار والانعطاف.

كان الرأي السابق للحسن بن الهيثم بأن الضوء جسم كغيره من الأجسام مسار اعتراض شديد من الاشاعرة من حيث أن الجسم عندهم هو الجسم المحسوس القائم في مكان. ويعترض عضد الدين الإيجي (680-756هـ/1281-1355م) على رأى ابن الهيثم بقوله: “زعم بعض الحكماء أن الضوء أجسام صغار تنفصل من المضيء وتتصل بالمستضيء ويبطله وجهان. الأول: أنها غير محسوسة والضرورة تكذبه، أو محسوسة فتستر (أي تحجب) ما تحتها. فتكون الأكثر ضوءا أكثر استتاراً، والمشاهد عكسه. الثاني: لو كان جسما لكانت حركته بالطبع فكانت إلى جهة، فلمّ يقع من كل جهة؟ وبالتالي باطل”(18). يقوم اعتراض الايجي على ابن الهيثم على تعريف المتكلمين للجسم، فلو كان الضوء أجسامًا صغيرة جدا لكان معنى هذا أنها غير محسوسة والمشاهدة تكذبه، أما اذا كانت هذه الأجسام محسوسة لحجبت ما تحتها وهو أيضا ما تكذبه المشاهدة.

واللافت للنظر في هذا الاعتراض هو أن يضم كتاب في علم أصول الدين هجوماً على نظرية علمية تضمنت رؤية علمية لمفهوم الجسم. وهو ما يعكس حساسية علماء الكلام الشديدة لأي خروج على المفهوم “الشرعي للجسم” كما وضعوه قبل ذلك. ويذكرنا اعتراض الايجي بعد ثلاثة قرون من وفاة ابن الهيثم باعتراض البغدادي على النظّام، والقائل بأن الأجسام تتكون من أجزاء صغيرة جدا لا نهاية لانقسامها. والملاحظ هنا أن رؤية ابن الهيثم بأن الضوء يتكون من أجسام لا متناهية في الصغر لا نراها يؤكد مفهوم الجسم الذي قال به النظّام قبل ذلك والذي من المحتمل تأثره بآرائه في نظريته في الضوء.

يثير الاعتراض الآخر الذي أورده الإيجي والخاص بحركة الضوء فكرة الطبع الأرسطية والتي دخلت ضمن عقائد المتكلمين. وحسب هذه الفكرة التي تهدف إلى تفسير علة الحركة والتغيير في الكون فهناك أربع عناصر تترتب من الثقيل إلى الخفيف وهي التراب والماء والهواء والنار. هذه العناصر تتحول إلى بعضها البعض بتأثير قوة التخلخل والتكاثف، كما أنها تتحرك إلى أعلى وإلى أسفل تبعا إلى طبيعة كل منها. فأثقل هذه العناصر وهو التراب يتحرك إلى أسفل وأخفها مثل الهواء والنار تتحرك إلى أعلى. هذه الحركة إلى أعلى وإلى أسفل وهي حركة عمودية هي حركة بالطبع نتيجة للطبيعة التي أعطاها الله لكل عنصر. وبالتالي فلو كان الضوء جسماً محسوسا لكانت حركته إما إلى أعلى أو إلى أسفل حسب اعتقاد الايجي، لا أن تكون في كل اتجاه كما يستدل من نظرية ابن الهيثم.

والملاحظ هنا هو أن حركة الأجسام متناهية الصغر والتي تتحرك في كل اتجاه كانت من أهم إبداعات ابن الهيثم لتأسيس مفهوم علمي للجسم ولتأسيس نظرية علمية متعدية للعلوم، أي نموذج إرشادي paradigm عربي. وهو النموذج الذي ينفى فيه ابن الهيثم نموذج الحركة القديم لأرسطو والذي كان سببا في إعاقة التقدم العلمي في مجال علم الفيزياء والميكانيكا حتى فترة القرن السابع عشر. وهو النموذج الذي نقده بعد ذلك جاليليو (1564– 1642م) أي بعد ابن الهيثم بستة قرون كاملة.

واجه ابن الهيثم اعتراضًا آخر من قبل الفلاسفة ممثلاً في ابن رشد (1126- 1198م) الذى اعترض على جمع ابن الهيثم بين علم الطبيعة وعلم التعاليم في تفسيره لطبيعة الضوء وكيفية الإبصار.

ويذكر ابن رشد في كتابه “تلخيص الآثار العلوية” “ومن جَمَعَ النظرين (أى العلمين) فقد أخطأ كل فعل ابن الهيثم، فإن النظر في ذلك لصناعتين مختلفتين”(19) أى أن علم الطبيعة وعلم الهندسة هما من أجناس مختلفة فلا يجوز الجمع بينهما في نظر ابن رشد، والذى يتفق مع ابن سينا في هذه النقطة.

واجه ابن الهيثم نوعين من الاعتراض على نظريته في طبيعة الضوء. فقد جاء الاعتراض الأول من قبل الاشاعرة ممثلا في الإيجي، أما الاعتراض الثاني فقد جاء من قبل ابن رشد. بالإضافة إلى ذلك فقد واجه ابن الهيثم إعتراض الجماعات العلمية العربية التي تجاهلت نموذجه الإرشادي بشقيه والذي يتضمن مفهوم الجسم ونظرية الحركة. هذا التجاهل يذكره د. مصطفى نظيف بقوله: “إن أقوال أساطين العلم التعليمي من الإسلاميين المتأخرين تدل بجلاء على أنهم لم يطلعوا على كتاب ابن الهيثم في المناظر. فنصير الدين الطوسي (1201-1274م) مثلا مع علو مقامه كعلَم من أعلام الرياضة والفلك ومع اهتمامه بعلم المناظير نجد له في كتابه (تلخيص المحصل) أقوالا تقطع بأن مستوى معلوماته في علم الضوء أدنى بكثير من المستوى الذي رفع ابن الهيثم من قبل هذا العلم إليه”(20). وهو ما يؤكد عليه طوبي هاف أيضا بقوله: “إن بصريات ابن الهيثم ظلت مجهولة لمدة ثلاثة قرون حتى أنقذها فيلسوف الطبيعيات الكبير كمال الدين الفارسي (ت: 1320م)(21).

إخفاق الطب العربى في التعامل مع وباء الطاعون

شهدت فترة نهاية القرن الثالث عشر ومنتصف القرن الرابع عشر الميلادي أكبر إنجازات الطب العربي وأكبر إخفاقاته. فقد توصل ابن النفيس (607-685هـ/1210-1288م) إلى اكتشاف الدورة الدموية الصغرى “وأثبت أن الدم يمر من التجويف الأيمن للقلب (البطين الأيمن) إلى الرئة حيث يخالط الهواء، ومن الرئة عن طريق الشريان الوريدي (الوريد الرئوي) إلى التجويف الأيسر (البطين الأيسر)”(22). وبهذا فهو لا يوافق ابن سينا الذي يعتقد أن القلب به ثلاثة بطون ويذكر “بأن هذا لا يصح فإن للقلب بطنان فقط… ولا يوافق جالينوس أيضا الذي كان يقول بوجود ثقب بين البطين الأيمن والأيسر ينتشر منه الدم إلى البطين الأيسر”(23).

وفي عام 1347م هاجم وباء الطاعون دول أوروبا المطلة على البحر المتوسط مثل ايطاليا وفرنسا والأندلس، وانتقل منها إلى دول أوروبا الداخلية حتى وصل إلى اسكتلندا وهولندا وألمانيا والسويد والنرويج وهاجم أيضا الدولة الإسلامية في مصر والشام وهو ما أدى إلى أن تفقد هذه المجتمعات ما بين 1/4 إلى 1/3 عدد سكانها.

عاصر ابن الخطيب (1313-1379) وباء الطاعون الذي هاجم الأندلس عام 1348م. وقد كتب في هذا الشأن رسالته العلمية المنطقية والتي يذكر فيها أن الطاعون مرض معدي ينتقل عن طريق ملامسة المريض ومتعلقاته الشخصية مثل الملابس التي يرتديها أو الأواني التي يأكل ويشرب منها. وأن المرض ينتقل من الشخص المريض إلى المحيطين به من أفراد أسرته وأقربائه، وبذلك فهو ينتقل من بيت إلى بيت ومن حي إلى حي ومن بلد إلى بلد آخر(24). وقد قامت المدن الأوروبية خاصة مدن الشمال الايطالي مثل ميلانو ونابولي بتطبيق إجراءات “الحجر الصحي” التي كانت معروفة في الطب العربي والمجتمعات العربية مثل عزل المرضي، لكن المدن الأوروبية ومنذ عام 1450م قامت بتطبيق إجراءات احترازية إضافية شملت:

1- دفن الموتى بالطاعون في حفر خاصة وتغطيتهم بالجير.

2- عزل المرضى في أماكن خاصة مع عدم زيارتهم.

3- حرق كل متعلقاتهم الشخصية خاصة الملابس.

4- أما الإجراء الرابع والأهم فهو عزل المدن المصابة بالطاعون عزلا تاما عن المدن الأخرى.

وهو ما حدث عام 1374 عندما أمر برنارد فيسكونني حاكم ميلانو بعزل إحدى المدن المصابة بالطاعون بالكامل(25). كان من نتيجة تطبيق إجراءات الحجر الصحي وانتشارها رويدا رويدا في كل المدن الأوروبية أن انحسر الوباء تدريجيا حيث شوهد آخر مرة في اسكتلندا عام 1647م وفي انجلترا عام 1668م وفي هولندا 1670م. ولا نعرف على وجه اليقين متى اختفى من الأندلس، لكن الوباء استمر يهاجم مصر حتى عام 1835 وهو الوباء الأخير والذي طبقت فيه إجراءات الحجر الصحي لأول مرة كما طبقتها أوروبا وذلك بعزل مدينة الإسكندرية التي وفد إليها الوباء وذلك بتوجيه من الطبيب الفرنسي كلوت بك.

عندما طبقت أوروبا إجراءات الحجر الصحي لمقاومة الطاعون لم يكن العامل المسبب قد اكتشف بعد، فقد أكتشف ميكروب الطاعون عام 1894م، كما كانت علاقة الفئران والبراغيث بانتشار المرض مجهولة أيضا. أي أن المجتمعات الأوروبية ظلت تطبق إجراءات الحجر الصحي لمقاومة مرض مجهول الأسباب لمدة أربع قرون ونصف، وفي خلال الفترة نفسها أي لمدة أربع قرون ونصف ظلت المجتمعات العربية تعاني من هجمات الطاعون دون أن تتمكن من تطبيق إجراءات الحجر الصحي التي طبقتها أوروبا.

لم يكن الطب العربي يعاني عجزاً في معرفة الأمراض المعدية، فقد كانت معروفة منذ عصر أبو بكر الرازي (849-925م) حيث كان المرضى يعزلون في أقسام خاصة بالبيمارستانات(26). وكان التعامل معهم سهلاً طالما كانوا حالات فردية. لكن الذي لم يكن معروفا وشكل مأزقا حقيقيا للطب العربي هو كيفية التعامل مع المرض عندما يصيب الأعداد الغفيرة من البشر ويصبح المرضى بالملايين. كان الأمر يتطلب مفهوما جديدا لفكرة العدوى وكيف تتحول إلى وباء وكيفية مقاومة هذا الوباء بصورة كلية وليس جزئية. ويذكر ابن الخطيب في رسالته عبارة هامة تقول: “فإن قيل كيف نسلم بدعوى العدوى، وقد ورد الشرع بنفي ذلك. قلنا: لقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواردة”(27). ويبدو من العبارة السابقة أن العدوى بالمرض كانت مؤكدة عن طريق التجربة والمشاهدة وبمنهج الاستقراء أي بأدوات المنهج التجريبي الذي يميز العلم العربي، لكن يبقى السبب الحقيقي مجهولا وبالتالي كان من الصعب على الجمهور وسلطات الإدارة والحكم اتخاذ تدابير وقائية لمقاومة شيء مجهول. إذ أن المعلوم عند المتكلمين، وهم الذين يشكلون ثقافة المجتمعات العربية، هو الجسم المتحيز في مكان. ومن هنا عبارة ابن الخطيب التي تقول: “…وقد ورد الشرع بنفي ذلك…”. وهو موقف يتعارض مع رؤية علماء الطب النظري مثل ابن الخطيب في رسالته العلمية المنطقية والتي فحواها أن العدوى موجودة رغم عدم إمكانية رؤية أسبابها.

كان الطب العربي أمام كارثة الطاعون في حاجة إلى نظرية جديدة حول مفهوم الجسم، بحيث لا تشمل فقط الأجسام المحسوسة ولكن تشمل أيضا الأجسام أو الموجودات الغير محسوسة. فإذا نظرنا إلى البكتريا (=وهى أجسام) المسببة للطاعون كما اكتشفت بعد ذلك، فسوف نجد أنها، مثل الضوء، أجسام لا يمكن رؤيتها لصغر حجمها الشديد وحركتها السريعة وانتشارها في كل اتجاه وهو ما كان يمكن تفسيره اذا ما أخذ الطب العربي بنظرية ابن الهيثم ونموذجه الإرشادي في حركة الأجسام متناهية الصغر.

كان من السهل على الطب العربي اكتشاف الدورة الدموية الصغرى على يد ابن النفيس لقيام ذلك على “أدلة معتمدة على التشريح التجريبي”(28). لكن كان من الصعب على الأطباء العرب سواء في الأندلس أو في مصر أو الشام تطبيق إجراءات الحجر الصحي لمقاومة الطاعون لاحتياج ذلك إلى نظرية جديدة حول مفهوم الأجسام، ومنهج آخر هو المنهج الاستنباطي الذي يقوم على الفروض العلمية. وهو ما بدا سهلا على المجتمعات الأوروبية التي استعانت بجانب المنهج التجريبي الذي أخذته من العلم العربي بالتراث اليوناني وتراث المتكلمين المسيحيين أمثال بونافنتورا وألبرت الكبير وتوماس الاكويني والذين قبلوا بمفهوم مختلف للكليات والفروض العلمية. ويؤكد القديس آنسلم (1033-1109م) “أن الوجود الحقيقي هو وجود الكليات، أي وجود الأجناس والأنواع وليس الأفراد (أي المتحيزة في مكان) وأن الوجود الذهني هو الوجود الحقيقي”(29).

إخفاق الفلكيين العرب في تأسيس نظام فلكى غير بطلمى

رغم أن الفلكيين العرب نقدوا النظام البطلمي نقدا دقيقا وقوضوا أسسه، ورغم ما بلغوه من معرفة في هذا المجال، إلا أنهم عجزوا عن تأسيس نظام بديل يقوم على مركزية الشمس . وتظهر المعلومات التاريخية كيف “نجح الفلكيون والرياضيون في مدرسة مراغة بغرب إيران مثل الأزدي (ت1261م) والطوسي (ت1274م) وقطب الدين الشيرازي (ت1311م) وابن الشاطر (ت1375م) في الوصول إلى نماذج لنظام أجرام غير بطلمي تكرر بعد ذلك في كتاب كوبرنيكوس”(30). ويضيف مؤرخ العلم طوبى هاف: “أن التماثل بين نماذج مدرسة مراغة كما عدلها ابن الشاطر والنماذج لدي كوبرنيكوس كبيرة إلى حد يمكن أن يعد أحد أتباع مدرسة مراغة”(31).

لم يستطع علماء الفلك العرب مع ما بلغوه من معرفة ومع علمهم بتهافت النظام الفلكي البطلمي تأسيس نظام بديل يقوم على مركزية الشمس، والسبب في ذلك هو جد بسيط وصعب في نفس الوقت، فما كانوا يحتاجونه ببساطة هو تأسيس قواعد نظرية كلية، وهو أمر صعب للغاية إذ أن هذا يتطلب حدوث تجديد في مفاهيم العلم العربي يتطلب تبني قواعد المنهج الفرضي الاستنباطي والاعتراف بالكيانات المجردة مثل الكليات والفروض العلمية. وبذلك “لم يستطع ابن الشاطر ولا خلفاؤه – وهم كثيرون – أن يقوموا بالوثبة الكبيرة نحو نظام مركزية الشمس بما يمكن أن نطلق عليه الباب الميتافيزيقي للثورة العلمية الأوروبية في القرنين السادس والسابع عشر، وبدلا من ذلك فقد جمد العلم العربي وبدأ في التدهور”(32). ليقوم بعد ذلك كوبرنيكوس (1473- 1543م) بتأسيس نظرية تقوم على مركزية الشمس أخذ كل مبادئها من علم الفلك العربي.

كانت هناك عقبات ميتافيزيقية أمام هذه الوثبة الكبيرة حتى على الرغم من توافر كل الأدلة التجريبية الممكنة. وتكمن هذه العقبات في عدم القدرة على تصور أعراض أي حركات، منفصلة عن الأجسام، وتصور وجود حركة لا نهائية لأجرام سماوية. فالحركة عند الاشاعرة تتكون من أجزاء (حركات) متناهية مثلها مثل الأجسام التي تتكون من أجزاء متناهية منفصلة عن بعضها البعض ويخلقها الله خلقا جديدا في كل لحظة(33).

تجاهل النسق الفكرى لابن خلدون

في فترة القرن الرابع/ الخامس عشر، وهي الفترة التي أخفق فيها الطب العربي في تطبيق إجراءات الحجر الصحي لمقاومة الطاعون، وهي الفترة نفسها التي عجز فيها علم الفلك العربي في تأسيس نظام فلكى غير بطلمى، ظهرت شخصية فذة وهي شخصية عبد الرحمن بن خلدون (732-808هـ/1332-1406م). وتكمن أهمية ابن خلدون في محاولته إقامة نسق فكري يقوم على الأفكار الكلية في مجال العلوم الاجتماعية.

يعتمد نسق ابن خلدون على مبدأ صوري قوامه “ارتباط الأسباب بالمسببات”، وبذلك فالعالم عنده يخضع لقانون عام هو السببية. هذا المبدأ لا يفعل فعله في العالم والطبيعة إلا بشرطين أساسيين وهما، أولا: ضرورة ترابط أجزاء العالم بعضها ببعض. ثانيا: ضرورة أن يكون ثمة ترتيب ونظام في هذا العالم وإلا كانت العشوائية هي السائدة. هذا الترتيب والنظام الكامن في الموجودات يدركه الإنسان اعتمادا على البحث في الأسباب. فإيجاد الأسباب ما هو إلا بحث الفكر عن الصلة بين الأشياء والارتباط بينها. “والغاية من إدراك الفكر الإنساني للترتيب والنظام هو حصول الانتظام في أفعال البشر”(34).

يعد “الانتظام” هو أحد خصائص ظاهرة العمران البشري لدى ابن خلدون. فالاجتماع الإنساني خاضع لقوانين وقواعد تدخله في حيز العلوم المنتظمة، ومن هنا أهمية “علم العمران” الذي استنبطه ابن خلدون، ويقول في وصف هذا العلم “وكأنه علم مستنبط النشأة ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة”(35). وبهذا فعلم العمران يشمل علوما كثيرة مثل السياسة والاقتصاد والصنائع والعلوم والثقافة والتربية وكذلك تأثير المناخ وبهذا العلم “كان ابن خلدون شديد  الثقة في مبدأ جبرية الظواهر الاجتماعية، فقد كان في نظره أن الحوادث الاجتماعية ليست نتيجة للصدفة أو أنها خاضعة لهؤلاء الأفراد وإرادتهم ولكنها نتيجة لقواعد وقوانين ثابتة وإنه من الواجب على المهتمين بأمور المجتمع أن يكشفوا عن هذه القوانين”(36). “كان ابن خلدون أول من اكتشف معنى كون التاريخ علماً ما دامت غايته جمع الحقائق وتنظيمها وتنسيقها لاكتشاف أسبابها ونتائجها”(37).

يعد ابن خلدون استثناء في سرعة تواصل المؤرخين مع نسقه الفكرى ونظريته في علم العمران. إذ قام المقريزي (766-845هـ/1364-1441م) بتطبيق نظرية ابن خلدون في تحليل أسباب المجاعات التي وقعت في مصر منذ أول غلاء في عهد عبد الله بن عبد الملك بن مروان إلى الوقت الذي عاش فيه. وقد ارجع المقريزي أسباب تلك المجاعات أو الأزمات إلى أسباب اقتصادية وهي: أولا: الفساد، أي شراء المناصب والمراكز الحكومية بالمال. ثانيا: ارتفاع أسعار الأراضي الزراعية، أي ارتفاع تكلفة الإنتاج. أما السبب الثالث والاهم عنده فيرجعه إلى العامل النقدي وهو ضرب الفلوس بكثرة(38)، وذلك نتيجة للتلاعب في عيار العملة من دراهم ودنانير وهو ما أدى إلى زيادة الطلب وقلة العرض. فلم يكن السبب في تلك المجاعات هو زيادة الأسعار ولكن زيادة النقود وهو ما أدى إلى التضخم والذي أدى إلى تلك المجاعات. باستثناء مجهود المقريزي في السنوات القليلة التي تلت وفاة ابن خلدون لم تنشأ مدرسة من المؤرخين العرب يستلهمون أبعاد نظرية ابن خلدون في “علم العمران” وهو ما أدى إلى تجاهل الاهتمام بابن خلدون حتى نشأة الاهتمام بها بعد نشر سيلفستر دو ساسي مقتطفات منها في بداية القرن التاسع عشر. أي أنها بقيت مجهولة لدى المؤرخين العرب لمدة تبلغ أربعة قرون ونصف. وهو ما يفسر أيضا ضعف تبني المؤرخين المحدثين للنظريات الفكرية والفلسفية الحديثة لتفسير الظواهر التاريخية المعاصرة، مثل فلسفة كارل ماركس أو نظرية جرامشي أو ميشيل فوكوه(39).

فلسفة العلم الحديث والنظرية الجُسيمية

يعد القرن السادس/السابع عشر قرن تأسيس العلم الأوروبي بجانبيه المعرفي والميتافيزيقي. وقد قام ثلاثة من المفكرين والفلاسفة الأوروبيين وهم جاليليو وهوبز وديكارت بالدور الأساسي في هذه المرحلة. وقد قام جاليليو (1564-1642م) بنقد نظرية أرسطو في الحركة وتحول العناصر إلى بعضها البعض، وتصور جاليليو أن العالم مادة وحركة، والمادة مجرد امتداد، اما الحركة فخاضعة لقانون القصور الذاتي(40). وتصور كذلك توماس هوبز (1588-1679م) إن العالم كله يتألف من أجسام مادية في حالة حركة. فكل ما في الكون جسم Body. والمكان والزمان عند هوبز هما فكرتان ذاتيتان ندرك بهما الجسم. “فإذا كان المكان هو صورة ذهنية للامتداد، فإن الزمان هو صورة ذهنية للحركة”(41). ويتفق رينيه ديكارت (1596-1650م) مع هوبز في أن الكون يتألف كله من أجسام أو جوهر مادي. إن ما يقصده ديكارت بالمادة هنا ليس ما تقدمه إلينا الحواس، بل ما يقدمه إلينا العقل في وضوح وتمايز. “هناك إذًا جوهران متمايزان عند ديكارت وهما المادة والفكر، والمادة عكس الفكر، فهي لا تفكر ولكنها تحتل حيزا في المكان أو تمتد فيه، ولا يمكن إدراك هذا الامتداد عن طريق الحواس أو المخيلة ولكن فقط عن طريق الفكر والذهن”(42). فكرة الامتداد لها خاصية كبرى من الناحية الابستمولوجية، إنها الخاصية الوحيدة للمادة، ذلك أن الأخيرة تتحلل في النهاية إلى صفات هندسية هي الحجم والشكل والعدد والمقدار، وصفة ميكانيكية هي الحركة”(43).

يتضح مما سبق شيئان على جانب كبير من الأهمية وهما، أولا: أن انطلاق العلم الأوروبي كان لابد له من مرحلة تأسيس يتم فيها الإجماع من قبل الجماعات العلمية على مفهوم الجسم والذي هو موضوع العلم. ومفهوم الجسم الذي تم الإجماع عليه يتصف بصفتين أساسيتين وهما، صفة الامتداد واللاتناهي. وهو نفس المفهوم عند كل من النظام المعتزلي والحسن بن الهيثم. ثانيا: إن انطلاق العلم الأوروبي لم يكن ليتم إلا بالجمع بين المنهج التجريبي للعلم العربي والمنهج الفرضي الاستنباطي والذي استمد أصوله من التراث اليوناني المسيحي. وقد كان من نتيجة ذلك ظهور النظرية “الجُسيمية” والتي كان لها نتائج بعيدة الأثر في نهضة العلم الأوروبي الحديث. ومنذ ذلك الوقت فصاعدا أصبح هناك علم واحد مركزه الدول الأوروبية وينتشر إلى كل أنحاء العالم ولغته السائدة هي اللغات الأوروبية وخاصة الانجليزية، ولم يعد من الممكن بعدئذ القول بوجود علم ألماني أو فرنسي أو ايطالي أو روسي أو صيني أو هندي أو يوناني أو علم إسلامي.

أدت النظرة “الجُسيمية” corpuscular كنسق جامع لميتافيزيقا العلم الأوروبي إلى تطورات كبيرة في جميع مجالات العلوم. فقد رأى روبرت بويل (1627-1691م) أن التحولات الكيميائية ما هي إلا تحولات في العناصر الكيميائية والتي هي أجسام صغيرة. وقد عبر نيوتن (1642-1727م) عن هذه النظرة الجُسيمية في مجال علم الفيزياء من خلال قوانينه الثلاثة في الميكانيكا. وقد رأى كارنو (1796-1832م) إن الحرارة ما هي إلا طاقة كالطاقة الميكانيكية بل هي نوع منها ينتج عن حركة الجُسيمات. وقد رتب مندليف (1834-1907م) العناصر الكيميائية حسب أوزانها الذرية في الجدول الدوري للعناصر وتوقع وجود عناصر أخرى لم تكن مكتشفة بعد. ويرى بافلوف (1849-1936م) حسب هذه الرؤية أيضا أن الكائن الحي يخضع لعمليتين أساسيتين تفسران الحياة النفسية والبيولوجية حسب قوانين الفعل ورد الفعل ومتأثراً برؤية “توماس هوبز” في أن الانفعالات والأحاسيس والتفكير ما هي إلا أجسام في حالة حركة. هاتان العمليتان هما الفعل المنعكس الشرطي والفعل المنعكس غير الشرطي. ونتيجة لذلك فسر بافلوف الأمراض النفسية والعقلية  بأنها إما نتيجة للزيادة في الإثارة أو الزيادة في الكف أو الكبت. كان من نتائج النظرية “الجُسيمية” أيضا اكتشاف البكتريا المسببة للأمراض من حيث أنها أجسام مجهرية على يد كل من لويس باستير (1822-1895م) وروبرت كوخ (1843-1910م) حيث تم اكتشاف العديد من هذه الجراثيم خلال الثلاثين عاما بين عامي 1875-1909.

تعكس النظرة “الجُسيمية” إلى العالم نسقًا شاملاً أو نموذجًا إرشاديًا يتم من خلاله تفسير كل الوقائع والإشكاليات سواء في مجال العلوم الطبيعية أو الاجتماعية. أي أن هذا النسق أو النموذج الإرشادي يتميز بأنه “متعد للعلوم” ولا يختص بعلم بعينه بل يشمل كل العلوم. فالنموذج الإرشادي كما يرى “توماس كون” والذي يمثل ميتافيزيقا العلم ومفهوم الجسم،يمثل مرجعية لا تقبل البرهنة عليها. “وبذلك فهو يقع فوق النظرية كما أن النظرية العلمية تشتق منه”(44). وبعد إقرار النموذج الإرشادي أي بعد قبول مسلماته من قبل العلماء تجيئ مرحلة العلم القياسي والتي يجري فيها استحداث أدوات البحث وتصميم الأجهزة وإجراء التجارب للتحقيق (أو لتطبيق) النظرية”(45). ويلي مرحلة العلم القياسي مرحلة ثالثة وهي مرحلة ابتكار التقنيات.

يؤدي العلم القياسي وتقدم أدوات البحث إلى معلومات مستفيضة وتفصيلية كثيرة، وهو ما ينشأ عنه مشكلات وحدوث أزمة تحتاج إلى الانتقال إلى نموذج إرشادي جديد، وهو ما يعني ثورة علمية جديدة. فالثورات العلمية تتم على مستوى النماذج الإرشادية وليس على مستوى العلم القياسي. وهو ما نراه بوضوح في الانتقال من النموذج الإرشادي لفيزياء نيوتن وحركة الأجسام الكبيرة إلى النموذج الإرشادي لفيزياء الكوانتم وحركة الأجسام متناهية الصغر (الميكرو فيزياء) على يد ماكس بلانك (1858-1947م) وذلك نتيجة لظهور مشكلات جديدة نتيجة لتطور أجهزة القياس في مجال العلوم الذرية، وقد نشأ عن ذلك رؤية جديدة لمفهوم الجسم تستبعد مفهوم الجسم القديم الذي يشغل حيزا في المكان والذي ندركه إدراكا مباشرا بإحساساتنا، وهو ما أدى إلى نشأة علم قياسي جديد قوامه علوم النانوسينس والنانو تكنولوجي والبيوتكنولوجي.

تفكيك الجماعات العلمية العربية

شهدت فترة القرن التاسع عشر انتشار العلوم والتقنيات الأوروبية في كل أرجاء المعمورة ومنها العالم العربي والإسلامي. وفي تلك الفترة كان العلم العربي قد تدهور منذ مدة طويلة. وقد شهدت تلك الفترة بداية تفكيك الجماعات العلمية القديمة وذلك نتيجة لعدة عوامل. ويتعلق العامل الأول بأن مشاريع النهضة العلمية في عهد محمد على (1805-1849م) في مصر والسلطان محمود في تركيا (1808-1839م) قد اعتمدت على نقل العلوم الأوروبية واستيراد تقنيات التسليح وتجاهلت تماما تأسيس جماعات علمية حديثة تعي البناء النظري والفكري الذي قامت عليه هذه العلوم والتقنيات المستوردة. ويتعلق العامل الثاني بطبيعة العلم ذاته إذ ليس هناك علاقة ضرورية بين استخدام العلم القياسي وتطبيقاته التقنية من قبل الجماعات العلمية في مكان ما ومعرفة النموذج الإرشادي (ميتافيزيقا العلم) الذى قامت عليه هذه العلوم. فما تعاملت معه الجماعات العلمية العربية الحديثة كان العلم القياسي بكل فروعه ولم تكن هذه الجماعات طرفا في صياغة النموذج الإرشادي للنظرية “الجُسيمية” التي تبلورت منذ القرن السابع عشر. ثالثا: هجوم رجال الدين على ميتافيزيقا العلم الأوروبي الحديث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. رابعا: تجاهل الجماعات العلمية الحديثة في القرن العشرين لدور ميتافيزيقا العلم كضرورة في النهضة العلمية العربية.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهر فى مصر جدل كبير حول نظرية نيوتن وتصورها الميكانيكي للعالم والتي تعتمد على فيزياء حركة الأجسام الكبيرة، ونظرية داروين (1809-1882م) في صراع الأنواع مع البيئة المحيطة بها. والملفت للنظر في هذا الجدل هو الطرف الذي تصدى لهاتين النظريتين، الشيء الثاني هو الأدلة التي أثيرت للرد عليهما. فالطرف الذي تصدى كان رجال الدين ممثلا في جمال الدين الأفغاني (1839-1898م) في كتابه “الرد على الدهريين” أو النيتشريين (أي القائلين بطبائع الأشياء ونظرية الكمون)، والشيخ محمد عبده (1849-1905م) في كتابه “رسالة التوحيد” وفي حواراته مع فرح أنطون حول ابن رشد على صفحات مجلة الجامعة عام 1903. ويلاحظ على هذا الجدل هو استدعاء مفردات علم الكلام ونظرية “الجوهر الفرد” في تفنيد دعاوي هاتين النظريتين الدخيلتين(46)، ويرفض الأفغاني تصور نيوتن بأن العالم “مادة متحركة” في تقويض الأساس الذي قام عليه تصوره الميكانيكي للعالم، كما يرفض نظرية الكمون لتقويض الأساس الذي قامت عليه نظرية داروين في أصل الأنواع. ويرفض الشيخ محمد عبده إمكانية “حدوث المعدومات” في معرض شرحه لمشكلة “الممكن” إذ الممكن والذي هو مجرد احتمال علمي ويعد من المعدومات (أى الأشياء غير المحسوسة) لدى الاشاعرة لا يمكن حدوثه إلا بعلة مرجحة خارجية سببها المباشر الله سبحانه وتعالى(47).

ويمكن القول هنا أن هجوم رجال الدين على هاتين النظريتين واستدعاء مفردات علم الكلام الأشعري لتفنيد نظريات علمية بحتة يعكس شيئين على جانب كبير من الأهمية وهما، أولا: السوابق التاريخية لهجوم الفقهاء والذين كانوا أيضا من علماء الكلام على كل ما يمس أو يتعرض لمفهوم “الجسم الشرعي”، وهو ما بدأ في هجوم عضد الدين الايجي على نظرية ابن الهيثم في الضوء وما ذكره ابن الخطيب من اعتراض على ماهية العدوى بالطاعون في القرن الرابع عشر. ثانيا: وعي النخب الفكرية والدينية بالنظريات العلمية الدخيلة والغريبة عن النسق المميز للعلم العربي وهو استبعاده للنظريات “المتعدية للعلوم”، أي للنظريات التي تمثل قواعد ومبادئ عامة تصلح للتفسير في علوم مختلفة وذلك مثل نظرية ابن الهيثم في “حركة الأجسام المتناهية في الصغر” والتي تصلح للتفسير في كل من علم الضوء والميكانيكا والفيزياء وعلم الكيمياء وعلم الأوبئة في الطب وعلم الظواهر الجوية. فما يميز العلم العربي هو وجود كل علم في كيان منفصل بذاته. كعلم النبات والطب والفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات وعلم الحيل ولا وجود للعلوم البينية إلا في حالات نادرة. فالجمع بين أجناس العلوم المختلفة هو استثناء يذكر لصاحبه(48).

لم يكن هجوم الأفغاني على نظرية نيوتن وداروين موجها إلى صحة هذه النظريات ولا إلى جوانبها النفعية، لكنه كان موجها إلى كونهما تمثلان النظريات العلمية الحديثة المتعدية للعلوم. فنظرية نيوتن يتعدى تأثيرها مجال الفيزياء إلى علوم أخرى كالفلك والفسيولوجيا والأمراض النفسية والعقلية، ونظرية داروين يتعدى تأثيرها مجال البيولوجي إلى جوهر النظرية السياسية الحديثة ونظرية الصراعات الدولية والإقليمية وإلى الدارونية الاجتماعية والبقاء للأصلح والأقوى للنظم والكيانات سواء في النبات أو الحيوان أو الإنسان، وتطبق مبادئ نظرية التطور في مجال النقد الأدبي وعلوم اللغة واللسانيات وصراع اللهجات والقيم والثقافات. تعكس النظريات المتعدية للعلوم والتي تمثل نماذج إرشادية مثل نظرية نيوتن ونظرية داروين في القرن التاسع عشر، ونظرية الكوانتم ونظرية النسبية في القرن العشرين أنساق كلية وعامة، ومن ثم فهي تشكل ثورات علمية وينشأ عنها فروع جديدة في كل مجالات المعرفة، فهذه النظريات كساق الشجرة التي يتفرع عنها فروع وثمار جديدة يومًا بعد يوم. فالعلوم الجديدة التي نشأت عن هذه النظريات لا تعد ولا تحصى ومن هنا لا يتطور العلم الطبيعى فقط بل تتطور أيضا العلوم الاجتماعية والنقد الأدبي والفنون.

حدث تحول كبير في نظرة الجماعات العلمية العربية الحديثة التي تكونت في مصر والعالم الإسلامي مع نشأة الجامعات والمؤسسات العلمية الحديثة منذ بداية القرن العشرين، فقد تجاهلت هذه الجماعات الأسس النظرية التي قام عليها العلم الأوروبي الحديث بعكس النخب الفكرية للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، الأفغاني ومحمد عبده، فالدكتور مصطفى مشرفة (1898-1950م) وهو الذي كان تلميذا لنيلز بور (1885-1962م) عالم فيزياء الكوانتم الشهير، لم يهتم بالجانب الميتافيزيقي لنظرية الكوانتم، ولذلك كانت دعوته من أجل تكوين قاعدة علمية في مصر هو الاهتمام بتاريخ العلم العربي. وهو نفس موقف الدكتور مصطفى نظيف (1893-1971م) فبالرغم  من دراسته الرائدة عن ابن الهيثم فهو لم يهتم بالأسس الفكرية التي استمد منها ابن الهيثم نظريته في الضوء، مع العلم أنه ذكر في هذه الدراسة العديد من مؤلفات ابن الهيثم في علم الكلام وردوده على بعض مسائلها(49)، وهو الذي يثبت أن نظرية ابن الهيثم في الضوء لم تكن مقطوعة الصلة بمسائل علم الكلام وخاصة آراء النظّام المعتزلي. هذا الترابط بين الأسس الفكرية والإبداع العلمي تعرض لأهميته الدكتور رشدي راشد في معرض تحليله لكتاب الجبر للخوارزمي “فأحد أهم مصادر الخوارزمي أو دوافعه لصوغ كتاب الجبر هو علوم الفقه والشرع”(50).

وفي هذا الإطار أيضا تجاهلت الجماعات العلمية العربية الحديثة أهمية العمل من خلال نسق كلي متعد للعلوم، فمصطفى مشرفة لم يدرك أهمية النسق الجديد لفيزياء الكوانتم من أجل تأسيس النهضة العلمية العربية الحديثة، كما لم يدرك مصطفى نظيف أهمية النسق الفكري الذي ابتكره ابن الهيثم، ولم يدرك الاثنان أهمية النسق الرياضي للشيخ طنطاوي جوهري ولم يتواصلا مع نموذجه الرياضي مع كونهما معاصرين له.

تجاهل النسق الرياضى للشيخ طنطاوى جوهرى

في النصف الأول من القرن العشرين تجاهلت النخب العلمية والفكرية في مصر أهم محاولة لتأسيس نظرية متعدية للعلوم تقوم على العلاقات الرياضية قام بها الشيخ طنطاوي جوهري (1870-1939م). ونود هنا أن نفرق بين الرياضيات كعلم يبحث في الأعداد والأجسام المجردة والرياضيات كنسق وكنموذج إرشادي. فالعلم العربي له إنجازات كبرى في الرياضيات، منها على سبيل المثال ما قام به الخوارزمي وعمر الخيام، كذلك فعلم المنطق العربي له انجازاته الكبيرة هو أيضا، فقد كان الأطباء العرب كلهم تقريبا من المناطقه وهو ما كان سببا في ازدهاره(51). لكن العلم العربي لم يعرف الرياضيات كنسق وكنموذج يجري تفسير العلوم وكذلك نظام الكون على مثاله، كما يبدو على سبيل المثال في نظرية فيثاغورث.

يستبعد النموذج الإرشادي للشيخ طنطاوي جوهري النموذج الإرشادي لفيزياء نيوتن القائم على تصور أن العالم أجسام كما يستبعد التصور الميكانيكي للعالم. وبدلا من ذلك يرى أن العالم يقوم على العلاقات الرياضية. وعنده فعلم الحساب هو العلم الذي يعكس الترتيب والنظام، كما أنه العلم الذي يعكس الاتصال بين الأجزاء بعضها ببعض. وهناك صفة ثالثة تميز علم الحساب وهي اللا تناهي. والغاية من علم الأعداد عند الشيخ طنطاوي جوهري هو العمل بمبدأ الاتصال في عالم الإنسان كما تبدو عليه الأشياء في العوالم الأخرى التي رتبها تصاعديا من علم الأعداد إلى علم العناصر، ثم علم التيارات البحرية، ثم علم النبات ثم علم الحيوان ثم علم الإنسان، وأخيرا عقل الإنسان وهو أرقى الموجودات. فإذا نظرنا إلى علم العناصر والجدول الدوري لمندليف فهناك 14 جدولا أفقيا و12 جدولا رأسيا، والعناصر في ترتيبها الأفقي منتظمة تنظيما بديعا على هيئة متوالية عددية بحيث يزيد كل عنصر عما قبله بعدد (2)، والجداول الرأسية تنتظم في ترتيبها على هيئة متوالية عددية أيضا ولكن حدثت فيها المضاعفة الناتجة من الضرب في عدد (2). ويلاحظ أن كل عنصر من عناصر هذا الجدول يساوي ما فوقه وما تحته في الخواص الطبيعية وهو نفسه يشترك مع العناصر التي على يمينه وعلى يساره في الخواص الكيميائية.

مبدأ الاتصال الذي يتميز به علم الأعداد، أي اتصال كل عدد بما قبله وبما بعده، له دور هام في إدارة المجتمع وتنظيم شئون أفراده ووضع السياسات الملائمة للاستفادة من جهود أفراده يقوم على النظام والترتيب. ولذلك كان العنوان الآخر الذي وضعه طنطاوي جوهري لكتابه الذي شرح فيه نظريته هو “سياسة الممالك في نظامها كهيئة العوالم في حسابها”(52).

إن عدم إدراك أهمية النسق في العلم الحديث يجعل العلم العربي يعمل بطريقته القديمة، حيث كل علم قائم بذاته منفصلا عن العلوم الأخرى وهو ما يجعل كل جماعة علمية داخل كل علم منفصلة عن غيرها من الجماعات. ومن الناحية الأخرى، فعمل هذه الجماعات منفصلة تعمل بدون نسق كلي يعيق هذه الجماعات عن أداء دورها الحقيقي في التنمية الشاملة من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية والفكرية، وهو ما يؤدي إلى ضعفها وعدم تماسكها ومن ثم إلى تهميش دورها كمؤسسة أمام تضخم سلطة الدولة.

تحدث الثورات في العلم على مستوى النماذج الإرشادية أو الأنساق الكلية. إن عدم إدراك الجماعات العلمية العربية الحديثة لهذا الجانب يجعلها منقطعة الصلة بالجانب الميتافيزيقي والذي تؤسس عليه كل هذه الثورات. وبهذا فإن تلك الجماعات أصبحت لا تتعامل إلا مع العلم القياسي وتطبيقاته التقنية فقط وهو ما يجعل تلك الجماعات مستهلكة للعلم فقط. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن عدم إدراك هذه الجماعات لهذا الجانب في التقدم العلمي يجعل هذه الجماعات منقطعة الصلة بالجانب الميتافيزيقي الذي قام عليه العلم العربي وهو علم الكلام، ويعيق تواصل هذه الجماعات مع الإنسان الكلية والنماذج الإرشادية لابن الهيثم وابن الخطيب وابن خلدون والشيخ طنطاوي جوهري. ويجعل من الصعب على المجتمع العربي الوعي بهذا التراث العلمي العربي والاشتباك معه نقداً وتمحيصاً. بمعنى آخر ضياع هذا التراث العلمي.

ضرورة تجديد ميتافيزيقا العلم العربي

أدى علم الكلام الأشعري دورا كبيراً في تأصيل ميتافيزيقا العلم العربي في تصوره للجسم والذي يتكون من أجزاء متناهية، أي الجسم المحسوس، كما أدى ثانيا دورا هاما في نقد نموذج العلم اليوناني وتجاوزه وهو ما كان له أهميته الكبيرة في تطور العلم ذاته. وقد أسهم علم الكلام ثالثا في تطور المنهج التجريبي القائم على الملاحظة والتجربة. أما الدور الرابع الذي أداه علم الكلام فهو توحيد الجماعات العلمية العربية والإسلامية وتواصلها مع اختلاف المكان والزمان. ويمكن القول هنا بارتباط علم الكلام بعلم أصول الفقه والذي شكل الثقافة الجامعة للمجتمعات الإسلامية بما فيها النخب العلمية والفكرية فضلا عن النخب الإدارية والعسكرية. ولذلك فمن الصعب هنا التمييز والفصل بين النظرية العلمية وأصولها الدينية.

أحدث النموذج الإرشادي لعلم الكلام ثورة في تصوره لمفهوم الجسم تخالف الثورة التي أحدثها العلم اليوناني في تصوره لمفهوم الجسم. وقد استطاع العلم الحديث الجمع بين الثورتين كما استطاع الجمع بين المنهج الاستقرائي المميز للعلم العربي والمنهج الفرضي الاستنباطي المميز للعلم اليوناني. والملاحظ هنا أن الثورات العلمية الحديثة دارت كذلك حول المفهومين السابقين للجسم في العلم اليوناني والعربي. فقد حدث انتقال من مفهوم حركة الأجسام الكبيرة في نموذج نيوتن إلى حركة الأجسام متناهية الصغر في نظرية الكوانتم إلى صياغة نظرية تقوم على الفروض الرياضية دون الحاجة إلى المنهج التجريبي كما في نظرية النسبية والتي جمعت بين الزمان والمكان فى حركة الأجسام.

تظهر الرسالة العلمية المنطقية لابن الخطيب حول العدوى بالطاعون، أن العلم الحديث يتعامل مع صنفين من الموجودات، فهناك موجودات محسوسة متحيزة في المكان وهناك موجودات أخرى غير محسوسة يمكن إدراكها عن طريق الاستنباط والفرض العلمي. وبذلك فعلم الكلام في تعريفه للجسم “الشرعي” يجعل العلم العربي يتعامل مع صنف واحد من الموجودات ويهمل وجود الصنف الآخر من الموجودات الغير محسوسة. وهو ما تفاداه العلم الأوروبي في تعامله مع وباء الطاعون حيث افترض وجود مسببات له غير مرئية عرفت بعد ذلك في القرن التاسع عشر. تركيز العلم العربي على صنف دون الآخر من الموجودات هو ما تعرض له وحيد الدين خان في دراسته التي تدعو إلى تجديد علم الكلام وبالتالي إعادة التوازن إليه فيقول “انه أصبح من المسلم به الآن (بعد عصر آينشتين) أن الإنسان غير قادر على الاستدلال بالمشاهدة بوسائله المحدودة، فإن الإنسان لا يقدر إلا على الاستدلال بالاستنباط. فنحن لا نستطيع مشاهدة الحقائق بل جل ما نستطيعه هو استنباط الحقائق الكامنة بدراسة أو مشاهدة الأشياء الظاهرة (أي الأجسام المحسوسة)(53). ويؤكد محمد إقبال على أن الموجود المحسوس هو غاية المعرفة للعلم الإسلامي “فأول نقطة نلاحظها في روح الثقافة الإسلامية هي أنها في سبيل الحصول على المعرفة تجعل المحسوس المتناهي نصب عينيها”(54). ومن هذا المنطلق يرفض إقبال تصور الاشاعرة لتلك الموجودات التي تتكون من أجزاء متناهية، كما يرفض أن تكون حركتها عبارة عن حركات منفصلة فتصور الكون بهذه الكيفية يعيق حركة العقل “ولكن الكون بوصفه مجموعة موجودات متناهية يتمثل لنا كأنه جزيرة قائمة في خلاء بحت، والزمان باعتباره سلسلة من لحظات منعزلة بعضها عن بعض هو عدم بالنسبة إلى الكون ولا تأثير فيه. واعتبار الكون كذلك لا يؤدي بالعقل المتأمل إلى شئ فالمتناهي بوصفه متناهيا صنم معبود يعوق حركة العقل، فيجب على العقل أن يتغلب على فكرة الزمان المتجدد (الذي يتجدد لحظة بلحظة) وعلى الخلاء المطلق في الفراغ المدرك لكي يجاوز حد التناهي(55).

تتعارض العلمانية مع بناء جماعات علمية عربية حديثة

شكلت ميتافيزيقا العلم العربي نوعين من الإنتاج العلمي في عصر الازدهار، الأول هو الإنتاج العلمي القائم على المنهج الاستقرائي والذي كانت له السيادة التاريخية، أما الثاني فهو الإنتاج العلمي القائم على المنهج الفرضي الاستنباطي وتميز بصياغة الأنساق الكلية كما عند ابن الهيثم وابن خلدون، وقد تميز هذا النمط من الإنتاج بقلته وتجاهل أهميته عند جمهرة العلماء العرب. إن الدعوة إلى تجديد علم الكلام تهدف بالضرورة إلى بعث ميتافيزيقا جديدة للعلم العربي وهو ما يعني التواصل مع النمط الثانى من الإنتاج العلمي العربي وزيادة مساحته، فهو النمط من الإنتاج الذي أصبح مناسبا للعصر الحديث الذي نعيش فيه، وهو مدخل ضروري لأن يكون للجماعات العلمية العربية الحديثة نموذج إرشادي ونسق كلي تعمل من خلاله من أجل التواصل مع هويتها ومع العلم الأوروبي الحديث. ومن الناحية الأخرى فالمنهج الاستقرائي والاعتماد على التجربة أصبح محل نقد شديد من قبل فلاسفة العلم أمثال كارل بوبر (1902-1994م) وبيير دوهيم (1861-1916م)(56) كما أصبح ما يميز العلم الحديث هو ازدياد اعتماده على المنهج الفرضي الاستنباطي(57).

وفي هذا النطاق فإن فكرة العلمانية شأنها في ذلك شأن تيار ما بعد الحداثة هي دعوى هدامة يراد بها تفكيك الجماعات العلمية العربية الحديثة التي تفتقد منذ مطلع القرن العشرين الوعي بالأسس الفكرية والنظرية للتراث العلمي العربي وهو ما يعني أيضا تشتيت انتباه هذه الجماعات بعيدا عن أهمية ميتافيزيقا العلم بوجه عام، وميتافيزيقا العلم العربي بوجه خاص وهي التي توجد كما رأينا في صلب علوم الدين فهي تمثل علم أصول الدين الإسلامي. وبذلك فإن العمل بهذه الدعوة يدخل ضمن مقولات تيار ما بعد الحداثة وما يدعو إليه من استبعاد المرجعيات والميتافيزيقا وهو ما يؤدي ليس فقط إلى تفكيك وانهيار الجماعات العلمية العربية الحديثة ولكن أيضا إلى تفكيك المجتمعات العربية الإسلامية.

الهوامش

(1) أحمد عبد الجواد، تاريخ وفلسفة العلم في مصر منذ القرن التاسع عشر (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2007) ص98.

(2) بينيس. س، مذهب  الذره عند المسلمين وعلاقته بمذاهب اليونان والهنود، ترجمة محمد عبد الهادي أبوريده (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1946)، ص131.

(3) على سامي النشار، ديموقريطيس (الإسكندرية: الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1972) ص97.

(4) نفس المرجع، ص205.

(5) أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين ج2 (بيروت: المكتبة العصرية، 1990) ص16.

(6) هارى ولفسون، فلسفة المتكلمين جـ2 ترجمة مصطفى لبيب السباعى (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2005) ص620.

(7) محمد عبد الهادى أبو ريدة، إبراهيم بن سيّار النظّام وآراؤه الكلامية والفلسفية (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010) ص127.

(8) على سامى النشار، نشأة الفكر الفلسفى في الإسلام (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1954) ص131.

(9) عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم (القاهرة: مؤسسة الحلبي للنشر والتوزيع (د.ت) ص197.

(10) نفس المصدر ص197.

(11) دونالد جيليز، فلسفة العلم في القرن العشرين، ترجمة حسين على (القاهرة: أم القرى للطباعة والنشر والتوزيع، 2007)، ص335.

(12) انظر مقدمة كتاب الأوبئة والتاريخ، المرض والقوة والامبريالية تأليف شلدون واتس ترجمة وتقديم أحمد عبد الجواد (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010) ص44،45.

(13) مصطفى نطيف، العلوم التعليمية والطبيعية عند العرب، المؤتمر العلمى العربى الأول سبتمبر 1953 (القاهرة: جامعة الدول العربية، الإدارة الثقافية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1954)، ص60.

(14) مصطفى نظيف، التفكير العلمى، نشأته ومدارجه الأولى (القاهرة: الجمعية المصرية لتاريخ العلوم، 1951) ص22.

(15) الحسن بن الهيثم، كتاب المناظر، تحقيق عبد الحميد صبره (الكويت: السلسلة التراثية، 1983) ص61.

(16) مصطفى نظيف، التفكير العلمى نشأته ومدارجه الأولى- مرجع سابق، ص21.

(17) محمد بن ساسى، ابن رشد وابن الهيثم (تونس: المجلة التونسية للدراسات الفلسفية عدد 19، 1998) ص102.

(18) عضد الدين الإيجي، المواقف في علم الكلام (القاهرة: مكتبة المتنبي د.ت) ص134.

(19) محمد بن ساسى، ابن رشد وابن الهيثم (تونس: المجلة التونسية للدراسات الفلسفية عدد 19، 1998) ص102.

(20) مصطفى نظيف، الحسن بن الهيثم، بحوثه وكشوفه النظرية (القاهرة: مكتبة نوري، 1942) ص9.

(21) طوبي هاف، فجر العلم الحديث ج2 ترجمة احمد محمود صبحي (الكويت : عالم المعرفة، العدد 219، 1997) ص21

(22) بول غليونجي، قطوف من تاريخ الطب (القاهرة: دار المعارف، 1986) ص248.

(23) نفس المصدر، ص249.

(24) زيجريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب (بيروت: دار الجيل، 1993) ص276.

(25) شلدون واتس، الأوبئة والتاريخ، المرض والقوة والامبريالية ترجمة وتقديم احمد عبد الجواد (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010) ص101.

(26) جون هوبسون، الجذور الشرقية للحضارة الغربية، ترجمة منال قابيل (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006) ص212.

(27) زيجريد هونكه، مصدر سابق ص276.

(28) بول غليونجي، مصدر سابق ص250.

(29) عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1969) ص77.

(30) طوبي هاف، فجر العلم الحديث ج2 ترجمة احمد محمود صبحي (الكويت : عالم المعرفة، العدد 219، 1997) ص81.

(31) طوبي هاف، مصدر سابق ص 81.

(32) نفس المرجع ص82.

(33) الحسن بن متويه، التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض تحقيق سامي نصر (القاهرة: دار الثقافة للطباعة والنشر، 1975) ص106.

(34) عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة ط1 ج3 (القاهرة: لجنة البيان العربي، 1960) ص977.

(35) عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة (القاهرة: المطبعة الأميرية، 1321هـ) ص37.

(36) محمد الفاضل بن عاشور، ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع (القاهرة: أعمال مهرجان ابن خلدون، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 1962) ص806.

(37) محمد لطفي جمعة ، تاريخ فلاسفة الإسلام (القاهرة: مكتبة الأسرة، 2008) ص238.

(38) تقي الدين المقريزي، إغاثة الأمة بكشف الغمة (سوريا: دار الوليد، 1956) ص47.

(39) رؤوف عباس، كتابه تاريخ مصر إلى أين؟ (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2009) ص69.

(40) يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة (القاهرة: دار المعارف، 1969) ص23.

(41) يوسف كرم، نفس المرجع ص 113.

(42) رينيه ديكارت، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة عثمان أمين (القاهرة: مكتبة الأنجلو، ط4 1969) ص110.

(43) سالم يفوت، فلسفة العلم المعاصره ومفهومها للواقع (بيروت: دار الطليعة، ط1 1986) ص23.

(44) توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال (الكويت: عالم المعرفة العدد 168 ديسمبر 1992) ص57

(45) نفس المرجع ص58.

(46) جمال الدين الأفغاني، الرد على الدهريين (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1955) ص17.

(47) محمد عبده، رسالة التوحيد (القاهرة: دار المنار (د. ت) ص28.

(48) نقولا فارس، رياضيات الخوارزمي: تأسيس علم الجبر (بيروت: مجلة المستقبل العربي، العدد 377 يوليو 2010) ص90.

(49) مصطفى نظيف، مرجع سابق ص13 ،14.

(50) نقولا فارس، مرجع سابق ص87.

(51) نيقولا ريشر، تطور المنطق العربي، ترجمة محمد مهران (القاهرة: دار المعارف، 1985) ص100.

(52) طنطاوي جوهري، احلام في السياسة (القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، (د. ت) ص46.

(53) وحيد الدين خان، نحو علم كلام جديد (القاهرة: مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العددان 16،17  1422هـ/ 2001م) ص299.

(54) محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود (القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة  والنشر، 1955) ص151.

(55) نفس المرجع ص151.

(56) دونالد جيليز، مرجع سابق، ص77.

(57) يمنى طريف الخولى، فلسفة العلم فى القرن العشرين (الكويت: عالم المعرفة، العدد 264 ديسمبر 2000) ص347.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر