أبحاث

إشكالية الاستبداد والفساد في الفكر والتاريخ السياسي الإسلامي

العدد 122

أمة يدعو إلى الخيـــر:

قدم القرآن الكريم الكثير من المفاهيم التي يجب أن تقوم عليها الأنظمــة والمؤسسات الاجتماعية هدايةً للبشرية، وترك لهم أمر أسلوب  تحقيقها، ووسائلها المتغيرة المتطورة،
على ما يقتضيه تطور أحوال الزمان والمكان، في اتساع سقف العلم والمعرفـــة والتقدم الحضاري الإنساني، وما يلحق ذلك من تغيُّرات وتطورات وإمكانات وتحديات.

ومن أبرز المفاهيم التي تنبه لها مفكرو الأمـة منذ أمد ليس بالبعيد، كمؤسسة سياسية اجتماعية هامة، وليس مجرد نصيحة للحاكم، أو طلب مكرمةٍ منه؛ ولذلك أُهمل شأنها، ولم تنشأ كمؤسسة أساسية في بناء الحكم – على وجه الحقيقة – في الماضي، وتلك المؤسسة هي مؤسسة الشورى التي تجسد “مفهوم الشورى” وتفعِّـله في واقع النظام السياسي الإسلامي.

ولذلك نحن نلفت النظر هنا إلى أهميــة إعادة قراءة القرآن الكريم للتنبه إلى العديد من المفاهيم الأخرى التي جاء بها القرآن الكريم واللازمة لبناء مؤسسات النظام الاجتماعي الإسلامي المعاصر، وبشكل فعال سليم؛ لأن المفكرين المسلمين لم يتنبَّـهوا بالشكل المناسب لهذا الأمر حتى اليوم؛ والسبب في ذلك، إلى حدٍّ كبير، يرجع إلى تعدد الأدوار التي أداها الرسول r في حياته رسولاً مبلغاً موحىً إليه، وداعيةً ومعلماً، ورئيسَ دولةٍ، وبانيَ مجتمعٍ، وهي الأدوار التي كان يجب أن يفصلها المسلمون بعضَها عن بعضٍ بعد وفاة الرسول r، فدور النبوة وبلاغ الرسالة انتهى بوفاة الرسول r؛ ولكن الصوفية والشيعة عملوا بشكل ما على استمرار هذا الدور في كرامات المشايخ والأولياء والمعصومين وإلهاماتهم وتواصلاتهم؛ أما دور الرسول r داعيةً ومعلماً  فكان يجب أن يفصل، بعد وفاته،  عن دور رئيس الحكومة وما يمكن أن يمثِّل رؤساء الحكومات وحكوماتهم وأحزابهم من برامج وأولويات سياسية واجتماعية واقتصادية هم ومن يمثلونهم بالضرورة  من القوى والمصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وذلك حتى لا تنتهك مصالح الأمة العامة وحرماتها، وحتى لا يوظَّف الدينُ والقدسيةُ في خدمة المصالح الخاصة، والتي سوف تنتهي ولا شك – إذا لــم تفصل مهمة الدعوة والتربية عن مهمة السلطات السياسية التنفيذية -وكما أثبت تاريخ الأمة، إلى توظيف الدين والقداسة سياسياً لمصلحة المتنفذين ومصالحهم؛ الأمر الذي يؤدي حتماً إلى  تمكين حكم الاستبداد، وبالتالي انتشار الفساد؛ لأن البشر بفطرتهم يعتورهم الضعف وليس لهم عصمة الأنبياء.

إن من المهم أن ندرك أن الاستبداد والفساد متلازمان، وعادة ما يتسلل الاستبداد في حكم الأمة باقتناعات صور زائفة مضللة، ومن أهم ما يسهل مهمة قوى الاستبداد لإضفاء المشروعية على ممارسات إرهاب الأمة، والاستبداد بقراراتها وشئونها، هو ضعف وعي الجمهور وضحالة ثقافته وتجاربه، وغياب المؤسسات التربوية والإعلامية والدستورية الحارسة الحامية؛ الأمر الذي يدخل المجتمع في حلقةٍ مقفلةٍ، ودوامةٍ مهلكةٍ، من ضعف الوعي، إلى استبداد السلطات الطاغية، والمصالح الخاصة الفاسدة المفسدة؛ ليزيد الفساد من تمكين التسلط والطغيان والاستبداد، من رقاب الأمة ومقدراتها، وفرض الوصاية عليها؛ لتزداد الأمة ضعفاً وخنوعاً في وجدانها، وتجهيلاً في ثقافتها، وضعفاً في وعيها، وهكذا دواليك، ضعف وعيٍ يؤدي إلى استبداد، إلى فساد، إلى مزيد من التجهيل وضعف الوعي والخضوع والخنوع، إلى مزيدٍ من الاستبداد، ومزيدٍ من الفساد؛   ولذلك فإنه لابدَّ للشعوب في نظام حياتها وتطوراتها الحضارية من بناء المؤسسات اللازمة لبناء وعي الأمة، ومنع ممارسات الوصاية والإفساد من قِبَلِ الحكام والمتنفذين وأعوانهم وتحويل  جمهور الأمة إلى قاصرين، يتحكمون في رقابهم، ويصبحون هم الخصم، وهم الحكم، وبدون وعي الأمة لا يُقضَى على ممارسات الاستبداد والفساد، وبوعي الأمة وترابط صفوفها وشجاعة أبنائها فقط يقضى على ممارسات الاستبداد والفساد، وتحصل الأمة على أكبر قدرٍ من كفاءة الأداء، وتوازن القوى والمصالح في المجتمع.

ولذلك، وحتى يُقضى على متلازمة الاستبداد والفساد فإن بناء وعي جمهور الأمة، ووعي كوادرها، لا بد من العناية بالأسرة، وبالأدبيات الوالدية؛ لدورها المهم في تربية وجدان الطفل، ولا بدَّ من استقلال دور التربية والتعليم والدعوة، وإقامة مؤسسة أو مؤسسات مستقلة خاصة بها، وإسناد أمرها إلى الأمة مباشرة، وتمكين دورها المستقل في بناء شخصية المسلم ووجدانه، وتنقية ثقافته، بما في ذلك تفعيل دور الأسرة والوالدين في بناء وعي كوادر الأمة وسلامة وجدانها، فذلك هو الطريق العملي الذي يبني بحقٍّ وعي المواطن ودوره في توجيه دور السلطات والرقابة عليها، وبالتالي يمكِّن دورَ الدينِ والقيم، من خلال وعي المواطن، وتربيته في توجيه سلطات الحكومة، فلا تتمكن هذه السلطات بتضليل الأمة من ممارسات الاستبداد والفساد والإفساد؛ الأمر الذي يحمي نظام الأمة، ويحمي في ذات الوقت حقوق الأمة ومصالحها ومواردها من الضياع والتبديد، ويوجه هذه الموارد؛ لتلبية حاجات الأمة، وتنمية مواردها، وتفجير طاقاتها الإبداعية، ويجعل من الأمة المسلمة قبل ذلك، وبعد ذلك، وصياً على الحكام، وعلى برامجهم السياسية، وليس العكس.

وهنا نلحظ أن الثبات النسبي، في نمط حياة الناس، بعد وفاة الرسول r – ولأمدٍ طويلٍ – بسبب طبيعة العصر، وإلى جانب ما فُرِض على العلماء والمفكرين من قِبَلِ الصفوة السياسية المتسلطة من وضع العزلة السياسية عن الحياة العامة للأمة، والذي تسبب بدوره في ضعف دور العلماء وأدائهم، وبالتالي ضمور دائرة العلم والمعرفة، وضمور دورهم في توعية الأمة بشأن حياتها العامة، وبشأن بناء مؤسساتها وتطويرها؛ الأمر الذي صرف العلماء والصفوة الفكرية – عملياً – إلى الالتزام الحرفي لترتيبات السنة النبويــة المشرفــة، والتي هي بالضرورة، في جملتها بشأن الترتيبات الحياتية، وبشأن الحكم وإدارة شئون سياسة الأمة، زمانية مكانية في مجملها، والتمترس خلفها وخلف قدسيتها، وخاصةً في مجال الترتيبات الشخصية، برغم ما جدَّ بعد العهد النبوي وحال قوم النبي في الجزيرة العربية، من تغيُّـرات زمانية ومكانية كبرى في حال الأمة والبشرية.

أما القرآن الكريم فقد قلَّ اهتمامهم والتزامهم واستلهامهم لـه على الرغم من أنه يتميَّـز – لأنه الرسالة الخالدة – بمفاهيمه وأبعاده اللازمانية واللامكانية، الأمر الذي يفسح المجال لمواكبة متغيرات الزمان والمكان، وإعادة النظر لتطوير الترتيبات الحياتية التطبيقية بما يحقق مقاصد الرسالة، في كلِّ عصرٍ ومِصْـرٍ، بحسب الظروف ومتغيرات الأحوال.

ومن هذا المنطلق نود أن نلفت النظر إلى آيتين كريمتين، تتعلقان بمفهوم الدعوة والتعليم الديني، بشكل خاص، والتي نعتقد أنها تتطلب إسناد أمر الدعوة والتربية والتعليم الديني إلى مؤسسة اجتماعية تربوية هامة، كان يجب على الأمة – منذ البداية – إقامتها مؤسسةً مستقلةً، وأن تكون لها جميع ضمانات الاستقلال، على قدم المساواة مع مؤسسة الدستور، ومع مؤسسة شورى الشئون السياسية والرقابة والتقنين، ومع مؤسسة القضاء، ومع أي مؤسسة أخرى من مؤسسات النظام الاجتماعي الأساسية؛ حتى تبقى مؤسسة التعليم والتربية الدينية على غرار المؤسسات الدستورية الأخرى، وعلى شاكلتهم، مؤسسةً مستقلةً تؤدي دورها البنَّاء الفعَّال، بكلِّ ما هو فعَّـالٌ وممكنٌ، بما في ذلك تفعيل مؤسسة الأسرة والوالدين في إنجاح الدعوة والتوعية والتربية والتعليم الديني والقيمي، ومقاصدها، وتوفير وسائلها وأدواتها؛ بعيداً عن آفة التشويه والتهميش، أو التوظيف والاستغلال، أياً كان نوعه، تارةً بالتهميش والعزل؛ وذلك بتحويل مفهوم الدين والدعوة والتعليم القيمي إلى مجرد شعارات فارغة جوفاء، وإقامــة الحفلات والموالد، واستصدار فتاوى الدعم والتأييد لأصحاب السلطان، ومعاركهم السياسية، وتارةً بالاستغلال والتشويه؛ وذلك بتوظيف الدين والقداسة من قِبَلِ رجال السياسة والسلطة والمصالح الخاصة؛ باستخدام قداسة الدين وسيلةً لإشاعة الخوف والرعب، وتكميم الأفواه، وإلغاء العقول؛ خدمةً للسلطة وسياساتها ومصالحهــا الخاصة.

أما الآيتان أو المفهومان القرآنيان اللتان يجب تفهُّمهما في نظام الحياة السياسية الاجتماعية الإسلامية، فهما قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران 104:3)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبـة 9 :122)، وكلمة (الأمة) هنا تعنى فئة أو جماعة أو بلغة العصر هيئة أو مؤسسة مستقلة، تختار الأمة قيادتها لتكون مؤسسة لا تراعي إلا مهمتها، والوظيفة المنوطة بها، دون سلطة ولا تأثير من أي مصالح أو اعتبارات،إلا من ثقة الأمة بها، ودعمها لها، والاقتناع بأدائها، وبرقابة منها.

كما نود أن نلفت النظر أيضاً، إلى أن هناك مفاهيم قرآنية أخرى عديدة، عدا هذين المفهومين يجب التنبه لها،وسوف تكون موضع دراسات أخرى فيما بعد إن شاء الله، وما يهمنا هنا الآن هو الإشارة من باب التمثيل إلى مفهومين آخرين في القرآن الكريم، عدا ما سبق، يتعلقان بمؤسسة اجتماعية هامة، هي الأسرة، يجب أن يكونا موضع مزيد من البحـث العلمي الاجتماعي، والاهتمام بهما؛ ليكونا أساس بناء قوانين الأسرة وتطبيقاتها المعاصرة ، وذلك في ضوء تطــور الواقـــع والإمكانـات والحاجـات والتحديـات، وأن يعـاد – على ضوئهما -النظـر في أمـر أي تطبيقـات تراثيــة ما عادت تحقـق بالشكل الأمثل أو المناسب – لتغير الظروف والحاجات والإمكانات والتحديات-مقاصد هذه المفاهيم القرآنية والغايـة منها؛ ولذلك يجب – تفعيلاً لهذه المفاهيم -تعديل الكثير من التطبيقات والترتيبات السائدة حتى اليوم في تشريعات الأسرة المسلمة؛ وذلك حتى يتم – بشكل حقيقي وفعَّـال-تحقيق هذه المفاهيم وأهدافها ومقاصدها والغايــة منها، في علاقات الأسرة والمحافظة عليها وعلى فطريتها ودفئها وأخلاقياتها المميزة.

وهذان المفهومان القرآنيان هما: “إمساك بمعروف” أو “تسريح بإحسان”، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الطلاق: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ (65: 2)، ويقول سبحانه في سورة البقرة: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ (229:2 ).

وبرغم بعض أن علماء السلف قد تنبهوا – جزئياً – إلى مفهوم تعدد الأدوار التي أداها الرسول r في حياته في العهد النبوي، وبالذات إلى دور الرسالة والتبليغ، ودور الحكم، إلا أنه لم يكن واضحاً لديهم الفرق بين دور النبي المبلغ، وبين دور الداعية والمعلم، ونظراً للظروف المتسارعة، والموروثات المتجذِّرة، والمصالح الطاغيــة، وما ألمَّ بالنظام الاجتماعي السياسي على العهد الأول – بعد وفاة الرسول r من كوارث انهيار نظام الخلافة الراشدة، وسيطرة المفاهيم القبلية على نظام الدولة، وما تبع ذلك من ثقافات البلدان والأمم التي دخلت الإسلام، وتفشي طغيان رجال السلطة، ومصالحهم ومصالح أعوانهم، ومفاسدهم إلى جانب عزل رجال مدرسة المدينة قادةً ومفكرين، وتحويلهم إلى أكاديميين مدرسيين، ومصدرٍ للأعوان الموظفين (المبرمجين)، بل وتكوين فئة ترتبط مصالحها بمصالح الفئة السياسية الحاكمة واستبدادها وفساد ممارساتها ، وبالتالي عزل مفاهيم الدين ومقاصده عن الحياة السياسية، هذا من ناحية، ولعدم تغير طبيعة العصر العمرانية والاقتصادية بشكل جذري ولأمد طويل، من ناحية أخرى، فإن ذلك كله قد أسهم في تحقيق أهداف الصفوة السياسية وأعوانها، في محدودية فكر العلماء والمفكرين، وجعلهم – في فكرهم – يميلون إلى التقليد والمحاكاة، وحصر فكرهم ودورهم في الجانب الشكلي والفردي، والاعتماد في كثيرٍ من الأمور – بسبب العجز الفكري، ومحدودية الأفق والممارسة، وتأثير المصالح الحياتية المادية، ونزولاً على ضغوط الأمر الواقع في كثير من الأمور، والممارسات، وبشكلٍ متزايدٍ – على حرفية التطبيقات التشريعية للعهد النبوي، وتوجيهاته وتعليماته التي خاطبت في جوانبها التطبيقية أحوالَ المجتمع على العهد النبوي، وأن يلتزم كثير منهم، وبشكلٍ جزئي وانتقائي، حرفية النصوص، أكثر من اعتمادهم على المفاهيم الكلية التشريعيـة القرآنية، ودلالاتها ومقاصدها، اللازمانية واللامكانية، وتطوير تطبيقاتها، تجديداً واجتهاداً، بفكر سياسي اجتماعي حيٍّ متطور، بما يلائم جوهر المتغيرات وتحدياتها وآثارها الاجتماعية، والاستفادة في ذلك من حكمة التنـزيل النبوي للمفاهيم والمقاصد بشأن أحوال قومه، وظروف عصره الزمانية والمكانية.

وعُرِفَتْ هذه الظاهرة في الفكر الإسلامي – كما هو معلوم، حقيقةً، أو تصويراً للحال، بظاهرة التقليد وقفل باب الاجتهاد وبالتالي فقد اتسم الفكر الديني الإسلامي – بالضرورة، منذ ذلك العهد، ومع استثناءاتٍ شجاعةٍ مبدعةٍ مضيئةٍ – بالجزئية، وبالانتقائية، وبالمبالغة في تصيد النصوص النبوية والتراثية، والاحتماء خلف قدسيتها، وبالتالي بتهميش دور الدين، ونجاح توظيفه سلبياً في خدمة الصفوة السياسية واستبدادها ومفاسدها ؛ لأن الاستبداد والفساد متلازمان، يغذي بعضها بعضاً، ولا يكسر هذه الدائرة الهدامة المشؤومة في حياة المجتمعات، إلا أن تستعيد الأمة وشعوبها – بجهود المفكرين والمربين والإصلاحيين الشجاعة المخلصة – رؤاها الكونية الحضارية، وتصلح من شأن مناهج فكرها، وتنتقي ثقافتها، وتحسن تربية أجيالها، وتعيد بناء أنظمتها، ومؤسساتها الاجتماعية والسياسية، وأن تعيد السلطة في النظام العام، وتوجيهه، إلى يد جمهور الأمة.

دون مبادرات المفكرين والمربين والإصلاحيين، وتوجيه الاهتمام اللازم من قِبَلِهم لإعادة بناء الرؤية الكونية الحضارية، وسلامة منهج الفكر، وتنقية الثقافة، وإصلاح أساليب التربية، وسلامة مناهج التعليم، دون ذلك فإنه لا مجال ولا أمل في استنهاض الأمة، وتنمية طاقاتها، وتفعيل إرادة الحياة والبناء والإبداع فيها.

ويهمنا هنـا أن نـشيـر إلى أن نجـاح عهد الخليفتين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وصدر عهد الخليفة عثمان رضي الله عنهم جميعاً، على الرغم من عدم فصل دور الدعوة والتربية والتعليم عن دور السلطة والحكم في هذه العهود الراشدة، هو أن هذه العهود بقيت فيها ترتيبات الحكم ورجاله وأدوارهم على ما كان عليه الحال والنظام بشكل عامٍ في العهد النبوي.

ولكن مع موت كثير ٍمن أولئك الرجال والأصحاب واستشهادهم، وضعف جلِّ من بقي منهم، وتقدم سنهم ، ومع تغير أحوال الناس والعصر بعد اتساع الدولة ، وامتداد الفتوح، ودخول شعوب كثيرة في الدولة والإسلام، فكان لابد من حدوث التغيرات والأخطاء والتجاوزات في طبيعة النظام، وفي الأشخاص والأدوار، بعد أن توفي النبي r المؤيد بالوحي، والذي كانت حكمة عهده، هو التنزيل المحكم لمفاهيم القرآن، وتحقيق مقاصده، فيكون ذلك حجة على الناس، في أن هذا القرآن وهذا الدين، هو نور وهداية لحياة البشر، وليس مدينةً مثاليةً أسطورية (يوتوبيا). وهكذا فإنه لا بدَّ أن يكون حال البشرِ – بعد وفاته r وانقضاء عهده – سواء في الإفادة من الدين، ومن مبادئه، ومن توجيهات النبي r في إدارة حكم قومه، أي إن على كلِّ إنسانٍ – بقدر طاقته – بعد وفاة النبي r التزام رؤية الدين ومبادئه وقيمه، والإفادة من حكمة النبي r في تنزيل الرؤية الإسلامية وقيمها ومبادئها، وتحقيق غاياتها ومقاصدها على أحوال قومه وعصره؛ فيأخذ من الدين  كلُّ إنسانٍ، وكلُّ شعبٍ، وكلُّ أمة، في كلِّ زمانٍ، وفي كلِّ مكانٍ، ويلتزمون بقدر الطاقة، “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”.

ما سبق يوضِّـحُ أنه ليس المقصود أن يستمر العهد النبوي، وأن تستمر ممارساته وترتيباته الحرفية بعد وفاته، إلا ما رأت الأمةُ وأولو الأمر والفكر أنه مازال مناسباً ويحقق مقاصد دينهم ومصالحهم، وأن يبدعوا ما يناسب ما يجدّ من أحوالهم، وإلا كان ذلك معناه أن العهدَ النبويَّ ورسالتَه الإسلامية، إبداعٌ إنسانيٌّ، يأخذ مداه، ويستنفد أغراضه، وينتهي، وتنتهي مهمته الحضارية بتغيـر الأحوال، وتطوير الإمكانات والحاجات والتحديات.

وهنا كان لابد – بسبب ما جدَّ من أحداثٍ وتغيراتٍ لم يتم، ولم يمكن – بسبب سرعة الأحداث، ومحدودية البيئة مادياً وحضارياً -الاستعداد المناسب لها، ومن ذلكَ عدم الفصل بين الأدوار، ولذلك كان لا بدَّ أن تظهر مع أفول جيل الأصحاب وقرب انتهاء العصر الراشد بعضُ الآثار السلبية فيما رأينا من حال الدولة والحكم بعد عهد حكم رجال دولة الرسول r الراشدة، وما دار من صراعات سياسية مؤسفةٍ انتهى بها عهد الخلافة الراشدة، وعهد جيل أصحاب رسول الله  r، وعهد دولتهم.

ومع قيام الدولة الأموية – ومنذ ذلك الوقت، وعلى مدى التاريخ الإسلامي، إلا ما ندر، وبرغم إصرار جيل المدرسيين على ضرورة الالتزام والتمسك والتمترس خلف حرفية ترتيبات العهد الإسلامي الأول؛ فقد برزت وتمكنت ممارسات العرقية  والقبلية والشعوبية، وتمكَّنَ الاستبداد والحكم العضوض، من نظام حكومات الأمة الإسلامية، وما تبع ذلك من المفاسد والمظالم، وأصبح ذلك هو القاعدة، وما عداه هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

وفي هذا الزمن الذي نعيشه اليوم، والمتباعد جذرياً، في كثيرٍ من الوجوه، عما كانت عليه أوضاع الإنسانيـة في القرون السالفـة، خاصة مع تنامي الهجمة الفكرية الغربية، بفضائياتها وعنكبوتياتها ونفوذها العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والسياسي، وتأثيرها السلبي في الأمة، وفي شبابها؛ كل ذلك يؤكد الحاجةَ  إلى مراجعات جذرية لمقولات الفكر الإسلامي المعاصر عامة، والسياسي منه خاصة، الذي نشأ وترعرع في ظلِّ تلك الانحرافات والممارسات والضغوطات، وغذى – بشكلٍ واعٍ أو غير واعٍ – تلك الممارسات، وتعايش من الناحية العملية معها؛ بحيث تكون تلك المراجعات ضمن مراجعة شاملة لكل ما يتعلق برؤية الأمة الحضارية، وبمناهجها الحياتية السالفة، وكل ما يتعلق بهذه المناهج من التشريعات التراثية، وذلك بفهم العهد النبوي ودوره ودلالته للإنسانية، وبالعودة إلى منطلق المفاهيم القرآنية، ومقاصدها، بوعي ديني علمي قِيّـميٍّ اجتماعي عمرانيّ؛ وذلك ليواكب فكرُ الأمة، وتشريعاتها، وتنظيماتها، ما جدَّ من تطوراتِ الحضارة الإنسانية وإمكاناتها وتحدياتها؛ بحيث تُحّدَّدُ – بفكرٍ اجتهاديٍّ حيٍّ مستنيرٍ – الثوابت الإسلامية، وتوضح مقاصدها، ويجدد خطابها؛ حتى لا يختلطَ الحابل بالنابلِ، والأساس بالثانوي، وحتى لا تخلط الثوابت الإسلامية بغير الثوابت، وحتى لا تبقى الخطابات والتشريعات والتنظيمات على أوضاع واهتماماتٍ وصورٍ وتعبيراتٍ لا تناسب واقع حال الأمة والعصر، وحتى تُحقق الخطابات والتشريعات والتنظيمات دائماً –في المجتمع المسلم -غاياتِ الهدايــة القرآنيـــة وطبائع الفطرة ومقاصدها على تعاقب المواقع والأزمان، واختلافها.

وفي هذا الصدد فإن من المهم أن ندرك أن مؤسسات التربية الدينية والدعوة والتبشير للأديان الإبراهيمية السالفة، التي هي المعبد والكنيسة، كان من الممكن أن يكون تأثيرها وعطاؤها مضاعفاً وأعظم فاعلية، لولا طبيعة هذه الأديان الزمانية المكانية، إضافة لما أصاب هذه الأديان لاحقًا من انحرافات وتحريفات وخرافات وكهنوتيات، والتي ما جاء الإسلام إلا ليصححها، وحتى يعيد تأهيل الدين ودوره في الهداية؛ مواكبةً لحال الإنسانية في مستقبل عصر العالمية وتحدياتها من بعد.

والإسلام باعتباره الرسالة الإلهية الخاتمة، المهيمنة، على ما سبق من الأديان، خاصةً وأن الله قد حفظ القرآن الكريم، وهو المصدر الأساس والأول لهذا الدين، كما حفظت جهود العلماء الكثير من صحيح السنة النبوية: روايةً ومتناً من داء التحريف والخرافة والشعوذة؛ كل ذلك يجعل بناء مؤسسات الدعوة  والتوعية والتربية الدينية والثقافة الإسلامية والإعلام ضمناً، المستقلة، وفصلها عن مؤسسة السلطة والحكم، ضرورةً قصوى، وعنصراً مهما في القضاء على منابع الاستبداد والفساد، الذي كان وما يزال في كثيرٍ من الوجوه سمةَ الحكم والسلطان في تاريخ الأمة السياسي؛ بذلك يمكن إنهاض الأمة وإصلاح رؤيتها وفكرها ومناهج تربية أبنائها، بعيداً عن أية مؤثرات خاصة أو سلبية، لأي فئة أو سلطة جزئية في المجتمع، كما يجب أن يكون المسجد قلب مؤسسة الدعوة، وأن تكون مناهج الدعوة  والتعليم والتربية والثقافة الدينية الاجتماعية والإعلام، من الأمور التي تختص بها مؤسسة أو مؤسسات الدعوة والتعليم العقدي ومؤسسات الإعلام وحدها، والتي تختار الأمة قياداتها ورجال الإدارة والتوجيه الديني الحضاري فيها؛ وبذلك لا يكون للسلطة التنفيذية، أو لأي فئة خاصة في الدولة أي تحكّم فيها، أو سلطة عليها؛ ولا تكون هناك رقابة على هذه المؤسسات الدعوية التربوية الدينية والاجتماعية والإعلامية العامة،  والخيرية الخاصة، ولا على وسائلها ونشاطاتها، إلا رقابة الأمة وممثليها المؤهلين المنتخبين لهذا الغرض وحده، وعند ذلك يمكن أن تصفو الرؤية، وأن يستقيم الفكر الديني الاجتماعي، ويتطور، وينمو، ويتجدَّد، وأن يسهم – إلى جانب مؤسسات الإعلام العام – في القضاء على منابع الاستبداد والفساد، وعندها يستقيم بناء مؤسسات  الحكم والحياة العامة في البلاد الإسلامية، وبذلك تصبح الأمة هي – بالفعلِ – صاحبة الأمر والتوجيه لسلطات الدولة السياسية والتنفيذية، ومنها وحدها تُستَمَدُّ المشروعية، وليس لرجال الحكم ومصالحهم وسياساتهم أي سلطةٍ في شأن الدعوة والتربية والتعليم الديني والإعلام العام، وهو غير الإعلام الخاص الصادر عن أصحاب المصالح، وعن مختلف هيئات المجتمع العامة والخاصة، ومؤسساتها.

لقد انقلب حال نظام الأمة رأسًا على عقب حين اعتبر الخطاب الديني – بشكلٍ واعٍ أو غير واعٍ – أن الأمة المسلمة هي “الذين لا يعلمـون والذيـن لا يفقهون” وأصبح رجال الحكم والسلطة وموظفوهم من أصحاب الإجازات، والاختصاصات الأكاديمية، والألقاب الرنانة الطنانة، هم “الذين يعلمون ويفقهون” وأصبحت الأمة هي الجاهل والقاصر، وأصبح الحكام وأصحاب المصالح وموظفوهم وأعوانهم وزبانيتهم، هم “الراشدون” “العالمون” والأوصياء على الأمة، وليسوا (أي أصحاب الاختصاصات الفنية الأكاديمية من العلماء الأكاديميين في الشأن الديني أو الاجتماعي) – مهما اتسع علمهم – مجرد أدواتٍ ووسائل للمشورة والتنفيذ لإبداء الرأي والمشورة، وليس لإصدار القرار السياسي الذي هو من شأن الأمة صاحبة المصلحة؛ لكي تحقق الأمة تطلعاتها الحضارية، وتحمي مصالحها السياسية الحياتية، وذلك بخلط الأوراق ودعوى جهل جمهور الأمة المسلمة وقصور إدراكهم.

وهذه الدعوى من قِبَلِ رجال السلطة وأعوانهم من جانب، وبسبب خلط الأوراق وغيمومة الأمر من بعض المخلصين من جانب آخر، هي – في الحقيقة – دعوى فاسدة؛ لأن الأمر هنا أمر سياسةٍ وقرارٍ، وهو حقُّ الأمة صاحبة القرار، وليس أمر تنفيذٍ، ولذلك بجب اتخاذ القرارات السياسية العامة بشورى الأمة؛ التي يستفاد فيها بمشورة أصحاب الاختصاص في بعض الجوانب، بحسب الأحوال، ولأن دعوى جهل الأمة وقصورها لسلب حقِّها في اتخاذ قراراتها، وتوجيه أمور حياتها، سيمكِّن للجهل والتجهيل والاستبداد، وبالتالي الفساد والإفساد في الأمة ؛ وذلك حتى تبقى الصفوة السياسية وأدواتها وأجهزتها هي الوصي العالِم المهتدي المستنير !! ولأنه إذا كان هناك جهلٌ أو قصور إدراكٍ عند جمهور الأمة، على مستوى السياسة وصنع القرار السياسي، وليس على مستوى التنفيذ الفني والأكاديمي، الذي هو من شأن السلطات التنفيذية، أو إذا كان هناك حاجة إلى مزيد في هذا الشأن السياسي من الوعي لأبناء الأمة؛ لإدراك ما يجب أن يدركوه، وأن يلتزموا بما يجب أن يلتزموا به لتحقيق مصالحهم الروحية والمادية؛ لتنزيل المبادئ والقيم والمقاصد على واقع حياتهم، فيكون علاج هذا القصور بمزيـدٍ من جهـود التربيـة والتعليم والتثقيف والإعلام، وبمزيدٍ من برامج الدعوة والتربية والتعليم والإعلام، والتوعية، وباقتناعهم، وليس بادعاء الوصاية والتجهيل ومزيـدٍ من وصايات التسلط والاستبداد؛ تمكيناً لمفاسد رجال السلطة وأصحاب المصالح وتجاوزاتهم.

وفي هذا الصدد فإن من المهم أن نذكِّر أن رجال العهد الأول لم يكونوا قد عرفوا آلاف المتون والحواشي والمختصرات الأكاديمية، وكل ما عرفوه بتلقائية، ودون تكلف أو سفسطة لتوجيه حركة مجتمعهم وسياساته، بعد وفاة الرسول r هو القرآن الكريـم وتوجيهـات الرسـول  r وترتيباته في قصد والتزام مبادئ الشورى والعدل والرحمة والإصلاح والإعمار، وتجسيدها؛ والتي هي أمهات قيم الإسلام ومبادئه ومقاصده، وما قد يعبِّـر عنه بالمعلوم بداهة من الدين بالضرورة، أما ما وراء ذلك فهو تفاصيل اختصاص ومشورة، تُقضَى بها الحاجات، وتُنَفَّـذ القرارات، ولنذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “ما ضـرَّك يا ابن الخطاب ألا تعلم ما الأبُّ” في إشارة إلى الله سبحانه وتعالى ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾ (عبس:31)، أي إن أمورَ السياسات غير أمور الأكاديميات وفنيات الفتوى، وأحكام القضاء، وتنفيذ السياسات والقرارات، وما يتطلبه ذلك من مهنيةٍ وتقنيةٍ، في أي وجه من وجوه الترتيبات الحياتية، فمثل هذه الأمور التنفيذية هي التي تستدعي التعمُّـق والتخصُّص الفني والأكاديمي.

ويوضح هذه القضية على سبيل المثال أمر السياسة الزراعية لأي بلدٍ، فلا شكَّ أن من المهم أن يكون للقيادات السياسية وقواعدها الجماهيرية إلمام بالحالة الزراعية العامة للبلد، ولطبيعتها وإمكاناتها؛ لكي يتم اتخاذ السياسات المناسبة، وأخذ مختلف الاعتبارات السياسية ضمن إطار هذه الطبيعة والإمكانات.

وهذا من الواضح يختلف عن المعرفة الفنية الزراعية في أمر أي محصولٍ من المحاصيل، وكيفية زراعته، ومواعيدها، وأنواع السماد المطلوب لها، وجميع المعلومات اللازمة لإرشاد المزارعين ليقوموا بزراعة المحاصيل التي تقرر الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لجمهور الأمة الاهتمام بها، وتشجيع زراعتها وإنتاجها وتسويقها.

وهذا المثل ينطبق على كلِّ حقلٍ من حقول الحياة، في الفرق بين السياسي والفنيّ التقنيّ، ولا مجال في هذا للاعتراض على الأمة وعلى ممثليها السياسيين في اتخاذ القرارات السياسية العامة اللازمة؛ بحجة أن جمهور الأمة ورجال السياسة ليسوا أصحاب اختصاصات فنية تقنية بالضرورة في أي مجالٍ من هذه المجالات الحياتية، ومنها التخصصات الكلامية والقانونية الفقهية.

وملحوظة أخيرة، وهي أن من المهم ألا يستمر الخلط الفكري السياسي الاجتماعي الإسلامي بشأن علاقة سلطة الحكم (السلطة التنفيذية) بالدين والدعوة والتعليم الديني الثقافي، وهل يُعَدُّ كفُّ يدِ رجال السلطةِ ومصالحهم ومصالح أعوانهم عن السيطرة على دور الدين والدعوة والتربية والتعليم والثقافة والإعلام، في الدولة والمجتمع، أمراً إيجابياً أم سلبياً؟ وهل هو في الحقيقة فصلٌ للدين والقيم عن الدولة والسياسة؟ أم هو – في جوهره -كفٌّ ليد السلطة عن تشويه الدين ومبادئه وقيمه بالإلغاء أو بالتهميش أو بالتوظيف والاستغلال؛ ومنعاً من أن يهمَّش الدين أو يوظَّفَ بشكلٍ أو بأخر لخدمة مصالح الحكم والحكام وأصحاب المصالح الخاصة.

وأهمية هذه القضية – أي فصل الدين عن تسلُّط السلطات التنفيذية – أنها قضية لم يحسن كثير من الناس حتى اليوم فهمها، واختلط فيها الأمر على جمهور الأمة، وعلى كثيرٍ من المثقفين، ولذلك فإن من المهم أن ندرك أن إبعاد شئون الدعوة والتعليم والتربية الدينية والثقافية عن متناول يد السلطة التنفيذية (رجال الحكم)، وعن برامجها الحياتية السياسية، وعن المصالح التي لا بدَّ أن توليها الأولوية، وأن تنحاز إليها، وإن هذا الكف والإبعاد والفصل ليس فصلاً للدين عن الدولة، أو عن السياسة، ولكنه إبعادٌ وفصلٌ وكفٌّ ليد رجال السلطة التنفيذية عن الإساءة إلى الدين والقيم والقداسة؛ تهميشاً، أو توظيف تشويه واستغلال؛ مدخلاً إلى الاستبداد، وبالتالي إلى الفساد والإفساد، فيكون الكفُّ هو خدمة للأمة والدولة، وحفظاً للدين والعقائد والقداسة عن الإلغاء أو التهميش أو التوظيف لخدمة استبداد السلطة ورجالها؛ تمكيناً لمصالحها ومصالح الفئات التي تنحاز إليها.

إن سلطة الحكم التنفيذية –  ببساطةٍ -” ليست هي “الدولة”، بل هي إحدى مؤسسات نظام الحكم في الدولة، وإن الأمة و”الشعب” هما الأساس والعنصر الأهم في توجيه السياسة العامة، وفي تكوين الدولة، ومن خيارهم وحدهم تُستَمد شرعيةُ الحكام.

فالأمر لمن يدرك معنى الدولة، وموقع السلطة التنفيذية فيها، يدرك أن إبعاد يد السلطة التنفيذية ورجالها ومصالحهم السياسية عن السيطرة على شئون الدين والقداسة، هو حماية للدين والقيم والقداسة عن التوظيف السلبي بأي صورةٍ من الصور، وهو ليس فصلاً للدين عن تصريف شئون الدولة وتوجيه برامجها الحياتية السياسية، بل هو تمكينٌ لأمر الدين والدعوة والتربية في نظام حكم الأمة؛ وذلك بجعل أمر تكوين كوادر الأمة، وتربية أبنائها، على الوجه الصحيح، في يد الأمة وجهور الأمة مباشرة حتى يتم تأهيل هذه الكوادر لتوجيه شئون مجتمعهم ومصالحهم الروحية والمادية ومؤسساتهم السياسية، على أساس عميقٍ ومتينٍ من هدى مفاهيم دينهم وقيمه ومقاصده، بعيداً عن مؤثرات المصالح الخاصة لأي أحدٍ، بما في ذلك – وبالدرجة الأولى – رجال السلطة والصفوة السياسية وأعوانهـا، إلا جمهور الأمة.

فالأمر هنا هو أمر إدراك مرامي القرآن الكريم، وأمر إدراك دروس التاريخ، وأمر تصحيح البناء والتنظيم على ضوء مقاصد الدين، وتجارب الأمة، وفهم طبائع البشر؛ وذلك بإسناد السلطات المتعلقة بشئون الدين والقيم والدعوة والثقافة والتربية والتعليم الديني والاجتماعي والإعلام العام إلى الأمة، بواسطة مؤسسات مستقلة تستمد سلطتها من الأمة مباشرة؛ وذلك لكي تعدَّ هذه المؤسسة أو المؤسسات، وبإخلاص وتجرُّدٍ أبناء الأمة وكوادرها، وتوعيتهم،وتوفر المعلومة الصحيحة؛ لتمكينهم من أداء أدوارهم في الحياة، وفي توجيه سياسات مجتمعهم، وفي إصلاح مؤسسات حياتهم العامة، بما في ذلكَ مؤسسة الحكم والسلطة، وفق أولوياتهم المبنية على مفاهيم الدين ومقاصده ومبادئه وقيمه السامية التي وعوها وربوا عليها، دون تشويه أو توظيف أو تهميش.

إن تعليـم الديـن والعقائــد والأخـلاق، بـرؤى وخطابــات وأساليب ومناهج منزَّهة -بكل الإخلاص وقدر الإمكان -من الشوائب والمآرب، هو أفضل السبل لخدمة الدين والعقائد والقيم في المجتمع والدولة، ولخدمة سياسات الدولة والمجتمع.

إن هذه المراجعة للفكر الإسلامي السياسي الاجتماعي المعاصر، وإعادة بناء المؤسسات، بما في ذلك مؤسسات الدعوة والتربية والتعليم والثقافة والإعلام المستقلة، هي ولا شكّ خطوة مهمة جداً لبناء قاعدة الوعي السياسي والاجتماعي الإسلامي السليم؛ لأن هذه التربية، وهذا الوعي، هما السبيل والضمان اللذان يرشدان خيارات المواطنين بشأن التشريعات والبرامج السياسية، ويوعيهم بشكل توافقي إلى تحقيق  مقاصد الدين، كل الدين، وإعلاء شأن القيم والأخلاق في المجتمع، والالتزام إيمانًا واقتناعاً بها.

وهذا يعني باختصار أن إبعاد الدين والقداسة عن متناول يـد رجال السلطة التنفيذية، وما يعتورهم كبشرٍ من الضعف والانحرافات والأطماع والنزوات، على ما نرى الآن في كثير من البلاد، منذ أن استولى السياسي على الديني، على ما رأينا في تاريخ الأمة السياسي، وحين استولى الديني على السياسي من قبل في ممارسات المسيحية الرومانية، وما سبقها من الحضارات الاستبدادية القديمة، إنما هو إبعادٌ يقصد منه حماية للدين والقداسة من الإلغاء أو التهميش والتشويه أو التوظيف والاستغلال، وفي ذلك تحقيق لمقاصد الدين والقداسة، وإعلاء لمكانتهما في الدولة والمجتمع، أي إن إبعاد الدين والقداسة عن متناول يد السلطة التنفيذية ليس فصلاً لهما عن الدولة والسياسة، بل هو قوةٌ وتمكينٌ لهما ولدورهما في الدولة، وفي سياسة المجتمع – من خلال أداء المعنيين بالأمر، وهم أبناء الأمة جميعاً – بالتوجيه السليم، للبرامج السياسية الحياتية، وفق مقاصد الدين وأولويات الأمة ومصالحها العامة؛ بتأثير ما نالوه من التوعية، ومن التربية والتعليم الديني السليم، ومن الإعلام النزيه، بواسطة المؤسسات المستقلة المخصصة فقط لهذا الغرض.

ومن المهم أن ندرك هنا أن البرامج والترتيبات التي تصدر وتكون مستندة إلى خيار الأمة واقتناعها فإن لها قوة سياسية حقيقية، ليس لسواها، وهي بذلك خيارات وسياسات مضمون نفـاذها والتزامهـا، ودعمها من قِبَلِ جمهور الأمة، على عكس البرامج والترتيبات التي تصدر عن مصالح واقتناعات وإملاءات علوية خاصة، لا تعبر عن مصالح الأمة واقتناعها وخياراتها.

الرؤية المنهجية، وعلى ضوء ما تقدم فإن من المهم أن ندرك الفرق بين قهر القداسة حين يُوظَّف الدين لخدمة المصالح الخاصة، وبين هداية الوحي ونور الهداية للأمة وشعوبها وكوادرها؛ حين يمثل الدين مبادئَ ومفاهيمَ وخلقاً ودعوةً وتربيةً.

ولحماية الأمة من سوء الفهم وانحراف المسيرة يجب تجنيب الأمة وفكر الأمة من خلط الأدوار، وخلط الخطابات، وبالتالي خلط المفاهيم.

ومن ذلك القولُ بأن “الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن” لتبرير تسلط الحكام على رقاب الناس، وإرهابهم، من خلال الخلط بين أمر العقائد والمبادئ والمفاهيم، وأمر الجرائم والتعديات في الدماء والأعراض والحقوق والأموال؛ التي هي عمل السلطة ووظيفتها الأساسية في أي دولة.

فالعقائد والمبادئ والمفاهيم والأخلاق سبيلها الدعوة والإقناع والتربية “بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن” “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” “والدين حسن الخلق”.

ولذلك؛ فإن النظر في النصوص عامةً، والسنة النبوية خاصةً، يوجب الحرص على النظر المنهجي السليم في فهمها، وإدراك مقاصدها ومراميها أولاً؛ وذلك بأخذ كل وسائل الحيطة المنهجية، بشأن ما قد يعتور النصوص غير المتواترة لفظاً ومعنى من أخطاء وخلط وسهو وغفلة وتحريف وتزوير، مع ملاحظة ظروف الزمان والمكان التي أملت قولاً أو آخر، أو فعلاً أو آخر، بما يناسب الظروف وحال المخاطب، كذلك يجب التفرقة بين الأدوار التي اختص بها رسول الله r دون سواه من الناس بكونه رسولاً مبلغاً عبر الزمان والمكان، وبكونه في ذات الوقت داعيةً معلماً مربياً لقومه، وقدوةً لهم ولمن بعدهم، وبكونه في الوقت نفسه رأسَ سلطةِ الحكم، وبانيَ مجتمعٍ ودولةٍ؛ حتى يكون قيام مجتمع إنساني في واقع حياة الناس حجةً على صلاح هذا الدين ومبادئه وقيمه لهداية الإنسان، وإمكان تحقيق هذا الدين وقيمه ومبادئه ومفاهيمه في حياة الإنسان، ولإبراز دور “الحكمة” في أساليب  تنزيل هذه القيم والمبادئ والمفاهيم في واقع الزمان والمكان؛ الأمر الذي يعني أهمية أخذ عنصر الزمان والمكان في فهم الكثير من الأفعال والمنطوقات النبوية التي هدفت إلى بناء دولة، وبناء مجتمع إنساني مدني متحضر من قبائل هي أقرب ما تكون إلى البدائية، وليس لها سابق دولٍ وأنظمةٍ ومجتمعاتٍ ذاتِ أهليةٍ حضاريةٍ؛ حيث يصبح “المسلمُ” والمواطنُ ما التزم حقوق المواطنة وواجباتها (أخَ المسلمِ) والمواطنِ “لا يظلمه ولا يسلمه، وكان الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه”.

دون هذا الوضوح المنهجي، في إدراك المفاهيم والخطابات والأدوار، لا يمكن تجنب الانحرافات والتعديات في توظيف القداسة وسوء استخدامها؛ لإضفاء المشروعية على “القهر والاستبداد والفساد” لمصلحة رجال الحكم والسلطة وأعوانهم وبطاناتهم، وبالتالي حرمان الأمة والإنسانية من “هداية الوحي”، وترشيد فطرة الإنسانية؛ لتحقيق غايات خلقها من بناء الحياة على أسس الحق والعدل والإخاء والرحمة والسلام.

والخلاصة؛ فإن هذه الرؤية المنهجية، والترتيبات الإصلاحية، تعني أن نظام الأمة والشعوب الإسلامية يصبح، على هذا الأساس، معبراً عن مفاهيم الأمة ومقاصدها الإسلامية، ويجعلها أمة حيَّةً إسلامية في دولة مدنية إسلامية، ولها حكومة مدنية ونظام مدني إسلامي.

و”الإسلامية” هنا تعني أن الدين والقيم هما محتوى فكر الأمة ووجدانها، وإطار قراراتها وخياراتها، وهذا هو الأمر الأهم.

وأن “المدنية” هنا تعني التزام الأمة وفئاتها، الترتيبات الاجتماعية الإنسانية التوافقية بين جميع فئات المجتمع، والتي تحقق مقاصد الدين وقيمه، ولا تناقضها، والتي يجتمع جمهور الأمة والوطن دستورياً عليها.

وهكذا فالأمة الإسلاميةٌ هي أمة إسلاميةٌ بهوية مواطنيها المسلمين  وتربيتهم وقيمهم ومفاهيمهم ومقاصدهم وخياراتهم وأولوياتهم، ودولتهم هي دولةٌ إسلاميةٌ لكونها مبنية على محتوى ومفاهيم ومقاصد قيمية كونية عالميةٍ إسلامية خيِّـرة، لا يرفضها -بحكم الفطرة وجوهر الأديان – المواطنون بما فيهم الأقليات من غير المسلمين، والتي يتمّ تحديدها وتشريعها على أساس نظامٍ توافقي يرعى مصالح فئات المجتمع كافةً، المسلم منها وغير المسلم، ويحمي هوياتهم، ويرعى أولوياتهم وخياراتهم ومصالحهم الأساسية، ويتوافقون جميعاً عليه في إطار دستوري مدني التنظيم، وإنساني إسلامي المحتوى.

والإنساني هنا يعني المفهوم المعبر عن القيم والحقوق الإنسانية الأخلاقية الأساسية التي يشترك في احترامها، والتي يتوافق عليها بنو الإنسان عامةً، بما فيهم المسلمون، ولا يرفضونها؛ بفطرتهم وأسس أديانهم وعقائدهم ومواريثهم الأخلاقية الاجتماعية.

والحكومة الإسلامية المبنية على هذه الأسس هي “حكومة إسلامية”، وهي في ذات الوقت “حكومة مدنية” أي تستند إلى إرادة الشعب بكل فئاته وقيمهم وخياراتهم وفي مقدمتها إرادة الفئة المسلمة في الدولة وقيمها وخياراتها وأولوياتها النابعة من هويتها وقيمها ومبادئها وتربيتها الإسلامية التي تعلي قيمَ العدل والتكافل والتعاون والإحسان والإخاء والشورى والسلام، وتلتزمها، إلا لرد عدوان المعتدين، وحماية الضعفاء المظلومين.

وفي هذا المقام، وحتى لا تختلط الأمور، وتغيم الرؤية، فإن من المهم  أن نفرق بين نظام الحكم الديمقراطي العلماني، ونظام الحكم الشورى الإسلامي.

فنظام الحكم الديمقراطي العلماني هو الصورة السياسية للنظام الغربي المادي العلماني. والذي يعبر عن نفسه في المجال الاقتصادي بالنظام الرأسمالي، وفي المجال الاجتماعي بالنظام الليبرالي، وفي المجال السياسي بالنظام الديمقراطي.

والسمة المهمة المفرِّقة للنظام السياسي الديمقراطي العلماني، عن النظام السياسي الإسلامي الشوري، هي تفرقة أساسية فلسفية، لا بد أن تعكس نفسها على بعض جوانب الترتيبات اللازمة لكل نظام، على الرغم من وجود التشابه بينهما، في بعض الوجوه والترتيبات؛ ومن ذلك على سبيل المثال التشابه في ضرورة التزام الانتخاب، أي مرجعية أغلبية الشعب، وفصل السلطات، حتى يتم التوازن بين التشريعي والتنفيذي، وحيادية القضائي؛ وبذلك لا تطغى المصالح الخاصة، ولا يكون الخصم هو الحَكَمُ.

فالنظام الديمقراطي العلماني الغربي – بسبب خرافيات الدين وكهنوتيته وسابق ممارساته في مجتمعات الغرب – هو نظامٌ سياسي يستند إلى فكرماديٍّ  يجعل الإرادة الإنسانية هي المرجع الأول والأخير في تقرير ما هو حقٌّ وصواب وخير، أي إن الحق والحقيقة في نهاية المطاف قضية ذاتية إنسانية، وأن كل فرد يقرر لذاته ما يعدُّه حقاً وصواباً، وليس لأيِّ أحدٍ أن يقرر أو يملي أي شيءٍ من ذلك لسواه.

ولأنه لا يمكن لأي فردٍ إنساني أن يعيش منفرداً بذاته، وأنه لا بد له  من التعاون مع الآخرين، فكان لا بد أن يتم التوافق بين أفراد المجتمع؛ بحيث يرتضي المجتمع نظاماً عاماً يخضع له الجميع، فكان النظام الديمقراطي (حيث تعني كلمة الديمقراطية أغلبية المواطنين) الذي يعني توافق أغلبية المجتمع أو المواطنين على الترتيبات اللازمة لتسيير شؤون المجتمع، وفق اقتناعات جمهور المجتمع الذاتية، وأن يكون ذلك هو الفيصل الذي يجب أن يخضع له الجميع، أغلبيةً وأقليةً؛ حيث تمثل الأغلبية القوة، ولكن عليها أن ترعى حقوق الأقليات الأساسية؛ لإدراك أن أي جــور على حقوق الأقليات ومصالحها الأساسية إلى حدِّ الإجحاف، سوف يؤدي إلى الرفض والعصيان وعدم استقرار المجتمع، وفي ذلك خسارة أكبر لفئات المجتمع كافة؛ أغلبيةً وأقليةً.

ومن الواضح في هذا النظام المادي (العلماني)، وفي هذه الفلسفة (المادية العلمانية)، مع تقدم الوقت، واتساع نطاق الممارسة، وتساقط موروث التقاليد، تنشأُ –  كما نشاهد اليوم -إشكالات جوهرية في هذا النظام؛ حيث يصبح مفهوم الحرية إشكاليةً تعني في النهاية الفوضى الاجتماعية والأخلاقية؛ حيث تنهار القيم والمبادئ والكوابح الأخلاقية، حيث الذاتية الحيوانية هي المرجعية؛ لتصبح النزعات والشهوات والأهواء الذاتية العاجلة، والتي بدأت تظهر أعراضها السيئة في كثيرٍ من هذه المجتمعات، وبدأت  هذه المجتمعات تدفع الثمن من آثارها السلبية على العلاقات الإنسانية الاجتماعية على الأسرة، وعلى مسئولياتها وعلاقاتها الإنسانية الحميمة، وعلى السلامة النفسية والروحية للأجيال والكوادر المستقبلية لهذه الشعوب؛ حيث لم تعد الأسـرةُ محضـنـاً أمـيـنـاً حصيناً لتربية الأجيال، وتلبية حاجاتها الروحية والنفسية والعاطفية والمادية، الأمر الذي يدفع هذه المجتمعات بشكلٍ حثيثٍ، منذ منتصف القرن الماضي، إلى حافة الفوضى والانهيار الأخلاقي والاجتماعي، على ما خلت عليه سير الأمم من قبل.

وإذا كان نظام الشورى الإسلامي، إذا تمَّ بناؤه على أسس المفاهيم القرآنية، ومقاصدها الحقيقية، فإن على المسلمين أن يلتزموا خيــار المجتمع وقرارات الأغلبية، مثله في ذلك مثل النظام الديمقراطي العلماني،  غير أنه يختلف عن النظام الديمقراطي العلماني، في أن المسلم يعدُّ الحق والحقيقة قضيةً موضوعية، وأن الرؤية الكلية الكونية هي قضية ليست في متناول المنطق البشري، وأن هذه الرؤية الكلية الكونية هي حاجة ضرورية لهداية مسيرة الإنسان، روحياً وأخلاقياً واجتماعياً وحضارياً عمرانياً؛ حتى تكون مسيرة الإنسان خيِّـرةً في الحياة، وأنه لا بد منها لسعادته واستقراره النفسي.

ولذلك؛ فإن المواطنين المسلمين، حتى يحققوا إسلامهم، ويقيموا مجتمعهم على أساس رؤيةٍ وقيمٍ إسلاميةٍ، فإن على المواطن المسلم في قراراته وخياراته أن يقبل ويقتنع ويلتزم الرؤية الكونية الإسلامية ومبادئها وقيمها ومفاهيمها ومقاصدها الروحية الأخلاقية العمرانية الخيرة.

ومن المهم بشأن الرؤية الكلية والقيم والمفاهيم الإسلامية المسبقة لدى المواطن المسلم، وفي فلسفة النظام الإسلامي، أن يكون الأمر واضحاً في أنه ليس أمرَ معمياتٍ وكهنوتيات، ولكنه أمر رؤيةٍ ومبـادئ وقيم ومفاهيم يسيرة محددة، وصريحة واضحة، وموثقة معلومة، وإنسانية خيِّـرة، لا تتعلق بها تهويمات، ولا خزعبلات، ولا كهنوتيات، فهي رؤية ومبادئ وقيم ومفاهيم نزل بها الوحي، وطبقها العهدُ النبويُّ في الواقع البشريِّ؛ ولذلك فهي تتناغم مع الفطرة الإنسانية، وتمكّن لها، وتقنع العقل، وتَقَرُّ لها النفس والروح، وتروي الوجدان؛ وهي بذلك، وبالحجة الدامغة، توفر إطاراً وثوابت ترسي النظام على قاعدة إنسانية روحية أخلاقية إعمارية خيِّـرة، يؤمن بها مَنْ يؤمن على بيِّنةٍ، له إن قبلها، واقتنع بها، ورضيتها نفسيته ووجدانه، خيارُ الإسلام ، ولمن يرفض أسسها ومقاصدها وثوابتها؛ لجهل أو موروث، فله الحرية في ذلك، ولا يكون بذلك مسلماً، لكن ليس له أن ينتقي بالتغيير والتبديل في الأسس والثوابت، أي إن لكل فردٍ أن يكون مسلماً أو لا يكون، ولكن ليس لأي أحد أن يغير أو أن يبدل في الأسس والثوابت والمقاصد؛ ليضفي على نفسه، اعتباطاً، صفةً لا يتمتع بها، ويعلن هوية لا ينتمي إليها.

وعلى هذا الأساس فإن نظام الحكم السياسي في الأمة الإسلامية في نهاية المطاف يلتزم هذه الرؤية، وتلتزمها قراراتُه وتنظيماته السياسية من خلال اقتناعات الأمة وقبولها، أي إن النظام الإسلامي (بالاصطلاح الهيلِّيني الغربي) هو نظامٌ “ديمقراطي”، أي إنه يلتزم في قراراته رأي أغلبية جمهور المواطنين، ولكنه “ديمقراطيّ” إسلاميّ شوريّ، وليس “ديمقراطياً” مادياً علمانياً، وتكون بذلك مهمة المسلمين في ترتيبات النظام السياسي الإسلامي الشوري هو التشاور في ضوء هذه الرؤية وهذه القيم والمفاهيم، بما يحقق مقاصدها في الزمان والمكان، وبالتالي يحقق ذواتهم، وبشكل توافقي بين أفراد المجتمع وفئاته، في ترتيباته الحياتية، وفق مقتضيات الحال.

ولتحقيق هذا التوافق فإن النظام يلتزم اقتناع الأغلبية في حدود الرؤية والمفاهيم  والمقاصد الإسلامية الأساسية التي تنبع من انتماءات أبناء المجتمع في الإنسانية والمواطنة والإخاء، كما يلتزم النظام مبادئ الإخاء والعدل والتعاون والتكافل والرحمة، ومن ثم يرعى هذا النظام كرامة الإنسان، والحقوق الأساسية الإنسانية للمواطنين، بكل فئاتهم، بغض النظر عن أي اعتبار في العرق أو الدين أو المكانة، وليس للنظام أن يخرج على هذه القيم، أو يتنكر لها، وتكون غاية النظام -في خاتمة المطاف -في كل ترتيباته، هو التشاور لتحقيق هذه الأهداف والمقاصد.

وبذلك، وفي ظلِّ النظام الشورى، لا يمكن لأي مسلم، حسب عقيدته وتربيته والتزامه، أن يقبل أو يقر، عن عمدٍ، بضمير مسلم سليمٍ، أن يعتدي أو يقرّ  ظلماً وعدواناً، وعلى غير وجه الحق والعدل، على حقِّ أي أحدٍ آخر، مسلماً كان أم غير مسلمٍ، ولو كان خصماً أو عدواً، لمصلحته الذاتية أو لمصلحة أي أحدٍ آخر، ولو كان أقرب قريب إليه؛ لأن من شاء أن يبرَّ أحداً فله أن يبره من خاصة ماله، وليس بظلم أي إنسانٍ آخر، أياً كان دينه أو انتماؤه.

ومن المهم أن نلحظ أنه في ظل النظام الإسلامي السياسي المدني الشوري؛ حيث يقتصر دور الأحزاب والفئات السياسية على التنافس في تقديم البرامج السياسية الحياتية، وأولوياتها في تحقيق مصالح الأمة، وعلى أساس رؤية الأمة وأولوياتها، وهنا فإنه لن توجد في الحقيقة – في هذا النظام الإسلامي الذي ليس فيه مكان لوصاية الكهنوت واستبداد الصفوة -مشكلة في التعددية، أو مشكلة في تداول السلطة؛ وذلك لأن وعي أبناء الأمة، ولعدم توافر البيئة الإيديولوجية الكهنوتية، التي تتحدث – بشكل مباشر أو غير مباشر، واعٍ أو غير واعٍ، باسم الحقيقة المطلقة، أو باسم المقدس، أو بحقِّ الوصاية؛  لتحتكر الحق والحقيقة، أو تحتكر حقَّ القرار، كل هذه المعطيات تمنع بالضرورة  قيام السلطات الاستبدادية، تحت أي مسمى أو أي ادعاء، ويجعل الأمة وحدها هي صاحبة القرار، ومصدر السلطة؛ وبذلك يكون للأمة في هذا النظام الإسلامي حكومات مدنية سياسية، وقبولها وقبول برامجها، أو رفضها، إنما يرجع إلى مدى ما تناله الأحزاب السياسية المنتخبة، وما تكوِّنه من حكومات، على قبـولٍ من الأمة، واقتناعها بها وببرامجها، ودون هذا القبول، وهذه الاقتناع، فلا سلطة ولا شرعية، ولا مجال في هذا النظام، في كلِّ الأحوال، لوصاية أو تفرد أو احتكار للسلطة.

ومن هنا فإن النظامين الديمقراطي العلماني، والشوري الإسلامي، أو بتعبير أوضح، فإن النظامين “الديمقراطي” المادي العلماني، و”الديمقراطي” الإسلامي الشوري، حيث كلمة “الديمقراطية” تعني قرار الأغلبية، وإن تشابها في بعض الوجوه، فإن بينهما فروقاً جوهرية وفلسفية عميقة؛ لما بين المجتمعين والحضارتين من فروق فلسفية عميقة، تتعارضان بتعارض مفهومي “الحق للقوة” و”القوة للحقِّ”؛ وهذه الفروق الفلسفية الأساسية  لا بد من أن تعكس نفسها في أمر الترتيبات، وفي مناهج ومكونات اتخاذ القرار ومؤسساته وترتيباته , حتى لا تنتهي الأمة الإسلامية، حين لا تعبِّـر مؤسساتها وترتيباتها عن فلسفتها وغاياتها، إلى قرارات لا تلتزمها ولا تقتنع بها، وبالتالي لا تحركها ولا تستنهض همتها ولا تلمس حوافزها ودوافع البذل والجهد والعطاء في قرارة نفوس أبنائها ووجدانهم, وحتى لا تنتهي الأمة في شكليات الخيارات والقرارات، إلى قرارات النسب الهزلية المزرية وخياراتها التي تكاد أن تصل إلى مئة بالمئة إن لم يكن أكثر!!حين تقلد -كما هو الحال البائس اليوم في كثير من البلاد العربية والإسلامية – مؤسساتُ القرار السياسي في الأمة ترتيباتِ النظام الديمقراطي العلماني وفلسفته حرفياً، دون وعي بطبيعة هذه الترتيبات ودلالاتها ومقاصدها، وبالتالي دون وعي ولا قدرة على تمثل المناسب المفيد منها، ومن ترتيباتها؛ بحيث تفيد منظومة  الرؤية والفكر والحضارة الإسلامية، وتتواءم وطبيعتها وغاياتها الفلسفية والحياتية.

وقد يكون من أثر اختلاف فلسفة النظامين “الديمقراطي” الإسلامي الشوري و”الديمقراطي” المادي العلماني أن التزام التشاور في النظام الإسلامي يؤدي في كثير من الحالات إلى ظهور ما يمكن تسميته في ترتيبات الأنظمة السياسية المعاصرة بـ “الأحزاب البرلمانية” التي تنتج عن التزام المتشاورين في النظام الإسلامي بالاقتناعات الضميرية بما هو حق ومصلحة، وليس بمواقف حزبية ثابتة ومقررة مسبقاً، وقد يؤثر هذا على مواقف الأعضاء والأغلبيات، في حالات تغير الاقتناعات نتيجة التأمل والتشاور، وبالتالي قد يؤثر ذلك في بعض الأحوال على استقرار السلطة التنفيذية، واستمرارية سياساتها، لتغير مكونات قاعدتها البرلمانية، وهذا الوضع قد يجعل “الأنظمة الرئاسية” – بصورة من الصور -أكثر ملاءمةً للنظام الشوري الإسلامي، وهو غير النظام الذي يعرف عند طلاب العلوم السياسية بـ “النظام  البرلماني”.

من هنا فإن على الأمة أن تدرك حقيقة منطلقاتها، ورؤيتها الكونية، وطبيعة منظومتها وفلسفتها الحضارية؛ وذلك حتى تبنى مؤسساتها وترتيباتها الدستورية، بالأسلوب الفعَّال الصحيح الذي يتفق مع طبيعتها ومقاصدها، وحتى تعرف كيف تستفيد الأمة من تفاعلاتها وحواراتها الحضارية المستنيرة، مع ما حققته وكشفت عنه تجارب الأمم والمنظومات الحضارية المعاصرة الأخرى، من أمر “الحقائق العلمية”، ومن “الترتيبات” الاجتماعية والحياتية الفعَّـالة؛ حتى لا تعيد الأمة الإسلامية، في كثير من الأمور، “اختراع العجلة” كما يقولون، وحتى تعرف كيف تفعِّل منظومتها الاجتماعية والحضارية بأقل جهد ممكنٍ، مستفيدةً من كلَِّ جهد خيِّـرٍ بناءٍ حققته الإنسانية في مسيرتها الحضارية، وحتى تسهم، من خلال منظومتها الحضارية الإسلامية وإبداعاتها الخيِّـرة، في ترشيد المنظومات الإنسانية الحضارية الأخرى.

لذلك فإن من المهم أن نؤكد هنا أن هذا النظام الإسلامي المدني الشوري الذي لا تطال فيه يدُ الحكومات وسلطاتها التنفيذية قداسة الدين، ويستقل فيه شئون التوعية والدعوة والتربية والتعليم والثقافة والإعلام العام؛ لتكوِّن هذه الشئون هيئةً أو هيئات مستقلة؛ حيث يعود أمرها جميعاً إلى يد الأمة وممثليها المختصين بهذا الأمر وحدهم مباشرة، وبذلك فإنه لا مجال للأحزاب والفئات السياسية في هذا النظام الإسلامي المدني؛ لأن يكون لها وصاية دينية، أو خصوصية قدسية، وليس لهذه الأحزاب والفئات إلا التنافس السياسي المحض؛ لخدمة الأمة، في برامج سياسية حياتية، تنبني على اعتبارات حياتية معقدة، وإن كانت تنطلق من فلسفة ومقاصد محددة، الأمر الذي يسمح بتعدد الرؤى والأولويات ووجهات النظر، وإن كانت جميعها تلتزم دستور الأمة، وتستمد شرعيتها من قبول الأمة ورضاها عن هذه البرامج، وعن أداء هذه الحكومات.

وهكذا مما سبق يتضح لنا – دون أدنى شكٍّ – أن نظامَ الأمة الإسلامية نظامٌ مدني شوري إسلامي؛ لأن محتواه يستند إلى إرادة الشعب، وفي الوقت نفسه فإن هوية المسلمين وقيمهم ومقاصدهم وخياراتهم وأولوياتهم تمثل الركيزة الأساسية في خياراته وأولوياته، والذي يتم تحديدها بشكل توافقي دستوري مع بقية فئات المجتمع، بما في ذلك الفئات غير المسلمة في الدولة، وهو بذلك نظام إسلامي في محتواه، ونظام مدني في ترتيباته؛ لأنه توافقيٌّ دستوري، يمثل الفئات والهويات كافةً، ويرعاها، على أساس المبادئ والقيم والتنظيمات التي ينص عليها ويحددها للجميع الدستور المدني التوافقي، والذي يستند إلى الإرادة الشعبية ومجمل رؤاها وقيمها العامة الخيِّـرة، والتي هي في جوهرها إسلامية وإنسانية، لا ترفضها الفطرة ولا مقاصد الأديان؛ حيث إرادة الأمة هي الوصي على سير أعمال الحكومة والنظام وأدائهما، وليس العكس.

وبهذا نستطيع القول إنه لا تعارض بين مدنية النظام، وإنسانية قيمه ومقاصده، وبين إسلامية الأمة، وسمو مقاصدها ومبادئها، وأنه لا تعارض بين مدنية الحكومة، وبين إسلامية الدولة وإنسانيتها.

وبهذا أيضاً؛ فإن المحصلة في نظام هذه الدولة المدنية الإسلامية الإنسانية هو كفالة حرية العقيدة، وسلامة المنطلقات، والتزام العدل، وسلامة أداء مؤسسات الدعوة والتوعية والتربية والتعليم والثقافة والإعلام في خدمة الأمة؛ بحيث تكون الوصاية للأمة على الحاكم والسلطة، ليكون الحاكم والسلطة هما المنفذ المؤتمن والحارس المخلص لمصالح الأمة والمجتمع بكافة فئاتـــه الممثلة لحقيقة خياراته.

وبمثل هذا النظام تصبح الحكومات ومؤسساتها في بلاد الأمة الإسلامية ودولها معبرة عن إرادة الشعب وخياراته، وهي وكيلة عنه وعن إرادته، وليست حكومات هجينة مدلسة مستبدة فاسدة تخدم مصالح خاصة، ولا حكومات كهنوتية مستبدة فاسدة معبرة عن الإرادة الإلهية، بأفواه موظفين من  أصحاب الإجازات والألقاب، تفرض السلطةُ، بهم، وبسطوة زبانيتها على الأمة والشعب، إرادتَها ووصايتَها خدمةً لمصالح فئات الصفوة السياسية فيها؛ لأن كلَّ هذه الحكومات هي في نهاية المطاف سلطات مستبدة،  ومراكز نفوذ تسعى لتمكين الفساد والإفساد والمصالح الخاصة، ولذلك يستحيل معها، ومع وصايتها الهجينة العلمانية أو الدينية الكهنوتية، المسفرة أو المقنعة، أمر التعدد والتداول في السلطة، على ما نرى من حال الأنظمة الهجينة العلمانية الملفقة المقلدة، والأنظمة التقليدية الكهنوتية؛ التي تستبد بشئون كثير من الأمة الإسلامية البائسة، وتبدد مواردها وثرواتها.

ومن المهم أن ندرك أنه في هذا النظام المدني الإسلامي، حيث لا شرعية للحكومات والسلطات، إلا للسلطة والشرعية المستمدة توافقياً من الأمة والشعب بكل فئاته، وأنه ليس لأي سلطة في هذا النظام وصاية على الأمة، وأنه ليس لأي حكومة أن تبقى وأن تحكم إلا بخيار الأمة والشعب ورضاهم عن برامجها وسلامة أدائها؛ لذلك لا تكون في هذا النظام شرعية، ولا تكون طاعة لأية سلطة، إلا للسلطات المستمدة من الأمة واقتناعاتها وخياراتها،  وفي حالة التعدي والانحراف، وحيث إنه لا شرعية للعنف في الصراع السياسي داخل المجتمع المسلم والدولة المسلمة-قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: “لا ما صلوا” – إلا أن ذلك لا يعني أنه ليس من حق الأمة والشعب – عند الضرورة –  إذا فشل النصح والنقد، أن تتولى الأمة وضع حدٍّ للتعدي والانحراف، بأن تسحب الأمة البساط من تحت أرجل الفئات أو السلطات المعتدية؛ باللجوء إلى المقاومة الجماعية المدنية السلمية، ومن أهم هذه الوسائل، ودون إخلال بأمن المجتمع، ممارسة التعبير والتظاهر والرفض والعصيان السلمي؛ وذلك لإحقاق الحقوق، ولمنع التعديات وتحقيق التصحيحات والإصلاحات المطلوبة، أو لاستعادة السلطة والمشروعية، “فأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” “ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”، “على المرء السمع والطاعة فيما أحبَّ أو كره، إلاَّ أن يؤمر بمعصيةٍ، فإذا أمر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة”، و”لا طاعةَ إلاَّ في معروف”.

بهذه الرؤية فإنه من الواضح أن “الأمة الإسلامية” هي رؤية وتربية ودعوة وتعليم إسلامي بالدرجة الأولى، وهي دولة ودستور وحكومة مدنية إنسانية إسلامية، أي إنها إسلامية المحتوى والهوية، ومدنية التوافق والتنظيم، ولا مجال فيها – على أساس هذه الترتيبات – للفصل بين الأمة ديناً ورؤيةً، وتربيةً ودعوةً،  وبين السياسة وتوجيه السلطات والخيارات والأولويات الاجتماعية الحياتية.

وبهذه الرؤية أيضاً يتضح أن الأمة الإسلامية، ليست أمةً أو دولة أو حكومة “ديمقراطية” مادية علمانية، الدين فيها مغيبٌ، ولا هي أمة أو دولة أو حكومة “ماركسية” ملحدة مستبدة، تحارب الدين وتهدمه، ولا هي أمة أو دولة أو حكومة “هجينة” فاسدة مستبدة، مضيعة الهوية، الدين فيها مهمشٌ يُستدعى لمواكب الأعياد والموالد وتشييع الأموات، وهي ليست دولة أو “حكومة دينية” “كهنوتية” فاسدة مستبدة، الدين فيها موظفٌ لمصلحة الخاصة، وجشعهم ومفاسدهم، بل هي أمة “إسلامية” أخلاقية قيمية الوجهة والمحتوى، وهي في ذات الوقت، دولة وحكومة مدنية “شورية” إسلامية، بالتوافق والتعاون على البر والتقوى، وهي بروحانيتها تعلي – بوعي الأمة وخياراتها وإملاءاتها – من شأن الدين وشأن القيم، وتحمي الرؤى والعقائد والحريات الإنسانية الحضارية العمرانية، وترعى مصالح الأمة وفئات الشعب، وتحمي الضعفاء، وتعمر الأرض، وتقييم العدل بين فئات الناس كافة، ولا يكون ذلك إلا إن يتنبه “الإصلاحيون” إلى أهمية “المؤسسات” في تحقيق الوعود وسلامة الأداء ، وإلا فإن الإصلاحيين أنفسهم لن يلبثوا أن يقعوا في ذات الشرك، وإن ينتهوا، هم وخلفاؤهم كبشرٍ، إلى ممارسات الاستبداد والوصاية والفساد، كما انتهى إلى ذلك مَنْ قبلهم في تاريخ الأمم.

ومن هنا فإن على المفكرين والإصلاحيين إن يبنوا برامجهم الفكرية والإصلاحية، ليس على مجرد المقاصد والأهداف السامية، ولا على مجرد رصف الآمال والوعود المعسولة، ولا على انحياز الجمهور إليهم بسبب ما يعانون من استبداد الأنظمة القائمة، ومظالمها ومفاسدها، ولكن يجب أن يبنوا برامجهم على المقاصد والأهداف السامية والوعود الصادقة التي تستند في الوقت ذاته إلى مؤسسات فعالة متكاملة تمكِّن جمهور الأمة من اتخاذ القرارات والإشراف على تنفيذها، وتمكّن الجمهور من مراقبة السلطات القائمة على أدائها ومحاسبتهم بما لا يسمح بالاستبداد، ولا بجمع السلطات في يد واحدة، أو في أيدٍ معدودة؛ لتتصرف وتستبد بلا رقيب ولا حسيب ، بعد أن تخلق أجواء من تشويه الثقافة وتجهيل الأمة وتضليلها بمناهج وأساليب ووسائل تربوية وتعليمية وإعلامية يسيرها ويسيطر عليها رجال السلطة وأتباعهم وموظفوهم الذين يأتمرون بأمرهم، ولا يأبهون في الحقيقة إلا لتحقيق مصالحهم ودوام سلطانهم وفسادهم.

وحتى لا تدور الأمة في حلقات إصلاحٍ وهمية مغلقة مفرغة، تعيش معها في دوامة لا تنتهي من سراب أحلام العزة والكرامة والإنماء والإعمار، وسراب القضاء على الاستبداد والفساد والفقر والظلم، فإن على الإصلاحيين والمفكرين والمربين، إن أرادوا حقاً تحقيق الإصلاح واستنهاض الأمة، أن يغرسوا في ضمير الأمة ولدى جمهورها النظر إلى الأفعال، لا إلى الأقوال، وأن يقيسوا الأداء بالنتائج لا بالدعاوى ، وألا يركنوا إلى مجرد معسول القول الذي لا يستند إلى مؤسسات فاعلة، والذي كثيراً ما تلجأ إليه الصفواتُ السياسيةُ الزائفةُ وأصحابُ المفاسدِ والمصالح الخاصة، وتستخدمه  كمخدرٍ لجماهير الأمم والشعوب المتخلفة التي تتميز بأنها أممٌ وشعوبٌ  تفتقر إلى الوعي والثقافة والمؤسسات العامة التي ترشّد الحكم وتراقب الأداء وتمنع التعديات.

ولو نظرنا إلى أدبيات الصفوات السياسية والثقافية في الأنظمة المستبدة، دينية كانت أو غير دينية، عبر التاريخ، فإننا نجد بينها سمة مشتركة بينها من المبالغة في معسول القول والوعود؛ لأن صفوات الأمم المتخلفة، وطبقاتها الحاكمة، تتفق جميعاً في إرسال دعاوى لا تكلُّ ولا تملُّ من الحديث المعسول، والوعود الكاذبة، عن جهودها الوهمية في الإصلاح، وإقامة مجتمع العدل  والرفاه، والقضاء على الفساد، وفي الحديث الزائف عن خطط التنمية، وإصلاح المرافق التعليمية والصحية، وتحقيق الوفرة، والقضاء على كل أسباب الفقر والمرض، وإنعاش الصناعة والتجارة، وكل ما يخطر على البال، من كل جديد تتطلع إليه النفوس.

وتذهب طغمةٌ وتأتي طغمةٌ، وتسقط حكومة وتُنَصَّب حكومة، وتذهب دولة وتأتي دولةٌ، والحديث والوعود والتخدير؛ الذي لا يستند إلى مؤسسات دستورية فاعلة متكاملة، تسمعه من أبواقها، في كل يومٍ حديثاً معاداً مكروراً، دون أن يكون لأي شيءٍ من ذلك الحديث والوعود، بالطبع، أي أثر، بل إن حال تلك الشعوب، في واقع الحال، بسبب غياب المؤسسات، يسير من سيِّءٍ إلى أسوأ.

وما لم نعرف السبب الذي يسمح، بل يدفع الأنظمة والصفوات، بغض النظر عن منطلقاتها وتوجهاتها دينية أو غير دينية ، بأن تنتهي إلى ممارسة الاستبداد وما يتبعه من ممارسات الفساد والإفساد، وتواجهه وتعالجه، فإننا لن نضع حداً لهذه الدوامَّات والحلقات المغلقة المفرغة والحلزونيات الهابطة بالأمة بسبب الاستبداد والفساد، مهما تغيرت مسميات الأنظمة وتبدلت فيها الوجوه.

ومن أهم الأسباب لهذه الظاهرة البائسة الشيطانية هو ضعف وعي الجمهور وضعف ثقافته ومعرفته بالوسائل التي تضبط سير الحكومات والأنظمة، والتي تضع حداً لظاهرة متلازمة الاستبداد والفساد.

وهذه الظاهرة، كما هو معلوم،  لا يقف في وجهها ولا يقضي على جذورها إلا قيام المؤسسات الدستورية الفاعلة المتكاملة؛ التي تنظم العمل والأداء ، وتَفْصل السلطات وتحددها، وتتولى سنَّ القوانين والأنظمة التي تحد الصلاحيات والاختصاصات والمجالات وسبل الأداء، كما تتولى المحاسبة والمراقبة، وبذلك يصعب أن يستشري الفساد في الأنظمة، ولا تجتمع معها السلطة في يدٍ أو في أيدٍ محدودةٍ تكون هي الخصم والحكم، ولا تستطيع الأهواء والنزوات والشهوات والمصالح الخاصة أن تملي السياسات، ولا تمـر التعديات دون رقيب أو حسيب.

ونقطة البدء في علاج هذه الأدواء هو وعي الأمة بأهمية المؤسسات في التشريع والتنفيذ والمحاسبة والمراقبة والتربية والتعليم والإعلام؛ لأن الأمة في نهاية المطاف – بوعيها وبمؤسساتها الإصلاحية المدنية الدينية والاجتماعية والسياسية – هي التي تضمن سلامة الأداء، وهي التي تفعِّل المؤسسات التي تسهم بدورها في بناء القاعدة الجماهيرية، وفي تفعيلها، وفي ترشيد مسيرتها؛ والتي تكفل سلامة الأداء، ولا تغفل ولا تتوانى عن كشف القصور والتعديات، والضرب على أيدي المنحرفين والمقصرين.

لذلك؛ فإن وعي الأمة ومؤسساتها، على اختلاف أنواعها؛ الأهلية والعامة، الرسمية وغير الرسمية، هو نقطة البداية، وهو الذي يجعل جمهورها كياناً منظَّماً متراصّاً متماسكاً لا يتم شيء دون علمه ودون اقتناعه ودون قراره، ولا يسمح أن يصبح الشعب، بغياب منظماته، مجردَ أفراد يعانون – برغم أنهم يعيشون في وطن واحد – في عزلةٍ وعجزٍ وتفكُّكٍ؛ كالقطيع حيث كل واحدٍ،  بسبب التجهيل والتضليل،  يعيش وحده، غير متواصل أو متعاون مع من حولـه، وهو في جهل بما يجري في الخفاء، وما يدور في الظلمة، وسط ضبابة وغمامة من التضليل والتخدير الإعلامي ؛ لذلك فإن وعي الأمة ومؤسساتها هو المنطلق والدرع الذي يحمي الأمة ومصالحها، والذي لا يسمح لأصحاب المصالح، بقدرتهم التنظيمية، أن يستغلوا شعوب الأمة، وأن يخدعوها ويضللوها؛ بسبب غياب مؤسساتها العامة والأهلية، أو بسبب ضعفها، وضعف تنظيمها، وضبابية سلطاتها ومجالاتها وصلاحياتها واستقلاليتها.

وهكذا؛ فإننا نؤكد هنا ما سبق أن أشرنا إليه سابقاً؛ وهو أن السبيل إلى تحقيق مشروع الإصلاح السياسي الإسلامي يعتمد وينطلق ويبدأ من وعي رجال الإصلاح الإسلامي ومفكريه، ومن تصميمهم المستند إلى سلامة الرؤية، وسلامة المقاصد والمفاهيم الهادفة إلى تمكين الأمة من بناء مجتمع العدل والإعمار المسلم، وذلك ببناء المؤسسات التي تحقق الكفاءة، وتسد الباب أمام ممارسات الاستبداد والفساد.

بقى هنا أمر واحد وهو أمر يحتاج من المفكرين والتربويين والإصلاحيين النظر فيه ودراسته علمياً؛ للتقرير بشأنه، في حالة كل شعب وبلد مسلم، بحسب حاله وما يناسبه اجتماعياً وسياسياً، وبما يحقق غاياته الروحية والحضارية الإسلامية، ويرشد قراراته التشريعية والسياسية.

وهذا الأمر هو تحديد السنِّ التي تؤهل المواطن للإسهام في صنع القرارات السياسية والتشريعية، واختيار القيادات، ولاسيما حقُّ التصويت والترشيح؛ بحيث يقضى على الغوغائية التي تتسم بها أنظمة الديمقراطية الغربية، والتي يستغلها أصحابُ المصالح لإفراز قيادات سيئةٍ فاسدةٍ يسهل استغلالها وتوجيهها والضغط عليها؛ لتزييف إرادة شعوبهم وأممهم، على ما نرى من حال الدول الغربية في عالم اليوم.

ومن أهم وسائل هذه الغوغائية وتزييف الإرادة الشعبية هو اعتبار دفع الضريبة المقياس الأساس لتقرير حق التصويت؛ بحيث أصبح القرار السياسي في ضوء آليات أصحاب المصالح الخاصة الإعلامية بيد هؤلاء الساسة الفاسدين وأصحاب المصالح الخاصة، من خلال أغلبية عددية في كثير من البلاد، من المراهقين وصغار السن؛ الذين لا يعون من شئون الحياة والمجتمع إلا شهواتهم المتفتحة والمتفجرة، دون قدرة على إدراك الأبعاد الروحية والاجتماعية المختلفة لهذه الممارسات، ولآثارها البعيدة المدى على المجتمع؛ ليكونوا وسيلة تجار متع الرذيلة والمصالح الخاصة؛ لإشاعة المفاسد الحيوانية، وما يؤدي ذلك إليه من التفكك الاجتماعي وإهدار القيم والأخلاق في المجتمع.

وإذا كان هذا مقبولاً في المجتمع المادي الحيواني الذي تنصرف فيه الأغلبية إلى المصالح المادية الخاصة المحلية الضيِّـقة، فإنه غير مقبول في المجتمع الإسلامي الروحي الأخلاقي.

ولذلك فإن طبيعة المنظومة الإنسانية الحضارية الإسلامية يتوجب فيها أن تحدد السن المناسب للتصويت، والمشاركة في صنع قرار الشأن السياسي العام، على أساس وعي الفرد بضرورة تحقيق المصالح بالوسائل السليمة المشروعة، وأن يراعى في ذلك مختلف جوانب الحياة الاجتماعية الأخلاقية الإسلامية، في معنى المجتمع، ومعنى الأسرة، وحماية أخلاقية الأسرة والطفولة، وحماية حقوق المرأة والطفل، ومنع المفاسد والتعديات التي تشيع الفواحش، وتفسد الأخلاق، وتهدم الأسرة، وتضعف الأواصر، وتهدم أسس المجتمع.

وحتى لا يطغى ضعف الوعي وتسلط الشهوات، وانحراف الإعلام وسيطرة المصالح المادية الضيقة في ظل الحياة الحديثة ومتطلبات إعداد الكوادر؛ بحيث يظل جُلُّ الناشئة على مقاعد الدراسة والتدريب حتى يجاوز الواحد منهم العشرين عاماً دون أن يدخل سوق العمل، ودون أن يتمكن من الزواج وإدراك مسئولياته الاجتماعية والأخلاقية، وأهمية حماية الأطراف في الأسرة والمجتمع؛ لذلك فإن المبالغة في خفض سن التصويت السياسي بحيث تعلو الأصوات اليوم، بعد خفضه من الواحد وعشرين عاماً إلى سنِّ الثامنة عشرة، فإن ذلك بالتأكيد لا يصب في خدمة مصالح المجتمع العامة بقدر ما يصب في مصلحة من يستغلون اخضرار عود المراهق والناشئ؛ لإفساده واستغلاله بإشاعة الفواحش، وترويج التجارات المدمرة، في اختيار القيادات السيئة وغير المؤهلة، واتخاذ القرارات السياسية الضارة باسم الجماهير الغضَّـة العود، عديمة الدراية والخبرة، بما يخدم، دون وعي منهم، أصحاب المصالح الخاصة، وتجار الرذائل والحروب، ومظالم الشعوب.

إن طبيعة المجتمع المسلم، وطبيعة غاياته، تحتم أن تتم رعاية الناشئ والمراهق مادياً ومعنوياً حتى ينضج ويصبح قادراً على إدراك مسئولياته الاجتماعية، وإدراك طبيعة منظومته الاجتماعية والسياسية والحضارية الأخلاقية البنَّـاءة الاستخلافية السامية، وهذا في تصوري لا يمكن في جُلِّ المجتمعات المعاصرة إلا لمن كان في العشرينات من عمر الشاب أو الشابة؛ الأمر الذي يجعل سن الخامسة والعشرين بشكل عام هو الحد الأدنى الأنسب في طبيعة منظومة الحضارة الإسلامية وغاياتها؛ كي يكون الواحد منهم مؤهلاً للتصويت في الشأن العام، ما لم يثبت علمياً في ضوء معطيات المنظومة الإسلامية وغاياتها غير ذلك، وذلك للترجيح بأنه في هذه السن – إن لم يكن المرء قد تزوج وكوَّن أسرة – يكون قد نزل إلى سوق العمل والمسئولية، وتقدير مختلف الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والسياسية للحياة الإسلامية ومسئولياتها ومتطلباتها، وإدراك ما يترتب على تصرفات الفرد في المجتمع من آثار، ويجب ألا يأتي تحديد سن التصويت والاقتراع في النظام السياسي الإسلامي، لخطورته وخطورة آثاره، مجردَ تقليدٍ للأنظمة السياسية في المنظومات المادية الحضارية الأخرى، فطبيعة تلك المنظومات غير طبيعة المنظومة الإسلامية، ومسئولياتها واهتماماتها غير طبيعة تلك المنظومات ومسئولياتها؛ ولذلك يجب أن يكون تحديد السنِّ موضعَ دراسةٍ وبحثٍ وتقييمٍ جادٍّ في المجتمع المسلم؛ للتأكد من أن القرار يؤدي إلى التأكد من الحصول على المشاركة الناضجة الواعية الرشيدة في صنع القرار السياسي والاجتماعي الإسلامي، بما يخدم الأمة والجماعة والأسرة والفرد، داخلياً وخارجياً، من منظور العدل والتراحم والتكافل بين أبناء الأمة خاصة، وأبناء الإنسانية عامة؛ فلا يسمح بالاعتداء على حقوق الضعفاء، أو أي أحدٍ سواهم من بني الإنسان، كما لا يسمح لمحاكاة غوغائية، أو تدبيرات منحرفة أن تضلل الأمة لتهدم في غفلةٍ من الأمة قواعد الأسس والأواصر الاجتماعية الأخلاقية للمجتمع.

والسؤال هو من أين تبدأ الأمة هذا المشوار الإصلاحي، ومن أين يبدأ رجال الإصلاح الإسلامي، مشوار الصحوة والإصلاح والبناء والإعمار الفعَّال، وكيف يتحقق القضاء على متلازمة الاستبداد والفساد في فكر الأمة وتاريخها.

والجواب بناء على ما سبق، ومما هو ظاهرٌ من حال أبناء الأمة، ومن تدهور بنائهم الفكري، وتشوه بنائهم النفسي والوجداني، يكون بالبدء بالعمل أولاً من قِبَلِ المفكرين والتربويين على تجلية الرؤية الإسلامية الكونية الحضارية، وإعادة بنائها في مخيلة أبناء الأمة وضميرها، حتى تكون مستمدة  من القرآن الكريم وما فصَّله، وعبَّـر عنه، وكشف عنه الغطاء، من أمر فطرة الإنسان في استخلافه في الأرض، ونفخ الروح في حيوانيته الطينية، والوسائل التي وهبها الله لـه من العقل والعلم، وما كلفه من أمانة الإرادة والخيار، وما سخَّر لـه من الطاقات والإمكانات للبناء والإعمار؛ ليحقق الإنسان ذاته وفطرتَه الخيِّـرة، بكلِّ ما سُـخِّـرَ لـه،  إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ومَنْ عليها؛ لأن الرؤية القرآنية إنما هي في الحقيقة وصفٌ وتجسيمٌ لمعنى الإنسان وإدراكه لحقيقة فطرته، ومعنى طاقاته وقدراته، والغاية من وجوده، وطبيعة دوره في هبة هذه الحياة.

وهذه الرؤية  الكلية القرآنية ليست بأي حالٍ من الأحوال تكلّـفاً أو تكليفاً أو أعباء بما ليس طبعاً أو فطرةً خيرةً في الإنسان وسنن الكون، أي إن الرؤية الإسلامية للإنسان والكون والحياة هي تحقيقٌ للذات في “عشرة الأزواج” كما هي تطلب “الشهادة في الجهاد”، وهي بذلك ترشيدٌ للحياة، وجلبٌ للسعادة في الدارين.

ويستتبع استعادةَ الرؤية الإسلامية وتجليتها وتخليصها مما أصابها من تشويه، إصلاحُ مناهج الفكر وأساليب التربية وتنقية الثقافة.

وهذه البداية في إرساء قواعد الرؤية والتوعية والإصلاح العقدي والفكري العلمي والتربوي المؤسسي المدعوم من أبناء الأمة بالتطوع والتبرعات والأوقاف والميزانيات، هي مهمة المفكرين والتربويين، وهي أيضاً مهمة فئات الإصلاحيين كافة؛ الذين عليهم دعم حركة الإصلاح العقدي الفكري التربوي، وإيصاله إلى جمهور الأمة؛ بدءاً من الأسرة، والآباء والأمهات؛ الذين هم بفطرتهم وحرصهم على مصالح أبنائهم، بمنزلة حجر الأساس في مبادرة التغيير والإصلاح، ومروراً بالمدرسة والمعلم وأئمة المساجد وخطبائها، ووسائل الإعلام والتعليم والاتصال كافة؛ لتصل الرسالة إلى جمهور الأمة بجميع فئاته وطبقاته، وتقيم قاعدة مكينة لدفع عجلة الإصلاح والتغيير المؤسساتي الشامل المتكامل في مختلف مناحي الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعمرانية.

لأنه إذا أدرك الناس وجوه التشوه والقصور، وأدركوا سبل الإصلاح، وأدركوا البدائل وأساليب تحقيقها وممارستها، وتشبَّعت بها رؤى الآباء والأمهات والمعلمين والإعلاميين، وبالتالي كوادر الأمة وعقولهم ووجدانهم، فإن التغيير والإصلاح وترشيد المسيرة يصبح أمراً لازماً ونتيجةً حتميةً و”لا يغيِّـرُ الله ما بقومٍ حتى يغيِّـروا ما بأنفسهم”، و(من شبَّ على شيءٍ شاب عليه)، و(كما تكونوا يولَّ عليكم) .

دون جهد المفكرين والتربويين والإصلاحيين وفطرة الآباء والأمهات لن تعرف الأمة وجماهيرها طريقها، ولن تستطيع أن ترشد جهودها في بناء كوادرها، لأن الاعتماد على مؤسسات الأنظمة المستبدة الفاسدة الرسمية وغير الرسمية لتحقيق الإصلاح، ولتغيير أنظمتها المستبدة الفاسدة، لا يجدي؛ لأن المؤسسات في كلِّ نظامٍ تسعى بطبيعتها إلى تثبيت الوضع القائم، وليس إلى تغييره، وإن أي تغيير تحدثه هذه المؤسسات إنما هو لتثبيت النظام والوضع القائم، وليس لتغييره، ولذلك فإن المفكرين والتربويين والإصلاحيين والآباء والأمهات هم وحدهم الفئات القادرة على البدء بتحريك مفتاح تشغيل عجلة التغيير في المجتمع، وترشيد حركة مسيرة الأمة، وإعادة بناء رؤيتها ومناهـج فكرها وتربية أبنائها، وتنقية ثقافتها، وبالتالي إعادة بناء مؤسساتها ونوعية حياتها سلمياً، ومن داخلها قبل خارجها، وذلك من خلال تغيير نوعية كوادر الأنظمة ومحتوى مؤسساتها؛ لتحقيق أهداف الأمة، واستنهاض همتها، وتنمية طاقاتها، واستعادة دورها الحضاري الخيِّـر البنَّـاء.

فمن إصلاح الرؤية والفكر، وتحرير الوجدان، وتنقية الثقافة، يكون البدء، وبصلاح الرؤية وسلامة الفكر ونقاء الثقافة وطاقة الوجدان، تنطلق المسيرة، وتصلح الحياة، وتتحقق غايات الأمة في الإخاء والمساواة والتكافل والعدل ودعـوة الخير والسلام، وفي توفير سبل الرخاء، وفي التعاون على البناء والإبداع والإعمار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر