أبحاث

السنن الإلهية في الكون والاجتماع

قبل أكثر من مائة عام :، وقف الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م) وهو يفسر القرآن الكريم، وقفات غير مسبوقة أمام الآيات القرآنية التي تتحدث عن سنن الله الحاكمة لعالم الكون المادي، ولعالم الاجتماع الإنساني، وأفاض في الحديث عن هذه السنن الحاكمة لحركة الكون، وسير التاريخ، وقيام الحضارات وسقوطها، وأسباب التقدم والتخلف في الأمم والمجتمعات، وتناول الازدهار والانحطاط بين الناس.

ولقد تمنى الإمام محمد عبده، يومئذ – أن ينشئ المسلمون انطلاقاً من القرآن الكريم علماً إسلامياً هو علم السنن، أو علم الاجتماع الديني، كما استخرجوا من القرآن أيضاً كل العلوم الشرعية التي تبلورت وازدهرت في حضارة الإسلام.

ولقد أشار الأستاذ الإمام وهو يتحدث عن حاكمية هذه السنن الربانية في الكون والاجتماع، إلى حقيقة فلسفية وعلمية وعقدية بالغة الأهمية، وهي : أن حاكمية هذه السنن، التي لا تبديل لها ولا تحويل، لا تعني الجبرية التي تجرد الإنسان من حريته واختياره وتسخره لقوانين هذه السنن، وإنما تعني : أن وعي الإنسان بقوانين هذه السنن وقواعد حركتها هو الذي يجعل الإنسان قادراً على تسخيرها في الاتجاه الذي يريد، ذلك أن كل ما في هذا الكون، بما في ذلك السنن والقوانين، هو مُسخّر من الخالق – سبحانه وتعالى – للإنسان، الذي استخلفه الله لحمل أمانة عمارة هذه الأرض، وفق الشرائع والقوانين التي وضعها الله.

فاكتشاف السنن، والوعي بقوانين حركتها، هو الذي يحقق سيطرة الإنسان عليها، ويجعله قادراً على مغالبتها وتسخيرها في أداء الأمانة التي استخلفه الله للنهوض بها، بينما الغفلة، غفلة هذا الإنسان عن هذه السنن، وغيبة وعية عن قوانين حركتها، هو الذي يجعله ضحية لهذه القوانين التي لا تبديل لها ولا تحويل، حتى ولو حسنت نوايا هذا الإنسان، وعاش غارقاً في بحار الأمنيات والأحلام والأدعية التوسلات !. وصدق الله العظيم : (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) (النساء :123).

وغير التميز بالريادة في الوعي بالأصول القرآنية لهذا العلم – علم السنن الإلهية والاجتماع الديني – تميز الأستاذ الإمام بالإفاضة في الحديث عن هذه السنن الإلهية وهو يفسر الآيات القرآنية التي أشارت إليها حتى لنستطيع أن نؤلف من وقفاته في هذا المقام مقالاً في السنن الإلهية، لا نجد له نظيراً عند غيره من العباقرة الذين تصدوا لتفسير القرآن الكريم، وكيف لا، وقد وصف الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1306-1385هـ/1889-1965م) تفسير محمد عبده للقرآن بأنه المنهاج المعجزة، والتفسير لمعجزات القرآن، المنبئ بظهور إمام المفسرين بلا منازع، الذي كان أبلغ من تكلم في التفسير بياناً لهدي القرآن، وفهماّ لأسراره، وتوفيقاً بين آيات الله في القرآن وبين آياته في الأكوان فكان هذا التفسير فيضًا من إلهام الله أجراه على قلب ذلك الإمام وعلى لسانه، بما لم تنطو عليه حنايا عالم ولا صحائف كتاب، لقد جلا بدروسه في تفسير كتاب الله عن حقائقه التي حام حولها من سبقه ولم يقع عليها، فكان آية على أن القرآن لا يُفسر إلا بلسانين : لسان العرب ولسان الزمان([1]).

نعم نستطيع أن نؤلف مقالاً مختاراً في علم السنن الإلهية من الصفحات العديدة التي أفردها الأستاذ الإمام لهذا المبحث، الذي تفرد به من بين العباقرة الذين تميزوا في تفسير القرآن الكريم.

لقد قال الأستاذ الإمام وهو يفسر قول الله سبحانه وتعالى : (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) (آل عمران : 137).

إن إرشاد الله إيانا إلى أنه له في خلقه سنن، يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علماّ من العلوم المدونة، لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبنون لها سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال، وبينها العلماء بالتفصيل، عملاً بإرشاده، كالتوحيد، والأصول، والفقه.

والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها.

ولا يُحتَجّ علينا بعدم تدوين الصحابة لها، فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشرعية التي وضعت لها الأصول والقواعد، وفرعت منها الفروع والمسائل. وإنني لا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله من وراء ذكرها، يعني أنهم بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم،: ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها، وبما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله تعالى، ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم التي استولوا عليها، وما كانوا عليه من العلم بالتجربة والعمل أنفع من العلم النظري المحض، وكذلك كانت علومهم كلها.

ولما اختلفت حالة العصر اختلافاً احتاجت معه الأمة إلى تدوين علم الأحكام وعلم العقائد وغيرهما، كانت محتاجة أيضاً إلى تدوين هذا العلم، ولك أن تسميه علم السنن الإلهية، أو علم الاجتماع، أو علم السياسة الدينية، سمّ بما شئت، فلا حرج في التسمية.

ومعنى الجملة (الآية) : انظروا إ”لى من تقدمكم من الصالحين والمكذبين، فإذا أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبيل المكذبين فعاقبتكم كعاقبتهم، وفي هذا تذكير لمن خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في أُحد، ففي الآية مجاري أمن ومجاري خوف. فهو على بشارته لهم فيها بالنصر وهلاك عدوهم، ينذرهم عاقبة الميل عن سننه، ويبين لهم أنهم إذا ساروا في طريق الضالين من قبلهم فإنهم ينتهون إلى مثل ما انتهوا إليه، فالآية خبر وتشريع، وفي طيها وعد ووعيد.

(فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ)(آل عمران :137)، أي أن المصارعة بين الحق والباطل قد وقعت من الأمم الماضية، وكان أهل الحق يغلبون أهل الباطل ويُصرون عليهم بالصبر والتقوى، وكان ذلك يجري بأسباب مطردة، وعلى طرائق مستقيمة، يُعلم منها أن صاحب الحق إذا حافظ عليه يُنصر ويرث الأرض، وأن من ينحرف عنه ويعيث في الأرض فساداً يُخل وتكون عاقبته الدمار، فسيروا في الأرض واستقروا ما حل بالأمم ليحصل لكم العلم الصحيح التفصيلي بذلك، وهو الذي يحصل به اليقين ويترتب عليه العمل.

والسير في الأرض، والبحث عن أحوال الماضين، وتعرّف ما حل بهم هو الذي يوصل إلى معرفة تلك السنن والاعتبار بها كما ينبغي.

نعم، إن النظر في التاريخ الذي يشرح ما عرفه الذين ساروا في الأرض ورأوا آثار الذين خلو، يعطي الإنسان من المعرفة ما يهديه إلى تلك السنن، ويفيده عظة واعتباراً، ولكن دون اعتبار الذي يسير في الأرض بنفسه، ويرى الآثار بعينه، ولذلك أمر بالسير والنظر.

ثم أتبع ذلك بقوله (هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ)(آل عمران : 138) كأنه يقول : إن كل إنسان له عقل يعتبر به فهو يفهم أن السير في الأرض يدله على تلك السنن، ولكن المؤمن المتقي أجدر بفهمها، لأن كتابه أرشده إليها، وأجدر كذلك بالاهتداء والاتعاظ بها.

إن لسير الناس في الحياة سنناً يؤدي بعضها إلى الخير والسعادة وبعضها إلى الهلاك والشقاء، وإن من يتبع تلك السنن فلابد أن ينتهي “إلى غايتها، سواء كان مؤمناً أو كافراً، كما قال سيدنا عليّ : (إن هؤلاء قد انتصروا باجتماعهم على باطلهم، وخُذلتم بتفرقكم عن حقكم).

ومن هذه السنن أن اجتماع الناس وتواصلهم وتعاونهم على طلب مصلحة من مصالحهم يكون مع الثبات من أسباب نجاحهم ووصولهم “إلى مقصدهم، سواء كان ما اجتمعوا عليه حقاً او باطلاً، وإنما يصلون إلى مقصدهم بشيء من الحق والخير، ويكون ما عندهم من الباطل قد ثبت باستناده إلى ما معهم من الحق، وهو فضيلة الاجتماع والتعاون والثبات، فالفضائل لها عماد من الحق، فإذا قام رجل بدعوى باطلة، ولكن رأى جمهور من الناس انه محق يدعو إلى شيء نافع، وأنه يجب نصره، فاجتمعوا عليه ونصروه، وثبتوا على ذلك، فإنهم ينجحون معه بهذه الصفات، ولكن الغالب أن الباطل لا يدوم، بل لا يستمر زمناً طويلاً، لأنه ليس له في الواقع ما يؤيده، بل له ما يقاومه، فيكون صاحبه دائماً متزلزلاًً، فإذا جاء الحق ووجد أنصاراً يجرون على سنة الاجتماع في التعاون والتناصر، ويؤيدون الداعي إليه بالثبات والتعاون، فإنه لا يلبث أن يدفع الباطل، وتكون العاقبة لأهله، فإن شابت حقهم شائبة من الباطل، أو انحرفوا عن سنن الله في تأييده، فإن العاقبة تنذرهم بسوء المصير.

فالقرآن يهدينا في مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نعرف أنفسنا وكنة استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا ومن السير علي سنن الله في طلبه وفي حفظه، وأن نعرف كذلك حال خصمنا، ونضع الميزان بيننا وبينه، وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين.

(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(آل عمران :139).

كأنه يقول : انظرا في سنن من قبلكم تجدوا أنه ما اجتمع قوم على حق، وأحكموا أمرهم وأخذوا أهبتهم وأعدوا لكل أمر عدته، ولم يظلموا أنفسهم في العمل لنصرته، إلا وظفروا بما طلبوا وعوضوا مما خسروا، لحولوا وجوهكم عن جهة ما خسرتم، وولوها جهة ما يستقبلكم،: وانهضوا به بالعزيمة والحزم، مع التوكل على الله عز وجل.

والحزن إنما يكون على فقد ما لا عوض منه، وإن لكم خير عوض مما فقدتم، وأنتم الأعلون برجحانكم عليهم في مجموع الوقعتين، بدر وأُحد، إذ الذين قتلوا منهم أكثر من الذين قتلوا منكم، على كثرتهم وقلتكم.

(وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)(آل عمران : 140).

هذه قاعدة كقاعدة (قد خلت من قبلكم سنن)، أي هذه سنة من تلك السنن، وهي ظاهرة بين الناس، بصرف النظر عن المحقين والمبطلين.

والمداولة في الواقع تكون مبنية على أعمال الناس، فلا تكون الدولة لفريق دون آخر جزافاً، وإنما تكون لمن عرف أسبابها ورعاها حق رعايتها، أي إذا علمتم أن ذلك سنة فعليكم أن لا تهنوا ولا تضعفوا بما أصابكم، لأنكم تعلمون أن الدول تدول.

والعبارة تومئ إلى شئ مطوي، كان معلوماً لهم، وهو أن لكٍّل دولة، فكأنه قال: إذا كانت المداولة منوطة بالأعمال التي تفضي إليها، فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال وتُحكموها أثم إحكام… وإن العلم إذا لم يصدقه العمل لا يمتد به… وإن المسلم ما خلق ليلهو ويلعب، ولا ليكسل ويتواكل، ولا لينال الظفر والسيادة بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في المخلوقات، نبل خُلق ليكون أكثر الناس جدا في العمل، وأشدهم محافظة على النواميس والسنن([2]).

السنن الكونية.. والاجتماعية :

لقد كشف الإسلام عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من حوادث الكون الكبير (العالم) والكون الصغير (الإنسان) فقرر أن آيات الله الكبرى في صنع العالم إنما يجري أمرها على السنن الإلهية التي قدرها الله في علمه الأزلي، لا يغيرها شيء من الطوارئ الجزئية، غير أنه لا يجوز أن يُغفل شأن الله فيها، بل ينبغي أن يحي ذكره عند رؤيتها، فقد جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يا يُخسفان لموت واحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله) وفيه تصريح بأن جميع آيات الكون تجري على نظام واحد، لا يقضي فيه إلا العناية الأزلية على السنن التي أقامته عليها.

ثم أماط اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الأمم، والمصائب التي يرزون بها، ففصل بين الأمرين فصلاً لا مجال معه للخلط بينهما، فأما النعم التي بمتع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة، والرزايا التي يُرزأ بها في نفسه فكثير منها – كالثروة والجاه والقوة والبنين، أو الفقر والضعة والضعف والفقد – قد لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامه وعوج، أو طاعة وعصيان، وكثيراً ما أمهل الله بعض الطغاة البغاة، أو الفجرة الفسقة، وترك لهم متاع الحياة الدنيا، وكثيراً ما امتحن الله الصالحين من عباده، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه، وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة عبروا عن إخلاصهم في التسليم بقولهم : (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)(البقرة : 156)، فلا غضبُ زيد ولا رضي عمرو، ولا إخلاص سريرة ولا فساد عمل مما يكون له دخل في هذه الرزايا ولا تلك النعم الخاصة، اللهم إلا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبَّب بالسبب على جاري العادة، كارتباط الفقر بالإسراف، والذين بالجبن، وضياع السلطان بالظلم، وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب، والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر وما يشبه ذلك مما هو مبيَّن في علم آخر.

أما شأن الأمم فليس على ذلك، فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية، من تصحيح الفكر وتسديد النظر، وتأديب الأهواء، وتحديد مطامع الشهوات والدخول إلى كل أمر من بابه، وطلب كل رغبة من أسبابها، وحفظ الأمانة، واستشعار الأخوة، والتعاون على البر، والتناصح في الخير والشر، وغير ذلك من أصول الفضائل، ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا)(آل عمران :145)، ولن يسلب الله عنها نعمته ما دام هذا الروح فيها (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)(الإسراء:16)، أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11)، (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)(الأحزاب : 62) وما أجلّ ما قاله العباس بن عبد المطلب ففي استسقاءه : (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يُرفع إلا بتوبة).

على هذه السنن جرى سلف الأمة فبينما كان المسلم يرفع روحه بهذه العقائد السامية ويأخذ نفسه بما يتبعها من الأعمال الجليلة، كان غيره يظن أنه يزلزل الأرض بدعائه، ويشق الفلك ببكائه، وهو ولع بأهوائه، ماض في غلوائه، وما كان يغني عنه ظنه من الحق شيئاً([3]).

سنن الله في الغنى والفقر بين الأفراد والأمم :

(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً{2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)(الطلاق:2،3).

إن الرزق بغير حساب ولا سعي في الدنيا إنما يصح بالنسبة إلى الأفراد، فإنك ترى كثيراً من الأبرار، وكثيراً من الفجار أغنياء موسرين متمتعين بسعة الرزق، وكثيراً من الفريقين فقراء معسرين، والمتقي يكون دائماً أحسن حالاً وأكثر احتمالاً ومحلاً لعناية الله تعالى به فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر، فهو يجد بالتقوى مخرجاً من كل ضيق، ويجد من عناية الله رزقاً غير محتسب.

أما الأمم فأمرها على غير هذا، فإن الأمة التي ترونها فقيرة ذليلة معدومة مهينة لا يمكن أن تكون متقية لأسباب نقم الله وسخطه بالجري على سنته الحكيمة وشريعته العادلة، ولم يكن من السنة الله تعالى أن يرزق الأمة العزة والثروة والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر، ولا تعمل ولا تدبر، بل يعطيها بعملها ويسلبها بزللها.

سنن التدافع بين الحق والباطل :

وهذا شأن الباطل، لا يثبت أمام الحق، فإن أحكام الباطل مؤقتة لا ثبات لها في ذاتها، وإنما بقاؤها في نوم الحق عنها، وحكم الحق هو الثابت بذاته، فلا يُغلب أنصاره ما داموا معتصمين به، مجتمعين عليه([4]).

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ)(آل عمران : 186) إن الله تعلى لم يكفل للمسلمين الحفظ والنصر والسيادة لأنهم مسلمون، وإنما يكلفهم الجري على سننه تعالى كغيرهم، فلابد لهم من الاستعداد للمدافعة دائماً، وذلك يقتضي بذل المال والنفس، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفع أمة قد خالفت السنن والطبائع. فلا تغتروا بوجودكم معه، مع المخالفة لله وله، فهو لا يحميكم مما تقتضيه سنن الله فيكم([5]).

سنن الله في إحياء الأمم وإماتتها :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ{243} وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(البقرة :243، 244).

والكلام في القوم، لا في أفراد لهم خصوصية، لأن المراد بيان سنته تعالى في الأمم التي تجبن فلا تدفع المعادين عليها. ومعنى حياة الأمم وموتها في عرف الناس جميعهم معروف، فمعنى موت أولئك القوم هو أن العدو نكّل بهم فأفنى قوتهم، وأزال استقلال أمتهم، حتى صارت لا تعد أمة، بأن تفرق شملها، وذهبت جامعتها، فكل من بقي من أفرادها خاضعين للغالبين ضائعين فيهم، مدغمين في غمارهم، لا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم، ومعنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم.

وذلك أن من رحمة الله في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديباً لهم ومطهراً لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة، أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل. والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، حتى عادت لهم وحدتهم قوية فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذلك العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال، فهذا معنى حياة الأمم وموتها، بموت قوم منهم باحتمال الظلم، ويذلك آخرون حتى كأنهم أموات، إذ لا تصدر عنهم أعمال الأمم الحية، من حفظ سياج الوحدة، وحماية البيضة، بتكافل أفراد الأمة ومنعتهم، فيعتبر الباقون فينهضون إلى تدارك ما فات، والاستعداد لما هو آت، ويتعلمون من فعل عدوهم بهم كيف يدفعونه عنهم، قال عليّ كرم الله وجهه : (إن بقية السيف هي الباقية).. أي التي يحيا بها أولئك الميتون. فالموت والإحياء واقعان على القوم في مجموعهم، والحكمة في هذا الخطاب تقرير معني وحدة الأمة وتكافلها، وتأثير سيرة بعضها في بعض حتى كأنها شخص واحد، وكل جماعة منها كعضو منه.

(إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) (البقرة :243) كافة بما جعل في موتهم من الحياة، إذ جعل المصائب والعظائم محيية للهمم والعزائم، كما جعل الهلع والجبن وغيرهما من الأخلاق التي فسده االترف والسرف من أسباب ضعف الأمم، وجعل ضعف امة مغرياً لأمة قوية بالوثبان عليها، والاعتداء على استقلالها، وجعل الاعتداء منبهاً للقوى الكامنة في المعتدى عليه، وملجئاً له إلى استعمال مواهب الله فيما وهبت لأجله، حتى تحيا الأمم حياة عزيزة، ويظهر فضل الله تعالى فيها.

والمراد بالفضل هنا الفضل العام، وهو أنه تعالى جعل إماتة الناس بما يسلط على الأمة من الأعداء ينكلون بها بمثابة هدم البناء القديم المتداعي، والضرورة قاضية ببناء، فلا جرم تنبعث الهمة إلى هذا البناء الجديد فيكون حياة جديدة للأمة.

تفسد الأخلاق بالأمم فتسوء الأعمال، فيسلط الله على فاسدي الأخلاق النكبات ليتأدب الباقي منهم، فيجتهدون في إزالة الفساد وإدالة الصلاح، ويكون ما هلك من الأمة بمثابة العضو الفاسد المصاب (بالغنغرينا) يبتره الطبيب ليسلم الجسد كله، ومن لا يقبل هذا التأديب الإلهي فإن عدل الله في الأرض يمحقه منها (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)(البقرة:270).

فهذه سنة من سنن الاجتماعي، بيَّنها القرآن، وكان الناس في غفلة عنها، ولهذا قال : (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)(غافر :61) أي لا يقومون بحقوق النعمة، ولا يستفيدون من بيان هذه السنة، أي هذا شأن أكثر الناس في غفلتهم وجعلهم بحكمة ربهم، فلا تكونوا كذلك أيها المؤمنون، بل اعتبروا بما نزل عليكم وتأدبوا به لتستفيدوا من كل حوادث الكون، حتى مما ينزل بكم من البلاء إذا وقع منكم تفريط في بعض الشؤون، واعلموا أن الجبن عن مدافعة الأعداء وتسليم الديار بالهزيمة والفرار، هو الموت المحفوف بالخزي والعار، وأن الحياة العزيزة الطيبة هي الحياة الملّية المحفوظة من عدوان المعتدين، فلا تقصروا في حماية جامعتكم في الملة والدين([6]).

من سنن الاجتماع البشري : الإملاء للكافرين :

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(آل عمران: 177).

وقد يعرض لبعض الأفكار وهْمّ في هذا المقام ويجول فيها صورة ما يتمتعون به من اللذات والقوة وإمكان نيلهم من المؤمنين إذا أذنبوا – كما نالوا منهم يوم أحد بذنبهم وتقصيرهم – فيقول الواهم : آمنا وصدقنا أن هؤلاء سيعذبون في الآخرة ولا يكون لهم نصيب من نعيمها، ولكن، أليسوا الآن متمتعين بالدنيا ؟ أليس لهم فيها من القوة ما يمكنهم من الاعتداء علينا ؟؟

وقد كشف هذا الوهم قوله تعالى : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)(آل عمران : 178)، فبين لنا سنة حكيمة من سننه في الاجتماع البشري، وهي أن الإنسان يبلغ الخير بعمله الحسن، ويقع في الضير بتقصيره في العمل الصالح وتشميره في عمل السيئات، والعبرة بالخواتيم، فكأنه قال : إن هذا الإملاء للكافرين ليس عناية من الله بهم وإنما هو جري على سنته في الخلق، وهي أن يكون ما يصيب الإنسان من خير وشر هو ثمرة عمله.

ومن مقتضى هذه السنة العادلة أن يكون الإملاء للكافر علة لغروره، وسبباَ لاسترساله في فجوره، فيوقعه ذلك في الإثم الذي يترتب عليه العذاب المهين([7]).

سنة التبديل والتغيير :

(سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(البقرة : 211).

والآية عبرة للمخاطبين بالقرآن من المؤمنين به، لا حكاية تاريخية عن بني إسرائيل.

ولكن، هل يعتبر بها المنتسبون إلى القرآن ؟! وهل يفهمون منها أن ملكم الذي يتقلص ظله عن رؤوسهم عاماً بعد عام، وعزم الذي تتخطفه منهم حوادث الأيام ما بدّلهما الله تعالى إلا بعد ما بّلوا نعمته عليهم في قوله : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)(آل عمران : 103)، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ)(الأنفال : 53).

كلا ! إنهم لم يفهموا هذا ولو تغنوا وترنموا بهذه الآيات في كل مأتم وكل موسم، وإن رؤساءهم لا يمقتون أحداّ مُقتهم لمن يكرّهم به، وإن أكثر عامتهم تبع لهؤلاء الرؤساء كما كان بنو إسرائيل على عهد نزول القرآن، وإنا لنعلم أن الساكتين منهم على جميع ما مُنِي به المسلمون من البدع والخرافات والفسوق والعصيان يتفقون مع المدافعين عن الفاسقين والمبتدعين على إيذاء الواعظين الناصحين، باسم المدافعة عن الدين([8]) !

السنن الجارية.. والسنن الخارقة :

(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء{38} فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ)(آل عمران : 38، 39).

إن زكريا لما رأى ما رآه من نعمة الله على مريم في كمال إيمانها وحسن حالها، ولا سيما اختراق شعاع بصيرتها لحجب الأسباب، ورؤيتها أن المسخّر لها هو الذي يرزق من يشاء بغير حساب، أُخذ عن نفسه، وغاب عن حسّه وانصرف عن العالم وما فيه، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته، وإنما يكون الدعاء جدير بأن يُستجاب إذا جرى به اللسان بتلقين القلب في حال استغراقه في الشعور بكمال الرب، ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة، وقد أُذن بسماع ندائه، واستجابة دعائه، سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة، وهي على غير السنة الكونية، فأجابه بما أجابه، وذلك قوله عز وجل : (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ)([9])…إن فلق البحر كان من معجزات موسى، وقد قلنا في (رسالة التوحيد) : إن الخوارق الجائزة عقلاً، أي التي ليس فيها اجتماع النقيضين ولا ارتفاعهما، لا مانع من وقوعها بقدرة الله تعالى على نبي من الأنبياء، ويجب أن نؤمن بها على ظاهرها.

ولا يمنعنا هذا الإيمان من الاهتداء بسنن الله تعالى في الخلق، واعتقاد أنها لا تتبدل ولا تتحول، كما قال الله تعالى في كتابه الذي ختم به الوحي على لسان نبيه الذي ختم به النبيين، فانتهى بذلك زمن المعجزات، ودخل الإنسان بدين الإسلام في سن الرشد، فلم تعد مدهشات الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان وتقويم ما يعرض للفطرة من الميل عن الاعتدال في الفكر والأخلاق والأعمال كما كان في سن الطفولة النوعية، بل أرشده تعالى بالوحي الأخير القرآن إلى استعمال عقله وتحصيل الإيمان بالله وبالوحي، ثم جعل له كل إرشادات الوحي مبيّنة معلّلة مدلّلة حتى في مقام الأدب – كما أوضحنا ذلك في (رسالة التوحيد) فإيماننا بما أيد الله تعالى به الأنبياء من الآيات لجذب قلوب أقوامهم الذين لم ترتق عقولهم إلى البرهان لا ينافي كون ديننا هو دين العقل والفطرة، وكونه حتِّم علينا الإيمان بما يشهد له العيان، من ان سننه تعالى في الخلق لا تبديل لها ولا تحويل.

وزعم الذين لا يحبون المعجزات من المتهورين أن عبور بني إسرائيل البحر كان إبان الجزر، فإن في البحر الأحمر زقاقاً إذا كان الجزر الذي عهد هناك شديداً تيسر للإنسان أن يعبر ماشياً ولما أتبعهم فرعون بجنوده ورآهم قد عبروا البحر تأثرهم، وكان المد تفيض ثوائبه – وهي المياه التي تجري عقيب الجزر – فلما نجا بنو إسرائيل كان المد قد غطى وعلا حتى أغرق المصريين.

تحقق إنعام الله على بني إسرائيل يتم بهذا التوفيق لهم والخذلان لعدوهم، ولا ينافي الامتنان به عليهم كونه ليس آية لموسى عليه السلام، فإن نعم الله بغير طريق المعجزات أعم وأكثر.

كذا قالوا – المتهورون، المنكرون للمعجزات.

ولكن، يدل على كونه آية له (لموسى) وصف كل فرق بأنه كالطود العظيم، وإذا تيسر تأويل كل آيات القصة من القرآن فإنه يتعسر تأويل قوله تعالى – في سورة الشعراء (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم) (الشعراء :63).

وهو الموافق لما في التوراة([10])..

(لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً)(النساء : 123).

وإذا طبقنا المسألة على سنة الله التي لا تبديل لها ولا تحويل، علمنا أن مصائب الدنيا تكون جزاء على ما يقصر فيه الناس من السير على سنن الفطرة وطلب الأشياء من أسبابها، واتقاء المضرات باجتناب عللها (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)(الشورى : 30)([11]).

إن القول بنفي الرابطة بين الأسباب والمسببات جدير بأهل دين ورد في كتابه (الإنجيل) : أن الإيمان وحده كاف في أن يكون للمؤمن أن يقول للجبل : تحوّل عن مكانك، فيتحول الجبل ! يليق بأهل دين تُعد الصلاة وحدها، إذا أخلص المصلي فيها، كافية في إقداره على تغيير سير الكواكب وقلب نظام العالم العنصري.

وليس هذا الدين هو الإٍسلام.

دين الإسلام هو الذي جاء في كتابه : (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ)(التوبة : 105)، (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ)(الأنفال :60) (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)(الأحزاب :62) وأمثالها.

وليس من الممكن لمسلم أن يذهب إلى ارتفاع ما بين حوادث الكون من الترتيب في السببية والمسببية إلا إذا كفر بدينه قبل أن يكفر بعقله !([12])..

هكذا تحدث الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده عن علم السنن الإلهية، علم الاجتماع الإسلامي.. والساسة الدينية.. فكان أول داعية لتأسيس هذا العلم، الذي ما زال ينتظر الاجتهادات والإبداعات، التي تحقق أمنية الأستاذ الإمام التي تمناها قبل أكثر من قرن من الزمان.

([1]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، جـ1 ص327، 343، جـ2، ص252 جمع وتقديم : د. أحمد طالب الإبراهيمي، بيروت : دار الغرب الإسلامي 1997م.

([2]) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، جـ5، ص99-105، دراسة وتحقيق : د. محمد عمارة، بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر- سنة 1972م.

([3]) المصدر السابق، جـ3، ص453-454.

([4]) المصدر السابق، جـ4، ص542، 421.

([5]) المصدر السابق، جـ5، 147، 130 ؟

([6]) المصدر السابق، جـ4، ص692، 695، 696.

([7]) المصدر السابق، جـ5، ص138.

([8]) المصدر السابق، جـ4، ص538.

([9]) المرجع السابق، جـ5، ص31.

([10]) المصدر نفسه، جـ4، ص183، 184.

([11]) المصدر السابق، جـ5، ص278.

([12]) المصدر السابق، جـ3، ص502.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر