أبحاث

مستقبل الحج : نظرات أساسية

العدد 46

}إنَّ أَوَّلَ وٌضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْغَالَمِينَ. فيهِ آياتُ بَيَّنات مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً, وَالله علىٰالنَّاسِ حجُ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبيلاً, وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ الله غَنيَّ عَنِ العَالَمِينَ{(3 : 196 ـــ 197).

الحج إلى مكة هو قمة التجربة الروحية للمسلم. إنه الصورة الحية الفعّالة والعملية للأمر الإِلهي : }وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله{(2 : 196). وعلىٰهذا, فالمسلمون لا يحجون بحثاً عن الهدىٰ, وإنما استجابة لما عندهم من هدىٰالله. وإن الحج تعبير عن الإٍيمان وليس طلباً له.

والحج أسمىٰتعبير عن الإٍيمان بالله الرحمن الرحيم, الأول والآخر. وهو تعبير عملي عن الإٍيمان بأنه قد عظّم البيت العتيق (بمكة) حين دعاه «بيته» وجعلهمثابة لعباده. وجعل ما حوله حرماً, وأنه (تعالىٰ) حرّم صيد البر وقطع الأشجار في الحرم ليزيد من حرمته. والمؤمنون يرون في هذه المنطقة موقع تجلٍّ إلهي. فإليه يأتي القاصي والداني رغبة في التقرب إلىٰ ربه, حاضعاً ذليلاً أمام خالق كل ما في السموات وما في الأرض. إلىٰ هذا المكان يلجأون فراراً من العالم المادي, تاركين رغباتهم المادية, زاهدين في المتع والترف, ممحّضينأنفسهم بالكلية لله نهارهم وليلهم, يقفون أمام عظمته تعالىٰوقوته يرجون عفوه وهُمْ علىٰوعي كامل أن الله أعلىٰمن أن يحتويه بناء أو يحده مكان أو موقع. وهذا كله تجسيد لعقيدتهم وإبراز لخضوعهم لأوامر ربهم(1).

وإذا كان الحج تعبيراً عن عقيدة المؤمنين, فإنه كذلك تعبير عن الأخوة العالمية في الإٍسلام(2). ففي هذا الملتقىٰالإٍلهي ترىٰالرجال والنساء من كل الأجناس والألوان واللغات والأقاليم والأصول يقفون في وحدة ومساواة, وقد نُحّيت جانباً كافة لتصنيفات الإٍجتماعية والأحوال الإٍقتصادية والقوىٰوالسلطات الدنيوية. ولا يبقىٰسوىٰالحضور الإٍلهي. والعباد الذين صاغوا وجودهم وفق إرادة الله وارتدوا أبسط اللباس «لباس الإٍحرام» : الإٍزار والرداء غير المخيطين يستر بهما الحاج بدنه. إنه التعبير عن وحدة المسلمين وتساويهم أمام الله. يتحرك لحجاج بملابس الإٍحرام البيضاء حركة موحدة من «منىٰ» و «مكة». تراهم ـــ وقد تلاشت شخصياتهم الدنيوية ـــ يتحركون من موقع مقدس إلىٰ آخر, يعبرون ـــ في تناغم ـــ عن تلبيتهم لأمر ربهم :

«لبيك اللهم لبيك ! لبيك اللهم لبيك ! لا شريك لك لبيك ! إن الحمد والنعمة لك والملك ! لا شريك لك !».

كذلك, فإن الحج تعبير عن البساطة في الإٍسلام. إن مصطلح «الحج» يُترجم عادة بـ (Pilgrimage) لكنه ـــ كسائر المفردات القرآنية ـــ أغّنىٰ وأحفل بالمعاني. فمن معانيه : القصد والتوجه, وطلب الأفضل, كما ينبغي الجهد والمثابرة. فالحاج يتوجه قاصداً إلٰهاً واحداً, مجتهداً في التغلب علىٰ أنانيته وشهواته الأرضية. وجهده هذا ـــ وهو لاشك عظيم ـــ ينتهي به إلىٰ نقطة ينسىٰ فيها حظ نفسه بالكلية, بل يلغيها لتصبح فوق إرادة الله. وهذا الهدف الشامل هو الذي تتجلىٰ فيه بساطة الإٍسلام. وما أكثر ما يدعو الحاج : «اللهم إنا نعوذ بك من كل شر, ومن كل صور الشرك؛ ونعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق ومن سوء المصير». يستعيذون بالله من كافة الشكوك. ما أبسط مطالبهم الروحية التي يجسدها لباس الإٍحرام البسيط. وفي هذه الحال من البساطة يتطلعون إلىٰ رحمة خالقهم. ففي نسك «الوقوف بعرفات» يسأل الحجاج ربهم المغفرة وهم في حال من الذلة والبساطة وبعد أن مارسوا بالفعل معاني الأخوة والعالمية والاستنارة الروحية بشكل لم يُتح لهم من قبل. وهنا في وادي «عرفات» يُفيض الرب العظيم الرحمن الرحيم غفرانه علىٰ من يشاء من عباده الذين غمرهم الشعور بوجوده علىٰ. وهنا يرتفع الشعور بالعالمية والأخوة الإٍسلامية إلىٰ الذروة. لكن تجربة التسامي والسبق تبقىٰ تجربة شخصية. إنني مع ربي ومع أنبل ساعات عمري. إنني طاهر وبسيط كيوم ولدتني أمي.

هذا هو السر في أن الحج يعني ولادة جديدة*. وثمرته الطبيعية هي موت النفس القديمة. ولعل هذا هو السبب في أن علماء السلف الصالح كثيراً ما أطلقوا علىٰ الحج «إكمال الدين». وفي الحج ألقىٰ النبيـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ «خطبة الوداع» التي ضمنها الحقيقة الواضحة أن الإٍسلام عالمي وأن البشر جميعاً عند الله سواء. كما أنزلت في هذا السياق الآية الكريمة :}الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيَنكُمْ وَأَلمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإٍسْلاَمَ دِيناً{(5 : 3). لهذا, فإن الحج يعتبر خاتم رحلة المسلم الروحية. إنه آخر ما فرض من أركان الإٍسلام الأربعة؛ فلقد بدأ رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ رسالته بالدعوة إلىٰ توحيد الله (تعالىٰ) وإلىٰ إقامة الصلاة المفروضة والصيام والزكاة.. ثم كان الحج خاتمة لها. وإذا كانت الصلوات الخمس ـــ من منظور تعبديّ محض ـــ تعتبرمعراجاً إلىٰ الله, فإن الحج نسك يُؤدىٰ داخل المنطقة التي جعلها الله حرماً, وعلىٰ مقربة من «بيت الله». وعلىٰ هذا, فالحج بعث واقعي علىٰ هذه الأرض, وكثيراً ما يقارن يوم عرفات بيوم البعث, }لِمَنْ المُلْكُ اليَوْمَ ؟! لله الوَاحِدِ القَهَّارِ{(40 : 16).

إن تجربة رفيعة كهذه, من الحضور الإٍلهي والعالمية والبساطة لا يمكن أن تكون حدثاً يتكرر يومياً. ولكنها تجربة لا يمكن للمسلم أن يستغني عنها في وجوده. من هنا كان فرضاً علىٰ كل مسلم أن يؤدي فريضة الحج مرة في العمر علىٰ الأقل إن استطاع. وأداؤه من الأهمية بحيث أن المسلم إذا مات قبل أن يحج فإن علىٰ ورثته أن يحجوا عنه. ونظراً لهذه الأهمية الروحية للحج, يتطلب القيام به استعداداً كبيراً من جانب المؤمنين الذين يحضرون إلىٰ مكة ليعودوا كما ولدتهم أمهاتهم, وذلك إن أرادوا أداء فريضة الحج ـــ كنسك روحي حيوي ـــ علىٰ الصورة المثالية للكيفية التي أداه بها رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ.

الحج المثالي :

يأتي الحجيج إلىٰ مكة ولديهم رغباتوتطلعات : فهم يتوقعون أن يؤدوا حجهم طبقاً للسنة, ويتمنون أن ينالوا الإٍشراق الروحي الذي من أجله هجروا متعهم ومباهجهم الدنيوية, ولديهم العزم والإٍخلاص علىٰأن يستفرغوا طاقاتهم البدنية حتىٰتتلاشىٰذواتهم ويصبحوا تماماً علىٰالنحو الذي أراده الله منهم. ومن هنا يتوقعون أن يجدوا بيئة الحج نقية وبسيطة وعلىٰالنحو الذي يناسب التاريخ الغَنِيّ للإٍسلام. إن غايتهم هي «مكة» ـــ «أم القرىٰ» حيث «بيت الله». مكة ،،، ذلك «الوادي الأجرد» المفعم بالنور. مكة ـــ عند المسلمين الصادقين ـــ ليست مجرد بقعة جغرافية.

إن تاريخها الغني بالجهاد ومناخها الروحي يجعلها روضة من رياض الجنة. إنها تجربة عميقة ومقدسة. إن مكة عند الحجاج جديدة وجميلة أبداً.

فالحج المثالي في نظر الحاج هو ذلك الذي يُؤدىٰ طبقاً للسنة في تلك البيئة الجرداء البسيطة المقدسة. لقد أدىٰ الحبيب مصطفىٰ ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ حجة واحدة وعمرتين. والحجة التي أداها هي حجة الوداع وفيها أرسيت الكيفية التي يجب اتباعها في أداء هذه المناسك. ففي الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة انطلق النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ قاصداً مكة. وكان في صحبته أزواجه. ويقدر عدد من خرجوا معه للحج من المسلمين بما يتراوح بين تسعين ألفاً ومئة وأربعة عشر ألفاً. وصلوا إلىٰ«ذي الحليفة» آخر النهار وباتوا بها. وفي الصباح أحرم النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وتبعه المسلمون. ولما وصل الركب إلىٰ «سَرف» ـــ وهو مكان علىٰ منتصف المسافة بين مكة والمدينة ـــ قال النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ لأصحابها : «من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل, ومن كان معه هدي فلا».

وفي الرابع من ذي الحجة وصل الركب إلىٰ مكة. أورد الباحث المصري محمد حسين هيكل :

«وبلغ الحجيج مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة فأسرع النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ والمسلمون من بعده إلىٰ الكعبة فاستلم الحجر الأسود فقبّله, وطاف بالبيت سبعاً, هرويل في الثلاثة الأولىٰ منها علىٰ نحو ما فعل في عمرة القضاء. وبعد أن صلىٰ عند مقام إبراهيم عاد فقبّل الحجر الأسود كرة أخرىٰ, ثم خرج من المسجد إلىٰ ربوة الصفا, ثم سعىٰ بين الصفا والمروة..»(3).

في الثامن من ذي الحجة اتجه النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ إلىٰ «مِنّى» وقضىٰ اليوم والليلة في هذا الوادي. وفي اليوم التالي انطلق مع شروق الشمس إلىٰ «عرفات»؛ وقد طلب من بعض أصحابه أن ينصبوا له خيمته في منطقة «نَمِرَة». وحين جاوزت الشمس كبد السماء أمر ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ بناقته (القصواء) أن تُرْحَلَ. فركبها حتىٰ وصل إلىٰ وادي «عُرَنة», وهناك ألقىٰ خطبة الوداع. يقول هيكل :

«ترك النبي عرفات وقضىٰ ليله بالمزدلفة, ثم قام في الصباح فنزل بالمشعر الحرام, ثم ذهب إلىٰ «منىٰ» وألقىٰ في طريقه إليها الجمرات, حتىٰ إذا بلغ خيامه نحر ثلاثاً وستين ناقة, واحدة عن كل سنة من سنى حياته, ونحر علىٰ ما بقىٰ من الهدى المئة التي ساق النبي عند خروجه من المدينة. ثم حلق النبي رأسه وأتم حجّه»(4).

معظم الحجاج يودون أن يؤدوا الحج طبقاً للسنة. كما يودون أداءه في جو وبيئة مماثلين للبيئة التي كانت زمن حجة الوداع. وهذه الرغبة عند معظم الحجاج نتيجة لحبهم الشديد لرسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ خاتم النبيين (عليهم السلام), وللصورة التي استقوها من كتب الفقه والتاريخ الموروثة. لكن, هل يمكن لرغبة الحجاج هذه, في أداء حج مثالي, أن تتحقق مع الواقع المعاصر؟ بل مع الاتجاهات المتوقعة في المستقبل؟

المثل والواقع : نموذج المخروط المقلوب :

واضح أن بعض جوانب الحج المثالي كما نتصوره يصعب أداؤها اليوم. فمن المستحيل عملياً علىٰ بعض الحجاج أن يقبّلوا الحجر الأسود أثناء الطواف مرة واحدة, بل اثنتين. ولو أن كل حاج نحر بدنة عن كل سنة من عمره لانقرضت هذه الأنغام في سنوات محدودة. ولو التزمنا حرفياً بالسّنة, لكان علىٰ الحاج أن يركب جملاً أثناء أداء مناسك الحج كلها. إن الحج اليوم لا يفوّت فقط علىٰ الحجاج الجوانب الهيّنة من تصوّرهم, وإنما ـــ للأسف ـــ يدمر هذا التصور تماماً.

وهذا الفشل في تحقيق الحج المثالي جاء نتيجة اختلال حادّ أصاب بيئة الحج, كان السبب فيه ـــ مع عوامل أخرىٰ ـــ تلك التقنيّة غير الملائمة التي انطلقت بلا قيود خلال عملية التغيير السريعة لبنية الحج. وخير ما يعيننا علىٰ رؤية هذا الانفصال القائم بين الرؤية المثالية للحج والواقع القائم اليوم, أن نراه من خلال نخطّط مجسّم.

إن الرحلة إلىٰ أداء فريضة الحج بمفهومه الروحي, وهو الامتثال التام لأوامر الله, تتطلب القيام بمجموعة من الأعمال البدنية, لأن شعائر الحج تتطلب بذل الجهد البدني : كما في أشواط الطواف حول الكعبة, والسعي بين الصفا والمروة, والوقوف في عرفات تحت الشمس المحرقة, والإٍسراع عند نَفْرة الحجيج من عرفات إلىٰ المزدلفة. ومعاناة التعب البدني أمر يتوقعه الحجاج, فتلك هي الكيفية التي أدىٰ بها المناسكَ النبيُّ الحبيبُ ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ. لكن إمكانيات الإٍنسان الجسمانية محدودة وسرعان ما تستنفد طاقته علىٰ التحمل. فإذا أُضيفت المتاعب والإٍزعاجات الدخلية علىٰ بيئة الحج الطبيعية إلىٰ أعمال المناسك فإن ما يصيب الحجاج من الإٍرهاق البدني سيتجاوز بسرعة حدود الاحتمال, وعندئذ يصبح الحج تجربة جسمانية أكثر منها روحانية. وبقدر ازدياد الإٍرهاق البدني تقل الروحانية في تجربة الحج, حتىٰ نصل إلىٰ نقطة مفترضة يتلاشىٰ عندها الجانب الروحاني تماماً نتيجة للتعب البدني الزائد عن حدود الاحتمال. هنا يتحول الحج إلىٰ عملية آلية, وهذه مأساة لا تعدلها مأساة.

ويمكن توضيح العلاقة بين العبء البدني والإٍنجاز الروحي إذا مثّلنا عملية الحج بكاملها بشكل مخروطي مقلوب(5)حيث قاعدته العريضة الممتدة إلىٰ أعلىٰ بلا نهاية تمثل الأبعاد الروحية للحج. أما رأسه المقلوبة فتمثل البعد الجسماني. ففي الحج المثالي المطابق للسنة وضمن الأحوال التي كانت زمن النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ يكون التعب الجسماني شيئاً لا يُعبأ به بإزاء التجربة الروحية (الدافقة). أما الحج في العصر الحاضر, فإن المتاعب البدنية قد اتخذت شكلاً مرعباً يستهلك معظم وقت الحاج (وطاقته). ولم يبق عنده ما ينفقه في التفكير والصلاة والتأمل (تمثله في الرسم الخطوط المتقطعة).

في هذا الرسم التخطيطي يمكن أن نرى نمطاً ثالثاً من تجربة الحج : ذلك هو الحج «التَقْنَي» الذي يعفي الحجاج من بذل جهد بدني, ولكنه (في نفس الوقت) يقضي تماماً علىٰ الاشباع الروحي لديهم, وهذا هو الحج الخالي من التجربة (يمثله خط قاعدة المخروط) :

ملحوظة : يوجد شكل تخطيطي يصعب رفعه على الموقع

إن معظم التغييرات التي أصابت بيئة الحج قد تمت حديثاً. فإلىٰ ما قبل بضعة عقود (من السنوات) كانت بيئة الحج مماثلة تماماً للبيئة التي أدىٰ فيها النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ حجة الوداع. لقد بقيت كما لو كان مرور الزمن لم يؤثر شيئاً في مكة والمناطق المقدسة. وكانت الغالبية العظمىٰ من الحجاج يؤدون مناسكهم كما فعل أسلافهم في كل عصر : رجالاً أو علىٰ كل ضامر. كانت المتاعب كلها ناتجة عن الأسباب الطبيعية : الحرارة ووعورة البيئة. وكان الإٍنجاز الروحي للحجاج يزداد لعلمهم أنهم يمشون علىٰ نفس الرمال والصخور حيث مشىٰ النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, فكان البعد الروحي يرجع كثيراً التعب البدني الطبيعي.

لكن بيئة الحج, خلال بضعة العقود الأخيرة, قد غُيرت تماماً(6). لقد تحولت مكة إلىٰ مدينة حديثة واستبدلت بخضائصها الموروثة خصائص المدن الغربية المعاصرة, فهناك الطرق المزدوجة وأبنية المسلّح الشاهقة وما يصحب ذلك من تلوث ومشكلات. كذلك تعرضت الأماكن الأخرىٰ المقدسة ـــ مثل «مِنىٰ» و «المدينة المنورة» لتغييرات مماثلة. كان لابد للزمن والحضارة الغربية من أن تترك بصماتها علىٰ البيئة المقدسة.

كذلك جُربت مجموعة هائلة من الحلول التقنية لمواجهة الضغط المتزايد لأعداد الحجاج, فنُيت الجسور وحفرت الأنفاق, ونصبت أعمدة الإٍضاءة السامقة, وتكاثرت وسائل نقل الحجاج إلىٰ كل مكان فالحاج ـــ من لحظة وصوله إلىٰ مطار الملك عبد العزيز في جدة المصمم علىٰ أحدث طراز ـــ يركب علىٰ سير متحرك من صنع التقنية الحديثة يتولىٰ نقله إلىٰ كافة مواقع المناسك حتىٰ يرجعه. وكل حل جديد يولّد حشداً من المشكلات, كما هو شأن التقنية الحديثة. فترىٰ هذه الحلول تعمل علىٰ زيادة المتاعب والمشكلات المادية للحجاج بدلاً من أن تقللها, إلىٰ حد أنها أصبحت التجربة المهيمنة على الكثيرين.

وهذا الموقف جاء نتيجة لتدخّل العناصر الأجنبية في بيئة الحج فيما يهدف إليه الحجاج من محاولة التمثل التام لأوامر الله. لقد ظهر فيا سبق أن المعاناة المادية الناتجة عن البيئة الطبيعية للحج تعمل كمحرك لزيادة الانجاز الروحى للحجاج. وبناء عليه, فكل عنصر أجنبي عن البيئة يعتبر «تشويشاً» يفسد النموّ الروحي للحجاج. وفي عصرنا, ما أكثر ألوان «التشويش» التي تسلب الحجاج جزءاً من هدفهم الأساسي, وتزيف بيئة الحج, كما وصف ذلك كاتب هذه السطور في مكان آخر :

«إن الشغل الشاغل في الحج .. هو التمثيل التام لإٍرادة الله, وهذا يتأتىٰ ـــ جزئياً ـــ عن طريق الصلاة والتفكير العميق والتأمل. والصلاة والتأمل يحتاجان إلىٰ السلام الداخلي والخارجي, مع الله, ومع الروح, ومع الآخرين, ومع البيئة, مع الطيور والحيوانات وحتىٰ مع الحشرات. وهذا هو سر تحريم كافة صور العدوان أثناء الحج. إن حالة الإٍحرام هي حالة الإٍسلام. لكن من الصعب, إن لم يكن من المستحيل, أن تكون في حالة سلام دائم وسط كابوس العربات : الضوضاء المستمرة للسيارات والحوامات والطائرات؛ الأصوات التي تصك الآذان من الأبواق والصفارات, الأغاني التي تتنافس في بثها مكبرات الصوت بلا توقف؛ الموسيقىٰ الرهيبة من أجهزة الترانزستور, والروائح النفاذة وأدخنة العادم الخانقة.

كذلك, فإن أحد أهداف الحج هو الإٍطلاع علىٰ البيئة التاريخية والروحية للنبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ كي يستمد منها الحجاج الإٍلهام ويقووا عقيدتهم. فالمشي علىٰ نفس الطرق التي استخدمها النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ يمكن أن يؤدي إلىٰ ترقّ روحي غير عادي. أما القيادة .. وسط زحامات السيارات, أو التهادي علىٰ الطرق المعبدة ومحاولة تفادي السيارات والبشر, فلا تولد سوىٰ الإٍجهاد. ففي «مِنىٰ» الحالية لا تتعايش مع بيئة النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ بل مع بيئة «منهاتان» (Manhattan) (الأمريكية). وبيس ثمة عائد روحي ينتظر من التعايش مع البيئات الحضرية (dytopia).

يقول الحديث النبوي : «الطهور شطر الإٍيمان». ولاشك أن الطهارة مطلب أساسي في كل أجزاء التجربة الروحية. ومع ذلك فإن بيئة الحج قذرة وغير صحية بشكل لا يوصف. وهذا راجع إلىٰ النقص في دورات المياه المناسبة (عدداً وتصميماً) من ناحية, وإلىٰ الضغط التحضري علىٰ مكة وضواحيها من ناحية أخرىٰ؛ وإلىٰ العادات غير الصحية لبعض الحجاج من ناحية ثالثة. والنتيجة أن كثيرين من الحجاج أثناء الحج يقضون من وقتهم في توقي النجاسات والقمامات أكثر مما يقضون في الصلاة والتضرع »(7).

واضح أن الحج المثالي لا يمكن تحقيقه بشكل كامل في ظروف العصر الحاضر؛ كذلك فإن حج العصر الحاضر, بكل مشكلاته الناتجة عن إدخال التقنية غير الملائمة, يتعذر الدفاع عنه. حقاً إننا لا يمكن أن نرجع إلىٰ الماضي, كما لا يمكن أن نقف جامدين : فالتغير هو الشيء الوحيد المستمر الآن. وليس الأمر أمر تغير مستمر فقط, بل إن معدل التغير هو نفسه في تغير ايضاً. إن بيئة في ظل هذه الظروف تتطلب إدارتها أمداء هائلة من البحث والجُهد؟

ماذا نتوقع للمستقبل إذا ما سلّمنا بهذا : المعدل العالي من التغير الشامل المهيمن علىٰ كل شيء, وطبيعة مشكلات الحج التي تتسم بالتعقيد والتداخل, ثم رغبة الحجاج في أداء حج مثالي؟ هل من الممكن أن نخطط لبيئة للحج تحقّق بعض ما يطمح إليه الحجاج وما يمليه الواقع المعاصر؟

مُخطّطان :

من الممكن أن نتصور مخططاً قابلاً للتنفيذ علىٰ أساس الاتجاه القائم. يسير هذا المخطط بالتطورات الحالية إلىٰ نهايتها السخيفة وإن كانت منطقية. أن تستمر مكة المقدسة في تطورها حتىٰ يتغير كل جزء فيها, فيتحول ثلثا المدينة إلىٰ طرق متخمة بالسيارات, وتغطي الجزء الباقي البنايات الشاهقة يطاول بعضها بعضاً. ويحدث نفس الشيء في «منى», فتمهد الجبال المحيطة بمكة وبمنىٰ لتتحول إلىٰ طرق سريعة. وتبنى شَبكَات من الجسور العلوية والأنفاق لحلّ الاختناقات المرورية. ولا يبقىٰ من الأرض الفضاء شبر إلا وتقوم فوقه البقالات ومحلات الأطعمة الجاهزة ومحطات البترول, ويصبح من الصعب أن تتنفّس بسبب أدخنة العادم. ويؤدي الرصاص الناتج عن التلوث إلىٰ وقف نموّ أشجار النخيل ذات القدرة الكبيرة علىٰ الاحتمال. وهكذا تتحول مكة وبيئتها إلىٰ مدينة هائلة تنمو رأسياً, كأي مدينة أمريكية, «كولومبس» أو «أوهايو» مثلاً.

أما المخطط الآخر فتعرضه أعمال «مركز بحوث الحج» بجامعة «أم القرىٰ» في مكة(8). لقد اقتنع هذا المركز بعد بحوث دامت بضع سنوات بأن السيارات هي السبب الأول في تخريب بيئة الحج. ولذا دعا المركز إلىٰ منع السيارات من دخول بيئة الحج, وإلىٰ العمل علىٰ إعراء الحجاج بالتنقل راجلين علىٰ طرق معدة للمشاة.

كما أوصىٰ بعدم إدخال التقنية المتقدمة والاكتفاء في مواجهة مشكلات الحج ـــ بأبسط الحلول التقنية وأضعفها تأثيراً, وكذلك بالرجوع إلىٰ الطرز التقليدية في المباني بحيث تصبح المحافظة هي القاعدة. فماذا ستكون عليه بيئة الحج إذا ما نفذت هذه التوصيات؟

في غضون بضعة عقود سوف تتغير بيئة مكة كلها, وتعود المدينة القديمة إلىٰ بهائها السابق. ستعود «المشربيات», كما سيصبح النمط التقليدي للسكن هو الغالب علىٰ الحياة فيها. سترتبط مكة بمنىٰ وعرفات والمزدلفة بشبكة من طرق المشاة تكتنفها الأشجار الوارفة. سوف يتحرك الحجاج إلىٰ كل مكان رجالاً يؤدون مناسكهم بالسرعة التي تلائمهم, بستريحون في المناطق الظليلة ويتأثرون بعمق مع البيئة التاريخية. أي أن مكة سوف تستعيد بعضاً من خصائصها الفريدة ومن جمالها.

إذا نفذ المخطط الأول في السنوات العشر القادمة ستكون مكة المكرمة شبيهة بأي مدينة أمريكية. أما إذا نجح مركز دراسات لحج في وضع سياسياته موضع التنفيذ, فسوف يكون من الممكن ـــ مع نهاية هذا القرن العشرين ـــ استعادة بعض ما كان لبيئة الحج في غنىٰ وجمال والمحافظة عليه. لكن مخطط مركز بحوث الحج, رغم أنه ـــ بالتأكيد ـــ أكثر مقبولية لكونه ثمرة منطقية للاتجاهات الحالية, لأنه الأساس المستقبلي؛ إلا أن هذا المخطط يحتوي ـــ إلىٰ حد ما ـــ علىٰ عناصر تراجعية أكثر منها تقدمية, لأنه ينصب علىٰ العودة إلىٰ ماض ساكن بدلاً من التحرك إلىٰ مستقبل نامٍ ومرتكز علىٰ تطوير حلول بديلة تضمن وجود عنصري خصوصية بيئة الحج والطبيعة الإٍسلامية المتميزة للحل.

علىٰ أي أساس إذن يمكن أن ندرس مستقبل الحج ؟ كيف يمكننا التخطيط للحفاظ علىٰ الطابع الفريد لــ «واد غير ذي زرع» مع تأمين ألا تولّد حلولنا لمشكلات الحج الحديثة ألواناً من الإٍزعاج, وأن يكون فيها من المرونة ما يسع الإٍحتياجات المتجددة. إن حلول مشكلات الحج يجب أن نبحث عنها في إطار معيارين : العوامل المفروضة التي ستحدد شكل المستقبل ـــ مثل الاتجاهات السكانية والتطور التقني ـــ ثم القيود المادية والروحانية لبيئة الحج. وسوف نتناول كلا من هذين الاعتبارين علىٰ حدة :

قيود الحج :

إن القيود الروحانية للحج مقدسة, فلا يمكن التعدي عليها, وأي حل لمشكلات الحج الحديثة يجب أن يحافظ علىٰ قداسة هذه القيود. الحج ـــ كما سبق البيان ـــ تعبير عن المطلب الروحى الأسمىٰ للمسلم : الإٍمتثال التام لإٍرادة الله تعالىٰ. ولا يقدر علىٰ تلبية هذه الرغبة السامية للحاج سوىٰ بيئة متوازنة في مكوّناتها. «الإٍنسجام في التكوين البيئي» إذن هو أول قيد روحي علىٰ بيئة الحج. لابد من التعزيز المتبادل بين البيئة والطبيعة. فالقيم الأساسية يجب أن نحافظ عليها لا أن نضيّعها؛ وأن نعزّز من فن الحياة أكثر من التحلّل الذي لا خير من ورائه. كما يجب أن ندعم الإٍتجاه الذي يقول إن البيئة التي أنتجت المشكلات, تحمل أيضاً بذور الحل. إن بيئة مكة تقوم علىٰ توازن بيئيّ دقيق. مثلاً, بئر «زمزم», المرتبط بالدين حيث يطفئ الحجاج منه ظمأهم بعد «الطواف» و «السعي», يستمد ماءه من قاعدة صخرية ترجع إلىٰ أقدم العصور عن طريق ثلاث تكوينات من الانكسارات الأرضية ممتدة من الكعبة إلىٰ جهة «الصفا» و «المروة» ومتقاطعة عند البئر. وأي تغييرات بيئية عنيقة تتعرض لها مكة وجبالها يمكن أن تحرك هذه التصدعات وتسدّ البئر, وقد تحدث صدوع وتشققات جيدة تؤدي إلىٰ تسرّب مياه المجاري وسواها من المياه الجوفية إلىٰ نبع «زمزم». فالمحافظة علىٰ الانسجام البيئيّ لبيئة الحج غاية عليا, بل ضرورة روحية.

القيد الثاني الذي يفرضه الحج هو أنه تعبير عن عالمية الإٍسلام. و «الحفاظ علىٰ العالمية» يعني أن كل مسلم, غنياً أو فقيراً, ومهما تكن خلفاته, يجب ألا يمنع من أداء الحج مادام قد توفرت له الشروط الأساسية. يجب أن تكون الحلول المطروحة لمشكلات تزايد أعداد الحجاج مبينة علىٰ سياسات تستهدف توفير فرص متساوية لحجاج الداخل والخارج جميعاً. كما يعني ذلك أن تكون بيئة الحج في متناول جميع الحجاج : فلا تحجز مساحات في المنطقة الحرام لحساب القله المتميزة من الأغنياء وذوي السلطان. والحفاظ علىٰ العالمية يعني أيضاً الاعتراف بالتباين : فالحجاج يأتون من كل أرجاء الأرض, يمثلون كافة الخلفيات الاجتماعية ويتخاطبون بمئات من الألسن المختلفة. وعند طرح الحلول يجب أن يراعى هذا التنوع الفنيّ : الفروق اللغوية في الإٍعلام الموجّه إليهم, العادات الصحية في تصميم دورات المياه, وخصائص الأفراد وما يفضلونه في أداء المناسك.

أما القيد الثالث فيتعلق بمبدأ البساطة في الإٍسلام. هذه «البساطة» يجب أن تكون روح كافة الحلول التقنية لمشكلات الحج(9), وخلاصة بيئته في مجموعها, لأن مثل هذه البيئة تقدّر البساطة اقتصاداً في الوسائل وعطاءً وافراً في الغايات. البساطة تؤكد علىٰ الذوق ورقة الإٍحساس, يجب أن تكون بيئة تخلق إحساساً بالمكان, يظل ـــ رغم أنه من عالم الدنيا ـــ دليلاً علىٰ تحمّل المسئولية نحو الآخرة من خلال إلقاء الضوء علىٰ واجبنا نحو ربنا ثم إخواننا.

ويأتي القيد الرابع من خصوصيته دَوْر مكة, المدينة المقدسة, ووظائفها. إنها «أم القرىٰ»(10) والمركز الروحي للعالم الإٍسلامي ـــ كما أن لها ـــ أكثر من أي مدينة أخرىٰ في العالم ـــ معنىٰ تاريخياً عميقاً. ففيها أقام إبراهيم وابنه اسماعيل عليهما السلام أول بيت لعبادة الله الواحد, «الكعبة». وهي البقعة التي ولد فيها محمد ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ خاتم النبيين, وفيها ابتدأ الوحي الإٍلهي وخُتم. إنها أقدس حرم في الإٍسلام. لهذا, كانت لا تسبه, ويجب ألا تشبه, أي مدينة أخرىٰ علىٰ الأرض. إن لمكة وجودها في البعد الرابع وهو الزمن. وصفة السرمدية هذه صفة مقدسة. مكة هي الماضي والحاضر والمستقبل إلىٰ ما شاء الله. أما الصفة الأخرىٰ المقدسة لمكة فهي الجمال : إنها مدينة الله علىٰ الأرض. والرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ أنبأنا في مقام تعظيمه لربه أنه تعالىٰ جميل يحب الجمال. والجمال بُعْد أصيل من أبعاد الحقيقة. لكن جمال مكة ليس جمالاً عادياً, إنه جمال خفيّ محيَّر يفوق كل حد : حدود إدراكنا ومعايير الأذواق المبنية علىٰ الطرز. إنه جمال ناشيء عن طبيعة البيئة وتصميم المباني والتكامل الفلسفي والنظرة التقنية الثاقبة التي تقدّر خلق الله. إنه نابع من الانسجام البيئي ومن البساطة. وهذه الصفات تفسّر لنا قول النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : «إن هذا البلد حرام بحرمة الله عز وجل» (البخاري) وقوله : «ما أطيبك من بلد, وأحبَّك إليّ, ولولا أني أُخرجت منك ما خرجتُ». (الترمذي).

هذه القيود الأربعة تمثل نطاقاً روحياً يرسم الحدود التي يجب التقيد بها في البحث عن حلول لمشكلات الحج الحالية والمستقبلية. وبالإٍضافة إلىٰ هذه القيود, ثمة خصيصة أخرىٰ للحج تقيّد بحثنا عن الحلول.

إن أهم شيء في الحج هو الحاج نفسه : ذلك المسلم المخلص المحدود بحدود طبيعته, ولكن له رغباته وتوقعاته, وهي ـــ كما سبق القول ـــ أن يؤدي حجاً مثالياً, علىٰ أساس فهم «السّنّة» وفي بيئة تعكس أصالة عصر النبي الكريم والإٍحساس به. إنه يتوقع أساساً أن تلبَّى له ـــ علىٰ الأقل ـــ حاجاته الأساسية, وأن يتمكن, في شيء من الكرامة, من أداء مناسك الحج. وقد فصّل «بودو راش» (Bodo Rasch) الحاجات الأساسية التي يتوقعها الحاج علىٰ النحو التالي :

]إنه يحتاج إلىٰ[«طعام جيد ونظيف, وماء للشرب والتطهر, ويحتاج مكاناً ظليلاً للنوم, وبطانية تدفئة في ساعات الليل الباردة, ومكاناً يقضي فيه حاجته. يحتاج إلىٰ الظل حيث يقضي معظم وقته لأن معظم الحجاج لم يتعودوا علىٰشمس مكة اللاهبة. يحتاج إلىٰ طرقات يمكنه السير فيها حافياً إلىٰ مختلف المناطق المقدسة إذا ما فقد نعله وسط الزحام, وإلىٰ استراحات وسُبُل ماء للشرب متقاربة كيلا يصاب بالجفاف أو بضربة شمس. وإذا كان مُسناً أو مُقعد فهو في حاجة إلىٰ من يدفع مركبته أو يحمله, فإن أصابه مرض أو تعرضّ لحادث كان في حاجة إلىٰ إسعاف طبيّ وعناية. كذلك, يحتاج الحاج إلىٰ أجوبة صحيحة علىٰ كل تساؤلاته الدينية والمعرفية, من خلال شخص يجيب علىٰ كافة أسئلته أثناء الحج ويقدر ظروفه ويعتني به. في «منىٰ» و «مكة» يحتاج إلىٰ فِراش للنوم, وفي «عرفات» إلىٰ ظل يقيه الشمس ومخيم مؤقت, وفي «المزدلفة» إلىٰ مجرد مرقد. كذلك, فإن من حقه أن يجد هَدْياً صحيح البدن جيد النْوعيّة إذا كان سيشتريه في المنطقة الحرام»(11).

إن قضاء هذه الأساسيات التي يتوقع الحاج توفرها يعتبر أحد وجوه القيد المادي علىٰ الحج. وهناك وجه آخر يتمل في مجرد الضغط المادي الذي يمكن للحاج أن يتحمّله. فإذا جاوز الازدحام عند المناسك حد الاحتمال فإن الحجاج إما أن يعجزوا عن الحركة أو يصيب بعضهم أذىٰ. مبدئياً يجب ألا تزيد الكثافة عن معدّل 4 ـــ 6 حجاج في المتر المربع, خاصة عند الطواف والسعي ورمي الجمرات.

إن كثافة الحجاج مرتبطة بحركتهم. فإذا جاوز الازدحام الحد فإنهم لن يتمكنوا من الحركة, وسوف يتعرضون للتضاغط الشديد أو لايذاء أنفسهم أو غيرهم. أما الكثافة المعقولة فإنها تسمح لهم بالحركة بالسرعة الطبيعية وبأن يحافظوا علىٰ ما لديهم من طاقة طبقاً لحاجتهم, كما أنها تتناسب مع سعة منطقني الطواف والسعي. مبدئياً, من الصعب علىٰ أكثر من 50,000 حاج أداء 80,000 بالنسبة للسعي. وحين تكون الكثافة عند الحد المعقول, فإن الحجاج سيتمكّنون من دخول منطقتيْ الطواف والسعي والخروج منهما بشكل لا يستهلك طاقاتهم البدنية. ولو أننا اعتبرنا مجموع الحجاج بمثابة نهر قوي يمثل كل حاج قطرة من مائه تتحرك بيسر نحو غايتها الطبيعية, لأعاننا هذا المثل علىٰ أن نفهم جيداً حركة الحجاج, لكن فيضان النهر يمكن أن ينساب في هدوء, وهو ما يعرف بـ «الانِدفاق الصَّفَحى», أو أن يتدفق في سرعة وتمرد. تسود النهر حالة الاندفاق الصحفى حين يفيض علىٰ مجرىٰ رملي مستو؛ أما حين يجري علىٰ سطح صخريّ غير مستو تتخلّل مجراه العقبات, فإن النتيجة هي السرعة والتمرّد. وإذا كان في المجرىٰ كسر حادّ وعميق فإنه يسبب حدوث شلال. وكذلك الحجاج, إذا هُيّئ لهم أن يسيروا بسرعتهم العادية في كثافة معقولة. كان الاندفاق الصحفى, والتحرك من منسك إلىٰ آخر في فيضان هادئ. أما إذا اعترضت طريقهم العقبات, المتمثلة في المركبات, أو حدث تغير فجائي في المجرىٰ, نتيجة وجود الجسور والانفاق, أو تحركوا بسرعة زائدة نتيجة استخدام السيارات, أو بطء زائد نتيجة الاختناقات المرورية, فالنتيجة هي الاضطراب والتكدس وربما سقوط محموعات. وليس من الصعب البرهنة علىٰ صحة هذا التشابه بين حركة الحجاج وحركة النهر, عن طريق تصوير منطقة «الطواف» في لقطات متتابعة, أو تصوير حركتهم في منطقة «الجمرات» في فيلم ثم عرضه بالسرعة البطيئة, كما يعيننا مثال النهر هذا علىٰ النظر الثاقب في قضية كيفية الاستفادة من محدودية إمكانيات الحاج ومن قيود بيئة الحج في وضع حل لمشكلة حركة الحجاج التي يواجهها الحج في الوقت الحاضر.

وهكذا تقوم القيود المادية والروحية للحج بوظيفتين : رسم الحدود التي يجب أن يتم في إطارها البحث عن الحلول, ثم إعطاء المعالم والمؤشرات نحو الحل. كذلك فإنها تعيننا علىٰ صيانة الشخصية الأصيلة لبيئة الحج, وعلىٰ التقدم لمواجهة تحديات المستقبل.

المحدّدات المستقبلية للحج :

يأتي التحدي المستقبلي لبيئة الحج في معظمه من اتجاهين : التغيرات السكانية والتغيرات التقنية.

في العالم اليوم ما يقرب من بليون مسلم(12)ويتضاعف المسلمين في العصر الحاضر مرة كل ربع قرن(13). وليس هناك ما يحملنا علىٰ الاعتقاد بأن هذا المعدّا لن يستمر. في السنوات القليلة الماضية شهد موسم الحج ما يربو علىٰ مليونيْ مسلم. وسوف تكون هناك زيادة طبيعية نحو 50,000 حاج كل سنة في المستقبل المنظور. حتىٰ الآن يُعدّ حجاج الاتحاد السوفييتيّ بالمئات. لكن هذا سيتغير بشكل واضح, إذا ستضطر السلطات إلىٰ الإٍذعان للأعداد المتزايدة من المسلمين الذين يَسُودون جنوب روسيا(14). كذلك, فإن الأقطار الشيوعية الأخرىٰ التي تضم مجموعات سكانية كبيرة من المسلمين, مثل الصين ويوغوسلافيا, ستجد أن المسلمين لا يتزايدون عددياً فقط, بل يزدادون كذلك تمسكاً بدينهم. فالمتوقع إذن أن تحدث زيادة كبيرة في عدد الحجاج من الكتلة الشيوعية. وهذا يعني أنه في عام 2000 سيكون متوسط عدد الحجاج سنوياً ثلاثة ملايين.

ليس من الحكمة دائماً أن نتصور المستقبل علىٰ أنه مجرد امتداد للحاضر, لأن الاتجاهات ـــ بصرف النظر عن مدى قوتها ـــ لا تأخذ دائماً خطاً مستقيماً. لقد رأينا أن عدد الحجاج تضاعف عشر مرات منذ الحرب العالمية الثانية. وحين نسلم بمعدلات النمو الحالية, فمن الممكن والمعقول أن نتوقع ثلاثة ملايين حاج مع نهاية القرن, وهذا بالطبع مالم يكن في الحسبان.

وعلىٰ كل حال, فإن المشكلات المتعلقة بالإٍسكان واحتياجات الطعام والشراب ومتطلبات قضاء الحاجة وتيسيرات الانتقال, وتأثير هذه الجموع الغفيرة علىٰ بيئة الحج, ليس بالأمور العَصيّى علىٰ الحب كما قد يبدو للوهلة الأولىٰ. فمع التغيرات السكانية ستحدث تغيرات جوهرية في النواحي الفكرية والعلمية والتقنية تمكننا من مواجهة تحديات الحج في المستقبل.

إن مشكلات الحج تعالج ـــ حسب التقليد القائم ـــ بوسيلتين : أخذ كل مشكلة علىٰ حدة ثم معالجتها بمساعدة التقنيات المستوردة. وهذا المنهج ينطوي علىٰ معوّقين أساسين : إن المنهجية القائمة علىٰ التجزيء والاختزال لا تنظر إلىٰ الحج نظرة متكاكلة كنظام حى متكامل. فترىٰ مشاكل الاسكان تحل بطريقة علىٰ حين حركة البناء في مكة تتطور بطريقة أخرىٰ. كذلك ينظر إلىٰ مشكلة حركة الحجاج علىٰ أنها تخص هندسة النقل وليست مشكلة نظام يجب أن تعالج ضمن إطار شامل. تركز المخططات العامة علىٰ المباني والطرق كما لو كانت الأهمية الروحية لبيئة الحج غير واردة. وإذا تم التوصل إلىٰ حل للمشكلات الجزئية فإنها لا توضع في موضعها من مجموعة المشكلات ككل. كما لا تربط بالاعتبارات الدينية والثقافية والروحية. فالعملية كلها تشبه الحركة العشوائية لرجل لا يعرف الطريق يظل يمشي ويمشي لكنه لن يصل إلىٰ أي مكان(15).

ندرك الآن أن المناهج الاختزالية تنطوي علىٰ نقطة ضعف جوهرية. إنها لا تستطيع حل المشكلات الناتجة عن عوامل متشابكة, خاصة إذا كانت تلك العوامل ـــ كالثقافة والاهتمامات العليا الواقعة خارج نطاق الخبرة ـــ لا يمكن قياسها كمّيّاً. إننا الآن نكتشف أن إغراقنا في استخدام وسائلنا ومناهجنا المنصبّة علىٰ التفاصيل الكمية المعزولة عن سياقها والمتواجهة نحو المقاييس الأكثر دقة للمشكلات المجزّأة إلىٰ أصغر مدىٰ, هذا يجعلنا ـــ كما يقال ـــ «نعرف أكثر فأكثر من أشياء أصغر فأصغر». علينا أن نرجع إلىٰ التفكير الشمولي وإلىٰ المنهج التركيبي.

أما التحدي الثاني فهو التقنية المستوردة التي أدخلت معها إلىٰ بيئة الحج مجموعة من القيم والمواضعات الثقافية الأجنبية التي تولدت عنها الإٍزعاجات التي سبق الحديث عنها. التقنية نشاط إنساني, لذلك لا يمكن أن تجئ محايدة أو مجردة من القيم. إنها تتطور في مجتمعها طبقاً لاحتياجاته ومنطلباته ولما فيه من ضغوط إجتماعية وأولويات سياسية, ويتم تصميمها لحل مشكلات محددة. خذ مثلاً علىٰ ذلك, تقنيات البناء المعاصر, القائمة علىٰ الحديد والزجاج والمسلح كخامات أولية لها, قد تطورت بتأثير الاهتمامات المادية والاجتماعية في أوربا وأمريكا(16), بهدف إقامة مدن غربية نمطية؛ ومن غير الواقعي أن نتوقع منها أن تنتج شيئاً آخر نحن بحاجة تثنيات بناء مختلفة بالكلية, قائمة علىٰ مواصفات اجتماعية مختلفة ومعتمدة علىٰ مواد مختلفة وذلك كي تنتج لنا مدنا من نوع مختلف. إن التقنيات التي طورت من أجل إنشاء المطارات لا تصلح في المناطق المطلوب المحافظة علىٰ خصائصها, لأنها سوف تنتهي إلىٰ شيء شبيه بالمطارات. وعدم انفكاك التقنية عن القيم الاجتماعية والثقافية تقوم علىٰ صحته الآن براهين وتؤكده دراسات قوية بحيث أن تجاهلنا لذلك لن يكون إلا علىٰ حساب تعريض أنفسنا للخطر(17).

زد علىٰ ذلك أن التقنية التي نستوردها لعلاج مشكلات بيئة الحج, هي في العادة تقنية متأخرة مهما تصوّرنا أنها أحدثُ طرازٍ, لأن معدّل التغير في الوقت الحاضر أصبح سريعاً إلىٰ حد أن تقنية ما, يسبقها الزمن, وهي لاتزال في مرحلة تطورها. وهذا التطور السريع يصيب كلا من المشكلات وطرائق النظر إليها. والطريق الوحيدة لمجاراة التقنية هي أن نخطط المستقبل. إننا نستورد «الموجة الثانية» من التقنية علىٰ حد التشبيه الذي ساقه «أَلْفِنْ توفْلَر» (Alvin Toffler). وتتسم هذه التقنية بالإٍكثار من استخدام مصادر طاقة غير قابلة للتجديد. وهذه التقنية مرتبطة بشكل مباشر بنظام الإٍنتاج الجُملْي (Mass production) الذي تأخذ به الحضارة الغربية. ولقد اضطلعت تقنيات الطاقة المكثفة بدور مفيد في هذه الحضارة؛ وفي تلك البيئة استغرق الأمر عشرات السنوات كي يتحدد الطور الثاني ويبرز إلىٰ المقدمة. إن استخدام جرعة كبيرة من هذه التقنية في المجتمعات التقليدية يؤدي غالباً إلىٰ آثار جانبية. أما في بيئة تتميز بالحساسية والإٍهتمام بالروحانيات والأصالة الثقافية, فإن مثل هذه التقنيات يمكن أن تؤدي إلىٰ التدمير, وهذا هو ما يحدث في بيئة الحج.

إن هناك دلائل كثيرة جديرة بالتأمل تؤكد صحة ما قرره «توفلر» من أننا علىٰ مشارف تركيبة أخرىٰ هائلة ـــ «الموجة الثالثة», قال تجري وتتجمع ـــ في حشد تاريخي كبير ـــ كثير من قنوات التغيير العارمة لتشكّل «الموجة الثالثة» والهائلة من التغير الذي يتعاظم كل «ساعة»(18)وسوف تتميز حضارة «الموجة الثالثة» هذه بالكثير من الخصائص الفريدة. وما يهمنا هنا هو أساسها التقنّي. يقول توفلر :

«إن حضارة «الموجة الثالثة» سوف تقوم علىٰ أساس تقني مختلف جداً ومنبثق من علوم الحياة والجينات والإٍلكترونيات وعلوم المادة بالإٍضافة إلىٰ عمليات الفضاء وأعماق البحار, وإذا كانت بعض التقنيات الجديدة تتطلب مصادر من الطاقة العالية, فإن تقنيات «الموجة الثالثة» ستصمّم بحيث تتطلب طاقة أقل وليس أكثر, كما أنها لن تكون خطراً علىٰ الإٍنسان وعلىٰ البيئة كما كانت تقنيات الماضي. ستكون أصغر حجماً وأسهل تشغيلاً, مع العمل علىٰ التخطيط المسبق لإٍعادة تصنيع مخلفات صناعة ما لتصبح مواد أولية لصناعة أخرىٰ. كذلك, ستكون المعلومات, بما في ذلك الخيال, أعظم المواد الخام في حضارة «الموجة الثالثة», وهي مادة لا تنفذ أبداً. وعن طريق الخيال والمعلومات سيكون من الممكن إيجاد البدائل للكثير من المصادر الحالية القابلة للفناء(19).

ويؤكد «توفلر» أن حضارة «الموجة الثالثة» سوف تعيد بناء التعليم والبحث العلمي والأولويات وأساليب الاتصال, وذلك بفضل المعلومات, أهم المواد الخام, بحيث تصبح الأرض في المستقبل «كوخا إلكترونيا» تقوم فيه الحاسبات الآلية المصغرة (micro Computers) بتيسير حصول الفرد العادي علىٰ المعلومات وتوزيع القوة التقنية علىٰ الأفراد العاديين.

ومهما يكن لنا من تحفظات علىٰ رؤى «توفلر» هذه, فإن تقنيات «الموجة الثالثة» ستكون محدَّداً رئيسياً في تشكيل مستقبل بيئة الحج. فمثل هذه التقنيات ستمكننا من مواجهة المشكلات الناجمة عن تزايد عدد الحجاج, دون أن نتعدىٰ علىٰ القيود الروحية والمادية للحج. لكن تقنيات «الموجة الثالثة» المناسبة لبيئة الحج لن تولد من خلال البيئة الاجتماعية والثقافية الغربية. وإذا أمكن أن نستورد من تقنيات «الموجة الثالثة» ما نستطيع ـــ من خلال التقييم ـــ أن نتأكد من ملاءمته, فلابدّ لنا علىٰ المدىٰ البعيد في المستقبل من أن نخلق ونطوّر قاعدة تقنية لـ «الموجة الثالثة» تكون ملائمة لبيئة الحج. هذا هو الحل المستقبلي الوحيد والمعقول والقايل للنمو لحل مشكلات الحج المعقدة والمتشابكة.

حلول «الموجة الثالثة» :

تبدأ الحلول المستقبلية لمشكلات الحج بأن نعترف أنه لا يمكننا العودة إلىٰ زمن الحبيب المصطفىٰ ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ ولا خلق الظروف والبيئة التي أدىٰ فيها «حجة الوداع». فبعض جوانب «السنّة» يجب أن ينظر إلىٰ روحها أكثر مما ينظر إلىٰ مضمونها الواقعي. وإذا كان يتعذّر زمنياً أن نرجع إلىٰ الماضي, فمن الممكن ـــ ولأسباب روحية ـــ أن نحافظ للأجيال القادمة علىٰ الخصائص الثقافية والمواقع التاريخية والبيئة الطبيعية للمناطق المقدسة في صورة حية ونامية. علاوة علىٰ ذلك, إننا لا يمكن أن نترك أنفسنا ضحية للحاضر, فنترك لتقنيات الموجة الثانية, التي يعفى عليها الزمن بسرعة, أن تحطم تقاليدنا وتاريخنا والبيئة الطبيعية لمكة. إن هذا معناه فصل بيئة الحج عن جذورها الروحية والتاريخية. ولا ريب أن المستقبل المحروم من معنىٰ التاريخ ليس مستقبلاً علىٰ الاطلاق.

إن القاعدة التقنية المستقبلية لبيئة الحج يجب أن تنمّىٰ من داخل الحدود التي تفرضها قيود الحج المادية والروحية. وفي هذا الإٍطار يصبح الحاج هو الوحدة الأساسية للطاقة, وكل ما يُطوَّر من أدوات يجب أن يرتبط بالحاج, الوحدة الأساسية, علىٰ مستوىٰ إنسان بسيط ومباشر. كما يجب أن تعزَّز هذه التقنية التوازن البيئي وتتكاكل مع الطبيعة التي خلقها الله, وأن تعزٌز سمة العالمية من خلال الإٍعتراف بالتباين القائم بين الحجاج. إن عليها أن تهتم بإيجاد المبتكرات البسيطة, والجميلة في نفس الوقت, التي يسهل علىٰ الحجاج فهمها واستخدامها. وفي مجال البناء, يجب علىٰ التقنية المطوَّرة أن تستخدم الخامات المحلية التي تنسجم مع البيئة الطبيعية. علاوة علىٰ ذلك كله, يجب أن تعني التقنية الخاصة بيئة الحج بتعزيز السلام حتىٰ لا يكون هناك صراع ولا قلق.

حين نعمل علىٰ بناء هذه القاعدة التقنية الخاصة, يجب أن نستبق تقنيات «الموجة الثالثة» الجديدة التي يحتمل أن تظهر في الدول المتقدمة, ومنها ما يمكن أن نجعله يتلاءم مع التقنيات المطورة محلياً, وتتطلب عملية الملاءمة هذه ما يأتي :

1 ـــ الوعي بما في هذه التقنيات من توجهات تتلاءم وتنسجم مع بيئة الحج.

2 ـــ الوعي بنظام القيم الملازم لهذه التقنيات.

3 ـــ إخضاعها للتقييم بحيث نتأكد أنها لن تعتدي علىٰ القيود الخاصة بالحج, وذلك بالبحث الدقيق عما يمكن أن يترتب علىٰ تطبيقات من آثار غير مرغوبة, قوية كانت أو ضعيفة.

4 ـــ المراقبة والضبط الدائمين لها بعد إدخالها في بيئة الحج.

علىٰ هذا النحو يمكن أن نقوم بفحص بعض التقنيات المعاصرة التي اعتبرها «توفلر» تنتمي إلىٰ «الموجة الثالثة». مثلاً, هو يرىٰ أن الحاسبات الآلية المصغرة هي إحدىٰ التقنيات الرئيسية في المستقبل. الحجاج في حاجة إلىٰ كم هائل من المعلومات تتعلق بالأمور الدينية, والارشادات والحصول علىٰ المطالب الأساسية وغير ذلك من الموضوعات, فهل من الممكن تطوير نظام للمعلومات يكفل نوفير ما يحتاجه الحجاج من معلومات وتوصيلها إليهم بلغاتهم, بل توصيلها إلىٰ الأميين منهم وبشكل ميسر يستطيع جميع الحجاج الوصول إليه واستخدامه ؟ وإلىٰ أي مدىٰ سيكون في هذا النظام تعدّ علىٰ القيود الروحية والمادية للحج ؟ وما مدىٰ إمكانية دمحه ضمن بيئة الحج ؟ وما هي الآثار الجانبية المترتبة علىٰ الأخذ به ؟ إننا بحاجة ماسة إلىٰ الاهتمام بكل هذه المسائل وكذلك بتقنيات وحدات التشغيل الحديثة المصغرة (microprocessors modern).

وفي الحج ـــ في الوقت الحاضر ـــ تهدر كل لحوم الهّدْى تقريبا : إما أن تترك لتتعفن, أو تدفن في حفر ضخمة أو تلقىٰ في محرقة, وهذا حطَّ من قدر هذا النسك المقدس. المصانع التقليدية مصممة علىٰ أساس الإٍنتاج الجُمْلي المستمر طول العام. فعل من الممكن تصميم مصانع «الموجة الثالثة» علىٰأساس أن تعمل خلال موسم الحج فقط, بقليل من الطاقة وقلة من العمال, مع تقليل نسبة المهدر من كل ذبيحة, ثم تقوم بحفظ اللحوم ومنتجات الأطراف إلىٰحين توزيعها علىٰالمحتاجين ؟ هل يمكن تطوير الخيمة التقليدية التي لا تزال ـــ وإن عفىٰعليها الزمن ـــ ذات نفع عظيم في «منىٰ» و «المزدلفة» و «عرفات» ؟ هل يمكن تصميم خيمة خاصة بالحج تكفل للحاج حماية أفضل من حر الظهيرة وبرد الصحراء في الليل, وتكون سهلة التركيب والفكّ. خفيفة الوزن ليسهل علىٰالحاج الراجل حملها ؟ هذه الأمور, وغيرها كثير لا يحصىٰ, تقف في انتظار الدراسة والبحث الجاد ضمن إطار تقنيات «الموجة الثالثة».

الحج نموذج مصغر للعالم الإٍسلامي. ومكة المكرمة وبيئتها التي تؤدي فيها الحج هو بؤرة الاهتمام الأولىٰللأمة الإٍسلامية في العالم. ومن هنا, فإن مشكلات مكة الحج مشكلات مركزية تهم المسلمين في هذا العصر, وحلها أمر يهم كل مسلم, لأنه يتعلق بوحدة الأمة واستمرارها ثقافيا. وفي مثل هذه الملابسات يمكن أن تؤدي الحلول المتسرعة إلىٰكارثة. ومستقبل الحج يرتبط بمستقبل الأمة ارتباطا حوهريا.

وفي ظل هذه الظروف يجب أن نبحث لمشكلات الحج والمنطقة المقدسة عن حلول مستقبلية طويلة المدىٰترىٰالحج علىٰأساس أنه نظام متكامل مترابط الأجزاء والمكونات ترابطاً عضوياً, وتلتزم بإطار القيود الروحية والمادية التي يفرضها, مع اعتبار الحاج الفرد هو الوحدة الأساسية التي تقوم عليها العملية كلها. وأخيراً, يجب أن يتم تنفيذ هذه الحلول من خلال العمل علىٰأن يكون التنفيذ بمستوىٰتقنية «الموجة الثالثة». إن الحلول المصممة علىٰهذا المستوىٰمن التقنية هي التي يمكن أن تواجه احتياجات الحج المعاصر التي تزداد تعقداً باستمرار, كما تواجه تحديات المستقبل.

الهــوامــش

(1)For a profound account of the spiritual significance of Hajj, see Ahmad kamal, The Sacred Journey, Allen and Unwin, London, 1961. See also M. Valiuddin, «The Secrets of Hajj (Pilgrimage) », Islam and the Modern Age, 2 (4), pp. 42 – 70, and Abul Hasan Ali Nadwi, «The Spirit of Hajj», Journal of the World Muslim League, 1 (4) (January 1974).

(2) See Eshraf Edib, <<The Universality of the institution of Hajj – the pilgrimage to Mecca>>, Muslim Digest, 18 (7), pp. 2 – 9, (February 1968).

(3) M. H. Haykal, The Life of muhammad, translated by Ismail Raji al Faruqi, American Trust Publications, Indianapolis, 1976, p. 484.

(4) Ibid., pp. 487 – 88.

(5) This model was first reported in the present writer’s article, «The Spiritual and physical Dimenisions of Hajj»in Z. Sardar and M.A. Zaki Badawi, Hajj Studies, Croom Helm, London, 1979, pp. 27 – 38.

(6) The literature monitoring this change is considerable; most of it produced by the Hajj Research Center. See Ziauddin Sardar, «The Hajj : A Select Bibliography,»Muslim World Book Review, 3 (1), pp. 57 – 66 (1982).

(7) Z. Sardar. «The Spiritual and Physical Dimenisions of Hajj», Hajj Studies, pp. 27 – 38.

(8) The Hajj Research Center was started in 1975 by Sami Angawi at the king Abdul Aziz University in Jeddah. It moved to Umm al- Qura University in Mecca in 1983.

(9) The exposition of the concept of «simplicity and ecological harmony»is taken from Gulzar Haider, «Habitat and Values in Islam : A Concept Framework of an Islamic City»in The Touch of Midas : Science, Values and the Environment in Islam West, edited by Ziauddin Sardar, University of Manchester Press, Manchester, 1984.

(10) For an understanding of the importance of Mecca to Muslims and its Akhbaru History of Mecaa Holy House of God, al- Mahdah makkah, 2nd ed. Mecca, 1933 – 38; M.T.K al-Makky, Library, Mecca, 2 vols, 2 vols., 1965; and F. al Siba’I, Ta’rikhu Makkah, 2nd ed. Cario 1960 – 62.

(11) Bodo Rasch, The Tent Cities of the Hajj, IL 29, University of Stutgart, Stuttgart, 1980, P, 160.

(12) The Muslim population of the world is a hotly disputed figure. Most estimates ignore the Muslims of India, Soviet Union, Chaina, Fastern Europe and Muslim minorities in the West. This figure takes the muslims minorities into account and is from The World Muslim Gazeteer, Karachi, 1979.

(13) Marvin Cetron and Thomas O’Toole. Encounters with the Future : A Forecast of life into the 21st Century, McGraw-Hill, New York, 1982, p. 168. Cetron and O’Toole faithfully reproduce the figure of 450 million for the Muslim population of the world. This figure has been quoted by several Western writers since early 1950s! They estims; and Muslims performing the Hajj will continue to increase by 100.000 every year.

(14) Ibid., p. 298.

(15) Reductive methodologies have been the cornerstone of a host of master plan studies done by various consultants. For example, The Hajj Special Action Area Studym 1972, and Special Area Study – Holy Area of Muna, Aziziah and al Adl, 1975, Both by Robert Mathew, Johnson, Marshall and partners, suffe from this and have aggravated the situation rather than imporovinf it.

(16) See Alison Ravetz, Remaking Cities, Croooom Helm, Lom Helm, London, 1980; T. L. Blair, The poverty of planning : Crisis in the Urbon Environment, Macdonald, London, 1973; and the devastating Criticism of Jane Jacobs, The Death and Lin Environment, Macdonald, London, 1973; and the devastating Criticism of Jane Jacobs, The Death and Life of of Great American Cities, Random House, New York, 1961.

(17) The fifteen articlrs in Science, Technology and Society : A Cross – Disciplinary Perspective, edited by Ina-Spiegal-Rosing and Derek D.Solla price, Sage, London, 1979, examine the social and cultural bias of science and technology from different angles; each article gives an extensive bibliography. See also J.R. Ravetz, Scientific knowledge and Its Social Problems, Oxford University Press, 1971.

(18) Alvin Toffler, The Third Wave, Bantam Books, New York, 1980, P. 349.

(19) Ibid., p. 351.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر