أبحاث

المذهبية الإسلامية

العدد 9

أولا: النظام الاقتصادي جزء من المثالية أو المذهبية:

1- لا يوجد في الحياة العملية ولا في عالم الأفكار والنظريات نظام اقتصادي منفرد بذاته مستقل عن سائر العلوم الاجتماعية التي تخضع جميعها لمبادئ عامة تحددها مثالية أو مذهبية معينة.

فالاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون والأخلاق وغير ذلك من العلوم الإنسانية تنبع كلها من معين المثالية لتصب فيه، ويند عن منطق الواقع ومحجة الصواب من يحاول أن يعالج الاقتصاد الإسلامي بعيدا عن المثالية أو المذهبية التي يدين بها مجتمع إنساني.

الرأسمالية مذهبية مادية في حكم العقيدة، ينبع منها نظام اقتصادي معلوم السمات، فمن اقتنع بهذه العقيدة فلا محيص له من تطبيق نظام اقتصادي رأسمالي، يستمد قوامه وسماته من أصل تلك العقيدة ليسهم في إرساء ما تدعو إليه ولتحقيق الغاية التي ينشدها معتنقوها.

فالاقتصاد هنا كسائر النظم والعلوم الإنسانية الأخرى، في حكم الوسيلة المرجوة للوصول إلى الغاية المنشودة، وهي تعني المثالية والشيوعية، وما يشتق منها من اشتراكيات، عقيدية أو مذهبية يدين بها من يدين، والاقتصاد فيها مشتق منها مسخر لتحقيق غاياتها، ولا معدى لمعتنقي هذه المذهبية من تطبيق نظامها الاقتصادي.

وخطأ محض، بل خطأ في التفكير، أن يحاول البعض معالجة “الاقتصاد” بعيدا عن مثالية أو مذهبية معينة بالذات.

وبناء على ذلك، فليس هناك اقتصاد إسلامي يمكن أن تحدد معالمه خارج حدود المثالية أو المذهبية الإسلامية. وكما أن الاقتصاد الرأسمالي أو الشيوعي أو الفاشي إنما كان وليد وجود مجتمعات دانت بالرأسمالية أو الشيوعية أو الفاشية كمثل أعلى تصبو إلى الوصول إليه وتسعى جاهدة إلى تحقيقه، فلن يكون هناك اقتصاد إسلامي بالمعنى الصحيح، نظريا وعمليا، ما لم يوجد المجتمع البشري المسلم الذين يدين بالمثالية الإسلامية ويدأب على تحقيق أهدافها. وحينئذ فقط تخرج الخطوط الرئيسية للاقتصاد الإسلامي من حيز التصور الفكري إلى حيز التطبيق، وتدعو الحاجات المستحدثة والأقضية التي تستلزمها سنة التطور إلى الاجتهاد في إرساء اقتصاد يستمد أصوله من المذهبية الإسلامية التي ارتضاها المجتمع البشري وفي استنباط القواعد التي تحكم هذا النظام حتى يوفي بالغاية المرجوة منه، ألا وهي تطبيق المثالية أو تحقيق المذهبية.
2- هناك إذن طوران للاقتصاد الإسلامي:

الطور الأول: وهو تصور موضوع الاقتصاد في الفلسفة المذهبية أو المثالية الإسلامية، وهذا يقتضي بالضرورة أن تحدد هذه المثالية بصورة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، مخصصة لا دخل فيها ولا تعميم. وهذا أمر بالغ الأهمية في بناء أي مجتمع إسلامي، إذ لا يتصور قيام مثل هذا المجتمع دون وحدة في المثالية، إذ المقرر أن تتضمن المثالية أو المذهبية شعورا عقديا عميقا يكون في ذاته طاقة متجددة تبعث في نفوس الأفراد معاني الإخلاص والولاء لما يدينون به، وترسي فيهم قيم الوفاء والتضحية والإيثار حينما يعرض لهم أمر يتعلق بمذهبيتهم، ثم تشيع فيهم غرائز الحب والانتماء واستكمال الشخصية وما عداها من الغرائز المعنوية. وأهم من ذلك كله، فالمذهبية المتوحدة في “الجماعة” عنصر لا غنى عنه لانتظام أفراد هذا المجتمع وضبط تصرفاتهم بعضهم إزاء بعض، إذ المذهبية وحدها هي التي تقرر حدود الحق والواجب وهي وحدها الفيصل بين الصحيح والباطل، والمستحب والمكروه، وباختصار هي معيار التقييم التي تحكم تصرفات الأفراد مستقلين ومجتمعين، مادية التصرفات أم معنوية.

والطور الثاني: وهو تطبيق مجموعة من القواعد العامة والقوانين واستحداث أنظمة تحكم المعاملات المادية بين الأفراد فيما بينهم، وبين الهيئة الحاكمة في هذا المجتمع وبين أفراده، وتستمد هذه القواعد والقوانين والأنظمة منطوقها وأصولها من المثالية المقررة، وذلك إسهاما منها في تحقيق المثالية وتثبيتها بالعمل والواقع.

فهذا الطور الثاني لا يتحقق قبل أن يتحقق الطور الأول، إذ هو لا يتصور أصلا ما لم تتضح في الأذهان معالم المذهبية وما لم تستقر هذه المعالم في أذهان وقلوب أفراد المجتمع المسلم عموما، وما لم يصبح هذا المجتمع إسلاميا، أي ساعيا إلى تحقيق الشرعية التي أتى بها الإسلام كمثالية أو مذهبية.

على أن هذا لا يعني البتة أنه لا سبيل الآن لبحث النظام الاقتصادي الإسلامي أو لتحديد خطوطه الرئيسية، إذ إن المعاملات المادية جزء لا يمكن إهماله حين النظر في أية مذهبية تحكم حياة الناس، دع عنك المذهبية الإسلامية التي تضمنت في صميم فلسفتها وكفلت أحكام هذه العلاقات، بل مزجت فلسفتها الروحية بقواعد مادية فأقرت بذلك واقع التكوين البشري من حيث كونه مادة وروحا، وقررت متاع الدنيا كما قررت حسن ثواب الآخرة.

3- من أجل هذا أراني أخالف مخالفة صريحة أولئك الذين يعيبون على مفكري العصر محاولة وصف علاج للمشاكل الاجتماعية المتعددة التي تعاني منها المجتمعات المسلمة، وذلك بحجة أن الدول الإسلامية لم تقم بعد، وأنه حين تقوم هذه الدولة فستختفي أكثر هذه المشاكل تلقائيا، وما تبقى لن يعدم المسلمون آنئذ وسيلة لإيجاد الحلول الإسلامية المناسبة له.

وجه الخطأ في هذا التفكير الذي ساد عددا غير قليل من خيرة شبابنا المسلم يرجع إلى الغفلة عن مدلول “المذهبية” وضرورة اتضاح هذا المدلول في أذهان الأفراد والجماعات. إذ لو سلمنا بأن المعاملات المادية بكافة صورها جزء من المذهبية الإسلامية التي نريد تطبيقها في الوقت الراهن وبأسرع ما يمكن، فكيف لنا أن ندعو الناس إلى اعتناقها دون أن نبين لهم قواعدها العامة التي تحكم معاملاتهم –لا كما كانت في القرون الأربعة الأولى من الهجرة- ولكم كما هي سائدة اليوم، وكما تضمنته من أقضية استلزمها التطور الحضاري الذي مر به ركب البشري خلال ألف سنة!!!

يضاف إلى هذا ما هو مقرر من أن المذهبية ذاتها تتضمن بالضرورة الفلسفة التي تنبني عليها المعاملات الإنسانية، وإذ نعيش في عصر تلعب فيه المادة الدور الأكبر في حياة البشر فلا معدى من أن تتعرض المذهبية الإسلامية إلى القواعد الرئيسية التي يقوم عليها صرح “الاقتصاد” في الدولة الإسلامية. أما إذا أخذنا برأي من يقول بضرورة عدم التعرض إلى هذه المسائل بدعوى أنها من نتائج الأخذ بمذهبيات دخيلة على المسلمين منافية للإسلام، فإننا حينئذ نتجاهل الواقع الحق، وهو أنه لا حياة لمذهبية –إسلامية أو غير إسلامية- ما لم تحل مشاكل الناس التي يعيشونها في عصرهم، وتجيب على أسئلتهم وتجلي الغامض من أمورهم. وما كانت حياة مذهبية معينة ألا عمق تفهم معتنقيها لما تدعو إليه واتضاح سبيل تحقيقها والإيمان بنجاحها وقدرتها على إسعاد البشر أن سادت بينهم وطبقت عليهم.

كيف نجابه المذهبيات الوضعية –رأسمالية وشيوعية- بمذهبية إسلامية جديدة تبهت ما يزعمون من باطل إذا نحن لم نفهم ونقتنع بعد درس علمي وتمحيص جدي كل مشاكل هذا الزمان ونجد لها الحلول، ونضمن منطوق مذهبيتنا من القواعد العامة ما يقنع البشر بأن “الإسلامية” هي المذهبية الوحيدة التي تضمن للبشرية الرفاهة والحرية والعدالة والسلم والمرحمة وغير ذلك من القيم المادية والمعنوية التي يصبو إليها البشر والتي تحاول المذهبيتان السائدتان (الشيوعية والرأسمالية) أن تحققها دون طائل.

وأخطر من هذا ترك المجتمع المسلم دون تصور لما يجب أن تكون عليه الأوضاع الاقتصادية حين تطبق المذهبية الإسلامية، إن الواقع الذي لا جدال فيه أن تطبق نظم اقتصادية تنتمي إلى مذهبيات غير إسلامية تؤثر فعلا على الأفراد وتنأى بهم عن إسلامهم، وتدفعهم دون هوادة إلى اعتناق تلك المذهبية التي يعيشون في ظل نظمها المختلفة، رأسمالية ديمقراطية كانت أم شيوعية واشتراكية.

وأراني في غنى عن سوق الأدلة المادية على صدق هذا المعنى، ففي الدول الإسلامية التي تطبق الديمقراطية الرأسمالية نجد الغالبية من الناس تؤمن بهذه الديمقراطية كمذهبية ومثل أعلى، وكثيرا ما نسمع من شبابنا والقادة منا في مثل هذه الدول القول العريض في تمجيد هذه المثالية، ولئن ذكر الإسلام أجابوك بأن قضية “الدين” مسألة شخصية لا تدخل في حساب الديمقراطية وبهذا ينصرفون عن مذهبيتهم الإسلامية بحجة أن الإسلام دين ينصب على تهذيب خلق الفرد كأي وسيلة من وسائل التربية أو أن الإسلام لا يتعرض لمشاكل العصر الحديث حيث تتضخم الصناعة وتكثف الزراعة. وتتجمع كتل هائلة من البشر في المدن، وتمر التجارات عبر القارات…الخ.

هذه النزعات السائدة بين الكثير من “المثقفين” ترجع في الواقع إلى عدم وجود ثقافة إسلامية معاصرة وإلى سيادة مذهبيات غربية في المجتمع المسلم. وما لم ندعم دراستنا الإسلامية فنوضح مذهبيتنا ونبين نظمها الاقتصادية والاجتماعية فلست أحسبنا قادرين على اكتساب آراء الناس وقلوبهم إلى صف المؤمنين بالمذهبية الإسلامية.

4- النظام الاقتصادي الإسلامي هو إذا جزء لا يتجزأ من المثالية أو المذهبية الإسلامية، فالإسلام كشريعة متكاملة قد حدد لنا القواعد الرئيسية التي تحكم معاملاتنا المادية.

وقد يسأل سائل: إذا كان الأمر كذلك، فما وجه الإشكال؟

وجه الإشكال هو أن “المذهبية” الإسلامية غير واضحة في عقول العامة والخاصة من المسلمين، ولئن سمعنا اطرادا من كل متحدث أن الإسلام دين جامع شامل. ولئن وعظنا بقول الله تعالى “ما فرطنا في الكتاب من شيء” ولئن تفاخر الخلف بأن السلف لم يتركوا أمرا إلا فصلوه وأبدوا حكم الإسلام فيه، لئن كان كذلك، فمازال حقا واقعا أن مدلول الإسلام كمذهبية، أي كمدرسة فكرية وفلسفة مثالية تعالج الإنسان في حياته اليومية وترسم له المثل الأعلى الذي عليه أن يجهد في الحفاظ عليه، وفي تحقيقه وهذا المدلول يختلف بين شخص وآخر في كثير من محتوياته وإن اتفق المسلمون جميعا على لفظ الشهادتين: “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”.

المذهبية فلسفة تجيب على: لماذا أعيش كفرد، ولماذا نعيش كمجتمع، وكيف نعيش؟؟

المذهبية عقيدة تتضمن الغيبيات وما وراء الطبيعة كما تتضمن الواقع المادي والسلوك البشري.

والإسلام وإن قرر ذلك كله بصورة عامة إنما أتى بنصوص “ظنية الدلالة” في غالبيتها، وما كان له إلا أن يفعل ذلك، إذ أتى الوحي: إما قرآنا أو سنة صحيحة بما نسميه “القانون الأزلي” أو “قانون الفطرة” وترك لنا حق الاجتهاد والقياس، وذلك حتى تسهل عملية التطور البشري دون أن يفقد المجتمع المسلم طابعه الإسلامي أو أن يخرج على مثاليته أو مذهبيته الإسلامية.

من أجل هذا اختلف الأئمة الأربعة، بل اختلف قبلهم أئمة الصحابة في الأحكام المعاشية أو نسميه فقه المعاملات.

ومن أجل هذا اختلفوا حتى في تفسير القرآن وتأويله.

ومن أجل هذا اختلف التابعون من أعلام هذا التشريع.

ولكن هذه الاختلافات في العصور الأولى لم تصدع بنيان المجتمع بل ربما زادت في قوته وذلك لأن “المذهبية” آنذاك اتضحت في أذهان العام والخاص، وتوحد مدلولها عند المفكرين والمشرعين في العصور المختلفة خصوصا القريب منها بعهد الرسالة، ولم تكن هناك ضرورة تقتضي ما نحن في أشد الحاجة إليه من تجلية مضمون المذهبية الإسلامية وتوحيد الكلمة حول هذا المضمون بحيث إذا سئل المسلم في أي بقعة من بقاع الأرض عن غايته من الحياة، وعن سبيل تحقيق هذه الغاية من خلال مجتمعه توحدت الإجابات واتفقت الأفكار، إذ بدون هذا التوحد الفكري لا توجد “الجماعة” أصلا ولا تقوم قائمة لأي تجمع بشري بحيث يسمى “مجتمعا” بشريا.

ثانيا: المذهبية الإسلامية:

1- ليس هذا مقام البحث والتدقيق في منطوق المذهبية الإسلامية، وأسأل المولى أن يقيض للمسلمين من يتصدى لصياغة هذه الفلسفة بأسلوب العصر، فيضع بذلك الأساس الذي تنبني عليه قواعد العلوم الاجتماعية كلها في المجتمع الإسلامي، تستمد منها فلسفتها وتقوم عليها هياكلها، وتوجه قبلتها نحو الغايات التي تحددها تلك المذهبية.

وإذ يتعذر علاج موضوع أثر الاقتصاد الإسلامي على المجتمع ما لم يتحدد مدلول الاقتصاد الإسلامي.

وإذ يتعذر تحديد معالم الاقتصاد الإسلامي ما لم يتحدد مدلول المذهبية الإسلامية.

لذلك فلا بد أن نحاول أولا تبيان ما نفهم من مضمون هذه المذهبية وعلى ضوء هذا الفهم سنجمل مدلول الاقتصاد الإسلامي ثم نفرغ بعد ذلك على أثر هذا النظام على المجتمع الإسلامي.

وحتى نبعد عن مثارات الخلاف فسنجمل المذهبية على ما لا يجوز الخلاف فيه بين المسلمين، وهو عين ما وجدناه في كتابات بعض الأعلام من السلف الصالح الذين عالجوا العلوم الاجتماعية في عصورهم من أمثال أبي حامد الغزالي، وتقي الدين تيمية.

2- تقوم المذهبية الإسلامية على أساس عقدي ومنطقي في آن واحد، ألا وهو مبدأ توحيد الخالق ووحدة الكائنات.

هناك وجود تعكسه الحواس، فهو وجود حسي محدود، إذ غير المحدود مطلق والمطلق فوق مرتبة الحواس.

وهناك وجود يدرك بغير الحواس الخمس، إما بآثاره المحسوسة أو بالشعور به. فنحن ندرك وجود الحياة بتتبع الحركة المحسوسة في الكائن الحي، ونحن ندرك الحب والبغض والسماحة والضن، والكرم والبخل والخير والشر وغير ذلك من القيم بشعور غريزي مستتر لا يدرك العقل كنهه، لأن العقل لا يدرك إلا ما تعكسه الحواس الخمس، والحواس لا تدرك القيم المعنوية.

ويدلنا منطق البديهة أن الموجود لا بد له من موجد أو خالق، وخالق الموجودات كلها في دين الله هو الله البارئ المصور ذو الأسماء الحسنى.

ويدلنا منطق الاستقراء على أن الموجودات كلها متصلة منسقة وأنه يستحيل على موجود أن يستقل إطلاقا بذاته، فوجوده مرهون بوجود غيره، وما اجتمعت جواهر ذرة ولا كتلة جسم ولا كهرب أو نوية لخلية بغيرها إلا وانتظمت هذه التجمعات قوانين فطرية أزلية عرف الإنسان بعضها عن طريق رسل الخالق إلى خلقه وعرف بعضا آخر عن طريق البحث العلمي على مر العصور وما زال أمامه الكثير مما لا يعرف.

ومن هنا استقرت في المذهبية الإسلامية قواعد بدهية:

(أ) فالكون كله مخلوق.

(ب) والكائنات كلها متصلة منسقة، فيها انطلاق واستمرار ومردها إلى أصل واحد.

(ج) وانطلاق الكائنات مستمر في اتجاه واحد لا يعرف التضاد ولا الاحتراب ما تركت قوانين الفطرة تعمل عملها، وسواء أكانت هذه الكائنات عضوية أم غير عضوية، بشرية أم فيزيائية، فقد أثبت العلم –على خلاف ما استقر في أذهان الناس منذ القدم- على أن “فلسفة الأضداد” تصور خاطئ فليست الأشياء بين حق وباطل أو بارد وساخن في شكل مطلق، ولكن هذه الأوصاف نسبية تلحق بمحل الشيء في ركب نوعه المتسق المنطلق في اتجاه واحد. فحرارة جسم مثلا هي معامل الحركة الذرية (Function of molecular movement) من مطلق الصفر إلى أعلى ما نعرف أو ندرك من درجات الحرارة، إما بالبرودة والسخونة فهما أمران ينتسبان إلى جسم الإنسان، وذلك بالبداهة أمر عارض.

والحمضي والقلوي ليسا ضدين، ولكنهما معاملان لتركز حبة الهيدروجين (Function of hydrogen on concentration) والأسود والأبيض ليسا ضدين ولكنهما انعكاس للضوء الذي هو قطاع (Segment) للموجات الكهربائية المغناطيسية التي تتأثر بها العين إذ المقرر أن الأجسام كلها، حتى الأسود منها تشع موجات شبه ضوئية وإن اختلفت ذبذباتها.

والذكاء والغباء ليسا نقيضين، ولكنهما جزءان متباعدان في خط الإدراك البشري ومدار القوى التفكرية.

والحب والبغضاء ليسا قطبين متعارضين، ولكنهما نقطتان متباعدتان في منحنى الشعور البشري الممتد من الحياد الفطري إلى الانفعال الحسي.

وهكذا نجد أن الأجسام حين ينظر إليها بمنظار الفيزياء إنما هي نظام متسق دائب السمت يصف حركة الذرة.

وحين ينظر إليها بمنظار الكيمياء، فهي نظام متسق دائب السمت يصف مركبات هذه الأجسام.

كذلك نجد أن الإنسان في تركيبه وتصرفه حين ينظر إليه بمنظار المعيار الحياتي فهو نظام متسق دائب السمت ينطلق نحو الاستكمال البشري يوصف بما هو عليه في ركب المجتمع الإنساني.

3- وإجمال القول أن المذهبية الإسلامية تقوم على حقيقة أزلية لم يلتفت إليها الناس إلا القليل في العصر الحديث. ألا وهي وحدة هذا الكون ووحدة خالقه.

فالكائنات كلها من خالق واحد هو الله سبحانه وتعالى، وهي كلها تسبح بحمده، وتسبيحها اتباع لازم دائب لقوانينه الأزلية. إذ كل ما في الوجود يخضع لقوانين تتناول تركيبه الذاتي وعلاقاته بغيره من الموجودات، يستوي في ذلك ما على الأرض وأفلاك السماوات وما فيهن والإنسان حيثما كان.

ووجود أي جوهر مرهون بوجود الكائنات الأخرى، ولا يوجد “مطلق المنفرد” خلا الله تبارك وتعالى فهو وحده المطلق المنفرد في وجوده وإطلاقه.

“والنسبية الوجودية”، لكل جوهر كائن تفرض التسبيح في شكل علاقات ثابتة مضطردة فتنتظم الكائنات جميعا وتوجد بينها نسقا بالغ الدقة باهر النظام، وكل ما يحدث في الكائنات إنما هو نتيجة تفاعل هذه العلاقات المضطردة أو القوانين الأزلية، فهو أمر “بقدر” وليس مجرد صدفة بحتة، ولا هو وليد عمل الطبيعة، إذ ليست الطبيعة إلا مجموع ما في الكون من كائنات تخضع للنسبية الوجودية التي فطر الله الكائنات عليها.

وإذا كانت  الكائنات من خلق واحد أحد.

وإذا كانت نسبتها الوجودية راجعة إلى قوانينه وقدره.

لذلك فلا معدى من التسليم بوجود وحدة تضم هذا الوجود بأكمله. ما كان ذا طاقة كامنة فيه، أو ذا حياة تسري في أجزائه أو روح تتقمص بدنه.

ومقتضى الوحدة الأبدية أن يكون الانسجام والاتساق والتضام من صفات القوانين التي تحكم النسبية الوجودية، إذ لو انعدمت هذه الصفات لتنافرت جواهر الكائنات وانشعبت وانفرطت وحدتها.

وهذه الصفات الكونية مدلولها الاتساق بين ذوات الطاقات، والنماء بين ذوات الحياة، والخير والحب والسلم بين ذوات الأرواح.

فحين يهطل المطر مدرارا على قمم الجبال فيفتت الصخر منها، وحين ينحدر هذا الصخر يحمله الغيث جارفا ما يعترضه، ثم حين يحفر هذا الطوفان لنفسه مجرى في الأرض على سفوح الجبال وفي الوديان، ثم حين يسري الماء هادئا في مجراه على البسيطة ويتخلل تراب الأرض ويتفاعل مع ذراتها فإذا بالحياة تدب على شطآنه… حين يحدث هذا كله إنما يحدث بقدر، وهو توحد بين ذوات الطاقات، ونماء لذوات الحياة، وخير وحب وسلام بين ذوات الأرواح، وليس ثورة في الطبيعة كما يصورها الشيوعيون ومن والاهم من ذوي القلوب المريضة، بل هو تسبيح لصاحب القدرة واتساق مع قانون الله الأزلي.

والإنسان في هذا الكون على أعلى ذروة فيه، فهو وحده الذي أعطى “الأمانة”: العقل المميز والإرادة المتصرفة، وهب الطاقة في تركيبه المادي، والحياة منذ كان نطفة والروح ساعة أن نفخ الله فيه من روحه. من أجل هذا “كرمه” الله سبحانه على كثير من خلقه وفضله، واختصه بما لم يختص به سواه.

وعماد تكريم ابن آدم حريته في عبوديته: الإنسان عبد الله، كائن مخلوق يخضع في الكثير لما تخضع له باقي الكائنات، يتأثر بها كما يؤثر فيها بحكم النسبية الوجودية، ويتميز عنها بالعقل المميز، وهو شطر الأمانة ولا يتصور التمييز ما لم يكن العقل حرا في تصوره، ولا جدوى لتصور لا يخرج في شكل رأي، ومن هنا أصبحت حرية الرأي في المذهبية الإسلامية ركنا أساسيا لا غنى عنه.

أما شطر الأمانة الثاني فهو الإرادة، وهي رديفة الرأي والتصور، إذ الإنسان لا يمكن أن يريد شيئا لا يتصوره.

وكلا الشطرين مرتبط بالعبودية ارتباط لزوم وليس ارتباط إرادة حرة مردها إلى اختياره، إذ سواء آمن الإنسان بخالقه أو جحده، فهو كائن مخلوق يخضع للقوانين الأزلية، فأما إيمانه وأمانته وكرامته فتهديه إلى الاتساق مع هذه القوانين والاستفادة من النسبية الوجودية، وأما كفرانه وجحوده وكنوده فتلك نقائص فيه تخضعه لقانون يعاقب الخارج عن النسق بما يلحق به من الضرر والتلف والبوار.

الإنسان في عبوديته يخضع للنسبية الوجودية فيستحيل عليه أن يعيش منفردا بذاته، بل لا بد له من مجتمع إنساني وبيئة طبيعية، وهو في مجتمعه وبيئته يخضع للقوانين التي تحكم الموجودات، وهي كما سبق ذكره قوانين تحقق الانسجام والاتساق، والنماء والبقاء، والخير والحب والسلام، وهذه القوانين ذاتها تحكم سلوك الفرد وتصرفاته، إذ هي تحدد الغرائز فيه، وما الغريزة إلا ذاك التركيب “الشعوري- الفيزيائي” الذي يحدد انعكاسات الكائن الحي ويقرر دوافع نشاطه الحسي والعاطفي.

والغاية من خلق الإنسان أن يعبد خالقه، والمقصود بالعبادة هنا تحقيق قوانين الخالق الأزلية والائتلاف مع مجموع هذا الكون الذي يكون الإنسان جزءا منه وإن كانت مكانته فيه في الذروة منه وبقدر ما يطبق الإنسان من القوانين الأزلية بقدر ما يتقرب من خالقه ويستعلي بنفسه ويستكمل من شخصيته، وهذه هي الغاية القصوى في المذهبية الإسلامية.

والغرائز في الإنسان على نوعين، وإن صعب الفصل الكلي بينهما: غرائز تنصب على المادة، وهي المتعلقة بحفظ النوع (الغريزة الجنسية) وبحفظ الحياة (غريزة الطعام) ويتفرع عنها الأمن الحسي (غريزة الدفاع عن النفس) وبإدراك الذات (غريزة التمايز، ويتفرع عنها غريزة الملكية).

وبجانب هذه الغرائز توجد غرائز تتعلق بالمعنويات وهي التي يختص الإنسان بها نتيجة ما حمل من أمانة وما تتميز به من تكريم وأهمها غريزة الانتماء، وهي الصورة الإنسانية لقانون النسبية الوجودية، وهي غريزة دقيقة عميقة بالغة الأثر، فكما يجب أن تظل جواهر الذرة متجمع مسبحة في دائب حركتها الذرية، كذلك يجب أن يظل الفرد (جوهر المجتمع) مجتمعا مسبحا في فلك مجتمعه.

ويرى الفيلسوف الاجتماعي الأمريكي “ايريك فروم” أن الإنسان العليل هو “الذي يفشل تماما في أن يتحد مع مجتمعه”. ومن الخطأ افتراض التحارب بين الناس على أساس غرزي، كما يدعي الماركسيون، وإنما يوجد التباغض والتظالم والتحارب لعدم الانصياع للقانون الأزلي، ولعله من المفيد أن نبين أن سبب هذا الخطأ في المذهبية المادية راجع إلى اعتبار الإنسان كائنا خلا من الغرائز المعنوية فهو يعيش بحافز من غرائزه المادية فحسب. وهذا عندنا هو سر البلاء الذي تعانيه الشعوب الغربية ومن اتبع مذهبيتها من الشعوب الشرقية.

وهناك غريزة التسامي والبناء وهي التي تحفظ على الإنسان كرامته ومكانته في هذا الوجود، وتعكس القوى التصورية والإرادية فيه.

وهناك غريزة الحب، وهي التي تنصب على ذاتية الفرد، فتعرفه بذاته وترشده إلى سلك سبيل الانتماء والاتحاد مع غيره.

وأخيرا هناك غريزة الذات وهي التي تجعل الفرد يشعر بأنه هو “هو” أو بعبارة مستحدثة بحس بمعنى “أنا”، أي أنه كائن له إرادة ووعي وتصور، فهو ليس مجرد مخلوق ينساق دون شعور لحكم القانون الأزلي، ولكنه كائن فيه نوع من الاستقلال عن الطبيعة ينعكس في قدرته على تسخيرها والاستفادة منها والانسجام معها والعيش في ظلها.

وهكذا نجد المذهبية الإسلامية تقرر:

1-   أن الإنسان مخلوق، الله تعالى خالقه، وهو يتمتع بحمل الأمانة والتكريم.

2-   أن الإنسان يعيش ليعبد الله في إطار قوانينه الأزلية.

3-   أن الإنسان يعمل تحفزه غرائز مادية ومعنوية.

4-   أن الإنسان يسعد ما داوم الدأب على العبادة وإشباع الغرائز بشقيها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر