أبحاث

قراءة (اقتصادية) جديدة للزكاة

العدد 47

إن الزكاة يجب أن تصاغ صياغة نظرية محكمة إذا أردنا لها أن تتحول من مجرد ((صدقة)) يمنحها الغني للفقير إلى جهاز ضريبي قوي قادر على استيعاب كل المتغيرات الاقتصادية وصهرها في بوتقته وتذويبها في منطقه.

وهذا الأمر يتطلب منا ((قراءة اقتصادية)) عميقة للزكاة والغوص في أعماقها لاستجلاء أسرارها الاقتصادية، وتمعن النصوص التي تخفى في تلافيفها حكماً اقتصادية كثيرة بثها فيها الشرع الحكيم.

  1. 1. الزكاة تزكية اقتصادية للمال أيضاً:

إن الزكاة تزكية للنفس تحررها من قيود التعلقات المادية إلا أنها في نفس الوقت تزكية وتنمية اقتصادية للمال أيضاً.. فهي وإن كانت تبدو للملزم بها عبء اقتصادياً ومالياً إلا أنها تعمل على تنية الرأسمال الذي استخلصت منه.. ذلك أن الجزء من الرأسمال المنفوق زكاة يعود إليه – من خلال الدفعة الجديدة التي يحدثها على الطلب – على شكل أرباح توسع من قاعدة الرأسمال كما تعود مياه البحر التي تنتزعها الشمس منه إليه على شكل أمطار تزيد من حجم مياهه في نهاية الدورة المناخية (التزكية عبر الانفاق).

والزكاة – من جهة أخرى – بمطاردتها للرأسمال المختفي داخل جحور الاكتناز – سواء كان ((اكتنازا مكشوفا)) أو ((مقنعا)) (الاستهلاك التبذيري) تضطره للخروج منها والمساهمة في الدورة الانتاجية كمورد استثماري يعمل على توسيع القاعدة الانتاجية للاقتصاد المتين الذي يرفع من حجم الدخول الموزعة وبالتالي من مستوى الطلب أي من الأرباح (التزكية عبر الانتاج).

( أ ) التزكية عبر الانتاج:

إذا اعتبرنا العمليات الاقتصادية المشروعة في اقتصاد إسلامي: الاستهلاك الضروري (حد الكفاية) والانتاج، والادخار الاحتياطي (أقل من سنة) لاحظنا أن الزكاة تلاحق فقط ما يمكن أن نطلق عليه ((الثروة العائمة)) أي الفائضة عن ((حد الكفاية)) التي تتدفق في قنوات الاستهلاك التبذيري والاكتناز والاستثمار ولا تمس الاستهلاك الضروري كما هو موضح في الجدول أدناه

   

الثــــــــــــــــــــروة

   

المدخرة[1]

(أقل من سنة)

 

المستهلكة

 

 

المستثمرة

(مع اشتراط حولان الحول على الرأسمال)

المكنوزة

(أكثر من سنة)

 

زكاة

   

حد الكفاية

 

ما فاض عنه

 

الرأسمال

 

الأرباح

 

 

 

×

   

×

 

 

×

 

×[2]
 

الثروة العائمــــــــــــــــــــــة

  1. يلاحظ في الرسم أن قناة الادخار الاحتياطي تصب في قناة استهلاك ((حد الكفاية)) إشارة إلى
  2. أن هذا الادخار يتشكل فقط بقصد مواجهة نفقات طارئة لاحقة خلال السنة.
  3. ((حد الكفاية)) هو حد أدنى اجتماعي يتغير حسب ظروف الشخص وحسب درجة النمو الاقتصادي والحضاري.
  4. ((الاستهلاك التبذيري)) (ما فاق ((حد الكفاية)) ) يعتبر ((اكتنازا مقنعا))[3]تستخلصمنه الزكاة عملياً بادماج سعر الزكاة (5,2 %) في ثمن السلع الاستهلاكية الكمالية والخدمات الكمالية التي تستهلك فوراً و(5,2%×الثمن×عمر السلعة) بالنسبة للسلع الاستهلاكية المعمّرة مع استبعاد السلع الانتاجية[4].

يلاحظ من خلال هذا الرسم أن الزكاة تمارس رقابة محكمة ليس على منبع الرأسمال ولكن على مصبه حيث تكون بمثابة ((رجل جمارك)) يقف في نهاية القنوات التي يسلكها الرأسمال ليقتطع جزءا من قيمته

إلا أن الملاحظ أن الرأسمال الذي يغامر بالدخول إلى قناة الاكتناز وقناة الاستهلاك التبذيري (ما فاض عن ((حد الكفاية)) ) يتضاءل حجمه (لاحظ انكماش حجم قناة الاكتناز والاستهلاك التبذيري) بعد استخلاص الزكاة منه على عكس الرأسمال الذي يدخل قناة الاستثمار فإن حجمه ينمو تدريجيا (لاحظ الرسم) بالأرباح التي يتمخض عنها والتي توسع من رقعته حيث لا تأكل الزكاة سوى نسبة ضئيلة من قيمته بل لا تأكل شيئا منه إذا ما قارناه بحجمه في بداية العملية الاستثمارية (لاحظ التوسع التدريجي لمجرى قناة الاستثمار).

وحقن القاعدة الانتاجية بالاستثمار يؤدي إلى توسع نسيجها ويؤدي إلى زيادة مستوى التشغيل وإلى توزيع دخول جديدة تنعش الطلب الذي يدر أرباحاً جديدة على الرأسمال.

وهكذا فالرأسمال يضطر إلى النزوح عن جحور الاكتناز بحثاً عن فرص استثمارية تدر عليه ربحاً يغطي على الأقل قيمة الزكاة إذا هو خشي أن تستنزفه الزكاة وهو قابع في جحور الاكتناز. قد يثور سؤال مشروع وهو كيف يمكننت عملياً رصد الرأسمال المكنوز الذي لم يؤد طواعية حق الزكاة، واضطراره بالتالي دخول الدورة الانتاجية؟ يمكننا جوابا على هذا السؤال التفكير – مثلاً – في خلق ((نقد ذائب)) يفقد جزءاً من قيمته (5,2%) عند حلول تاريخ معين ويمكن لأصحاب هذا النقد تعويض ذلك الذوبان – مثلاً – بإلصاق طوابع عليه حيث تحمل الورقة النقدية خانات معدة لإلصاق هذه الطوابع وسيفضل صاحب الورقة النقدية – لا محالة – التخلص منها قبل حلول تاريخ ذوبان قيمتها لتلافي شراء الطوابع التي يغذى بيعها صندوق الزكاة.

( ب ) التزكية عبر الانفاق (انفاق الزكاة):

إن الزكاة بتحويلها لجزء من دخول الأغنياء إلى الفقراء ترفع من الميل للاستهلاك وتخفض من مستوى الاكتناز.

لنر آثار إنفاق الزكاة في اقتصاد يتسم بطاقات إنتاجية غير مشغلة تشغيلاً كاملاً.

ولنفترض أن حجم الدخل القومي بقى ثابتاً وأنه وقع فقط انفاق للزكاة أي تحويل جزء من دخل المجموعة لصالح أخرى ولنفترض أن المجتمع يتشكل من مجموعتين فقط: مجموعة أ (الأغنياء) ومجموعة ب (الفقراء) واللذين يعتبر ميلهما للاستهلاك مختلفاً.

فمجموعة أ تتوفر على دخل يساوي 20000 والمجموعة ب: 10000 تقوم المجموعة أ بكنز 5000 من دخلها فيكون ميلها للاستهلاك إذن تساوي 75,0

(الاستهلاك 15000)

ــــــــــــــــ   ــــــــــــــ

(الدخل       20000)

بينما تستهلك المجموعة ب كل دخلها ولا توفر أو تكتنز منه شيئاً. فميلها المتوسط للاستهلاك يساوي إذن (1).

ولنعتبر الآن أن إنفاق الزكاة أدى إلى انتقال 5000 (خلال فترات متلاحقة فالزكاة ينهشها كل سنة لـ 5,2% من قيمة هذا الكنز تنتهي بامتصاصه كلياً) من المجموعة أ إلى المجموعة ب. ما هو تأثير هذا التحول على مستوى الطلب على السلع الاستهلاكية؟

كان الطلب الاستهلاكي الإجمالي في البداية يساوي 15000 (مجموعة أ) + 10000 (مجموعة ب) = 25000.

واعتباراً لأن ميول الاستهلاك ستتوحد (=1) بعد التحويل، حيث تصبح مجموعة أ غير متوفرة سوى على 15000 (حد الكفاية) تستهلكها كاملة، ومجموعة ب على 15000 تستهلكها هي بدورها، وإذا اعتبرنا أن دالة الاستهلاك لم تتغير وهو أمر غير مستبعد نجد:

مجموعة أ ستستهلك بعد الزكاة: 15000 × 1 = 15000

ومجموعة ب ستستهلك بعد الزكاة: 15000 × 1 = 15000

= 30000

فالاستهلاك الإجمالي إذن سيرتفع بزيادة 5000 على مستواه الأصلي وهو 25000.

ويمكن التعبير عن ذلك من خلال الرسم التوضيحي التالي:

ملحوظة : شكل يتعذر رفعه على الموقع

فالخط أ ج هـ يمثل الميل الحدى للاستهلاك (الاستهلاك ÷ الدخل) لمجموعة أ (قبل إنفاق الزكاة) والذي يساوي 1 على امتداد الخط أ ج لينتفى (= 5) على الخط ج هـ أي بعد وصول سقف 15000 من الدخل. والاستهلاك الإجمالي لمجموعة أ يمثلها مثلث أ ج ز. أما الخط أ ب فيمثل الميل الحدي للاستهلاك بالنسبة لمجموعة ب (قبل الزكاة) والذي يساوي 1. والاستهلاك الإجمالي لمجموعة ب يمثله المثلث أ ب ن.

والاستهلاك الإجمالي للمجموعتين (قبل الزكاة) يمثله مثلثا (أ ج ز) و(أ ب ن) أي 10000 + 15000= 25000. والمثلث ج د هـ يمثل الجزء المكنوز.

بعد إنفاق الزكاة نلاحظ ن أأ

أن استهلاك مجموعة ب يرتفع من أ ب ن إلى أ ج ز أي نفس حجم استهلاك المجموعة أ فالمجموعتان تستهلكان بعد توزيع الزكاة أ ج ز × 2 = 30000.

وإذا اعتبرنا – وهي فرضية معقولة – أن المجموعتين لا تستهلكان كل دخلهما وإنما توفران منه جزءا كادخار احتياطي (لمواجهة حاجات طارئة لاحقة) أو من أجل الاستثمار فإن حجم استهلاكهما سيتراجع ليصبح مساوياً لـ أ ج ز.

إن ارتفاع الطلب الاستهلاكي سيؤدي إلى ارتفاع حجم السلع الإنتاجية وسيرتفع حجم الإنتاج بدرجة تفوق حجم الطلب وستكون له آثار توزيعية إذ سيفضى إلى توزيع دخول جديدة (مبدأ المضاعف الكينيزي) أي أن آثار دفعة الطلب الإضافي نتيجة إنفاق الزكاة ستتضاعف إلى ما لا نهاية. فكل طلب سيعمل على توزيع دخول جديدة ترفع بدورها من مستوى الطلب وهكذا…

وهذه العملية التوسعية لا تصطدم في اقتصاد إسلامي بأي عائق حتى في حالة عدم إنفاق كل الدخول الإضافية ذلك أن الجزء المدخر منها ((ادخاراً احتياطياً)) يعتبرفقط ((استهلاكاً مؤجلاً)) أما الجزء المستثمر فسينفخ في الدورة الاقتصادية نفسا جديدا؛ بينما في اقتصاد غير إسلامي يتوسع كل إنفاق إضافي على شكل دوائر متموجة تضعف شيئا فشيئا إلى أن تتلاشى بسبب إفراغ الدخول الإضافية في استعمالات غير منتجة (الاكتناز الاستهلاك التبذيري)، بينما في اقتصاد إسلامي يستمر تيار الدخول متدفقاً، وإن اعتراه وَهَن (ادخار احتياطي) فهو وهن تقابله دفقة جديدة في مجرى هذا التيار.

  1. 2. قيمة أنصبة الزكاة ومعدلاتها هل هي واحدة أم متعددة؟

كيف يمكننا قياس أنصبة الزكاة خصوصاً منها نصاب النقود.. فإذا نحن اعتمدنا 595 غرام بالنسبة للفضة و 85 غرام بالنسبة للذهب كما قرره الأستاذ القرضاوي[5] أو قيمتها النقدية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وهما بالتتابع 200 درهم و 20 دينارا فإن هذه القيمة تتأرجح صعوداً وتدنياً ولا تعرف استقراراً.

هل يمكننا – للخروج من هذا المأزق – قياس قيمة نصاب النقود على باقي الأنصبة العينية الأخرى (40 شاة و5 إبل و30 بقرة و5 أوساق) اعتباراً لثبات قيمتها الحقيقية (رغم تذبذب قيمتها النقدية الاسمية؟) هذا السؤال طرحه الأستاذ القرضاوي واشترط لكي يتم ذلك أن نثبت أولاً أن أنصبة الزكاة بالنسبة لكل الأوعية الزكوية كانت متساوية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد انبرى في محاولات لإثبات ذلك حيث ساق نص الكتاب الذي كتبه أبو بكر الصديق ووجهه للبحرين ومما جاء في هذا الكتاب:

((ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده بنت لبون، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق 20 درهما أو شاتين الخ…))

واستنتج من هذا الكتاب أن 40 شاة وهي نصاب زكاة الغنم كانت تساوي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم 400 درهماً (أي 10 × 40) أي ضعف نصاب الفضة وهو 200 درهم فقط.. لماذا الضعف؟

حاول الأستاذ القرضاوي الإجابة إجابة غير مقنعة حيث اعتبر أن السبب يكمن في كون النقد السائل الجاهز والقابل للتحويل الفوري إلى مواد وسلع هو أهم من الإبل والغنم التي يجب بيعها أولاً قبل استلام قيمتها نقداً مع ما قد يكتنف عملية البيع من غبن.. ويستنتج أن نصاب الفضة يساويالقيمة المتوسطة لـ 5 إبل و40 شاة.

نعتبر أن الحديث المشار إليه أعلاه يثبت إذا نحن أمعنا النظر فيه تساوي قيمة الأنصبة العينية مع نصاب النقود وأن 400 درهم هي قيمة 5 إبل و40 شاة إذا اعتبرنا عنصر ((التكلفة)) في تحديد النصاب.

وهنا نلاحظ أن المشرع لم يسقط ((تكلفة الإنتاج)) من الأنصبة أو من الإنتاج (لاستحالة ذلك عملياً زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان من الصعب قياس قيمة التكلفة في الإنتاج الإجمالي) ولكنه أسقطها بطريقة غير مباشرة من خلال تخفيضه لسعر الزكاة (العشر مثلاً بالنسبة للحبوب والثمار التي سقيت بدون جهد ((بماء المطر)) ونصف العشر بالنسبة للتي استجلبت لها المياه)، وعندما لم يتمكن من ذلك – كما هو الأمر بالنسبة لكتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه المشار إليه أعلاه قام باعتبارها في النصاب وذلك بمضاعفته (400 درهم) لأنه كلما علا سقف النصاب كلما كان ذلك أعفى لصاحبه من الزكاة وكلما تدنى كلما جعله أكثر تعرضاً لها.

و40 شاة هي النصاب الشرعي بالنسبة للغنم السائمة التي لم تكلف صاحبها شيئا (تكلفة = 0) و400 درهما هي النصاب النقدي الخام المعتبر فيه التكلفة المقابل لـ 40 شاة سائمة على اعتبار أن 200 درهما هي نصاب النقود غير المعتبر فيها التكلفة والمعتبرة في سعر الزكاة (5,2% إذ أن كل ربح نقدي هو نتيجة عمل صاحبه مضاربة أو استثماراً مباشراً).

وبتعبير آخر إن النصاب والتكلفة والسعر (سعر الزكاة) يشكلون ((منظومة ثلاثية)) منسجمة ومتماسكة (النصاب إذا كان بتكلفة تؤخذ تكلفته بعين الاعتبار في تحديد سعر الزكاة) إذا نحن سحبنا أي عنصر من العناصر المكونة لها اختل المنطق العام للمنظومة.

والعنصر المعزول عن المنظومة (هنا النصاب) يفقد معناه ولا يسترجع عقلانيته إلا بموضعته في منظومته الثلاثية. وإذا أردنا أن نحتفظ له بالمعنى الذي يكتسبه وهو داخل منظومته في حالة عزله عنها (وهو ما حدث في كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه المومأ إليه أعلاه) وجب أن نُهَيْكِلَهُ هَيْكَلَةً جديدة تأخذ بعين الاعتبار ما فقده وهو ضمن منظومته. وهيكلة النصاب الذي نحن بصدده تمت بمضاعفة قيمته أي باعتبار التكلفة ليس على مستوى سعر الزكاة (5,2%) ولكن على مستوى النصاب (بمضاعفته) وبذلك تكون 400 درهم هي القيمة النقدية الخام لـ 40 شاة أي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يقارن بين وحدات متجانسة (شاتان سائمتان = 20 درهما ((باعتبار التكلفة فيها وليس في سعر زكاتها)) ) وليس بين وحدات غير متجانسة أي أنه كان موحداً لمسطرة قياسه. أو بتعبير أكثر وضوحاً إذا أردنا إجراء مقارنة بين الأنصبة الزكوية لتحديد مدى تساويها وجب أن نجريها بين ((المنظومات الثلاثية)) (نصاب تكلفة، سعر) للأوعية الزكوية التي نريد مقارنتها وليس بين الأنصبة الزكوية معزولة عن منظوماتها التي تنتمي إليها، وذلك على الشكل التالي:

ملحوظة : شكل يتعذر رفعه على الموقع

لكي يكون ((المنطق الأفقي)) لهذه الثلاثيات مستقيماً وجب أن يستقيم أيضاً منطقها العمودي أو بتعبير أوضح لماذا سعر 5,2% (ربع العشر) بالنسبة لزكاة النقود و(نصف العشر) بالنسبة لزكاة الحبوب والثمار على اعتبار أن لهما تكلفة واحدة (تكلفة العمل)؟ الجواب عن هذا السؤال يكمن في كون المشرع في تناوله للزكاة كان ينهج منهجاً يمكن أن ننعته بـ ((المنهج الاستدراكي)) أي أنه كان لا يعتبر الأشياء وقت حدوثها وفي حينها (إسقاط التكلفة من الإنتاج حين حصوله مثلا) ولكنه كا (يستدركها) في عمليات لاحقة (اعتبار التكلفة عند تحديد سعر الزكاة وليس في النصاب مثلا)، وكان هذا المنطق تفرضه طبيعة الظروف الاقتصادية والتقنية السائدة آنذاك والتي لم تكن تسمح بحساب التكلفة وإسقاطها فوراً من الإنتاج لصعوبة تقييمها، فاستدركها المشرع على مستوى سعر الزكاة بأن خفضه. كذلك الأمر بالنسبة للاختلاف ((الظاهري)) الموجود بين سعر زكاة النقود (5,2% ربع العشر) وسعر زكاة الحبوب والثمار (نصف العشر) على الرغم من أن لهما تكلفة واحدة. ذلك أن هذا الاختلاف ((يستدركه)) المشرع عند تحديد الوعاء الزكوي[6] فإذا كان وعاء زكاة النقود يتكون بضم الربح إلى الرأسمال عند حلول أوان أداء الزكاة فإن وعاء زكاة الحبوب والثمار (وكل الأنشطة الاستراتيجية عموماً) يتكون من الناتج فقط. أي أن الوفاء الزكوي للنقود أوسع والقدرة الاستخلاصية للزكاة أكبر. أي أن ما فقدته زكاة النقود على مستوى السعر (ربع العشر) تستدركه على مستوى الوعاء الذي يكون أوسع على خلاف زكاة الحبوب والثمار التي لا تتوفر لها هذه الإمكانية حيث أن الناتج فقط هو الذي يغذي الوعاء الزكوي غير أنها تستدرك ذلك على مستوى السعر (نصف العشر) الذي هو ضعف سعر زكاة النقود.

وهذا التحليل يحملنا على الاستنتاج بأن أسعار الزكاة هي واحدة وليست متعددة إذا اعتبرنا عنصري التكلفة وتركيبة الوعاء الزكوي.

وإذا كان هذا الاستنتاج صحيحاً فهو ينسحب أيضاً على زكاة الأنعام التي حدد لها المشرع أسعار خاصة بها لأنها تشكل ((كتلة غير قابلة للتجزئ)) على عكس المواد الأخرى التي حدد لهما سعراً ثابتاً[7].

وتجدر الإشارة، ختاماً إلى أن سعر الزكاة وإن كان نسبياً إلا أن نسبيته يمكن اعتبارها ((نسبية تصاعدية)) إن صح هذا التعبير إذ أن إعفاء ما دون النصاب من الزكاة (الدخول المتدنية) يمكن اعتباره ((تصاعدية)) غير مباشرة.


[1]مصداقاً للحديث: ((كان رسول الله يحبس نفقة أهله سنة ويجعل ما بقي مجعل مال الله)) ابن حزم. المحلى جـ 9 دار الفكر ص 64.

[2]تضم الأرباح للرأسمال ويشكلان معاً وعاء للزكاة.

[3]يدعونا إلى هذا الاستنتاج ما روى عن سعيد بن المسيب: الحلى إذا لبس وانتفع به فلا زكاة فيه وإذا لم يلبس ولم ينتفع به (انتفاعاً ضرورياً) ففيه الزكاة. الأموال: ص 443 أورده القرضاوي في فقه الزكاة ص 307 المرجع المشار إليه أعلا.

[4]يقول بن حزم: ليس في الإبل والبقر العوامل صدقة. المحلى جـ 6، دار الفكر ص 46.

[5]فقه الزكاة. المرجع المشار إليه أعلاه ص 264.

[6]أو على الأصح ((يستدرك)) اختلاف تركيبة الأوعية الزكوية عند تحديد سعر الزكاة.

[7]سعر زكاة الركاز وهو الخمس يفسر بكون الركاز مالاً مجانبا غير ناتج عن عمل سابق ولذلك كان سعر زكاته مرتفعاً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر