أبحاث

المناط المقاصدي والعلوم الإنسانية

العدد 118

تقـديــم :

 خـدمــة التقـارب بين العلـوم الشـرعيـة والعلـوم الإنســانيـة, والعمـل في ســياقـه يقتضــي منــا دفــع أطـروحتــين إحـداهمــا : التعــارض المفتعــل بـين الديـن والعلـم, والثـانيـة وليدة الأولى ومفـادهــا أن الحكــم الشــرعـي في الاســـتفادة مـن العلـوم الإنســانيـة هو التحـريـم.

الأطـروحـة الأولى بـأدلـــة نقليــة وأخـرى عقليـة, فالنقليـة جمـاعهـا الاسـتقراء التـام لآيـات القـرآن الكـريـم الداعيــة إلى الاعتبــار والتفكـر في الأنفس والآفـاق واتبـاع أولي العـلم.

والأدلـــة العقليـــة مفـادهـا أن الديـن في نصـوصــه لم يـدع أبـدًا أنـه جــاء ليحـل محـل العـلوم وينـازعهـا في تخصصـاتهـا, فالقـرآن الكـريـم كتـاب هـدايـة وتكليف, ومـا جـاء فيه مـن إشـــارات كليــة لقضــايـا علـوميـة كـان لخـدمـة المقصـد السـابق أي الهـدايـة والتكليف, وعنـدمــا دعـا العقل إلى النظــر حـدد له مجـاله في الممـكن من قضـايـا الكون المحسـوس.

والذيـن اسـتندوا إلى ابـن رشــد لدعــم أطـروحـة الفصـل والنـزاع بين علـوم الشـرع والفلسفــة قـد مـارســوا نـوعـاً من التوهــم مفـاده أن ابن رشـد في كتـابـه «فصـل المقـال في بيـان مـا بيـن الشــريعـة والحكمــة من اتصــال» قـد دعــا إلى فصــل الديـن عن العلـم, وحقيقـة الأمـر تخـالف مـا قـالوا, ذلك أن الذي يقـرأ أعمــال ابن رشــد بنظــرة شمـوليــة دون إســقاطـات المـدارس المعــاصـرة يجـد أن أبــا الوليــد قـد انتصـر لنظـرة التكـامب والوصـل بـدل نظـرة الصـراع والفصـل على المسـتوى النظـري وعلى المستـوى العلمي, فعلى المستـوى النظـري ألّف في العلـوم الشـرعيـة والعلـوم الإنســانيـة والكـونيـة على السـواء وعلى المســتوى العلمـي جمع بين الفيلســوف والطبيب والقـاضـي والفقيــه المفتي دفعــة واحـدة, ممثـلا بذلــك نمـوذج التكــامل والتعـاضـد بين العلـوم, وكـأنه يجســد مقـولـة الغزالي : « خيـر العلـوم ما اصطحب فيهـا العقل والشــرع » وقـد ختـم فصل مقـالـه بما انتهـى إليـه بالبرهـان مـن أن «الحكمـة هي صـاحبـة الشـريعـة, والأخت الرضيعـة … وهمـا المصطحبتـان بالطبع, المتحـابتـان بالجـوهـر والغريزة »(2).

أمــا الأطـروحــو الثـانيـة المتمثلــة في أن الاستفــادة من العلـوم الإنســانيـة آئلــة إلى التحـريــم فمـردهــا إلى رد فعــل غــير متـزن تجــاه طـريقــة عرض العـلوم الإنســانيـة في العـالم الإســلامـي حيث تقـدم في قـالب مضــاد للقطعيــات الدينيــة ممــا يوهـم أن الاشتغـال بهـذه العـلوم يلزمـه الانســلاخ عن دينـه كليـة بالرغـم من أن القـارئ المتفحص لنشــأة هـذه العلــوم وتطـورهـا يلحــظ أن الديـن المتهـم بالمضــادة لهـا هو الديـن المسيحـي في طبعته الكنســية ذلك أنه دعــا في مـرحلـة طـويلــة من تاريخـه إلى محـاربـة هذه العـلوم والحكــم عليهــا بالضلال.

ولـرد أطـروحـة التحـريـم والتضـاد يلزم التـذكــير بــأن الاعتبــار في الأنفس والأمم والمجتمعــات ــ التي هـي مـواضيـع للعلـوم الإنســانيـة ــ ورد الأمــر بــه في كثـير من نصـوص الشــرع فـإن لم يحتمـل الوجـوب فــأقل مــا يحتمــل النـدب, فلا مـدخــل للتحـريـم هنــا إذن, وإن اســتدل المخالفـون ببعـض نتـائج ومضـامين العلـوم الإنســانيـة للحكـم بالتحـريـم فاستدلالهـم ليس في محلـه لأن تضمـن أي علــم لمــا قـد يظهـر أنــه مخــالف للشــرع ليس حجـــة في حظـر الاشتغـال بـه لأنـه يـلزم منه تحـريـم جميع العـلوم والمعـارف والفنـون بمـا فيهـا اللغـة لتضمنهـا في بعض استعمالاتهـا لمـا يظهـر مخـالفـا للشـرع وهـذا لا يقـول به أحـد.

وإذا ثبت أنــه لا فصــل بين العـلوم والشــريعــة, وأنــه لا تحــريـم في الاشتغـال بالعلـون الإنســانية, فقـد تمهـد الأمــر لبحث جـوانب التواصـل والتقـارب بين الطـرفيـن, وفي هـذا المقـال ســوف نتنـاول أهـم مظهـر من مظـاهـر التعـاون والتـواصـل بين العـلوم الشـرعيـة والعلـوم الإنسـانيـة, ونمـوذجنـا في ذلك علم المقــاصـد, وبــالأخص في مـا يتعلق بـالتنويط المقـاصـدي حيث يلتقى الفقيــه المجتهـد بالخبيـر مـن أهـل العلـون الإنســانيـة, فالنظــر في المنـاط أحـد أركـان الاجتهـاد التنـزيلي, فبــه يلتحـم الفقــه بالواقـع الإنســاني معـالجًا له, ولأجـل ذلك أصبح لازمًـا على من رام هـذا الاجتهـاد الانفتــاح على علمــاء الظـاهـرة الإنســانيـة بكـل أبعـادهـا نفسيـة كـانت أو اجتمـاعيـة أو مـآليــة .. ولأهميـة هـذا المـوضـوع فإننا نؤكـد بدايـة على أنه لا يسعـه هـذا المقـال وإنمــا هو مشــروع كبيـر ينبغي لجميع المختصين الانخـراط فيــه من أجـل مصلحـة عظيمــة للأمـة كـامنـة في إحيــاء فقهها وتجـديـده.

وفي هـذا الصـدد ســوف نثـير بعـض الأمـور الممهـدة لهـذا المشـروع لعلهـا تكـون فاتحـة لجهـود كثـير من أهـل العـلم لمـراكمـة الأعمــال العلميــة حتـى يكتمـل التواصـل المتوخـى, وقـد حــاولت تقريب بعض قضـايـا المقــاصـد للفهـم وذلك بتعـريف التنزيط المقــاصـدي وتحـديـد مستـوياته, ولمـا كـانت الواقعـة الإنســانيـة هي المحـل المشترك بين علـم المقــاصـد والعلـوم الإنســانيـة تطـرقت لبعـض مظاهـر حـاجــة المجتهـد المقـاصـدي لمعـرفـة العلوم الإنســانيـة اتوقف كثــير من أبعــاد المنـاط المقـاصـدي عليهـا, وختمت بإثــارة بعض الإشــكالات المعترضـــة للتواصــل الممكن بـين علــم المقـاصـد والعلـوم الإنســانيـة والمتمثلــة في إشــكـاليـات : المنهج والنسبية وشـخصية المشتغـل بالعـلوم الإنســانيـة ,, كـل هذه الأمـور حــاولت تنـاولهـا عــبر المبـاحث التاليـة :

المبحث الأول : مفهــوم التنويــط المقـاصـدي ومستوياته.

المبحث الثـــاني : حـاجــة التنويــط المقـاصـدي إلى العلـوم الإنســانيـة.

المبحث الثالث : إشـكاليـات التواصـل بين علـم المقـاصـد والعلـوم الإنســانيـة.

المبحث الأول : مفهــوم التنويـط المقـاصـدي ومسـتوياته

المطلب الأول : مفهــوم التنـويـط المقـاصـدي

1 ــ مفهـوم المنـاط المقـاصـدي :

ــ من حيث اللغـة : من «نـاط الشــيء ينوطـه نوطًـا : علّقُـه, والنـوط ما عُلّـق»(3). وانتـاط بـه : تعلـق, والأنـواط المعـاليق(4). ونيَّـاط كـل شــيء : مُعَلَّقــه كنيــاط القـوس والقـربـة(5). ونيط به الشـيء : وصـل به(6). والمنـاط اسـم مـوضـع التعليق(7).

ــ ومن حيث الاصطلاح : تراوح لفـظ المنـاط بين إطلاقيـن : أحـدهمـا للمقــاصـديين المؤسســين وهـو خــاص إذ حصـروه في العلــة الجـزئيــة قـال الإمــام الغـزالي (ت 505هــ) : « أ علــم أنـا نعنـي بالعلــة في الشــرعيـات منـاط الحكـم, أي مــا أضـاف الشـرع الحكــم إليـه وناطـه به ونصبـه عـلامـة عليــة »(8), ومعلــوم شــدة ارتبــاط هـذا الإطـلاق بالاجتهـاد القيـاسـي.

والإطلاق الثــاني للمنـاط واســع يشمــل كـل ما يتوقف عليــه إلحـاق الحكـم بالواقعــة ســواء كـانت المصــالح الكليـة أي العلل الكليـة أو الجـزئيـة أو الأسبــاب والشـروط وانتقـاء المـوانع وكـل ما يصح تعلق الحكــم التكليفي به.

ــ ففـي معنــى المصــالح الكليــة, فقـد اســـتدل إمــام الحـرمـين الجـويـني (ت 478هــ) على جـواز تعليـل الحكـم بعلل كثـيرة بعمــل الصحــابـة رضـى الله عنهــم بـأنهـم «كــانوا يرســلون الأحكــام ويعلقــونهـا في مجـالس الاشــتوار بالمصـالح الكليــة»(9)أي أن المصـالح الكليــة هي مناطــات هـذه الأحكــام, فتقـرر أن «التعليـل بالعلـة العـامـة أولى من الخـاصـة لكثـرة فروعهـا »(10).

وعلـى هـذا أصبـح معيــار الحـذق في تطبيق الأحكــام هو إلحاقهــا بالمناطـات الكليــة فقـد قــال الإمــام القـرافي ( ت 684 هــ) : « وتخـريج الأحكــام على القـوعـد اأصـوليـة الكليـة أولى من إضـافتهـا إلى المناسـبات الجـزئيـة, وهو أدب فحـول العلمـاء دون ضعفـة الفقهـاء »(11).

ــ وفي معنــى الأســباب والشــروط وانتقـاء الموانـع:

فقـد تنبــه العلامــة القـرافي لهـذه المســألة وخـلص إلى أن الأدلــة قسمــان : « أدلـة مشــروعيـة الأحكــام وهي ســبعـة عشــر بالاسـتقرار : الكتـاب والسنـة …

وأدلــة وقـوعهــا وهي غــير متنـاهيــة, لأنهــا وقـوع أسـبابهــا وشــروطهـا وانتقـاء مـوانعهـــا»(12)فــاحكــم كــي يفضـي إلى الإيقــاع لابـد من دليـل للمشــروعيـة ومن دليـل للوقـوع, فيـوشــك هـذا التقســيم أن يكـون مشــابهــا لمــا قرره الشــاطبي في الاعتصــام من «أن كــل مســألة تفتقـر إلى نظـريـن : نظـر في دليـل الحـكــم, ونظـر في مناطه»(13).

فالمنـــاط بهـذا المعنـى هـو ذلـك المحل الـذي توفـرت فيــه أســباب وشــروط وانتفت عنـه مـوانع تطبيق الحكــم وأصبح صالحـا لأن ينـاط به الحكـم التكليفـي.

وعلـى أي فهــذا الإطــلاق الثــاني الواســع مستنتج من تقــارير العلمـاء, وقـد اتضـح كثـيرا من تقسيـم الشـاطبي للاجتهـاد حيث أرجح الاجتهـاد في أدلـة المشـروعيـة إلى تخـريـج المنــاط وتنقيحــه وأرجـع الاجتهـاد في أدلــة الوقـوع إلى تحقيق المنــاط, وكـأن مفهـوم المنـاط عنـده تجـاوز العلــة الجـزئيـة المشــار إليهــا في الإطـلاق الأول. وهـذا مــا ســيتعضـد بمـواضـع في المـوافقـات والاعتصـام وخـاصـه في تقسيمـه للمنــاط إلى منــاط الأنــواع ومنــا الأشــخـاص والمنـاط الخـاص, وذكــر في سيـاق الاسـتدلال على مشــروعيـة تحقيقه « أن الشــريعـة لم تنص على حكــم على جـزئيـة على حـدتهـا, وإنمـا أتت بأمـور كليـه وعبــارات مطلقــة تتنــاول أعــدادًا لا تنحصــر »(14)وعليــه فهـذه الأمــور الكليــة تحتــاج لتنزيلهــا على المعينــات إلى نظـر واجتهـاد, فســائر التكليفــات والأحكــام الشـرعيـة لم تتنزل على أفعـال المكلفين إلا في الـــذهـن لـو فــــرض ارتفــاع هـذا الاجتهـاد(15).

فالواضـح من هـذا أن المنـاط لم يعـد تلك العلـة الجـزئيـة المنصـوص عليهـا أو المستنبطـة التى نيـط بهـا الحكـم وإنمــا أصبح جميـع مـا قررته الشــريعـة من مصـالح كليـة وأسـباب وشــروط .. ممـا يتوقف عليـه تنـزيل الحكـم التكليفي على وقــائع المكلفين, فــإن أي فعل تكليفي لــه أركــان وشــروط ومـوانع ولواحق ومــآلات وحِكَــم ومقـاصـد شُــرَّع من أجلهــا يجب أن تراعى(16).

فـإذ تقـرر هـذا فالمنـاط المقـاصـدي أوسـع من المنـاط القيـاسـي والتحقيق أو النظــر في المنــاط المقــاصـدى هو ذلك الاجتهـاد التــنزيلي التطبيقـي الـذي بمـوجبــه تعــم أحكــام الشــريعـة وقـائع المكلفين.

أو بعبــارة أوضـح إن النظــر في المنـاط المقــاصـدي هـو النظـر في أدلــة وقـوع الأحكــام ولواحقهــا في ضــوء المقـاصـد الكليـة.

2 ــ مفهـوم التنويـط المقـاصـدي:

التنـويط في اللغـــة علـى وزن التفعيـل وهـو التعليق والإثقــال .. ومنــه «هـذا منـوط بــه معلـق وبــالقـوم دخيـل فيهـم أو دعى»(17)ومنـه «نوط القـربـة تنـويطــا أثقـلهـا ليـدهنهـا»(18).

أمــا في الاصطـلاح فقـد سبق أن المنـاط هو متعلــق الحكـم, وبنــاء عليــه فــالتنـويط على وزت تفعيل هو عمليــة تعليق الحكـم بمنــاط معين أي البحث في المحـل الواقعي لينــزل الحكــم خــادمًــا لمقصـده, وهــذا مـا أطلق عليــه المقــاصـديون : «الاجتهــاد في تحقيق المنــاط» وقـد تداولــوه بمعنيين تبعـاً لإطلاقي المنـاط :

أحـدهمــا : للأوائـل ومفــاده أن تحقيق المنـاط هو «النظــر في معـرفـة وجـود العلة في آحــاد الصـور, بعـد معـرفتهـا في نفسهـا, وسـواء كـانت معـروفـة بنص أو إجمــاع أو اسـتنباط»(19).

وهـذا واضـح من حيث اتجـاهـه إلى تحقـيق العلـل الجـزئيـــة الـتي إن عـرفت وعلمـت بنص أو إجمـاع أو استنبـاط فيبقي العمـل من أجـل معـرفـة تحققهـا في الفـرع, ومن أمثلتهـم على هـذا الإطـلاق : « جهــة القبلة فـإنهــا منـاط وجـوب استقبالهـا, وهي معـروفـة بـإيمــاء النص وهـو قـولــه تعــالى : }وَحَيْـثُ مَـــا كُنْتُــمْ فَـوَلُّـوا وُجُوهَكُــمْ شَـــطْـرَه {(البقـرة : 149), وكـون هـذه الجهــة هي جهــة القبلـة في حـالـة الاشتبـاه, فمظنــون بالاجتهــاد والنظــر في الأمـارات »(20).

وكـذلك العـدالــة معلــومـة بالإجمــاع بـأنهــا منـاط وجـوب قبــول الشهــادة وأمــا كـون هـذا الشــخص عـدلا, فمظنـون بالاجتهـاد(21).

والمعنــى الثـاني : هـو أوســع تبعــا للإطلاق الثـاني للمنـاط ومفـاده «أن يثبت الحكــم بمـدكــه الشــرعي لكـن يبقي النظـر في تعيين محلـه»(22).

وواضــح أنــه لم يقتصــر على تحقـيق العلـة الجـزئيــة, وعبـارة «الحكــم» مشـعـرة بـأن كـل حكـم شـرعي لأجـل تنـزيله يحتـاج إلى تعيين محلـه, والحكـم الشـامل للتكليفي والوضـعي وجميـع مـا صــدر عن الشــرع من علــل جــزئيــة وكليـــة. وعلى هـذا جـرى اصطلاح الشـــاطبي عنـدمــا أكــد ذلك بقـولـه : «كل مســألة تفتقـر إلى نظـرين نظـر في دليـل الحكـم ونظـر في مناطـه»(23).

فالاجتهــاد في تحقيق المنــاط على هـذا الإطـلاق هـو البحث لتعيين محــال أحكــام الشــريعـة عمـومـا دون الاقتصـار على العلـة وعليـه نبـه أبو أسحــاق في المنــاط الخـاص حيث قـال : «فتحقيق المنـاط الخـاص نظـر في كـل مكلف بالنسبة إلى مــا وقـع عليــه من الدلائـل التكليفيــة»(24). فقــولــه «الدلائل التكليفيـة» تعنى جميـع ما يتعلق بالمكلف من الأحكـام التكليفيـىة.

3 ــ مشــروعيـة التنـويـط المقـاصـدي :

قــد أجمــع أهـل المقــاصــد على نقــل الإجمــاع على صحـة الاجتهـاد في تحقيق المنــاط ولم يعتــبروه قيـاسًــا, قـال الغـزالي : «وهـذا ـــ يعنـي تحقيق المنـاط ـــ لا خلاف فيـه بـين الأمـة وهـو نـوع اجتهـاد والقيـاس مختلف فيه, فكيف يكـون هــذا قياسًـا»(25).

وقــال الإمــام الآمــدى : «ولا نعـرف خـلافـا في صحـة الاحتجــاج بتحقيق المنـاط»(26)وأكـد الشـاطبي كـذلك أنه «لا خـلاف بـين الأمــة في قبولـه»(27)وأضـاف إلى هـذا الإجمـاع علـى صحتـه أدلــة كثـيرة منهـا النقليـة ومنهـا العقليـة فلا نطيـل بهـا إذ ســيرد بعضهـا خلال المبـاحث المقبلـة.

المطلب الثـاني : مســتويات التنويـط المقـاصـدي :

لم يمــيز المقــاصـديون الأوائــل بـين مستـويات تحقيق المنـاط, فكــانوا يتنـاولـونه بشــكب مقتضب مع بعض الأمثـلة المشهـورة. لكـن الإمــام الشـاطبي خطـا خطـوة منهجيـة معتبرة إذ نــوع الاجتهـاد في تحقيق المنــاط بحســب مجــالات ومســـتويات المنـاط فميـز بين أربعـة أنـواع :

1 ــ التحقيق في منـاط الأنـواع

وهـو التحقيق الـذي «يتـوجــه على الأنـواع لا على الأشخـاص المعينـة, كمــا يمثــل في جـزاء الصيـد, فــإن الـذي جـاء في الشـريعـة قولـه تعـالى : }فَجَزَاءٌ مِثْـلُ مَـا قَتَلَ مِنَ النَّعَـم {(المـائـدة : 97).

وهـذا ظــاهـر في اعتبــار المثل, إلا أن المثــل لابـد من تعيين نوعـه, وكـونـه مثلاً لهـذا النــوع المقتـول, ككـون الكبش مثلاً للضبع, والعـنز مثلاً للغـزال, والعنـاق مثلاً للأرنب, والبقـرة مثلاً للبقـرة الوحشـية, والشـاة مثلا للشـاة من الظبـاء. وكـذلك الرقبـــة الواجبــة في عتق الكفــارات, والبلـوغ في الغلام والجـاريـة, ومـا أشــبه ذلك»(28).

وهكـذا فكــل نـوع نصت الشـريعـة عليـه فيبحث عن المطـابقــة الواقعيــة لـه, وكذلك يدخـل هنـا جميع الأنـواع المحتاج إليهـا في التعـويضــات والضمــان ومـا إلى ذلك. فـإن تحـديـد المثـل في ذلك يرجع إلى محقق المنــاط الخبيـر بذلك النــوع المـراد تحقيق مناطه.

وقـد اتفق العلمــاء على هـذا النـوع وفـرعـوا عليــه أمـورًا أوردهــا الشــاطبي في الموافقـات(29)منهــا :

النكــاح حيث جـاء في الشــريعـة وعـدوه من السـنن, ولكـن قســموه إلى الأحكـام الخمســة ونظـروا في ذلـك في حق كل مكلف.

فهكـذا يتســع المجــال أكثــر في تحقيق منــاط الأنـواع إلى تكــاليف أخـرى في الشـريعـة.

2 ــ تحقيق منـاط الأشخـاص :

إن التحقيق في منـاط الأنـواع غــير مستغن عن التحقيق في الأشخــاص إذ لا يتـم إلا بـه(30), فـإذا أسفـر النظـر في الأنـواع مثلا عن المثل في الصيـد فلابـد من النظـر في كـون الصـورة المعـروضــة مثلهـا أولا. أي يبقــى النظــر في تعيــين الصــورة التي تحققت فيهـا خصــائص المثل.

وعليـه تُخَـرَّجُ عـديـد من الأمثلـة منهـا :

ــ التحقيـق النوعـى في المــرض المـوجب للإفطــار حتـى أسفــر على أن «مـرض الســكـري مثـلاً هـو المـوجب للإفطــار فـاحتيج إلى تحقيق شــخصـي مفــاده هـل هـذا الشــخص الفلاني مصــاب بمـرض السكـري أم لا ؟

ــ التحقيق الزراعـي النـوعـي في نـوع التربـة الصـالحـة للحبـوب مثلاً فتحصـل أن التربـة المعينــة صالحـة ولكـن بقي التحقيق الشــخصي في التربــة المـوجـودة بالمكـان الفلاني مطـابقـة للمحققة نوعيًّـا أم لا ؟

3 ــ تحقيق المنـاط العـام :

ويتمثــل في النظـر في تعـيين المنـاط من حيث هو لمكلف مـا. فـإذا نظــر المجتهـد في العـدالـة مثلا, ووجـد هـذا الشخـص متصفـا لهـا على حسب ما ظهـر له, أوقـع عليــه مــا يقتضيــه النـص من التكــاليف المنـوطــة بــالعـدول من الشــهـادات والانتصـاب للولايـات العـامـة أو الخـاصـة وهـكــذا إذا نظــر في الأوامــر والنـواهــي النـدبيــة, والأمـور الإبـاحيــة, ووجـد المكلفين والمخـاطبين على الجملــة, أوقع عليهـم أحكـام تلك النصـوص, كمـا يوقع عليهـم نصـوص الواجبـات والمحـرمـات من غير التفـات إلى شيء غير القبـول المشــروط بالتهيئـة الظــاهـرة. فالمكلفـون كلهــم في أحكـام تلك النصـوص على سـواء في هـذا النظـر»(31).

فهــذا النظــر واضـح أنــه عـام لجميع المكلفيـن دون اســتحضـار الخصـوصيـات الدقيقـة لمكلف مـا.

4 ــ تحقيق المنـاط الخـاص الدقيق :

هو يختلف عن السـابق, إذ السـابق عـام وهـذا خـاص(32)وهـو «نظـر في كـل مكـلف بالنســبة إلى مــا وقع عليــه من الدلائل التكليفيــة, بحيث يتعـرف منــه مداخـل الشــيطـان ومـداخـل الهـوى والحظـوظ العـاجلـة, حتـى يلقيهــا هـذا المجتهـد على ذلك المكـلف مقيـدة بقـيود التحـرز من تلك المـداخـل »(33).

ويتــوســع النظــر الاجتهــادي في هـذا النـوع إلى التكـليفـات غـير المنحتمـة ويحـدد المجتهـد مـا «يصـلح بكـل مكـلف في نفسـه, بحسـب وقت دون وقت, وحـال دون حـال, وشخـص دون شخـص, إذ النفــوس ليست في قبـول الأعمــال الخـاصــة على وزن واحـد ..»(34).

ويظهــر من هـذا أن محقق هـذا النـوع من المنـاط تلـزمـه معـرفـة بالنفوس ومـراميهـا, وتفــاوت إدراكهـا, وقـوة تحملهــا للتكـاليف .. »(35)

وبنطبـق مـا وصفــه الشــاطبي في هـذا البــاب على شــيوخ التربيــة في عـلم السـلوك, وهنـا لابـد من الاستعـانـة بمناهج عـلم النفس لمعـرفــة الأمـراض النفســية وتشــخيصهـا حتى يسهــل على المجتهـد إعطـاء الدواء المنـاسب.

5 ــ تحقيق المنـاط الشخصـي :

هو مـا يكـون فيــه المكـلف محقق منـاط نفســه, فـإن العـامي إذا سمـع في الفقـه أن الزيــادة الفعليــة في الصلاة سهــوا من غـير جنس أفعـال الصــلاة أو من جنسـهــا إن كـانت يسـيرة فمغتفـرة وإن كـانت كثيـرة فلا, فوقعت له في صلاتـه زيـادة, فلابـد له من النظــر فيهــا حتـى يردهــا إلى أحـد القســمين ولا يكـون ذلك إلا باجتهـاد ونظـر. فـإذا تعين له قسمهـا تحقق له منـاط الحكــم فــأجـراه عليــه. وكذلك ســائر تكليفـاته »(36)

وممـا يخــرج على هـذا النـوع أن المجتهـد إن ســأله مستفت عن أمـر محظـور شـرعـا فـأفتــاه بالإباحــة عنــد الضـورة. ولكـن يبقى تحقيق الضـرورة الملجئــة راجعًــا للمكلف المســتفتي كـي يســتبيح ذلـك المحظـور كالميتـة والخنـزير والخمـر للمشــرف على الهلاك مثلا …

المبحث الثـاني : حـاجـة التنويـط المقـاصـدى إلى العـلوم الإنسـانيـة :

إن الإنســان هو مـوضـوع الاشــتغال عنـد أهـل المقـاصـد وعلمـاء الإنسـان على الســواء بـالرغـم من اختلاف جـوانب الاشــتغال, فعلـم المقـاصــد يبحث عنـد تحقيق المنــاط في جميـع أبعــاد الظــاهـرة الإنســانيـة نفسيـة أو اجتمـاعيـة .. أو فـرديـة أو اجتمـاعيــة .. أو فـرديـة أو جمـاعيــة .. أو حاليــة أو مـآليــة .. بينمــا تتقـاســم العلــوم الإنســانيـة هـذه الأبعــاد, فيشـــتغل علمــاء النفس على النفس الإنســانيـة في حـالـة الانفـراد, وعلمــاء الاجتمــاع يبحثـون فيهــا في حـالـة الاجتمـاع .. وعلمــاء المستقبليـات يبحـثون في حـركـة المجتمع في المستقبل .. والكـل يـدور بحثـه على الإنســان.

ومـدار النتويـط المقـاصـدي على الواقعـة الإنســانيــة لأنهــا محـل الحكــم, فـالحكـم الشـرعي عنـدمـا ينطـق بـه يتـوجـه إلى أفعــال وأقـوال وتصـرفـات الإنســان المكلف, وعلى هـذا يتوقف تنـزيـل الحكــم الشـرعي على وقـائع المكلفين على احترام ضـوابـط أســاسيـة يمكـن اختصـارهــا في ضـابطين اثنيـن, أحـدهمـا : تصـور الواقعـة, والثاني : تصنيف الواقعـة تصنيفًـا مقـاصـديًّـا.

ولمـا كـان الفعـل البشــري هـو مجــال جـريـان الأحكــام التكليفيــة والقـاعـدة المقــررة عنـد أهـل الأصــول : أنـه لا تخلـو واقعـة من وقـائع الأنـاســي من حكـم شـرعي لازم لهـا, فــإن أي حـادثـة أو نـازلـة تحتــاج إلى نظــر المجتهـد من جهتـين : من جهـة الواقعـة نفسهـا ومعـرفتهـا على مـا هي عليـه أي تصـورهـا تصـوراً صحيحًـا مطـابقًـا لواقـع الأمـر.

ومن جهــة تصنيف الواقعــة مقــاصـديًّا أي بعــد تصـورهــا لابـد للمجتهـد من تحـديـد المجـال المقـاصـدي الذي وقعـت فيـه الواقعــة كليًّــا كـان أو جـزئيًّــا, عـامًـا أو خـاصًـا, وهل الواقعــة لازمــة لمحلهــا الأول ومقتصـرة عليـه أم متعـدية لمحـل آخـر, وهل هي واقعـة حقيقيـة أم مفترضــة ؟

كـل هـذه الإشــكـالات لابـد للمجتهـد ــ وهـو يروم تطبيق الحكــم على النـازلــة ــ أن يجيب عنهــا جـوابًا محـددًا مضبـوطًـا وهـو ف ذلك متبـع لطــرق ثبتت بالشــرع. ومنفح على نتـائج العـلوم التى اتخـذت الظــاهـر. الإنســانيـة بكـل أبعـادهــا مجـالاً للدراســـة, وفي هـذا المبحث تفصيـل لخطـوات المجتهـد وضـوابط تحـركـه العلمـي تجــاه الواقعـة, وبيـان لمظـاهـر حـاجتــه إلى العلـوم الإنســانيـة في ذلك؛ وســيتـم ذلك عبر مطلبين :

المطلب الأول : تصـور الواقعـة تصـوراً صحيحـاً.

المطلب الثاني : تصنيف الواقعــة مقـاصـديًّا.

المطلب الأول : تصــور الواقعـة تصـورًا صحيحًـا :

1 ــ مقـدمــة في تحـديـد مصطـلح الواقعـة :

عنــد البحث في مصطلح «الواقعــة» نجـد أن هنــاك عــدة ألفـاظ مستعملـة في البـاب مـترادفــة عـلى معنـى واحـد, منهـا : النـازلــة والحـادثــة والمســألـة ولقضيــة .. إذ كلهــا تـدلولهـا الســادة العلمــاء في كتبهـم الأصـولية والفقهيـة والنـوازليـة.

وعنـد البحث في الحقــائق اللغـويـة لهـذه الاصطـلاحـات نجـدهــا متقـاربـة كذلك. وبيـان ذلك في تحـديـد كـل لفـظ على حـدة في اللغـة وفي الاسـتعمـال الشـرعي.

فمـن حيث اللغـة :

الداهيـة .. والنازلـة من صـروف الدهـر37), والنـازلـة التـى هي «الشــدة من شـدائـد الدهـر تنزل بالنــاس»(38)والحـادثـة, وعلى المســألـة والحـاجـة والقضيـة …

وعمــومـا تطلق الواقعــة على النــازلـة والشـدة والحـاجـة التي تحـدث وتطـرأ للنـاس وتحتـاج إلى حل.

أمـا من حيث الاصطلاح :

فــإن أهـل الاصطـلاح اســتعملـوا لفظ الواقعــة في معــان متقــاربــة غــير بعيـدة عن المعـاني اللغـويـة فجمعــوا بـين الواقعـة والحـادثــة النـازلـة على معنـى واحـد وهـو أن الواقعـة هي الأمـر الطـارىء بين النـاس .. حيث قـالوا : «والحـادثـة النـازلـة العـارضـة وجمعهـا حـوادث»(39)ومنـه قـولهــم «لا نهــايـة لمــا يقـع من الحـوادث إلى قيــام السـاعـة(40) وقـولهـم : الحـاجـة داعيـة إلى ذلك ــ أي للاجتهـاد ــ لكثـرة الوقـائع واختـلاف الحـوادث(41)وقــولهـم كذلـك : إن الوقــائع بين أشخـاص الأنـاس غير متنـاهيـة(42).

واســـتعملوا مصطـلح «النــازلــة» في الواقعـة المستجـدة غـير المسبوقـة فـألفـوا كتبًـا خـاصـة بفقـه النـوازل.

2 ــ حـاجــة المجتهـد المقــاصـدي إلى الاستفـادة من العـلوم الإنســانيـة لمعـرفـة الواقعـة.

اتفقت كلمــة العلمــاء على ضـرورة معـرفـة الواقــع والفقـه فيــه(43)لمـن أراد التطبيق ولمـا كــانت الواقعـة هي المحـل الذي عليــه ســينزل الحكـم, فنصــورهـا نصـوراً صحيحــاً أضحـى واجبًــا على مـن رام تنـــزيلاً للأحكـام, وقـد ثبت هــذا بمـا استفـاض من الوقــائع النبـويــة والصحـابيـة التى أثبتت أن الرســول ـــ صّلى الله عليــه وسـلم ـــ ومجتهـدي الأمــة من بعـده كــانوا لا يحكمــون في حـادثـة من الحـوادث حتــى يعلمــوا بهــا وبكـل أبعـادهـا. وقـد اعتمـدوا في ذلـك طـرقًـا شــتى ومســالك مختلفـة نذكـر منهـا :

الطـريق الأول :لمعـرفـة الواقعـة لابـد مـن الانطلاق من ســؤال الســائل أو المكلف الذي طـلب الحكـم الشــرعـي من المجتهـد, حيث بتـأمل الســؤال ومـا ورد فيــه مـن المعلـومـات يتكـون لدى المجتهـد فهــم معـين للواقعــة.

الطـريق الثــاني : اســــتجـواب أو اســتنطـاق المجتهـد المقـاصـدي للسـائل أو لصـاحب الواقعــة : وصـورتـه أنــه يــأتي صــاحب الحـدثــة ويعـرض حــادثتـه على المجتهـد, ولكـن قــد لا يــدلي بجميــع المعطيـات الكـافيـة لبحث الحكــم المنـاسب, فيضطـر المجتهـد إلى طـرح أسئلـة إضــافيـة كي تفيـده تصـورًا صحيحًـا حـول الواقعـة, والأدلــة على هـذ الطـريق كـذلك كثيرة وجميعهــا مــا وقـع في العهـد النبــوي من بحث النبي ـــ صّلى الله عليــه وسـلم ـــ لكثـير من المستفتين عن معلـومـات إضـافيــة حـول الواقعـة بالرغــم من استغنـائه عن ذلك بالوحـي.

الطـريق الثـالث :تفحـص الســؤال الكتـابي أو الرسـالـة الاستفتـائيـة. وهـذه الطـريقــة اســتجـدت في عصــر الخلفـاء الراشــدين وتطـورت وتـوسعـت انطـلاقـاً من عصــر التـدويـن حيث كــثرت الاستفتـاءات المكتوبـة من عوام المسلميـن لعلمـائهـم ..

الطـريق الـرابع :ويختص بالمجـال القضـائي ومفــاده تفحص نص الدعـوى المقـدمــة ضـد الخصــم حيث يقـوم المجتهـد ــ القـاضـى ــ بتحقيق الدعــوى لأن علمـاء القضـاء اشــترطـوا في سمــاع الدعــوى أن تكـون محققـة ومبنيـة.

قال ابن عـاصـم(44):

والمـداعـى فيـه له شـرطـان

تحقيق الدعـوى مع البيـان(45)

وقـال الشـيخ الكـافي (ت : 1380) في شــرحـه : «يعنــي أن سمــاع دعــوى المـدعـي في المدعـى فيــه متـوقف على شــرطيـن : أولهمــا تحقيق الدعــوى على المـدعـى عليــه بـأن يجــزم بالمـدعـى فيــه بـأن يقــول : لي عنـده كـذا احـترازاً من : أظـن لي عنـده كـذا, أو أوشــك أو أتـوهـم, فلا تسمــع دعــواه قطعـا .. ثانيهمــا : بيـان سـبب كـذا لاحتمــال أن يكــون السـبب غــير معتــبر شــرعـا, مثل القمــار .. »(46).

وبهـذا يتــأكـد أن التحقيق في الدعـوى وفحصهــا هــي إحــدى طـرق المجتهـد القضــائي لمعـرفـة «القضيــة» أي الواقعــة. والقـواعـد القضـائيـة في ضبط عمليــة فهــم الواقعــة, والإحـاطــة بهــا كثيرة, ومنهــا الاعتمــاد على الإخصــائيين مـن جميع المجـالات.

الطـريق الخــامس : وهـو أعــم مـن الطـرق الســابقـة وأضبطهــا وهـو اعتمــاد تقــارير الخبـراء وأولي الرأي والمعـرفـة ولكـل مجــال مختصـون بــه يرجـع إليهــم لمعــرفــة تفـاصيل الوقــائع المتعلقـة بذلك المجـال, فالقضــايا المتعلقـة بالطب يرجع فيهـا إلى الأطبـاء لمعـرفـة تفـاصيلهـا قبل البـت فيهــا من قبل المفتي أو القــاضي أو غــيرهــم من المجتهـديـن, فمثلاً يرجـع للطبيب في المـرض المجــيز أو المـوجب للإفطــار ويـرج للبيطـري في منـع أو إباحــة أكــل لحــم المـاشيـة على حسب حالتهـا الصحيـة ..

وهكـذا في ســائر المجـالات, ويتســع هـذا النـوع من التحقيق الواقعـي في قضـايـا السيـاســة الشــرعيــة أو الوقــائع المتعلقــة بالحكــم الإمــامي فالـدولـة في مؤسســاتهـا كـي تحسـم موقفهــا في مشــروع ما تعتمـد تقـريـر المختصـين والتقنييـن المعتمـديـن في ذلك المشــروع أو تلك النـازلـة لتحكــم بنـاء على تقـريرهــم بالإقـدام أو الإحجـام.

وفي الوقــائع النبويــة أصـل لهـذا الطـريق ومـن ذلك اعتمــادهـم رأي الخبــير الحـربي في معــركــة بدر في تحـديـد مكــان تمــوقع الجيش, ورأى الخبيـر ســعـد بن معــاذ في اتخــاذ عـريش لـتوالى القيـادة منــه(47). ومـن ذلـك اعتمــاد النـبي ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ تقـرير القـائف(48), وأجــاز العلمــاء تقليـد التـاجـر في قيــم المتلفـات والمقــوم والخــاص والـراوي والطبيب والملاح في تحـديـد القبلـة(49)…

وإذا تقـرر من خلال مـا سبق أن المجتهـد المقــاصـدي قبــل الإقـدام على البحث في حكــم الواقعـة ودليلهـا لابـد وأن يتصـور الواقعــة تصـويراً صحيحـاً مضبـوطًـا يمكـن البنــاء عليــه, وإذا قصــر المجتهـد وخــاصــة في عصـرنـا هـذا عن درجــة المـوســوعيـة فيــلزم على ســبيل الوجـوب اللجـوء إلى أهـل الذكــر من أصحــاب اللجـوء إلى أهـل الذكــر من أصحــاب العلـوم الإنســانيـة والكـونيـة لمعـرفـة الواقعـة على مـا هي عليـه.

فالظــاهـرة الإنســانيـة تتعـدد أبعـدهــا وبتعـددهـا تتعـدد فروع العلـوم الإنســانيـة ومنـاهجهــا في تحـديـد حقــائق متعلقــة بالإنســان, فالإنســان تعتريـه أحـوال نفسيـة وأحــوال اجتمـاعيـة, وأخـرى اقتصـاديـة .. ولا يمكـن تنـزيل أي حكــم قبل الإحـاطـة بالواقعـة المعـروضــة بجميـع أبعـادهـا.

وبنــاء عـلى هـذا ســنتنـاول بعض جـوانب التـواصل بين علــم المقــاصـد والعلـوم الإنســانيــة فيمــا يخص معــرفـة الواقعـة على مـا هـي عليــه وذلك بحسب أبعـادهــا المنـاطيـة المقصـديــة, فمـن أعظــم جــوانب المنـاط المقــاصـدي التي تستحق النظــر الاجتهـادي أحــوال المكلف عنـد إقـدامــه علـى تطبيق الحكــم الشــرعـي, فالبحث عن محـل الحكـم يستوجب النظـر في كـل مقـومـات التكليف وشـروطـه حتـى تفضـي عمليــة التطبيق إلى تحقيق مقصـد الحكـم المطبق, فقـد ثبت عنـد أهـل المقـاصـد أن «لمحـل هـو الذي بحــال إذا ثبت الحكــم فيــه يفضــي إلى تحصيــل مقصـوده, فكـانت المحليــة شــرط إفضـاء الحكـم إلى حكمتـه»(50)

وعلـى هـذا يتـوجب النظـر في أحـوال المكلف لتهيئــة محل الحكــم وقـد ثبت في الشــريعــة نــأثر الأحكــام بتغــير أحـوال المكلفين, فمـن هـذه الجهـة شكـلت جـانبـا مهمـا من جـوانب المنـاط المقـاصـدي.

وإذا تقــرر هــذا, فـــالنظـر في أحـوال المكلفيـن ينصـرف إلى أنـواع كثيـرة, فالتغير الذي يتـأثر بـه الحكــم إمـا أن يقع في أحـوال المكلف البـدنيـة أو في أحـوالـه النفسيـة أو في أحـوالـه الروحيــة التربويـة, أو يقع لــه تغيـر في عـوائـده وأعـرافــه, أو يقــع التغــير في أحـوالـه الاقتصـاديـة والاجتمـاعيـة.

وأنـواع هـذه التغيرات لا يحـدهــا حـد, لمـا هـو جـار على الطبيعـة البشـريـة من الطـوارئ القــدريـــة والتي لا يحصــرهـا إحصــاء وعـد. ولمـا ثبت أن الشــريعـة عـامـة في جميع المكلفيـن وجـاريـة على مختلفــات أحـوالهــم(51), وعلى هـذا اكتفـى العلمــاء بـإيراد بعض هـذه الأنـواع, والمعـول عليــه في الاجتهــاد التــنزيلـي هـو نظــر المجتهـد وكـذا محقق المنـاط في استكشـاف جميع مـا يمكـن أن يتـأثر بـه الحكـم من جهـة تحقيق مقصـده.

ولهـذا لابـد مـن معــرفــة أهـم أنـواع أحــوال المكلفيـن التـى تختلف الفتــاوى وتتغـير بتغـيرهـا, ويحتــاج المجتهـد إلى النظـر فيهــا عنــد إقـدامــه على تطبيق الحكــم الشــرعـي بمـا يخـدم مقصـده, كمــا يحتــاج إلى الاستعـانـة بـالعلـوم الإنســانيـة ونتـائجهـا لمـا تقـدمـه من معـرفـة دقيقـة بالواقعيـة الإنســانيـة.

3 ــ التنـويـط المقــاصــدي المتعلق بأحـوال المكلفيـن النفسيـة وعلم النفس :

إذا كـان الشــرع قـد اعتــبر الأحـوال البـدنيــة في القيـام بالتكـاليف, ففـرق بين المـريض والمعــافي وبين ســليم الأعضــاء والمعـاق في الخطـاب بكثير من الأحكــام, فاعتبـاره للأحـوال النفسـية بل يقــل أهمـيـة عن ذلك حيث جعــل كثـيراً من الأحـوال النفســية الباطنيـة منـاط كثـير من التكـاليف, وفي هـذا الســياق تـبرز أهمـيـة العلـوم المتعلقــة بالنفس الإنســانيـة لكـونهـا مســاعـدة في الكشف عـن ـحـوال باطنيـة تنبني عليهـا أحكــام الشـريعـة, ومن هـذه الأحـوال التي سوف نتطـرق لهـا في هـذا المقـال :

ــ قصــود المكلفيـن.

ــ الأحــوال النفسيـة الطبعيـة.

ــ الأحـوال الدينيــة والروحيــة.

أ ــ قصـود المكلفيـن :

إن مقـاصـد المكلفيـن من أهـم جـوانب الواقعــة الإنســانية التـى يتــأثر بهــا الحكــم الشــرعي لمـا ثبت في الشــريعـة اعتبـار نيـات المكلفــين ومقــاصـدهــم في إقـدامـهــم ظاو إحجــامهـم عـن الأعمــال التكليفيـة, لذلك كـان ضـروريـا على المجتهـد أن يتجـه نظـره ــ عنـد تنـزيـل الأحكــام ــ إلى قصـد المكلف لإيقـاع الأعمــال وفـق مقـاصـد الشــرع لا وفـق أغــراض المكلفيـن. وهـذا النظـر الاجتهـادى لابـد وأن يعتمـد مســالك أو ضوابـط يهتـدي بهــا إلى إصـابـة المقصــد وبلوغ المـرام. وقـد اسـتنبط الفقهـاء عـدة مســالك للكشف عـن قصـود النـاس حـال مبـاشـرة الأعمـال لبنـاء تنـزيـل الأحكــام وفق مقصــد الشــرع ولكـن هـذه المســالك مـا زالت إلى حـد مـا قـاصـرة عـن الإحــاطـة بالمـوضـوع على مـا هو عليـه, لذلك يصبح التســاؤل مشـروعــاً حـول إمكـانيـة اللجـوء إلى علــم النفس وطـرائقــه في استكشــاق مكنـونـات النفس الإنســانيـة وأســرارهـا الكـامنـة وراء تصــرفاتهـا.

وتستنـد حـاجـة المجتهـد المقـاصـدي في تنـويطـه المتعلق بقصـود المكلفين إلى معـرفـة بعلــم النفس إلى أمـريـن أســاســــيين : أحـدهمــا : الاعتبـــار الشــرعـي لقصــود المكلفــين وتوقف تنـزيـل كثـير من الأحكــام الشــرعيـة على الكشف عنهــا, والأمــر الثـاني : ضيق المســالك العتيـدة عن الكشف عن مقــاصـد المكلفيـن.

ــ الأمـر الأول: اعتبـــار مقــاصـد المكلفيــن في التصــرفــات وضـرورة الكشف عنهـا

قال الإمـام الشــاطبي : «إن الأعمــال بالنيـات, والمقـاصـد معتــبرة في التصـرفـات من العبـادات والعـادات. والأدلـة على هـذا لا تنحـصـر»(52).

وقـد أصبحت قــاعـدة «الأمـور بمقـاصـدهــا» قطعيـة بالاســتقـراء وعليهـا بنيت كثير من أبـواب الفقـه وجمـاع ذلك كله «أن المقـاصـد تفـرق بين مـا هو عـادة, وفي العبــادات بين مـا هـو واجب وغــير واجب, وفي العـــادات بين الواجب والمنــدوب, والمبــاح والمكـروه والمحـرم, والصحيح والفـاسـد, وغــير ذلك من الأحكــام, والعمـل الواحـد يقصـد به أمـر فيكــون عبـادة ويقصـد به شيء آخـر فلا يكـون كذلك. بل يقصـد به شي فيكـون إيمـانـا, ويقصـد شيء آخـر فيكـون كفـرًا كـالسجـود لله أو الصنـم»(53).

هكـذا حتـى تقـرر عنــد أهـل المقـاصـد والأصــول أن «العمـل إذا تعلـق بـه المقـصـد تعلقت به الأحكــام التكليفيـة, وإذا عـري عن القصـد لم يتعلق به شـيء منهـا, كفعـل النـائـم والغـافـل والمجنـون»(54).

وقــد حـدد أهـل المقـاصــد وظـائف القصـود في ثلاث:

أحـدهــا : تمـييز العبـادات عن العـادات كـالوضـوء والغســل يـتردد بين التنظيف والتبرد والعبـادة, والإمســاك عن المفطـرات قد يكـون للحميـة والتـداوي ولعـدم الحـاجـة إليــه, والجلـوس في المســجـد قـد يكـون للاســتراحــة, ودفـع المـال للغـير قـد يكـون هبـة أو صلـة أو لغـرض دنيـوي, وقـد يكـون قربـة كالزكـاة والصـدقة والكفــارة, والذبح قـد يكـون بقصـد الأكـل وقـد يكـون للتقـرب, فشـرعت النيـة لتمـييز القرب من غيرهـا»(55).

والثـاني : للتمـيز بـين رتب العبــادات «كـالصلاة تنقســم إلى فرض ونفل والنفل ينقســم إلى راتب وغـير راتب, والفرض ينقســم إلى منـذور وغـير منـذور وغـير المنـذور ينقســم إلى ظهـر وعصـر ومغـرب وعشــاء وصبح, وإلى قضـاء وأداء فيجب في النقل أن يميـز الراتب عن غيـر بالنيـة .. وكـذلك في العبـاداة المـاليـة تمـيز الصـدقـة الواجبـة عن النـافلـة, والزكـاة عـن المنـذورة والنـافلـة ..»(56).

الوظيفــة الثـالثـة : تحـويـل العـادة إلى عبــادة, هـذه الوظيفــة لم يذكـروهــا مســتقلـة, ولكـن أوردهــا ضمن تفصيلات كلامهـم عن النيـة.

ذلـك أن «الأعمــال العـاديـة ــ وإن لم يفتقــر في الخـروج عـن عهـدتهــا إلى نيـة ــ فـلا تكـون عبــادات ولا معـتــبرات في الثـواب إلا مع قصـد الامتثـال, وإلا كـانت باطلـــة»(57)وهـذا يحمــل على الأعمــال المباحـة.

وانطـلاقًـا مـن هـذه الوظـائف الثلاث للقصـد يرســم المجتهـد إطـارًا لتــنزيـل أفعـال المكلفيـن وفقـه كمــا يمكـن للمكلف نفسـه تـنزيـل فعلــه وفق هـذا الإطــار في نطــاق تحقيق المنـاط الشخصـي الخـاص ــ كمـا مـر ــ ومن ذلك أن يحـول جميـع تصـرفـاتــه إلى قربـات مقصـودة شـرعـا ومثـاب عليهــا.

وعلى هـذا تنبي ضـرورة الكشف عن مقـاصـد المكلفيـن كمـا هي ناتجـة أيضًـا عن العلاقــة بين قصـد المكلف ومنـاط الحكـم, ومفـادهـا أنـه مـا دام قـد ثبت تـأثـير قصـد المكلف علــى تنــنزيـل الأحكـام وفـق مقـاصـدهـا فقـد أصبح بهـذا التـأثـير منـاط كثــير من الأحكــام تتعلق به. بل الأحكــام عنـدمــا تحقق أســبابهـا وشــروطهــا وتنتفى مـوانعهــا لا يتـم إمضــاؤهـا إلا بعــد التحقيق من قصـد المكلف في ذلك في الأعمــال العبـاديـة والعـاديـة على السـواء مع القليل من الفرق يخضـع لنظـر محقق المنـاط.

وانطـلاقًــا من هـذا انتهـى أهـل المقـاصـد إلى قــاعـدة مهمـة مفـادهـا : أن الحكـم على أي فعـل من أفعـال المكلفيـن يتوقف على معـرفـة قصـده من ذلك الفعـل هل هو جـار على المـوافقـة أم المخـالفـة لذلك قـالـوا : «ينبغــي للمفتـي أن لا يــأخـذ بظـاهـر لفـظ المستفتـي العـامـي حتـى يتبين مقصـوده»(58).

ومن أمثـلة توقف الإقتـاء على معـرفـة قصـد المكلف :

ــ المثــال الأول : النكــاح فـإنـه مشــروع للتنـاسـل على القصـد الأول, ويليـه طلب الســكن, والازدواج, والتعــاون على المصــالح الدنيــويــة والأخـرويــة, مـن الاســتمتـاع بالحلال؛ والنظــر إلى مـا خلق الله من المحـاسـن في النســاء ..»(59)وكـل هـذه المقـاصـد تـوابع إن قصـدهــا المكلف في إقـدامــه على النكــاح لا تبطــل المقصـد الأصلــى بل تقـويـه وتسـتدعى إدامتـه. أمــا إن دخـل المكلف في عقــد النكــاح بالمقـاصـد الهـادمـة للمقصـد الأصـلى كقصـد الفــراق والأجــل وقضــاء الوطـر مؤقًتـا أو كـالانتقـام. فيبطــل هـذا الدخــول, وعلى هـذا  حــرّم جمهـور العلمــاء زواج المتعـة لثبـوت قصـد التوقيت فيــه, وحـرّم مـن حَـرّم زواج المحلل لثبـوت قصـد الفـراق فيـه.

ــ المثـال الثـاني : أن يهب المكلف مـا لـه عنــد رأس الحـول فرارًا من الزكـاة. فـأصل الهبـة على الجـواز(60), ومنـع الزكـاة من غيـر هبـة إبطــال لحكــم شــرعـي لازم. فـإقـدامـه على الهبـة قصـد الفـرار من الزكـاة «خـرم لقــواعــد الشــريعــة»(61)فمــآل الحكــم الإبطـال.

وعلـى هـذا فــالمجتهـد المقــاصـدي إن تحقق عنـده هـذا القصــد(62)إلى هـذا المـآل, ينبغـي لــه تطبيق حكــم منـع هـذه الحيلـة. وبذلــك يمنــع الخـلل المتطـرف للأحكــام الشـرعيـة. فمنـع الحيلـة هنـا حمـايـة للأحكــام الشـرعيـة من الإبطــال.

ــ الأمـر الثــاني : ضيق المســالك العتيـدة عن الكشــف عن مقـاصـد المكلف :

لمـا تقـررت ضـرورة الكشـف عن مقـاصـد المكلـف لتعلق الأحكـام بهـا, طـرح إشكــال عســير في علـم المقـاصـد وهـو كيف يتمكـن المجتهـد من التعـرف على المقـاصـد المكلفــين ؟ وقــد وردت في مـدونـــات الأصـولييـن والفقهـاء طـرق لهـذا الغـرض إلا أن أغلبهــا مختلف فيـه من جهـة وغـير فعـال من جهــة أخـرى ويمكـن حصـرهـا في أربعـة مسـالك :

المســـلك الأول : إقــرار المكلف(63)وتعـريفـه وإفصـاحـه عن قصـده من قـولــه وفعلــه, وهـذا المسـالك هو الغـالب وهو الذي تنـزلت عليــه الأحكــام في كثــير من الوقـــائع في العهـد النبـوي وقـد مـر معنـا بعض الأمثــلة في فصــل «النظـر في الواقعــة» إلا أنــه لابـد من الإشــارة إلى أن هـذا الطـريق محفـوف بكثــير من القـواطع أهمهـا :

أولاً : فســاد المكلفيـن ممـا يؤدي إلى الكـذب والتدليس إذ العـدالــة قـد تقل في بعض الأزمــان, وقلمـا يفصـح النـاس عن مقـاصـدهـم.

ثانيًـا : إفصــاح المكلفيـن عن مقـاصـدهــم بطـريق الكنـايـات لذلـك نبه المحققـون على هـذا فقـد قـال القـرافي :

«ينبغـي للمفتـي أن لا يــأخـذ بظـاهـر لفـظ المســـتفتي العــامي حتـى يتبـين مقصـوده, فـإن العـامـة ربمـا عـبروا بالألفـاظ الصريحـة من غـير مـدلـول ذلك اللفظ .. وكـذلك إذا كـان اللفظ مـا مثــلـه يســأل عنه, ينبغي أن يستكشف, ولا يفتـي بنـاء على ذلك اللفظ, فـإن وراءه في الغـالب مـرمـى هو المقصـود, ولو صـرح به امتنعـت الفتيـا»(64).

المســلك الثـاني : التهمــة, وقـد انفـرد الإمــام مالك بمســائل حكـم فيهــا بالتهمـة مســلكـا لتحـديـد قصـد المكلف ومنهـا : طـلاق المـريض, قـال فيهـا ابـن العـربي : «هـذه المســألـة من المصـالح الـتي انفـرد بهـا مالك, دون سـائر العلمـاء, فـإنـه رد طـلاق المــريض عليــه تهمـة لـه في أن يكـون قصـد الفرار من الميراث»(65).

واعتمــد كذلك الإمــام مــالك قـوة التهمــة في الكشف عـن القصـد إلى الممنـوعـات التي ظـاهـرهـا الجـواز, قــال القـاضـى عبد الوهـاب : «الذرائـع هي الأمـر الذي ظـاهـره الجـواز, إذا قويت التهمـة في التطـرف به إلى الممنـوع»(66).

وحكـم المـالكيــة كذلـك بالســجن بـسبب التهمــة كـالحكـم على المـديـن إذا نكـل(67)لأن نكـون لـه تهمـة له.

والظـاهـر أن مـالكـا لم يسـاعـد على هـذا المسـلك ولكـن ما يشـفـع للسـادة المـالكيـة هـو اعتمـادهـم على وجـوب حفـظ حقـوق النـاس ومصـالحهـم الضـروريـة, فـإن توقف معـرفـة مقـاصــد المكلف فقـط على الإقـرار فـذلـك مـدعــاة لضـيـاع الحقـوق والمصـالح وهـذا مثــال من أمثــلـة تـنزيلات مـالك المقــاصـديــة, وقـد أثبـت ابن قيـم الجـوزيـة أخـذ أغلب العلمـاء بالحبس في التهـم(68).

المســلك الثـالث : قــرائـن الأحـوال والأمــارات :

وقـد اســتنـدوا إلى اعتبــارهــا طـريقًـا في الكشــف عن مـراد المكلف إلى آيـات من الكتــاب كقــولــه عـز وجـل : }تَعْـرِفُهُــمْ بِسِيمَـاهُـم {(البقـرة : 273), وقـولـه عـز وجـل : }وَجَــاءُوا عَلَـى قَمِيصِـــهِ بِـدَمٍ كَذِب {(يوسف : 18).

واحتجــوا بوقــائع مـن العهـد النبوي تـدل على مشــروعيـة القـرائن كمســلك للكشف عن الحقــائق ومنهـا مقـاصـد المكلفيـن.

وقـد روى ابـن فرحـون الاتفـاق على أصــل اعتمـــاد القـرائـن ولكـن وقـع الاختلاف على بعـض المســائل انفـرد بهـا مالك, قـال ابن العـربي : «على النـاظـر أن يلحــظ الأمــارات والعلامــات إذا تعــارضت, فمـا ترجح منهـا قضـى بجـانب الــرجيح, وهـو قـوة التهمـة, ولا خلاف في الحكـم بهـا. وقـد جـاء العمـل بهـا في مســائل اتفقـت عليهـا الطـوائف الأبعــة, وبعـضهــا قال بهـا المـا المـالكيــة خـاصـة»(69).

من «تفـرست فيـه الخـير تعـرفتـه بالظـن الصـائب»(70).

والفـراســة هي المكـاشفــة والمعـرفـة الباطنـة, قـال الجـرجـاني : «وفي اصطلاح أهـل الحقيقـة : هي مكـاشفــة اليقين ومعـانية الغيب»(71).

والفـراســة طـريق «ناشئــة عن وجـودة القريحــة, وحـدة النظــر وصفـاء الفكـر»(72), وهـو مـردود عنـد أغلب العلمـاء بالرغــم أن السـلف الصـالح عمـل بهــا في القضـاء, وقـد اشــتهـر ذلـك كثـيرًا عـن قضـاة الخلفـاء الراشــديـن ومن بعـدهـم, وتقـل ابن القيــم الكثــير مـن حكــايتهـم في ’’الطـرق الحكيمــة‘‘»(73).

ومـن الذيـن أعلنــوا رفضـهــم لهـذا الطـريق أبـو بكــر بـن العـربي (ت 543هــ) حيث قـال : «إذا ثبت أن التـوســم والتفـرس مـن مدارك المعـاني فـإن ذلك لا يتـرتب عليـه حكــم ولا يؤخـذ به مـرسـوم ولا متفـرس»(74).

ونقــل كـذلك المـوقف نفســه عن أبي بكـر الشـاشـي (ت 507هـ) وذكــر أنـه ألف كتـابًـا في الـرد على القضــاة العـامليـن بالفـراسـة(75).

وختامًـا لهـذه المسـالك لابـد وأن تؤكـد علـى أمـرين :

أحـدهمــا : أن الضـرورة الشــرعيـة مـوجبـة للكشـف عن مقـاصـد المكلف لتوقف اســتقـامـة نظــر المجتهـد في تنــزيـل الأحكــام على معـرفتهـا.

والثـاني : أن المسـالك المعهـودة مظـنونـة ومختلف فيهــا ممـا يسـتدعـي البحث في زمـن تطـور العلــوم عن طـرق جـديـدة للكشف غن مقـاصـد المكلفيـن خـاصـة عنـدمــا تتوقف عليهـا الحقـوق والمصـالح العظمـى. وهنـا لابـد مـن التـأكيـد على أن المجتهـد المقــاصـدي لايمكـن أن يســتغني عمـا أثـله علمــاء النفس من قـواعـد ومنـاهج وطـرائق لمعـرفـة قصــود المكلفيـن, ومعلـوم أنهـم ابتكـروا كثـيراً من الوســائل كالتنـويـم المغنـاطيسـي, وطـرق التحليل النفســي .. حتــى أصبــح لهــم في ذلــك مذاهــب ومـدارس واســتفـادوا من اللغـة الكميـة العـدديـة المســتعملـة في العلـوم التجـريبيـة, وهنـا نتســاءل إلى أي حـد يمكـن اللجـوء إلى هـذه الطـرق مع أنهــا لا تســلم أيضـاً المعـايب كمـا يرى الأستـاذ محسن الميلي(76).

ب ـــ الأحــوال النفسيـة الطبعيـة وعلـم النفس :

قـد ثبت في الشــريعـة وعلم النفس أن النفس الإنســانيـة تعتـريهــا أحــوال طبعيـة تختلف من شــخص إلى شــخص ومـن زمــان إلى زمــان ومن ظــرف إلى ظــرف كـالهلـع والجـزع(77)والخـوف والاطمئنـان والعضب والفـرح والحـزن والألـم واللذة .. ومـا إلى ذلـك مـن الأحــوال البشــريـة التي ثيت كـذلـك تـأثر الأحكــام الشــرعيـة بهــا والأدلـة على هـذا لا تنحصــر :

ـــ منهــا الاعتبــار الشــرعـي لقصـود المكلفيـن إذ هـي مـن الأحــوال النفسيـة البـاطنيـة المؤثرة.

ـــ ومنهــا التـأثيـر الـوارد في الشــريعـة على مجـرى كثــير من الأحكــام والـراجـع إلى الاختلاف والتغـير الواقـع في الأحـوال النفسيــة ومثـالـه :

قـولــه ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ : «لا يقضـي القـاضـي وهـو غضـبان»(78), وقـد قـاس العلمــاء عليــه جميـع الأحـوال النفســيـة الـتي تؤثـر علـى مجـرى الحكـم الثضـائي, فكــان منــع القـاضـي في جميعهــا من ممـارسـة مهـامـه.

ومثـالـــه كذلـك النهــي الـوارد عـن الصلاة بحضـرة الطعـام مـدافعـة الأخبثين(79)؛ لمـا في ذلـك من أحـوال نفسـيـة مانعـة من ـداء الصـلاة بالخشـــوع والحضــور المقصــوديـن منهــا, وكذلـك النهـي الوارد عـن الإكثــار مـن العبــادات خـوف الانقطــاع لمــا يعـتري النفس نتيجـة الإكثــار من ملل وتعب.

وإذا ثبت اعتبــار هـذا الضـابـط فـإنـه يعـد مســلكًــا مســاعـدًا للمجتهـد وهـو يـريـد توجيــه المكلف إلى الأحكــام.

ومـما يمكـن تخـريجــه على هـذا المســلك أمـور تتعـلق بفقــه الدعــوة إلى تعـاليــم الإســلام, فاختيــاؤ الحـالـة النفسيـة المـلائمـة شـرط أسـاسـي في تبليغ الدعـوة, فلا يجـوز مثلاً أن يُقْصَــد المكلف وهـو في حـالـة من الإرهــاق والتعب أو الغضب والقـلق وتعـرض عليــه الدعـوة وتكـاليفهـا بصـورة من الإلـزام والإجبـار .. فالطبيعــة البشـريـة في غـالبهــا ترفض هـذا المنهـج وتمجـه, وقـد يــؤدى ذلـك إلى النفــور مـن تكــاليف الشــريعــة رأسَــا خـاصـة في مجتمـع متغـرب عنهـا.

ومعلــوم في عصـرنــا هـذا أم كثــير مـن المؤسـسـات الاجتمـاعيـة والاقتصـاديـة المتعـاملـة مع «المـوارد البشـريـة» تعتمـد على الدراســات النفسيــة بشكــل كبيـر حتـى أصبح لكـل مؤسسـة أو شـركـة أخصـائيـون في الأحـوال النفســية إليهــم المـرجع في اختيـار أي شخــص يريـد الالتحـاق بهـا. وحــري بعلمــاء الشــريعـة التنبـه لهـذا الملحـظ وتـوخـي الأحــوال النفســيـة المنـاسبـة لتنــزيـل الأحكــام وتحقـيق مقــاصـد الشــرع في النـاس.

ت : الأحـوال الدينيـة والروحيـة :

لمـا كـان «حفـظ الديـن حـاصـله في ثلاثـة معــان وهـي الإســلام والإيمــان والإحســان»(80), فــالتزام المكلفيـن بــه درجــات بحسب هذه المعـاني, فمنهـم المســلم المكتفـي بالأركــان والفـرائض, ومنهــم المـؤمـن المـلتزم بشعب الإيمــان ونـوافــل الطـاعـات فضلاً عـن أركـانهــا وفـرائضهــا, ومنهـم المحسـن المخلص في العبـوديـة البـالغ أعلـى درجـات المـراقبـة والتقـوى.

والشــريعــة في تنـزيلهــا للعـديـد من التكـاليف راعت الأحــوال الدينيـة أي درجــة التـزام المكلف بنقتضيــان الديـن العلميـة وما ينتج عنهـا من مقـامـات تربـويـة وروحيــة, ويـدل على هـذه المـراعـاة أمـور منهـا :

ـــ اشــتراطهــا وصف العـدالــة في كثــير من المهـام : كالشهــادة والولايـات, وتحقيق المنـاط, وروايـة الصحيـح .. ومـا إلى ذلك مـن الأمـور التي اشــترطت فيهـا التقـوى والورع.

ـــ تمــييزهــا بيـن أصنــاف المكلفيــن بحســب المعيــار الدينـي : كتمـييزهــا بين الأعـراب والمهـاجريـن, وبين المجــاهـديـن والقـاعـديـن, وبين الســابقيـن في الإسـلام والمتـأخـريـن …

فــإذا ثبت أن الشــريعــة تـراعـي هـذه الأحــوال, فـإن على المجتهـد أن يلتـزم النظـر فيهــا قبــل تطبيقــه أي حكــم على أي مكـلف, والقـدوة في هـذا هو الرســول الأعظــم ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ الذي : «كـان يخــاطب النـاس على قــدر عقـولهــم ومقــامهــم في حضـرة الإســلام والإيمــان والإحســان»(81), ومن أمثـلـة هـذا النظـر وفـوائـده :

ـــ لا يستحســن مخـاطبــة تارك الصلاة بالنــوافـل كقيــام الليل وصلاة الضحـى .. كمـا لا يخـاطب مـانع الزكـاة بالتطـوعـات من الصـدقـات وغـيرهـا ..

ـــ كمــا لم يجـز بعض العلمـاء الترخص للمسـافـر من أجـل المعصيـة .. وهـذا نتيجـة النظــر لحـالـه الدينـي كمــا هو واضـح ..

والفــروع كثــيرة على هـذا النظــر وينبغــي للمجتهـد أن يستعيـن بمحقق المنـاط لمعـرفـة أحـوال المكلف الدينيـة حتى يطبق الحكـم مثمـرًا لمقصـده ومصيبــاً لهـدفــه.

4 ـــ الأحــوال الاجتمـاعيـة والاقتصــاديـة وعلم الاجتمــاع :

وممـا يستحق النظـر الاجتهـادي الجـانب المـالي الاقتصــادي عنـد المكلف لتعلق كثـير من التكــاليف بــه, ونظـرًا لأن الله تعـالى خلق النـاس مختلفيـن في هـذا الجـانب منهـم الفقيـر ومنهـم الغنـي, ومنهـم المتـوســط بين ذلـك, ومنهـم المســكيـن .. وجعـل بعضهــم لبعض فتنـة وابتـلاء, فــإن الأحكــام تحتلف من حـالـة إلى حـالـة.

والأمثـلـة على هـذا الباب كثـيرة :

ـــ منهــا أن العبـادات المـاليــة كـالزكـاة يختلف الحكــم فيهــا من الغنـي إلى الفقير, فالغـني الممتـلك للنصـاب تجب عليـه الزكـاة وتنـدب إليــه الصـدقــات, وأمـا الفقيـر فيجب صـرف الزكـــاة إليــه والعنـايـة بـه وكذلـك المســكيـن وجميـع المحتـاجيـن. فالمجتهـد عنـد التطبيق لابـد لـه من التحقيق في الأحـوال المـاليـة كـالتحقيق من ثبــوت النصـاب عنـد الغــني, وثبــوت الحـاجــة عنــد الفقــير والمسـكين.

ـــ والحج كـذلـك من العبـادات التي يشــترط فيهــا الاســتطـاعـة المـاليــة وهـي «معتـبرة بحـال المســتطيع»(82).

ـــ ومهــا الحقـوق المتعلقــة بـالأمـوال : كـالديـن مثلاً يتجــه النظـر فيـه إلى المـديـن المعســر فـإن تحقيق المنـاط بـأنــه على حـال عســر مـالي وضـائقـة اقتصـاديــة فالحكــم بالنظــرة أو الأعفـاء.

ـــ وكـذلك الفقـة الـزواج على الزوجـة : فــإذا تحقق المنـاط بـأن العجــز عن الإنفـاق مـوجـود, فللـزوجــة «أن تفــارقـه بعـد ضـرب الأجـل ليتضـح إعســاره»(83).

وقــد يمتــد النظــر في هـذا الصــدد إلى الأحـوال الاقتصـاديـة العـامــة للمجتمــع كنظـر عمـر الفـاروق ـــ رضي الله عنــه ـــ إلى حـال المجـاعـة العـامـة, فلــم يطبق حـد الســارق؛ إذ لم يســلم الســارق من ضـرورة تـدعـوه إلى مـا يسـد به رمقـه(84).

وعلى هـذا فـإن أهمـل هـذا النظــر فكثــير من المقـاصـد الشــرعيـة يلحقهـا الخلل والخـرم وعلى رأسهــا الكليــات الخمس, لذلـك كـانت الأحـــوال المـاليـة جــزءًا من المنـاط المقـاصـدي الذي يتــأثر به تطبيق الحكـم في علاقتـه مع مقصـده.

وعلى هـذا أيضًــا لابـد من الاستعــانـة بعلــم الاقتصــاد في تحـديـد الوضعيــة الاجتمــاعيـة العـامــة بـالتـدقيق, وخـاصــة عنـدمــا يتعلق الأمـر بـالتصــرف الإمــامـي المنـوط برعـايـى المصلحــة.

5 ـــ عــوائــد المكلفيــن وأعـرافهــم وأهميــة البحث الاجتمـاعي في تحـديـد العـوائـد والأعـراف :

وممــا يجب اعتبــاره في التنويـط المقـاصـدي العـوائـد والأعــراف الصحيحـة, وقـد تكــلم العلمــاء كثــيراً في هـذا الشــأن واعتبــروا العـرف مصــدرًا مـن مصــادر التشــريع وقســمـوه إلى صحيح وفـاســد ونـوعــوه إلى العـرف الفعلــي والعـرف القـولي ..

والأدلـــة على اعتبــار العـرف تواترت حتى كــادت أن تبلغ مبلــغ القطع, وإليهــا اســنتد العلمـاء في تقعيـد القـاعـدة الفقهيـة الكبـرى القطعيـة «العـادة محكمـة» والتي ثبت باسـتقراء نصـوص الكتــاب والسنــة وتصـرفـات الصحـابـة وعلمـاء الأمـة.

وممـا يــدعـم الاحتكــام إلى العـرف من جهـة الواقـع هو هـذا الاختلاف الحـاصـل في الأحـوال البشـريـة, فـلو حــدد الشــرغ جميـع الأحكـام والمقـاديـر ولم يتـرك مســاحـة للاختلاف المـوجـود بـين البلدان والأقـوام والأزمــان لدخــل الحــرج على المكلفيـن وصعبت عليهــم الاســـتجـابـة لتطبيق الشــريعـة وانتفت بذلـك مقـاصـد الشــرع؛ ولأن القــول بالاحتكــام إلى أعــراف النمــوذج التطبيقـي الأول (أي العـرب في عهـد التنــزيـل) لا يستقيـم مطلقًـا, ذلـك أن أعـرف النمــوذج الأول صالحــة لفهــم الخطـاب؛ لأن عليـه أنـزل, ولكـن على مســتوى تطبيق الأحكـام فالأمـر مختلف؛ لذلـك اتفقت كلمــة العلمــاء على «أن العـادتيـن متى كـانتـا في بلديـن ليسـتا سـواء أن حكمهمـا ليس سـواء»(85).

وعلى هـذا فالمجتهـد ســواء كـان مفتيـاً أو قـاضيًـا أو إمـامًـا ينبغي له أن يعلــم عـوائـد وأعـراف أهـل البلـد أو أهـل المهنـة أو المؤسسـة التي يريـد تنــزيـل الحكــم على المكلفيــن التـابعيـن لهـا, قال القـرافي : «ينبغـي للمفـتي إذا ورد عليـه مستفت لا يعلـم أنـه مـن أهـل البلـد الذي منــه المفتــي ومـوضع الفتيـا, أي لا يفتيــه بمــا عـادتـه يفتي حتى يســأله عن بلـده, وهـل حـدث لهـم عـرف في ذلـك البلد في هـذا اللفظ اللغـوي أم لا ؟ وإن كـان اللفظ عـرفًّيــا فهــل عـرف ذلـك البلـد مـوافق لهـذا البلـد في عـرفــه أم لا ؟ وهـذا أمــر متعــين واجب لا يختلف فيــه العلمـاء»(86).

وإذا ثبتت مشــروعيــة اعتبـار العـوائـد والأعـراف وضـرورتـه الواقعيــة خـدمــة لتطبيق الشــريعــة, فــإن العلمــاء اشـترطـوا لذلـك شــروطـًــا ينبغــي التحقيق في تـوفرهـا في الأعـراف المـراد تحكيمهــا منهــا :

الاطـراد والغلبـة : بمعنـى أن تكـون هـذه العـادة المـراد تحكيمهــا منتشـرة ومتعـارف عليهــا وليست نـادره, قـال الســيوطـي : «إنمــا تعتــبر العــادة إذا اطــردت فــإن اضطــربت فلا وإن تعــارضت الظـنون في اعتبـارهــا فخلاف»(87).

وهـذا الاطـراد ينبغـي أن يعــرف بـأدلــة واقعيـة تستند في غـالبهــا إلى بحـوث اجتمـاعيـة تعتمـد طـرق الإحصــاء والاستقـراء.

ثـانيهــا : أن يكـون العــرف قـديمًــا غـير طـارىء قال الإمــام جـلال الديـن السـيوطـي (ت911هـ) : «العـرف الـذي تحمـل عليــه الألفـاظ إنمـا هو المقـارن السـابق دون المتــأخــر»(88), وقــال القـرافي : «والعـوائـد المتـأخـرة مطلقًـا لا تخصص, ولا تقيـد ومـا علمـت في ذلـك خلاقـاً»(89).

والـذي يطـالـع مؤلفـات الفقـه يـدرك أنه لم يتحـدث الســادة العلمــاء عن مسـالك التحقق من هـذيـن الشـرطيـن إلا في النـادر, وتبقــى خـاضعــة في الغـالب إلى معـرفـة الفقيـة وظنـه, وهـذا لا يســتقيـم مـع السعـي أهـل المقـاصـد إلى تحقيق القطـع أو غلبــة الظـن في مســـائلهــم؛ لذلـك هنـا نتســاءل عـن مـوقع علـم الاجتمـاع بمنـاهجـه وطـرائقـه في تحقيق هـذه الغـايـة, وخـاصــة أن الأعـراف والعـوائـد هي فعـل جمـاعـي أي من صلب مـوضـوع اشتغـال علمـاء الاجتمـاع.

6 ـــ النظــر في مـــآلات الأفعــال والدراســات المستقبليــة :

ومـن جـوانب المنــاط المقـاصـدي التي يشــترك فيهــا علم المقـاصـد مع أحـد فـروع العلـوم الإنســانيـة مـآلات الأفعـال؛ لمـا ثبت أن لهـا تــأثــيرًا على مجـرى الأحكــام الشـرعيـة, فاعتبـرهـا الشــارع ولم يهملهــا حتى تقـرر عنـد أهل المقـاصـد أن : «النظـر في مـآلات الأفعــال معتــبر مقصـود شـرعًـا كـانت الأفعـال مـوافقـة أو مخـالفـة»(90).

فهــذه قــاعـدة كــبرى وضـابط عـظيـم لتنــزيل جميـع أحكـام الشــريعـة, فمـراعـاة مــآل هـذه الأحكــام عنـد التطبيق من إحـد ركــائز الاجتهـاد التنــزيلي؛ ذلك أن الاعتنــاء بالثمـرة المقصـديـة هو الذي توجهـت إليـه أنظـار المجتهـديـن «فالمجتهـد لا يحكـم على فعـل من الأفعـال الصـادرة عن المكلفيـن بــالإقـدام أو بالإحجــام إلا بعـد نظـره إلى مــا يؤول إليــه ذلك الفعـل»(91), فالفعـل وإن اســتجمـع الأسبـاب والشـرائـط وانتفــاء المـوانـع فهـو معلق حتـى يتحقق في مـآلــه وقصـد المكلف فيــه, فقــد يســفر التحقيق في المــآل على مـانع من مـوانـع ذلك الفعـل, وهــذا الذي استــحضـر أهـل المقـاصـد في تطبيقـاتهـم ويحـدوهـم في ذلـك هَــمُّ الحفـاظ على الكليــات المقـاصـديــة, ذلك كثــيرًا من الأفعــال الجـزئيـة المفهـوم مـن ظــاهـرهـا الإذن, قـد تسفـر في مـآلهـا عن خـرف ولســع في الكليـات الثـابتـة.

وقـد اســتدل المقــاصـديـون على اعتبـار الشــرع للمــآل بـأدلـة كثـيرة تفيـد الاستقـراء التـام الـدال على قطعيــة هــذا الأصــل في الجملـــة وإن وقــع الخلاف في التفصيـل على مـا سيـأتي, ومن تلك الأدلـة :

ـــ الآيـات مـن القـرآن الكـريـم : كقـوله تعــالى : }وَلاَ تَسُـبُّوا الَّذِيِــنَ يَـدْعُـونَ مِنْ دُونِ اللَّــهِ فَيَسُـبُّـول اللَّــهَ عَـدْوًا بِغَيْــرِ عِلْــم{  (الأنعــام : 108), فحــرم الله سب آلهـة المشـركيـن ـــ مع كـون السب غيظًـا وحميـة لله وإهـانــه لآلهتهــم ـــ لكـونـه ذريعــة إلى سبهــم الله تعـالى(92).

وقـولـه تعـالى : }يَاأَيُّهَـا الَّذِينَ ءَامَنُـوا لاَ تَقُـولُـوا رَاعِنَـا وَقُـولُـوا انْظُـرْنَــا {(البقـرة : 104), نهــاهـم سـبحـانـه أن يقـولـوا هـذه الكلمــة ـــ مع قصـدهـم بهـا الخــير ـــ لئلا يكـون قـولهــم ذريعــة إلى التشبــه باليهــود في أقـوالهــم وسبهــم الله تعـالى(93). ومن القـرآن الكــريـم كثــير من هـذا المعنـى.

ومـن الوقــائـع النبـويــة : أن النبــي ـــ صّلى الله عليــه وسـلم ـــ امتنع عـن قتـل من ظهـر نفـاقــه, وقـال : «أخـاف أن يتحـدث النـاس أن محمـداً يقتـل أصحـابـه»(94)؛ وذلك لئلا يكـون ذريعـة إلى تنفير النـاس عنـه(95).

وحـديث الأعـرابي الـذي بــال في المسجـد أمـر النبــي ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ بتـركـه حتى يتـم بـولــه, وقـال : «لا تـزرمـوه»(96), وحـديث النهـي عن التشـديـد على النفس في العبـادة خـوفًـا من الانقطـاع(97)(98).

ومثــل هـذا كثــير, فقــد أحصــى القيــم تسعًــا وتســعيـن وجهًـا كلهـا دائـرة علـى أصــل اعتبــار المــآل, وانتهــى إلى القـول : «وبــاب سـد الذرائــع أحـد أربـاع النكليف»(99).

وإذا ثبت هـذا فــإن أهــل المقـاصــد اعتمــدوا قـواعـد بمثــابـة ضــوابط كليــة للخــوض في اعتبــار مــآلات الأفعــال عنــد التنــزيـل أهمهــا قـاعـدة سـد الذرائــع :

فــالذرائـع هــي الأمــر الـذي ظــاهـره الجــواز, إذا قـويت التهمــة في التطـرق بـه إلى الممنـوع»(100), أو هـي «عبــارة عن أمـر غــير ممنــوع لنفســه, يخــاف من ارتكـابـه الوقــوع في ممنــــوع»(101), أو بعبــارة المقــاصـدييـن : الذريعــة هي التـوسـل بمـا هـو مصلحـة إلى مفسـدة(102).

ومن هنـا يتقـرر أنـه في حـالـة تحقيق المـآل الممنـوع (أي المنـاط) لدى المجتهـد يطبق حكــم منــع الذريعــة لمـا فيهــا من إلحـاق خـلل بالمقـاصـد الشـرعيـة, فتـدخـل المجتهـد بهـذه القـاعـدة حمـايـة للمقـاصـد. وعمـومًـا يعتـبر المآل من أهــم أبعـاد المنـاط المقـاصـدي الـذي ينبغـي تحقيقــه, وهـو كمــال قـال الشـاطبي : «مجــال للمجتهـد صعب المـورد إلا أنـه عــذب المـذاق, محمـود الغب, جـار على مقـاصـد الشـريعـة»(103).

ولكــن التحقيق في المـآل إلى المفســدة أو إلى المصلحــة, لم تحـدد طـرائقـه في الفقـه وكـل مــا ذكــر هو قـوة التهمــة أو ظـن الفقيــه المبنــي على التخمــين والتقـديـر الفــردي, ولكـن لا شـيء عن التـوقعـات المبنيـة على الأرقــام والإحصــائيـات .. ألا يمكــن الاستفــادة من طـرائق الدراســات المســـتقبليـة وهـي الآن علــم قــائـم بذاتــه تســتنـد إليــه المـؤسسـات الكــبرى اقتصـاديـة كـانت أو سيـاسيـة أو غيرهـا ؟

مـن هـذا المنطـق نـرى أنــه لابـد مـن طـرق بـاب المستقبليـات, ذلـك العلـم الذي تطـور وأصبح ملاذ المؤسسـات الصغــرى والكبـرى على حـد ســواء بل أصبح هـم الـدولــة والمنظمــات العـالميــة في تقـريـر سيـاستهــا, وإذا نظـرنـا إلى وســائل هـذا العلـم في تحقيق نتـائجــه نجـد أنهــا ترجـع إلى جملـــة علـوم من إحصـائيــات وبحــوث اجتمـاعيـة ميـدانيـة واســتطلاعـات .. لا تعتـرف إلا بالأرقــام, وقـد حققـت هـذه العلـوم ثورة عظمـى بتطـور نظــم المعلـومـات وتـداول المعطيــات على نطــاق واســع, فالتســاؤل المـلح : لمـاذا لا نجعــل البحث المقـاصـدي بنفتح على علـوم أخـرى فيرتبط بالواقـع ويلامســه عير أرقـامـه ومعطيـاتـه ؟

والجـواب على هـذا السـؤال يقتضـي منـا تقـرير ضــرورة شــرعيـة وواقعيــة مفـادهــا أنـه ينبغــي الانتقــال من الوســائـل المعهــودة في تحقيق المنــاط كــالتخمـين والقـرائـن الضعيفـــة .. إلى الإحصــاء المضـبوط والاستقـراء الرقمـي, وبذلـك نفتــح نـافـذة واســعـة على علـم الإحصــائيـات, فيبنـي المجتهـد المقـاصـدي تنــزيلاتـه على معلــومـات مضـبوطـة, وبذلـك يتحقق المقصـد من الحكــم كجـلب المصــالح المحققــة ودفـع المفـاسـد المتـوقعـة ..

المطلب الثــاني : تصنيــف الواقعــة تصنيفًـا مقـاصـديًّـا :

تقـرر عنـد الراســخين أن المقــاصـد الشــرعيـة هي المعيــار الذي إليـه المحتكــم في تصــويب أو تخطئــة المجتهـديـن(104)؛ لذلـك أصبــح من الضـروري للمجتهـد بعـد تصــوره الواقعــة تصـورًا صحيحًـا أن يصنف هـذه الواقعــة تصنيفًـا يكـون أسـاسـه المقـاصـد الشـرعيـة, فالواقعــة إمــا أن يقـع تـأثيرهــا على عـامــة المكلفيـن أي الأمــة بأكملهــا فتكــون واقعــة عــامـة أو يقــع تأثيرهــا على آحــاد المكلفيـن أو فئـة خـاصـة وعلى صـور معــزولــة ونـادرة .. وقـد يقـع تـأثير الواقعــة على أمـر كلـي مـن مقـاصـد فتكـون كليــة أو يقـع تأثيرهـا على أمـر جـزئي فتكـون جـزئيـة.

وقـد يقــع تـأثــير الواقعــة على محلهــا الأول وينحصــر فيــه فهـي إذن قــاصـرة قـد يتجـاوز تـأثيرهــا المحـل الأول إلى محـل آخــر فتكــون متعـديـة.

ومن جهــة أخــرى فالواقعــة قــد تقـع حقيقـة وتنـــزل بصـاحبهــا وقـد تكـون مفترضــة ومتخيلــة من قبـل المجتهـد أو مـن قبـل المكلفيـن.

والواقعــة كـذلـك قـد تكــون مـن فعــل المكلف أي ذاتيـة وقـد تكـون أثـرًا من آثـار ظـروف مـوضـوعيـة خـارجـة عن مقـدور المكلف أو المكلفيــن الذيــن تتعلـق بهــم الأحكــام.

وعلى كـلًّ, فــإن نصـنيف الواقعــة بحسب العلاقـة مع المقـاصـد الشـرعيـة هو ضـابط كلي من ضـوابـط النظـر في الواقعـة, وفي هـذا المبحث تفصـيل لهـذه الأنـواع.

وللقيـام بهـذا العمــل التصنيفـي يحتــاج المجتهــد المقـاصـدي إلى الاســتعـانة بمنــاهج العلـوم الإنســانيـة, فمـثلاً للتـأكـد من عمـوم الواقعـة يحتـاج إلى بحث استقـرائي يثبت أن آثــار الواقعــة قــد أصــابت أو ستــصيب عمـوم المكلفيـن.

وللتـأكـد من كليــة الواقعـة ينبغــي تحـديـد المصلحــة أو المفســدة النـاتجــة عنهــا عن طـريق مختـص في ذلك, ومن ثـم معـرفـة أي نـوع من الكليــات المقـاصـديـة تـأثر بتلـك الواقعـة.

وفي هـذا الصـدد نبســط القــول عـن التصنيف المقـاصـدي للـوقـائع مع تـذييلهـا ببعـض أمثلـة المتقـدميـن.

1 ـــ الواقعـة بـين العمـوم والخصـوص :

أ ـــ الواقعــة العـامـة :

الواقعـة العـامـة بالاعتبــار المقـاصـدي هـي التي تعــم أغـلب المكلفيــن, فالتـأثــير يقـع على عمـومهــم إمـا بالضـرر العــام أو بالنفــع العـام؛ إذ هـي إمــا أن تكـون سـببـاً لمفســدة عـامـة ينبغـي درؤهــا أو سببًـا لمصلحـة عـامـة يجب جلبهــا .. ومثـال ذلك المجـاعـة العـامـة, والحـرب الشــاملـة, والكــوارث وســائر الحـوائـج العـامــة, وقـد وقــع مثــل هـذا في تـاريخ الأمـة الإســلاميــة, كـالمجــاعــة عـام الرمــادة في عهـد الفـــاروق عمـر ـــ رضي الله عنــه ـــ, وكهجــوم المغـول والتتـار, وكالاستعمــار الحديث .. فهـذه كلهـا وقــائع عـامـة تحتـاج إلى نظــر اجتهـادي مقــاصـدي صــادر عن أهلــــه, وقـد افــترض العلمــاء وقـوع مثـل هـذه الوقــائع وبعــض آثـارهـا على عمــوم الأمـة, كـالذي توقعـه إمـام الحـرميـن الجـويني مـن أهـل المقـاصـد, ومن ذلـك :

ـــ إطبــاق الحــرام الأرض, قـال فيهــا الجـوينـي : «إن الحـرام إذا طبـق الزمـان وأهلـه ولم يجــدوا إلى طلب الحلال سـبيلاً, فلهــم أن يـأخـذوا منــه قـدر الحـاجـة, ولا يشــترط الضــرورة التي نرعـاهـا في إحـلال الميتـة في حقـوق آحــاد النــاس, بل الحـاجـة في حق النـاس كـافـة تنـزب منـزلـة الضـرورة في حق الواحـد المضطــر لو صــابر ضـرورتـه ولم يتعـاط الميتــة لهلك, ولـو صــابر النــاس حـاجتهــم وتعـدوهــا إلى الضــرورة لهلك النـاس قاطبـة, ففي تعــدي الكـافــة الحـاجـة من خـوف الهـلاك مـا في تعـدي الضـرورة في حق الآحـاد فـافهمــوا ترشــدوا, بل لـو هـلـك واحـد لم يـؤد هلاكـــه إلى خــرم الأمـور الكليـة الدنيـويــة والدينيــة … »(105).

وفي هــذا المثــال للجـوينـي لابـد مـن ملاحظــة أمـريـن : أحـدهمـا : أن الواقعــة العـامـة قـد تحتـاج إلى نظـر أعمق من النظـر في الوقـائع الخـاصـة, ذلـك أن عمــوم تـأثيرهــا يـوجــه كثـيرًا من القـواعــد من النـاحيــة التطبيقيــة كقـاعـدة الضــرورات المعتبـر في حق آحـاد الأفـراد, حيث تنـزل الحـاجـات منـزلتهــا في حق الكـافـة, والأمـر الثـاني : أن أهـل المقـاصـد كـانـوا أوســع نظـرًت من غـيرهــم حيث كـان هـاجس الكليـات المقـاصـديـة حــاضـرًا في توقعــاتهـم إذ لم يســووا بين الضـرورات في حـق الآحــاد من المكلفيـن والضــرورات في حق المكلفيـن عـامــة بنـاء على اختـلاف درجـة التـأثيـر «الأمــور الكليــة».

وعـن هـذا عبّـر إمــام الحـرمـين بقـولـه : «ونحـن على اضطــرار مـن عقـولنــا نعــلـم أن الشــرع لم يـرد بمــا يؤدي إلى بوار أهـل الدنيــا, ثــم حـق آحــاد من النـاس في وقــائع نــادرة أن ينتهــوا إلى الضـرورة, فليس في اشــتراط ذلك مـا يجـر فســادًا في الأمـور الكليـة»(106).

لذلـك ثبت مـن قـواعـدهــم : «وجـوب ضبـط المصـالح العـامـة»(107), وعليـه عظمــوا منصب الإمـام وسـعوا إلى الحفـاظ على شــوكـة الدولــة وقـوتهـا, وقـد ذهــب الشــاطبي أيضًـا إلى تـوقع مــا يمكـن إدخـالـه في الوقــائع العـامـة التـي تحتــاج إلى نظــر مقـاصـدي :

قـال أبـو إسحـاق الشــاطبــي : «إنـا إذا قـررنــا إمـامًــا مطـاعًــا مفتقــراً إلى تكثيـر الجنـود لســد الثغـور وحمـايـة الملك المتســع الأقطــار, وخـلا بيـت المــال, وارتفعت حـاجـات الجنـد إلى مـا لا يكفيهـم, فالإمــام إذا كــان عـدلاً أن يـوظـف على الأغنيـاء مـا يراه كـافًيــا لهـم في الحـال .. وجـه المصلحـة هنــا ظــاهـر, فـإنـه لو لم يفعــل الإمــام ذلك النظـام بطلت شــوكـة الإمـام, وصــارت ديارنا عـرضــة لاستيلاء الكفـار. وإنمــا نظــام ذلـك كلــه شــوكـو الإمــام بعـدلـه. فالذيـن يحـذرون مـن الدواهـي لـو تنقطــع عنهــم الشـوكـة, يســـتحقـرون بالإضـافــة إليهــا أمـوالهـم كلهــا, فضـلاً عن اليسير منهـا, فـإذا عـورض هـذا الضـرر العظــيم بــالضـرر اللاحق لهـم بـأخـذ البعـض من أمـوالهــم, فلا يتمــارى في ترجيـح الثـاني عـن الأول. وهـو ممـا يعـلم من مقصــود الشــرع قبـل النظـر في الشـواهـد»(108), انتهـى كـلام الشـاطبي وقـد ذكــر أن هـذه المســألة أوردهــا قبلـه الغـزالي وابـن العـربي(109), وهـذه التـوقعــات مـوجـودة في كتب أهـل المقـاصـد وأخضعـوهــا للنظـر المقـاصـدي وبحثـوا لهـا عن حـلول يدرؤون بهــا المفـاسـد العـامـة ويجلبـون بهـا المصـالح العـامـة.

ومـن الوقــائع العـامـة أيضًــا التي افتـرضهــا أهـل المقـاصــد «خـلو الزمـان عن المفتيـن»(110), ذلـك أن عــامــة المكلفيـن في حـاجـة إلى معـرفـة حكــم الله تعـالى قبــل الإحجــام أو الإقــدام على أفعــالهــم, فهــم إذن في أمـس الحـاجـة إلى الفتـوى, فغيــاب أهلهــا يلحق ضـرراً دينيًّـا بعـامـة المكلفيـن.

والـواضــح أن الضــابـط في اعتبــار الواقعــة عـامـة هـو عمـوم تـأثـيرهـا المقـاصـدي على المكلفيـن ولا يخـرج عنـه أحـدهـم إلا نــادرًا, وهـذا العمــوم وإن ظهــر توقــع نـوازلـه بكثــرة عنـد المقــاصـديين المتـأخـريـن فـإنــه معتــبر أصلاً عنـد الصحـابـة والأئمــة المجتهـديـن, ومـن ذلـك مــا اعتمــده أمــير المؤمنـين عمـر رضـي الله عنــه في توجيــه حكــم الســارق عـام المجـاعـة العـامـة ..

ومـن ذلـك أيضًـا الأصــل المعتمـد عنـد الأحنــاف في رد العمــل ببعــض أخبــار الآحـاد وهـو أصـل «عمـوم البلوى», قـال الحنفيــة : «فـإذا كـانت الحـادثــة ممـا تعـم به البلـوى فالظــاهـر أن صـاحب الشــرع لم يتـركوا نقلــه على وجـه الاستفـاضـة, فحيـن لم يشــتهـر النقـل عنهــم عـرفنـا أنـه سهـو أو منسـوخ, ألا تـرى أن المتـأخـريـن لمـا نقلـوه اشــتهـر فيهـم, فلـو كـان ثـابتًـا في المتقـدميـن لاشــتهـر أيضًـا ومــا تفـرد الواحـد بنقلـه مع حـاجـة العـامـة إلى معـرفتـه …»(111).

وفي هـذا السـياق ردوا خـبر (الوضـوء من مس الذكــر)(112)؛ لتفـرد مكلف واحـد بنقلـه(113).

ب ـــ الواقعــة الخـاصـة :

هـي تلك النـازلـة التي تخص في أثـارهـا أو متعلقهـا آحــاد المكلفيـن أو مجمـوعـة خـاصـة مـن المكلفيـن, وهــي في الغـالب على قسمـين :

أحـدهمـا : متعلقــة بالشخـص «فيمــا بينـه وبيـن نفسـه في عبـادتـه أو عـادتـه»(114), أي الجـانب العبـادي أو العـادي «الشخــصي» الفــردي, والواقعــة المتعلقــة بــه يتكفـل بهـا المفتـي حيث يمــارس الاجتهـاد في مجـال المنـاط الخــاص(115). إذ التحقـيق «لابـد منــه بالنســبة إلى كـل نـاظـر وحـاكـم ومفت بل بالنسبـة إلى كـل مكلـف في نفسـه ..»(116).

والقســم الثـاني من الوقـائـع التي يمكـن اعتبـارهــا خـاصـة هـو مـا «يتعلق بـه فصـل قضــية بيـن خصميـن»(117), أي الجـانب العلائقي بيـن المكلفيـن فيمــا بينهــم, وفي الغـالب يرجـع فيـه أمـر تـنــزيل الحكــم إلى المجتهـد ـــ القـاضـي.

والحـاصـل أن ضـابط الوقـائع الخـاصــة من النـاحيـة المقـاصـديـة هـو أنهــا راجعــة إلى حفـظ المصـالح الخـاصـة, ولا تـأثـير لهـا على المصـالح العـامـة إلا إذا عمـت وانتشــرت فتتحـول من الخصـوص إلى العمــوم.

2ـــ الواقعــة بين الكـي والجـزئي :

أ ـــ الواقعـة الكليـة :

هـي كـل حـادثـة أو فعــل للمكلف لـه تـأثــير على المقـاصـد الكليــة الضـروريـة خـاصـة كـالديـن والنفس والنسـل والعقـل والمــال, والتـأثير قـد يكـون ســلبيًّـا وقـد يكـون إيجـابيًّـا ..

والأمثلـــة على الوقــائع الكليــة في الشــريعـة كثــيرة لا تحصـى, ومن مشهـورهـا مـا وقــع في عهـد الصحـابـة رضـوان الله عليهـم, ومن ذلـك :

ـــ قضيــة الزكــاة الـتي مسـت مبـاشـرة بكـلي الدين؛ لذلـك سعـى أبـو بكــر ـــ رضي الله عنــه ـــ لقتـال أصحـابهـا و «لم يعتــبر إلا إقـامـة الملـة على حسب مـا هـي عليـه فكـان ذلـك أصلاً في أنـه لا يعتــبر العـوارض الطـارئـة في إقـامـة الديــن وشــعـائر الإســلام»(118), أي الكليـات المقـاصـديـة.

ــــ واقعــة قتـل الجمــاعـة للـواحـد التي مست كـلي النفس ووقـع فيهــا التحـايـل لأجـل التهـرب من القصـاص لذلك أوقع الفـاروق عمـر القصـاص على الجمـاعـة, واعتبـر أهـل المقـاصـد أن «وجـه المصلحـة ــ في ذلـك ـــ أن القتيــل معصــوم, وقـد قتــل عمـدًا, فـــإهـداره داع إلى خــرم أصـل القصـاص واتخـاذ الاستعـانـة والاشتــراك ذريعــة إلى السعــي بـالقتل إذ علـم أنـه لا قصـاص فيه …»(119).

ـــ مقــتل القـراء باليمـامــة في عهـد أبي بكـر ـــ رضي الله عنـه ـــ : هي واقعـــة كليـــة مســت كلي الديـن وأصـلــه وهـو القـرآن لذلـك قـال عمـر :

إني أخشــي أن يســتحـر القتـل بالقـراء في المـواطـن ملهــا فيـذهب قـرآن كثـير

(120), فكـان الحكــم الإمـامي بـوجـوب جمـع القـرآن درءًا للخـلل المتـوقـع في الكـلي.

وإن أردنــا إحصــاء الوقــائع الصحـابيــة المخـرجــة على الكليــات لوجـدنــا أنهـا كثـيرة.

والأمثلــة الملحقــة بهـا أيضًــا لا متنـاهيـة العـدد ومنهـا الردة, وتـرك الصـلاة والزكـاة عمـدًا وجحــودًا, وقتـل النفس عمـدًا والزنــا وسـرقــة الأمـوال وهجـوم الكفـار …

وقـد نـأهـل المقـاصـد علـى التمــييز بـين الجـزئـي والكـلي في الوقــائع, فعنـد حـديث الإمــام الشـاطبــي عـن البـدع, قسـمهـا «إلى مـا هـي كليــة في الشــريعـة وإلى جـزئيـة, ومعنـى ذلك أن يكـون الخـلل الواقـع بـسبب البـدعـة كليًّـا في الشـريعـة, كبـدعـــة التحســين والتقبيـح العقلييـن, وبـدعـة إنكـار الأخبـار السنيـة اقتصـاراً علـى القـرآن … ومـا أشبـه ذلك من البـدع التي لا تختص فرعًـا من فـروع الشـريعــة دون فـرع, بـل ستجـدهــا تنتظــم مـا لا ينحصـر من الفـروع الجـزئيـة»(121). ومـن الوقــائع الكليــة في هـذا العصـر : الاســتعمـار الذي أتي على الكليــات, وكـذلـك الغـزو الثقـافي التغـريبــي, ومن آثــار العلمـانيـة التي حــاولت فصـل الشـريعـة عن حكـم الواقـع …

ب ـــ الواقعــة الجـزئيـة :

وهي النـازلـة التي تنـــزل بالمكلف ويكـون لهــا أثــر على جـزئي مــا مــن جـزئيـات الشـريعـة, كـإيقـاع الصغــائر ومـن أمثلتــه : تهــاون أحـد المكلفيـن في إقـامـة سـنن من السنن أو تفـريطـه جـزئيًّـا في بعض فـروض الكفــايـة أو «ســرقـة لقمــة أو التطفيــف بحبـــة»(122)… ويـدخــل في هـذا البـاب مـا سمــاه الشــاطبــي بـــ «البـدع الجـزئيـة»(123).

والضــابط لجـزئيــة الواقعــة هـو أن كـل حـادثــة تمـس جـزئيًّـا من جـزئيـات الشـريعــة ولم تؤد إلى خـرم الكليـات المقـاصـديـة فهـي حـادثـة جـزئيـة.

3 ـــ الواقعــة بين القصـور والتعـدي :

الواقعــة باعتبــار إمكـان توسعهــا وعـدمـه من حيث التـأثير على المقـاصـد الشـرعيـة إمـا متعـدية أو قـاصـرة.

أ ـــ الواقعـة المتعـديـة :

هي الواقعــة التي يقـع تـأثيرهـا على محـل ويتعــدى إلى محـل آخــر حتــى يتــوســـع ويشمــل محـال أخــرى والضـابط لكـل هـذا أن التعـدي في الواقعــة يعنـي أن لهـا بعـدًا مـآليًـا, فـإن وقعت في مكـان معـين أو زمـان معـين ومتعلقــة بمكـلف معـين وأثـرت على جـزئـي معـين فـإنهــا تتـوســع إلى أمكنــة وأزمنـة ومكلفيـن آخـريـن ويتســع تـأثيرهــا ليمــس الكـلي بعـد مـا كـان منحـصـراً في جـزئـي. وهـذا النـوع من الوقـائع يرجـع إلى مــآلات الأفعــال وقـد ثبت عنـد أهــل المقــاصـد «أن النظــر في مـآلات الأفعــال معتــبر مقصــود شــرعًـا كـانت الأفعـال مـوافقـة أو مخـالفــة»(124), وقـولـه كـذلـك : «لــولا قـومـك حـديث عهـدهــم بكفــر لأسست البيت على قـواعـد إبراهيـم»(125). وحـديث النهـي عـن التشــديـد على النفس في العبـادة خـوفًـا من الانقطــاع(126).

ومـن الوقــائع الصحـابيــة قـد مــرت النـوازل ذات البعـد المــآلي كقتـل الجمـاعـة للواحــد, ومنع الزكــاة … وهنـاك وقــائع أخـرى في المنحـى نفســه كبيـوع الآجـال الـتي منعهـا مـالك رحمـه الله, وإقـامـة الحـدود في الأراضـي المتـاحمــة للعـدو عنـد الأحنــاف فــإن «ذلـك ينفــر القـلوب, ويفــرق الكلمــة, ويـوجب الدخـول لدار الحـرب والردة…»(127).

فـإذا تمـت معــرفــة الواقعـة المتعـديــة فـإنهـا في حـاجـة إلى نظـر المجتهـد لتـوجيـه حكمهــا كـي يقـع علاجًــا ويضع حـدًّا لتـوســيع آثـارهــا برفع «الخـلل المتـوقـع» بعبــارة المقـاصـديين.

ب ـــ الواقعــة القـاصـرة :

ضـابطهــا أن تـأثيرهـا منحصـر في محلهـا الأول ولا تـأثــير لديهــا مــآلاً من نـاحيــة المقــاصـد الشــرعيـة, كـالواقعــة التي لا تتجـاوز آحـاد المكلفيـن مثـلاً في عبـادتهـم أو تصـرفـاتهـم العـاديــة, كتكــاســل أحـد المكلفيـن ممـن ليســوا مـن أهـل القـدوة عـن بعـض التكــاليف في بعـض الأحـوال. وكـالمبتـدع في جـزئي مـن جـزئيـات الديـن, غــير الداعــي إلى بـدعتـــه. وكخصــام شـــخصيـن على قضيــة جـزئيــة خصـامًـا بسيطًـا … والوقـائـع في هـذا الصـدد كثيرة.

4 ـــ الواقعــة بين الوقـوع والافتـراض :

النـازلــة باعتبـار وقـوعهـا وعـدمـه على قسـميـن : إمــا واقعـة ومجسـدة في الخـارج أو متـوقعـة ومفتـرضــة, فقـد قــال أحـد أئمــة المقـاصـد : «وتحققت أن كـل عبـد هـو في مجـاري أحـوالـه في يـومـه وليلتـه لا يخـلو مـن وقـائـع في عبـادتــه ومعـاملاتـه عـن تجـدد لوازم عليـه فيلـزمـه السـؤال عـن كـل مـا يقـع له مـن النــوادر ويلـزمـه المبـادرة إلى تعلــم مـا يتـوقع وقـوعـه على القـرب غـالبًـا»(128).

أ ـــ النـازلـة الواقعـة :

هـي التـي تجســدت في الواقـع وتتطـلب حكمًـا شــرعيًّــا لـرفـع المفــاسـد الواقعـة, وجـلب المصـالح النـاتجـة عنهــا والنظـر إلى النـازلــة من هـذه النـاحيـة ينقســم إلى مـا قبـل الوقــوع وإلى مــا بعــده. فقـد قــال الشـاطبي : «أمـا قبـل وقـوعهـا ـــ الواقعــة ـــ فبــأن توقــع على وفق الدليــل»(129), فلا ينبغــي إيقــاع الفعـل إلا علـى الوجـه المـوافق للشـرع لتفـادي حصـول المفـاســد ولجلب المصـالح على أتـم وجـه.

أمــا بعــد الوقـوع, فـالنظـر ينصـرف إلى حـالـة المخـالفــة الشــرعيـة وإعمــال مـا من شــأنـه تفــادي الأضــرار الواقعــة, قــال الشــاطبــي أيضًـا : «وأمــا بعـد وقـوعهــا فليتلافى الأمــر ويســتدرك الخطــأ الـواقـع فيهــا بحيث يغلب على الظـن أو يقـع بـأن ذلك قصـد الشــارع»(130).

ب ـــ الواقعــة المفتـرضــة :

هـي الواقعــة التي لم تقــع حقيقــة وإنمــا تـم افتـراضهــا وتـوقعهــا مـن قبــل المجتهـد, وقـد اختلـف الأئمــة حــول افتـراض الوقــائع, والجـواب على مـا لم يقــع على قـولين :

ـــ فقــد ذهـب المتقـدمـون مـن الصحـابـة والتـابعين وبعـض الأئمــة المجتهـديـن إلى كـراهــة الســؤال عمــا لم يقــع أو افتـراض الوقــائع «ورأوا أن الاشــتغـال بذلـك من لغـلو والتعمـق في الديـن»(131), وقـد حكــى عن كثـير منهـم «أنـه كـان لا يتكـلم فيمـا لم يقـع, وكـان بعـض السلف إذا سـأله الرجــل عن مســألة قـال : هـل كـان ذلـك ؟ فـإن قـال : نعــم, تكلف لــه الجـواب, وإلا قــال : دعنــا في عـافيــة»(132), فكــان مـالك ـــ رضي الله عنــه ـــ «يكــره فقـه العـراقيين وأحـوالهــم لإيغـالهـم في المســائل وكثــرة نفـريعهــم في الرأي»(133), وإلى هـذا ذهـب الإمــام أحمـد(134).

ـــ القــول الثـاني : مفــاده حــواز الخـوض في الوقــائـع المتـوقعــة وافتـراضهــا والتفـريع عليهــا, وهـو مـذهب أبـي حنيفــة, وقـد اشـتهـر بـه وتـوســع فيـه فـأفـاد العلمــاء كثــيراً في التفـريع والتمثيـل الفقهـي, وقـد مـال إلى هـذا القـول جمــع من العلمـاء المتـأخـريـن من الشـافعيـة والمـالكيــة.

وهكـذا فبالرغــم من أن الأوائل عـزفـوا عـن الخـوض في هـذا النــوع من الفقــه واشتهــر به أبو حنيفـة فـأصبح هو مـؤسس الفقـه التقـديري(135), فـإن جـل الفقهـاء بعـده تـابعـوه ففـرضـوا المســائل وقـدروا وقـوعهــا ثـم بينــوا أحكـامهــا(136).

وبعــد إيـراد هـذيـن القـولــين في المســألـة لابـد مـن إيـراد بيــان مقــاصـدي يروم التـوفيـق بتـوضـيح وجـاهــة كلام الـرأييـن بالاعتبــار المقصــدي التطبيقــي. ونلخـص ذلك في أمـريـن :

الأمــر الأول : مفــاده أن المتقـدمـين وعلى رأسهــم مـالك رحمـه الله كـانـوا يتـورعـون على الجـواب عـن وقـائع لم تقـع, وهـم مقـاصـد وفقـه عملي متحـرك في الواقـع. وإنمـا كـن ذلـك لمحـذوريـن :

أولهمــا : أن الواقعــة إذا لـم تقـع, فـإنهــا في عـداد الغيب الذي يجهــل عنهــا كـل شـيء, عـن المنــاط المنـاسب لهـا وعـن خصـوصيـاتهـا وعـن تصنيفهــا المقــاصـدي فضـلاً عن تصـورهــا تصـورًا صحيحًـا.

فكيف يتصــور تنــزيل حكــم تكليفي على واقعـة مجهـولـة الحـال والخصـوصيـات, فالقـاعـدة ـــ كمــا مـرت ـــ أنـه حتى ولـو وقعـت ولم يتصــورهــا المجتهـد تصـوراً صحيحًـا ولم يصنفهــا مقـاصـديًّا لا ينبغــي له الكلام فيهــا البتــة, وربمــا كـان هـذا دافـع مالـك في الجـواب «بلا أدري» في مســائل كثـيرة, ولا نظـن أن عملـه قصـر عن إيجـاد الجـواب فكـان يتربث ويســأل عن تفـاصـيل الوقـائع عنـدمــا تعـرض عليـه ويبقي أيـامـاً لا يجيب.

والمحـذور الثــاني : هـو أن مالكًــا ربمــا كـان يخـشي أن يتخـذ الخـوض في المســائل الواقعـة وغـير الواقعـة ذريعــة إلى التسيب في الاستفتـاء والفتـوى؛ وذلـك باختلاق وقـائع والبحث عن أحكـامهــا ومـا يتبع ذلـك مـن ولـوج المتطفليـن الميـدان بغــير اســتحقـاق, ومن ثـم ذهــاب هيبـة العلـم والتفلت من سيـادة الشـريعـة.

والأمــر الثـاني مفــاده أن أبـا حنيفــة (مؤسـس الفقـه التقـديري الافتـراضـي) كـان يعيش في بيئـة تتـزايـد فيهــا الوقــائع بســرعـة نظـرًا لمفــاتـن الحضــارة التي كـانت تنـمو وتتطـور آنـذاك في العـراق, مع مــا ينضـاف إلى ذلـك مـن دخــول جـديـد لشــعوب أعجميــة في الإســلام حـاملة إليـه مشــاكلهـا وعـاداتهـا وتقـاليـدهــا؛ لذلـك كــان لـزامًـا على العـراقيين (الأحنـاف) أن يتـوسعـوا في إثــارة المســائل و «تقـدير وقـوعهـا وفـرض أحكـامهـا إمـا بالقيـاس على مـا وقـع وإمــا بانـدراجهــا في العمـوم مثلاً, فـزاد الفقـه نمـوًّا وعظمــة وصــار أعظــم من ذي قبل»(137), فـبرعـوا في استيعـاب الوقـائع وتنــزيل الأحكــام ومـراعـاة المقـاصـد.

وإلى هــذا التـوفيـق ذهـب بعـض أهـل المقـاصـد, قــال ابـن القيــم : «والحـق التفصـيـل, فـإن كـان في المســألـة نص مـن كتـاب الله أو سنــة عـن رســولـه الله ـــ صّلى الله عليــه وســلم ـــ أو أثـر عـن الصحـابـة لـم يكـره الكـلام فيهـا, وإن لـم يكــن فيهــا نـص ولا أثــر, فــإن كـانت بعيـدة الوقـوع أو مقـدرة لا تقـع لـم يســتحب لــه الكـلام فيهــا, وإن كـان وقـوعهــا غــير نــادر ولا مســتبعـد(138), وغـرض السـائـل الإحـاطــة بعلمهــا ليكـون منهـا على بصـيرة إذا وقعـت اسـتحب لـه الجـواب بمـا يعلـم, لا سيمـا إن كـان السـائل يتفقـه بـذلـك ويعتـبر بهــا نظـائرهــا …»(139).

ومــن كــلام ابــن القيــم نخـلص إلى تصنيف آخـر للـوقـائـع مفــاده أن الواقعـة إمــا أن تمتـلك أصـلاً في عهــد النــزول أو لا, فــإن امتلـكت أصـلاً فحكمهــا وإن كــان مقـررًا فــإن النظــر يقــع علـى منـاطـه أي علـى المحـل, فــإنــه وإن ثبت «الحكــم بمـدركــه الشــرعــي لكـن يبقـى النظــر في تعـيين محـلــه»(140), ولا يمكــن التقليــد هنــا «لأن التقـليــد إنمــا يتصـور بعـد تحقـيق منـاط الحكــم المقلـد فيــه, والمنـاط هنــا لم يتحـقق بعـد لأن كـل صـورة من صـور النـازلـة نـازلـة مسـتأنفــة في نفسهــا ولم يتقـدم لهـا نظـير وإن تقـدم لهـا في نفـس الأمـر فلــم يتقــدم لنــا فلابـد من النظــر فيهــا بالاجتهــاد»(141).

وحتـى لو فـرض أن هـذه الواقعــة مثـل الأصليـة «فلابـد من النظــر في كـونهــا مثلهــا أو لا, وهـو نظـر اجتهـاد أيضًـا»(142).

وأمــا إن كـانت الواقعـة لا تمتلـك أصـلاً فهـي على نـوعيـن : واقعـة أو غـير واقعـة.

فــإن كــانت واقعــة فتحتــاج إلى تصـورهــا ومعـرفتهــا وتصنيفهــا مقـاصـديًّـا والبحث عن حكمهـا.

وإن كــانت غــير واقعــة فـإمـا ممكنــة الوقـوع أو مسـتحيلـة الوقـوع, فـإن كـانت مســتحيلة الوقـوع فيمنــع البحث فيهــا, وعلى ذلك يحمــل كلام المتقـدميـن.

وإن كـانت ممكنـة الوقـوع فنحتــاج إلى نظــر واحتيـاط واســتعـداد وتـدرب على البحث عـن نظـائرهــا وتـوخـي حلهـا, فمـن هنــا اتخـذ الفقــه التقـديري مشــروعيتــه وتـوســع وأنتج تلك الثــورة الفقهيــة الواســعة التي أصبحت مـلاذًا للمفتيـن والفقهـاء والقضـاة … وطلاب العلـم.

وقـد أصبح هـذا النـوع من الفقـه اليـوم مفيـدًا من وجهـين مهميـن :

أحـدهمــا : أنــه مفيـد مجـد في جـانب التنظير القــانوني؛ إذ بـه يمكـن التـوصــل إلى إنشــاء منظــومــة قـانونيــة قابلـة للتطبيق, وهـذا مـا أكــده الواقـع في تطـور مـذهب الأحنـاف حـى تـوصــل إلى أول مشــروع قـانـونـي متمثــل في مجلـة الأحكــام العـدليـة.

الوجـه الثـاني : أن الفقـه التقـديري مفيـد في الاحتيـاط واسـتشراف المسـتقبـل, وهـذا مـا تطـور اليــوم وأصبح علمًــا قـائمًــا بذاتـه يسمـى «الدراسـات المستقبليـة» استفـادت منــه الدول الكـبرى وأسستـه على تـوقـع الوقــائع من خـلال معلومـات مضبـوطــة.. وبنت عليــه خططهــا وبـرامجهــا, فحـري بعلمــاء المسلميـن أن يلجـوا ميـدان الاجتهـاد مســايريـن الوقــائع المتســارعـة ومتـوقعـين قضـايـا المســتقبـل في إطــار روم حفـظ الكليـات المقـاصـديــة, وقـد أومــأت بعـض عبــارات أهـل المقـاصـد إلى هـذا, فـأشــاروا إلى «درء الاختلال الواقــع أو المتـوقـع»(143)في المقـاصـد الشـرعيـة.

وفي ختــام هـذا المبحـث نخـلص إلى نتيجـة مهمــة مفــادهــا أن تنــزيـل الأحكــام الشــرعيـة متـوقف على تحقـيق المنــاط المقـاصـدي بجميـع أبعـاده من معـرفـة دقيقـة بالواقعــة, وتصنيفهــا تصنيفًــا مقـاصـديًّــا, وهـذا بـدوره يتـوقف على جملــة مســالك يعـود بعضهــا إلى علـوم الظـاهـرة الإنســانيـة كعــلم النفــس إلى علــم الاجتمــاع, والدراســات المستقبليـة, وقـد تطـورت هـذه العلــوم بتطــور نظــم المعلـومــات والإحصـائيـات وطـرق البحث الميـداني .. فـلا ضــير أن تفتح أبـوتب علـم المقـاصـد أمــام الاستفـادة من منـاهج هـذه العلـوم مع ضـوابـط يتــم بحثهـا من قبل أهـل العلـم.

المبحـث الثـالث : إشكـاليــات التـواصـل بين علـم المقـاصـد والعلـوم الإنســانيـة :

تقف عـدة إشــكـاليـات حـواجـز أمــام التـواصــل المطلــوب بـين علـم المقـاصـد والعلـوم الإنسـانيـة, فبــالرغــم من الاشـتراك في مـوضـوع البحث وهـو الظــاهـرة الإنســانيـة أي المكلف بعبـارة المقـاصـديين, فـإنــه مـا زالت هنـاك بعـض العقبـات التي تحتـاج إلى تـذليـل كـي يـزول تخـوف السـادة الفقهــاء من الخـوض في الاســتعـانـة بهـذه العلـوم من أجـل تحقيق منــاط مســائلهـم, ويـأتي على رأس هـذه المســائـل أمـور منهــا : النســبيـة, وطبيعــة المنـاهج, وشــخصيـة البـاحـث في العـلوم الإنسـانيـة …, وفي مـا يـلي ســوف نلقي نظــرة مـوجـزة على مســألتي النســبية وشــخصيـة البـاحث محــاوليـن الكشف على مكمـن التخـوف في هـذيـن الأمـريـن.

1 ـــ النسبيـة :

معلــوم أن قضيــة النســبيـة إشكــال مطــروح حتـى بالنســبة للعلـوم الدقيقـة التي تتعـامل مـع المـادة غـير الواعيــة (الجـامـدة) والمنضبطـة بقـوانيـن فيـزيـائيــة دقيقـة, ومــا زالت النظــريـات تنقض بعضهــا البعـض والنــادر القليـل منــه هـو الذي يرتقـي إلى مصـاف القـواعـد, فكيف بعلـوم مـوضـوع دراسـتهـا الظـاهـرة الإنســانيـة الواعيــة التى تتغـير في الغـالب دون أن تخضـع لقــانـون ضــابط؛ لذلـك مــا زالت النظــريـات متضــاربـة فيمــا يخـص حـركـة المجتمعـات البشــريـة هـل هي خــاضعــة لقـانـون أم لا ؟ ومـا ذلـك إلا لأن هنــاك نســبيـة كبيرة في البحـوث والنتـائج المتـوصـل إليهـا لا يسـمح لهـا بالارتقـاء إلى مســتوى قـواعـد العلـوم الدقيقـة.

وأمــا هـذه النسبيـة تحفظ كثــير من أهـل المقـاصـد في إخضـاع فتــاواهـم وأعمـالهـم العلميــة لأمـور غـير مسـتقرة وغــير يقينيـة, وهنــا لابـد من حـل للإشــكـال وذلـك بتحـديـد الثـابت والمتغــير في هـذه العلـوم مع الاســتعـانة مـا أمكـن بالتكميـم ولغـة الأرقــام لتقليص مسـاحـة الخطـأ الممكـن, وعلى أي تبقـي المعلـومـات والتوقعــات المبنيــة على أرقــام ووســائل الإحصــاء المعـاصـرة أفضـل بكثــير من ظـن الفقيـه المبني على التخمين والتقـديـر الفـردي.

2 ـــ شخصـية البـاحث :

إن مجـال العلـوم الإنســانيـة مـن بيـن المجـالات التي يصعـب فيهــا إيجــاد مســافـة فاصـلــة بين ذاتيـة البـاحث ومـوضـوع بحثـه, وذلـك يرجــع بالأســاس إلى أن الظــاهـرة الإنســانيـة هي مـوضـوع الـدرس من قبل الإنســان نفسـه, فقلمــا يســلم الباحث من تـأثير طبـائعــه النفســيى وبيئتـه الاجتمـاعيـة على طـريقــة بحثــه ونتـائجهـا, وبهـذا يختـل شــرط المـوضـوعيـة المـوجـود إلى حـد ما في العلـوم البحتــه؛ لذلـك قبلت نتـائج تلك العلـوم عنـد الفقهــاء بسهــوله بينمــا مـا زالت نتــائج العلـوم الإنســانيـة تعــاني المقـاطعـة إن لـم تســلم من المحـاربـة لتـأثرهــا بسـلطـة مـرجعيـة(144)غيـر بعيـدة من الحضـارة المنتجـة وخصـوصيـاتهـا.

وقـد تنبــه العلمــاء قـديمــاً في معـرض الحـديث عـن محـقق المنــاط لتحـديـد بعـض شــروطـه التي تمنعـه من السقـوط في حبـائل أغـراضــه الذاتيـــة وإكــراهـات بيئتــه الاجتمــاعيـة.

ويمكـن حصــر هـذه الشــروط في ثلاثــة أقســام :

أحـدهـــا : أن يكــون متخصصًــا في مـوضـوع التحقيق, ويثبت هـذا التخصـص بشتـى أنـواع الإثبـات, كالشـواهــد العلميـة والشهـود والاستفـاضــة ومـا إلى ذلك, فمـن ثـم أجــازوا تقليـد القـائف لاختصـاصـه في ذلـك(145).

الثـاني : أن يكـون عـالًمـا بالمـوضـوع على مـا هـو عليــه(146), ولايشــترط فيــه بلـوغ درجــة الاجتهــاد الشــرعي إلا إذا كـان المـوضـوع المحقق شــرعيًّـا كصــاحب المنـاط الخـاص الدقيــق, قـال الشـاطبــي : «فــإن المنــاط لا يلـزم منــه أن يكــون ثـابتًـا بـدليـل شـرعـي فقـط بل يثبت بـدليـل غـير شــرعـي أو بغـير دليـل فلا يشــترط فيـه بلـوغ درجــة الاجتهــاد بل لا يشـترط فيــه العلـم فضـلاً عن درجـة الاجتهــاد(147)», والعـلم المقصـود هنـا هو العلـم الشـرعـي.

ـــ القســم الثـاني : الشــروط الخلقيـة الدينيــة : وهـي متمثـلة في وصف العـدالـة, فـاشــترط مـالك العـدالـة في القـائف الجـائز تقليــده(149), وعليــه يقــاس أغلب محققـي المنــاط مـن أهـل العلـوم المعـاصـرة؛ لأن العــدالــة وصف بــه تجتنب جميــع أنـواع التـدليسـات والكـذب ومـا إلى ذلـك مـن طـرق قلب الحقــائق, فهـي وصف واق لعمليــة التحقيق من دخــول الأهـواء, ولذلـك اشــترطـت الشــريعــة العـدالـة في كثـير من الوظــائف لتـوقف مصــالح كــبرى عليهــا.

وفي هـذا الصـدد تـوصــل الإمــام القـرافي إلى قـاعـدة نفسـية في التمـييز بيـن مـا يشـترط فيـه العـدالـة ومـا لا يشــترط فيــه, واعتمـد فيهــا المعيــار المقـاصـدي أي معيـار الانتمـاء إلى القـواعــد الثـلاث : الضـروريــات, والحـاجـات, والتحسينيـات, وقـال في هـذا البـاب : «قـد تقـرر في أصـول الفقــه أن المصــالح إمــا في محـل الضـروريـات أو في محـل الحـاجيـات أو في محـل التتمـات … والفرق ههنـا مبني على هـذه القـاعـدة, فـإن اشــتراط العـدالـة في التصــرفـات مصلحـة لحصــول الضبط بهــا وعـدم الانضبــاط مع الفسقـة ومـن لا يوثق به. فاشتـراط العـدالـة إمـا في محـل الضـرورات كـالشـهـادات فـإن الضـرورة تـدعـو لحفـظ دمــاء النـــاس وأمـوالهــم وأبضــاعهـم وأعـراضـهـم عن الضيـاع, فـلـو قبــل فيهــا قـول الفسـقـة ومـن لا يـوثق بـه لضـاعت, وكـذلـك الولايـات كـالإمـامـة والقضـاء … وأمـا محـل الحـاجـات كـإمـامـة الصـلاة فـإن الأئمـة شفــاء فيشــترط فيهــم العـدالــة وكـذلـك المـؤذنــون المـؤذنـون الذيـن يعتمــد على أقولهــم في دخــول الأوقــات وإيقــاع الصـلوات …»(150).

وأمــا مـا وقـع في محـل التحسينيـات فـروى فيهــا القـرافي الخـلاف حـيث اشــترط مـالك العـدالـة ولـم يشــترطهــا الشــافعـي …»(151).

ـــ القســـم الثــالث : ويتلخــص في شــرط التعـدد وهـو مختلف فيه, فهنــاك من اشــتراط اثنيـن, وروي ذلـك عن مـالـك(152)قيـاسًـا على الشهــادة, وشــددوا في هـذا الشــرط خـاصــة في إثبـات الحـقـوق عنـد القضـاة(153). وهـو فيهــا جـار على الأصــل, وهنــاك من لـم يشــترط العـدد بل اكتفـى بـواحـد قيـاسًــا على الروايـة(154).

إذا ثبتـت هـذه الأقســام الثلاثــة مـن الشــروط فـإن هنــاك بعض المـواضـع أجـازوا فيهــا عنـد الضـرورة تحقيق الكـافـر والصبي(155), أي أنهـم قبلــوا بتخلــف الشــروط كـالعـدالـة والبلـوغ.

وعلى أي يتلخـص مـن كـل هـذا أن محققـي المنـاط إذا استجمعـوا هـذه الشـروط يجـوز تقليـدهــم والبنـاء على معلـومـاتهــم, وأن ذلـك محـل اتفــاق بـين العلمــاء بنـاء على أدلـة كثيـرة.

خـاتمـة :

إن علــم المقـاصــد كمــا أسسـه العلمـاء المتقـدمـون كــالجـويني والغــزالي, وقعــده الشــاطبـــي قـد بقـي غضًــا طـريًّـا ينتظــر الاســتثمـار, فالهيكــل المخــترع مـن قبــل  صــاحب المـوافقــات مــا زال قــابـلاً لاســتيعـاب المـزيـد من المبــاحث الخـادمـة للاجتهــاد الفقهــي, ومع الأســف درج أغلب البـاحثيـن المعـاصـريـن على اجتـرار مـا أسسـه الأوائــل دون إضـافـة تــأخـذ بعـين الاعتبــار مســـتجـدات الواقــع المعــاصـر وعلـومــه المتطــورة نـاســين المطلب الذي رامـه المتقـدمـون وهـو الانتقــال من القيـاس الجـزئي إلى المقـاصـد الكليـة؛ لإيجـاد الحـلول المنـاسبــة للوقــائع المتغـيرة والتـوســع في مفهــوم تحـقيق المنـاط حيث أصبح يطلق على جميـع مــا يتعـلق بالبحث في الواقــع بجميــع أبعـاده النفســية والاجتمــاعيــة والاقتصــاديـة والمـآليـة … ومن ثـم أصبحت الحـاجـة ملحـة للتـواصــل مـع العـلوم الإنســانيـة للـوفــاء بالمقصــود, وتنــزيـل الأحكــام على الواقـع على بصيرة ويقين, من هـذا المنطلق نهيب بـأهـل النظــر من علمــاء الأمــة التنبــه لهـذا المســلك الوجيــه, والقيـام بمـا يجب لأجـل إعطــاء فقهنــا المصــداقيــة أمــام التطـورات التشــريعيــة المعـاصـرة, وعلى الله قصـد السبيـل.

***

الهــوامــش

(1) مـدرس بالكـليـة متعـددة التخصصـات بتـازة ـــ المملكـة المغـربيـة.

(2) فصـل المقـال فيمــا بين الحكمـة والشـريعـة من لتصـل, ص67.

(3) لسـان العـرب 7 /418.

(4) المصـدر نفسـه 7 /418.

(5) المصـدر نفســه 7 /418.

(6) المصـدر نفسـه 7 /420.

(7) المصبــاح المنيـر للفيـومـي, ص241 مـادة «نـوط».

(8) المستصفـى ص : 281, وانظــر الإحكــام اللآمـدى 3 /264.

(9) البرهـان للجـوينـي 2 /542.

(10)   الذخـيرة للإمـام القـرافي 2 /518.

(11)   الإحكــام في تمييـز الفتـاوى عـن الأحكـام ص : 90.

(12)   الذخيـرة 10 /86 و 1 /149.

(13)   الاعتصــام 2 /387 وقـال الشـاطبي كـذلـك في معنـى تحقيق المنـاط : «أن يثبت الحكـم بمـدركـه الشـرعي لكـي يبقى النظــر في تعيين محلـه» المـوافقـات 4 /65.

(14)   المـوافقـات 4 /66.

(15)   المصـدر نفسـه 4 /67.

(16)   مستفــاد من مبحث المبـاح في المـوافقـات حيث قـال الشـاطبي : « … فالمبـاح ـــ كغيـره من الأفعــال ـــ لـه أركـان وشـروط ومـوانـع, ولو احق تـراعي» المـوافقـات 1 /81.

(17)   القـامـوس المحيـط 1 /892.

(18)   القــامـوس المحيـط 1 /892.

(19)   الإحكـام للآمـدى 3 /264.

(20)   الإحكــام 3 /264, وانظــر المسـتصفى ص : 281.

(21)   الإحكــام 3 /264.

(22)   المـوافقـات 4 /65.

(23)   الاعتصــام 3 /161.

(24)   المصـدر نفســه 4 /70.

(25)   المستصفى ص : 281.

(26)   الإحكــام 3 /264.

(27)   المـوافقـات 4 /64 ــ 65.

(28)   المـوافقـات 4 /67.

(29)   المصـدر نفسـه 4 /74.

(30)   المصـدر نفسـه 4 /74.

(31)   المصـدر نفسـه 4 /70.

(32)   المصـدر نفسـه 4 /70.

(33)   المصـدر نفسـه 4 /70.

(34)   المصـدر نفسـه 4 /70.

(35)   المصـدر نفسـه 4 /71.

(36)   المصـدر نفســه 4 /67.

(37)   لسـان العـرب لابن منظـور 8 /402.

(38)   المصـدر نفسـه 11 /659.

(39)   المفـرادات في ألفـاظ القـرآن للراغب الأصفهـاني ص : 124.

(40)   أصـول السـرخســي 2 /139.

(41)   إعــلام المـوقعيـن لابـن قيـم الجـوزيـة 4 /230.

(42)   بـدايـة المجتهـد ونهـايـة المقتصـد لابـن رشـد 1 /1.

(43)   قــال ابـن القيــم «لا يتمثــل المفتي ولا الحـاكـم مـن الفتـوى والحكـم بـالحق إلا بنـوعين من الفهــم أحـدهمـا : فهـم الواقـع والفقـه فيـه .. والنـوع الثـاني : فهـم الواجب في الواقـع» إعـلام المـوقعيـن 1 /69.

(44)   هـو أبـو بكـر محمـد بن عــاصـم : قـاضـي الأنـدلس أخـذ عن شــيوخ مشــهـوريـن كـابـن لب والشـاطبي وابن جـزي وغيرهـم. وألف في الأصــول والقـراءات والفـرائض والنحـو, ولـه «العـاصميــة» المشهــورة في القضـاء بـ «تحفـة الحـكـام». انظــر شــرح ميـارة الفـاسي على تحفـة الحكـام (1/4).

(45)   إحكــام الأحكــام على تحفـة الأحكـام للشيخ بن يـوسف الكـافي ص 15.

(46)   المصـدر نفســه.

(47)   انظــر مصــادر السيـرة النبـويـة : ابـن هشــام ص 145 ــ 175, ابن سعـد 2 /1 ــ 5.

(48)   الذخـيرة للإمـام القـرافي 1 /141.

(49)   المصـدر نفسـه 1 /142.

(50)   هـذا القـول للعلامـة التبريزي, أورده القـرافي في النفـائس 8 /3531.

(51)   المـوافقـات 2 /209.

(52)   المـوافقـات 2 /246.

(53)   المصـدر نفسـه 2 /246.

(54)   المصـدر نفسـه 2 /246.

(55)   الأشبـاه والنظـائـر السيوطـى ص : 9, كـذلك قـواعـد الأحكـام للعـز بن عبـد السـلام 1 /150.

(56)   قـواعـد الأحكـام 1 /151.

(57)   المـوافقـات 2 /250.

(58)   الإحكـام في تمييـز الفتـاوى عن الأحكـام وتصـرفـات القـاضـي والإمــام القـرافي ص : 237.

(59)   المصـدر نفسـه 2 /301.

(60)   المصـدر نفسـه 4 /145.

(61)   المصـدر نفسـه 4 /145.

(62)   هـذا القصـد هـو منـاط حكـم المنـع.

(63)   عـرفـوه في علـم القضــاء بـأنه : «خـبر يوجب حكـم صـدق قـائله فقـط بلفـظه» قـال العلامــة ابـن عـرفـة : إحكــام الأحكــام للكـافي ص : 253.

(64)   الإحكــام للقـرافي ص : 237.

(65)   القبس في شـرح مـوطــأ مـالك ابـن أنس لأبي بكـر بن العـربي 2 /749 ــ 750.

(66)   الإشـراف في مســائل الخلاف 1 /275.

(67)   النكـول معنـاه رفض الحلف.

(68)   الطـرق الحكميـة في السيـاسـة الشـرعيـة لابن قيـم الجـوزيـة, ص : 77.

(69)   تبصـرة الحكـام لابن فرحـون 2 /104.

(70)   المصبـاح المنيـر للفيومـي ص : 178.

(71)   التعـريفـات للجـرجـاني ص : 166.

(72)   تبصـرة ابن فـرحـون 2 /114.

(73)   الطـرق الحكيمـة من ص : 19 إلى ص 41.

(74)   الجـامع لأحكــام القـرآن للقـرطبي 10 /49.

(75)   المصـدر نفسـه 10 /50.

(76)   العلمـانيـة أو فلسفـة مـوت الإنسـان, د. محسن الميلي, ص 110.

(77)   فقـد قـال الله تعـالى : }إنَّ الإنْسَــانّ خُـلِقَ هَـلُـوعًــا (19) إَذَا مَسَّـــهُ الشَّــرًّ جَـزُوعًــا (20) وَإِذا مَسَّـــهُ الْخَـبْرُ مَنُوعـاً (21) {(المعـارج : 19 ـــ 21).

(78)   أخـرجـه البخـاري في كتـاب الأحكـام, بـاب هـل يقضـي أو يفتي وهـو غضبـان رقـم 6652.

(79)   رواه مسـلم في صحيحـه, كتـاب المسـاجـد ومـواضـع الصـلاة, بـاب كـراهيـة الصلاة بحضـرة الطعـام.

(80)   المـوافقـات 4 /20.

(81)   الميـزان الكبـري للإمـام عبـد الوهـاب الشعـراني 1 /9.

(82)   التقليـن للقـاضي عبـد الوهـاب ص : 51.

(83)   المصـدر نفسـه ص : 87.

(84)   إعـلام المـوقعيـن 3 /17 ــ 18.

(85)   الإحكــام للقـرافي ص : 232.

(86)   المصـدر نفسـه ص : 232.

(87)   الأشبـاه والنظـائر للسيـوطـي, ص 65.

(88)   المصـدر نفســه ص : 68.

(89)   النفـائس 5 /2145.

(90)   المـوافقـات 4 /140.

(91)   المصـدر نفسـه 4 /140.

(92)   إعـلام المـوقعـين 3 /110.

(93)   المصـدر نفسـه 3 /110.

(94)   أخـرجـه البخـاري : طتـاب البخـاري, بـاب ما ينهـى من دعـوة الجـاهليـة, رقـم : 3257.

(95)   إعـلام المـوقعيـن 3 /111.

(96)   رواه البخـاري في الصحيح, كتـاب العبـادات, باب الطهـارة, حـديث رقـم 212.

(97)   المـوافقـات 4 /143.

(98)   والحـديث رواه البخـاري في كتـاب الإيمـان, باب أحب الديـن إلى الله عـز وجـل أدومـه, حـديث رقـم 41.

(99)   إعـلام المـوقعيـن 3 /126.

(100)   الإشــراف 1 /275.

(101)   الجـامع لأحكـام القـرآن للقـرطبي 2 /57 ــ 58.

(102)   المـوافقـات 4 /144.

(103)   المصـدر نفسـه 4 /141.

(104)   من بيـن الأسـباب الكبـرى التى ذكـرهـا الشـاطبي للخطـأ في الاجتهـاد «الغفلـة عن اعتبــار مـقـاصـد الشـرع في ذلك المعنـى الذي اجتهـد فيه» المـوافقـات 4 /126. وقـال أيضـا «إن الإصـابـة إنمـا هـي بمـوافقـة قصــد الشــارع, وأن الخطـأ بمخـالفتـه» المـوافقـات 4 /92.

(105)   غيــاث الأمـم للإمــام الجـويني, ص : 295, انظـر كـذلـك الذخيـرة 13 /321, والاعتصــام 2 /361.

(106)   الغيـاثي ص : 195.

(107)   الذخيرة 13 /234.

(108)   الاعتصــام 2 /358.

(109)   المصـدر نفسـه 2 /359.

(110)   الغيـاثي ص : 269.

(111)   أصـول السـرخسـي 1 /276 ومفتـاح الوصـول للشـريف التلمسـاني, ص 269, والذخيرة 1 /222.

(112)   أخـرجـه مالك في كتــاب الطهـارة, باب الوضـوء من مس الذكـر من حـديث بسـرة بنت صفـوان.

(113)   أصــول السـرخـسي 1 /276, وفيـه أن «بسـرة تفـردت بروايتـه مـع عمـوم الحـاجـة لهـم إلى معـرفتـه».

(114)   المـوافقـات 4 /97.

(115)   المصـدر نفسـه 4 /67.

(116)   المصـدر نفسـه 4 /67.

(117)   المصـدر نفسـه 4 /98.

(118)   الاعتصــام 2 /512.

(119)   المصـدر نفسـه 2 /361.

(120)   الاعتصـام : 2 /354, وقـول عمـر ـــ رضـي الله عنـه ـــ رواه البخـاري في كتـاب فضـائل القـرآن, بـاب جمـع القـرآن.

(121)   الاعتصـام 2 /313.

(122)   المصـدر نفسـه 2 /317.

(123)   المصـدر نفسـه 2 /317.

(124)   المـوافقـات 4 /140.

(125)   أخـرجـه التـرمذي, كتـاب تفسيـر القـرآن عن رسـول الله, باب ومن سـورة المنـافقين.

(126)   رواه مسـلم في باب الحج 2 /968.

(127)   الحـديث قـولــه : «خـذوا مـن العمـل مـا تطيقـون, فــإن الله لا يمـل حتـى تمـلوا» أخــرجــه البخــاري, كتـاب الرقــاق, بـاب القصـد والمـداومــة, حـديث رقـم 5984.

(128)   الذخـيرة 3 /411 وقـد ذكـر الشـاطبي قضيـة زالـة العـالم «إذا لم تتعـد لغــيرة ـــ في حكـم زلـة العـالم, فلـم يزد فيهــا على غيـره, فـإن تعتـد إلى غيره اختلف حكمهـا» المـوافقـات 1 /99.

(129)   إحيـاء عـلوم الديـن للغـزالي 1 /16.

(130)   المـوافقـات 3 /57.

(131)   المصـدر نفسـه 3 /57.

(132)   الفكــر السـامي في تـاريخ الفقـه الإســلامي للحجـوي الثعـالبـي 2 /420 ـــ 421.

(133)   إعـلام المـوقعيـن 4 /170.

(134)   المـوافقـات 4 /235, وقــال المقـري في قـواعـده : «قــاعـدة : يكـره تكثــير الفـروض النــادرة  والاشتغـال عـن حفـظ نصـوص الكتـاب والسنـة والتفقـه فيهمــا بحفـظ آراء الرجـال والاستنبـاط منهـا, والبنـاء عليهـا, وبتـدقيق المبـاحث, وتقـدير النـوازل» 2 /467, وانظـر مـوقف مالك في الجـامع لأحكـام القـرآن للقـرطبي 6 /312.

(135)   أعـلام المـوقعيـن 4 /170.

(136)   قـالوا إنـه وضـع ستيـن ألف مســألة, وقيـل ثلاثمـائة ألف مســألة, انظــر الفكــر السـامي 2 /419.

(137)   الفكــر السـامي 2 /419.

(138)   المصـدر نفســه 2 /419.

(139)   قـال حجــة الإســلام : «… أن لا ينـاظـر إلا في مســألة واقعــة الوقـوع غـالبًـا, فـإن الصحـابـة رضي الله عنهــم مـا تشــاوروا إلا فيمــا تجـدد من الوقـائع أو يغلب وقـوعـه كـالفـرائض» الإحيــاء 1 /43.

(140)   إعلام المـوقعيـن 4 /170.

(141)   المـوافقـات 4 /65.

(142)   المصـدر نفسـه 4 /66.

(143)   المصـدر نفســه 4 /66.

(144)   المـوافقـات 2 /7.

(145)   انظــر العلمـانيـة, ص107.

(146)   الذخـيرة 1 /141, وقـال كـذلك في ضـرورة الاختصـاص : «يقلـد المـلاح في القبلـة إذا خفيت أدلتهــا وكـان عـدلاً دريًّـا بالسـير في البحـر».

(147)   ورد كـذلك في الذخيـرة 1 /141 : «ويجـوز تقليـد التـاجـر في قيـم المتلفـات» ومـا ذلـك إلا لمعـرفتـه ودربتـه بالقيــم. وانظـر المـوافقـات حيث قـال : «قـد يتعلق الاجتهـاد بتحقيق المنــاط فلا يفتقـر في ذلـك إلى العلـم بمقـاصـد الشـرع, كمــا أنـه لا يفتقـر فيـه إلى معـرفـة علـم العربيـة؛ لأن المقصـود من هـذا الاجتهـاد إنمــا هو العـلم بالمـوضـوع على مـا هـو عليـه, وإنمـا يفتقـر فيـه إلى العلـم بمـا لا يعـرف ذلك المـوضـوع إلا بــه من حيث قصـدت المعـرفـة به, فلابـد أن يكـون المجتهـد عـارفًـا ومجتهـدًا من تلك الجهـة التي ينظـر فيهــا …» 4 /119 ـــ 120.

(148)   الاعتصــام 3 /161.

(149)   الذخيـرة 1 /141.

(150)   الفـروق للقـرافي 3 /34 ـــ 35.

(151)   المصـدر نفسـه 3 /35.

(152)   الذخيرة 1 /141.

(153)   انظــر الفـروق 1 /6, في الفـرق بين الروايـة والشهـادة.

(154)   انظــر كـذلـك الفـروق 1 /6 فمـا بعـدهـا.

ورد في الذخــيرة 1 /142 : «ويجــوز عنــده ـــ أي مــالك ـــ تقليــد الصبي والأنثــي والكــافـر والواحــد في الهـديــة والاسـتئذان».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر