أبحاث

الوسط: مفهومه – مجالاته – تحديده في الاقتصاد الإسلامي

العدد 96

إن النظام الإلهي الشامل الذي أرساه الحق سبحانه لأبناء دينه الحنيف يعتمد علي منظومة متكاملة من القيم الفاعلة التي تشكل المنهج الإسلامي، وتحد معالمه، وترسم له مسارات الفعل والعمل، مما يجعل منه رسالة حضارية صالحة لكل زمان ومكان، يغنم المتمسك بها الفلاح الدنيوي والنعيم الأخروي الأبدي.

إن المدخل القيمي للمنظور الإسلامي في رسالته الحضارية للأمة يشمل العديد من العناصر متتابعة الحلقات، متراكمة المستويات، وتكون فيما بينها إطاراً معياريًا للظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، نختص منها بالدراسة مبدأ الوسط.

ذلك أن الأمة الإسلامية تنفرد بهذه القيمة التي لم تكن لأمة من قبل، فلم يرد في الكتب المقدسة أو الشرائع السابقة علي الإسلام أن وصفت امة بأنها أمة وسط، وصبغت هذه الخصيصة جميع مفاهيمها الدينية والدنيوية، وكل تصرفات أفرادها وسلوكهم .

فقد أراد الحق سبحانه أن توجد في الإنسانية أمة وسطي تكون نموذجًا، تحمل للناس رسالة الإيمان والسلام، رسالة العدل والاعتدال، الرسالة الإسلامية الوسطي ؛ لأن الإسلام أوسط الأديان، أي أنه رمز بقائها وصفائها ووحدتها وتكاملها واتصالها .

وتهدف هذه الورقة  البحثية – بحول الله وقوته – إلي جلاء القيمة التي وصف بها القرآن الكريم أمة الإسلام، ليبان ما يعنيه مفهوم الوسط في تميز الإسلام وأمته ، في ميدان المعرفة ومنهج النظر والحياة ، وبخاصة في المجال الاقتصادي منه، لمحاولة الوصول إلي معيار للوسط الإسلامي ، يمكن بواسطته تحديد الوسط لكل المتغيرات والعلاقات والتصرفات الاقتصادية ، وذلك من خلال التعرف علي :

  1. مفهوم الوسط الإسلامي .
  2. مجالات الوسط .
  3. تحديد معيار الوسط .
  4. تطبيق معيار الوسط في الاقتصاد .

1- مفهوم الوسط الإسلامي :

يحتل مبدأ الوسط مكانة مهمة في تميز الأمة الإسلامية، وفي تحديد مسارات العمل والفكر بها ، ويرجع ذلك إلى تفرد مفهوم الوسط لدى أمة الإسلام، مما يستلزم استجلاء هذا المفهوم في لغة العرب، والتعرف على ما اصطلح عليه مفكروها وعلماؤها في هذا الصدد، فضلاً عن التعرف على مفهوم الوسط من خلال آيات القرآن الكريم، وذلك من خلال دراسة :

أ- الوسط في اللغة

ب- الوسط في الاصطلاح

ج- الوسط في القرآن الكريم

 أ – الوسط في اللغة  :

وسط الشيء – في لغة العرب – ما بين طرفيه وهو منه، وكل موضوع صالح فيه فهو وسط، وهو المعتدل من كل شيء(1) .

وسَط الشيء محركه، ما بين طرفيه كأوسطه، فإذا سكنت السين أي وسْط فهو ظرف لا إسم وهو بين . ووسط الشيء وتوسطه : صار في وسطه(2)

وقال أحمد  ابن يحيى الفرق بين الوسْط والوسَط : أنه ما كان يبين جزء من جزء فهو وسْط مثل الحلقة من الناس والسبحة والعقد، قال : وما كان مصمتًا لا يبين جزء  من جزء ، فهو وسَط مثل وسَط  الدار والراحة والبقعة (1), وفسّر ذلك الراغب الأصفهاني بقولة : وسَط الشيء : ما له طرفان متساويان القدر، ويقال ذلك في الكمية المتصلة، كالجسم الواحد، ووسْط بالسكون : يقال في الكمية المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو : وسْط القوم كذا (2)

والوسط محركة من كل شيء أفضله وأعدله، وقد يأتي الوسط صفة، وإن كان أصله أن يكون اسًما، وذلك في مثل قوله تعالى وتقدس (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ اُمَةً وَسَطًا) [البقرة 143]

أي عدلا وخياراً (3) وهذا تفسير الوسَط وحقيقة معناه ، قال الزجاج فيه قولان : قال بعضهم وسَطًا عدلاً، وقال بعضهم خياراً، واللفظان مختلفان والمعنى واحد لأن العدل خير والخير عدل . وهو من أوسط قومه، أي خيارهم، مثل وصف النبي صلى الله عليه وسلم انه كان من  أوسط قومه أي من خيارهم وأشرافهم، فهي تصف الفاضل النسب، بأنه من أوسط قومه (4) والوسيط : المتوسط بين المتخاصمين، والقائم بالوساطة (5) .

ب- الوسط في الاصطلاح

الوسط والأوسط يأتي اصطلاحًا في معنى الاعتدال والبعد عن الغلو، ويأتي في معنى الأفضل ، إذ أن الوسط بطبيعة الحل محمى من العوارض والآفات التي تأتي أطراف الشيء، وقد استعمل الوسط في الفضائل، ثم صار الوسط وصفًا للمتصف بالفضائل “6” فالوسط خير إذن من التطرف، وتفضيل الوسط يرجع إلى أنه رمز للتوازن والعدل، وهو كذلك رمز للوحدة، ورمز للترابط والاتصال والتكامل . فالوسط رمز للوحدة لأنه لا يتعدد, فالشيء الواحد يمكن أن يكون له أطرافًا متعددة, ولكن لا يمكن أن يكون له إلا وسطًا واحداً, كذلك فإن الأطراف المتعددة لا بد وأن تختلف (1)

والقول أن الوسط هو العدل والخيار، هو لأن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفريط  وتقصير ،وكل من الإفراط والتفريط  ميل عن الجادة القويمة، فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر أي المتوسط بينهما (2)، ومن ذلك أن خير الأمور أوساطها : قال ابن الأثير في هذا : كل خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان : فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم، ويتجنبه بالتعري منه والبعد عنه ، فكلما ازداد منه بعداً ازداد منه تقربًا، وأبعد الجهات والمقادير والمعاني من كل طرفين وسطها، وهو غاية البعد منها، فإن في الوسط فقط بُعد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان (3) 

ج- الوسط في القرآن الكريم

جاء ذكر الوسط بصور مختلفة في خمس مواضع بالتنزيل العزيز منها :

  • الأول : قول الحق سبحانه :

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَةً وَسَطًا) [ البقرة 143] ووسطًا أي متوسطين بين الغلو والتفريط، ووسط كل شيء أعدله والطريقة الوسطى المثلى (4)  أي جعلناكم أمة عدولاً وخياراً، بما وفقناكم إليه من الدين الصحيح والعمل الصالح، لتكونوا مقرري الحق بالنسبة للشرائع السابقة، وليكون الرسول مهيمنًا عليكم ليسدكم بإرشاده في حياته، ومنهجه وسنته بعد وفاته (5) والوسط هنا ليس وسطًا تاريخًيا أو جغرافًيا أو ثقافًيا أو عرقًيا، لأن السبب فيه هو القرآن ومنهجه، وإنما هو وسط بقدار ما تكسب الأمة من اتباع المنهج القرآني في حياتها والعمل به والسير عليه (6) فالوسط هنا هو الخيار، فقد جعلت هذه الأمة وسطًا لما خصًها الله بأكمل  الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب (1) ويتقارب الوسط هنا مع معنى المثالية ، لذلك فقد فسر العلماء والمفسرون ( أُمَةً وَسَطًا ) أي أمة مثالية لو اتبعت شريعة الله سبحانه وتعالى، وقامت بحقها(2)

  • الثاني : قوله تعالي : (فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَط مَا تُطْعِمُونَ أَهْليَكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) [المائدة 89 ] أي من خير ما تطعمونهم لأنه الوسط من كل شيء : أعدله وأخيره، ولا يمكن أن يكون أوسط ) بمعنى أقصد لأن سياق الآية يأ باه ومقصد القرآن الكريم ينفيه ؛ لأن الله تعالى استبدل الإطعام بالكسوة  (أَوْ كِسْوَتُهُمْ ) ولا يعقل أن تكون الكسوة معادلة إلا بخير الطعام لا أدونه (3)
  • الثالث : قوله الحق تعالى ( حَافظُوا عَلَى الصَّلَوَاَتِ وَ الصَّلاَةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين ) [البقرة 238] والصلاة الوسطى هي أفضل الصلوات وأعظمها أجراً، ولذلك خصّت بالمحافظة عليها، وقيل أنها وسط بين الصلوات، ولذلك وقع الخلاف فيها فقيل صلاة العصر لتوسطها النهار، وقيل المغرب أو العشاء – وقيل الفجر لتوسطها بين صلاتي الليل وصلاتي النهار ولما فيها من المشقة والثقل على المنافقين، وقال ابو الحسن : الصلاة الوسطى يعني صلاة الجمعه، ليحافظ المؤمنون على صلواتهم اجمع (4) 
  • الرابع : ( قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلاَ تُسَبَّحُونَ) [القلم 28] أوسطهم أي أمثلهم، وأعدلهم قولاً وأصدقهم وأخيرهم – وكان معارضَّا لهم – ولم يكن مرتضًيا حرمان المساكين (5)
  • الخامس : قوله الحق تبارك وتعالى : ( فَوَسَطْنَ بهِ جَمْعًا ) [العاديات 5] أي توسطهن بهذا الوقت جموع الأعداء (6) .

يتضح أن  الوسط – كما ورد في قول الحق سبحانه وتعالى، يدل على الأخْيَر والأفضل والأمثل، وإن دلَّ أيضًا على التوسط في المكان والمكانة أو في الترتيب.

2- مجالات الوسط :

يتضح من التعريف اللغوي و الاصطلاحي للوسط، أنه يشير إلى معاني العدل والاعتدال والتوازن والاستقامة والخيرية والمثالية التي يدعو إليها الإسلام، والتي يتسم بها الاعتقاد والأخلاق والتشريع والسلوك، فيضمن للأمة الإسلامية الاحتفاظ بخصوصيتها، التي جعلها الخالق سبحانه جقًا من حقوقها (1)  

ذلك أن الموقف الوسط الذي تتميز به ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَة أُخْرِجَت للِنْاس) لا يأتي من التلفيق بين مواقف متطرفة، أو التوسط بين متضادين، أو الجمع بين متعارضين، أو إرضاء لطرفين متنافرين، إنما هو الموقف الأفضل والأمثل، الذي هو المنهاج الكامل للإنسان المسلم، ويغطي كل شيءون الحياة التي تتعلق بالعقيدة والسلوك والحياة الاجتماعية والاقتصادية، كما يوجه تفكير علماء المسلمين واجتهادات فقهائه، وصولاً إلى الحكم الشرعي في إطار النص القرآني، مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة والظروف والأحوال (2) .

ويتجلى وسط الأمة الإسلامية في التوازن المقسط الذي أقامه الإسلام بين الفرد والمجتمع، كما أقامه في كل المتقابلات الأخرى : بين الدنيا والآخرة بين الجسم والعقل والقلب بين المثال والواقع ، بين وازع الإيمان ووازع السلطان (3)   

ويمتد أثر مبدأ الوسط ومكانته إلي مختلف المجالات الإسلامية بصفة عامة، كما يمكننا أن نرصد أثر هذا المبدأ الهام في كل مجالات الاقتصاد الإسلامي .

أ- مجالات الوسط في المفهوم الإسلامي :

تتضح روح الوسط ومفهومه في مختلف المجالات العقيدية والعلمية والتشريعية والأخلاقية، حيث نجد أنه:

1- في مجال العقيدة : يتضح مبدأ الوسط في عدم الغلو والتفريط في الدين، من خلال التهاون في العقائد والمفاهيم الدينية أو التجاوز فيها، من خلال الافتراء على الأحكام الشرعية بالاستباحة أو التحريم من غير دليل كاف، من خلال الابتداع فى السلوك الديني أو التقتير فيه على غير ما جاءت به الأحكام الإلهية وسنة الرسول صلي الله وعليه وسلم القولية والتقريرية(1)

2 في مجال التفكير الإسلامي :

يسيطر مفهوم الوسط في موازنة العلماء – عند البحث في مختلف القضايا – بين العقل والنقل، بين الوحي والنص، بين الواقع والمثل العليا ، بين الغايات والوسائل، بين الدين والدنيا، وبين الجبر والاختيار، ويظهر ذلك جلًّيا في كتابات المفكرين المسلمين الذين يستلهون روح القرآن الكريم ومواقف الرسول صلي الله وعليه وسلم، وقد كان خلقه القرآن (2)

3- في مجال التشريع الإسلامي :

يؤدي مفهوم الوسط إلي تحقيق فكرة العدالة من خلال الجمع والتوفيق والعدل بين حقوق الله وحقوق الناس، وبين حقوق الفرد وحقوق الجماعة، وبين المبادئ الأخلاقية والمصالح الاقتصادية، بين العمل الفردي والعمل الجماعي المنظم، وبين فضائل الروح ومطالب الجسد(3)

4- في مجال الأخلاق والسلوك الإسلامي :

يضمن الأخذ بمبدأ الوسط التوفيق والموازنة بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية، وبين مصلحة الدنيا وثواب الآخرة، بين مطالب الجسد وتهذيب الروح، بين إشباع الغرائز وتربية الوجدان (4)

إن وسط المنهج الإسلامي وعدله بين النواحي الروحية والمادية, يحصنه من تسرب الغلو المادي ، كما يحميه من التطرف الروحي، ومن كل غلو أو تطرف في أي اتجاه كان، ولذلك كان اختلافه عن المذاهب المتطرفة، واستقلاله، وانفصاله ميزه عنها (5)

إن اتباع الوسط في مختلف هذه المجالات لا يعمل علي التلفيق بين الأطراف المذمومة والمواقف المتنافرة ولا علي تغليب طرفاً علي آخر، وإنما  إلي تحقيق الواقعية المثالية التي تعترف بسلامة كلا الطرفين، حيث أنهما متلاقيان غير متضادين ولا متفرقين فهما مترابطان بما يحقق صالح المسلم قي دنياه، وآخرته، دون إفراط أو تفريط ولا طغيان أو إخسار.

ب- مجالات الوسط  في الاقتصاد الإسلامي :

يتضح مبدأ الوسط بصورة تطبيقية عملية في مجال الاقتصاد الإسلامي، حيث يرسي للإنسانية بناءًا اقتصاديَا قائمًا علي العدل والخيرية، بدلاً من السيطرة والغلبة، بناءًا يعترف بكل الأطراف، ويضع لها النهج الفطري الذي لا يقاومها، وإنما يوظفها لخير الإنسانية، بناءًا لا يعترف بالحقوق والحريات المطلقة، وإنما يضع لها الضوابط التي توجهها إلى الطريق المثمر المنتج .

إن تطبيقات مبدأ الوسط في الاقتصاد الإسلامي تتعدد لتشمل مختلف المجالات الاقتصادية :

1- في مجال المصالح والحريات الاقتصادية: يؤدي تطبيق مبدأ الوسط إلي الموازنة بين حرية الفرد ومصلحة الجماعة، بين الاستماع الحلال بالدنيا وثواب الآخرة

2- في مجال الحقوق والواجبات الاقتصادية: يكون لمبدأ الوسط أثره في الموازنة بين رأس المال والعمل، بين المنتج والمستهلك، بين مصالح المنتجين والوسطاء والمستهلكين، بين المصلحة الفردية ومصلحه المجتمع، بين مصالح الفئات الاجتماعية بعضها وبعض .

3- في مجال الملكية : ينفرد الإسلام بأن أصل الملكية فيه للخالق سبحانه فهو تعالي (مًالِك الْمُلْكِ) [آل عمران 26] وهو سبحانه (َوَِلله مُلْكٌ السَّمَواَتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنهُمَا) [المائدة 18] كما  أنه تعالي ( لِلَّهِ مٌلْكُ السَّمَوَاَتِ و اَلأرْضِ وَمَا فِيهِن ) [المائدة 120] . وهو المالك الأوحد ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكُ فِي الْمُلْكِ) [الفرقان 2] .

أما الناس فهم خلفاء في مال الله سواء كانوا جماعات أو أفرادًا، ( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتخْلَفِينَ فِيه ) [الحديد 7] .

وينطبق مبدأ الوسط علي نظام الملكية في الإسلام ،حيث لا تفرد مطلق بالملكية، ولا شيوع مطلق لها، سواء للأفراد أو الجماعة أو الدولة، ذلك أن الإسلام يعترف بالملكية الفردية، ويعطي للمسلم حق تملك ما يحصل عليه من طريق حلال بمجهوده، أو آل إليه من مجهوده خلال الآخرين كإرث أو هبة، كما يشترك الأفراد في تملك بعض الموارد ملكية جماعية لما لها من اهمية في حياة الأفراد والأمة، كمصادر الطاقة والحياة من مياه وبترول ومناجم وبحار وأنهار ومراعي وصحاري وغابات وغير معمرة  كذلك ينفرد الإسلام بالملكية الجماعية من خلال الوقف الذي يخصص لصالح جماعه معينة أو غير معينة لكون الاستفادة من هذه الملكية وما تدره من عائد تحقيقًا لوصية الواقف .

4- في مجال الميزان :

يتجلى مبدأ الوسط في أسطح صوره من خلال الموازنة بين حق كل من البائع والمشتري، حيث يؤدي التطفيف بالإخسار، وعدم إيفاء الكيل والميزان، إلي ضياع حق المشتري، كما يؤدى التطفيف بالبخس وزيادة استيفاء الكيل والميزان إلي ضياع حق البائع، لذا كان الوعيد من الحق سبحانه ( وَيْلٌ لِلْمُطَفّفِينَ الَّذِين إذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاس يَسْتَوْفُونَ وإِذَاَ كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُون ) [سورة المطففين، الآيات رقم 1-3 ] كما كانت الأوامر الإلهية بضرورة إيفاء الكيل والوزن بالعدل ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِاْلقِسْطَاس الْمُسْتَقِيم ) [ الاسراء 35 ]

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ باْلقَسْطِ) [الأنعام 152] 

(أَلاً تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانَ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بالْقِسْطِ وَلآَ تُخْسِرُواَ الْمِيزَانَ ) [ الرحمن من 8-9 ]

( وَلاَ تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَ الْمِيزَانَ ) [هود 84] وكذلك الأوامر الإلهية بعدم بخس الناس أشياءهم

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاس أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين) [هود 85] .

إن الالتزام بهذه الأوامر الإلهية يضمن لكل ذي حق حقه، كما يضمن عدم ضياع أموال الناس وجهودهم المبذولة في إنتاج السلع وتسويقها وذلك بتحديد الثمن العادل الذي يفي المنتج حقه دون بخس ولا إخسارة .

إن الإلتزام بالوسط في الميزان يضمن تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات الاقتصادية جميعًا، وذلك أن الحق سبحانه أرسل مع رسله المختارين الكتب المتضمنة للأحكام، وشرائع الدين، والميزان، الذي يحقق الإنصاف في التعامل (1) وطالب الناس القيام بالقسط والالتزام بالوسط في قوله تعالي : ( لَقَدْ أًرْسًلْنًا رُسُلَنَا بِالْبَيَّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزَانَ لِيقُومَ النَّاس بِالْقِسْط ) [الحديد 25] يؤكد الأمر الإلهي على معنى دقيق رائع، وهو مسئولية الناس أن يقوموا بالقسط ويلتزموا بالوسط بأنفسهم، مهتدين في ذلك بما أنزل الله علي الرسل من كتاب وميزان (2)  ويمتد تنفيذ هذا الأمر الإلهي من السلع المادية التي تكال وتوزن، إلي تقدير الجهد الإنساني من خلال تحديد الأجور دون بخس أو شطط، حتى يحصل العامل علي حقه، ولا يتكبد صاحب العمل نفقة تفوق ما يحصل عليه من نتيجة جهد العامل، ويضمن ذلك عدم الجور علي حق أي من الطرفين وانتظام الحياة الاقتصادية والاجتماعية واستقامتها .

5- في مجال إشباع الحاجات :

يؤدي تطبيق مبدأ الوسط إلي تحديد نوعية الإشباع وكميته معًا، ذلك أن إشباع الحاجات في الإسلام يكون من أفضل الموارد التي أخرجها الخالق لعباده، علي أن يتم ذلك دون تقتير أو إسراف ومخيلة، لقول الحق سبحانه ( يَا بَنِي ءَادَمَ خُذُو زِينَتَكٌمْ عِنْد كُلَّ مَسْجدٍ وَ كُلٌوا وَ اشْرَبُوا وَلا تُسْرفُوا إِنًّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين ) [الأعراف 31 ] أي لا تحرموا التجمل بالثياب التي خلقها الله لنفعكم، وإنما البسوا أفخر ثيابكم وأطهرها عند كل صلاة أو طواف، ولاسيما يوم الجمعة ويوم العيد، وتطيبوا فإن الطيب والسواك من تمام الزينة (3) .

إلا أن إشباع الحاجات من ملبس ومأكل ومشرب يجب أن يكون بعيدًا عن الإسراف, بما يضر النفس والمال.

عن ابن عمرو رضي الله عنه, أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال :

((كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيله )) (4) . وقد أعطي الرسول صلي الله وعليه وسلم مثالاً تطبيقيًّا لكيفية التزام الوسط في الطعام والشراب فيما جاء عن المقدام ابن معديكرب رض الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : (( ما ملأ ابن  آدم وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)) (1) ويبين ذلك أن إشباع الحاجات الأساسية من  طعام وشراب يجب أن يكون في الحدود التي تكفى لحفظ الأود وبقاء الحياة السلمية، فما زاد على ذلك فهو إسراف وسوء توزيع للموارد الذاتية والاجتماعية، يترتب عليه إضرار بصحة الفرد وبقدرة غيرة من أفراد أسرته الصغيرة وأسرة مجتمعه الكبير علي إشباع حاجاتهم الوسط، أما ما قل عن كفاية إشباع الحاجات الأساسية، ففيه هلاك وفوت حياة وإخلال بالقدرة على العمل والعبادة، كما أن فيه تحريم لما أحل الله من الطيبات الحلال، لقوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيُبَاتِ مِنَ الرَّزق ) [الأعراف 32] .

وبذلك يكون الإشباع محققًا للإشباع  الأمثل كمُّا وكيفًا، سواء بالنسبة للفرد أو الجماعة المسلمة.

6- في مجال الإنفاق : نجد أن التزام الوسط من الأوامر الإلهية المباشرة، سواء فيما يتعلق بنوعية أو كمية الإنفاق، فالأمر الإلهي يؤكد على ضرورة الموازنة عند الإنفاق بين مصالح الدنيا وثواب الآخرة، لقول الحق سبحانه : (وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إلَيْكَ وَلاَ تَبْغ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص 77] أي أطلب الآخرة فيما أعطاك الله من الأموال والثروة بفعل الحسنات، وبذل الصدقات، والإنفاق في الطاعات وصلة الرحم ولا تنسي أن تبقي لنفسك ما يقيك العوز مما أباح الله من المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمساكن، فإن على الإنسان أن يوازن في إنفاقه، فيجعل نصيبًا مما أعطاه الله من غنى وخير في سبيل الله والعمل للدار الآخرة، ولا يمنع نفسه نصيبها من التمتع بالحلال في الدنيا، ذلك أن على الإنسان أن يوازن بين الوجبات المفروضة عليه فإن لربه عليه حقًا، ولنفسه عليك حقًا، ولأهله عليه حقًا ولزوْره عليه حقًا، فعليه أن يؤتي كل ذي حق حقه، كما أن عليه أن يمتثل لأمر الواهب سبحانه بالإحسان إلى عباد الله، وعدم استخدام المال في البغي، والتطاول على الناس، والإفساد في الأرض بالمعاصي، فإن الله لا يحب من كان مجرمًا باغيًا مفسداً (1).

كما يوضح الأمر الإلهي ضرورة التوسط في كمية الأنفاق، لقول الحق سبحانه ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَاَنَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) [الفرقان 67] أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجه، ولا بخلاء علي أهلهم فيقصرون في حقهم، بل عدلاً خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا (2) فالإنفاق الأمثل هو الإنفاق القوام، أي العدل، وقوام كل شيء، في اللغة، هو عماده ونظامه، وهو يدوم عليه الأمر ويستقر، وهو ما يقيم الإنسان في القوت، وقوام الأمر ما يقوم به، وهو قوام أهل بيته، يقيم شأنهم (3) والإنفاق القوام، أي العدل هو الإنفاق الوسط الذي يقع بين الطرفين المذمومين، وهما الإسراف والتقتير، وهو الوضع الأمثل لإنفاق الفرد، لقوله تعالي : (وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الَْبسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُوراً ) [الإسراء 29] فإن التقتير يجعل يد المنفق مقيدة إلي عنقه لا تبذل شيئا، والإسراف يجعلها مبسوطة لا تبقي لديه شيئًا مما يملكه، وهو ملوم في الحالة الأولى – التقتير – لما يضيعه على أهله ومجتمعه من فائدة استخدام ما يملكه من ثروة وأدالتها ليفيد منها باقي أفراد المجتمع فيمنعهم بذلك عائد حركتها ودورانها في الاقتصاد، أما في الحالة الثانية – الإسراف – فهو يجعل المسرف محسوراً أس مكشوفًا لا يستره شيء (4)، أو هو كالدابة التي عجزت عن السير فوقفت ضعفًا وعجزًا (1) فهو عاجز عن استكمال كفايته لما أفرط وأسرف في إنفاق ما تحت يده، وهو في الحالتين في حالة تطرف، بعيدًا عن الوسط الإسلامي، وهو لذلك مذموم من الخَلْق والخالق، منقطع من المال كما ينقطع في سفره بانقطاع مطيته (2) فقد أضر بنفسه وجردها من القدرة على استمرار كفايتها، كما أضر بأهله ومجتمعه، فاذا كان الإسراف فيه إضاعة الموارد وسوء استخدمها، فإن التقتير يؤدي إلى ضمور العمران، وجمود الحياة وانتشار الكساد (3).

إن الالتزام بالإنفاق الوسط، في كل نوع من أنواع الإنفاق الكلى يتيح توفير الموارد اللازمة للقيام با لأنواع الأخرى، فيأتي الإنفاق الكلى محققًا للتوازن على مستوى الفرد والجماعة، وكافًيا لتلبية مختلف احتياجات الفرد وأسرته ومجتمعه، وبذلك نجد أن التوسط في الإنفاق لا يقتصر على مجال الإنفاق الاستهلاكي الذي يهدف إلى إشباع الحاجات، دون تضييق مخلً بكفاية مقاصد الشريعة الخمس، ولا إسراف يفضي إلى الترف الذي يستوجب العقاب الإلهي، وف يقتصر على مجال الإنفاق الاستثماري المتعلق بإعمار الأرض وحسن استثمار الموارد بما يحقق كفاية المجتمع المسلم دون تبديد للموارد كما وكيفًا أو التقصير في استغلالها، كما لا يقتصر على مجال الادخار الذي هو إنفاق مؤجل يتم تحسبًا لبعض الالتزامات المالية المستقبلية بعيداً عن الكنز وإراقة ماء الوجه لعدم التحوط للظروف الطارئة، بل أنه يشمل أيضًا الإنفاق الصدقي أو الخيري الذي يضم ملمحًا من كل هذه الإنفاقات، فهو يمثل إنفاقًا استهلاكيًّا بالنسبة لمن يفيد به من مستحقيه في أي صورة من صوره الإلزامية أو الاختيارية، كما يعتبر ادخارًا لدى الواهب سبحانه يحصّل المرء عائده ثواًبا في الآخرة، فضلاً عن أنه استثمار أخروي يزيد به المنفق رصيده الأخروي من الحسنات لامتثاله في أداء الصدقات المفروضة والتطوعية ومختلف القربات المالية والعينية، هذا الإنفاق الصدقي يجب أن يكون أيضًا في حدود الوسط لعدم الإضرار بمصالح المستحقين لهذا الإنفاق ولعدم خروج المرء من القدرة على الإنفاق الصدقي، وتحوله لأحد مصارف هذا الإنفاق، فيقول جل شأنه : ( كُلُو مَنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام 141 ] قال ابن عباس (وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله (وَلاَ تُسْرفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) قيل في تفسير هذه الآية أقوال شتي، ثم اختار ابن جرير قول عطاء : أنه نهى عن الإسراف في كل شيء، ولا شك أنه صحيح (1) لذا فينصرف (وَلاَ تُسْرفُوا) إلى التجاوز في الانفاق الإلزامي للصدقة، بما يضر صاحب الثمر وسائر التزاماته، فإن الله لا يرضى عن المسرفين في تصرفاتهم وأعمالهم، الذين يتجاوزون في الحقوق والواجبات، المتعدين لحدود الله فيما أحلّ وحرم، وهو ما يحقق معنى الإسراف، هو صرف الشيء فيما ينبغي زائداً على ما ينبغي، حيث أنه جهل بمقادير الحقوق، فقد يكون تجاوز الحد بالأكل مما يحل، أو الإنفاق لما يحل فوق الاعتدال، ومقدار الحاجه (2)

ويعضد ذلك أنه على الرغم من أن معظم المفسرين (3) يذهبون إلى أنه لا إسراف في الإنفاق الصدقي، استنادًا إلى قول أبي قبيس بأنه لا سرف في الخير (4) فإن عبد الله بن عمرو قال : مرّ رسول الله صلى الله وعليه وسلم بسعد وهو يتوضاً فقال : ((ما هذا السرف يا سعد ؟ فقال أو في الوضوء سرف ؟ قال نعم وإن كنت على نهر جار )) (5) .

ويؤكد هذا المعنى ما جاء في آيات الكتاب الكريم ( وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْن السَّبيل وَلاَ تُبَذَّرْ تًبْذِيراً) [الاسراء 26] أي تنفق المال في غير محله، فلا يتبقى لك ما تنفقه في أداء حقوق ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل، أو لا يكفي لأداء هذه الحقوق كاملة، فضلاً عن ضرورة التزام مبدأ الوسط عند أداء هذه الحقوق من خلال تحقيق كفايتهم من المقاصد الخمس والتزامًا بالترتيب من الضروريات إلي الحاجيات إلي التحسينيات، فعلى قدر مراعاة المرء هذا الترتيب يأمن الخصاصة، وعلى قدر خرمة وتجاوزه يحصل التبذير وتفويت مصالح المعوزين وأهل الحاجة (1) وهو ما يحقق معنى التبذير، الذي هو صرف الشيء فيما لا ينبغي(2).

بل أن الرسول صلى الله وعليه وسلم يوضح لنا أن خروج المسلم من أجل ماله لإنفاقه في سبيل الله تعالى، وإن قُبل من أبي بكر رضى الله تعالى عنه، فكان ذلك إحدى محامده (3)،إلا أنه يحب أن يتم في حدود لا تضر بسائر التزامات المرء تجاه نفسه ومن يعول، فعن سعد رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فِي امرأتك )) (4) فكل إنفاق يتحرى به المسلم وجه خالقه سبحانه، فيجعله في حقه هو التزام بالوسط الإسلامي، كمًّا وكيفًا, وتطبيقًا صحيحًا له، وعدم الإسراف في الإنفاق الصدقي بخروج المرء عن كل ماله, هو تحقيق لهدف الإسلام الذي يحمي الذرية من التردي  إلي منازل السؤال، والتحول من مزكين متصدقين إلى محتاجين مستحقين للإنفاق الصدقي .

يتضح من ذلك أن الإنفاق الصدقي الإلزامي والتطوعي على السواء يجب أن يلتزم بالوسط بعيداً عن الإسراف أو التبذير، حتى لا يضر ذلك بمصالح أصحاب الحقوق، ويتيح لهم الحصول على حقهم الذي يوفر لهم كفايتهم من المقاصد الخمس، جنًبا إلى جنب مع تحقيق مصالح المزكين والمتصدقين تطوعًا بتوفير كفايتهم الوسط ومن يعولون من المقاصد الخمس، وعدم تعريضهم للتقصير في أداء واجباتهم الإلزامية والتطوعية، أو التحول إلى أحد مستحقي الإنفاق الصدقي.

يتضح من ذلك أن الإنفاق الصدقي الإلزامي والتطوعي على السواء يجب أن يلتزم بالوسط بعيداً عن الإسراف أو التبذير، حتى لا يضر ذلك بمصالح أصحاب الحقوق، ويتيح لهم الحصول  على حقهم الذي يوفر لهم كفايتهم من المقاصد الخمس، جنًبا إلى جنب مع تحقيق  مصالح المزكين والمتصدقين تطوعًا بتوفير كفايتهم الوسط ومن يعولون من المقاصد الخمس وعدم تعريضهم للتقصير في أداء واجباتهم الإلزامية والتطوعية أو التحول إلى أحد مستحقي الأنفاق الصدقي .

إن التزام الوسط في كل أنواع الإنفاق، بما في ذلك الإنفاق الصدقي من الواجبات الإسلامية التي تحقق مصالح المنفقين والمستحقين على السواء فيوفر لهم كفايتهم من المقاصد الخمس وللمجتمع أسباب التقدم والرواج .

3- تحديد معيار الوسط :

إن التعرف على مفهوم الوسط لغة، واصطلاحًا، وفي آيات القرآن الكريم، والوقوف على مجالات الوسط في كل  من المفهوم الإسلامي العام والاقتصاد الإسلامي خاصة، يجعلنا نتطلع إلى إيجاد معيار يسمح بتحديد الوسط الإسلامي في كل مجال من مجالات الاقتصاد الإسلامي، حتى يمكن توفير الحق لكل من طرفي المعاملة الاقتصادية والوصول إلى الأوضاع امثلي لكل المتغيرات الاقتصادية.

أ – إن المقصد الأساسي من تحديد الوسط في الاقتصاد، هو تحقيق المصلحة الشرعية التي قصدها الشارع سبحانه لعباده بدرء المفاسد وجلب المصالح، وذلك بما ((اتفقت عليه الأمة بل سائر الملل )) من أصول كلية جاءت الشريعة بحفظها، وهي خمسة، الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال (1) ويضيف البعض مقصدًا سادسًا هو حفظ العرض . ويضعه  بعضهم بدلاً من حفظ النسل (2)

ب – وقد قسم الغزالي (3) وتبعه الشاطبي – بالإضافة والتفصيل (1) مقاصد الشريعة الخمس لتحقيق مصالح الدين والدنيا للخلق في دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وعرضهم، وأموالهم إلى مستويات ثلاثة :

  1. الضروريات .
  2. الحاجيات.
  3. التحسينيات.

1- الضروريات :

هي التي لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت الحياة، وفي الآخرة فوت النجاة، والنعيم، والرجوع بالخسران المبين (2)

2- الحاجيات :

لا تتوقف عليها صيانة الأركان الخمسة للحياة، ولكنها تتطلب الحاجة لأجل التوسعة، ورفع الحرج، ودفع المشقة، فهى أمور مفتقر إليها من أجل التوسعة ورفع الضيق المؤدى في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب (3)

3- التحسينيات :

لا يصعب الحياة تركها، لكن تناولها يسهل الحياة ويحسنها أو يجملها ويرى الشاطبي :

(( الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال والمواسات التي تأنفها العقول الراجحة، إن هذه التحسينيات راجهة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجيه، وإذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين (4) ))

ويقضي تحرى الوسط أن نفرق بين ما هو الأكثر أهمية ثم الأقل فالأقل، وتعتبر الضروريات واجبة لأنها المقاصد الأصلية للشريعة، وأي خلل في الضروريات يلزم معه اختلال الباقي من المقاصد الأخرى، ولكن لا يلزم أن يؤدي الإخلال بالحاجيات والتحسينيات إلى الإخلال بالضروريات، وأن كان الإخلال بالحاجيات يؤدي إلى الإخلال  بالتحسينيات وإلى حد ما بالضروريات, كما يؤدي الإخلال  بالتحسينيات و الحاجيات بصفة عامة إلى الإخلال بالضروريات إلى حد ما (5)

ج- وتنقسم كل واحدة من المقاصد الخمس وفق المجال النوعي إلى قسمين :

أصلي ومكمل، أو أصل وفرع وتتمة أو تكميل، وتنقسم وفق المجال الشخصي إلي قسمين :

عام وخاص، وتنقسم وفق المجال المكاني إلى قسمين : شامل وجزئي، وتنقسم وفق المجال الزماني إلى : حال ومؤجل، وتنقسم وفق مجال التدرك إلى قسمين لا يمكن تداركه ويمكن تداركه (1) وذلك بالنسبة لكل مستوى من المستويات، فيتم حفظ الدين من المفاسد وتتحقق له المصلحة على كل من مستوى الضروريات والحاجيات والتحسينيات بما هو أصلى ومكمل، وللأصلي والمكمل بما هو عام وخاص، وللعام والخاص بما هو شامل وجزئي، وللشامل والجزئي  بما هو حال ومؤجل وكذا بالنسبة للمقاصد الشرعية الأربع الأخرى، حفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العقل، وحفظ المال (2)

1- ويكون حفظ الدين من جانب الوجود تحصيلاً على سبيل الابتداء، وابقاءًا على سبيل الدوام، ومن جانب العدم بدفع القواطع شاملاً لمجالات الحفظ الأخرى، بما يراعى أحكام الدين وقواعده ومناهجه .

1- باعتباره العروة الوثقى والتي لا تنفصم، ويشتمل حفظ الدين على كل الوسائل والأدوات المؤدية إلى عمارته من عباده، ومعاملة، وعلاقة بإقامة أركانه، من إيمان ونطق بالشهادتين وصلاة وزكاة وصيام وحج، وما تقوم عليه عقيدة التوحيد من فعاليات وقيم تحكم التعاملات والعلاقات والتفاعلات (3)

2- ويكون حفظ النفس هو حفظ لأصل الإنسان، يتم من جانب الوجود بحفظ ما فضله به الله سبحانه  على كثير من خلقه بالعقل والعلم والبيان والنطق والشكل والصورة الحسنة، والهيئة الشريفة والقامة المعتدلة، واكتساب العلوم بالاستدلال والفكر، واقتناص الأخلاق الفاضلة من الصبر والطاعة (4) وبتوفير ما يقيم هذه النفس من الغذاء (طعام وشراب )، والكساء، والمسكن كما يتم حفظ النفس  من جانب العدم بتحريم الاعتداء علي الأنفس والأعضاء .

3- ويكون حفظ العقل من جانب الوجود بما يحافظ على النفس به من غذاء وكساء ومسكن من حيث أنه داخل في حقيقة النفس، فالعقل السليم في الجسم السليم، فضلاً عن وجوب التعليم بأنواعه (1) فحفظ العقل من الضروريات لضمان أن تكون النفوس متمتعة بالرشد الذي يحركها لتحقيق العمران، ويتم حفظ العقل من جانب العدم من كل ما يغيبه بتحريم المسكرات، والمعاقبة على تعاطيها وحفظه من كل ما يسلبه من أفكار وتسميم وغسيل مخ، حتى يمارس العقل وظيفته وفاعليته في إطار عمارة الأرض (2) .

4- ويكون حفظ النسل والعرض هو شق مكمل لحفظ النفس، ولكن في إطار يحفظ للتكوينات الجماعية والمجتمعية أساسها وتأسيسها، هو يشمل كل عناصر الفاعلية الدافعة للتنمية البشرية في الوجود والعمارة والاستمرار (3) ويتم حفظ النسل والعرض من جانب الوجود بتحصيل مصالحه بنظام الزواج أو النكاح ومقاصده وضوابطه، ومن العدم بدفع المفاسد عنه بتحريم الزنى واللواط والقذف، وإقامة الحد على ذلك.

5- ويكون حفظ المال باعتباره أداة ومادة العمران، ومجال فاعلية الإنسان في التنمية والتعمير، ويتم حفظ المال من جانب الوجود بتحقيق مقاصد الشارع في الأموال، وهي مبدأ التداول، والوضوح، والعدل فيها، والمحافظة  عليها من الاعتداء (4)، وبتحقيق مبدأ التداول، بمنع اكتناز الأصول، وسحبها من مجال التداول، وتجميدها، وتحريم التعامل بالربا، وتحريم احتكار السلع الضرورية لحياة الناس، وتحريم الميسر والمقامرة، ومنع أن يكون المال دولة بين فئة قليلة . ويتحقق بطلب الإنفاق المحمود والكف عن الإمساك المذموم من بخل وتقتير، والنهي عن الإسراف والتبذير وحرمان من يفعل ذلك حق التصرف في ماله بالحجر عليه، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل، وفرض واجبات شرعها الله، أما على جهة الإيجاب، فمنها دائم الوجوب كالزكاة وزكاة الفطر والإنفاق على النفس والأقارب الذين تلزم نفقتهم، ومنها طارئ الوجوب لدفع الضرر عن جماعة المسلمين وآحادهم أو لدفع كيد الأعداء عن الإسلام والمسلمين، وأما على جهة الندب كبذل المال من باب التطوع وجميع أنواع الإنفاق في سبيل الله بعيداً عن المن والأذى والرياء المنهى عنها في التصدق (1).

ويتحقق الوسط الإسلامي بالتزام بتحقيق المقاصد الشرعية الخمس بدرجاتها ومجالاتها المختلفة في إطار مستويات الحفظ الثلاث، فإن تدنينا عن مستوى الضروريات كان في ذلك إضرار بالأركان الخمسة للحياة الفردية والجماعية، وتقصير في توفير أدنى المصالح المتعلقة بإقامة الوجود الإنساني من المنظور الإسلامي والتي حصرها الإمام الشيباني في عصره في : الطعام، والشراب، واللباس، والسكن (2) وتفريط مهلك في إيجاد المهمات الستة التي حدد بها – كما يرى الإمام الغزالي – المهم الضروري، وهي : ((المطعم، والملبس، والمسكن وأثاثه، والمنكح، والمال الذي هو وسيلة إلى هذه الخمسة ))، فهي كما يرى الإمام العلامة من ضروريات الحياة التي يجب توفير أقل درجاتها بالنسبة للدرجة العليا من الزهاد (3). وعن الإمام الشيباني أن ((من امتنع عن الأكل والشراب والاستكنان حتى مات وجب عليه دخول النار لأنه قتل نفسه عمداً)) (4) .

أما إذا تجاوزنا مستوى التحسينيات كان في ذلك ترفًا مذمومًا مهلكًا، وتزيداً مفسدًا، وإفراطًا مخلاً بحسن استخدام الموارد و تخصيصها .

ويمكن التعبير عن معيار الوسط بالشكل :

               حاحيات

ضروريات           تحسينيات

كفائيات

 

 

إضرار                                                                                  ترف

تقصير                                                                                    تزيد

هلاك                                                                                     إفراط

 

ويتحقق الوسط الإسلامي المنشود بالتزام مستوى الحاجيات، والذي يمثل المستوى الأوسط للمستويات الثلاثة، فهو المستوى الأمثل الذي يحقق مبدأ الكفاية الواجب شرعًا، والذي يجب العمل على توفيره للجماعة الإسلامية وآحادها، كلما سمحت موارد المجتمع (1) فالأصل في الإسلام هو عدم الآلتزام بالبقاء عند مستوى الأولويات الضرورية، وإنما تيسير الحياة وتسهيلها بما يرفع الضيق المؤدى إلى الحرج والمشقة، وهو ما يتحقق بالوصول إلى مستوى الكفائيات، إعمالاً لقول الحق سبحانه : ( يُرِيدُ اللهُ بكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) [البقرة 185] .

بذا يتبين أن الوسط الإسلامي ليس نقطة يمكن تحديدها رقميًا، تنطبق في جميع الأحوال والأزمنة، وإنما هو تحقيق إشباع المقاصد الشرعية داخل المساحة الممتدة بين كل من الحدين الأدنى (الضروريات) والأعلى (التحسينيات) مع محاولة توسطهما، والوصول قدر الطاقة إلى الالتزام بالمستوى الأوسط (الحاجيات – الكفائية) ويرتبط هذا المدى اتساعًا وضيقًا بالظروف والإمكانات الزمانية والمكانية  للفرد والمجتمع .

ويسهم تحديد معيار الوسط الإسلامي بمدى يمتد بين طرفين مذمومين في جعله معياراً يتسم بقدر كبير من الواقعية، يتيح تطبيقه بنجاح رغم تنوع ظروف الأفراد والجماعات واختلافها، ذلك التنوع والاختلاف اللذان جعلهما الحق سبحانه آية من آيات خلقه تقدس وتعالى ( وَمِنْ ءَايَاِتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنتِكُمْ وَ أَلْوَانِكَمْ إِنَّ فِي ذَّلِك لآيَاتِ للْعَالِمِين ) [الروم 22] والألسن هي اللهجات واللغات (2) واختلافها هو اختلاف الحضارات والثقافات، أما الألوان فهي الأجناس البشرية المتباينة على الرغم من انتمائها إلى أب واحد هو آدم عليه اللام، والعبرة في ذلك لأهل العلم هو وحدانية الخالق سبحانه، وتعدد خلقه وتنوعهم .

4- تطبيق معيار الوسط :

إن تحديد معيار الوسط الإسلامي بمدى وليس برقم محدد أو نقطة معينة، قد يزيد من جدوى تطبيقه على المتغيرات الاقتصادية حيث يسمح لها بالتكيف مع مختلف الظروف المكانية والزمانية، بما تحمله من اختلافات في مستويات الأسعار والتكنولوجيا .

أ – عند تطبيق معيار الوسط على الاستهلاك :

يكون الاستهلاك الوسط هو الذي يعمل على المحافظة على المقاصد الشرعية من دين، ونفس، ونسل، و عقل، ومال، بحيث يتم إشباع الضروريات من هذه المقاصد جميعًا، ثم يتم الانتقال إلى إشباع الحاجيات منها، ثم التحسينيات كذلك، على أن يكون ذلك بما لا يقل عن مستوى إشباع الضروريات اللازمة لتحقيق مصالح الدين والدنيا، حتى لا يتعرض الفرد للهلاك ماديَّا، ومعنويًّا، وبما لا يتعدى مستوى التحسينيات، حتى لا يصل إلى المذموم من الإسراف والتبذير والترف، ويتوقف ذلك على الفرد أو مجموعة الأفراد الذي يطبق عليهم المعيار، مع الأخذ في الاعتبار السلع المتوافرة، ومستويات الأسعار وميول الأفراد وأذواقهم .

ب – عند تطبيق معيار الوسط على الإنتاج :

يكون الإنتاج الوسط هو الذي يوجه إلي إنتاج السلع اللازمة للمحافظة، من باب الوجود، على المقاصد الشرعية الخمس للأفراد المجتمع في دينهم  ونفسهم  وعقلهم  و نسلهم ومالهم، وعدم إنتاج السلع المحرمة التي تضر بهذه المقاصد أو تهدد المحافظة عليها، تدرجًا من الضروريات إلى الحاجيات إلى التحسينيات، بما يحقق العائد الوسط للمنتج الذي يحقق الربح العادي أو فوق العادي، بعيداً عن ربح المحتكر الملعون في الإسلام . ويرتبط هذا الوسط في الإنتاج بأنواع السلع المطلوبة، ومستويات التكنولوجيا المتبعة، والمستويات العامة للأسعار والأجور .

ج – عند تطبيق معيار الوسط على الإنفاق :

لكونه من المجالات التي حظيت باهتمام كبير من القرآن والسنة، نظراً لتأثيره كمًّا وكيفًا على دوران الدولاب الاقتصادي واتجاهات والاستثمار والتنمية ومجالاتها وان وجدنا أن مجالات الإنفاق أربع

الإنفاق الاستهلاكي، والإنفاق الاستثماري، والإنفاق الصدقي، والإنفاق السالب (الادخار )

إن تحقيق الوسط في الإنفاق يكون بتحقيق مقاصد الشريعة الخمس فيما بين مستوى الضروريات ومستوى التحسينيات، أي أن الإنفاق الوسط يجب أن يقوم بالمحافظة على الدين والنفس والعقل والنسل والمال، عند مستوى لا يقل عن مستوى الضروريات حتى لا يدخل دائرة الاكتناز والبخل والتقتير المذمومة، ولا يزيد على مستوى التحسينيات حتى لا يقع في دائرة الإسراف والتبذير والسفه المذمومة .

ويمكن التعبير عن ذلك بالشكل

اكتناز                                                                                          إسراف

بخل                                                                                            تبذير

تقتير                                                                                            سفه

 

وذلك بالنسبة لجملة إنفاق الفرد وبالنسبة لكل مجال من مجالات الإنفاق الأربع .

وإذا أردنا المضي قدمًا في تطبيق معيار الوسط على الإنفاق، يجب أن نهتم بالمواءمة بين دخل المرء وإنفاقه، ذلك أن على كل فرد أن (( يضع ما اكتسبه من حله في حقه ولا يضعه في غير حقه ))(1) والناس مختلفون في دخولهم، وقدرتهم المالية، وبالتالي فهم مختلفون في قدراتهم الإنفاقية .

ويكمن هنا أن نفرق بين نوعين كبيرين من الأفراد على أساس المقصد الشرعي الأول، وهو حفظ الدين، والذي يقضي الالتزام بفريضة الزكاة والتي هي فرض عبادي على من تتوافر فيهم شروطها من ملكية، ونصاب، وحول .

فنقسم الأفراد، وفقًا لواجبهم في الإنفاق الصدقي الإلزامي إلى :

  • أفراد مستحقون للزكاة، فلا يجب عليهم إنفاق صدقي إلزامي .
  • أفراد مزكون، يجب في أموالهم الإنفاق الصدقي الإلزامي .

1- بالنسبة للمجموعة الأولى، فإن عدم تكليف أفرادها بالزكاة يعنى عدم توافر شروط النصاب فيما يملكون من أموال، وهو ما يعني استحقاقهم لسهم من الأموال الزكائية يساعدهم فى الوصول إلى توفير ضرورياتهم من المقاصد الشرعية الخمس، أي أن قدراتهم المالية لا تحتمل أو تحتمل بالكاد توفير هذه الضروريات أو بعض منها، وعلى ذلك يكون الوسط بالنسبة لأفراد هذه المجموعة هو توجيه الجزء الأكبر من دخولهم بما يصل إلى 90 % أو اكثر للإنفاق الاستهلاكي من غذاء (طعام وشراب )، وكساء يعين على الصلاة، ومسكن، وتعليم، وإشباعها بالقدر الضروري اللازم لحفظ الدين والنفس والعقل والنسل دون خلل أو عدم، على أن يستكملوا ضرورياتهم من نصيبهم في حصيلة الزكاة، حتى يتحقق لهم الوسط – في حدود دخولهم – وهو الوضع الأفضل لهم، حيث لا يتركون للتدني عن مستوى الضروريات .

وبذلك يكون الإنفاق الوسط للمجموعة الأولى هو استيعاب الإنفاق الاستهلاكي لجل دخولهم، نظرًا لتواضعها، وارتفاع ميلهم الحدي للاستهلاك تبعًا لذلك، كما لا يفرض عليهم إنفاق صدقي إلزامي، ويصعب استقطاع جزء من هذه الدخول للإنفاق الاستثماري، أو الادخار الذي يتم تعويضه بنصيبهم المفروض في حصيلة الزكاة، وذلك وفق المدى الذي يتفق والظروف المختلفة لهذه المجموعة من دخول أو مسئوليات متباينة في الإعالة الواجبة عليهم

2- أما المجموعة الثانية، فتتكون من المزكين الذين يتوافر شرط النصاب في أموالهم، كثرت أم قلت، ويكون تحقيق الوسط من خلال :

  • تراوح الإنفاق الصدقي، بشقيه الإلزامي والتطوعي، بين 2.5 % وهو الحد الأدنى لفريضة الزكاة الإلزامية، و 35.8 % ويمثل ثلث المال بعد إخراج الزكاة، وهو الحد الأقصى الذي حدده الرسول صلى الله وعليه وسلم للإنفاق الصدقي التطوعي، ((الثلث والثلث كثير )) .
  • تراوح الإنفاق الاستهلاكي المحقق لمستوى الضروريات ثم الحاجيات فالتحسينات اللازمة لحفظ دين و نفس وعقل ونسل الأفراد من 30 % بالنسبة لمستويات الدخول المرتفعة إلى  85 % بالنسبة لمستويات الدخول المنخفضة القريبة من مستوى النصاب، وفق ميلهم الحدى للاستهلاك، والذي يتناسب عكسيًّا ودخولهم .
  • تراوح الإنفاق الادخاري المخصص لمواجهة التزامات مالية مستقبلية من صفر بالنسبة لمستويات الدخل المنخفضة و 10 % كحد أعلى يعتبر بعده الادخار نوعًا من الاكتناز المنهى عنه شرعًا .
  • أما الإنفاق الاستثماري، فإنه يتراوح بين 12.5 % لمستويات الدخول المنخفضة التي لا يجب عليها إلا الإنفاق الصدقي الإلزامي، والتي تخصص لإنفاقها الاستهلاكي 85 % بينما لا تدخر إلا في أضيق الحدود وبين 21.5%

و57.5 % بالنسبة لمستويات الدخول المرتفعة، وذلك وفقًا لقيامها بالإنفاق الصدقي عند أعلى مستوياته التطوعية، فضلاً عن الإلزامية، أو الاكتفاء بالإنفاق الصدقي الإلزامي .

وبذلك يلتزم أفراد المجموعة الثانية بالوسط لكل نوع من أنواع الإنفاق الصدقي والاستهلاكي والاستثماري والادخار، ويلتزمون بالإنفاق الوسط لمجموع دخولهم .

ويمكن التعبير عن الوسط في الإنفاق كالآتي :

2.5% < الإنفاق الصدقي < 35.8%

85%  > الإنفاق الاستهلاكي  > 30%

صفر% < الادخار < 10%

12.5% < الإنفاق الاستثماري <21.5% – 57.5%

 

ويمثل العمود الأيمن الوسط في الإنفاق بالنسبة لفئات المزكين ذات الدخول الأقل، والتي توزع دخلها بين الحد الأدنى للإنفاق الصدقي الإلزامي، بينما يستوعب الإنفاق الاستهلاكي النصيب الأكبر من دخلها، فلا يتبقى للادخار إلا النذر اليسير من الدخل الكلي، وينفق الباقي في أوجه الاستثمار المختلفة .

ويمثل العمود الأيسر الوسط في الإنفاق بالنسبة لتلك الفئات المركزية ذات الدخول الأعلى، والتي قد تنفق من دخلها الحد الأعلى من الإنفاق الصدقي الإلزامي والتطوعي، بينما لا تحتاج إلا لنصيب متواضع لمواجهة متطلباتها من الإنفاق الاستهلاكي، مما يتيح لها نسبة معقولة من المدخرات، مع تخصيص نصيب هام للإنفاق في مجالات الاستثمار المختلفة .

ويتيح ارتفاع مستويات دخول المزكين وتباينها مرونة توزيع الدخول بين أنواع الإنفاق الأربع، وبالنسبة لكل نوع من أنواع الإنفاق، بما يحقق الوسط لكل فئة دخلية، وفق توجيهاتها في مجال الإنفاق الصدقي التطوعي ومجالات الاستثمار المختلفة .

وغني عن البيان أن هذه النسب المقترحة تضع الحدود العليا والدنيا للوسط الإنفاقي بالنسبة لفئة المزكين، والتي تتلاءم ودخول كل منهم، فالعبرة في الوسط الإنفاقي تكون بمواجهة التزامات الأفراد ومن يعولون في المحافظة على دينهم ونفوسهم ونسلهم وعقلهم ومالهم عند مستوى الكفاية في إطار دخولهم الحلال، حيث أن استيعاب هذه الدخول في نوع واحد أو اثنين من أنواع الإنفاق يخل بمفهوم الوسط من جانب الإسراف والتبذير، في حالة استئثار الإنفاق الاستهلاكي أو الاستثماري بل أو الصدقي النصيب الأعظم من هذه الدخول، ويخلّ بمفهوم الوسط من جانب الاكتناز والتقتير في حالة استئثار الادخار لنصيب يزيد على 10% أو 25% من هذه الدخول .

ويعني ذلك إمكانية استخدام معيار الوسط في تحديد الوسط الإنفاقي لكل شريحة دخلية، آخذين في الاعتبار التزاماتها المعاشية والعائلية، جنًبا إلى جنب مع ظروفها الزمانية والمكانية .

أي أن معيار الوسط الإسلامي، بما يتميز به من مرونة وواقعية ومثالية التشريع الإسلامي، يتيح تحديد وتحقيق أفضل الأوضاع الإنفاقية، وبالتالي أفضل الظروف المعاشية، في إطار دخلها الحلال والتزاماتها الدينية والعائلية، في ضوء نوعية السلع المتوافرة، ومستويات أسعارها .

إن وجود أكثر من وسط إنفاقي ليلاءم تعدد الأوضاع الداخلية والعائلية والمعاشية لأفراد المجتمع، يوضح مسئولية المسلم في تحرى التزامه بالوسط الإنفاقي في حدود إمكاناته الدخلية والتزاماته المتعددة، إلا أنه لا ينفي وجود المعيار الإسلامي الواضح لتحديد ذلك الوسط وفق أصول ومبادئ شرعية محددة .

خاتمة 

مما سبق يتضح لنا أن الوسط، هو السمة التي تفردت بها الأمة الإسلامية، ليس مجرد التوازن بين أطراف متنافرة، وإنما هو الوضع الأمثل والأفضل لكل فكر وعمل يتمسك بهذه القيمة، كما هو سمة أمة الإسلام التي هي خير أمة أخرجت للناس، وتبين الآيات القرآنية  والأحاديث أن قيمة الوسط تحكم مختلف مجالات الفكر والعمل الإسلامي، كما تتضح بصورة خاصة في كل مجالات الاقتصاد الإسلامي، بما يحقق الخير لطرفي كل عملية اقتصادية ويعتبر معيار الوسط الإسلامي الوسيلة التي تعيننا على التعرف على الوسط لكل متغير اقتصادي، فهو المدى الذي يشمل تحقيق مقاصد الشريعة وفق مستوياتها الثلاثة : الضرورية والحاجية والتحسينية، بعيداً عن التقصير الذي يهدد بالهلاك لعدم تحقيق الضروريات، وبمناًي عن الإفراط والاسراف المهلكين للموارد والمجتمعات، ذلك مع محاولة الالتزام بالمستوى الأوسط للحاجيات الكفائية، والذي يمثل جوهر الوسط الإسلامي، ويتيح تطبيق معيار الوسط في مجال الإنفاق التعرف على الوسط الإنفاقي بالنسبة لمن لا تجب عليهم الزكاة، ولمن يجب عليهم هذا الإنفاق الصدقي الإلزامي بما يحقق كفايتهم في المحافظة على دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم ومالهم في حدود دخولهم الحلال، وفقًا لنوعية السلع المتوافرة ومستويات الأسعار السائدة .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر