أبحاث

الجامع منطلقًا ومصبًا

العدد 57

 تقديم

«النور الذي ينقلك الى عالم آخر، فيما وراء هذا العالم، مشع في هذا العالم»   

غارودي: وعود الإسلام

«وهكذ يصبح هذا الفن رمزاً حقيقياً لموقف صاحبه من الله ومن العالم الذي يحيى فيه»

روم لاندو: الإسلام والعرب

يمكن أن تكون المقالات الثلاث* التى يتضمنها هذا البحث الصغير محاولة غير مباشرة، وبالمفردات الغربية نفسها، لتفنيد مقولة خاطئة طالما تشبثت بأذيال العقل الغربي المعاصر نصرانياً أم علمانياً أم مادياً ماركسياً.. تلك النظرة التي كانت تتعمد أن تفصل بين عقيدة الإسلام وبين الفن الذى أبدعته الحضارة الإسلامية، بل إنها تمضي ـ أحياناً ـ إلى ما هو أبعد بكثير: إن العقيدة الإسلامية وقد حاولت أن تقف بصلابة فى مواجهة التعبير الفني وتصده عن التحقق، إنما دفعته دفعاً لأن يتمرد عليها ويشق له طريقاً مستقلاً لا يقوم على أي ارتباط بالجذور العقيدية بقدر ماهو، ربما، فى حالة عداء أو اصطراع معها!

     ويخطر على البال ها هنا، من بين عشرات من المعطيات الخاطئة التى تؤكد هذا الإتجاه، ما قاله مؤلفا كتاب (موجز تاريخ النظريات الجمالية): م. أوفسيانيكوف. وسمير نوفا(1)، وهذا الكتاب بالذات يحمل أهميته لأنه يمثل وجهة النظر المدرسية الرسمية لعلم الجمال الماركسي, ومن ثم فهو يعكس، أو يركز بعبارة أدق، جل ما يمكن أن تطرحه الماركسية بصدد الأدب والفن الإسلاميين .

    يقول المؤلفان المذكوران «لقد أثرت الديانة الإسلامية تأثيراً واضحاً على تطور الفنون والنظريات الجمالية عند شعوب الشرق الأدنى والأوسط ولكن هذا التأثير كان جزئياً2. والمقولة تحمل منذ البدء تناقضها الواضح إذ لايمكن لديانة ما أن تمارس «تأثيراً واضحاً على تطور الفنون والنظريات الجمالية» على العديد من الشعوب، ثم يوصف هذا التأثيربأنه جزئي! والمؤلفان، كعادة الكتاب الماركسيين ذوي النزعة الرسمية التقليدية لا يمكن  إلا أن يتخيلا صراعا ثنائياً فى تاريخ الفن الإسلامي، والإسلام عموماً، بين النزعتين التقدمية والمثالية! أي بعبارة أخرى:ألعلمانية والدينية، فهما يستنتجان «بأن الأفكار الجمالية التقدمية عند العرب في القرون الوسطى، كما هو الحال أيضاً مع الفن نفسه، تطورت من خلال نضالها مع وجهة النظر المثالية ضد التحديد المفروض على مختلف أشكال الأدب والفن3». وواضح أن الرؤية الإسلامية التي يصفونها بـ «المثالية» هى مصدر هذا التحديد القسري المفروض الذي يتخيله الرجلان. وإذا كان المؤلفان يتحدثان بعد لحظات عن «أدباء العصور الوسطى» الذين أوجدوا «نظريات ذات خصائص مميزة تدل على أن مؤلفيها لم يتقيدوا، من وجهة نظرهم، بأي مفهوم ذي صفة دينية» وأن بعض منظريهم «انتقدوا بشكل علني تدخل الديانة بمسائل النقد الأدبي4»، فإن هذا ينسحب بالضرورة، ووفق المنطوق الماركسي نفسه، على سائر فنون الإسلام .

   وقد تكون المقالات الثلاث التي يتضمنها هذا الكتاب، استجابة مقارنة بشكل أو بآخر، بين الملامح الأساسية للفن الإسلامي المتجذر في العقيدة، وبين ما حاول أن يقوله «مهندس القرن الذي يعتبر أعظم مصمم فى مجال فنون العمارة وتخطيط المدن أنجبه القرن العشرون»

لوكوربوزييه، المهندس المعمارى الذي توفى قبل حوالي ربع القرن (1965 م) والذي طالما كان يردد «علينا باستبدال العادى والفاسد والتافه بما أدعوه بالمباهج الأساسية» .

  ولكن … قد يتسائل المرء.. ما العلاقة بين لوكوربوزييه وبين الفن الإسلامي وهو  لم يتحدث عنه أو يشر إليه من قريب أو بعيد؟وبعبارة أدق: ما العلاقة بين «مهندس القرن» وبين مقالات تستهدف تأكيد العلاقة بين الفن والعقيدة؟

   ويمكن أن يتركز الجواب فيما كاد أن يجمع عليه المعماريون المعاصرون الذين تحدثوا عن لوكوربوزييه.. باختصار فإن الرجل عرف كيف يجرد الأشياء ويحيلها إلى أبعادها الثلاثة… وفى كافة أعماله الفنية جسد هذا المهندس الفذ مقدرة إستثنائية  في استيعاب القديم فى العمارة العالمية وترجمتها إلى رؤية تجريدية خارقة.

     إذن فإن لوكوربوزييه، مهندس قرننا هذا وأعظم مصمم معماري أنجبه هذا القرن، إنما يتفوق فى النقطة نفسها التي تمثل مركز الثقل فى فنون الإسلام: تحويل المنظور والمباشر إلى «رؤى تجريدية خارقة»!

   هذا ما سيتأكد من خلال متابعة وتحليل المعطيات الغربية نفسها حول الفن الإسلامي..

   فقبل أربعة عشر قرناً عبّر الإسلام عن واحدة من قدراته الخلاّقة على التغيير والتبديل، في دائرة الفن، كما هو الحال فى دوائر الأنشطة الإنسانية كافة. 

       وبعد رحلة إكتشاف طويلة موغلة فى عالم الإبداع، يغدو فى القمة رجل ما أراد أن يقول أو يفعل فى نهاية الأمر سوى ما قاله الإسلام ونفذّه فنانوه ومعماريوه!

      معنى هذا أيضاً أن الإستنتاج (الرسمي!) للمؤلفين الماركسيين اللذين مررنا بهما قبل لحظات.. يتهافت، ليس فقط لأن فنون الإسلام لا تنفصل بحال عن العقيدة التي صاغتها، والبيئة الإسلامية التي تخلّقت فى رحمها.. بل، وهذا هو ألمهم، لأن العقيدة نفسها، بانقلابها على سائر الجاهليات والوثنيات، منحت الفن منظوراً توحيدياً أصيلاً كان فى نهاية الأمر بمثابة كسب كبير لمفاهيم التجريد التي جعلت من معماري لوكوربوزييه يوصف بما وصف به..     

    حقاً لقد قدر الفن الإسلامي على أن «يستبدل العادي والفاسد والتافه» بما دعاه لوكوربوزييه (المباهج الأساسية)، وبنظرة سريعة على معطيات الإسلام المعمارية فى مشارق الأرض ومغاربها.. بتذكر للمهرجانات الفنية المبدعة.. لجوامع بخارى وسمرقند ودلهى وأصفهان وبغداد وإسطنبول ودمشق والقاهرة وفاس وقرطبة وغرناطة وإشبيلية.. للمدن الإسلامية نفسها التي وضعت حجارتها الأساسية باسم الله، بدءاً من أعماق تركستان وانتهاءاً بالحمراء فى الأندلس، مروراً بحافات الصحراء حيث أقيمت المدن الأولى بمواجهة تحديات الإمتداد والفناء: البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان.. بهذا وذاك يمكن أن يتبين للمرء ما صنعه الإسلام في ساحة الفن، كما هو الحال فى ساحات الحياة كلها.. إعادة البهجة: التي طردتها الأديان.. تأكيد الارتباط الصميم بالأرض.. بالعالم  الذي أريد له أن يكون إسلامياً، حيث تتعاشق بإلفة ومحبة قيم الآخرة والدنيا.. وتنسجم وتتناغم كافة الثنائيات.. وحيث تصير الحياة الفانية فرصة متألّقة للخلود.. لا بالنفي والقهر والحزن والألم والقطيعة.. ولكن بالفرح والاختيار، والاقتراب أكثر من أرضيةالعالم.. جعلها أعمق بهجة وأشدّ توحدّاً وائتماناً.

        وإلى الله وحده نتوجه بالأعمال .

«إن الجامع الذي تكون حجارته نفسها تصلىّ إنما هو مركز إشعاع لجميع فعاليات الأمة الإسلامية. هو نقطة الالتقاء لجميع فنونها»            

                  غارودي: وعود الإسلام

( 1 )

   إن عبارة غارودي المعروفة من أن «كل الفنون فى البلاد الإسلامية تؤدى إلى المسجد، والمسجد إلى الصلاة!»5 تغري بالوقوف قليلاً للتحدث عن موقع المسجد على خارطة الفن الإسلامي وعن العلاقة التأثيرية المتبادلة بين المسجد وبين هذا الفن، حتى إذا ما اتضح للمتتبع قوة هذه العلاقة  وتبينت المساحة الواسعة التي يشغلها المسجد على الخارطة، امتلك القناعة التي دفعت مفكراً كغارودي إلى مقولته تلك التى لايمكن أن تكون – بحال – ضرباً من الإنشاء على غير هدى الوقائع والمعطيات.

   وغارودي نفسه يعود فى كتابه المعروف (وعود الإسلام)6 لكي يؤكد المقولة نفسها ويزيدها إيضاحاً: «أن الجامع – الذي تكاد حجارته نفسها تصلي – يقول الرجل – إنما هو مركز إشعاع لجميع فعاليات الأمة الاسلامية، هو نقطة الالتقاء لجميع فنونهم»7.

        المسجد إذن هو المنطلق والمصب.. وما دمنا قد بدأنا المسألة من خلال المنظور الغربي فلنواصل الطريق بالمنظور نفسه لتأكيد هذه (الموضوعة) التي طرحها غارودي.

      فإذا تجاوزنا روم لاندو الذي عرضنا لرؤيته فى صفحات سابقة فإننا سنجد أنفسنا إزاء عدد آخر من المفكرين الغربيين الذين لامسوا الموضوع وقالوا كلمتهم فيه .

( 2 )

       جورج مارسيه تجذبه هذه العلاقة الحميمة بين المعمار الإسلامي وبين العقيدة التي صاغته.. فهو ليس فناً علمانياً يشق مجراه الخاص بعيداً عن الرؤية العقيدية.. إنه نتاجها الصرف.. وبصماتها مطبوعة فى تكوينه وسطوحه ومنحنياته.. وهي – بعد – ليست عقيدة، العقائد إنما هي تلك العقيدة التي تملك قدرتها المذهلة على التوغل فى صميم الحياة.. النفاذ إلى جزئيات الممارسة اليومية.. التعاشق مع كل فعل أو نشاط.. إنها في قلب التشكل والصيرورة، بل إنها هى التشكل والصيرورة بعد إذ يتقبلها المسلم ويقتنع بصدقها.

       فإذا كان ذلك كذلك فإن الممارسة الفنية ستكون هي الأخرى بمثابة فرصة عقيدية للتعبير الرؤيوى عن الكون والحياة والعالم والإنسان «وعلى أية حال – يقول مارسيه – يكاد لايوجد فى البلاد الإسلامية منشآت عامة أو خاصة لاتحمل طابع الدين. فلقد تغلغل الإسلام في الحياة البيئية كما دخل حياة المجتمع وصاغت الطبائع التي نشرها شكل البيوت والنفوس»8 .

      والعبارة الأخيرة ترسم بذكاء وبكلمات قلائل، واحدة من أشدّ المعطيات الإسلامية ثقلاً وحضوراً.. حقاً إن  (الطبائع) التي أعاد الإسلام صياغتها على ضوء رؤيته المتميزة، أو بهذه الرؤية بتعبير أدق، قامت بدورها بإعادة تشكيل الحياة وفق هذه الرؤية.. ليست النفوس فقط هي التي تتغيّر ولكن صيغ الحياة المعاشة وأنماطها  وأشكالها، تتغير بالضرورة عندما تكون العقيدة فاعلة مؤثرة  إلى هذا الحد!

     أكثر من هذا، إن الإسلام وقد حرّم عبادة الأصنام بشكل قاطع، وسدّ الطريق على أية ممارسة فنيّة تقود إلى حافات الصنمية، فإن هذا التحريم ما لبث أن تحول إلى طاقة فنية إبداعية فعّالة متساوقة مع التصوّر الجديد «هذا المنع الذى احتفظ – كما يقول مارسيه – بكل قوته فى تزيينات العمارة الدينية ولوازم العبادة وأثًر على تطور الفن الإسلامى بأسره».9

      ويعود مارسيه لكى يؤكد مرة أخرى على هذا التوغل العقيدى فى نسيج الحياة الجديدة وتفاصيلها.. أما في دائرة الفن فإن بصمات العقيدة ستمتد لكي تطبع حتى تلك الفنون التي يسميها الغربيون – خطأ – «بالدينوية» أن ليس ثمة ما هو دنيوي وأخروى فى معطيات أمة تنتمي لهذا الدين، «وهكذا فإن الإسلام وضع طابعه على إطار الحياة اليومية، وحتى عندما يكون الفن مطبقاً فى أمور دنيوية فإن فن البلاد الإسلامية يبقى فنّاً مسلماً»10 .

( 3 )

     وبقدر ما يتعلق الأمر ـ إذن ـ بالفن عامة، وبالفن المعماري بصفة خاصة، فإننا نجد أنفسنا ثانية إزاء مقولة غارودى آنفة الذكر حيث «كل الفنون تؤدي إلى المسجد والمسجد إلى الصلاة» وحيث «تكاد حجارة الجامع نفسها تصلي». وتلك صورة مرسومة أيضاً بكلمات قلائل لكنها تحرّك وتحكي وتقول الكثير.. ففى صلاة الحجارة التي ترتفع بها المساجد وتقوم المآذن والقباب والأعمدة والمحاريب، تأكيد للفكرة ذاتها.. هذا التعاشق الموغل المتشعب العميق بين العقيدة والممارسة.. بين التصوّر والفن.. بين مطالب الروح العليا وقدرات المادة على التشكل والاستجابة.. فماذا يقال إذن عن عقيدة مؤثرة قدرت حتى على تطويع الحجارة وجعلها تقول..  تنحني.. وتصلّى؟!

     من أجل ذلك، يقول جاك ديلر، وهو يرى ويسمع إيقاع العقيدة في المعمار، وهو الإيقاع نفسه الذي يرى ويسمع فى كل ركن وحنية من أركان الحياة الإسلامية الحقّة وحنيّاتها «في المسجد ينبض قلب الإسلام… وفي أرجائه يحس المرء إحساساً حيّاً أنه بحضرة الله. الحق أنه لاشئ فى المسجد إلا البساطة والجمال والتجانس» (11).

       وهكذا نرجع كرة أخرى إلى غارودي الذي يمدّ ـ من خلال معايشته للفن الإسلامي وليس دراسته من بعيد ـ نطاق هذا الإيقاع  المتصادى العميق المتبادل بين الإسلام وفنونه كافة «لا مندوحة لى ـ يقول ـ من أن أشهد  بتجربتي الشخصية: ذلك اننى انطلاقاً من تأمل  فنون الإسلام  ومساجده إنما شرعت أفهم العقيدة الإسلامية بتأكيدها الجذري على التعالي…»12

       تلك إذن واحدة من أشد قيم الإسلام ثقلا وأهمية وحضوراً: التعالى .. إنها رحلة الصعود للمسلم الفرد، وللأمة الإسلامية إلى الأعالي عبر محطّات الإسلام والإيمان والتقوى والإحسان.. هنالك حيث يقف الإنسان قبالة الله …

   إنها حركة الخروج بالناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، كما عبّر الأجداد انفسهم وهم يصعّدون فى المراقى …

   هاهنا، فى الفن الذى يعبّر عن هذا التوق للصعود.. في المسجد الذي ترتفع حجارته  وأعمدته وخطوطه ومآذنه، مشيرة إلى فوق.. آخذه بأيدي المؤمنين إلى ماهو أعلى وأرحب من ضيق  الأرض وثقلتها وكثافتها .. هاهنا يمكن القول مع غارودي، ومن زاوية مغايرة… بأنه إذا كانت كل الفنون تؤدي إلى المسجد والمسجد إلى الصلاة، فإن الصلوات هي التي تبني المساجد وتشكلها.. وهذه بدورها تصبّ فى بحر الفن الإسلامي فتزيده غنى وعطاء.. إنها حركة متبادلة، مادام ان المسألة فى نهاية الأمر وبدئه:مطلب كبير تطرحه العقيدة، واستجابة فذّة للفنان الذي صنعته هذه العقيدة.. وغارودي يستمدّ تحليله من (لقطته)المزدوجة التي عرفت كيف تنتقل بالكاميرا من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين ! 

                                                              ( 4 )

    بمرور الأيام: وانسياح الإسلام فى الزمن والمكان.. هل ثمة تغيير أو تبدّل ما طرأ على الفكرة فى جوهرها الأساسي؟ بعبارة أخرى هل بقى المسجد، كتعبير فني مرتبطاً بالتصوّر العقيدي الذى صاغه وشكلّه أول مرة، متوحداً فى إيقاعه وخيوط هذا التصور ونسيجه رغم متغيرات الزمن والمكان؟

   فيليب حتى يجيب على السؤال مغنياً بإجابته هذه، العلاقة الحميمة، مؤكداً ما سبق وأن قاله غارودى ولاندو ومارسيه وريسلر «ففيما كان بناء المساجد ينتشر شرقاً حتى بلغ الصين وغرباً حتى وصل الأندلس، كان نمط البناء يتأثر بعناصر محلية من غير أن تتبدل خطته الأساسية تبدلاً يذكر. وبما كان المسجد مكاناً للعبادة فإن بنائه عموماً ظل معبراً عن الإسلام تعبيراً عظيماً.  وأما فى أثناء تطوره في التاريخ فإنه كان صورة مصغرة لتطور الثقافة الإسلامية: تلك الثقافة التي كان المسجد تعبيراً صحيحاً عنها ـ فيما يتعلق بالأمم المختلفة ـ إذ هو يمثل بصورة ملموسة ذلك التفاعل بين الإسلام وبين جيرانه»13 .

        فهي إذن حضارة الوحدة والتنوع كما يسميها فون غروبناوم في الكتاب الذي أشرف على تحريره والذي أسهم فيه عدد كبير من المستشرقين ومؤرخي الفن.

     إنما تكمن كلمة السرّ في أصالة الإسلام وديناماكيته… هذا الذي ينطوي دائماً على مقوماته الأبدية التي لا تخضع لرياح التشريق والتغريب  ولا تنحني لمتغيرات الزمن والمكان.. ولكنه في الوقت نفسه ينفتح بأقصى مدى على معطيات الأمم والجماعات والشعوب فيأخذ منها ما يراه ملائماً، قديراً على التوحد مع الأصول نفسها .. ويمنح هذه الجماعات الفرصة لكي تعبّر عن ذواتها المتغايرة ولكن فى دائرة الإسلام ومن خلاله.. وحينذاك يكون هذا التقابل الفذ بين الخاص والعام، وتكون ثقافة الإسلام، بل حضارته عموماً، حضارة الوحدة والتنوع .. وهكذا أيضاً تباين تشكيل المساجد ما بين بخارى وإشبيلية، مروراً بأصبهان وبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان.. لكنها ظلت فيما وراء هذا التباين، ذى التأثيرات المحلية والخصوصيات، تحمل إيقاعها الواحد.. تطلّعها للسماء.. ونزوعها للأعالي..

     وهكذا فإن «المؤمن ذا الاتجاه الروحى ـ يقول حتّى ـ  لايقلقه ذلك التطور» الذى شهده المسجد، لأن التعبير المعماري النهائي هو التعبير، فالمسلم «ما يكاد يدخل الصحن الذي ينكشف للسماء والذي تحيط به الأروقة، حتى يجد فى نفسه ميلاً شديداً إلى الانعتاق من البيئة المادية التي حوله، ثم نزوعاً في الوقت نفسه إلى السموّ نحو الملأ الأعلى. وهذه المئذنة الطويلة الشيقة أشبه بالأصبع التى تنتصب مشيرة إلى السماء. وأما فى جوف المسجد فإن القبة المتلألئة بالمصابيح تبدو وكأنها صورة منقولة عن قبة السماء. وكذلك المحراب المزخرف بالأشكال والأغصان والمزين بالآيات الكريمة، فإنه يوجه القلب إلى مصدر الهدى والإيمان. والأعمدة التى تتوالى في صفوف لاتكاد العين أن ترى آخرها توحي بأنها لا تتناهى. وهؤلاء المصلّون حولك (معاً أو فرادى فى كل مكان من المسجد) يولدون في النفس شعوراً بمشاركة في أخوة تسع العالم كله»(14) .

     ليست التوق للعلا فحسب، ولكنه الامتداد صوب اللانهاية.. الانتشار في الآفاق كذلك.. فهي إذن الحركة الثنائية التي جاء بها هذا الدين لكي يحمل بها الإنسان إلى فوق وإلى الآفاق.. إلى السماء وإلى العالم.. وتلك هي الوظيفة الفنية الصعبة التي اجتاز المسجد التعبير عنها بنجاح!

( 5 )

   أما بروفينسال  فإنه يلمح خصائص أخرى وهو يعاين المسجد فى بلاد الأندلس . إن (الموحدين) الذين يسميهم (البناة العظام) خلفوا فى إشبيلية (الجيرالدا) أو (البرج الذهبى) «وكل آثارهم ضخمة توحى بالجلال، شيدت على نحو رائع ومتناسق. إنها عبوس، عارية من الزخرف، تتأفف من عبارات المديح لأي أمير ولا تقبل إلا برقم مناسبة تمتد عرضانياً على شكل أفاريز قرآنية»(15) .

      وما كان للمسجد أبداً أن نتقبل حجارته، وهي تقام لله، مديحاً وتعظيماً لهذا السلطان أو الملك  أو الأمير أو ذاك، إنها تعلو على المديح لحكام يجيئون، وآخرين يذهبون، فلا دوام إلا لله الذي أقيمت المساجد له وحده وأمر بناتها ألاّ يدعو معه أحدا..

     إنها باحة التعبد لله الواحد، وتنفيذ أمره، ورفع الحاجة إليه وحده، وهي من ثم مفتوحة إلى المدى، بالمفهوم المادي والمفهوم الروحي على السواء.. فليس ثمة في المسجد شيئ يصدّ المسلم عن الذهاب مباشرة إلى الله..

   إن هذا المعنى  بالذات هو ما يشد انتباه عدد من الغربيين الذين يجدون بين المسجد وبين الأبنية التعبدية للأديان الأخرى فارقاً كبيراً. فالتكييف المعماري بين هذين النمطين من المؤسسات يقود كل منهما لأداء وظيفة تختلف عن الأخرى في الروح، والأداء، والهدف الأخير «إن الجامع يستجيب بطبيعة بنيته نفسها لوظيفته، فهو لا يشبه الكنيسة المسيحية، ولا المعبد اليوناني، إذ إنه ليس مثوى يحتوي على رفات القديسين (فالكعبة هي مكعب من الحجر لا يحتوى على شيئ)، وهو ليس إطاراً من الزخرف لاحتفال ديني. وعلى عكس المعبد اليوناني  أو البازيليك المسيحية، فإن الجامع يمتد عرضانياً لكي يتيح لأكبر عدد ممكن من المؤمنين الصلاة بمواجهة القبلة والمحراب» (16) .

     فهو إذن التجرد المطلق لله وحده والإنفساح العملي لاستيعاب حشود المصلين، ومنح الفرصة للعقل والقلب والروح كي تمارس مهمتها دون أن تصدها عوائق مادية وبشرية، وتسرقها بهارج ومراسم وأصوات تجيئ من خارج الذات المتأملة، المستغرقة لا من الأعماق.

      ولنستمع إلى هذا الشاب الدانماركي الذي أسلم أخيراً وتسمى بـ علي يول وهو يقول: «عندما وقفت فى المساجد الرائعة في اسطنبول، دمشق، القاهرة، القدس، الجزائر، طنجة وفاس، وغيرها من المدن أحسست بشعور قوى بمدى الرفعة التي يحققها الإسلام للبشر دون الاستعانة  بأي زخارف أو صور أو تماثيل أو موسيقى أو مراسم أو تراتيل أو وساطات. فالمسجد عبارة عن مكان التأمل الهادئ وإنكار الذات أمام الحقيقة الأولى وهي الله الواحد.. والمسلم لا يقبل وساطة أي إنسان بينه وبين ربه مهما كان ذلك الإنسان»(17) .

      لكن ما من أحد كالباحثة الألمانية المعاصرة زيغريد هونكه صاحبة كتاب (شمس الله تسطع على الغرب) وقفت عند هذه المسألة فأطالت الوقوف. إنها تبدأ بواحدة من المقولات الحاسمة وهي «أن المسجد لم يكن تقليداً للكنيسة بالمرة، حتى ولو ارتفعت سقوفه فوق عمد كانت يوماً تحمل سقف كنيسة»(18) . وبهذا تقطع الطريق على أحد الشبهات التى لفّقها عدد من دارسي الفن الغربيين (وهذه مسألة سنعود إليها بعد قليل).

   والسبب جليّ واضح لا يحتمل لجاجةً أو مداورة أو إنكاراً.. إن «مفهوم المسجد يختلف عند المسلمين تمام الاختلاف منذ البداية عن مفهوم المسيحيين للكنيسة. فليس المسجد بيت الله المقدس الذي يتقرّب فيه المؤمن من الله عن طريق وساطة الكاهن. فمن قبيل التبرك  أصبح بناء الكنيسة يرمز حرفياً، وليس معنوياً، إلى مملكة السماء التى يحكمها المسيح (عليه السلام) وإلى البيت المقدس الذي هبط من السماء إلى الأرض. وظلت الكنيسة تحمل هذا المعنى على مر العصور.. أما المسجد فقد تحرّر من تلك الأفكار، فكان هدفه بسيطاً واقعياً. فالعالم كله مسجد كبير بنيَ لله.. ولم يفرض عليه الإسلام ضرورة الصلاة فى مسجد أو معبد. وعبادته ليست مرتبطة بوجود كاهن مبارك يمثل دور الوسيط بينه وبين ربه. فكل إنسان في نظره عبد لله قادر على أن يؤم المصلين فى المسجد.. فالجامع هو الذي يجمع المسلمين. وهو ليس بالمكان الخاص الذي يرتفع ببركاته وقدسيته كالكنيسة، على بقية منازل الناس ومساكنهم.. والصلاة للجميع على قدم المساواة.. والكل سواسية كأسنان المشط. وقد كان هذا الأساس الديموقراطي للإسلام هو الذي جعل المساجد تتسع ولا ترتفع  لتضمّ مزيداً من الأروقة للمؤمنين المتساويين فى الحقوق والواجبات…»(19) .

فالمسجد إذن بمواصفاته هذه ل يمك أن يكون تقليدياً أو امتداداً لأي بناء ديني تعبدي سابق عليه، وهذا التميز يرد تلك الشبهة التي تمتد بجذورها إلى البدايات، حتى «لقد قيل – مثلاً – بأن محمداً صلى الله عليه وسلم حين بنى مسجد المدينة بناه على شكل كنيس اليهود»20، لكن المؤرخ البريطاني المعاصر مونتغمرى وات يرد الشبهة، كما فعلت هونكة الألمانية من قبله فيقول «لدينا أسباب وجيهة تدعو للشك في أن يكون (المسجد) تقليداً لأي بناء ديني»21.

إنه «الطابع الخاص» الذي يقول غوستاف لوبون إن العرب المسلمين «طبعوه على فن العمارة وسائر الفنون والذي يبدو في آثارهم أول وهلة»22.

ليس هذا فحسب، بل إن المسجد، بتميزه هذا، مارس تأثيره على العمارة الغربية بدءاً بالأندلس وانتهاءً بأوربا الغربية كلها.. ان معماريي المسلمين، يقول بروفنسال، إنما هم «دليل رائع خالد على مر العصور، على قوة أثر الغرب الإسلامي في أسبانيا العصور الوسطى، وعلى مركز الصدارة الذي عرفت الثقافة الأندلسية كيف تحافظ عليه»23. وأنه «لولا مسجد قرطبة لما شيدت كاتدرائية (بوى) بالذات في قلب فرنسا على النحو الذي شيدت به»24 ولقد سبق وأن مرت بنا تلك الاقتباسات العديدة التي استعارها الغربيون عن المسجد والتي أشار إليها روم لاندو بإسهاب25

وتلك هي واحدة من سنن الحضارة ونواميسها: فالأمة التي تتميز لا تكسب إعجاب وتقدير الأمم الأخرى فحسب، بل إنها لتؤثر فيهم وتدفعهم دفعاً إلى الاقتباس منها والأخذ عنها.

ولقد كان المسجد واحدة من نقاط التميز الروحي والتألق الثقافي على السواء في حضارة عرفت كيف ترفع شعارها الخاص وتتحقق به (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة)26.

هـوامــــــــــــــش

1)    تعريب باسم السقّا، الطبعة الثانية، دار الفارابي، بيروت – 1979.

2)    المرجع السابق ص 63.

3)    نفسه ص 63.

4)    نفسه ص 63 – 64.

5)    في سبيل حوار الحضارات ص7 (ترجمة د. عادل العوّا، ط2، منشورات عويدات، بيروت – 1982).

6)    (ترجمة ذوقان قرقوط، الوطن العربي، القاهرة – بيروت – 1984).

7)    وعود الإسلام ص 145.

8)    الفن الإسلامي ص15 (ترجمة د. عفيفي بهنسي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق – 1968).

9)    المرجع السابق ص 16 – 17.

10)                      نفسه ص 16 – 17.

11)                      الحضارة الغربية ص 36 0ترجمة غنيم عبدون، الدار المصرية، القاهرة – بدون تاريخ).

12)                      في سبيل حوار الحضارات ص7.

13)                      الإسلام منهج حياة ص 306 – 307 (تعريب د. عمرو فروخ، دار العلم للملايين، بيروت – 1972).

14)                      المرجع السابق ص 306 – 308.

15)                      حضارة العرب في الأندلس ص 24 (ترجمة ذوقان قرقوط، دار مكتبة الحياة، بيروت – بمون تاريخ).

16)                      وعود الإسلام ص 145.

17)                      عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا 4/128 (دار القلم، الكويت – 1973 – 1983).

18)                      شمس العرب تسطع على الغرب، أثر الحضارة العربية في أوروبا (في الأصل: شمس الله تسطع على الغرب) ص477 (ترجمة فاروق بيضون وكمال الدوسوقي، المكتب التجاري، بيروت – 1964).

19)                      المرجع السابق ص 477 – 479.

20)                      مونتغمرى وأن: محمد في المدينة ص304 (تعريب شعبان بركات، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت – بدون تاريخ).

21)                      المرجع السابق ص 304.

22)                      حضارة العرب ص 606 (ترجمة عائل زعيتر، ط3، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة – 1956).

23)                      حضارة العرب في الأندلس ص24.

24)                      كلود كاهن: تاريخ العرب والشعوب الإسلامية 1/404 – 406 (ترجمة د. بدر الدين القاسم، دار الحقيقة، بيروت – 1972).

25)                      أنظر الإسلام والعرب ص 325 – 326 (ترجمة منير البعلبكي، ط2 دار العلم للملايين، بيروت – 1977).

26)                      سورة البقرة، الآية 138.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر