حوار

نظرات في العدد الأول

العدد 1/2

عشت مع العدد الأول من “المسلم المعاصر” أياماً، سعدت فيها بصحبة فكرية لكتابها الأجلاء، وهم نخبة من رجال العلم والفكر والدعوة، يمثلون عدداً من الاختصاصات والاهتمامات والأوطان، منهم من حظيت قبل ذلك بمعرفته ولقياه، ومنهم من لم ألقه إلا لقاء الفكر والروح، وكفى به وشيجة جامعة.

ولا أجدني في حاجة إلى إثراء المجلة وتحريرها، فمادتها المقروءة تتحدث عنها بما يغني عن إطرائها، وحسبها أنها مجلة الإسلام والعصر معا، فهي تنظر إلى الإسلام يعين، وإلى العصر بأخرى، وهي مجلة الحرية البناءة، فلا تتقيده بسياسة حكومة، ولا بسياسة جماعة، ولا تحجر على ذي رأي أن يعلن رأيه من فوق منبرها، ما دام مبنية على دراسة ومنهج، والأستاذ بكلية التربية – الدوحة، قطر، وصاحب عدة مؤلفات مشهورة.

وبهذه الآراء الحرة، تتلاقح الأفهام، وتتبادل الخبرات، وتتضح الفكرة، وتتضح الرؤية، وليس في هذا ما يخيف صاحب حق، فإن الضياء لا يخافه إلا الخفافيش، وقوة الكلمة لا يخافها إلا من يعتماد على قوة العصا! والخوف من بليلة الأفكار لا يجوز أن يكون حجة لمنع الكلمة الحرة والنقد البناء من الظهور في مجلة أو كتاب أو محاضرة، حفاظا على الوحدة، ومنعة النتنة، فإن الوحدة التي تقوم على إغلاق النوافذ، وإسكات الألسنة، وتعطيل الأقلام إنما هي ومتدة من سراب.

على أن هذه المجلة ليست لكل الناس، إنا – كما بدت في غرة أعدادها – مجلة كل من يرتبط بدينه، ولا ينعزل عن واقعه وزمنه، إنها مجلة كل من يحب الإسلام عن بينة، ويؤمن بالحه لى له على نور، وبالا دعوة إليه على بن ميرة، والجهاد في سبيله بالفكرة والكلمة، متي يعود إلى قيادة الحياة من جليا، وبناتها على تقوى من الله ورضوان.

ليست مجلة الذين يعيشون في عالم المثلى الأفلاطونية من أهل الفكر، ولا الذين يتقوقعون في ميل الكتب الأكاديمية من أهل العلم، ولا الذين تستغرقهم دوأمة العمل اليومي من رجال السياسة أو الحركة، إنها مجلة الذين يهتمون بالعلم والفكر والحركة جميعا، هؤلاء الذين لا يعملون إلا بعد أن يؤمنوا، ولا يؤمنون إلا بعد أن يقتنعوا، ولا يقتنعون إلا بعد أن يدرسوا ويفحصوا ويناقشوا، فليس في دينهم كاهن يقول لهم : ” أغمض عينيك ثم اتبعني!”، وإنما في دينهم نبي يحذر من التبعية “لا يكن أحدكم إمعة) وكتاب يحض على النظر والتفكير ” أفلا تتفكرون ” أفلا تعقلون).

ولا يمنحني إسباني بالمجلة أن يكون لي معها وقفات أو نظرات، أو ملاحظات على بعض الموضوعات، لعل من حق القراء، بل من حق المجلة نفسها أن أسجلها على صفحاتها، وقد فتحت باب الحوار في أول أعدادها.

حول الاجتهاد :

وأبدأ هذه الوقفات أو النظرات بوقفة أو نظرة عند الكلمة القيمة التي افتتح بها المجلة الدكتور جمال الدين عطية رئيس التحرير، معرفة بأهداف المجلة وخصائصها وسماتها، راسمة خطوط سياستها :

ويهمني هنا أن أقف عند نقطة مهمة تتعلق بموضوع ذي خطر، وهو موضوع الاجتهاد الذي تتبنى المجلة الدعوة إلى ممارسته، إسهام في إثراء الفكر الإسلامي، وهو الاجتهاد الواعي للأصول، المنفتح على العصر.

وقد تكرر الحديث عن الاجتهاد في كلمات الأساتذة : عبد الحليم محمد، د، العوا؛ د، أبو السعود، فتحي عثمان، وغيرهم من كتاب المجلة، وهذه

ظاهرة صحية، فالجميع يشعرون بهذه الحاجة، بل بهذه الضرورة الملحة، ويؤكدون الدعوة إليها بل ممارستها بالفعل، غير متوجسين مما قد ينتج عنها من خطأ في الحكم لا يسلم منه فرد، أو من اختلاف في الرأي لا تسلم منه جماعة.

والمجلة تنطلق من ضرورة هذا الاجتهاد، وتتخذه طريقة فكرية، ولا تكتفي بالوقوف عند الاجتهاد في فروع الفقه، بل تتجاوزه إلى بحوث الاجتهاد في أصول الفقه.

وهنا يقف الدكتور محمود أبو السعود متسائلا : عن ” إمكانية ” الاجتهاد في “أصول الفقه” مع أن المقرر أن أصول الفقه ” قطعية ” لا “ظنية “، لأنها راجعة إلى كليات الشريعة، وهذه الكليات قطعية بلا خلاف، ولا تحتمل الظنية، كما قرر ذلك الإمام الشاطبي في مقدمة ” الموافقات “، ولا ريب أن الشاطبي رحمه الله بذل جهده لإثبات أن الأصول قطعية، ولكن ما المراد بالأصول هنا ؟ يحسن بنا أن ننقل من تعليق المرحوم العلأمة الشيخ عبدالله دراز على ” الموافقات ” ما يوضح المقام حيث يقول :

تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة : مثل “لا ضرر ولا ضرار”، “ولا تزر وازرة وزر أخرى، (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (إنما الأعمال بالنيات)، وهكذا، وهذه تسمى أدلة أيضاً كالكتاب والسنة والإجماع الخ، وهي قطعية بلا نزاع.

وتطلق أيضاً على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة، التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية منها، وهذه القوانين هي من الأصول، فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالظنية والقطعية.

فالقاضي (أبو بكر البأقلاني) ومن وافقه على أن من هذه المسائل الأصولية ما هو ظني، والشاطبي قد عارض هذا بأدلة ذكرها، مقررة في النهاية أن ما كان ظنية يطرح من تعلم الأصولي، فيكون ذكر وتبعية لا خير، (أنظر الموافقات ج 1 حاشية ص 29 ط1 التجارية).

والذي يطالع عام أصول الفقه يتبين له أن رأي القاضي ومن وافقه هو الراجح، وذلك لا يرى من الخلاف المنتشر في كثير من مسائل الأصول، فهناك من الأدلة ما هو مختلف فيه بين مثبت بإطلاق : وناف بإطلاق، وقائل بالتنسيل، مثل اختلافهم في المصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قبلنا؛ وقول الصحابي، والأستصحاب، وخير دا، مما هو معلوم لكل دارس الأصول.

والقياس وهو من الأدلة الأربعة الأساسية لدى المذاهب المتبوعة، فيه نزاع وكلام طويل الذيول من الظاهرية وغيرهم.

حتى الإجماع لا يخلو من كلام مشولي إمكانه ووقوعه، والعلم به، وحجيته.

هذا إلى أن القواعده والقوانين التي وضعها أئمة هذا العلم : لضبط الفهم، والاستنباط من المصدرين الأساسيين القطعيين : الكتاب والسنة، لم تسلم من الخلاف وتعارض وجهات النظر، كما يتضح ذلك في مسائل العام والخاص والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والناسخ والمنسوخ، وغيرها، فضلاً عما تختص به السنة من خلاف حول ثبوت الآحاد منها، وشروط الإنتاج بها، سواء كانت شروطة في المند أم في المتن، وغير ذلك مما يتعلق بقبول الحديث، واختلاف المذاهب في ذلك أمر معلوم مشهور، نلمس أثره بوضوح في علم أصول الحديث، كما نلمسه في علم أصول الفقه.

وإذا كان مثل هذا الخلاف واقعة في أصول الفقه، فلا نستطيع أن نوافقي الإمام الشاطبي على اعتبار كل مسائل الأصول قطعية، فالقطعي لا يسع مثل هذا الاختلاف ولا يحتمله، ومن ثم ألف العلأمة الشوكاني كتابه الذي سماه “إرشاد الفيحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول” أولا فيه تمحيص اختار منها، وتصحيح الصحيح، ونبذه الضعيف، وقال في مقدمته :

إن علم أصول الترقية لما كان هو العلم الذي يأوي إليه الإعلام، والايجا الذي يلجأ إليه عند تحرير المسائل، وتقرير الدلائل، في غالب الأحكام ” وكانت مسائله المقررة، وقواعده المحررة، تؤخذه مسلمة عند كثير ممن الناظرين، كما تراه في مباحث المباحثين، وتصانيف المصنفين، فإن أحدهم إذا استشهد بكلمة من كلام أهل الأصول، أذعن له النازعون، وإن كانوا من المتحول، لاعتقادهم أن مسائل هذا الفن قواعلى مؤسسة على الجنتي الحقيق بالقبول، مربوطة بأدلة علمية (أي يقينية) من المعقول والمنقول، تقصر عن القديح في شي مع ابنها أيدي الفحول، وإن تبالغت في الطول، وبهذه الوسيلة صار كثير من أهل العلم واقعا في الرأي وافعا له أعظم راية، وهو يظن أنه لم يعملي بغير علم الرواية – حملني على ذلك – بعد سؤال بجماعة لي من أهل العلم – على التصنيف في هذا العلم الشريف، قاصد به إيضاح راجيده من هر جوتاه، وبيان سقيمه من صحيحه، موضحة لا يصلح منه للرد إليه، وما لا يصلح التعويل عليه، ليكون العالم على بصيرة في علمه يتضح له بها الصواب، ولا يبني بينه وبين درك التي القيق بالقبول حجاب، لأن تحرير ما هو الحق هي غاية الطالبات، ونهاية الرغبات، لاسيما في مثل هذا الفن الذي رجع كثير من المجتهدين بالرجوع إليه إلى التقليده من حيث لا يشعرون، ووقع غالب المتمسكين بالأدلة بسببه في الرأي البحت وهم لا يعلمون” ا.هـ (أنظر إرشاد الفحول ص ۲، ۳ ط السعادة).

وبهذا كله يتضح أن للاجتهاد في أصول الفقه مجالا رحبة، هو مجال التمحيص والتحرير والترجيح فيما تنازع فيه الأصوليون من قضايا جمة، ومحاولة الشوكاني “تحقيق الحق” منها لا يعني أنه لم يدع لمن بعده شيئا، فالباب لا يزال مفتوحة لمن وهبه الله المؤهلات لولوجه، ولكل مجتهد نصيب، وقد يتهيأ اللمفضول ما لا يتهيأ للفاضل.

وهناك مسائل تتعلق بالأصول تحتاج إلى مزيد إيضاح وتفصيل، ومن ذلك تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، وهو موضوع مقالة الدكتور العوا، وإنه لجدير بالاهتمام، وخليق بأن يكون موضوعة لرسالة دكتوراه في أصول الفقه، وقد عرضت له – تطبيقية – في مواضع من ” فقه الزكاة”.

ومن ذلك الإجماع إذا كان مبنية على أمر مصلحي زمني قابل للتغير والتطور بتغير الزمان والمكان والحال.

وهذا يجر إلى قضية أخرى، وهي قضية ” تغير الأحكام أو تغير الفتوى يتغير الأزمان ” وما ينبغي أن يوضع لها من حدود وضوابط، وقد كتبت فيها بحثا أرجو أن أستكمله لينشر في هذه المجلة إن شاء الله.

إلى غير ذلك من القضايا والموضوعات التي يكشف عنها طول البحث والنظر في الفقه وأصوله وتطبيقاته في هذا العصر.

وهذا كله يمسح الميدان لدعاة الاجتهاد، ولو كان في أصول الفقه ذاتها.

على أن الذي تحتاج إليه أكثر من غيره هو الاجتهاد في الفقه، فهو ضرورة إلا غنى عنها، لإثبات صلاحية الشريعة الإسلامية وعمومها وخلودها، وقد كتبت في ذلك فصلا ضافية، من كتابي ” شريعة الإسلام، صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان ” بينت فيه ما يجب أن يكون عليه موقف المجتهد العصري من النصوص، (وخصوصا من السنة) ومن التراث الفقهي، ومن المسائل الحديدة، (راجع شريعة الإسلام : ص ۱۰۳ – ۱5۸).

أمور يجب رعايتها عند ممارسة الاجتهاد :

وأود أن أنبه هنا على بعض الحقائق التي ينبغي أن تراعى عند ممارسة الاجتهاد:

أولاً : يجب أن نذكر أن مجال الاجتهاد هو الأحكام الظنية الدليل، أما ما كان دليله قطمير فلا سبيل إلى الاجتهاد فيه، وإنما تأتي ظنية الدليل من جهة ثبوته أو من جهة ذلالته، أو من جهتهما معا.

فلا يجوز إذن فتح باب الاجتهاد في حكم ثبت بدلالة القرآن القاطعة، مثل فرضية الصيام على الأمة أو تحريم الخمر، أو لحم الخنزير، أو أكل الربا، ومثل توزيع حركة الأب الميت بين أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين، ونحو ذلك من أحكام القرآن اليقينية، التي أجمعت عليها الأمة، وأصبحت معلومة من الدين بالضرورة، وصارت هي عماد الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة.

ثانياً : يتهم هذا إلا ننساق وراء المتلاعبين الذين يريدون تحويل محكمات النصوص إلى متشابهات قابلة للأخذ والرد، والإرخاء والشاء، فإن الأصل في هذه المستكمات أن ترد إليها المتشابهات وترجع إليها المحتملات، فتكون في الحكم عند التنازع، والمقياس عند الاختلاف، فإذا أصبحت هي الأنتري موضع خلاف، ومحل تنازع، لم يعد ثمة مرجع يعول عليه، ولا معيار يحتكم إليه.

ثالثاً : يجب أن تظل مراتب الأحكام كما جاءتنا، القلعي يجب أن يظل قطعية، والظني يجب أن يستمر ظنيا، فكما لم تنجز تحويل القطعي إلى ظني، لا نجيز أيضاً تحويل الظني إلى قطعي، ونادي الإجماع فيما ثبت فيه الافه.مع أن حجية الإجماع ذاته ليست موضع إجماع!

فلا يجوز أن نشير هذا السيف – سيف الإجماع المزعوم – في وجه كل مجتهد في قضية، ملوحين به ومهددين، مع ما ورد عن الإمام أحمد أنه قال:

من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريه! لعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم!

وإذا كان في مخالفة الإجماع ذاته كلام، فكيف بمخالفة المذاهب الأربعة، التي يشنع بها كثيرون اليوم، كما شنعوا على ابن تيمية من قبل ؟ مع أن أحدا من علماء المذاهب الأربعة لم يقل : آن اتفاقها حجة شرعية، ولو قالوه لم يعتبر قولهم، لأنهم خالفوا فيه أثمتهم من ناحية ولأنهم مقلدون من ناحية أخرى، والمقد لا يتد، أما أئمة المذاهب أنفسهم فقد حذروا من تقليدهم، ولم با عوا لأنفسهم العصمة.

رابعاً : ينبغي أن نحذر من الوقوع تحت ضغط الواقع القائم في مجتمعاتنا المعاصرة، وهو واقع لم يصنعه الإسلام بعقيدته وشريعته وأخلاقه، ولم يصنعه المسلمون بإرادتهم وعقولهم وأيديهم، إنما هو واقع صنع لهم، وفرض عليهم، في زمن غفلة وضعف وتفكك منهم، وزمن قوة ويقظة وتمكن من عدوهم المستعمر، فلم يملكوا أيامها أن يغيروه أو يتخلصوا منه، ثم ورثه الأبناء عن الآباء، والأحفاد عن الأجداد، وبقي الأمر كما كان.

فليس معنى الاجتهاد أن نحاول تبرير هذا الواقع على ما به، وجر النصوص من تلابيبها لتأييده، وافتعال الفتاوى الإضفاء الشرعية على وجوده، والإعتراف بنسبه مع أنه دعي زنيم.

إن الله جعلنا أمة وسطا لنكون شهداء على الناس، ولم ير فض لنا أن نكون ذيلا لغيرنا من الأمم، فلا يسوغ لنا أن نلغي تميزنا، ونتبع سنين من قبلنا شبرا بشبر وذراعا بذراع، وأدهى من ذلك أن تحاول تبرير هذا وتجويزه بأسانيد شرعية، أي أننا نحاول الخروج على الشرع بمستندات من الشرع، وهذا غير مقبول.

خامساً : لا ينبغي أن نجعل أكبر همنا مقاومة كل جديد، وإن كان نافعة، ولا مطاردة كل غريب، وإن كان صالحا، وإنما يجب أن نفرق بين ما يحسن اقتباسه وما لا يحسن، وما يجب، مقاومته وما لا يجب، وأن نميز بين ما يلزم فيه الثبات والتشدد، وما نقبل فيه المرونة والتطور.

ومعنى هذا أن نميز بين الأصول والفروع، بين الكليات والمرئيات، بين الغايات والوسائل، ففي الأول تكون في صلابة الحديد، وفي الثانية نكون في ليونة الحرير، كما قال إقبال رحمه الله، مرحبين بكل جالياء نافع، ومحتفلين بكل قديم صالح.

سادساً : ولا بد لنا – لكي ينجح الاجتهاد – أن نتوقع الخطأ من المجتهد، إذ عصمة لغير نبي، وأن تفريح له صدورنا، وألا نشدد النكير على من أخطأ في اجتهاده، ونتهمه بالزيع والمروق وما إلى ذلك من النعوت، وذلك بشرطين :

  • أن يملك أدوات الاجتهاد – وهي معروفة مذكورة في أصول الفقه – فليس كل من اشتغل بالفقه أو ألف فيه أو حفظ مجموعة من الأحاديث يعد مجتهداً.
  • أن يكون عدلاً مرضى السيرة، وهو ما يطلب في قبول الشاهد، في معاملات الناس، فكيف بقبول من يفتي باجتهاده في شريعة الله ؟

أما أدعياء الاجتهاد، الذين لا يملكون إلا الجراءة على النصوص، والاستهانة بالأصول، وإتيان البيوت من غير أبوابها، فهؤلاء يجب أن يرفضوا، حفاظا على قداسة الدين، وحرمة الشريعة، أن تتخذه سلما للشهرة، أو مطية للوصول إلى دنيا ظاهرة، أو إشباع شهوة خفية.

حول أزمة العقل المسلم العامر :

ووقفة أخرى حول الخواطر التي سجلها الأستاذ عبد الحليم محمد عن “أزمة العقل المسلم المعاصر ” وهي نتاج معاناة ودراسة، وتأمل طويل، وتفكير عميق، وقد عرضته الأمور وحقائق رالية الدقة، عظيمة الخطر، بعيدة الأثر، تستحق أن يعقب عليها أكثر من كاتب.

نعمة العقل ونجمة الوحي :

أشاد الكاتب بنعمة العقل، واعتبره النعمة التي تلي قيمة الإيمان، ونوه بما جاء به الدين من تحرير للعقل من بين الأثقال، ولكنه ندد بـ “ورثة الدين المقلدين” الذين يحجرون على العقل ويذلونه بتضييق نطاق عمله، أو بإهمال تغذيته، أو بتقديس السابقين، أو بالتأثم من الخطأ، وهو يعني أن لا اجتهاد ولا إبداع، إذ لا اجتهاد ولا إبداع دون خطأ هنا أو هناك.

قال : وكأن ورثة الذين لم يعلموا أن المجتهد، إذ كان بحاجة إلى الطمأنينة والأمن من العذاب إذا هو أخطأ، فقدم أعطاه الله حاجته وفوق حساسيته، إنه طلب الأمن، فزاده الله مع الأمن الأجر، ” إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران” رواه مسلم، هـ ص 13.

وأحب أن أذكر هنا : أن العقل نعمة كبرى ولا شل، ولكن أكبر منه وأعظم نعمة الوحي، ولهذا كانت حاجة البشر إلى رسالة الرسل مع وجود عقولهم، وكثير من الذين انترفوا وابتدعوا كان سبب انحرافهم تحسين الظن بعقولهم كما بين ذلك الإمام الشاطبي في ” الإعتصام ” فلنحامر من الغلو أيضاً في تقديم العقلي.

أما التأثم من الخطأ فليس مجرما، فالأمر أمر دين يتعلق به جنة ونار، والذي ينتي في الدين إنما ” يوقع عن رب العالمين، كما يقول الإمام ابن القيم، فلابد أن يتريث ويتوقف حتى تنضج المسألة، ويتضح له وجهها، ولهذا رأينا من الصحابة والتابعين وكبار الأئمة من إذا سئل، قال : لا أدري.

وإثابة المجتهد على خطئه لا تمنع من التأثم لوجوه :

الأول : أن هذا في شأن من كان من أهل الاجتهاد، أما من أقحم نفسه على هذا الميدان وهو ليس من أمله، فليس له أن يطمع في الأجر، وهذا ما من أهل العلم : إلا يكونوا قد بلغوا الدرجة التي تسمح لهم بالاجتهاد.

الثاني : أن الاجتهاد يعني “استفراغ الوسع” في فهم القضية والاستدلال لها والعالم – من ورثة الدين المقلدين – يخشي أن يكون قد قصر بعض التقصير، أو أدخر بعض الوسع، فهو لهذا لا يأمن العقوبة.

الثالث : أن للهوى إلى النفس مسارب ومداخل خفية، يزينها الشيطان بأغلفة شي، فهو يخشى أن يكون في اجتهاده قد أتبع هوى خفياً وهو لا يشعر.

وبهذا نرى أن التأثم كثيراً ما يرجع إلى الضمير، أكثر مما يرجع إلى العقل، على أن الغلو في التأثم لا يؤدي إلا إلى الجمود، وهو ما نوافق الكاتب على إنكساره.

بقي هنا شيء وهو نسبة الحديث إلى “مسلم”، مما يوهم أنه مما انفرد به، مع أنه مما اتفق عليه الشيخان، ومثله حديث “مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم.. إلخ فهو متفق عليه أيضاً، كما أن نسبة الحديث إلى مصدر مع وجوده في مصدر أعلى منه مما يعيبه علماء هذا الفن.

العقل المعاصر والبحث في تراث السلف :

ويقول الأستاذ عبد الحليم في ص ۲۰ :

” كلما أثيرت قضية من قضايا عصرنا، قال ورثة الدين : لينظر هل حدث مثل هذا في عصور أسلافنا؟ أو قالوا : لننظر مإذا قال الأئمة السابقون في هذه القضية، وقد نسي ورثة الذين أن لكل عصر خصائصه وظروفه، وأن لكل عصر عماله وجنوده وكتابه وتجاره وحكامه، كما أن له علماءه وأئمته، وكما يتحكم التجار والعمال والكتاب ظروف العصر، كذلك يحكم العلماء والمفتون والأئمة ظروف العصر أيضاً”.

والمقصود من هذا الكلام واضح حسبما ذكر بعد، وهو إلا نحجر على علماء عصرنا، ولا نهون من قدرهم، ولا نسد في وجوههم باب الاجتهاد والإبداع، ولكن المقدمة المذكورة ليست لازمة للوصول إلى هذه النتيجة، فهي مقدمة غير سالمة ولا مسلمة.

فإن البحث في تراث الأسلاف عن نظير لما وقع للأخلاف ليس عيباً، ودراسة وجهات نظرهم في القضية المطروحة – إن وجدت – ليس خطأ، بل العيب والخطأ هو إهالة التراب على ميراث ضخم خلفته لنا عقول كبيرة، طيلة قرون عديدة، والبدء من جديد كأنما ولدنا الساعة!

هذا مع أن الأحداث والوقائع تتشابه، رغم بعد المسافة الزمنية بينها، وذلك التشابه الظروف المهيئة لها، أو الدوافع الداعية إليها، وهو ما قرره القرآن في مثل قوله : ((كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، تشابهت قلوبهم))، وهذا ما جعل العرب يقولون من قديم : ما أشبه الليلة بالبارحة! وما جعل الغربيين يقولون في ذات المعني : التاريخ يعيد نفسه!

ولهذا نرى العلماء لا يبدؤون من فراغ، ولا يبنون على هواء، وإنما يشيد اللاحق على ما بناه السابق، يكمل نقصه، أو يصوب خطأه، أو يوضح غامضة، أو يضيف إليه جديدة من عنده، وهذا واضح في مجال العلوم الكونية والعلوم الإنسانية جميعة، وقد أثبته تاريخ العلم بجلاء.

ولا زلنا نرى رجال القانون في عصرنا من قضاة ومحامين يستشهدون بالسوابق القضائية، يذكرونها في أسباب الحكم، أو حيثيات الدفاع.

صحيح أنه لا يلزم علماء العصر أن يأخذوا باجتهادات السابقين، لأنها ليست نصوصة ملزمة، وإنما هي أفكار بشر، يؤخذ من كلامهم ويترك، ولكن من اللازم أن ندرسها ونستنير بها، ونعرف ما استندت إليه من نصوص نقلية، أو حجج عقلية، أو اعتبارات مصلحية، فإذا اقتنعنا بها – وكثيرا ما يحدث – فقد وفرنا على أنفسنا جهدة جديدة نبذله في غير طائل، ووصلنا حاضرنا بماضينا، ووفينا بحق أسلافنا، وازددنا اطمئنانة إلى سلامة موقفنا.

وإذا لم نقتنع باجتهاد من سبقونا، فلا علينا، فعصرنا غير عصرهم، وظروفنا غير ظروفهم، وهم أنفسهم كثيراً ما خالين بعضهم بعضاً لا لشيء إلا لاختلاف العصر والظروف، كما في بعض مواضع خلاف الصاحبين أني رو به من ومحمد لشيخهما أبي حنيفة، وهو الذي يقولون فيه : هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان.

عنصر الصراع في الحضارات :

وتحت عنوان “النظرة الخاطئة إلى تاريخ العالم” (ص 24) يكاد ينكر الكاتب عنصر الصراع بين الحضارات، مؤكداً أن جوهر العلاقة بين الحضارات هو التفاعل والتبادل لا الصراع.

ولا أدري لماذا ننكر الصراع بين الحضارات المختلفة مع أن الصراع حقيقة قائمة في الكون كله؟ هنالك صراع الأفراد، وصراع الطبقات، وصراع اللغات، وصراع الأديان، وصراع الأفكار، بل هنالك بين الحيوانات ما يسمي في “التاريخ الطبيعي” صراع البقاء! فلمإذا نخص بالنفي صراع الحضارات؟ وهل الحضارة إلا دين وفكر وثقافة؟ وهذه كلها داخلة في حلبة الصراع، والكاتب نفسه قد اعترف بذالك حين تحدث عن فترة القلق التي نعيشها بين إرث القرون الماضية، والتحدي الحضاري الكبير في عصرنا، وأنه لا سبيل لتجاوزها دون مواجهة عقلية إيجابية، بل وصراع عقلي طويل المدى (ص12).

على أن الصراع لا يعني إعلان الحرب، وشحذ الأمريحة، واصطفاف الجانبين للقتال، فكثيراً ما يكون الصراع “سلمياً” لا يشهر فيه سلاح، ولا يسقط فيه قتيل، إنما هو صراع هادىء خفي طويل الأمد، عميق الأغوار.

ولقد عرف تاريخنا شيئاً من ذلك في صراع العقيدة الإسلامية مع عقائد التتار الوافدين الغالبين المنتصرين، فقد انتهي هذا الصراع السلمي – بعد أن أغمدت السيوف، وخمدت نيران الحرب – باعتناق الغالبين دين المغلوبين! ومنذ دخول الاستعمار بلاد المسلمين و”الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية ” قائم ومستمر في شتى الميادين، وهو صراع كسبت فيه الفكرة الغربية جولات كثيرة، وحسرت فيه الفكرة الإسلامية – للأسف – في عدة جبهات : في الثقافة، والتربية، والتشريع، والتقاليد، على درجات متفاوتة بين أقطار العالم الإسلامي، (راجع في ذات الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية للعلأمة السيد أبي الحسن الندوي نشر دار القلم – الكويت).

المسلمون الأوائل والانحرافات :

المسلمون الأوائل والانحرافات :

وفي ص 26 يقول :

“المسلمون الأوائل قد صنعوا فعلاً كل شيء، ففي الجانب الإيجابي صنعوا التفاسير لشرح القرآن، وصنعوا مصطلح الحديث لضبط السنة، وصنعوا أصول الفقه لضبط قواعد الاستنباط، وفي الجانب السلبي صنعوا كل الانحرافات والخرافات، سواء خرافات الغيب، أو خرافات العبادة، أو خرافات الأخلاق، أو خرافات الأحكام”.

أما الشق الأول فصحيح ولا جدال فيه، وأما الشق الثاني فغير مسلم، فالذين صنعوا التفاسير والمصطلح والأصول وغيرها ليسوا هم الذين صنعوا وكل الاحتراقات والخرافات ” في تاريخنا، وبخاصة أن عبارة ” المسلمون الأوائل ” يفهم منها القرون الأول التي هي خير قرون الأمية.

أهي حضارة غربية أم حضارة عالية ؟

وتحت عنوان “مإذا تعني الحضارة الغربية اليوم؟” ص 28 يذكر الكاتب أن الحضارة الحديثة يمكن اعتبارها حضارة العالم بأسره، لا حضارة أمة بعينها ولا مجموعة أمم، ولا يجرح هذه الصفة العالمية أن أوربا الغربية كان لها فضل سبق أو فضل عطاء، فشعوب الأرض كلها أخذت تسهم في تغذية هذه الحضارة، وإن بدرجات متفاوتة، الصين واليابان أضحي لهما دور كبير… والشعوب النامية لها إشعاع ما.. إلخ.

ولكن الذين ينسبون هذه الحضارة إلى الغرب يقصدون جذورها وفلسفتها وطابعها العام، فهي في هذا كله غربية.

وسواء سمينا هذه الحضارة غربية أم عالمية، فإن سمتها الأصلية والغالية واضحة معروفة وهي “المادية”، وهذا ما جعل كثيراً من المفكرين الغربيين أنفسهم ينقدونها، ويشكون من خوائها الروحي، ويخافون عليها السقوط القريب، ومن يقرأ كتابات تويني والكسيسي كاريل وكولن ويلسون، وغيرهم، يجد من ذلك الكثير.

ولا غرو أن يقف “ورثة الدين” من هذه الحضارة موقف المتوجس المتخوف، لما تحمله بين حناياها من مفاهيم وتقاليد خطيرة على الفرد وعلى الأسرة وعلى المجتمع كله، فهي حضارة تعمر الأرض وتحزب الإنسان.

ومن الخطأ البين أن تنسب هذه الحضارة إلى المعيشية؛ لأنها نشأت في بلاد دحية، فالحقيقة أنها هي والمسيحية على طرفي نقيض في الفكر والسلوك، إنها ليست حضارة المسيح بن مريم، وإنما هي حضارة المسيح الدجال، فهو أعور، وهي حضارة عوراء وتنظر إلى الحياة من ناحية واحدة فقط وهي الناحية المادية.

ليس معنى هذا أننا نرفض الحضارة الغربية بكل جوانبها، كلا، فإن فيها جوانه مخبيثة بلا ريب، الجوانب العلمية ” و” التكنولوجية ” و” التنظيمية أو الإدارية لا حرج في اقتباسها والاستفادة منها، بل لا مفر من ذلاك 4 والحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق بها، وقد اقتبس الغربيون منا من قبل أسس والمنهج العامي ” كما ذكر ذلك “بريفولت ” وغيره من مؤرخيهم، فلا بأس أن نترد منهم بعض بضاعتنا، شاكرين لهم ما إضافوه إليها، فالرفض البات أو الانزال موقف غير معلم، بل غير ممتطاع أيضاً.

ومثله القبول المطلق لهذه الحضارة بحيث نأخاه ها بخيرها وشرها، وحلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب، كما قال قائلون في يوم من الأيام.

اليسار المسلم والوسط المسلم :

وفي مقال الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ فتحي عثمان، يتوقع أن تكون هذه المجلة لسان ” اليسار الإسلامي ومتابعة الاصطلاح الحديث في تقسيم القوى والجماعات والأفكار.

ويرى الكاتب أن الإسلام مظلوم حين يوضع دائما مع “اليمين” لمجرد أنه دين، وأن منهج القرآن لتوجيه الإنسان في هذا المجال يجعل السليم في (قلب) اليسار، فالمسلم يارب الظلم الاجتماعي والسياسي، ويجاهله دائما لأجل كرامة الإنسان.

ويجب الكاتب أن يسمع الناس عن (اليسار الكاثوليكي) أو (اليسار المسيحي) بوجه عام في حين تصنع الأفكار والحركات الإسلامية دائما مع قوي اليمين.

وأنا مع الأستاذ فتحي : أن من الظلم وضع الإسلام دائما مع اليمين وكذلك وضع الحركات الإسلامية، في حين أنها رفعت شعار التي والقهوة والحرية، وجاهدت من أجل الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية من أول يوم، ولم تبخلي بتقسيم الضحايا والشهداء في سبيل معركتها لتحرير الإنسان.

كما أني أوافق الكاتب – في الجملة – في مضمون ما كتبه عن (اليسار المسلم).

ولكني أبدي تحفظي على استخدام مثل هذه المصطلحات في المجال الإسلامي خشية أن يساء فهمها، أو يشوه وجهها، ذلك أن لهذه الكلمات “اليسار المسلم” “الاشتراكية الإسلامية” “الديمقراطية الإسلامية” ونضحها وإيحاءها، ونظراً لما وراءها من “مضامين” مخالفة في جوهرها لمضمون الإسلام، فالشعب في نظر الديمقراطية مثلا هو مصدر السلطات وإطلاق، بينما هو في الإسلام رقيب على السلطات، كما قال رئيس التحرير بحق.

ورأيي الذي تبنيته، ودللت عليه في الجزء الثاني من كتابي (حتمية ال الإسلامي، إلا نتخذ لهذا الحلى عنوانا غير الإسلام نفسه، من اشتراكية أو ديمقراطية أو غيرها لاعتبارات وأسانيد لا مجال لذكرها الآن (راجع “الحل الإسلامي فريضة وضرورة ” ص ۱۱5 – ۱۱۸).

ولقد أوذي المرحوم الدكتور مصطفى السباعي كثيرة من جراء عنوان كتابه (اشتراكية الإسلام) من قبل المتشددين الذين قاوموا الكتاب لمجرد اسمه، وربما لم يقرأوه، ومن قبل بعض الحكومات التي استغلت اسم الكتاب وطبعته أكثر من مرة، تر وبالاتجاهها، وإن لم تؤيا، كل ما فيه.

فإذا كانت كلمة (اليمين) مكروهة لدى فئة كبيرة من الناس، فإن كلمة (اليسار) مخيفة ومكروهة أيضاً لدى فئة أو فئات أخرى.

وأعلى الأسلم من هذا والأعالى : إلا تقنة الحركة الإسلامية في صنمه اليمين ولا صف اليسار، إنما تقف حيث أوقفها الله تعالى : في الموقف الوسط بين إفراط هؤلاء وتفريط أو لتلك ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس.

وإن لهذه “الوسطية” لمزايا جمة، نظرية وعملية، لو أحسنا الانتفاع بها.

بيد أن على الحركات الإسلامية – بعد ذلك – أن تزيل الغموض عن أفكارها واتباهامها، وأن توضح للناس – ولأصحابها قبل ذلك – مواقفها من الأوضاع والأنظمة والمذاهب والأفكار والقضايا الكبرى.

أما اتهام الحركة الإسلامية باليمينية، فليس مصدره الجهل بحة مرة اتجاهها، أكثر مما هو القصد إلى تشوي: فكرتها، وإثارة الغبار حولها، والتحقير من جبهادها وجهودها، في مقاومة الظالم والفساد، هذا مع أنها لتميت من ” اليمين من صنوف العذاب، وألوان الأضطهاد ما لم يلقه ” اليسار ” الصريح.

مباحث لغوية :

وقد أعجبني من الدكتور أبي السعود بحثه عن أصول العبارات، وعنايته بصحة الكلمة، وسلامة التعبير، بحيث يوافق المسموع من لسان العرب، والتحرر من قواعد اللغة، وهذا ما يجب أن يراعيه كل كاتب عوني محترم اخته ونفسه وقراءه

ولا غرو أن رفض الأستاذ الأخطاء الشائعة مثل كلمة “تقييم” بمعنى تعيين القيمة، إذ الصواب فيها “تقويم” لأن الياء في مادة “قيمة” أصلها “واوي” كما هو معروف، وإن كنت قرأت منذ سنين مقالاً لباحث لغوي معاصر، أجاز فيه استعمال اللفظ الشائع “تقييم” ولا أذكر الآن ما استند إليه، لكني أعلم أن أهل الفتوى في اللغة أهل الفتوى في الشريعة، منهم المبالغون في الترخص، ومنهم المغالون في التشدد، ومنهم المتوسطون، وخير الأمور الوسط.

ورأيي هو وجوب المبادرة إلى تصحيح الأخطاء الشائعة، وإشاعة الصواب بدلاً منها، وبذلك يموت الخطأ، ويحيا الصواب، وأجهزة الإعلام العصرية قادرة على أن تؤدي دوراً خطيراً في ذلك، بحيث تشيع الكلمة المهجورة على الألسنة والأقلام في مدة وجيزة، فتألفها الأسماع والعقول، وتتلقاها بالقبول.

أما القول بأن “الخطأ المشهور” خير من “الصواب المهجور” فهو قول مرفوض؛ لأنه قول “انهزامي” فهو يدعو إلى الاستسلام للواقع، والتسليم بالخطأ، وإعطائه حق البقاء والاستمرار، لا لشيء إلا لشيوعه وانتشاره.

ولو ساغ هذا في مجال اللغة لسان نقله في مجالات أخرى، كالدين والفكر والأخلاق، وهذا ما لا يقبل، ولا يقول به عأقل.

وتوقف الأستاذ في كلمات أخرى غدت تتدأولها أقلام كثير من كتاب العصر، وهي “التنظير” و”التحديث” و”الهوية”.

وأبادر فأقول : إن كلمة “الهوية” ليست من مستحدثات المعاصرين، بل هي من الكلمات “الاصطلاحية” المستخدمة من قديم، لدى علماء المنطق والفلسفة وعلم الكلام، وهي منسوبة إلى ضمير الغائب “هو” شأنها شأن كلمة وماهية ” نسبة إلى “ما هو؟” أو “وما هي؟ ” (ويعرفها علماء الكلام والفلسفة بقولهم : ما به الشيء هو هو).

ومعنى ” الهوية ” لشخص أو شيء ما، حقيقته التي تميزه عن غيره، وقال أثبت ذات ” المعجم الوسيط ” (ج ۲ ص 1۰۰۸)، واستعمال الكلمة البطاقة الشخصية (في بمضي البلاد العربية) مأخوذ من هذا المعني أيضاً، لأن فيها ما يثبت “هوية” صاحبها ويميزه عن غيره.

أما كلمتا ” التنظير ” و ” التحديث ” فهما من المصادر التي يكثر استعمالها لدي كثير من الكتاب المعاصرين . ويقصد بـ ” التنظير ” لشئ ما ، أن توضع له نظرية ، أو أن تجعله نظريا . كما يقصد بـ ” تحديث ” شئ أن تجعله حديثا .

وأعتقد أن صدر اللغة لا يضيق بمثل هذا الاستعمال ، فان له نظائر مسموعة ومألوفة ، مثل ” التأصيل ” أن تجعل للشئ أصولا . وكذلك ” التفريع ” أن جعل له فروعا . ومثله ” التبويب ” للكتب : أن تجعل لها أبوابا . . . وهكذا .

ومن يقرأ ما أصدره ” المجمع اللغوي ” بالقاهرة من قرارات ، وما ضمنه ” مجلته ” من بحوث ، وما احتواه ” المعجم الوسيط ” من الفاظ محدثة أقرها المجمع ، يتبين له أن المجمع يتجه الي التوسعة وفتح باب القياس في كثير من الموضوعات . ولهذا أقر بعض المصادر التي أصبحت تستخدمها الألسنة والأقلام في عصرنا ، ومنها ما هو مأخوذ من جامد ، وما هو مأخوذ من مشتق .

ومن هذه المصادر ” التطوير ” بمعني تحويل الشئ ، من طور الي طور وهي من أشهر الكلمات دورانا على الألسنة ومنها اشتقوا أفعالا مثل ” طور ” و ” يطور ” ، ومطاوعها مثل ” تطور ” ” تطورا ” الخ . وقد أقرها المجتمع كما في المعجم الوسيط جـ 2 ص 575 .

ومن ذلك ” التمصير ” أي جعل المرفق ونحوه مصريا ، ومنه قيل ” مصر ” و ” يمصر ” ومثله ” التكويت ” أي جعل الشئ كويتيا .

وغير ذلك كثير .

غير أن الذي أنصح به في نهاية هذه الكلمة ألا نلجأ إلي استخدام كلمات غير مسموعة إلا اذا لم نجد في المسموع ما يغني عنها .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر