أبحاث

الأصولية الاعتقادية في فكر الإمام الشاطبي

العدد 113

تمهيـد :

شهــدت العقود الأخيرة اهتماماً ملحوظاً بالإمام الشاطبي : أبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي (ت 790 هـ)،وظهر ذلك حاليًّا فيما قُدِم عنه من بحوث ودراسات(1)، تكشف هن جوانب أصالته، وتتتبع ما أيهم به من جهود كبيرة في مجال الفقه الأصولي والمقاصدي الذي عُرف به الشاطبي.

وقد كان الشاطبي ـــ وما يزال ـــ جديراً بمثل هذا الاهتمام؛ لما اتصف به من صفات علمية وخلقية، تجعله مثالاً للعالم المسلم الذي يرعى حق العلم بالعدة اللازمة، والاحتشاد الواجب، والحرص الشديد على تحصيل المعارف التي تزكي عقله، وتصقل ملكته، وتعينهعلى مقارعة الأفكار ونقدها وتقويمها. ولم يقتصر في دراسته على علوم الشريعة كالفقه والأصول والتفسير والحديث، بل جمع إلى ذلك علوم اللغة والنحو والأدب، وجلس إلى أهل العلم من الفقهاء والمحدثين والنحويين، والقضاة والمفتين، ثم امتد نطاق معارفه إلى علوم أخرى كالجـبر والطب(2) وقد تحدث بذلك عن نفسه في مقدمة كتاب الاعتصام فقال : «… وذلك أنى ــ ولله الحمد ــ لم أزال منذ فتق للفهم عقلى، ووجه شطر العلم طلبي أنظر في عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، ولم أقتصر على علم دون علم، ولا أفردت عن أنواعه نوعًا دون آخر، حسبما اقتضاه الزمان والإٍمكان .. بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة، وأقدمت في ميادينه إقدام الجريء ..»(3) وقد آلى على نفسه أن يحقق لها ما هو من صفات العالم المتقن المجيد، وقد كان من شروطهم في العالم بأي علم اتفق «أن يكون عارفاً بأصوله، وما ينبني عليه ذلك العلم، قادراً على التعبير عن مقصوده فيه، عارفاً بما يلزم عنه، قائماً على دفع الشبه الواردة عليه فيه»(4).

ويدلنا النظر في كتابيه الشهيرين على تحققه بهذه الشروط، فقد أودع فيها من العلم ما يدل على دقته المنهجية، وصرامته العلمية، وهو يلاحظ المقدمات وما يؤدى إليه من نتائج وثمرات، ويقرن الك بهذه الشروط، فقد أودع فيها من العلم ما يدل على دقته المنهجية، وصرامته العلمية، وهو يلاحظ المقدمات وما يؤدى إليه من نتائج وثمرات، ويقرن الكليات بالجزئيات، ويستخلص القطعيات من الظنيات، وهي خاصة كتابه الموافقات كما يقول(5)، وأفكاره شديدة الوضوح في ذهنه، وهو يقسم الفكرة إلى عناصر ومسائل ثم يقوم باستيفائها، في ترتيب محكم، وتدرج متقن، لا تخلله فجوات أو قفزات، وهو يستحضر ما يمكن أن يدور بذهن العالم أو القارئ من أسئلة أو اعتراضات أو إشكالات، ثم يدلل عليها بكل ما يتيسر له من الأدلة العقلية والنقلية(6) وقد يستدل للمسألة الواحدة بثلاثين وجهًا(7) وهو يتحدث عمن تحققت فيهم ملكة الاجتهاد حديث خبير.

وهؤلاء قد جمعوا بين المعرفة بسر الشريعة وروحها وقوانينها الكلية، والمعرفة بما يقتضيه اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية، بحيث لا تلتبس عليهم المسائل، ولا يصرفهم النظر الكلي عن مراعاة المقتضيات الجزئية، ولا تذهلهم الجزئيات عن الكليات، بل كل ذلك واقع تحت نظرهم وقهرهم(8).

وقد دعا قارئه إلى أن يفارق وهدة التقليد، وأن يرقى إلى يفاع الاستبصار(9) ثم اشترط عليه ــ كي يفيد من كتابه ــ أن يكون ريان من علم الشريعة : أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب(10).

ولا يقف الشاطبي عند حل استكمال التأهيل العلمي القائم على الدرس والحفظ والنظر والدراية والاستبصار، بل إنه يضيف ــ إلى ذلك ــ جانب الأخلاق التي ينبغي أن يتصف بها العالم المسلم، أيًّا كان تخصصه، ولا سيما إذا تخصص في علوم الشريعة الإٍسلامية التي عنيت بالأخلاق أبلغ عناية، ورفعتها إلى أعلى مقام، ودعت إلى أن تكون الأخلاق الفاضلة سارية في العلم والعمل، وفي الفكر والسلوك، وقال رسولها ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : «إنما بعثت لأتمم صالحى الأخلاق»(11).

واستجابة لذلك قال الشاطبي لقارئ كتابه «… اليس التقوى شعارًا، والإٍنصاف دثارًا، واجعل طلب الحق لك نحلة…، والاعتراف به لأهله ملة، ولا تملك قلبك عوارض الأغراض .. لا ترد مشرع العصبية، ولا تأنف من الإٍذعان إذا لاح وجه القضية …»(12)

ومن ثمرة هذا التبحر في العلوم، وامتلاك هذه الدرجة العليا من خصائص الشخصية العلمية .. أن تجعل لصاحبها شأنًا أس شأن، ومقامًا أي مقام، وأن تجعله موضع الثناء والتقدير لدى الباحثين.

ثم كان من أسباب العناية المستحقة به أنه قد خرج في كتاباته في علم أصول الفقه عن إسار النمط التقليدي الذي آلت إليه الدراسات الأصولية، بعد وصولها إلى الذروة على أيدى بعض الأعلام كابن حزم والجويني والغزالي والرازي والآمدى وعز الدين بن عبد السلام وأمثالهم، فقد ركنت هذه الدراسات من بعدهم إلى الترديد والتقليد، دون اتصال وثيق بالواقع. على نحو يتجدد به الاجتهاد، ويتسم فيه الفقه بالحيوية، والمعايشة لمشكلات العصر، والإٍجابة عن تساؤلاته. ووقعت كثير من هذه الدراسات في أسر الحواشي والتقارير التي عنيت بالتشقيقات اللفظية والمسائل المفترضة والتفريعات التي قد لا تخلو من تكلف أو مقاربة للخيال، والتي مثلت حاجزاً بين العلماء ومصادر التشريع التي اقتبس منها الأولون، ولكن همم كثير من المتأخرين عجزت عن الاتصال المباشر بها، والاستنباط المتجدد فيها بما يتفق مع عموم الشريعة، وصلاحيتها لكل الأزمان والأماكن والأحوال.

وشهد القرن الثامن الهجري الذي عاش فيه الشاطبي روحًا جديدة، ظهرت على يد بعض العلماء من أمثال ابن تيمية وابن القين، ثم كان للشاطبي أثر كبير في تأكيد هذه الروح المتمردة على التقليد، الداعية إلى تجديد الاجتهاد، وربطه بالواقع، وتوجيه الأنظار ــ بقوة ــ إلى العناية بمقاصد الشريعة، وحكمة التشريع، وهي الفكرة التي اقترنت باسم الشاطبي، فأصبح يعرف بها، وتعرف به، مع أنه لم يكن أول من قال بها أو دعا إليها(13) لكنه كان أكثرهم تصويراً لها، ودعوة إليها، وإلحاحًا عليها، واستقراء لعناصرها، وبيانًا لمكانتها من أصول الشريعة وقواعد الاجتهاد فيها.

ومن شأن هذا الاتجاه إلى المقاصد أن يحقق التحول من عقلية التلقين والتلقي إلى عقلية التفكير والاستنتاج، والاستقراء والتحليل والنقد والموازنة، وعدم القبول لأي فكر أو اجتهاد بغير سلطان أو بغير برهان، بل إن من شأنه ـــ كما يقول بعض المفكرين ــ أن يحدث تغييراً استراتيجيًّا في الثقافة، ونقلة نوعية في الحياة العقلية والذهنية وأن يعيد للوحي ما يجب أن يكون له من عطاء متجدد، وأن يقل الاعتماد على ما وضعه بعض السابقين في مجال علم الأصول من آليات مجردة للتعامل معه، وتنزيله على الواقع بعيداً عن مصالح الناس(14).

ويمكن القول بأن عم أصول الفقه ــ إلى عصر الشـاطبي يمثل طريقًا يقف الإٍمام الشافعي عند طرفه الأول، ويقف الشاطبي عند طرفه الأخير، وبينهما عدد من أعلام هذا العلم، الذي يأتى الشاطبي ليضيف إليه إضافات قيمة، ولا سيما فيما يتعلق بالمقاصد، التي كان حظه فيها أكبر من حظ سابقيه.

ولهذا كله كان الشاطبي جديراً بالاهتمام والاحتفاء، ولعله ليس من الغريب القول بأن مثل هذا الاهتمام والاحتفاء ينصب ــ في المقام الأول ــ على إسهامات الشاطبي في مجال الفقه والأصول والمقاصد، وهذا أمر بدهي؛ لأن هذا هو المجال الذي خصص له النصيب الأكبر من جهده ووقته وكتاباته ومؤلفاته(15)، وترتب على ذلك قلة الاهتمام بآرائه في المسائل والقضايا التي تدخل في نطاق علم العقيدة أو علم الكلام وهو الجانب الذي يعنى به هذا البحث.

أولاً : الأصول الاعتقادية :

يراد بالأصول عند الشاطبي : «القواعد الكلية سواء أكانت في أصول الدين أو في أصول الفقه، أو في غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية»(16) وهي حاكمة ــ بوصفها أصولاً ــ على ما يندرج تحتها من الفروع والجزئيات، وهذا شأن الأصول العن الأصول الشرعية، ولذلك يجب في كل فرع من فروعها : الملاءمة لمقاصد الشرع، بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله، ولا دليلاً من دلائله(17).

وينبغي مراعاة ذلك حتى لو جاء الفرع مخالفاً ــ في بادئ الرأى ــ لما تدل عليه الأصول، «فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها، مقرر واضح في معظمها، ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضى ظاهره مخافة ما اطرد، فذلك من المعدود في المشتبهات التي يتقي اتباعها؛ لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة، فإذا اعتُمد على الأصول، وأُرجئ أمر النوادر ووكلت إلى عالمها، أو ردت إلى أصولها فلا ضرر على المكلف المجتهد …»(18). ويصدق ذلك على الأصول العلمية والأصول الاعتقادية، ولذلك «فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العلمية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية»(19) ولكن ذلك لا يعنى أن هذين النوعين على درجة واحدة متساوية، بل إن الأصول الاعتقادية هي بمثابة الأصل والأساس لكل ما عداها من أصول الشريعة وفروعها وتكاليفها، ومن ثم ينبغي البدء بها، كما فعل هو في بدلية الطلب، كما ينبغي الاحتكام إليها، بحيث لا يقبل من غيرها أن يكون مخالفاً لها(20) والتفاوت ــ إذن ــ حاصل في المرتبة على الرغم من أهميتها، والحاجة إلى كل منهما(21) ولذلك فإنه قد يقع الاتفاق في العمل بين فرقتين، ثم لا يكون الحكم عليهما واحدًا، لاختلافهما في الاعتقاد، على حسب الأصول الاعتقادية المحررة في علم الكلام(22).

ويتفق موقف الشاطبي ــ هنا ــ مع الموقف السائد في علم أصول الفقه الذي تأثر بعلم الكلام تأثراً واضحًا في المصطلحات والمنهج(23)، بل إن علم الأصول ــ في تطوره بعد الإٍمام الشافعي ــ قد تضمن عددًا من المباحث الكلامية، ولذلك أصبح ينظر إلى علم الكلام على أنه أصل لعلم أصول الفقه، مثلما هو أصل لغيره من العلوم الشرعية الأخرى؛ لأن حجية الأدلة التي يستند إليها الاستدلال فيه إنما تظهر وتؤسس في علم الكلام الذي هو العلم الكلي من بين العلوم الدينية، وسائر العلوم من الفقه وأصول الحديث والتفسير هو علوم جزئية، ولذلك كان علم الكلام هو المتكفل بإثبات مبادئ العلوم الدينية كلها، وهي جزئية. بالإٍضافة إليه، «وهو العلم الأول في الرتبة، إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات» كما يقول الغزالي(24).

وقد استند تقديم علم الكلام على ما سواه من العلوم الشرعية إلى طبيعة موضوعه وإلى مكانة العقيدة التي يتناولها بالدراسة. فأما موضوعه فإنه يتعلق بالله من حيث ذاته وصفاته وأفعاله، وأما مكانة العقيدة التي يدرسها فإنها تعد بمثابة الأصل والأساس لكل شيء بعدها، وذلك أنها «معدودة من حيز العلم، والأصناف الأخر هي معدودة من حيز العمل. وليس يشك أن نسبة العلم إلى العمل مضاهية لنسبة العلة إلى المعلول، أو لنسبة البدء إلى التمام. والشيء متى فسدت علته، واختل بدؤه لم بلحقه الصلاح أبدًا» (25).

وعلى الرغم من تلك الأهمية البالغة للجانب الاعتقادي فإن الشاطبي لم يخصص له كتًبا مفردة ولا بحوثًا مستقلة، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن انشغاله الأعظم كان بالأصول وما أضافه إليه من عناية بمقاصد الشريعة، وليس يلزم العالم بعلم أن يؤلف في غيره من العلوم؛ لأن ذلك يرتبط بما آل إليه أمر التخصص في العلوم، بعد تراكم المعرفة، وتنوع التخصصات وضيق الوقت، وكثرة الشواغل، وضعف القوى، ومن هنا شغله الاهتمام بأصول الفقه عن الكتابة في علم الكلام، مع درايته به، ومعرفته بالاتجاهات الكبرى فيه، وربما وجد لنفسه عذرًا عن المشاركة في التأليف المستقل فيه بأنه تكفى عنه المقدمات الأصولية الاعتقادية التي هي بمثابة الأصل لما يدور في علم أصول الفقه، وأعانه ذلك على أن يستحضرها استحضارًا قويًّا دقيقًا عندما تتضح الحاجة إليها، في بيان أصل أو تقرير مسألة أو رد على مخالف أو نحو ذلك مما كان يتطرق إليه في ثنايا كتبه، ولعله كان يكتفى ــ عندئذ ــ بالاستناد إلى ما هو مقرر لدى العلماء من أنه «لا يلزم في كل علم أن تبرهن مقدماته فيه بحال، بل يقول العلماء : «إن من فعل ذلك فقد أدخل في علمه علمًا آخر، ينظر فيه بالعرض لا بالذات»(26) فإذا اعتمد الفقيه على مسألة نحوية فإن عليه أن يأخذها مقدمة مُسلَّمة يبنى عليها، تاركًا لعالم النحو تأكيدها أو البرهنة عليها «فلما لم يفعل ذلك، وأخذ يتكلم فيها وفي تصحيحها وضبطها والاستدلال عليها كما يفعله النحوي صار الإتيان بذلك فضلاً غير محتاج إليه، وكذلك إذا افتقر إلى مسألة عددية فمن حقه أن يأتي بها مسلمة، ليفرع عليها في علمه، فإن أخذ يبسط القول فيها كما يفعله العددي في علم العدد كان فضلاً معدودًا من المُلح إن عُدّ منها.

وهكذا سائر العلوم التي يخدم بعضها بعضًا» (27).

وقد لجأ الشاطبي إلى تطبيق هذا المنهج الذي دعا إليه العلماء، ومن عدم خلط العلوم ببعض، ووقع منه ذلك في مواطن عديدة، منها قوله في المقدمة الثالثة من مقدمات كتاب الموافقات : «الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية .. لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع. وهذا مبين في علم الكلام»(28) وقوله في أول مقدمة قسم المقاصد من كتابه : «ولنقدم قبل الشروع في المطلوب مقدمة كلامية مسلمة في هذا الموضع. وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا. وهذه دعوى لابد من إقامة البرهان عليها: صحة أو فسادًا. وليس هذا (لعلها: هنا) موضع ذلك. وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام» (29).

على أن ذلك كله لا يعنى أنه أغفل العناية بالأصول الاعتقادية كما يظن؛ بل إنه اهتم بها اهتمامًا كبيرًا في مواضع كثيرة من كتابيه، وهي من الكثرة والاستفاضة في عرضها والاستدلال لها، بحيث يتعذر الإٍحاطة بها والاستقصاء لمسائلها والمقارنة لنظائرها عند غيره من العلماء في مثل هذا الحيز المخصص لهذا البحث؛ ولذلك سنكتفى ــ هنا ــ بأهم هذه الأصول، متبعين في عرضها وبيانها كل قدر مستطاع من الإٍيجاز والتركيز، وتاركين التفصيل لفرصة أخرى، نسأل الله عز وجل أن يتفضل بها في وقت قريب.

ويمكن لنا أن نسوق هذه الأصول بادئين بالأهم فالمهم، على النحو الآتي :

الأصل الأول :

إن الشريعة الإٍسلامية التي جاء منها محمد ـــ صّلى الله عليــه وسلم ــ شريعة كاملة جامعة لأمور الدين والدنيا، وأن فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في أمور دينهم ودنياهم، وما أمروا به من التكاليف والتعبدات التي أرادها الله منهم، وقد شهد الله لها بذلك حيث قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة : 3) ولذلك «لم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان»(30) ومن ثم فإن الشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها(31).

ويكتمل هذا الأصل الذي يقوم عليه الدين كله بأن الشريعة موصوفة بعدد من الخصائص والصفات الجوهرية الملازمة لها، بحيث لا تنفك عنها لدى كل مؤمن بهذه الشريعة، ملتزم بأحكامها، متعبد لله على أساسها، متمسك بعهده وميثاقه مع الله تعالى.

الصفة الأولى: العموم والاطراد «فلا عمل يفرض، ولا حركة ولا سكون يدعى، إلا والشريعة عليه حاكمة: إفرادًا وتركيبًا، وهو معنى كونها عامة، «حتى ولو كانت أحادها الخاصة لا تتناهى» (32).

ويستدل لهذه الخصيصة بمثل قول الله تعالى في خطاب رسوله: (فَلاَ وَرَبَّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكَّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلَّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء : 65) وقوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنِةٍ إذَا قَضَى للهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْص اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبينًا) (الأحزاب : 36) إلى آيات كثيرة أخرى.

والثانية: «الثبوت من غير زوال، «فلذلك لا تجد فيها ــ بعد كمالها نسخًا ولا تخصيصًا لعمومها، ولا تقييدًا لإطلاقها، ولا رفعًا لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال. بل ما أثبت سببًا فهو سبب ــ أبدًا ــ لا يرتفع، وما كان شرطًا فهو ـ أبدًا ــ شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً .. وهكذا جميع الأحكام. فلا زوال لها ولا تبدل. ولو فُرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك» (33).

الصفة الثالثة : أن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق، ومما يدل على ذلك قوله تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيه اخْتِلافًا كَثِيراً) (النساء : 82) ثم إن الشريعة هي الحاكمة بين المختلفين بمقتضى قوله تعالى : (.. فَإنْ تنازعتم فِي شَيءْ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُول إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باَللهِ وَالْيَومِ الآخِر ذَبَكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويِلا) (النساء : 59) «فلو كانت الشريعة تقتضى الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة. وقولة: في شيء : نكره في سياق الشرط، فهي صيغة من صيغ العموم، فتنتظم كل تنازع على العموم»(34).

ويقتضي اليقين بهذا الأمر الاعتقاد بأنه لا يوجد اختلاف أو تضاد بين آيات القرآن في ذاتها، كما إنه لا يوجد اختلاف بين الأخبار النبوية، ثم إنه لا يوجد ــ كذلك ــ اختلاف بين أحدهما مع الآخر «بل الجميع جارٍ على مهيع واحد ومنتظم إلى معنى واحد»(35).

ولا يغيب على بال الشاطبي ما يطلقه خصوم الشريعة من دعاوى تصف الشريعة بالتناقض والاختلاف؛ ولذلك نجد يعرض لهذه الدعاوى بالتفنيد، مبيناً ما ينبغي على المسلم، بصفة عامة، وعلى العلماء بالشريعة، بصفة خاصة، تجاه هذه الدعاوى.

وهو يذكر أن الناظر في الشريعة إذا أداه بادى الرأي إلى وجود اختلاف في الظاهر فإن من الواجب عليه أولاً: «أن يعتقد انتفاء الاختلاف؛ لأن الله قد شهد له أنه لا اختلاف فيه. فليقف وقوف المضطر، السائل عن وجوه الجميع، أو المسلم من غير اعتراض. فإن كان الموضع مما يتعلق به حكم عملي فليلتمس له المخرج، حتى يقف على الحق اليقين، أو ليبق باحثًا إلى الموت .. فإذا اتضح له المغزى وتبينت له الواضحة فلابد له من أن يجعلها حاكمة في كل ما يعرض من النظر فيها، ويضعها نصب عينيه في كل مطلب ديني، كما فعل من تقدمنا ممن أثنى الله عليهم» (36) وهذا موقف عام يقفه الناظر في الشريعة، الراجع إليها في معرفة ما يحبه الله ويرضاه، وما يبغضه ويسخطه، أو في معرفة الأحكام الشرعية التي تعود إلى الشريعة نصًّا أو حكمًا.

وهو يعود إلى المسألة ــ في موضع آخر ــ فيذكر أن القول بتعارض الشريعة واختلافها هو قول أهل البدع. أما أهل الإٍسلام والاتباع للقرآن والسنة فإنهم على عكس ذلك، وهم ينهجون نهجًا آخر، إذا ظهر لهم ــ في بادئ الرأي ــ تعارض، وهو يسوق الاحتمالات التي يمكن وقوعها، مشفوعة بالحكم الملائم لها. وفي هذا يقول: إنه إذا بدا هذا التعارض بين دليلين فإما ألا يمكن الجمع بينهما أصلاً وإما أن يمكن. فإن لم يمكن فهذا الفرض (أي الاحتمال) يكون بين قطعي وظني، أو بين ظنيين.

فأما أن يكون بين قطعيين فلا يقع في الشريعة أصلاً ولا يمكن وقوعه؛ لأن تعارض القطعيين محال. وإن وقع التعارض بين قطعي وظني فإن الحكم القطعي، دون الظني وإن وقع بين ظنيين فإن للعلماء ــ ها هنا ــ الترجيح بسبب من أسباب الترجيح، والعمل بالأرجح متعين. وإن أمكن الجمع كأن يكون الاختلاف بين مطلق ومقيد أو بين عام وخاص، أو بين حال وحال فقد اتفق النظار على إعمال الجمع، وإن كان وجه الجمع ضعيفًا فإن الجمع أولى عندهم، وإعمال الأدلة مجتمعة أولى من إهمال بعضها (37).

ثم ينبغي عليه ــ ثانيًا ــ أن يتبع قواعد المنهج الصحيح في الاستدلال، وهو المنهج الذي يلزمه بعدم التسرع في النظر، وعدم الاقتصار على بعض الأدلة دون بعض؛ لأن التسرع والاجتزاء يوقعانه في الخطأ أو في توهم الخلاف، دون حق، وعليه ــ إذن ــ ان يتحلى بامتلاك النظرة الكلية الجامعة لأطراف الكلام، وهذا هو شأن الأئمة الراسخين في العلم، فإن مأخذ الأدلة عند هؤلاء «إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما ثبت من كلياتها وجزيئاتها المترتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها ومجملها المفسر بمبينها.. وما مثلها إلا مثل الإٍنسان الصحيح السوي، فكما أن الإٍنسان لا يكون إنساناً حتى يستنطق، فلا ينطق باليد وحدها، ولا بالرجل وحدها، ولا بالرأس وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمى بها إنسانًا، كذلك الشريعة، لا يطلب فيها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، لا من دليل منها، أي دليل كان» (38).

وبمثل هذه النظرة الشاملة الجامعة التي تتفق مع كلية الشريعة وعمومها تحمل الناظر فيها على الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية، وما اقتضاه الحال فيها «فإن القضية ــ وإن اشتملت على جمل ــ فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية واحدة، نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف. فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض» (39).

فإذا لم يتبع الناظر في جملة الشريعة وأدلتها هذا النهج الجامع المتكامل الذي يتبعه الأئمة الراسخون الذين لا تشتبه عليهم الأدلة، ولا يحكمون عليها بالتعارض فإن هؤلاء يوقعون أنفسهم في دائرة الجهل، أو في دائرة المتشابه بدلاً من اتباع المحكم الذي هو شأن الراسخين في العلم. وقد وقعت كثير من الفرق الخارجة عن السنة في هذا الخطأ، فإنها «حين لم تجمع أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت» ولو أن هؤلاء سلكوا المسلك الصحيح، وجمعوا بين الأدلة ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل لوصلوا إلى المقصود(40).

ثم عليه ــ ثالثًا ــ للخروج من توهم التعارض أو ظن وقوعه بين النصوص أو الأدلة أن يبحث عن الأصل الكلي الوارد في المسألة ليجعله لمحور الذي تدور باقي الأدلة الفرعية عليه، أو القاعدة التي تؤول الفروع إليها، ثم عليه أن يجعل لهذا الأصل أو القاعدة مقام الأولوية في تحديد المراد، وفي الحكم على ما يندرج تحته أو تحتها من الفروع والجزئيات، ولا خوف ــ عندئذ ــ من وجود ما ظاهره الخلاف؛ لأن الفرع لا يبطل الأصل، والجزئي لا يبطل الكلي.

ويشرح الشاطبي ذلك بأن القاعدة إذا كانت كلية ثم ورد في شيء مخصوص وقضية عينية ما يقتضي بظاهره المعارضة في تلك القضية المخصوصة وحدها، مع إمكان أن يكون معناها موافقًا لا مخالفًا، فلا إشكال في أن لا معارضة هنا؛ لأنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة وهو يرى أن هذا الموضوع كثير الفائدة، عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات، إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان. فإن فعل العكس، والتمسك بالجزئي لم يمكنه ــ مع التمسك به ــ الخيرة في الكلي، فثبت في حقه المعارضة، ووقع بذلك في مهاوي الإٍشكال والاختلاف (41).

وقد نصح الشاطبي مدعى هذا الاختلاف بالتثبت، وألا يجعجعوا بالاختلافقبل إمعان النظر؛ لأن بعض ما يتوهمونه خلافاً يؤول ــ عند التحقيق ــ إلى أنه لا خلاف فيه، وقد ذكر عديداً من الأمثلة التي توضح خطأ مسلكهم، ومسارعتهم إلى اتباع المتشابهات، والتشكك في القواطع المحكمات(42).

الأصل الثاني:

وهو مترتب على الأصل الأول، ومستند إليه، فإذا كانت الشريعة قد جاءت على الاطراد والعموم، ثم كانت ثابتة لا تزول، محفوظة من التغيير والتعارض بين أدلتها فإن من الواجب الاعتقاد واليقين بأن يكون الشرع حاكماً لا محكوماً عليه؛ وذلك لأن مصدر التشريع هو الله تعالى وحده، لا شريك له فيه، كما أنه لا شريك له في أفعاله كالخلق والرزق والإِحياء والإٍماتة ونحوها.

وقد دلت على ذلك أدلة كثيرة من القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُون) (يونس : 59) وقوله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدَّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بهِ اللهُ) (الشورى : 21) وقوله : (أوَلَو اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّنوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِن) (المؤمنون : 71)، أما الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ فإنه لا يشرع بهوى نفسه، بل إنما يقع منه ذلك ــ إذا وقع ــ بوحي الله إليه، إذنه له، وفي ذلك يقول الله تعالى : (إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بالْحَقَّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس بِمَا أَرَاكَ اللهَ) (النساء : 105) ويقول :(فَاحْكُمْ بيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبغْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقَّ) (المائدة : 48)، وانظر (49 أيضًا)، بل قال الله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاويلِ(44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بالْيَمِين(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدِ عَنْهُ حَاجِزين) (الحاقة : 44 – 47).

وإذا كانت الشريعة إلهية المصدر، فإنها جديرة بأن يتحقق لها من الكمال والعصمة ما يجعلها بعيدة عن الخطأ والقصور والهوى، ومن ثم يجب أن تكون سابقة لا مسبوقة، وقاضية لا مقتضيًّا عليها، ومتبوعة لا تابعة؛ ولذلك لا تجد في العمل أبدًا ما هو حاكم على الشريعة، وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكومًا عليها» (43).

ثم حق لهذه الشريعة أن تكون حجة على الخلق : كبيرهم وصغيرهم، مطيعهم وعاصيهم، وبرهم وفاجرهم، وقد كان السابق إلى الدخول تحت حكمها والوقوف تحت أحكامها رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ، وقد وصفه الله بأنه على خلق عظيم «لأنه حكّم الوحي على نفسه حتى صار في عمله وعمله على وفقه، فكان الوحي حاكمًا، وكان النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ مذعنًا ملبيًا نداءه، وافقًا عند حكمه؛ إذ قد جاءه بالأمر، وهو مؤتمر، وبالنهى وهو منته، وبالوعظ وهو متعظ، وبالتخويف وهو أول الخائفين، وبالترجية وهو السابق دابة الراجين .. وحقيقة ذلك كله: جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه .. ولذلك صار عبد الله حقًّا، وهو أشرف ما تسمى به العباد» (44) وإذا كان هذا ينطبق ــ على هذا النحو من الكمال في الإٍيمان والانقياد ـــ على الرسول الكريم ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ «فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم .. وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها والعمل بها: قولاً واعتقادًا وعملاً»، ولا يتحقق الشرف للعابد بحسب العقول وحدها، ولا بحسب المكانة الاجتماعية بين الناس، بل الشرف «إنما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشريعة» (45).

ولا يمل الشاطبي من التذكير بأن الله ــ عز وجل ــ هو الشارع، وأن التشريع ليس لأحد سواه، سواء أكان التشريع تحليلاً أو تحريمًا؛ لأن التحريم تشريع كالتحليل(46)، وقد كان من أسباب عنايته البالغة بتقرير هذا الأصل معرفته برأي المعتزلة في التحسين، والتقبيح العقليين، وقد عرض هذا الرأي وناقشه مناقشة دقيقة في مواطن عديدة، وسياقات مختلفة، وقد وصفهم أحيانًا بأنهم أهل الضلال كقوله: «لا حسن إلا ما حسنه الشرع، ولا قبح إلا ما قبحه الشرع. فالعقل لا يحسن ولا يقبح، وإنما يقول بتحسين العقل وتقبيحه أهل الضلال» (47)، وهو يصفهم ــ أحياناً أخرى ـــ بأنهم المبتدعة في الدين، ويأتي ذلك في سياق ما وقع فيه بعض الأقوام من زلل خرجوا به عن جادة الصحابة والتابعين بسبب إعراضهم عن الدليل الشرعي، ومن هؤلاء أهل التحسين والتقبيح العقليين.

«فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال، دون الشرع. وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين، بحيث إن الشرع، إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه» وقد أوضح إن تحكيم الرجال ــ من غير التفات إلى كونهم وسائل الحكم الشرعي المطلوب شرعًا ــ ضلال .. وأن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره» وهذا هو مذهب أصحاب رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ(49).

وقد وصف بدعة المعتزلة بأنها بدعة حقيقية، وأن المخالفة فيها لمذهب الصحابة ومن سار على نهجهم وطريقتهم مخالفة حقيقة في مسألة أصولية، وليست فرعية، إذ أن كون الشيء حسنًا أو سيئًا «لا يعرف إلا من جهة الشرع، لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة، وإنما يقول به المبتدعة، أعنى التحسين والتقبيح بالعقل»، وقد وصفهم بأنهم تجاوزوا الحد حتى ردوا القرآن بالتلويح والتصريح، لرأيهم السوء، وتجاسروا على كتاب الله تعالى وسنة نبيه ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ، ترجيحًا لمذهبهم على محض الحق؛ لأن العقول عندهم هي العمدة ومصادر الشريعة تبع لها؛ ولذلك يتأولون الواضحات إذا لم توافق آراءهم، ويتبعون المتشابهات، وهذا من البدع التي لا تلائم قواعد الشريعة(49).

وهو يصفهم ــ كذلك ــ بأنهم أهل الزيغ، وأن من الثابت عند أهل السنة أنه من البدع المحدثات(50).

والشاطبي ــ في رده لقول المعتزلة بالتحسين والتقبيح العقليين ـــ لم يكتف بالاستناد إلى الأدلة الشرعية التي تدل على أن التشريع إنما هو حق الشرع، بل إنه اجتهد في أن يعضد رأيه بأدلة عقلية تؤدى إلى أن العقل ــ وإن كان له اعتباره ــ لا يرتقي إلى مقام التشريع الذي فيه يقوم بالتحسين والتقبيح.

فالعقل يدرك بعض الأشياء دون بعض، وفي هذا ما فيه من نقص وقصور، وقد يقع منه الخطأ في بعض ما يدركه، إذ أنه ليس بمعصوم فيما يتوصل إليه من معرفة، ومن مواطن النقص فيه أنه يدرك المسائل المعتادة الجارية على مقتضى السنن الطبيعية، ولكنه لا يدرك ما سواها من خوارق العادات التي تعلو على إدراكه، ثم هو قاصر عن إدراك عالم الغيب والآخرة، وأحوال أهل الجنة والنار(51).

ولا يقتصر العجز عن الإٍدراك على هذا العالم الغيبي، بل إن التأمل في أحوال أهل الفترات التي لك يكن فيها أنبياء يبين أن الناس الذين اجتهدوا بعقولهم، قد أصابوا في أشياء، وأخطأوا في أشياء وقد وضع هؤلاء أحكاماً بمقتضى عقولهم ومعارفهم وسياساتهم «لا تجد فيها أصلاً منتظمًا، وقاعدة مطردة على الشرع، بعد ما جاء، بل استحسنوا أمورًا تجد العقول، بعد تنويرها بالشرع، تنكرها وترميها بالجهل والضلال والبهتان والحمق، مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم أشياء قد وافقت، وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها .. لكنها بالنسبة لما لم يصيبوا فيه قليلة» (52).

ويبتغي الشاطبي من وراء ذلك أن يبين أن مصدر التشريع لابد أن يكون عالمًا لا يلحقه جهل ولا تغير، وليس ذلك متحققًا في العقل البشري الذي يبدأ خاليًا من العلم، ثم يكتسب معرفته من الحواس، وهو معرض في كل خطوة من خطوات تحصيله للمعرفة للوقوع في خطأ الحواس، أو أوهام العقل ذاته، ثم أن العقول متفاوتة في تقدير الخير واشر، والصواب والخطأ، والجمال والقبح، وتقدير المصالح والمفاسد، وربما خضع العقل للأهواء، أو وقع أسيراً للأغراض، ثم إن هناك من المعارف ما لا يستطيع العقل معرفته أصلاً، إلا أن يعلمه من مصدر خارجي يمنحه هذا العلم، أو يجعل له طريقًا إلى العلم به، وهو محتاج في مثل هذه المجالات التي لا يعلمها إلى من يعلمه إياها، ثم هو محتاج في المعارف النظرية التي لا يتم تحصيلها إلا بجهد عقلي إلى من يرشده إلى وجه الحق فيها، لاسيما عندما تختلف العقول، وتضطرب الأحكام، ومن هنا جاءت الحاجة إلى من يهدي العقل فيها كي يتغلب على اختلاف القرائح والأنظار(53).

وهكذا يكون العقل بحاجة دائمة إلى ها المصدر الخارجي الذي يتمثل في الوحي الذي يمثل هداية ورشادًا للعقل فيما لا يعرفه، بل إنه يمثل صمام أمان له فيما يعرفه؛ لأن الأخبار التي يأتي بها الأنبياء «قد تأتى بما يدركه الإٍنسان بعقله: تنبيهًا لغافل، أو إرشادًا لقاصر، أو إيقاظًا لمغمور بالعوائد، يغفل عن كونها ضروريًّا، فهو ــ إذا ــ محتاج إليه، ولابد للعقل من التنبيه من خارج، وهي فائدة بعث الرسل» والعقول ــ إذن ــ محتاجة إلى التنوير بالشرع كما يقول(54).

وقد تكون بعض هذه النصوص والأفكار السابقة متجهة بالقصد الأول إلى الرد على منكري النبوة كالبراهمة وأمثالهم ممن قالوا بأن العقل يغنى عن النبوة(55).

ولكن هذه النصوص متجهة ــ كذلك ــ إلى الرد على المعتزلة، والذين جعلوا التحسين والتقبيح للعقل، وجعلوا التكليف في هذا الشأن، ويترتب على هذا الفهم أن يكون للعقل مدخل كبير في مسائل التشريع، ولذلك عنى بالرد عليهم، مصرحًا باسمهم في كثير من المواطن التي أورد فيها آراءهم.

ومما يمكن أن نضيفه إلى ما سبق أن الشاطبي ذكر أن كون الشيء خيرًا أو شرًّا لا يثبت إلا بالشرع، وأن «الشريعة بينت أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه غلى ألسنة أنبيائه ورسله، ولذلك قال تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء : 15) وقال تعالى : (فَإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيءْ فَرُدُّوهُ إلَى اللهَ وَالرَّسُول» (النساء : 59) وقال : (إِنَ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّه) (من الآية 40، أو 67 من سورة يوسف) فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في التشريع، وأنه محسن ومقبح، فابتدعوا في دين الله ما ليس فيه»(56).

وهو يرى أن موقفهم هذا ناشئ من «تحكيم العقل على الله تعالى، بحيث يقول: يجب عليه بعثة الرسل، ويجب عليه الصلاح والأصلح، ويجب عليه اللطف، ويجب عليه كذا، إلى آخر ا ينطق به في هذه الأشياء». ولا شك أن هذه جميعًا من أقوال المعتزلة، كما يتضح بالرجوع إلى مصادرهم كالمغني وغيره، ويرى الشاطبي أن «من أجل الباري وعظمه لم يجترئ على إطلاق هذه العبارة، ولا ألم بمعناها في حقه» (57).

ويتابع الشاطبي استدلاله على أن الشارع هو الله تعالى، وأن العقل لا مدخل له في التشريع، فيضيف إلى ما سبق أن العقول لا تستقل بإدراك مصالحها الدنيوية أو الدينية، فأما الأمور الدينية فإنها فوق مدارك العقول، وقد يدرك العقل منها مجرد إمكان وقوعها إدراكًا مجملاً، ولكنه لا يدرك تفصيلات ما يرضى الله أو يسخطه، وما يحقق القيام بواجبات العبودية له، وأما الأمور الدنيوية، فقد كانت في أصل وضعها عند بدء الخليفة تعليماً من الله تعالى لأبى البشرية آدم عليه السلام، فقد علمه الله الأسماء كلها، وهداه إلى كيفية استجلاب مصالح دنياه، وأورث آدم ذريته ذلك، لكن ذريته لم تجر على الاستقامة دائمًا، ولذلك أرسل الله الأنبياء لهداية الخلق، ولولا ذلك ما استقامت لهم حياة(58).

وهنا يجد الشاطبي نفسه على خلاف مع الشيخ عز الدين بن عبد السلام الذي يورد رأيه ثم يرد عليه دون أن يصرح باسمه، وتتركز المعارضة بينهما فيما يتعلق بإدراك العقل للمصالح الدنيوية، وقد قال عز الدين بن عبد السلام: «مصالح الدار الآخرة ومفاسدها، لا تعرف إلا بالشرع. وأما الدنيوية فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون والمعتبرات» ومن ثم فمن أراد أن يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها فليعرض ذلك على عقله، بتقدير أن الشارع لم يرد به، ثم يبنى عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، إلا التعبدات التي لم يوقف على مصالحها أو مفاسدها(59).

ويوافق الشاطبي ابن عبد السلام فيما يتعلق بأمور الآخرة، التي لا تعرف إلا بالشرع، ولكنه يخالفه فيما يتعلق بالأمور الدنيوية؛ لأن العقل لا يدرك هذه المصالح من كل وجه، بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض، ولو كان الأمر كما قال ابن عبد السلام لما كان هناك حاجة للشرع إلا فيما يتعلق بمصالح الآخرة خاصة «وذلك لم يكن، وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخر معًا .. وقد بث في ذلك من التصرفات، وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية، ما لا مزيد عليه. فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل..» (60).

ثم ينتهي إلى القول بأنه لا يمكن إنكار المدارك العقلية جملة، فللعقول مدارك لا شك فيها، ولكن لابد من التسليم ــ مع ذلك ــ بأن «الله جعل للعقول في إدراكها حدًّا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع البارئ تعالى في إدراك ما كان وما يكون وما لا يكون؛ إذ لو كان كيف كان يكون، فمعلومات الله لا تتناهى، ومعلومات العبد متناهية، والمتناهي لا يساوى ما لا يتناهى» (61).

وما كان للشاطبي أن ينكر دور العقل ومعارفه، وهو يذكر أن العقل شرط أو عنصر ضروري للتكليف أو هو العمدة في صحة التكليف، بل هو شرط ضروري لإقامة الدين نفسه، «ولو عدم العقل لارتفع الدين» (62) فالله تعالى لا يخاطب بالدين إلا أرباب العقول، وإذا فقد العقل سقط التكليف كما هو حال الصبي والمجنون.

وللعقل ــ إذن ــ اعتباره في الشرع، وقد كان من مظاهر هذا الاعتبار أن شريعة الله عز وجل لم تأت بما يتنافى مع العقول، وقد برهن على تلك القضية الجوهرية المهمة التي تداولتها الألسن ــ من قبله ــ في علم الكلام وغيره من وجوه خمسة:

أولها: أن الأدلة إنما جاءت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين حتى يعملوا بمقتضاها، ولو وقع التنافي بينها وبين عقولهم لما تلقتها هذه العقول ولا قبلتها، فضلاً عن أن تعمل بمقتضاها. ويستوي في ذلك الأحكام الإلهية الداخلية في نطاق العقائد، والأحكام التكليفية للعباد.

وثانيها: أنه لو وقع التنافي بين الأدلة والعقول لكان ذلك تكايفًا بما لا يطاق، حيث يكلف العقل بتصديق ما لا يصدقه ولا يتصوره، بل يتصور خلافه ويصدقه، ولو كان الأمر كذلك لامتنع على العقل ضرورة أن يصدق هذا الذي كلف به، لكونه غير معقول لديه، وهذا النوع من التكليف، حسبما تقرر في الأصول(63) وقد ثبت في الأصول أن شرط التكليف هو القدرة على المكلف به، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعًا، وإن جاز عقلاً(64) وهذا يقتضي أن يكون التكليف غير مناف لمقتضيات العقول.

وثالثها: أن مناط التكليف أو مورده هو العقل، وذلك ثابت ــ كما يقول الشاطبي ــ بالاستقراء التام، ولو انتفى وجود العقل لارتفع التكليف أصلاً، وعد فاقده كالبهيمة المهملة، وهذا يعنى ملاحظة جانب العقل في تصديق ما يكلف به، ولو جاءت الأدلة على خلاف ما يقتضيه العقل لكان في التكليف مشقة تزيد على مشقة تكليف المعتوه والصبي والنائم؛ لأن هؤلاء فاقدون للعقل الذي يصدق بالأدلة أو لا يصدق. أما العقل فإن لديه من القوة والملكة ما يجعله مستعدًّا لقبول ما هو معقول في ذاته، فإذا كلف ــ مع ذلك ــ باستقبال ما ليس بمعقول فإنه يكون في حال أشق مما يكون عليه فاقد العقل أو غائبه. ولما كان التكليف ساقطًا عن هؤلاء لزم أن يكون ساقطًا عن العقلاء الذين يأتي التكليف مخالفاً لمقتضيات عقولهم، وهذا مناف لوضع الشريعة التي جاءت لتحقيق مصالحهم، فكان ما يؤدى إلى ذلك ــ من عدم معقولية الشريعة ــ باطلاً.

ورابعها : أنه لو كان هذا التعارض واقعًا لكان الكفار أول من رد الشريعة به، فقد كانوا شديدي الحرص على رد ما جاء به رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ، حتى لقد وصفوه بالسحر والجنون والكذب والافتراء، والتلقي عن البشر، وقد كان حريًّا بهم ــ لو كان ما جاء به غير موافق للعقول ــ أن يقولوا عنه ذلك، ولو قالوه لكان أبلغ في هدمه، فلما لم يكن من ذلك الشيء ــ بل وقع عكسه حين اعترفوا ببلاغة القرآن وأقروا بفصاحته وسمو نظمه وعجيب تعبيره ــ دل ذلك على أنهم عقلوا ما فيه، وعرفوا جريانه على مقتضى العقول، ولما لم يعترضه أحد بهذا الأمر كان ذلك قاطعًا في نفيه عنه.

ثم ختم الشاطبي هذه الوجوه بالوجه الخامس منها، وهو أن الاستقراء دل على جريان الشريعة على مقتضى العقول، بحيث تصدقها الراجحة، وتنقاد لها طائعة أو كارهة(65).

والواقع يصدق ذلك قديماً وحديثًا، حيث أقرت العقول ــ وما زالت تقر ــ بعظمة القرآن وسمو شريعته، وموافقتها للعقول، لاسيما في أصول العقائد، وفي أصول التشريع، ويتجلى ذلك واضحًا في دعوة القرآن للعلم والفكر والنظر، وذمه للتقليد، واستهانته بالمقلدين الذين جعلهم كالأنعام بل هم أضل. وقد طالب القرآن خصومه باتباع طريق البرهان، وجعله الطريق المعتمد في إثبات عقائده. ويظهر ذلك ــ دون أدنى عناء ــ فيما تضمنه القرآن من مسائل العقائد ودلائلها، وقد كانت هذه الأدلة موضع ثناء كثيرين من الفلاسفة وعلماء الكلام، ومن ذلك ما قاله الكندي الفيلسوف الأول عند المسلمين: «ولعمري إن قول الصادق محمد ــ صلوات الله عليه ــ وما أدى عن الله عز وجل لموجود جميعًا بالمقاييس العقلية التي لا يدفعها إلا من حرم صورة العقل، واتحد بصورة الجهل عند الناس» (66)، وها هو ابن سينا، الشيخ الرئيس يقول: «.. وإن مقتضى العقل الصريح لا ينافي موجب الشرع الصحيح» (67) أما ابن رشد فيقول «إنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدى النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له» (68).

وإذا كان هؤلاء قد عادوا إلى القول بالتأويل بدرجات متفاوتة وقالوا بإمكان وقوع التعارض بين المعقول والمنقول، من علماء المسلمين قد بذلوا من الجهود ما يؤكدون به تلك القضية ــ التي يتحدث عنها الشاطبي ــ بأدلة كثيرة تؤدى إلى رفض هذا التعارض المزعوم بين النصوص ومقتضيات العقول، وقد كتبوا في ذلك كتبًا ورسائل كان الغرض منها ــ كما يقول واحد من كبار المعنيين بإثبات هذه الفكرة، هو ابن تيمية ــ بيان أن «ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع ألبته، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط» (69).

ومن الواضح أن هذا الاتجاه الذي يرتضيه ابن تيمية والشاطبي وأمثالهما ليس هو الاتجاه الوحيد في المسألة بل إن هناك اتجاها آخر مخالفاً له لا يستبعد إمكان التعارض بين ما تدل عليه النصوص الشرعية وما تنتهي إليه العقول، وقد انتهى أصحاب هذا الاتجاه إلى القول بتقديم العقل على النقل عند التعارض، وقد نشأ هذا الاتجاه أولاً في دوائر المعتزلة، ثم انتقل إلى الأشاعرة، وبلغ ذروته وغايته عند فخر الدين الرازي فيما عرف بمسألة «الدور» الكلامية.

وفيها يقول الرازي: إن الدلائل القطعية العقلية إذا دلت على ثبوت شيء، ثم دلت ظواهر الأدلة النقلية على خلاف ذلك فلدينا أربعة احتمالات:

1 ــ أن يصدق مقتضى العقل والنقل جميعًا، فيلزم تصديق النقيضين وهو محال؛ لأن النقيض لا يجتمعان.

2 ــ أو أن نبطل مقتضى الدليلين فيلزم تكذيب النقيضين أو رفعهما، وهو محال أيضًا؛ لأن النقيضين لا يرتفعان.

3 ــ أو أن نصدق الظواهر النقلية ونكذب الظواهر العقلية وذلك باطل؛ لأننا لا نعرف صحة الدلائل النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية صدق ما تدل عليه الأولى من إثبات الصانع وصفاته، وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ. وهذا كله لا يتم عنده إلا بالعقل «ولو جوزنا القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهماً غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الأصول، وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة، فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معًا» وهذا باطل.

4 ــ وإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة فإنه لا يبقى إلا القطع بمقتضى الدلائل العقلية. وأما الدلائل النقلية فإنها: إما أن يقال: إنها غير صحيحة، أو يقال: إنها صحيحة ولكن المراد منها غير ظواهرها، ومن ثم يلزم تأويلها لتتفق مع الأدلة العقلية، أو يقال: إنها صحيحة، ولكن لا نؤولها، بل نفوض العلم بها إلى الله تعالى (70).

ويدل هذا الرأي ــ بوضوح ــ على إمكان وقوع التنافي بين ظواهر الشرع وأدلة العقول، ثم هو يقول بإمكان وقوع التعارض بين القطعيين من الأدلة، وعندئذ يجب تقديم دليل العقل، بدعوى أن الطعن في هذه الأدلة العقلية يعود بالطعن على الأدلة الشرعية التي لا تكتسب حجيتها إلا من تصديق العقل لها.

وهذا ما يخالفه الشاطبي الذي يرى ــ كما سبق القول ــ أن التعارض بين القطعيين لا يقع في الشريعة أصلاً ولا يمكن وقوعه؛ لأن تعارض القطعيين محال، ثم انه لا يقول بتقديم العقل على الشرع، كما قال الرازي ومن يوافقه على رأيه، بل إنه يبذل أقصى الجهد لتقوية الثقة بالدليل الشرعي ودف لتقوية الثقة بالدليل الشرعي ودفع الشبهات الواقعة أو المفترضة التي يتوجه به الخصوم إليه حتى لا يقع التنافي بينه وبين أدلة العقول.

وإذا كان الدليلان لا يتنافان، فإن ذلك لا يغنى أنهما متساويان في الدرجة والمرتبة، بل إن التقديم يجب أن يكون لدليل الشرع الذي هو الأصل في التشريع والتكليف بسبب نسبته إلى الله تعالى. وفي ذلك يقول الشاطبي في المقدمة العاشرة من مقدمات كتابه الموافقات: «إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا، ويتأخر العقل فيكون تابعًا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل».

وهو يستدل لذلك بأمور منها «ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح. ولو فرضناه متعديًا لما حده الشرع لكان محسناً ومقبحًا» وهو يصف هذا بأنه خلف فبطل ما يؤدى إليه.

ثم إن العقل لو تقدم على الشرع لجاز إبطال الشريعة بالعقل وهذا محال باطل(71).

ويخلص الشاطبي من هذا كله إلى «أنه لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع، فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله، بل يكون ملبيًا من وراء» (72).

وعليه ــ إذن ــ أن يقدم ما حقه التقديم وهو الشرع، ويؤخر ما حقه التأخير وهو نظر العقل، لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكمًا على الكامل، لأنه خلاف المعقول والمنقول. ولذلك قيل: اجعل الشرع في يمينك، والعقل في يسارك، تنبيهًا على تقديم الشرع على العقل» (73).

وبهذا تتبين المراتب، وتنضبط العلاقة. ويسرى هذا المبدأ على ما يتعلق بالعقائد كمسائل الصفات الخبرية والإٍيجاب على الله تعالى(74)، وكذلك يسرى على أدلة الأحكام، فالقياس ليس من تصرفات العقول مخضًا، بل العقل يجري بمقدار ما أجرته الشريعة، ويقف حيث وقفته. وهكذا في سائر الأحكام(75).

الأصل الثالث:

أن الغاية العامة لهذه الشريعة الكاملة المباركة المحمدية كما يقول الشاطبي، المحفوظة في أصولها وفروعها «ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها» (76).

وإنما عددنا هذا أصلاً لأن الشاطبي يعتبر الحفاظ على هذه المقاصد «أصول الشريعة» (77) بل إنه يجعله «أصل أصولها» (78) وهو يذكر أنه قد «اتفقت الأمة، بل وسائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل» (79) ثم إن هذه المصالح سارية في عروق الشريعة كلها، فقد راعي الشارع في مقاصده القائمة على بث المصالح للخلق «أن تكون مطلقة عامة لا تختص بباب دون باب، ولا بمحل وفاق، دون محل خلاف. وبالجملة: الأمر في المصالح مطرد مطلقًا في كليات الشريعة وجزئياتها» (80).

وقد كان مما يتفق مع هذه الغاية العامة في تحقيق المصالح وحفظها أن يكون الدليل عليها قطعيُّا «لأنه أصل أصولها، وأصول الشريعة، بل هو أصل أصولها، وأصول الشريعة قطعية .. فأصل أصولها أولى أن تكون قطعية، ولو جاز إثباتها بالظن لكانت الشريعة مظنونة أصلاً وفرعًا وهذا باطل. فلابد أن يكون قطعية»(81).

وإنما استحقت هذه المقاصد أن تكون لها هذه المكانة العظمى في الشريعة؛ لأنها جامعة لأمور الدين والدنيا، ولأنها جاءت على نظام محكم لا خلل فيه. فلا خلاف بين ما وضعته الشريعة من هذه المصالح على وجه كلى أبدى عام في جميع أنواع التكليف والمكلفين والأحوال، وبين ما يندرج تحت القوانين الكلية من الجزئيات والخصوصيات، وهذا المعنى من أول الدلائل على كمال النظام في التشريع(82).

وإذا كان الدين يأتي في مقدمة ما قصدت إليه الشريعة من المحافظ على الضروريات الخمس فإن مما يتفق معه أن يكون معلومًا أن المصالح التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها، والمفاسد التي تسعى إلى دفعها «إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية»(83).

وقد أفاض الشاطبي في تأكيد هذا المعنى، واستدل له بأمور من بينها أن المصالح والمنافع الحاصلة للمكلف ليست منافع خالصة في كل الأحوال، بل إنها مشوبة ببعض المضار، وكذلك المفاسد قد تكون محفوفة ببعض المنافع في بعض الأحوال أو لبعض الأشخاص، ومن أمثلة ذلك أن النفوس مقدمة في الأهمية على المال، فإذا كان تحصيل المال سيؤدى إلى إتلاف النفس وجب تقديم المحافظة على النفس مع الحفاظ على الدين كان إحياء الدين أولى وإن أدى إلى موتها، كما هو الشأن في جهاد الكفار وقتل المرتد ونحو ذلك وهكذا.

وإذا كانت المصالح تتفاوت، وتمتزج فيها المنافع بالمضار فالمعتبر كما يقول الشاطبي: «إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس»(84).

وإذا كان من مقاصد الشريعة تحقيق المصالح للخلق، بما يتفق مع مقاصد الشرع فإن هناك مقصدًا ثانياً لا يقل عن هذا المقصد أهمية، بل إنه يسبقه في هذه الأهمية، وهو سابق على تحقيق المصالح، ومعيار للحكم بقبولها أو رفضها، وهو ما يعبر عنه الشاطبي بقوله: والمقصد الشرعي من وضع الشرع: إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد له اضطراراً». وقد خلق الله الخلق لعبادته واتقائه والخشية له، والخروج من أهواء النفوس، والبعد عن الانقياد لطاعة الأغراض العاجلة، وقد «جعل الله اتباع الهوى مضادًّا للحق، وعده قسيمًا له «كما تدل على ذلك الآيات القرآنية، التي حصرت الأمر في شيئين» الوحي والهدى، فلا ثالث لهما(85).

وإذا كان الله هو الواضع للشريعة، كما سبق القول، وكانت الشريعة هي التي تقوم بتحديد ما هو من المصالح والمفاسد على حسب علم الله عز وجل، به مصالح العباد فإن ذلك يعنى أن تبرأ هذه المصالح من أهواء النفوس واختلافها، وما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من الصراع والتقاتل والهلاك والمظالم. وجاء ذلك متوافقًا مع ما تلقاء نفسها بعدم الاسترسال مع الأهواء، فإن كانوا يفعلون ذلك وهم على غير دين «فالشرع لمّا جاء بيّن هذا كله، وحمل المكلفين عليه: طوعًا وكرهًا، ليقيموا أمر دنياهم لآخرتهم»(86).

ثم يعود الشاطبي إلى تأكيد ما قرره في الأصل الثاني الذي يخرج العقل عن دائرة التحسين والتقبيح والتشريع. فالشرع هو الذي يحدد المصالح مصالح، والمفاسد مفاسد، وهذا أمر لا مجال للعقل فيه «بناء عل قاعدة نفي التحسين والتقبيح. فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحة، وإلا فكان يمكن عقلاً ألا تكون كذلك، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية، لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح، فإذاً، كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع، بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس». وهكذا لا تخلو المصالح من معنى من معاني التعبد لله، الذي وضع المصالح والمفاسد على ما هي عليه، تحقيقًا لمصالح العباد.

والله عز وجل هو خالق المصالح وواضعها، وليس للعبد علم بها، إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له. وقد يكون المرء ساعيًا في مصلحة نفسه من وجه، لا يوصله إليها، أو يوصله إليها عاجلاً لا آجلا، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة أكثر مما فيها من المصلحة، فلا يقوم خيرها بشرها «فإذا كان كذلك فالرجوع إلى وجه الذي وضعه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة والتخفيف، على الكمال، بخلاف الرجوع إلى ما خالفه»(87).

وإذا كان الأمر كذلك فإنه ليس غريبًا أن يشترط الشاطبي في المصلحة أن تكون موافقة للنص، غير مخالفة له، وإلا كانت مهدرة لا قيمة لها ولا اعتبار، فليس يصح اعتبار كل مصلحة مصلحة مشروعة، حتى لو كانت مخالفة للشرع؛ لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح، من حيث وضعها الشارع كذلك»(88).

وهذا شرط ضروري لابد من مراعاته في كل حديث عن المصالح، التي قد تتخذ في بعض الأحيان أو أكثرها ــ ذريعة لمخالفة شرع الله تعالى، بدعوى المصلحة.

والحق أن ما ينطبق على المصلحة ينطبق على كل ما يتعلق بالتشريع بصفة عامة، فالاجتهاد ــ بصوره المختلفة، وبطرفه المتعددة ــ مشروط بموافقة الشرع حتى يكون مقبولاً وعلى سبيل المثال فإن الإجماع الذي هو أقوى الأدلة بعد الكتاب والسنة يجب أن يكون مستندًا إلى الدليل الشرعي. وفي ذلك يقول الجويني: «ليس الإجماع في نفسه دليلاً، بل العرف قاض باستناده إلى خبر»(89).

والقياس ليس دليلاً مستقبلاًّ بذاته، بل إنه ــ من حيث الأخذ به ــ أصلاً ــ ومن حيث الشروط اللازمة لإعماله، والمعتبرة فيه ــ تطبيقًا ــ مستند إلى الدليل الشرعي(90)، وكذلك المصالح المرسلة تعد بمثابة الفرع من الأصل الذي هو النصوص الشرعية، وقبول الفرع مشروط بموافقة أصله، وإلا كان مهدر الاعتبار(91).

ثانيًا: إلى أي مدرسة أو اتجاه ينتمي الشاطبي؟

هذه هي أصول الاعتقاد عند الشاطبي، وهي أصول ثلاثة جامعة، يندرج تحتها الكثير من مسائل العقيدة وقضاياها. ويبقى التساؤل عن هوية المدرسة أو الاتجاه الذي ينتمي إليه الشاطبي؟

وينبغي أن نكون على ذكر بما جاء في أوائل البحث من الشاطبي لم تكن له مؤلفات خاصة في العقيدة، ولو وقع ذلك كان من السهل الوصول إلى تحديد دقيق أو مقارب لانتمائه لمدرسة أو أخرى من المدارس الكلامية عن طريق المقارنة والموازنة. وسيكون علينا في ضوء غياب مثل هذه المؤلفات ــ أن نجمع نصوصه في سياقاتها المختلفة ــ بعضها إلى بعض، ثم نجتهد في استخلاص الطابع الغالب عليها، تمهيداً للإجابة عن هذا التساؤل. ومن المتوقع أن تختلف الإجابات لدى الباحثين نظرًا لتغليب عنصر أو آخر في عملية التصنيف والتحليل.

ولعل مما يساعد على الإجابة أن يتحول التساؤل العام السابق إلى عدد من التساؤلات الجزئية التي تقود الخطى إلى إجابة عامة.

فهل كان الشاطبي معتزليًّا؟

وتبدو الإجابة هنا أكثر يسرًا، وقد جاء جزء منها فيما سبق من حديثه عن الأصلين الثاني والثالث، وهو ينصب ــ في جملته ــ على قولهم بالتحسين والتقبيح. ويأخذ عليهم الشاطبي أنهم جعلوا عقولهم هي العمدة؛ ولذلك حكموها في التشريع، وردوا بها القرآن بالتلويح والتصريح، وخرجوا ببدعتهم هذه على السنة خروجًا ظاهرًا(92). وقد أغلظ القول في الحديث عن آرائهم تلك، ثم قال: «ولو وقفوا هنالك لكانت الداهية ــ على عظمتها ــ أيسر، ولكنهم تجاوزوا هذه الحدود كلها إلى أن نصبوا المحاربة لله ورسوله، باعتراضهم على كتاب الله وسنة نبيه ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وادعائهم عليهما من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول وفساد النظم ما هم له أهل»(93). وقد أوضح أن المعتزلة فرقة من تلك الفرق المخالفة للفرقة الناجية وهو قد أوضح أن المعتزلة فرقة من تلك الفرق المخالفة للفرقة الناجية وهم أهل السنة والجماعة. وقد وقعت المخالفة في أصل كلي، وقاعدة من قواعد الشريعة «وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية .. واعتبر ذلك بمسألة التحسين العقلي، فإن المخالفة فيها أنشأت بين المخالفين خلافًا في فروع لا تنحصر، ما بين فروع عقائد وفروع أعمال»(94). وقد أخذ على المعتزلة ــ كذلك ــ قولهم بالوجوب على الله تعالى، وهو أثر من آثار القاعدة السابقة في التحسين والتقبيح، وفي ذلك يقول: «ثم قصروا أفعال الله على ما ظهر لهم، ووجهوا عليه أحكام العقل، فقالوا: يجب على الله كذا، ولا يجوز أن يفعل كذا، فجعلوه محكوماً عليه كسائر المكلفين»(95).

كما أخذ عليهم آراءهم في الصفات الإلهية، بصفة عامة، فقد أخطأوا الصواب فيها بسبب تحكيمهم للعقل كذلك، مع أن العقل قاصر في إدراكه للمخلوقات «فكيف لا يثبت قصوره في إدراكه .. بالنسبة إلى صفات الباري. فكان من الصواب في حقه أن يثبت من الصفات ما أثبته الله لنفسه، ويقر مع ذلك بالوحدانية له على الإطلاق والعموم»(96). ثم كان عليهم أن يلتزموا قاعدة التنزيه التي قررها قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلهِ شَيءْ) (الشورى: 11) وهي آية نقلية عقلية، وقد لاحظ الشاطبي أن المعتزلة كانوا يتصورون الصفة الإلهية تصورًا تشبيهيًّا، أي بحسب وجود الصفة في الإنسان، ثم يقومون بتنزيه الله عنها، حتى لا تقع المتشابهة بين الله وخلقه، وينطبق ذلك على آرائهم في رؤية الله في الآخرة، وفي كلام الله تعالى. وقد أخطأوا في الأمرين جميعًا «فأما الرؤية فلا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا، إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة، ليس فيها اتصال أشعة ولا مقابلة ولا تصور جهة، ولا غير ذلك، وليس لدى العقل جزم بامتناع ذلك، وقد جاء الشرع بإثباتها، فلا معدل عن التصديق»(97).

وأما الكلام فقد نفاه هؤلاء وقوفًا مع الكلام الملازم للصوت والحرف، ولم يدر بخلدهم أن يكون كلامه خارجًا عن مشابهة الكلام المعتاد على وجه صحيح يليق بالرب تعالى. وليس هناك ما يحيل أن يكون الكلام على وجه آخر غير معتاد. فإذا جاء الخبر بإثبات ذلك فكان من واجب العقل التسليم لظاهر الأخبار(98).

وينضم إلى ما سبق نقده لآرائهم في السمعيات الأخروية كالصراط والميزان وعذاب القبر وسؤال الملكين وتطاير الصحف(99)، وقد دفعهم إلى آرائهم فيها أنهم تصوروا ألا يكون الوجود إلا على النحو المعتاد الذي يعرفونه، وقد جاء الشرع بخرق العوائد في الدنيا على أيدي الأنبياء، وليس هذا الأمر بمستحيل عقلاً، وإن يكن مستحيلاً عادة، ومبادئ العادات ــ إذن ــ يمكن تخلفها عقلاً، إذ لو كان عدم التخلف لها أمراً عقليًّا لما أمكن أن تتخلف، لا لنبي ولا لغيره.

وليس هناك استحالة عقلية ــ كذلك ــ أن تخرق هذه العوائد في الآخرة، كما أخبر الشارع في كلامه عن أهل الجنة والنار وما يسبق الثواب والعقاب من حساب(100)، وهكذا تساءل الشاطبي قائلاً: «فلماذا يجعل استبعاد العقل صادًّا في وجه التصديق بأقوال الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ» (101) ؟!

ثم يأخذ عليهم آراءهم فيما يتعلق بوجود الشر في العالم وموقفهم من الصحابة الذين تطاول عليهم بعض المعتزلة تطاولاً واضحًا(102).

ولعل هذا الذي سقناه يكون كافيًا في الرد على هذا السؤال الذي قدمناه، وهو أن الشاطبي لا يمكن أن يكون معتزليًّا؛ لأنه يخالفهم في أصل هام من أصول مذهبهم، تنبني عليه فروع كثيرة في الاعتقاد والعمل كما سبق القول، ولو لم يكن لديهم إلا قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين لكان كافيًا في التفرقة بينه وبينهم(103). وله في هذه المسألة عشرات النصوص التي ذكرنا بعضها، وأشرنا إلى بعضها، ثم تتأيد هذه التفرقة بآرائه الكثيرة في عدد مهم من أصول المسائل الاعتقادية الكلامية وفروعها كحديثه عن الصفات الإلهية، والسمعيات، وتأويل بعض النصوص، ورد بعضها، ثم الطعن في الصحابة إلى غير ذلك من المسائل التي سقناها، ولئن اتفق رأيه معهم في بعض المسائل فإنما هو اتفاق عارض لا يثبت نسبه، تنفيها آراؤه الأخرى، وما أكثرها!

وعندئذ نتساءل: هل كان الشاطبي أشعريًّا؟

ويمكن القول ــ بادئ ذي بدء ــ إن الإٍجابة على هذا السؤال ليست في سهولة الإجابة السابقة، لما يكتنفها من ملابسات تؤدي إلى الخلاف حولها.

ولعل من أسباب الصعوبة في تقديم إجابة دقيقة أن المصادر قد صمتت عن تحديد مذهبه الكلامي، مما يدفع الباحث إلى الاعتماد على الفروض، وتلمس الأشباه والنظائر، كما أن آراءه تشبه أن تكون جمعًا بين آراء تنتسب إلى فرق مختلفة مما دعا بعض الباحثين إلى وصف آرائه بعدم الاتساق(104).

غير أن هناك من الباحثين من حسم القول بنسبته إلى الأشاعرة ولا سيما في موقفه من قضية إدراك المصالح بالعقل، وما يترتب على ذلك من رأى في تعليل الأحكام. يقول د/أحمد الريسونى: «ولننطلق من الشاطبي .. لنرى بعض مظاهر أشعريته في الموضوع، ومن خلاله ستتضح معالم النظرية الأشعرية في التحسين والتقبيح. فهو يصرح بأن نظرته تنبني على ما تقرر في علم الكلام. وهو يعنى ــ دون شك ــ علم الكلام الأشعري»(105).

ولا نريد أن نستفيض في مناقشة هذا الرأي، ولكننا نشير إلى عدد من الأمر:

1 ــ أن الشاطبي لا يصرح بأن نظريته مبنية على قواعد علم الكلام الأشعري، ونحن لا نجد لديه تصريحاً باسم الأشعرية بوصفها مذهبًا كلاميًّا إلا نادرًا، وفي إحدى المرات لقليلة التي صرح فيها باسمهم ــ ولعلها المرة الوحيدة ــ نجده يتحدث حديثاً غريبًا عنهم. وجاء تلك في سياق كلامه عن التكليف بما لا يطاق، وقد قال عنه: «ثبت في الشرائع الأول: التكليف بالمشاق، ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق. وأيضًا فإن التكليف بما لا يطاق قد منعه جماعة عقلاء، بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم. وأما المعتزلة فذلك أصلهم، بحلاف التكليف بما يشق»(106).

والشاطبي هنا يؤرخ للمسألة، ويستدل لها بما ثبت في الشرائع السابقة، وبما انتهى إليه جماعة من العقلاء والعلماء من الأشعرية وغيرهم، ولعله لو كان ينتمي إلى هؤلاء الأشعرية لصرح بهذه النسبة، أو نسب نفسه إلى هؤلاء العلماء من رجالها، ولقال على سبيل المثال: بل أكثر علمائنا من الأشعرية وغيرهم. وصمته هنا لا يخلو من دلالة، وأقل ما فيه ألا يسمح بهذا القطع بنسبته إليهم.

2 ــ أن الشاطبي قد جعل من أصوله أن الشريعة مبنية على تحقيق مصالح العباد، وقد أفاض في بيان ذلك في قسم المقاصد من كتابه الموافقات، وبناء على هذا الأصل كان على الفقيه أن ينظر في مآلات الأفعال، وما يترتب عليها من المصالح والمفاسد وكان عليه ألا يقدم أو يحجم إلا بعد نظره فيها، وإنما كان ذلك كذلك لأن المآلات معتبرة في أصل التشريع، وهذا المجال مجال «صعب المورد، ولكنه عذاب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة»(107).

وقد أفصح الشاطبي عن مخالفته لرأى الأشاعرة في هذه المسألة ممثلين في إمام كبير من آئمتهم وهو فخر الدين الرازي (606هــ)، والذي أورد الشاطبي رأيه قائلاً: «وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة ألبته، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين، ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل لأحكام الشريعة أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام الشرعية خاصة ..» ثم يقول: «والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره» (108).

ويأخذ الشاطبي على الرازي تناقضه في الرأي بين ما اختاره في علم الكلام بوصفه أشعريًّا، وا اضطر إليه في علم أصول الفقه ليتسنى له الحديث عن القياس القائم على مبحث العلة الجامعة بين الأصل المقيس عليه، والفرع المقيس ولولا ذلك لخرج أصل القياس من أدلة الأحكام كما فعل الظاهرية وغيرهم ممن رفض القياس، وقد أوضح الشاطبي أنه توصل باستقراء نصوص الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره. وكلمة: ولا غيره ــ هنا ــ يدخل فيها الأشاعرة وأمثالهم من نفاة التعليل، وقد ذكر الشاطبي بعض نصوص الشريعة الدالة على التعليل ثم قال: «وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة. ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد، فلنجر على مقتضاه» (109). وليس لديه ــ إذن ــ مثل هذا التناقض الذي وقع فيه الرازي وهو يخالفه ويخالف من يقولون برأيه مخالفة واضحة في مسألة أصولية هامة، بذل جهد في تقريرها وتأكيدها حتى عرف بها وعرفت به كما سبق القول.

3 ــ يدلل د /الريسوني على انتساب الشاطبي إلى الأشعرية بما ذكره الشاطبي في مقدمته العاشرة من كتابه الموافقات، وفيها يقول: «إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا ويتأخر العقل فيكون تابعًا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل ..» (110).

ويختلف هذا المبدأ الحاسم اختلافًا كبيراً عما يقول به كثير من الأشاعرة وقد يصدق هذا على بعض أعلام الأشاعرة دون بعض، فلقد تأثر كثير من الأشاعرة بفكرة التأويل التي سبق إليها المعتزلة، وهو ما أدى إلى التقبل لفكرة «الدور» التي قالوا بها، ثم إلى تقديم الدليل العقلي على النقلي الذي ليس بإمكانه عندهم أن يقرر أصول الشريعة، ولا أن يخالف الدليل العقلي الذي يرفى إلى مرتبة اليقين والقطع على عكس الدليل النقلي الذي تقف حوائل كثيرة دون قطعته، وظهر ذلك كله بدرجات متفاوتة لدى بعض أعلام الأشاعرة كابن فورك وعبد القاهر البغدادي، والجويني في الشامل والإرشاد، والغزالي في بعض كتبه، والآمدى، وقد بلغ هذا الاتجاه ذروته لدى الرازي لاسيما في كتابه : أساس التقديس(111) كما سبق القول.

وقد كان الشاطبي قاطعًا في القول بتقديم الدليل الشرعي القطعي على ما سواه من الأدلة، كما كان واضحاً في بيان أنه لا تنافر بين أدلة الشرع وأدلة العقول. وهو يختلف معهم في هذه المسائل كلها كما يختلف في تعليل الأحكام ورعاية الشريعة المصالح مع الحجم الغفير من أعلام الأشاعرة. فهل يسمح لنا ذلك كله بالقطع بأنه كان أشعري المذهب؟

4 ــ إن موقف الشاطبي من علم الكلام يقف حائلاً دون نسبته إلى هذا العلم، أو إلى فرقة من فرقه المعهودة. ويتضح ذلك مما يأتي:

أ ـ يرى الشاطبي أن علم الكلام علم جدلي، يتعصب فيه كل ذي رأي لرأيه، وهو لا يخلو من التعصب للرأي ولو على حساب الحق الذي ينبغي أن يكون مطلب العلماء، ومنتهى غايتهم، ثم إنه انتهى ــ في تطوره التاريخي ــ إلى تعقيد الأدلة، والاعتماد على مقدمات صعبة لا يتيسر معها الوصول إلى الحق من أقرب طريق، وفي ذلك من بذل الجهد ما فيه، مع افتقاد اليقين فيما يتوصل إليه من نتائج. وهذا كله مخالف لما كان عليه السلف الصالح من انتهاج الطريق الأقرب إلى الفهم، البعيد عن التعقيد والتكلف والصعوبة، «ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من فير ترتيب متكلف، ولا نظم مؤلف .. وأما إذا كان الطريق مرتبًا على قياسات مركبة أو غير مركبة، إلا أن في ايصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل فليس هذا الطريق بشرعي، ولا تجده في القرآن والسنة، ولا في كلام السلف الصالح فإن ذلك متلفة للعقل، ومحارة له قبل بلوغ المقصود» (112). ولذلك جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين. وقد ذكر أن الكلام في ذم الجدال كثير، فإذا كان مذمومًا فمن جعله محمودًا، وعده من العلوم النافعة بإطلاق فقد ابتدع في الدين. وقد أكثر القدامى من ذمه والكلام فيه وإليه توجهت سهام النقد والذم (113).

ب ـ أن الاعتماد على الدليل العقلي قد غلب على علم الكلام، وأدى ذلك إلى استبعاد الأدلة الشرعية، التي ينبغي أن تكون لها الصدارة في إثبات العقائد الدينية، كما أدى إلى تصارع الأدلة العقلية واشتعال الخلاف بين المتناظرين «فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعب الاستدلالات، وإيراد إشكالات عليها بتطريق الاحتمالات، حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليلاً يعتمد، لا قرآنيًّا ولا سنيًّا، بل انجر هذا إلى المسائل الاعتقادية، فاطرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية .. واعتمدوا على مقدمات عقلية غير بديهة، ولا قريبة من البديهة، هربًا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية، فدخلوا في أشد مما منه فروا، ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها، وهم المخاطبون أولاً بالشريعة، فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم، وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد، ولا يزيد البحث فيها إلا خبالاً» (114). وينصب هذا النقد المنهجي المهم على طبيعة الدليل المستخدم في علم الكلام ثم على نوع المقدمات التي يتكون منها، وما أدى إليه ذلك من وجود مباحث نظرية فلسفية دخلت إلى علم الكلام من الفلسفة بعد ترجمتها إلى اللغة العربية، وقد حملت معها مصطلحات ومفاهيم ونظريات حلت بالتدريج محل الأدلة الشرعية كدليل الجوهر الفرد، ودليل الممكن والواجب، ودليل التناهي، وهكذا امتزج العلم بالفلسفة اليونانية حتى لكأن القارئ لكتبه ــ لا سيما المتأخرة منها كالمواقف للإيجي وشروحه ــ يقرأ كتابًا في الفلسفة لا في علم الكلام.

وإذا قيل : إن بعض علماء الكلام يستخدمون الأدلة الشرعية في بعض مسائل العلم فإن ذلك مردود بأن الأدلة الشرعية معزولة عندهم ــ في الأعم الأغلب ــ عن أصول العقائد التي لا تثبت عندهم إلا بالعقل، بل إن كثيراً من هؤلاء لا يرجعون إلى الأدلة الشرعية رجوع مفتقر إليها، باحث فيها عن الحق الذي تضمنته، بل إنه ينطلق من أفكاره، ثم يأتي بالأدلة الشرعية للبرهنة على صدق ما ذهب إليه، فالأدلة الشرعية على هذا وسيلة وليست غاية، وفرع وليست أصلاً، و «كثيراً ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونهما مذاهبهم .. وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر، ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين» (115).

جـ ـــ ويتصل بهذا أن هؤلاء لا يأخذون أدلة الشريعة ونصوصها جملة واحدة، ولا ينظرون فيها نظرًا كليًّا جامعًا لشتات معانيها، بل يأخذون منها ما يوافق آراءهم وأهواءهم، ويعرضون عما سواه، بل قد يردونه صراحة، أو يسمونه بالضعف أو الوضع دون تبين ولا تحقق، وقد يبحثون عن المتشابه من الأدلة ليقدموه على ما سواه، فإذا وجدوا النصوص صريحة لجأوا إلى تأويلها دون ضرورة أو حجة، وسر ذلك كله أنهم يسعون إلى نصرة آرائهم بكل سبيل، وكان الحق أن يرد القليل إلى الكثير، والمتشابه إلى الواضح، كما يفعل من يطلبون الحق، وهؤلاء إن بدا لهم وجه الدليل أو وجه الحق أخذوا به، وإلا وكلوا الأمر إلى عالمه دون أن يتكلفوا ردًّا ولا تأويلاً»(116).

ونخلص من هذا إلى أن موقفه عن علم الكلام ليس موقف الراضي به، المقبل عليه، المنتسب إليه، بل إنه معرض عنه، ناقد له، في أصل منهجه، وطبيعة مقدماته وأدلته، وفروع مسائله، وقد نقل من كلام الأئمة كلامًا كثيرًا في ذم علم الكلام، ومن أول ما عنى به في هذا المقام ما قاله الإمام مالك رحمه الله «الكلام في الدين أكرهه، ولم يزال أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأى جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك. ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل. فأما الكلام في الدين وفي الله عز وجل فالسكوت أحب إلى، لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل».

وينقل الشاطبي ذلك عن الإمام ابن عبد البر، ثم يضيف إليه ما قاله ابن عبد البر نفسه، و«الذي قاله مالك عليه جماعة الفقهاء قديمًا وحديثًا من أهل الحديث والفتوى، وإنما خالف في ذلك أهل البدع. وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله، إلا أن يضطر أحد إلى الكلام، فلا يسعه السكوت إذا طمع في درء الباطل، وصرف صاحبه عن مذهبه، وخشى ضلالة عامة أو نحو هذا»(117).

ويمكن القول بأن هذا هو رأي الشاطبي في علم الكلام، فهو في ذاته غير مطلوب لما وقع فيه من الأخطاء المنهجية التي سبق الحديث عنها، غير أنه يباح للضرورة، وسدًّا للذريعة، مع الاعتماد في كل الأحوال على الأدلة الشرعية وهي كافية في رد كل فاسد وإبطاله، والشرع متكفل بذلك(118).

ويؤدى ما سبق كله إلى أنه نسبة الشاطبي إلى الأشعرية هي نسبة غير مبرهنة ولا مؤكدة، بل إن الشواهد والقرائن بل والأدلة تتجه اتجاهًا مخالفًا للقول بهذه النسبة.

وعندئذ، سيثار التساؤل مرة أخرى:

إذا كان المؤكد أن الشاطبي ليس معتزليًّا، وإذا كان من المرجح ــ بناء على ما سبق ــ أنه ليس أشعريًّا، فإلى أي منهج أو مذهب ينتمي؟

ويمكن القول بأن الشاطبي لم ينتسب إلى هذه الفرقة أو تلك من الفرق التي كانت سائدة بوجودها أو بفكرها في عصره، وأنه رأى أن الانتساب ينبغي أن يكون إلى ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن سلك سبيلهم قبل ظهور التفرق والاختلاف، ولعل تفكيره في هذا الأمر كان من وراء تأليفه لكتاب الاعتصام الذي يعنى الاعتصام بالكتاب والسنة وما كان عليه هؤلاء السلف الأولون، قبل نشأة البدع وظهور الفرق، وهو يذكر في مقدمة كتابه هذا الثناء البالغ على الصحابة بما هم له أهل، ثم يحكى قول أحدهم وهو أنس بن مالك في تغير أحوال الناس عما كانت عليه من قبل حتى لو أن رجلاً أدرك السلف الأول ثم بعث ما عرف من الإسلام شيئًا إلا الصلاة، ثم قال : «أما والله ــ على ذلك ــ لمن عاش في النكر ولم يدرك ذلك السلف الصالح فرأى مبتدعًا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله من ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح، يسأل عن سبلهم ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم ليعوض أجرًا عظيمًا، وكذلك فكونوا إن شاء الله»، وقد أخذ الشاطبي بنصيحته، وعاهد نفسه على الوفاء بحقها مهما وقع له من مكاره(119).

وليس غريبًا أن يقول عن هؤلاء السلف الصالح أنهم الحجة في الفهم وأنهم أهل العمل الراجح الصريح، وأهل الدين الصحيح، ويقول: «فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام، ثم لا يزال ينقص شيئًا فشيئاً إلى آخر الدنيا» ثم يقول: «وأجعل مرآة السلف الصالح مرآة لك» (120).

وقد أثنى الله ورسوله عليهم، وثبت لهم في الشرع الأفضلية، وعدّ لهم أهل السنة على الإطلاق والعموم، وجاء في الحديث الأمر باتباعهم، ووجوب محبتهم، وقدمهم جمهور العلماء عند ترجيح الأقاويل لكبر شأنهم في الشريعة، ووصفهم الذين جاءوا من بعدهم بأوصاف جليلة تدل على دقة أفهامهم، وطهارة قلوبهم، وعظم اتباعهم، وبعدهم عن الأهواء(121). وكان لهم ـ إلى ذلك ـ جودة المعرفة باللسان العربي، ومباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة «فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل .. والشاهد يرى ما لا يرى الغائب»(122).

وذلك كان الاقتداء بهم سنة، والتحري لما كانوا عليه هو سبيل النجاة، وكانت مخالفتهم بدعة لأن هؤلاء كانوا على الصراط المستقيم، ولابد من الحذر من مخالفتهم فلو كان ثم فضل ما لكان الأولون أحق به(123).

وقد أخذ الشاطبي عن هؤلاء الإعراض عن الغوص فيما غاص فيه الكلاميون من بعض الموضوعات التي لم يخص السلف فيها، كالكلام عما أسموه بالمتشابهات فقد أمسك السلف عن الحديث فيها، ولم يتكلموا ـ إذا تكلموا ـ «بغير التسليم له، والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد، كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه وأشباه ذلك، وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم، وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن، لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل، ولا تكليف يتعلق بمعناها» (124).

ولذلك فإن السلف الصالح من التابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء، ولا تكلموا فيها وهم الأسوة والقدوة(125).

ويتفق هذا المسلك مع الهدى النبوي الذي نهى فيه الرسول عن الأغلوطات وعضل المسائل، وعلى نهجه كره التابعون الأرأيتيين، وكره مالك الإٍيغال في المسائل، وكثرة التفريع في الرأي بل نهى عن الجدال دفاعاً عن السنة نفسها حتى لا يدخل المرء في الجدال والخصومات(126).

ويتصل بهذا الموقف ـ من قريب ـ النهى عن الدخول في التأويل دون حجة ولا دليل، حتى لا يقع في مخالفة الصحابة ومن سار على نهجهم، وهو ما وقع فيه كثير من الفرق التي نشأت من بعدهم، ممن «خلطوا وغلطوا، واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها، وهو كله خطأ على الدين .. إذ المتقدمون من السلف الصالح كانوا على الطريق المستقيم … فكل ما جاء مخالفاً لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه(127).

ويستدل الشاطبي للنهى عن التأويل بما كان عليه الصحابة الذي قالوا بالإٍثبات مع التسليم والإذعان لكلام الله ورسوله، والإقرار به وعدم المعارضة له، وهذا هو مذهب الصحابة رضي الله عنهم، وعليه دأبوا، وإياه اتخذوا طريقًا إلى الجنة فوصلوا «ولو كان الصحابة قد قاموا بالتأويل أو المعارضة لما تدل عليه النصوص لنقل إلينا، فلما لم ينقل دل على أنهم آمنوا به وأقروه، كما جاء»(128) وقد كان من نتائج ذلك أن قال الذين من بعدهم: أمروا الأحاديث في الصفات كما جاءت ولا تتناظروا فيها، وكلام مالك في الاستواء مشهور(129).

ولم يكن خافيًا على الشاطبي أن المعتزلة والأشاعرة وأمثالهم كانوا يقولون بالتأويل، بل يقولون بوجوبه ـ إذا تعارض في رأيهم ـ مع العقل، ولكنه بعد إيراده لرأي القائلين قال إن التسليم دون تأويل أسلم، وهو منهج الصحابة «إذا لم يثبت عنهم إلا مجرد التصديق .. فعليك به فهو مذهب الصحابة رضى الله عنهم»(130)  .. وعليه ألا يجعل العقل حاكمًا بإطلاق. وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع، ولهذا يجب تقديم ما حقه التقديم وهو الشرع وتأخير ما حقه التأخير وهو نظر العقل(131).

وقد أخذ عن الصحابة كذلك اعتبار المصالح أصلاً ملحوظًا في التشريع، فقد عمل الصحابة ومن بعدهم بمقتضاها، وهي من الأصول الفقهية الثابتة عن أهل الأصول، وإن كان فيها خلاف بينهم(132) والقائل بالمصالح قائل بتعليل الأحكام، وقد سبق إليه الصحابة رضوان الله عليهم(133).

وكل هذه مسائل مستقاة من فهم الصحابة واجتهادهم. فإذا ضممنا إليها ما سبق ذكره عند بيان أصوله، أو عند نقده لمخالفيه كالرازي وابن عبد السلام والمعتزلة، فإن جملة ما يربطه من الآراء بالصحابة ومن جرى على منهجهم تزداد، ومن أهم ما تتضمنه أن التحسين والتقبيح شرعيان لا عقليان، وضرورة تقديم النقل على العقل، وضرورة التزام العقل في نظره بما جاء في الشرع.

ويلاحظ أن الاتجاه إلى الارتباط بالسلف الأولين من الصحابة والتابعين كان ارتباطًا يتجدد عبر القرون، وقد نسب إليها كبار الأئمة من الفقهاء والمحدثين، بل انتسب إليه بعض من كانوا من الكلاميين، وكان هؤلاء الأشعري الذي ارتضى هذه الاتجاه مذهبًا له، كما يتجلى في كتابه الإٍبانة وأواخر كتاب مقالات الإسلاميين ورسالته إلى أهل الثغر.

وكذلك انتمى إلى هذا الاتجاه وسار على نهجه هذا بعض كبار الأشاعرة كالبيهقي، والجويني في النظامية، والغزالي في بعض كتبه، ومنها إلجام العوام عن علم الكلام، وهكذا.

ثم لم ينقطع عن الانتماء إلى هذا المذهب ـ بدرجات متفاوتة ـ علماء في تخصصات مختلفة، وأزمنة مختلفة، وقد وصف ابن القيم هؤلاء بأنهم الجيوش الإسلامية. وصار لهذا المذهب ذكر وشهرة في القرن الثامن كان يعيش فيه الشاطبي، على يد علماء كابن تيمية وابن القيم وابن كثير والذهبي وابن عبد الهادي وابن أبى العز الحنفي، ولعل رياح هذا المذهب قد وصلت إلى الشاطبي فارتضاها، وحتى لو لم تصل إليه فلقد وصل إليه علمه بهؤلاء السلف عن طريق مصادر أخرى يأتى في مقدمتها انتسابه إلى مذهب الإمام مالك بن أنس رضى الله عنه يثنى عليه وعلى فقهه وروعه واتباعه للسنة، وبعده عن البدعة واقتدائه بالسلف الأولين ثناء بالغًا(134).

ويمكن القول ــ في نهاية هذا المطاف ــ إن الشاطبي يختم كتابه: الموافقات بقوله: «.. على أن في أثناء الكتاب رموزاً نشيرة .. فمن تهدى إليها رجا ــ بحول الله ــ الوصول، ومن لا فلا عليه إذا اقتصر التحصيل على الحصول. ففيه ــ إن شـاء الله ــ مع تحقيق علم الأصول علم يذهب به مذاهب السلف، ويقفه على الواضحة، وإذا اضطرب النظر واختلف»(135).

وهي عبارة ذات دلالة بالغة في لفظها، وفي ختم الكتاب بها، ولذلك لا يصح إغفالها عند النظر في تحديد اتجاهه الاعتقادي، وهي جديرة بأن نختتم بها هذا البحث بعد سبح لا يخلو من مشقة في بحر الإٍمام الشاطبي وهو عميق، ونسأل الله أن نكون قد وصلنا بعد هذا السبح إلى بر أمان، والله الموفق والمستعان وهو حسبي ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.

***

الهــوامــش

(*) قدم البحث إلى ندوة : مناهج الاجتهاد التي عقدت بتونس في أكتوبر 2003.

(**) أستاذ الفلسفة الإٍسلامية بكلية دار العلوم ــ جامعة القاهرة، وعضو مجمع اللغة العربية.

  1. انظر على سبيل المثال : نظرية المقاصد عند الشاطبي، د. أحمد الريسوني، طبع المعهد العالي للفكر الإٍسلامي 1981م، والقائمة البيبلوجرافية التي قام بإعدادها د. محمد كمال الدين إمام عن مقاصد الشريعة. والتي كان للإمام الشاطبي نصيب كبير منها. انظر : مجلة المسلم المعاصر، عدد خاص بمقاصد الشريعة، العدد 103، السنة السادسة والعشرون مارس 2002م، ص 277 ـــ 284، وانظر : بالعدد نفسه البحث القيم الذي قدمه د. أحمد الطيب بعنوان : نظرية المقاصد عند الشاطبي، ومدى ارتباطها بالأصول الكلامية ص 13 ـــ 40، وانظر كذلك بحث د. إبراهيم محمد زين، بعنوان : الاستقرار عند الشاطبي، ومنهج النظر في مدوناتنا الأصولية، نشر بمجلة إسلامية المعرفة، التي يصدرها المعهد العالمي للفكر الإٍسلامي، العدد 30 خريف 2002 م ص 27 ـــ 59، إلى بحوث وكتب كثيرة أخرى.
  2.  انظر : الإفادات والإنشادات للشاطبي، تقديم وتحقيق الأستاذ /محمد أبي الأجفان، طبع مؤسسة الرسالة بيروت ط1/1983م صفحات : 23 ــ 27، 85، 160، 165.
  3.  الاعتصام للشاطبي، طبع دار عمر بن الخطاب، د. ت 1/24..
  4.  الموافقات للشاطبي بعناية الشيخ عبد الله دراز، طبع المكتبة التجارية الكبرى ــ مصر 1 /92 وقد ذكر الشاطبي أنه سمع ذلك عن شيخه أبى على الزواوي، حكاية عن بعض العقلاء، وقال الشاطبي : إنه رأى هذه الشروط منصوصة لأبى نصر الفارابي الفيلسوف في بعض كتبه. انظر : الإفادات والإنشادات ص 107 ويكشف ذلك عن معرفته ببعض كتب الفلسفة أيضًا.
  5.  الموافقات 4 /327.
  6.  السابق 1 /23، وانظر أمثلة لما أورده من إكالات، وما قدمه من ردود عليها في الموافقات 2/273، 277، 281، 325، 336، 352، وانظر ما قدمه من تقسيمات وفروع في مقام حديثه عن المسألة اليثه عن المسألة الخامسة من مقاصد المكلف، حيث قسم المسألة إلى ثمانية أقسام، ثم قام بإيضاحها والاستدلال لها. انظر الموافقات 2 /348، 349 ــ 364، وانظر كذلك 3 /87 ــ 89 وما بعدها إلى 102 وما بعدها 3 /231، 4 /284 وما بعدها 4 /294 إلى مواضع أخرى كثيرة.
  7.  الموافقات 2 /249 ــ 259.
  8.  انظر : الموافقات 4 /232، وانظر : الريسوني : نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص 94، 95.
  9.  الموافقات 1 /25.
  10.  انظر : الموافقات 1 /87.
  11.  أخرجه البخاري بهذا اللفظ في الأدب المفرد، مكتبة الآداب. مصر 1979 ص 84، وهو عند مالك في الموطأ بلفظ : بعثت لاتمم حسن الأخلاق، باب ما جاء في حسن الخلق 2 /904، وانظر الجامع الصغير للسيوطي 1 /103.
  12.  الموافقات 1 /25.
  13.  انظر : الرريسوني : نظرية المقاصد ص 29 وما بعدها.
  14.  انظر : الأستاذ عمر عبيد حسنة في تقديمه لكتاب الاجتهاد المقاصدي للدكتور /نور الدين بن مختار الخادمي، سلسلة كتاب الأمة. عدد 65، طبع قطر 1419 هـ ــ جـ 1/16، 17، 18.
  15.  يلاحظ أنه كان يقوم بتدريس ألفية ابن مالك وكتاب سيبويه ومختصر ابن الحاجب وموطأ مالك لتلاميذه، بل إن له مؤلفات في النحو واللغة، منها شرح جليل على الخلاصة في النحو، يقع في أربعة أسفار كبار، وشرح لرجز ابن مالك في النحو، وكتاب بعنوان : الاتفاق في علم الاشتقاق. انظر : مقدمة الإفادات والإنشادات ص 27، 28، ولكن هذا كله لا يقارن بكتابيه الجليلين : الموافقات والاعتصام.
  16.  انظر : الموافقات 3/7، 4 /174.
  17.  انظر : الاعتصام : 2 /129، 4 /176.
  18.  الموافقات : 4/176.
  19.  السابق : 4/178.
  20.  انظر : الاعتصام 1/25.
  21.  انظر : الموافقات 1/31.
  22.  انظر : 1/44، 45.
  23.  انظر : د/حسن الشافي في مقدمته لتحقيق كتاب المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين، لسيف الدين الآمدى ــ القاهرة ــ ط1/1983 ص20، 21، 28.
  24.  انظر : الغزالي : المستصفى (بهامشه فواتح الرحموت) تصوير دار الكتب العلمية ببيروت عن طبعة بولاق. ط/1983 جـ 1/5 ــ 7 وانظر كذلك : البرهان لإمام الحرمين الجويني، تحقيق د/عبد العظيم الديب، طبع قطر 1319 هـ جـ 1/84، 85 وانظر بحث د/أحمد الطيب، الذي سبقت الإشارة إليه بهامش 1 ص 16.
  25.  أبو الحسن العامري : الإعلام بمناقب الإسلام، تحقيق أستاذنا د/أحمد عبد الحميد غراب، دار الكتب العربي للطباعة والنشر ط1/1967 ص 125.
  26.  الموافقات 4/110.
  27.  الموافقات 1/86.
  28.  الموافقات 1/35.
  29.  الموافقات 2/6 وانظر مثالاً آخر في الموافقات 3/27.
  30.  الاعتصام 2/304، 305 وقد كان الشاطبي حريصًا على إيضاح أن هذا البيان الذي تضمنته الشريعة إنما هو البيان للكليات والقوانين، لا بيان الجزئيات بتفصيلاتها وفروعها، لأن الجزئيات لا تتناهى، ولم يكن من مقاصد الشريعة أن تحصرها بمرسوم أو قانون، وإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يجرى عليها ما لا نهاية له من النوازل. الاعتصام 2/305 وهذا المهم هو الذي يفتح الباب للاجتهاد كما سيأتى بيانه. وانظر كذلك : الاعتصام 1/48، 49، الموافقات 2/37، 4/233 وما بعدها.
  31.  الموافقات 1/50، وكذلك 2/275.
  32.  الموافقات 1/78.
  33.  السابق 1/78، 79.
  34.  الاعتصام 2/249 وانظر : الموافقات 4/130، 131.
  35.  الاعتصام 2/310 وانظر : الموافقات 4/294.
  36.  الاعتصام 2/310 وانظر : 2/301 ــ 309، 317 وانظر : الموافقات 4/220، 214.
  37.  انظر : الاعتصام 1/246، 247.
  38.  الاعتصام 1/244، 245.
  39.  الموافقات 3/413.
  40.  انظر : الموافقات 3/87، 90، 95، وهو يصف بذلك بعض الفرق من غير من غير أهل السنة كالمعتزلة والخوارج والجبرية والرافضة، انظر : الموافقات ص 90، 91، 93، وانظر : الاعتصام 1/222، 245، 246.
  41.  انظر : الموافقات 3/263، 264، 265، ويقدم الشاطبي أمثلة لمسائل اعتقادية تتعلق بالتنزيه والتشبيه وعصمة الأنبياء.
  42.  انظر : الاعتصام 2/311، 312، وما بعدها حيث يذكر عشرة أمثلة توهم الاختلاف عند أول النظر، مع أنها ليست ــ بالفعل كذلك.
  43.  الأعتصام /2/339.
  44.  السابق، الموضع نفسه.
  45.  السابق 2/340.
  46.  السابق 1/340.
  47.  مقدمة الإفادات والإنشادات ص 39.
  48.  الاعتصام 2/355، وانظر كذلك : 1 /359، 2/3، 45 وهو يستشهد بما فعله أبو بكر رضى الله عنه الذي قدم قول رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ــ في قتال من فرق بين الصلاة والزكاة على آراء الرجال، الاعتصام 2/356.
  49.  انظر : الاعتصام 1/144، 171، 184، 232، 233، 235، 241، 243.
  50.  الاعتصام 2/352.
  51.  الاعتصام 2/323، 324، وما بعدها، والموافقات 2/33، 34.
  52.  الاعتصام 2/321.
  53.  انظر : الاعتصام 2/319 ــ 323.
  54.  الاعتصام 2/320، 321.
  55.  انظر مثلاً : الملل والنحل للشهر ستاني، بهامش الفصل لابن حزم، طبع المطبعة الأدبية ــ القاهرة 1317 هـ 3 /237، 238، والبدء والتاريخ لمقدسي، باريس 1899 1/109، 110، وأعلام النبوة للماوردي، دار الكتب العلمية ــ بيروت ط2/1981 ص 21، 22 وما بعدها.
  56.  الاعتصام 2/3، 45 والنص منها، وانظر 1/359.
  57.  الاعتصام 2/331.
  58.  الاعتصام 1/46، وارجع إلى كلام ابن عبد السلام في كتابه : قواعد الأحكام ــ دار الكتب العلمية بيروت، د.ت 1/1، 6.
  59.  الموافقات 2/48، وارجع إلى كلام ابن عبد السلام في كتابه : قواعد الأحكام ــ دار الكتب العلمية بيروت، د.ت 1/1، 6.
  60.  الموافقات 2/48.
  61.  الاعتصام 2/318.
  62.  الموافقات 2/17، وانظر كذلك 1/267.
  63.  انظر : الموافقات 3/27.
  64.  انظر : الموافقات 2/107، وفي المسألة آراء أخرى يمكن الرجوع إليها في كتب علم الكلام، وانظر : الموافقات 1/150.
  65.  انظر : الموافقات 3/27 ــ 29.
  66.  رسائل الكندي، تحقيق أستاذنل د/محمد عبد الهادي أبي ريدة، دار الفكر العربي 1950، 1/244، وانظر 1/376.
  67.  رسائل في الحكمة والطبيعيات، مطبعة الجوانب بالقسطنطينية، ط1/1298 هـ، ص 50.
  68.  فصل المقال فيما بين الحكمة الشريعة من الاتصال، تحقيق د/محمد عمارة، دار المعارف، مصر، د. ت ص 31، 32.
  69.  درء تعارض العقل والنقل، تحقيق د/محمد رشاد سالم، طبعة الرياض، ط1 /1399 هـ، جـ1/147، انظر كذلك 1/80، 91 ــ 93، 133، 138.
  70.  انظر : أساس التقديس في علم الكلام، لفخر الدين الرازي، طبعة مصطفى البابي الحلبي 1935، ص172، 173.
  71.  الموافقات 10/87، 88، وانظر ما بعدها وكذلك 1/35، 38.
  72.  الاعتصام 2/331.
  73.  انظر : الاعتصام 2/326، 327.
  74.  انظر مثلاً : الاعتصام 2/331، 336، والموافقات 2/213 وسيأتى لذلك تفصيل فيما بعد إن شاء الله.
  75.  انظر مثلاً : الموافقات 1/87، 89، 349، 2/49، والاعتصام 2/283.
  76.  الموافقات 1 /77، وانظر : الموافقات : 1/139، 195، 199، 201، 213، 2/8 ــ 11، 37 إلى مواطن أخرى كثيرة جدًّا.
  77.  الموافقات 1/77.
  78.  السابق  2/49.
  79.  السابق 1/38.
  80.  السابق 2/54.
  81.  السابق 2/49 وانظر الموافقات 1/77.
  82.  السابق 1/37.
  83.  السابق 1/37، 38.
  84.  السابق 1/37، 38.
  85.  السابق 2/168، وانظر في الاستدلال هذا الأصل 2/169 وما بعدها، وانظر 1/37، 38، 336، 337.
  86.  الموافقات 2/39، وانظر 2/49، 169، 170.
  87.  الموافقات 1/349، وانظر 1/179.
  88.  الموافقات 1/41، وانظر مثالاً تطبيقيًّا لهذه المسألة في الموافقات 4/329، وانظر الاعتصام 2/113، 129.
  89.  البرهان 1/153، وانظر 1/163، وانظر فتاوى ابت تيمية، طبع الرياض 19 /195.
  90.  انظر : الموافقات للشاطبي 1/89، والاعتصام 2/351، 352.
  91.  انظر : أصول التشريع الإسلامي للأستاذ /على حسب الله، دار المعارف، مصر، ط5 /1976 ص 189 وما بعدها.
  92.  انظر : الاعتصام في مواضع كثيرة منها 1/44، 111، 171، 233، 240 ــ 242.
  93.  السابق : 2/268 وهو يشير هنا إلى ما حكاه عنهم ثم رده عليهم ابن قتيبة في كتابين من محاسن كتبه. انظر 2/269.
  94.  السابق 2/201، وانظر كذلك 2/59، 60، 99، 176، 179.
  95.  السابق 2/268 وانظر 2/331، والموافقات 2/213، 3/297.
  96.  الاعتصام 2/320، 331.
  97.  السابق 2/330، وانظر ردًّا أكثر تفصيلاً في 1 /240 ــ 242، 2 /327.
  98.  السابق 2/330.
  99.  السابق 2/328 ــ 330 وانظر 2/176.
  100. السابق 2/323، 324.
  101. السابق 2/329.
  102. الموافقات 2/28، 29 والاعتصام 1/119، 232، 233.
  103. انظر : نظرية المقاصد عند الشاطبي .. د/أحمد الطيب ــ نشر بمجلة المسلم المعاصر، مرجع سابق ص 34، 35.
  104. انظر : د/أحمد الطيب، مرجع سابق ص 34، 36.
  105. نظرية المقاصد … ص 216 وانظر ما بعدها.
  106. الموافقات 2/119.
  107. الموافقات 4/194، 195.
  108. الموافقات 2/6.
  109. السابق 2/7.
  110. الموافقات 1/87، وانظر : الريسوني ص 216.
  111. انظر : الآمدى وآراؤه الكلامية د/حسن الشافعي، دار السلام، مصر، ط1 /1998 ص 121 ــ 127، ثم انظر ما بعدها، وقد عنى ابن تيمية بالرد على كتاب أساس التقديس في كتابين كبيرين له هما : درء تعارض العقل والنقل، ونقض تأسيس الجهمية، وتابعه تلميذه ابن القيم، لاسيما في كتابه، الصواعق المرسلة، على الجهمية والمعطلة.
  112. الموافقات 1/59، 60.
  113. انظر : الاعتصام 2/93، 94.
  114. الموافقات 4/327.
  115. الموافقات 3/71، 72 وانظر 73.
  116. انظر : الاعتصام 1/134، 135، 244، 245، 2/253، 254 والموافقات 3/72، 73.
  117. الاعتصام 2/332.
  118. انظر : الموافقات 1/51، 4 /335 ــ 337.
  119. الاعتصام 1/17، 26 والنص من صفحة 26.
  120. انظر : الاعتصام 1/258، 269، 274، 285، 336، النصان من 1/258، 336.
  121. انظر : الموافقات 4/74 ــ 80.
  122. الموافقات 3/38.
  123. انظر : الموافقات 1/274، 3/70، 73.
  124. الموافقات 3/94 وانظر 2/88، 89.
  125. انظر السابق 3/99.
  126. انظر الابق 4/316، 318، 320 والاعتصام 2/3.
  127. الموافقات 3/72، 73.
  128. الاعتصام 2/331، 332.
  129. الاعتصام 2/336.
  130. الاعتصام 2/328، 329.
  131. السابق /326، 327.
  132. السابق 1/185 ــ 188، وضرب أمثلة لذلك كجمع المصحف وكتابة العلم بعد النهى عن كتابته، وقتل الجماعة بالوحد، وتضمين الصناع إلخ، وانظر كذلك الاعتصام 2/115 ــ 227.
  133. انظر : بحث د/أحمد الطيب، مرجع سابق ص 16 وهامش 1 بها، وانظر الموافقات 1/265، 2/171، 272.
  134. انظر : الموافقات 4 /286، 281.
  135. الموافقات 4، 340.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر