أبحاث

مفاهيم إسلامية في النقود والفرق بين الاكتناز والادخار

العدد 14

النقود مال نام حكما وبالقوة:
يقول السرخسي: الذهب والفضة خلقا جوهرين للأثمان لمنفعة التقلب والتصرف فكانت معدة للنماء على أي صفة كانت.
ويقول ابن قدامة: الأثمان هي الذهب والفضة، والأثمان قيم الأموال ورأس مال التجارات، وبهذا تحصل المضاربة والشركة،
وهي مخلوقة لذلك، فكانت بأصل خلقتها كمال التجارة”. والمضاربة الشرعية “المقارضة” هي شركة بمال من جانب رب المال وعمل من جانب آخر هو جانب المضارب بحصة شائعة معلومة بينهما في الربح.
يقول الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة: والنقود لا تنمو بذاتها ولكنها تنمو باستخدامها في التجارة أو الصناعة، وهي قد خلقت لذلك فهي لا تشبع الحاجات بنفسها ولكن تشبعها بما تتخذ وسيلة في جلبه، وهي مقياس القيم للأشياء، وموازين الأموال، بها تعرف ماليتها، فهي بشكل عام مقاييس الأعيان والمنافع، بها تحد وتعرف، ولهذا عدت مالاً ناميا بالقوة وإن بقيت في الخزائن لم تخرج منها، ولأنه كان ينبغي أن يخرج ويمد العمران بحاجات ويشبع النواحي الاجتماعية والاقتصادية والشخصية، ولا تكون كالماء الآسن الراكد الذي يفسده الركود ويغيره الاختزان ويجعله مأوى للمفاسد، فإذا كانت عدت مالاً ناميًا بالقوة فلأن الشارع الإسلامي حريص على أن تبرز النقود إلى الوجود عاملة متحركة ومقيمة وسائل الاستغلال على دعائم من العلم صالحة قوية.
قال الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز في مؤتمر القانون الإسلامي المنعقد في باريس في سنة 1951: “أما إن الربح ليس ثمرة عنصر واحد بل ثمرة عنصرين متزاوجين فذلك حق لا شبهة به وليس لنا أن نتلكأ في قبوله، غير أن المعارضين قد فاتهم شيء جوهري وهو أنه بمجرد عقد العرض أصبح العمل ورأس المال في يد شخص واحد. فإذا أصررنا على إشراك المقرض في الربح الناشئ وجب علينا في الوقت نفسه أن نشركه في الخسارة النازلة إذ كل حق يقابله واجب، ومتى قبلنا إشراك رب المال في الربح والخسر معا انتقلت المسألة من موضوع القرض إلى صورة مقابلة أخرى وهي الشركة التضامنية الحقيقية بين رأس المال والعمل وهذه الشركة لم يغفلها القانون الإسلامي بل أساغها ونظمها تحت عنوان المضاربة أو القراض.
هذا وإذا لم تتزاوج وتشترك النقود مع عنصر أو أكثر من عناصر الإنتاج لتثمير رأس المال النقدي بالفعل فإنها تخضع –بوصفها مالا ناميا حكما وبالقوة- لاستقطاع مالي سنوي نظمته زكاة المال حتى تكاد تأكلها. ولا شك في أن هذه الوظيفة الاقتصادية لزكاة النقود تلعب دورا مهما وبارزا في إتاحة السيولة النقدية اللازمة وتوفير مصادر التمويل الداخلي للمشروعات الاقتصادية، وقد أسلفنا أن التمويل في الاقتصاد الإسلامي طلبا للربح طريقه وسبيله هو الشركة لا القرض بالفائدة الربوية، وأن نماء النقود عن طريق الاستثمار هو النماء الحلال الطيب أما بطريق القرض بالفائدة فهو كسب خبيث وربا حرمه القرآن والسنة.

ولهذا تجب زكاة المال في النقود متى بلغت نصابًا وحال عليها الحول ولم يكن لها نماء حقيقي وبالفعل لأنها مال نام حكمًا وبالقوة والزكاة متعلقها الأموال ذات النماء بالقوة أو بالفعل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ثمروا أموالكم فإن الزكاة تكاد تأكلها”.

حتمية تزاوج النقود مع عنصر أو أكثر من عناصر الإنتاج كشرط أساسي لنموها بالفعل:

لكي تنمو النقود بالفعل يتعين في الفقه الإسلامي أن تتزاوج وتتضافر وتشترك مع عنصر أو أكثر من عناصر الإنتاج الأخرى، والصورة التي تنمو فيها النقود ذاتيًا بإقراضها بفائدة هي ربا حرمه القرآن، والزيادة على رأس المال النقدي عن طريق الإقراض وفي مقابل الزمان والإمهال والانتظار كسب خبيث؛ لأنه بغير عوض ولا يمكن جعل الإمهال والزمان عوضًا؛ إذ الإمهال والزمان ليسا بمال حتى يكونا في مقابلة المال. وطريق الربح الحلال والنماء الطيب الذي رسمه الإسلام هو طريق الشركة –لا القرض- حيث يتزاوج ويشترك رأس المال النقدي مع عنصر أو أكثر من عناصر الإنتاج الأخرى ويسهم في تمويل المشروعات الاقتصادية بالمشاركة في الربح والخسارة ويكون الغنم بالغرم، وقد أقر الإسلام شركة المضاربة الشرعية “المقارضة” وهي شركة بمال من جانب المال وعمل من جانب آخر هو جانب المضارب بحصة شائعة معلومة بينهما في الربح، وبتزاوج رأس المال النقدي والعمل يطيب المال ويطيب الاقتصاد القومي وتطيب النفوس.

مفهوم الاكتناز في الفقه الإسلامي:

قال سبحانه وتعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ” وقال تعالى: “كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى”.

يقول الإمام القرطبي: واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزًا أم لا، فقال قوم نعم. وقال قوم: ما أديت زكاته فليس بكنز. قال ابن عمر: ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كانت تحت سبعين أرض، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.

ويقول ابن كثير: وأما الكنز فقال مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة. وروى الثوري وغيره عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كانت تحت سبعين أرضًا، وما كان ظاهراً لا تؤدى زكاته فهو كنز.

ويقول الشيخ طنطاوي جوهري: المراد بالمال المكنوز ما لم تؤد زكاته ولو لم يكن مكنوزاً. قال صلى الله عليه وسلم “ما أدي زكاته فليس بكنز” أي ليس بكنز أو عد عليه.

وقال الأستاذ الدكتور محمد عبد الله العربي: فالتقتير وما يقترن به من اكتناز الذهب والفضة أو غيرهما من وسائل النقد يحول دون نشاط التداول النقدي، وهو ضروري لإنعاش الحياة الاقتصادية في كل مجتمع. فحبس المال تعطيل لوظيفته في توسيع ميادين الإنتاج وتهيئة وسائل العمل للعاملين.

وقد أثار الإمام القرطبي مسألة “من لم يكنز ومنع الإنفاق في سبيل الله، فقال: قال علماؤنا: ظاهر الآية تعليق الوعيد على من كنز ولا ينفق في سبيل الله، وينهض للواجب وغيره، غير أن صفة الكنز ينبغي ألا تكون معتبرة فإن من لم يكنز ومنع الإنفاق في سبيل الله فلا بد أن يكون كذلك، إلا أن الذي يخبأ تحت الأرض هو الذي يمنع إنفاقه في الواجبات عرفًا فلذلك خص الوعيد به.

ومفهوم الاكتناز في الفكر الإسلامي يشمل منع الزكاة وحبس المال: ومنع الزكاة منع للإنفاق في سبيل الله لأن الزكاة واجبة في سبيل الله وحق ثابت في المال. وإيجاب الزكاة في المال النامي بالقوة أو بالفعل ينطوي ضمنا على محاربة اكتناز النقود وتجسيدها وحبسها وتعطيلها عن أداء وظائفها الأساسية، إذ إن النقود مالٍ نام حكما وبالقوة وإيجاب الزكاة فيها ولو لم يكن لها نماء بالفعل مدعاة لعدم اكتنازها بل إنه مدعاة لتوجيهها للاستثمار والتنمية لكي يكون إخراج زكاتها من النماء لا من رأس المال. يقول الزيلعي: إن الواجب جزء من الفضل لا من رأس المال لقوله تعالى “وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ” أي الفضل، والنمو إنما يتحقق في الحول غالبا فأقيم السبب الظاهر وهو الحول مقام المسبب وهو النمو، قال صلى الله عليه وسلم “لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول” ولذلك ضرب الحول مدة لتحصيل النماء.

أبو ذر ومفهوم الكنز:

يقول الإمام القرطبي: “وقيل الكنز ما فضل عن الحاجة. روي عن أبي ذر وهو مما نقل من مذهبه، وهو من شدائده. ومما انفرد به رضي الله عنه. قلت: ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر في هذا ما روي أن الآية نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كفايتهم ولم يكن في بيت المال ما يشبعهم وكانت السنون جوائح هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال إلا قدر الحاجة. ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت. فلما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مئتي درهم خمسة دراهم وفي عشرين دينارًا نصف دينار، ولم يوجب الكل واعتبر مدة الاستنماء فكان ذلك منه بيانًا صلى الله عليه وسلم.

ويقول: روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية “والذين يكنزون الذهب والفضة” قال: كبر ذلك على المسلمين فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي الله، إنه كبر على أصحابك هذه الآية فقال: “إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم” قال: فكبر عمر. ويقول الإمام القرطبي: “قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه. ولو كان ضبط المال ممنوعًا لكان حقه أن يخرج كله وليس في الأمة من يلزم هذا. وحسبك حال الصحابة وأموالهم رضوان الله عليهم”.

قلت هذا الذي يليق بأبي ذر رضي الله عنه أن يقول به، وإن ما فضل عن الحاجة ليس بكنز إذا كان معدًا لسبيل الله.

الفرق بين اكتناز النقود والادخار في الفكر الإسلامي:

وعلى هذا فإن الادخار يختلف عن الاكتناز المنهي عنه، وكل ما فضل عن الحاجة وهو يمثل الادخار على المستوى الفردي ليس بكنز إذا كان معدًا لسبيل الله، وسبيل الله هو سبيل النفع والخير العام وسبيل المصلحة العامة وسبيل إعلاء كلمة الله ونصرة الإسلام وأهله وقوتهم.

فإذا ادخر الشخص بعض ماله وأمسك الفضل من كسبه الطيب –بعد إنفاقه بقصد- وقدمه لمواجهة احتمالات المستقبل وليوم فقره وحاجته فليس ذلك بكنز. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “رحم الله امرأ اكتسب طيبًا، وأنفق قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وحاجته”.

وإذا أمسك الشخص بعض ماله عدة للسيولة النقدية فليس ذلك بكنز. قال صلى الله عليه وسلم “لا عليك أن تمسك بعض مالك فإن لهذا الأمر عدة”. وقال صلوات الله وسلامه عليه “أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك”.

والنماء والتنمية تتحقق بالاستثمار لا بكنز المال وحبسه، لذلك كان الاستثمار وكانت التنمية إعدادًا لسبيل الله وقوة المسلمين، وكان الاكتناز صدًا عن سبيل الله.

إن المال المزكى –وهو مالٍ نام- يمر في كل حول بعملية أو عمليات استثمارية ليكون إخراج زكاته من نمائه لا من رأسماله. وبذلك يطيب المال ويطيب المجتمع بأداء زكاته ويطيب به مالكه ويطيب به الاقتصاد القومي باستثماره ومداومة الاستثمار.

بعض صعوبات محاربة الاكتناز وتعبئة المدخرات الصغيرة في الدول النامية

يقول… هانسون في العمل في إبطال عادة الاكتناز وتنشيط الادخار وتعبئة المدخرات الصغيرة. وقد يقال أحيانا: إن في متناول الحكومة وسيلة أسهل لتعبئة المدخرات الصغيرة وتتلخص –كما يرى البعض- في استيلاء الحكومات على المكتنزات وقد تبلغ في جنوب آسيا والشرق الأوسط ما يقرب من 10% من الدخول القومية. وإذا انطلقت هذه المكتنزات من مكامنها، وأنفقت في فترة خمسة أعوام فإنها قد تسهم في تكوين رأس المال سنويا بما يبلغ 2% من الدخول القومية، ولكن العيب الواضح في هذه المكتنزات هو صعوبة تحديد مكانها وصعوبة الاستيلاء عليها.

الإسلام يتغلب على تلك الصعوبات في محاربة الاكتناز بمخاطبة ضمائر الكانزين وتوعدهم واعتبار الاكتناز صدًا عن سبل الله:

إن الصعوبات التي تكتنف تحديد مكان المكتنزات يتغلب عليها الإسلام بالنهي في تعاليمه عن الاكتناز واعتباره صدًا عن سبيل الله وقد توعد الله الكانزين بالعذاب الأليم في الآخرة ليذوقوا جزاء ما كنزوا لأنفسهم وجزاء صدهم عن سبيل الله وإضرارهم بالناس وتعطيلهم للوظائف الأساسية للنقود. وهكذا فإن الإسلام بمخاطبة الضمير الإنساني ومن خلال عقيدة الجزاء والثواب والعقاب من الله سبحانه وتعالى يستأصل شأفة الاكتناز ليرسي في النفوس مبدأ الإنفاق في سبيل الله والادخار إعدادا لسبيل الله، واستثمار المال ومداومة استثماره. وكل إنفاق في غير معصية على استهلاك وعلى الاستثمار هو إنفاق في سبيل الله.

وقد كان عمر بن الخطاب –أبو المالية والاقتصاد الإسلامي- ينصح المسلمين بالادخار من عطائهم واستثماره فقد روى خالد بن عرقطة القدري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: “فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء ابتاع منه غنمًا فجعلها بسوادهم فإذا خرج عطاؤه ثانية ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها فإن بقي أحد من ولده كان لهم شيء قد اعتقدوه وإني لأعم بنصيحتي من طوقني الله أمره فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “من مات غاشًا لرعيته لم يرح ريح الجنة”. ها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوجه ما فضل عن الحاجة لا للاكتناز بل للادخار والاستثمار ومداومة الاستثمار.

ابن خلدون ومفهوم الاكتناز وانكماش التيار النقدي على المستوى الحكومي:

يقدم ابن خلدون مفهومًا للاكتناز وحبس المال على المستوى الحكومي فيقول: فإذا احتجز السلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها قل حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية، وانقطع أيضًا ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم، وقلت نفقاتهم جملة وهو معظم السواد، ونفقاتهم أكثر مادة للأسواق مما سواهم، فيقع الكساد حينئذ في الأسواق وتضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك؛ لأن الخراج والجباية إنما يكون من الاعتماد والمعاملات ونفاق –رواج- الأسواق وطلب الناس للفوائد والأربح، ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال الناس حينئذ بقلة الخراج. فإن الدولة كما قلنا هي السوق الأعظم أم الأسواق كلها وأصلها ومادتها في الدخل والخراج، فإن كسدت وقلت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه.

وأيضا فالمال إنما هو متردد بين الرعية والسلطان منهم إليه ومنه إليهم، فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية، سنة الله في عباده.

وقد أورد ابن خلدون نص الكتاب المشهور الذي كتبه طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما عهد إليه فيه ووصاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه ومما كتبه في هذا الكتاب ما نحن بصدده:

“واعلم أن الأموال إذا كنزت وادخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرعية وعطاء حقوقهم وكف الأذية عنهم نمت وزكت وصلحت به العامة وبرحت به الولاية وطاب به الزمان واعتقد فيه العز والمنفعة.

فيلكن كنز خزانتك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم، وأوف من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت قرت النعمة لك واستوجب المزيد من الله تعالى، وكنت بذلك على جباية أموال رعيتك وخراجك أقدر، وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أساسا لطاعتك.

وإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله وفي سبيل حقه.

واعلم أنك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا وإنما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم. وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزا ورفعة لأهله توسعة ومتعة موزعة بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له ولا تكلف أمرًا فيه شطط.

واعرف ما تجمع عمالك من الأموال وما ينفقون:

وهكذا يقرر ابن خلدون وغيره منذ أكثر من ستة قرون أن المال يتردد بين الرعية والسلطان، منهم إليه ومنه إليهم، وهو ما يقرره أساتذة وعلماء الاقتصاد من وجود تيار نقدي متدفق من الأفراد إلى الدولة ومن الدولة إلى الأفراد، وأن توسيع أو انكماش التيار النقدي يمكن أن ينشأ في أي نقطة من الدورة النقدية. ويحذر ابن خلدون وغيره الحاكم من الآثار السيئة الوبيلة التي تترتب على حبس الإيرادات العامة وأموال الدولة في خزائنها ويؤكدون أهمية الإنفاق الحكومي في شتى صوره وآثاره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

الوظيفة الاقتصادية لمصارف الزكاة في دعم الدورة النقدية وتوسيع التيار النقدي:

من المقرر أن هناك تيارين: تيارًا سلعيًا وتيارًا نقديًا يسيران في اتجاهين متضادين ويكمل أحدهما الآخر. وتتمثل الدورة النقدية في أن الأفراد يحصلون على دخل نقدي ويتقاضون نقودًا من المنشآت مقابل عرضهم للخدمات وعوامل الإنتاج المختلفة، ثم يقوم الأفراد بدورهم باستخدام هذا الدخل النقدي لمواجهة الإنفاق على الاستهلاك وشراء السلع الاستهلاكية مما يغذي المنشآت بدخل نقدي من عمليات البيع لتبدأ الدورة النقدية من جديد وهكذا.

والأصل في المسلم أن يعمل ويكتسب ويسهم بكسبه في الدورة النقدية وفي تغذية تيارها النقدي. والإسلام يعتبر العمل عنصرًا أساسيًا من عناصر الإنتاج بل ويجعل العمل ضربًا من العبادة. وقد يكون المسلم قويا قادرًا على الاكتساب إلا أنه كما يقول أبو عبيدة “في كتاب الأموال” قد يكون مكدودًا عن الرزق وهو في ذلك مجتهد في السعي على عياله حتى يعجزه الطلب، فإذا كانت هذه حاله فإن له حينئذ حقًا في أموال المسلمين يقول الله تبارك وتعالى “وفي أموالهم حق للسائل والمحروم”. وبعبارة أخرى قد يكون قويا قادرا على الاكتساب ولكنه يعاني من البطالة الإجبارية.

ولذلك تسد مصارف الزكاة للفقراء والمساكين الثغرة بين الدخل والإنفاق على الاستهلاك العائلي لعديمي أو محدودي الدخل في شكل مال نقدي يستخدمونه للإنفاق على الاستهلاك العائلي وشراء ما يحتاجون من السلع والخدمات التي يرغبون فيها، أو بتقديم الزكاة في شكل عيني لاستخدامها مباشرة في إشباع رغباتهم. والعبرة في الأداء النقدي أو العيني بأيهما أيسر وأسهل وأكثر ملاءمة في كل زمان ومكان. يقول أبو عبيدة (كتاب الأموال ص 427) “إنا قد وجدنا السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنه قد يجب الحق في المال ثم يحول إلى غيره مما يكون إعطاؤه أيسر على معطيه في الأصل”. وروى سحنون عن الإمام مالك “المدونة الكبرى ج 2 ص 91” قوله: “إن من كره الأداء النقدي للزكاة فذلك مخلفة، وإن بعض من يدفع الزكاة لم يكره ذلك الأداء النقدي وإن كان البعض الآخر قد لا يرى به بأسا” ويقول ابن رشد “بداية المجتهد ج 1 ص 242”: “والحنفية تقول إنما خصت بالذكر أعيان الأموال تسهيلاً على أرباب الأموال”.

ومصرف الغارمين –وهم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم- يمد من ركبه الدين –في غير معصية- في مصالح نفسه أو في مصلحة عامة بالمال النقدي إذا أحاط الدين بماله ولم يف ما عنده بدينه. وقد يكون الغارم تاجرا لزمته ديون تجارية وهو يحسن تدبير تجارته. يقول الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة: “وإن الإسلام يجعل الديون العادلة تؤدى من بين مال الزكاة، وقد سبق الشرائع الإنسانية كلها سبقا بعيدا وخصوصا الشرائع التي عاصرت نشأته، وحسبك أن تعلم أن القانون الروماني في بعض أدواره كان يسوغ للدائن أن يسترق المدين، أما شريعة اللطيف الخبير فقد جعلت دين المعسر تؤديه الدولة عنه” ويقول: “ويصح بالقياس على ذلك أن يقرض من مال الزكاة القرض الحسن لأنه إذا كانت الديون العادلة تؤدى من الزكاة فأولى أن تعطى منها القروض لترد إلى بيت المال”.

أما مصرف “في سبيل الله: فإذا قصرنا مفهومه على الصرف على القتال والجهاد في سبيل الله وإعداد وتجهيز الجيوش والقوات المسلحة فهو الإنفاق العسكري وهو إنفاق على استهلاك من سلع وخدمات. وإذا توسعنا في مفهومه على أنه الصرف فيما يعم كل مصالح المسلمين فهو الإنفاق في جميع وجوه الخير والنفع والمصلحة العامة وهو أيضا إنفاق على الاستهلاك مع سلع وخدمات.

وبصفة عامة فإن مصارف الزكاة تؤدي إلى زيادة الإنفاق الكلي على الاستهلاك سواء على الاستهلاك الفردي والعائلي أو على الإنفاق العسكري الحكومي مما يتولد عنه طلب قد يؤدي إلى زيادة حجم الوظائف. وتلك التعديلات بالزيادة في الإنفاق الكلي على الاستهلاك التي تؤدي إليها مصارف الزكاة ذات أهمية في تحقيق مستوى أعلى من التوظف في الاقتصاد القومي يعمل على تحقيق زيادة في الاستثمار، بالإضافة إلى أن مصارف الزكاة تعمل على دعم الدورة النقدية وتوسيع التيار النقدي.

وتجدر الإشارة إلى أنه لما كان القرض الحسن –وهو قرض بدون فوائد- يجوز تقديمه من مال الزكاة كما أسلفنا فإن بيت مال الزكاة يلعب بذلك دورا مهما كمؤسسة للقرض الحسن في زيادة حجم الأموال النقدية المتاحة للإقراض في قروض اجتماعية أو في قروض إنتاجية كما يعمل على دعم الائتمان.

وفضلاً عن مصارف الزكاة توجد مصارف الكفارات كالكفارة في الحج، والكفارة في الصيام، وكفارة حلف اليمين. وكفارة الصيد في الإحرام. وتوجد مصارف النذور. وغير ذلك من الحقوق الواجبة الثابتة في المال في محيط الأسرة والتكافل الأسري كالإنفاق على الوالدين في حالة العجز عن الكسب. وهي كلها روافد تمد تيار الإنفاق على الاستهلاك العائلي يضاف إلى ذلك الإنفاق الاختياري على سبيل التطوع والندب.

وهكذا فإن مصارف الزكاة تؤدي وظيفة اقتصادية مهمة بما تتيحه من دخل نقدي للأفراد عديمي الدخل ومحدودي الدخل، وما تمدهم به من قوة شرائية للإنفاق على الاستهلاك، ولا شك أن ذلك يعمل على دعم الدورة النقدية وعلى تحقيق تناسب ملائم بين التيار السلعي والتيار النقدي.

وقد بينا في مقالنا السابق أن النماء والتنمية يتحققان بالاستثمار لا بكنز المال وحبسه ولذلك كانت التنمية إعدادا لسبيل الله وقوة، كما بينا أن المال المزكى –وهو مالٍ نام- يمر في كل حول بعملية أو عمليات استثمارية ليكون خراج زكاته من نمائه لا من رأس المال حتى لا تأكله الزكاة. ولا شك في أن زكاة المال وزكاة النقود تؤدي وظيفة اقتصادية مهمة في الاستثمار والتنمية، وفي إتاحة السيولة النقدية والتمويل الداخلي للمشروعات الاقتصادية وهذا إجمال له تفصيل بإذن الله.

وننتقل إلى الكلام عن “وحدة النقود” في الفكر الإسلامي الاقتصادي وهي الدينار الشرعي والدرهم الشرعي.

(للبحث بقية)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر