كلمة التحرير

الإسلام والوطنية

العدد 97

الإسلام، هو دين الله الواحد، الذي أوحاه إلى رسله وأنبيائه، منذ أن بدأت الرسالات السماوية وحتى ختامها بمحمد صلى الله عليه وسلم.. وفيه اتحدت العقيدة مع تمايز الشرائع، عبادات ومعاملات..

أما الوطنية، فهي المشاعر والروابط الفطرية _ والتي تنمو بالاكتساب _ لتشد الإنسان إلى الوطن الذي استوطنه وتوطن فيه..

والوطن في اصطلاح العربية _ كما جاء في [اللسان] لابن منظور _ هو «المنزل الذي يمثل موطن الإنسان ومحله.. ووَطَنَ بالمكان، وأَوطن : أقام، متخذًا إياه محلاًّ وسكنًا يقيم فيه..» ولا يغير من علاقة الوطنية التى تربط الإنسان بوطنه، إقامته _ الاختيارية أو القسرية _ في مواطن أخرى غير وطنه الأصلى.. وقديمًا قال الشاعر ابن برّى :

كيما ترى أهل العراق أننى

أوطنت أرضًا لم تكن من وطنى

وإذا كانت العربية، وتراثها النثرى والشعرى، قد عرفت مصطلح «الوطن» منذ فجر هذا التراث، فإن القرآن الكريم يلفت أنظارنا إلى أن العربية تعبر عن الوطن، أيضًا، بمصطلح «الديار» {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين}(1).. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِين}(2) .. ولذلك شاع في التراث الإسلامي التعبير عن الوطن الإسلامي بدار الإسلام وديار الإسلام… وتعددت التآليف التى كتبت في الوطنية تحت عناوين «المنازل والديار» و«الديارات» !..

أما السنة النبوية، فلقد جمعت بعض أحاديثها بين مصطلحى «الوطن» و«الدار» : «هي وطني ودارى»(3).. وجمع بعضها الآخر بين مصطلحى «الوطن» و« البلاد» : « ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم..»(4).

وإذا كانت معاجم العربية لم تقف فقط عند التعريف اللغوي للوطن، وإنما أشارت أيضًا إلى فطرة الوطنية التى تجمع، بالحب، بين الإنسان ووطنه.. وذلك على النحــــو الذي رأينــاه في [[أساس البلاغة] _ الزمخشرى _ حيث يقول عن فطرة الوطنية وحب الوطن : «وكُلٌّ يحب وطنه وأوطانه ومواطنه»!.. فإن التعريف الشرعى للوطن يشير هو الآخر إلى هذا المعنى «فالوطن الأصلى، عند أهل الشرع، يسمى بالأهلى، ووطن الفطرة والقرار، وفيه يكون مولـــد الإنسان ومأهله ومنشأه»(5)..

وإذا كان الانتماء الأول والأكبر والأساسي، بالنسبة للمسلم، هو إلى الإسلام وأمته، وإلى دار الإسلام وحضارته {قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِه وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(6).. {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم}(7).. فإن تخيير المسلم بين الانتماء للإسلام وبين هذه الدوائر الأخرى للانتماء لايكون إلا في حالات قيام التعارض أو التناقض والتضاد بين الانتماء إلى الإسلام _كانتماء جامع وأول _ وبين الانتماءات الأخرى _ كدوائر فرعية _ أما إذا اتسقت دوائر الانتماء في فكرية الإنسان، وتكاملت في ممارساته الحياتية فلن يكون هناك تناقض في الفكر والعمل الإسلاميين بين كل دوائر الانتماء الفطرى للإنسان..

بل إن الأمر في علاقة الانتماء الإسلامي الوطني لَيتعدى حدود «نفى التناقض» إلى دائرة «الامتزاج والارتباط».

فلأن الإسلام منهاج شامل لمملكة السماء وعالم الغيب وللعمران البشرى وسياسة وتدبير عالم الشهادة، فإن إقامته كدين لا تتأتى إلا في واقع ووطن ومكان وجغرافيا.. وهذا الواقع والوطن والمكان والجغرافيا لن يكون إسلاميًّا إلا إذا أصبح الانتماء الوطنى فيه بعدًا من أبعاد الانتماء الإسلامي العام.. فعبقرية المكان، في المحيط الإسلامي، هي واحدة من تجليات الإسلام الذي لا تكتمل إقامته بغير الوطن والمكان والجغرافيا !.. ومن هنا تأتي ضرورة الوطن لإقامة «دنيا الإسلام» وعمرانه، وضرورة الدين، ليكون الوطن إسلاميًّا وتتحقق إسلامية عمرانه، أي ضرورة أن يكون الانتماء الوطني _ الوطنية _ درجة من درجات سلم انتماء المسلم إلى الإسلام، كجامع أكبر وأول لأبعاد ودوائر الانتماء.. فالإسلام هو الذي يستدعى ويتطلب وجود الوطن والوطنية ؛ لأنه لا تكتمل إقامته دون وطن يتجسد فيه.. فليس هو بالدين الذي تكتمل إقامته «بالخلاص الفردي».. كما أن «خلاص» المسلم و« تقدمه» لا يمكن إلا أن يكون إسلاميًّا !..

وهذه الحقيقة الإسلامية هي التى ميزت مذهب الإسلام في « حدود» الوطن و« نطاقه»، فعلى حين وقفت مذاهب وفلسفات عند «حدود العرق»، فإن الإسلام قد رفض هذا المعيار الجاهلي ؛ لأن رب الناس واحد، وأباهم واحد، والتقوى والاستباق في الخيرات هي معايير التفاضل بين الناس.. وعلى حين وقفت مذاهب وفلسفات في رسم حدود الوطن عند « اللغة» وحدها، فإن الإسلام قد جعل العربية لسان الدين، وسبيل الدولة والعقل المسلم لفقه الدين والاجتهاد فيه، فلم يعرف التناقض بين آفاق الدين ونطاق اللغة العربية على وجه الخصوص..

وعلى حين اكتفت مذاهب وفلسفات، في تحديد حدود الوطن «بجغرافيا الإقليم »، فإن الإسلام قد سلك الجغرافيا والأقاليم في سلك ديار الإسلام، تلك التى وحدتها العقيدة والشريعة والأمة والحضارة، مع التمايز في القبائل والشعوب والأوطان والأقوام.. فاجتمعت في منظومته كل من العالمية والأممية مع الوطنيات والقوميات، دونما تناقض أو تعارض أو عداء.

وهذه الحقيقة _ في علاقة الإسلام بالوطنية _ هي التى جعلت للوطن والوطنية ذلك المقام العالى في ظل الانتماء الإسلامي الذي لا يقف عند حدود وطن بعينه ولا يتقيد بوطنية من الوطنيات دون سواها..

* فالقرآن الكريم يتحدث عن حب الإنسان لوطنه كمعادل وقرين لحب هذا الإنسان للحياة !.. ولذلك فالإخراج من الديار معادل ومساو للقتل الذي يخرج الإنسان من عداد الأحياء !.. {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}(8).

ومن بنود المواثيق التي أخذها الله على بعض الأمم، نتعلم أن الإخراج من الديار، والحرمان من الوطن، هو معادل لسفك الدماء والإخراج من الحياة : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُون َ(84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(9).

ولذلك، جعل القرآن الكريم «استقلال الوطن وحريته» الذي هو ثمرة لوطنية  أهله وبسالتهم في الدفاع عنه، جعل ذلك «حياة» لأهل هذا الوطن.. بينما عبر عن الذين فرطوا في الوطنية، ومن ثم في استقلال وطنهم بأنهم «أموات».. وجعل من عودة الروح الوطنية إلى الذين سبق لهم التفريط فيها، عودة لروح الحياة إلى الذين سبق وأصابهم الموت والموات ؟!..{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَـــمِيعٌ عَلِيمٌ}(10).

فالذين خرجوا من ديارهم – وليس الذين أُخرجوا – لضعف في وطنيتهم، جعلهم يحذرون الموت، هم أموات، مع أنهم ألوف يأكلون ويشربون !.. وعودة الوطنية إليهم، واستخلاصهم لوطنهم، هو إحياء لهم بعد الممات !..

ولقد رأى الأستاذ الإمام محمد عبده (1265 – 1323هـ – 1849 – 1905م) أن هذه الآية القرآنية إنما تتحدث عن سنة من سنن الله في الاجتماع البشري، ليس لها تحويل ولا تبديل، فحياة الأمم إنما تكون بحيوية وطنيتها التي تحافظ على استقلال وحياة أوطانها.. وموت هذه الأمم هو رهن بموات وطنيتها عندما تفرط في استقلال الوطن الذي تعيش فيه !.. فكتب – رحمه الله – في تفسيره لهذه الآية يقول:

«تلك سنة الله تعالى في الأمم التي تجبن فلا تدفع العادين عليها.. وحياة الأمم وموتها، في عرف الناس جميعهم، معروف، فمعنى موت أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم، وأزال استقلال أُمتهم، حتى صارت لا تعد أمة، بأن تفرق شملها، وذهبت جامعتها، فكل ما بقي من أفرادها خاضعين للغالبين ضائعين فيهم، مدغمين في غمارهم، لا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم، ومعنى حياتهم هو عودة الاستقلال إليهم !.. إن الجبن عن مدافعة الأعداء، وتسليم الديار بالهزيمة والفرار، هو الموت المحفوف بالخزي والعار، وإن الحياة العزيزة الطيبة هي الحياة المِلّيّة (الوطنية) – المحفوظة من عدوان المعتدين.. والقتال في سبيل الله.. أعم من القتال لأجل الدين ؛ لأنه يشمل أيضًا، الدفاع عن الحوزة إذا همّ الطامع المهاجم باغتصاب بلادنا والتمتع بخيرات أرضنا، أو أراد العدو الباغي إذلالنا، والعدوان على استقلالنا، ولو لم يكن ذلك لأجل فتنتنا عن ديننا.. فالقتال لحماية الحقيقة كالقتال لحماية الحق، كله جهاد في سبيل الله، ولقد اتفق الفقهاء على أن العدو إذا دخل دار الإسلام يكون قتاله فرض عين على كل المسلمين..»(11).

* وكما جعل الإسلام الوطنية التي تحفظ استقلال الوطن، قرين الحياة ومعادلها.. كذلك جعل هذه الوطنية قرين حرية الدعوة إلى الدين.. فكان الجهاد القتالي في الإسلام ردًّا ودفعًا لعدوان المعتدين على حرية الدعوة – بالفتنة في الدين – وعلى عدوان المعتدين الذي يخرج الناس من الأوطان ويقتلعهم من الديار.. في هذين السببين انحصرت شرعية ومشروعية فريضة الجهاد القتالي في الإسلام.. وعلى هذه الحقيقة تشهد آيات القرآن الكريم التي شرعت فريضة القتال لرد العدوان عن الدين.. وعن الوطن !..

فعندما «أَذِن» الله، سبحانه للمؤمنين في القتال، كان إخراجهم من ديارهم سببًا علل به القرآن الكريم هذا التطور الجديد، المتمثل في الإذن بالقتال.. {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُـرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(12).

وعندما تطور الحال من «الإذن» في القتال إلى «الأمر» به، جاء حديث القرآن الكريم أيضًا، فجعل الإخراج من الديار سببًا لقتال أولئك الذين أَخرجوا المسلمين من ديارهم {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِـــبُّ الْمُعْتَدِين َ(190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ }(13).

وعندما انتقل القرآن الكريم، في تشريعه للجهاد القتالي، من «أمر» المؤمنين به إلى حيث جعله «فريضة مكتوبة» عليهم، استمر حديثه عن إخراجهم من ديارهم، كسبب يوجب عليهم ويفرض قتال الأعداء : {كُتِبَ عَليكُمُ القِتَالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْألُونَكَ عَنِ الشهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِندَ اللهِ والفِتنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ استَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون}(14).

ثم تطّرد هذه الحقيقــــة القرآنيــــة _ الحديث عن الإخراج من الديار _ في كل مواطن الاستنفار للجهاد القتالي.. فالله يحدث رسوله عن صنيع مشركي مكة معه، وخياراتهم للمكر به {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِـــرِين}(15).. فالإخراج من الديار معادل للقتل.. وللسجن.. فجميعها تحرم الإنسان من السيادة على مقدرات الوطن الذي ينتمي إليه !..

وفي مقام استنفار المسلمين للقتال، يحدثهم القرآن عن إخراج المشركين للرسول، صلى الله عليه وسلم، من وطنه.. {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}(16).. {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(17).

وإذا كان المقام مقام الحديث عن المكانة التى أعدها الله للمؤمنين، كانت الإشارة إلى المكانة المتميزة للذين قاتلوا من أخرجوهم من ديارهم واقتلعوهم من أوطانهم.. {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابَ}(18) .

وعندما يكون الحديث عن أولويات الاختصاص بالفيء والمال، يُذَكِّر القرآن بالذين أصابهم الفقر بسبب الإخراج من الديار.. {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب. لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(19) .

هكذا يذكر القرآن الكريم _ عندما يتحدث عن الجهاد القتالي _ الإخراج من الديار، سببًا يجب من أجله القتال، وقضية يستنفر المؤمنين كي يقاتلوا لحلها، وذلك حتى يستردوا وطنهم الذي اقتُلعوا منه من بين براثن المعتدين.. بل ويجعل الإخراج من الديار والفتنة في الدين جماع أسباب الجهاد القتالي في الإسلام !.

وفي تشريع الإسلام لمعايير «الموالاة» و« المعاداة»، ولأسباب «الولاء» و«البراء » ولفلسفة العلاقـــــــــــــات _ الداخلية.. والدولية _ بين المؤمنين و«الآخرين».. يذكر القرآن الكريم، أيضًا، معياري « الإخراج من الديار » و«الفتنة في الدين» جماعًا لأسباب التمييز بين الأصدقاء _ الذين لهم البر والقسط _ وبين الأعداء _ الذين لا موالاة لهم، بل وعلينا أن نقاتلهم، حفاظًا على حرية الوطن، وحرية الدعوة إلى الدين.. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّـــبِيلَ}(20).

وفي آيات أخرى _ بذات السورة _ يحدثنا القرآن عمن تجوز مصادقته من المخالفين لنا في الدين، وعمن لا تجوز لنا مصادقته من هؤلاء المخالفين،.. فإذًا نحن مطالبون بألا نصادق ثلاث فئات :

أ _ الذين يقاتلوننا في الدين، بالحيلولة بيننا وبين حرية الدعوة وأمن الدعاة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

ب _ والذين يخرجون المسلمين أو بعضهم من ديارهم، على أي نحو كان هذا الإخراج، تهجيرًا بالاضطهاد، أو عزلاً عن امتلاك خيرات الوطن والتحكم في مقدراته.

ج _ والذين يُظاهرون، أي يساعدون على هذا الإخراج للمسلمين من الديار والأوطان.. على أي نحو كانت المظاهرة والمساعدة في القهر الوطنى من هؤلاء المظاهرين !..

{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونََ}(21).

فالوطنية فطرة إنسانية، معادلة للحياة.. وفقدها موت.. وهي _ مع الفتنة في الدين _ جماع أسباب مشروعية الجهاد القتالي في الإسلام.. وجماع معايير «الموالاة» و«المعاداة» أي «الولاء» و« البراء» في الشريعة الإسلامية.

وإذا كان فقهاء الأمة _ من كل مذاهبها.. وعلى مر تاريخها _قد اتفقوا _ وفق عبارة الإمام محمد عبده _ « على أن العدو إذا دخل دار الإسلام يكون قتاله فرض عين على كل المسلمين»..فإننا نستطيع أن نصنف عقيدة الجهاد الإسلامية، وتراثنا في آدابها ضمن « ديوان الوطنية الإسلامية».. وأن لا نقف في هذا التراث فقط عند ما أُلف _ وهو كثير _ في «الحنين إلى الأوطان »، و«المنازل والديار» فنحن أمام «عقيدة إسلامية» هي الجهاد قد جعلت حماية الوطن وحريته وتحريره «ذروة سنام الإسلام»، وأمام تراث في الجهاد _ فكرًا وممارسة _ يشهد على مكانته وخطره ما تمثله، حتى اليوم، كلمة «الجهاد» من تداعيات وذكريات وحسابات لدى كل القوى الطامعة في اغتصاب أرض الإسلام!.

ولا يحسبن أحد أن هذا «تراث» قد انقطعت معه خيوط اتصال عصرنا الحديث.. فكل حركات ودعوات التحرر الوطنى الحديثة في عالم الإسلام، قد نشأت إسلامية، أو وثيقة الصلة بالإسلام وعقيدة الجهاد فيه.. من السنوسية والمهدية.. إلى تيار الجامعة الإسلامية الذي قاده جمال الدين الأفعاني [1254 _ 1314هـ _ 1838 _ 1897م].. إلى الثورة العرابية _ في مصر _ [1298هـ _ 1881م].. إلى الحزب الوطني _ حزب الجامعة الإســلامية _ الذي قاده مصطفى كامل [1291 _ 1326هـ _ 1874 _ 1908م].. إلى الثورة المصريــــــــــة [1337هـ _ 1919م] التى انطلقت من  دور العبادة، والتى قادها تلميذ الأفغاني  ومحمد عبده : سعد زغلول [1273 _ 1346هـ _ 1857 _ 1927م].. إلى جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، وحزب الاستقلال في المغرب.. إلى ثورة العشرينيات في العراق _ إلى دعوات وجهاد القسام والحسينى في فلسطين.. وحتى حسن البنا [1324 _ 1368هـ 1906 _ 1949م] الذي تحدث عن الوطنية ومكانتها في فكر اليقظة الإسلامية المعاصرة فقال : « إن الإخوان المسلمين يحبون وطنهم، ويحرصون على وحدته، ولا يجدون غضاضة على أي إنسان أن يخلص لبلده، وأن يفنى في سبيل قومه، وأن يتمنى لوطنه كل مجد وفخار.. وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب رحمًا وجوارًا.. إننا مع دعاة الوطنية، بل مع غلاتهم في كل معانيها الصالحة التى تعود بالخير على البلاد والعباد.. فالوطنية لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام. أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخـوم الأرضيـة والحـدود الجغرافية..»(22).

فالإسلام لا يسقط تمايزات التخوم الأرضية والحدود الجغرافية _ أي التمايز الإقليمي _ للأوطان داخل ديار الإسلام _ بل يدعو الإنسان _ كما يقول الأستاذ البنا _ إلى « أن يخلص لبلده، وأن يفني في سبيل قومه.. وأن يتمنى لوطنه كل مجد وفخار.. وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب رحمًا وجوارًا.. » فقط تتميز الوطنية الإسلامية بأنها لا تجعل تخوم الأقاليم الوطنية نهاية آفاقها، وإنما تلك الأقاليم والأوطان في سلك جامع هو « دار الإسلام».

لقد استقر تراث الإسلام على اعتبار الوطنية _ وهي المشاعر التى تربط بروابط الحب بين الإنسان ووطنه _ فطرة فطر الله الإنسان عليها.. فحدثنا الجاحظ [163 _ 255هـ _ 780 _ 869م ] في رسالة [الحنين إلى الأوطان] كيف «كانت العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تربة بلدها رملاً وعفرًا تستنشقه»(23) !.. وأشار إليها الزمخشرى [467 _ 538هـ _ 1075 _ 1144م] _ في [أساس البلاغة] _ كفطرة تجعل كل إنسان «يحب وطنه وأوطانه ومواطنه»!.. وجعلها رفاعة الطهطاوي [ 1216 _ 1290هـ 1801 _ 1873م ] «المذهب» الذي تلتف حوله «أدوار» إحدى منظوماته وأناشيده.. فهي عنده «فطرة» و «مِنَّة» و«هِبَة» إلهية :

من أصل  الفِطرة للفَطن

بعد المولى حبُّ الوطن

هِبَةٌ مَنَّ الوَهّاب بها

فالحمد لوَهّاب  المِنَن(24)

وصاغ حسن البنا علاقة الوطنية بالإسلام في عبارته الموجزة التى تقول : « إن الوطنية لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام ».

المراجع :

(1) الممتحنة : 8.

(2) العنكبوت : 37.

(3) رواه أبو داود.

(4) رواه الإمام أحمد.

(5) التهانوي [كشاف اصطلاحات الفنون] طبعة الهند، سنة 1981.

(6) التوبة: 24.

(7) الأحزاب : 6.

(8) النساء : 66.

(9) البقرة : 84، 85.

(10) البقرة : 243، 244.

(11) الأعمال الكاملة : جـ 4 ص695 – 697. دراسة وتحقيق : د. محمد عمارة، طبعة بيروت 1972م.

(12) الحج : 39، 40.

(13) البقرة : 190، 191.

(14) البقرة : 216، 217.

(15) الأنفال : 30.

(16) التوبة : 13، 14..

(17) التوبة : 40، 41.

(18) آل عمران : 195.

(19) الحشر : 7، 8.

(20) الممتحنة : 1.

(21) الممتحنة : 8، 9.

(22) ( مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ) رسالة : المؤتمر الخامس. ورسالة : دعوتنا _ ص 176، 178، 19. طبعة دار الشهاب _ القاهرة _ بدون تاريخ.

(23) ( رسائل الجاحظ) جـ2 ص 392. تحقيق الاستاذ عبد السلام هارون. طبعة القاهرة سنة 1964م.

(24) ( الأعمال الكاملة ) جـ 5 ص 278. دراسة وتحقيق : د. محمد عمارة. طبعة بيروت 1981 م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر