أبحاث

التحقيق في مصطلح (الاجتهاد الجماعي) وبيان ضوابطه

العدد 115

المقدمة:

{الحَمْدُ لله وسلامٌ على عِبَادِه الّذِينَ اصْطَفى} [النمل: 59].

أما بعد:

فإنه مما شك فيه أن الاجتهاد الفقهي الذي يتم من أهله في محله، هو الروح التي يحيا بها الفقه الإسلامي وينمو ويتطور، ويبقى به مرنا ً قادرا ً على مجاراة الزمن ومواكبة تغيرات الحياة البشرية في جميع مجالاتها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية وغيرها.

والاجتهاد- من حيث كيفية القيام به- ينقسم إلي نوعين؛ الأول: اجتهاد فردي، يقوم به مجتهد فرد بنفسه، وهو الغالب. الثاني: اجتهاد جماعي، يقوم به جماعة من الفقهاء، قلت أو كثرت، عن طريق التشاور بينهم بعد البحث والنظر، للوصول إلى أنجح الحلول وأصحها للمسألة أو الواقعة المعروضة.

والاجتهاد بنوعيه، الفردي والجماعي، قد بذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذرته في حياته، بعد الهجرة حين صار للمسلمين دولة لها دستورها وحياتها التشريعية بجميع تفصيلاتها، وهو غني عن الشورى والاجتهاد بما يأتيه من وحي السماء، متلوا ً وغير متلو، ولكنه أراد أن يدرب أصحابه ويعلم أمته كيف يتصرفون إذا وقعت الوقائع وحدثت الحوادث وكثرت المشكلات، بعد وفاته وإلي قيام الساعة.

هذا، وأمثلة الاجتهاد في زمنه – صلى الله عليه وسلم- منه ومن أصحابه كثيرة معلومة لا يستطيع أحد نكرانها، وليس هنا مجال سردها وبيانها.

ولكن الاجتهاد الجماعي- وإن كانت حوادثه أقل من الاجتهاد الفردي – غرست غراسه بيده الشريفة المباركة، وذلك بمشاورته أصحابه في قضايا مهمة في حياة المجتمع المسلم الناشئ؛ مثل كيفية جمع الناس للصلاة؟ وماذا يفعل بأسرى بدر؟ وكيف يفاوض الأحزاب؟ .. إلخ.

فبعد هزيمة الأحزاب، وظهور خيانة بني قريظة، قال -صلى الله عليه وسلم- :«لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فاجتهد الصحابة- رضي الله عنهم- في فهم هذا الحديث الشريف، جماعيا ً، فكانوا فريقين؛ فريقا ً صلى في الطريق خشية فوات وقت العصر، وقالوا: لم يرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا حثنا علي المسير بسرعة، وفريقا ً تمسك بحرفية النص، فلم يصل حتى وصل إلي بني قريظة، وقد علم الرسول باجتهاديهما، ولم يعنف أيا ً من الفريقين.

هذا، وغراس الاجتهاد بشكل عام، والاجتهاد الجماعي بشكل خاص، سقاها ورعاها الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم- لا سيما الشيخين أبي بكر وعمر، حتى نمت وترعرعت، وآتت أكلها بإذن ربها، علي خير حال، في زمنهم.

ولما حدث الثلم الكبير في طريقة الحكم، فلم تعد شورى كما كانت؛ أخذت شجيرات الاجتهاد الجماعي تذبل وتذبل، نتيجة ما أصابها من إهمال الحكام، وأما شجيرات الاجتهاد الفردي، فقد استمر نماؤها، حتى أصبحت أشجارا ً مثمرة، وتمددت وتفرعت أغصانها، واخضرت أوراقها، وأينعت ثمارها، وعاش المسلمون في ظلالها الوارفة، وجنوا وتمتعوا بقطافها، وكل ذلك كان نتيجة الجهود الهائلة الصادقة التي بذلها فقهاء التابعين، بعد فقهاء الصحابة، ثم جهود الأئمة المجتهدين المعروفين وتلاميذهم النجباء، في القرون الثلاثة الأولي بعد الهجرة النبوية.

ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا الاجتهاد واتبعوا التقليد، حتى قست وتحجرت مذاهبهم، شيئا ً فشيئا ً، وقرنا ً بعد قرن، فضاقت بالناس، وضاق الفقهاء الأحرار بها، فتنادوا في هذا العصر منذ أكثر من نصف قرن، معلنين: أين أيها المسلمون، أين؟ هلموا إلي شريعتكم وفقهكم، ففيهما الخير كل الخير لكم، في دنياكم وأخراكم، ولا تتبعوا الأمم الكافرة، شبرا ً بشبر وذراعا ً بذراع.

ولكن ماذا سيصنع هؤلاء الفقهاء الأحرار، والمشكلات الطارئة والحوادث الواقعة قد عمت وطمت، من كل حدب وصوب، في جميع مناحي الحياة، وكل منها ينادي: أين المجتهدون في، الذين يجدون حلي ويفكون عقدي ويرشدون إلي أرشد أمري؟

ولما لم يعد للناس – في غالب الأحوال – ثقة بوجود أئمة مجتهدين كالسابقين، يستطيعون استنباط الأحكام باجتهاداتهم الفردية لهذه المسائل والمشكلات، وكذلك الفقهاء والعلماء المعاصرون أنفسهم ليس عندهم الثقة الكافية بأنفسهم للقيام بهذه المهمة الصعبة؛ أخذت الصيحات تتعالي للعودة إلي الاجتهاد الجماعي بأثواب جديدة.

ولكن ما حقيقة الاجتهاد الجماعي؟ وبماذا يمكن أن نعرفه لتتضح ماهيته للدارسين والمطلعين؟

منذ خمسينيات القرن الماضي وإلى قبيل سبع سنوات تقريبا ً، صدرت مقولات وتعريفات اصطلاحية أو أشباه تعريفات بحق الاجتهاد الجماعي، لا يمكن اعتماد أي منها حدا ً اصطلاحيا ً له، يمكن تعميمه، إلي أن جاءت الندوة العالمية التي أقامتها كليه الشريعة بجامعة العين في دولة الإمارات العربية المتحدة، في عام 1996م، الخاصة بموضوع الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي، قدم فيها ثلاثة وعشرون بحثا ً، تناولت الموضوع من جميع جوانبه، وصدرت في ختامها قرارات وتوصيات كان أولها وضع تعريف اصطلاحي للاجتهاد الجماعي، يمكن الاعتماد عليه إلي حد كبير، ولكن عليه بعض المآخذ والملاحظات.

ثم ظهرت في السنوات السبع الأخيرة بعض التعريفات الاصطلاحية، منها تعريف الدكتور عبدالمجيد السوسوة الشرفي، في كتابه: «الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي» [1]، وكان آخرها تعريف الدكتور قطب سانو في بحثه «قراءة تحليلية في مصطلح الاجتهاد الجماعي المنشود» [2]، الذي اختار فيه ثلاثة تعريفات سابقة وحللها وانتقدها بشدة، ثم وضع تعريفه المختار.

وأنا الآن أقوم بإعداد رسالة جامعية لنيل درجة الدكتوراه، موضوعها: «الاجتهاد الجماعي في الفقه الإسلامي»، وقد اطلعت على كل ما سبقت الإشارة إليه وغيره، ومن ذلك بحث الدكتور سانو وأفدت منه في رسالتي، ولكن في المقابل لي ملاحظات عديدة على تعريفه، بل تعريفاته للاجتهاد الجماعي، وكذلك على جميع المقولات والتعريفات السابقة منذ نصف قرن تقريبا ً.

لذلك أعددت هذا البحث الخاص جدا ً، الذي يقتصر على دراسة ومناقشة جميع تعريفات الاجتهاد الجماعي التي تمكنت من الاطلاع عليها حتى الان، ثم وضع التعريف المختار عندي وشرحه. وأرجو أن اكون قد وفقت في وضعه ليكون خاتمة المطاف، ولا أدعي الكمال البشري؛ لأنه كما قال الإمام مالك -رحمه الله تعالي- (كل الناس يؤخذ منه ويرد، إلا صاحب هذا القبر) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لذا جعلت بحثي هذا في مطلبين متكاملين؛ الأول: يعرض أشهر المقولات والتعريفات الاصطلاحية ويناقشها ويحللها ببيان مزايا وعيوب كل منها. الثاني: يضع التعريف المختار المستخلص من جميع ما سبق، ويشرحه ببيان قيوده وضوابطه، والله ولي التوفيق.

المطلب الأول

مناقشة التعريفات الاصطلاحية

للاجتهاد الجماعي

لما زاد الاهتمام [3] للجهد الجماعي في ميدان الاجتهاد منذ نصف قرن تقريبا ً، وقويت الدعوة إلي إنشاء المجامع الفقهية من أجله، فأنشئ عدد لا بأس به منها، كان أولها مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر في القاهرة (عام 1961م)، وثانيها المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة، (عام 1396هـ – 1967م) وثالثها مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي (عام 1983م) وغيرها فيما بعد [4]. كما أنشئت هيئات للفتوى الشرعية الجماعية في كثير من وزارات الأوقاف في الدول الإسلامية [5]، وهيئات للرقابة الشرعية للمؤسسات والمصارف الإسلامية في العالم [6]، ومنظمة إسلامية للعلوم الطبية في الكويت، فلما زاد الاهتمام للاجتهاد الجماعي وبلغ هذا الحد، ومضي عليه هذا الزمن الممتد، صار لابد له من حدٍ (تعريف) به يُحد.

وسأعرض بحول الله كل تعريف للاجتهاد الجماعي -وكل قول فيه، يشبه التعريف- اطلعت عليه أو تمكنت من الوصول إليه، وأبين ما له وما عليه، ثم أصل إلي تعريف اصطلاحي جامع مانع أرتضيه، وأدافع عنه.

ولما كانت ندوة كلية الشريعة والقانون بجامعة (العين) في دولة الإمارات، المنعقدة في شعبان 1417هـ الموافق ديسمبر (كانون الأول) 1996م، أول ندوة خاصة «بالاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي» [7]؛ لذلك جعلتها فاصلا ً زمنيا ً، لا سيما فيما يتعلق بوضع تعريف اصطلاحي للاجتهاد الجماعي.

وبناء على ما سبق فإني سأقسم الأقوال والتعريفات الخاصة بالاجتهاد الجماعي إلي مجموعتين رئيسيتين: الأولي: تضم كل ما كان قبل انعقاد الندوة، فتتضمن ما كتبه العلماء سابقا ً، وتتضمن التعريفات الواردة في أبحاث الندوة أيضا ً، لأنها كتبت قبل انعقادها.

المجموعة الثانية: وتشتمل على التعريف الذي اختارته لجنة الصياغة في ختام الندوة، وهو مهم جدا ً؛ لأنه (جهد جماعي) في تعريف (الاجتهاد الجماعي). كما تشتمل علي كل ما وضع من تعريفات بعد تاريخ الندوة؛ لأن أغلب الظن أنه استفاد منها ونظر فيها.

أولا ً: أقوال وتعريفات المجموعة الأولى، والملاحظات عليها:

إذن هناك أقوال وهناك تعريفات وأقصد بالأقوال: العبارات المهمة، ذات البال، التي صدرت عن بعض العلماء في حق الاجتهاد الجماعي، دون أن يكون قائلها قد قصد وضع تعريف اصطلاحي محدد، فهي أشباه تعريفات. أما التعريفات: فهي التي قصد واضعوها تحديد مفهوم الاجتهاد الجماعي باعتباره مصطلحا ً أصوليا ً.

أ) ولعل أقدم الأقوال ما كتبه المرحوم الشيخ عبدالوهاب خلاف في كتابه: «مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه» [8]، حين قال: الذين لهم الاجتهاد بالرأي هم الجماعة التشريعية الذين توافرت في كل واحد منهم المؤهلات الاجتهادية التي قررها علماء الشرع الإسلامي، فلا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد مهما أوتي من المواهب، واستكمل من المؤهلات؛ لأن التاريخ أثبت أن الفوضى التشريعية في الفقه الإسلامي كان من أكبر أسبابها الاجتهاد الفردي.. فباجتهاد الجماعة التشريعية المتوافرة في أفرادها شرائط الاجتهاد تنفي الفوضى التشريعية وتشعب الاختلافات، وباستخدام الطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي يؤمن الشطط ويسار عن سنن الشارع في تشريعه وتقنينه. أهـ.

فواضح من هذا الكلام أن الشيخ خلاف لم يقصد وضع تعريف لاجتهاد الجماعة التشريعية، لكنه وضع قيدين لاجتهادها يمكن إدخالها في أي تعريف للاجتهاد الجماعي، وهذان القيدان هما:

1- توفر شروط الاجتهاد في كل فرد من أفراد الجماعة.

2- أن يستخدموا الطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي لاجتهاد الرأي.

كما أنه بين الهدف من اجتهاد الجماعة، وهو منع الفوضى التشريعية وتشعب الاختلافات، وهذا بلا شك من أهم أهداف الاجتهاد الجماعي، ولكن يلاحظ عليه رفضه الاجتهاد الفردي مهما أوتي صاحبه من المواهب وهذا أمر يصعب قبوله؛ لأن الاجتهاد الفردي قامت عليه مذاهب معتبرة لا زالت متبعة من جمهور المسلمين. وأمر آخر أن هناك قضايا ومسائل كثيرة تكون مستعجلة، في العبادات والأحوال الشخصية ونحوها يكفي فيها الاجتهاد الفردي، ولا داعي لاجتهاد الجماعة التشريعية.

ب) وقال الشيخ علي حسب الله في الاجتهاد الجماعي: هو كل اجتهاد اتفق المجتهدون فيه على رأي في المسألة [9].

واضح أن هذا القول لا يرقى إلى مستوى التعريف الاصطلاحي؛ لأنه يتسم بالإجمال والغموض، وفيه دور وهو من أكبر عيوب التعريف -إذ استخدم فيه كلمتي (الاجتهاد) و(المجتهدون) وهما جزءان أساسيان من المعرف.

ولكنه يشير ضمنا ً إلي عدة أمور منها:

1- أنه لابد أن يصدر الرأي فيه عن المجتهدين الذين تتحقق فيهم شروط الاجتهاد.

2- أنه اتفاق علي رأي في المسألة، وهذا مهم؛ لأنه يميزه عن الاجتهاد الفردي. ولكنه لم يبين مدى هذا الاتفاق، هل هو من جميع المجتهدين أم من أغلبهم؟ وهذا سبب الغموض فيه.

ت) تعريف الدكتور توفيق الشاوي:

يقول الدكتور الشاوي- بعد أن بين أهمية الاجتهاد الجماعي في تطبيق مبدأ الشوري- : اجتهاد الأمة نوع من الاجتهاد الجماعي، ولكنه أوسع نطاقا ً، فإن العرف جرى علي أن المقصود بالاجتهاد الجماعي هو: تخصيص مهمة البحث واستنباط الأحكام بمجموعة محدودة من العلماء والخبراء والمتخصصين، سواء مارسوا ذلك بالشورى المرسلة أم في مجلس يتشاورون فيه ويتداولون حتى يصلوا إلي رأي يتفقون عليه، أو ترجحه الأغلبية، ويصدر قرارهم بالشورى، ولكن يكون في صورة فتوي [10].

ولعله من محاسن هذا التعريف ربطه الاجتهاد الجماعي بالشورى، وهذا أمر مهم جدا ً. كما أنه يرى أن اتفاق الجميع أو الأغلبية على رأي واحد في المسألة المطروحة سواء، في قوله: (حتى يصلوا إلى رأي يتفقون عليه أو ترجحة الأغلبية) وهذا صحيح من حيث اعتباره اجتهادا ً جماعيا ً في الحالين، وليس إجماعا ً؛ لأن المجتمعين ليسوا جميع فقهاء الأمة. ولكن لا شك أن اتفاق جميع المجتمعين (المجموعة المحدودة من العلماء والخبراء) أفضل وأقوى.

ولكن يؤخذ علي هذا التعريف ملاحظات عدة منها:

أ- قوله: ( جرى العرف على أن المقصود بالاجتهاد الجماعي كذا ..) غير مبين، فأي عرف يعني؟ فإن كان يعني الأصوليين والفقهاء، فإن القدامى منهم لم يضعوا للاجتهاد الجماعي حدا ً، كما رأينا، فلا نجد قبل القرن الرابع عشر الهجري قولا ً فيه ولا تعريفا ً، وأما المحدثون فلم يجر لهم فيه عرف محدد حتى الآن، ولا زالت الأقوال والتعريفات متعددة ومضطربة كما نرى في هذا المبحث.

وإن كان يعني العرف العام عند الباحثين والدارسين- وهذا ما أرجحه من قصده- فإن هذا العرف لا يعتد به عند وضع التعريفات الاصطلاحية ذات الدلالات المنطقية، في أي علم من العلوم.

ب- ولذلك نجد الدكتور قطب سانو ينتقد هذا التعريف بشدة، من نواح عدة، ألخصها فيما يلي [11]:

1- أن هذا التعريف لم تتوافر فيه مقاييس التعريف الأصولي الدقيقة، فهو قد تجاوز تحديد طبيعة الاجتهاد الجماعي من حيث ماهيته وكنهه، كما أغفل الخصائص العامة والخاصة التي يختص بها، ولم يُعن من قريب ولا من بعيد بضبط أركانه وحدوده ومجالاته، وكان هم صاحبه تحديد كيفية ممارسة هذا الاجتهاد وعلاقته الأصلية بالشوري.

2- أنه عمم صفات أولئك العلماء والمتخصصين الذين لهم حق ممارسة هذا النظر الاجتهادي؛ مما يوحي بأنه من حق كل عالم سواء بلغ رتبة الاجتهاد أم لم يبلغها. فألفاظ (العلماء والخبراء والمتخصصين) فضفاضة غير منضبطة بضابط بعينه، وهي قابلة للاختلاف في تحديدها. ومعلوم أن الاجتهاد ينبغي أن يمارسه فقط العلماء المجتهدون وليس أي عالم أو خبير.

3- أن هذا التعريف تعبير عن تصور كثير من عامة الناس لحقيقة الاجتهاد الجماعي، بأنه تعاون بين فقهاء النص (علماء الشريعة) وبين فقهاء الواقع (الخبراء والمختصين).

ويري الدكتور سانو أن هذا التكامل بين فقهاء النص وفقهاء الواقع تكامل مؤقت وخطوة مرحلية ينبغي تجاوزها واللجوء إلي التكامل الحقيقي في شخصية المجتهد نفسه بحيث يغدو فقيه النص والواقع فتتكامل في شخصيته المعرفة الدينية والمعرفة بالحياة. وهذا لا يتعارض مع وجود متخصصين في فروع العلوم المعروضة للنظر في الاجتهاد الجماعي.

وأنا أوافق الدكتور سانو في هذه الانتقادات فى الجملة. وأخالفه قليلا ً في الانتقاد الثالث، فإني أري أن وجود فقهاء الواقع (الخبراء والمتخصصين في فروع العلوم) إلي جانب فقهاء النص -كما سماهم- لا يضر بعملية الاجتهاد الجماعي، بل هو ضروري، وسيستمر الحال على هذا كلما تقدمت العلوم واتسعت، لا سيما إذا كان الرأي الأخير هو لفقهاء الشريعة، وليس للخبراء تدخل في اتخاذ القرارات، وهذا ما تعتمده المجامع الفقهية المعروفة.

إذن لا مانع من استمرار وجود خبراء يستند غليهم الفقهاء فيما يصعب عليهم فهمه من القضايا التخصصية الدقيقة، مع الإهابة بالفقهاء بتوسيع مداركهم واطلاعاتهم علي واقع الحياة وتطور العلوم، بل ينبغي أن يكون هذا شرطا ً من شروط تحصيل رتبة الاجتهاد.

ج) ومما يؤخذ علي تعريف الدكتور الشاوي أيضا ً:

1- وضعه كلمة (تخصيص) جنسا ً في التعريف؛ فليس الاجتهاد بنوعيه الفردي والجماعي تخصيصا ً لمهمة البحث والاستنباط، بل هو بذل للجهد العلمي المنهجي في البحث واستنباط الأحكام.

2- إطلاقه كلمة (الأحكام)؛ فلم يقيدها بالشرعية؛ لأن مجال الاجتهاد الفقهي الجماعي هو الأحكام الشرعية، وليس العقلية أو اللغوية مثلا ً.

3- قوله: إن قرار الاجتهاد الجماعي يصدر في صورة فتوي (يعنى غير ملزمة). وهذا يشير إلي الواقع الحالي لقرارات المجامع الفقهية الجماعية، مع أنه لا يذكرها ولا يشير إليها. فإنها تصدر كأنها فتاوي فردية من آحاد المجتهدين. ولكن ليس هذا ما ينبغي أن يكون، بل ينبغي أن تكون القرارات ملزمة في معظمها -للحكومات والأفراد، لا سيما التي تصدر باتفاق جميع الفقهاء المجتمعين وليس لها معارض من مجتهدين آخرين.

علي كل حال فإنه يستدرك علي كونه فتوي غير ملزمة بذاتها للأمة، في نظره، بقوله: ولكي تلتزم الأمة فعلا ً برأي مجلس الاجتهاد الجماعي، نرى أن يعرض عليها وتناقشه ثم تُقره، ويكون الالتزام نتيجة هذا القرار، لا نتيجة لرأي مجلس الاجتهاد [12].

هذا استدراك حسن، وهو مبني علي رأيه في وجوب اشتراك جميع أفراد الأمة المكلفين بالاجتهاد وبالإجماع، وهو موافق لآراء بعض الأصوليين القدامي، وله حظ قوي من النظر.

*تعريف الدكتور العبد خليل:

لعل بحث الدكتور العبد خليل من أقدم البحوث الخاصة بالاجتهاد الجماعي.

فلما أراد أن يعرف الاجتهاد الجماعي، مهد له بتعريف الاجتهاد لغة، وتعريفه اصطلاحا ً بشكل عام، فقال: وأما في الاصطلاحا ً فالاجتهاد هو استفراغ الوسع وبذل المجهود في طلب حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط من الأدلة الشرعية. وعليه فإن الاجتهاد الجماعي الذي أقصده في البحث هو « اتفاق أغلب المجتهدين من أمه محمد في عصر من العصور على حكم شرعي في مسألة » [13] ثم بين كيف يتم هذا الاجتهاد الجماعي عمليا ً من خلال مجمع فقهي.

لعل أفضل ما في هذا التعريف وجازته واختصاره. ولكنه لا يصلح تعريفا ً اصطلاحيا ً للاجتهاد الجماعي للأسباب التالية:

1- ابتداؤة بكلمة (اتفاق)، وهذه لا تناسب الاجتهاد، وإنما تناسب الإجماع. فالاجتهاد فرديا ً كان أو جماعيا ً-هو بذل للجهد من أجل استنباط الحكم الشرعي من دليل تفصيلي، وهذا هو الجنس الأساسي للتعريف. أما الاتفاق فهو ثمرة الاجتهاد قد يحصل وقد لا يحصل؛ ولذلك أرى أنه ابتعد عن تعريف الاجتهاد اصطلاحا ً الذي مهد به، واقترب جدا ً من تعريف الإجماع مع أن عبارته (وعليه فإن) توحي بأنه سيبني تعريف الاجتهاد الجماعي على تعريف الاجتهاد، فإذا بنا نجد بينهما تباينا ً كبيرا ً، بل لا يشتركان في جمله واحدة. وكل ما فعله تعديل تعريف الإجماع في جملة واحدة فوضع «أغلب المجتهدين» بدل « جميع المجتهدين ».

2- لم يشر في تعريفه إلي كيفية وصولهم للحكم الشرعي المتفق عليه، وهو تداول المسألة بينهم وتشاورهم فيها، وهذا أساس لإظهار (الجماعية) في الاجتهاد.

ولكنه ذكره في بيان التعريف، فقال: (ويتوصل إليه هؤلاء المجتهدون بعد تشاور بينهم ليكون هو الحكم الشرعي..)[14].

3- لم يبين طبيعة المسألة التي يصح فيها الاجتهاد الجماعي، وهي الظنية وليست القطعية، والعملية وليست العقدية، حيث لا اجتهاد في القطعيات لا سيما إذا كانت من قضايا العقيدة والإيمان.

4- فيه خلل فني في الصياغة وهو (الدور) حيث أدخل كلمة المجتهدين وهو يعرف (الاجتهاد) وهذا لا يصح في التعريفات. فنحن لا نستطيع معرفة المجتهدين إلا إذا عرفنا (الاجتهاد).

* تعريف الدكتور عبد الناصر العطار:

قال: أما الاجتهاد الجماعي فهو (اتفاق أكثر من مجتهد بعد تشاور بينهم على حكم شرعي، مع بذلهم غاية وسعهم في استنباطه من أدلته)[15].

وعقب على ذلك بقوله: كما يطلق الآن على اتفاق أكثر من فقيه أو باحث متخصص في الفقه وإن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد، بعد بذلهم غاية وسعهم في استنباط حكم شرعي من أدلته، سواء استعانوا بخبراء ومتخصصين أم لم يستعينوا بواحد منهم.

وهذا أول تعريف يرد في أبحاث ندوة الإمارات، بحسب ترتيبها، وسنرى أثره في التعريف الذي اختارته الندوة في بيانها الختامي.

من محاسن هذا التعريف:

1-    وجازته، وهذا ما يفضل في التعريف.

2-    وضعه لقيد (بعد تشاور بينهم). وهو من ركائز الاجتهاد الجماعي.

3-    اشتراطه (بذلهم غاية وسعهم).

وهذا مأخوذ من تعريف الاجتهاد بشكل عام.

ومما يؤخذ عليه:

1-  ابتداؤه بكلمة (اتفاق) وجعلها جنسا ً أساسا ً في التعريف، وهي من خصائص الإجماع فحسب، وثمرة من ثمرات الاجتهاد في بعض الحالات، كما رأينا في مناقشة تعريف الدكتور العبد الخليل، فلا يصح اعتماده أساسا ً في التعريف، وسيأتي مزيد من الإيضاح عند مناقشة التعريف الذي اختارته ندوة الإمارات.

2-  قوله: (أكثر من مجتهد) فيه غموض؛ لأنه يدخل فيه الاثنان من المجتهدين، وهذا يعني أنه لا يشترط (الجماعة) فيه. وهذه المسألة موضع نقاش في شروط الإجماع أيضا ً. ولكن أرى أنه لابد من عدد الثلاثة علي الأقل، خاصة إذا كان هناك اجتهادات جماعية أخرى في المسألة ذاتها.

* قول الدكتور عبد العزيز الخالد:

قال – بعد ذكر الاجتهاد الفردي-: واجتهاد جماعي وهو الاجتهاد الذي ينبغي الانتقال إليه في القضايا المطروحة وخصوصا ً ما له طابع العموم، ويهم جمهور الناس، وقد ذكر الدكتور الطيب [16] عنه بأنه ما يعرف في كتب أصول الفقه بالإجماع [17].

الجديد في هذا القول تحديده لمجال الاجتهاد الجماعي بأنه القضايا ذات الطابع العام وتهم غالبية الناس. وهذا يتفق مع كلام الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عن الاجتهاد الجماعي، بل ربما استقاه منه [18].

وتخصيص الاجتهاد الجماعي بالقضايا العامة أمر تستدعيه طبيعة هذا النوع من الاجتهاد، كما هو معروف من أمثلته في عهد الصحابة رضي الله عنهم، وفي العصر الحاضر أيضا ً. ولكن أري أنه لا ضرورة لجعله قيدا ً في التعريف؛ لأنه لو حصل اجتهاد جماعي في مسألة تخص أهل إقليم أو بلدة فحسب، أو حتى أفراد قليلين، فما الذي يمنع منه؟!

ويؤخذ على هذا القول بأنه بعيد عن التعريف الاصطلاحي، وبأنه مضطرب، لأنه اعتمد على ما ذكره الدكتور الطيب بأنه مطابق للإجماع عند الأصوليين، ولم يبين ما يقصد به هو، ولكن ظاهر كلامه أنه يوافقه.

وهذا رأي بعض الباحثين أيضا ً، ولكن لا يوافق عليه. فهناك فروق بينهما من وجوه عدة، وإن اتفقا في بعض الوجوه [19].

* مقولة الدكتور محمد فرحات:

قال بعد تعريفه الاجتهاد بشكل عام: والكاتبون المحدثون في علم الأصول يعرفون الاجتهاد بأنه بذل الجهد للتوصل إلى الحكم في واقعة لا نص فيها بالتفكير واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط فيما لا نص فيه، أو ما فيه نص ظني الدلالة أو ظني الثبوت. ويكون الاجتهاد جماعيا ً إذا وفقت جهود المجتهدين مع بعضها بعضا ً وفقا ً لقاعدة (وأمرهم شوري بينهم) (الشوري: 38) [20].

يفهم من كلام الدكتور فرحات أنه يري أن الاجتهاد الجماعي تجميع للاجتهادات الفردية في الواقعة المعينة، مع التشاور بين المجتهدين فيها للتوفيق بينها.

وهذا صحيح، وداخل في مفهوم الاجتهاد الجماعي، غير أنه لم يضع تعريفا ً جامعا ً مانعا ً.

ويؤخذ عليه في بداية كلامه تعميمه تعريف الاجتهاد عند الكاتبين المحدثين في قوله: (والكاتبون المحدثون ..)إذ ليس كل الكاتبين المحدثين ولا أكثرهم يعرف الاجتهاد بهذا التعريف، بل هو تعريف بعض الكاتبين المحدثين، ومعظمهم يعرفه بواحد من تعريفات الأصوليين القدامي. وعلى كل حال فليس في مقولته جديد إلا إيضاح وسيلة الاجتهاد، وهي مفهومة في الأصل ضمنا ً، وكذلك إبراز مجال الاجتهاد، وهوأيضا ً معروف ضمنا ً عند الكاتبين الأصوليين القدامي.

* مقولة الدكتور جمال الدين محمود:

بعد أن عرّف الإجماع بحسب الاصطلاح الأصولي المشهور، ومال إلى أنه صعب التحقق في الواقع؛ عرّفه بتعريف آخر- نقله عن الشيخ علي حسب الله- بأنه: «اتفاق أولي الأمر الذين يستعين بهم الإمام على استنباط حكم لمسألة لم ينص على حكمها في الكتاب أو السنة»[21].

بعد ذلك قال: فالإجماع الذي تقوم عليه الحجة من الكتاب لا يقتصر علي إجماع المجتهدين بالذات في عصر من العصور، وفقا ً للمصطلح الأصولي. وهذا الرأي أولى بالاتباع في هذا العصر، فيصبح الاجتهاد الجماعي بالمعنى الأخير هو المقصود بالإجماع، دون النظر إلى تحقق شروطه الاصطلاحية [22].

ولعله أراد أن يقول: فيصبح الإجماع بالمعنى الأخير هو المقصود بالاجتهاد الجماعي. فقد أخطأ بالتقديم والتأخير.

ثم أورد ما يتميز به الاجتهاد الجماعي عن الإجماع الأصولي وعن الاجتهاد الفردي.

الخلاصة: أن الدكتور محمود يميل إلي أن الاجتهاد الجماعي شكل من أشكال الإجماع، ولكن لا ينطبق على الإجماع كما حده جمهور الأصوليين، وهذا ما أميل إليه أيضا ً.

ولكن يؤخذ عليه ابتداؤه التعريف بكلمة (اتفاق) فهذه من خصائص الإجماع، كما رأينا في مناقشة تعريف الدكتور العبد خليل.

* مقولة الشيخ محمد عبدالحكيم زعير:

قال في مقدمة بحثه (الاجتهاد الجماعي في المجال الاقتصادي والمصرفي): من مصلحة الفقه الإسلامي نفسه أن يقوم في هذا العصر اجتهادا آخر غير الاجتهاد الفردي، وهو الاجتهاد الجماعي: أي اجتهاد الجماعة على طريق الشوري العلمية في مؤتمرات فقهية تضم العلماء المختصين الذين توافرت لديهم أدوات الاجتهاد [23].

واضح أن الشيخ لم يضع تعريفا ً اصطلاحيا ً للاجتهاد الجماعي، لكنه ذكر شروطا ً وقيودا ً مهمة لهذا الاجتهاد وهي (التشاور)، (بين متخصصين مجتهدين)، (من خلال مؤتمرات فقهية).

وهذه القيود لا خلاف عليها عند جمهور الباحثين، لا سيما قيد التشاور، ولكن القيد الثالث- هو كون التشاور من خلال مؤتمرات فقهية- يشير إلي ما يتم في هذا العصر غالبا ً، ولكن هناك الندوات الفقهية المتخصصة ولجان الفتوي الدائمة [24]، ولا ندري قد يبتكر البشر في المستقبل أساليب أخرى، ولذلك يمكن التعبير عنه بدقة أكثر بقولنا: (من خلال مجلس فقهي استشاري)، ليشمل لجان الفتوى الشرعية، وهيئات الرقابة الشرعية أو أي مجلس منظم يجتمع فيه عدد من الفقهاء، إذا تحققت فيها بقية الشروط مثل كون أعضائها من المجتهدين، وأن يتم البحث عن طريق شورى الاجتهاد، وغير ذلك. ولا يقتصر على المؤتمرات الفقهية، وإن كانت هي الأولى بهذا الاجتهاد.

* مقولة الدكتور علي المحمدى:

بعد أن قارن بين الإجماع والاجتهاد الجماعي، قال: (إن الاجتهاد الجماعي- طوعا ً لما سبق- يعني تشاور أهل الرأي والنظر في القضايا الظنية، وكلما اتسع نطاق هؤلاء كان ذلك أكثر جدوى بلا مراء. وهذا التشاور لا يقتضي بالضرورة اتفاق الجميع، وإنما يكفي فيه ان يتحقق الحوار العلمي وتبادل الرأي، ويكون لما ذهب إليه الأغلبية- إذا لم تطبق كلمة الجميع على موقف واحد- حكم الاجتهاد الجماعي) [25].

الملاحظات:

1- واضح انه لم يضع تعريفا ً اصطلاحيا ً للاجتهاد الجماعي.

2- ركز على النقاط التالية:

أ- تشاور أهل الرأي والنظر، ولم يقل: الفقهاء أو المجتهدين.

ب- المهم عنده أن يتحقق الحوار العلمي، وهو تعبير آخر عن التشاور.

ج- الأغلبية في القرار لها حكم الاجتهاد الجماعي.

3- صرح بمجال الاجتهاد وهو (القضايا الظنية)، وهذا أمر حسن؛ لأنه لا اجتهاد في القطعيات.

4- رأى أنه كلما اتسع نطاق المتشاورين كان ذلك أكثر إفادة. وهذا صحيح بشرط أن يكون المتشاورون من أهل الفقه والاجتهاد، وليسوا أهل رأي ونظر عام، غير مقيد بأصول الاجتهاد الشرعي.

وفي الجملة فإن هذه المقولة جيدة معبرة عن المفهوم العام للاجتهاد الجماعي، وهي متفقة مع معظم المقولات السابقة، ولكنها لا ترقى إلى مستوى التعريف الاصطلاحي المنضبط بقواعد التعريفات.

ويؤخذ عليه جعله التشاور جنسا ً اساسا ً في التعريف؛ لأن الاجتهاد- فرديا ً أو جماعيا ً- ليس تشاورا ً وإنما بذلا ً للجهد في البحث والنظر، والتشاور شرط للوصول إلى الرأي الجماعي. لذا أرى أنه لا يصح البدء بكلمة (تشاور)، كما رأينا في كلمة (اتفاق).

* مقولتا الدكتور محمد كمال الدين إمام:

يقول: (والاجتهاد الجماعي في الفقه المعاصر ليس إلا الشورى في مجال الرأي عند الفقهاء)[26] ثم يقول- بعد أن أجرى مقارنة ممتازة بين الإجماع والاجتهاد الجماعي- : (وخلاصة القول أن الاجتهاد الجماعي: هو صورة من صور الاجتهاد بالرأي [27]، والآراء الاجتهادية ليس لها- في ذاتها- قوة ملزمة متعدية لغير القائلين بها، ولا يجوز اعتبارها شرعا ً ثابتا ً متقررا ً لا يجوز أن ينقص) [28].

الملاحظات:

1- نلاحظ انه لم يضع تعريفا ً اصطلاحيا ً محددا ً للاجتهاد الجماعي في كلتا مقولتيه.

2- وفي مقولته الأولي حصر الاجتهاد الجماعي المعاصر بالشورى في الرأي، ولكنه لم يحدد المراد بالرأي.

ولعله يشير إلى مجال الاجتهاد وهو الظنيات التي فيها مجال الرأي، ولكنه وضع قيد (عند الفقهاء)، وهذا امر مهم. ولكن لا أرى داعيا ً لقيد (في الفقه المعاصر)، فهذا شأن الاجتهاد الجماعي في كل عصر، وليس في عصرنا فحسب.

3- وفي مقولته الثانية يرى الاجتهاد الجماعي صورة من صور اجتهاد الرأي. وهو كذلك، بل هو اجتهاد الرأي نفسه وليس صورة منه، ولكن يتم بشكل جماعي. ولكنه قارب مقاربة كبيرة بين الاجتهاد الجماعي وبين الاجتهاد الفردي من حيث قوة الإلزام لغير القائل به، فكأنه لم يجعل بينها فرقا ً. وهذا لا أوافقه عليه؛ لأن الاجتهاد الجماعي أقرب إلى الإجماع عند بعض الباحثين- فكيف لا تكون له قوة الإلزام، ولكن أوافقه (بجواز نقضه)، بشرط أن ينقض باجتهاد جماعي مثله أو أقوي منه، وليس باجتهاد فردي.

ثانيا ً: المجموعة الثانية من تعريفات الاجتهاد الجماعي[29]:

وتضم هذه المجموعة جميع الأقوال والتعريفات التي صدرت بعد ندوة الإمارات، ابتداء من التعريف الذي وضعته لجنة صياغة القرارات في هذه الندوة؛ لأنه يعتبر صادرا ً بعد الندوة، ومستفادا ً من جميع التعريفات السابقة فيها.

* تعريف لجنة صياغة القرارات والتوصيات في ندوة الإمارات حول الاجتهاد الجماعي[30]:

توصلت ندوة الإمارات إلى عدد من القرارات والتوصيات، كان أولها وضع تعريف اصطلاحي للاجتهاد الجماعي.

(تقرر الندوة أن الاجتهاد الجماعي: هو اتفاق أغلبية المجتهدين، في نطاق مجمع فقهي أو هيئة أو مؤسسة شرعية، ينظمها ولي الأمر في دولة إسلامية على حكم شرعي عملي، لم يرد به نص قطعي الثبوت والدلالة بعد بذل غاية الجهد فيما بينهم في البحث والتشاور[31].

الملاحظات:

1- من محاسن هذا التعريف أنه تعريف جماعي للاجتهاد الجماعي، وهذا يعطيه قوة خاصة، ولا ندري هل اشترك في وضعه عدد من العلماء المشاركين في الندوة أو تفرد بعضهم بصياغته؟، على كل حال يفترض اطلاع جميع المشاركين على القرارات والتوصيات ومنها التعريف المذكور، وموافقتهم عليه.

2- ومن محاسنه أيضا ً تقييده الاجتهاد الجماعي بمجمع فقهي أو هيئة أو مؤسسة شرعية ينظمها ولي الأمر.

وهذا أمر مهم؛ لئلا تقع الفوضي إذا قام به أفراد من العلماء دون انتظام في مجمع أو هيئة شرعية يقر بها أو يرتضيها جمهور المسلمين. وقد يكون قيد (تنظيم ولي الأمر في دولة إسلامية) مشكلا ً في بعض الحالات، كما لو أنشأت أقلية مسلمة كبيرة العدد، تخضع لحاكم غير مسلم، مجمعا ً فقهيا ً أو مؤسسة شرعية ومثال ذلك: مجمع الفقه الإسلامي في الهند، والمجلس الأوربي للإفتاء.

ولهذا أرى عدم اشتراط ولي الأمر، ما دام ليس للمسلمين خليفة واحد، ويكتفي بإقرار جمهور العلماء المسلمين في الإقليم الذي أنشئ فيه.

3- ومن حسناته أيضا ً: التصريح بشرط (لم يرد فيها نص قطعي الثبوت والدلالة). وهو شرط مهم جدا، يحدد مجال الاجتهاد بنوعيه الفردي والجماعي. فإذا كان في المسألة نص قطعي الثبوت دون الدلالة ففيه مجال للاجتهاد وهذا شأن كثير من النصوص القرآنية، وإذا كان فيها نص قطعي الدلالة دون الثبوت ففيه مجال للاجتهاد، وهذا شأن كثير من الأحاديث النبوية التي اختلف فيها تصحيحا ً وتحسينا ً وتضعيفا ً.

وكذلك من باب أولى ما كان فيه نص ظني الثبوت والدلالة، كما هو شأن كثير من الآثار والأخبار والأحاديث الصحيحة الآحاد.

4- ومن إيجابياته أيضا ً: وضعه قيد (بذل غاية الجهد في البحث والتشاور).

ولكن كان ينبغي أن يكون هذا القيد في مقدمة التعريف فهو الجنس الأساس فيه. اما بذل غاية الجهد في البحث فمشترك بين الاجتهاد الفردي والجماعي، وأما بذل غاية الجهد في التشاور فخاص بالاجتهاد الجماعي، وهو أسّ فيه.

ويؤخذ عليه أمور أهمها ما يلي:

1- ابتداؤه بكلمة (اتفاق)؛ فهذه الكلمة جنس في تعريف الإجماع. أما الاجتهاد- بنوعيه الفردي والجماعي- فلا يناسبه كلمة اتفاق؛ إذ هو مشتق من فعل (اجتهد) أي بذل وسعه وطاقته، وكان الأولى أن يجعل واضعو التعريف القيد الأخير عندهم- الذي سبق ذكره آنفا ً بدلا ً من عبارة (اتفاق أغلبية المجتهدين).

ولعلهم اعتمدوا تعريف الدكتور عبدالناصر العطار، مقرر عام الندوة، مع تعديل طفيف فيه، وقد سبقت مناقشته [32].

وممن انتقد هذا التعريف بشدة وخاصة اعتبار الاجتهاد الجماعي « اتفاقا » الدكتور قطب سانو؛ حيث عدّ ذلك خلطا ً بين الإجماع والاجتهاد الجماعي؛ لأن الاجتهاد جماعيا ً كان او فرديا ً لا يعني بحال من الأحوال اتفاقا ً [33]. وهذا مؤيد لما قلته- وخاصة أن الاتفاق أثر من آثار الاجتهاد الجماعي قد يتحقق وقد لا يتحقق [34].

ومن مآخذ الدكتور سانو على تعريف الندوة هذا عدم إشارته إلي طبيعة المسائل التي يجب أن يبحثها الاجتهاد الجماعي. فهو يرى: أن المسائل الاجتهادية لا تخلو من أن تكون فردية مرتبطة بالفرد دون الجماعة أو تكون جماعية ذات صلة وارتباط بالجماعة أو السواد الأعظم. فإذا كانت المسألة ذات صفة فردية، فإنه ليس من الحكمة في شئ التصدي لها من خلال اجتهاد جماعي، بل ينبغي أن تترك للاجتهادات الفردية.. وتعرف فردية المسألة وجماعيتها من خلال النظر في الأثر المترتب علي العمل بها [35].

وانا اوافقه في أصل الفكرة، وهي أن الاجتهاد الجماعي ينبغي أن ينصب اهتمامه على المسائل التي تهم شريحة كبيرة من المجتمع، أو تمس حياة السواد الأعظم من المسلمين، ولكن لا أوافقه في اشتراط هذا القيد في التعريف، فقد يحصل اجتهاد جماعي على مسألة فردية شخصية، فهل نمنعه؟![36] نحن نريد أن نجعل التعريف مرنا ً، فلا نكثر من القيود غير الضرورية فيه، ليتسع لكل ما يمكن اعتباره اجتهادا ً جماعيا ً ولو كان دون المستوي المطلوب. ولا نريد وضع تعريف ضيق لا ينطبق إلا على حالات محددة في ظروف معينة، كما حدث في الأصوليين للإجماع فلا يكاد ينطبق إلا على مسائل محدودة في سنوات معدودة.

ومن مآخذه أيضا ً على تعريف الندوة: حصرها الاجتهاد الجماعي في النصوص الظنية الدلالة والثبوت أو الظنية الثبوت دون الدلالة أو الدلالة دون الثبوت. وهو يرى أن الاجتهاد الجماعي يطال النصوص القطعية أيضا ً ولكن من حيث التنزيل على الواقع، وهو ما سماه الشاطبي «تحقيق المناط» وجعله من قسم الاجتهاد الذي لا ينقطع حتى قيام الساعة، ولا خلاف بين الأمة في قبوله [37]. ثم قال: « وبناء ً علي هذا فإنه كان حقيقا ً علي السادة المؤتمرين أن يتجاوزوا بالنظر الاجتهادي الجماعي من دائرة الفهم إلى دائرة أوسع وأرحب، تتسع للاجتهاد في فهم نصوص الوحي قطعيها وظنيها، وللاجتهاد في تنزيل معاني نصوص الوحي قطيعها وظنيها في أرض الواقع….[38].

والخلاصة: أن تعريف الندوة قاصر من وجوه عدة، ولا يمكن اختياره، وإنما يستأنس به.

* مقولة الدكتور شعبان محمد إسماعيل:

يقول الدكتور إسماعيل بشأن الاجتهاد الجماعي- بعد تعريف الاجتهاد بشكل عام- (وهو الذي يتشاور فيه أهل العلم في القضايا المطروحة، وخصوصا ً فيما يكون له طابع العموم ويهم جمهور الناس)[39] متابعا ً في ذلك الشيخ الدكتور القرضاوي[40].

* المناقشة: مع أن كتاب الدكتور إسماعيل خاص بالاجتهاد الجماعي إلا أننا نراه لم يحرص على وضع تعريف اصطلاحي له، وإنما استند إلى تعريف الاجتهاد الوارد في كتب أصول الفقه القديمة.

ولكنه ميز الاجتهاد الجماعي، في مقولته بميزتين، التشاور بين أهل العلم، وأن تكون القضايا المطروحة مما له طابع العموم.

ومن محاسن هذه المقولة عدم حصر الاجتهاد الجماعي بما له طابع العموم ويهم جمهور المسلمين، وإنما جعله الحالة الغالبة بقوله: وخصوصا ً…وهذا مناسب جدا ً؛ لأن الاجتهاد الجماعي قد يحصل في مسألة فردية تهم جماعة معينة من المسلمين، فلا يجوز حصره في القضايا والمسائل العامة.

ومما يؤخذ علي مقولته- إضافة إلي عدم ضبطها لحقيقة الاجتهاد الجماعي- الغموض في قوله: (أهل العلم)، فماذا يقصد بهم؟ هل هم الفقهاء والمجتهدون، أو جميع العلماء من بلغ منهم رتبة الاجتهاد ومن لم يبلغها؟ وهل يدخل معهم أهل العلوم الدنيوية (الخبراء) أو لا يدخلون؟ ينبغي التحديد بدقة.

* تعريف الدكتور عبد المجيد السوسوة الشرفي:

بعد ان اختار الدكتور الشرفي تعريف ابن الحاجب للاجتهاد وهو: « استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي» واقترح أن يضاف إليه قيد (بطريق الاستنباط) ليخرج به نيل الأحكام من النصوص ظاهرا ً، أو حفظ المسائل أو استعلامها من المفتي أو بالكشف عنها في كتب العلم [41].

وأبادر إلي القول: إنه لا داعي لهذا القيد؛ لأن كل هذه الاحتمالات يمنعها أول التعريف وهو (استفراغ الفقيه الوسع).

بعد ذلك رأى أنه لابد من وضع تعريف يكون خاصا ً في دلالته علي الاجتهاد الجماعي ويميزه عن الاجتهاد الفردي الذي يوحي به التعريف السابق، فقال: الاجتهاد الجماعي هو:

« استفراغ أغلب الفقهاء الجهد لتحصيل ظن بحكم شرعي بطريق الاستناط، واتفاقهم جميعا ً على الحكم بعد التشاور» [42].

الملاحظات:

1- يمتاز هذا التعريف بالدقة والضبط إلى حد كبير فهو يراعي معايير وضع الحدود الاصطلاحية، لا سيما أنه استند إلي تعريف الاجتهاد الذي وضعه الأصولي الجهبذ (ابن الحاجب) واختاره كثير من الأصوليين بعده، وأضاف إليه ما يخص الاجتهاد الجماعي منطلقا ً من واقع المجامع الفقهية، بقوله: « واتفاقهم جميعا ً أو أغلبهم على الحكم بعد التشاور» وهذا أمر حسن.

وهذه الجملة الأخيرة يتفق فيها مع تعريف الدكتور الساوي، ومع الدكتور العبد خليل عندما بين تعريفه الذي سبقت مناقشته فلعله أفادها منها، وعبر عنه باختصار مناسب.

وهذا التعريف يمكن اعتماده، غير أني أفضل وضع تعريف للاجتهاد الجماعي ابتداء ً بحيث لا يستند كثيرا ً على تعريف الاجتهاد الذي يكاد يكون خاصاً بالاجتهاد الفردي، ولكي يكون مرنا ً يتسع لكل ما يمكن أن يكون من صور الاجتهاد الجماعي الذي ترتضيه الأمة. وهذا ما سأفعله في المطلب الثاني عند وضع التعريف المختار وشرحه.

وقد شرح الدكتور الشرفي تعريفه فبين قيوده وضوابطه بشكل واضح.

وستأتي مناقشة تعريفه في الفقرة التالية، من قبل الدكتور قطب سانو.

* تعريف الدكتور قطب مصطفي سانو:

قبل أن أسجل هنا تعريف الدكتور سانو وأناقشه أود أن أشير إلى أنه اختار في بحثه « قراءة تحليلية في مصطلح الاجتهاد الجماعي المنشود» [43] ثلاثة نماذج من تعريفات الاجتهاد الجماعي وناقشها ونقدها بشدة وهي تعريف الدكتور توفيق الشاوي وتعريف ندوة الإمارات وتعريف الدكتور عبد المجيد الشرفي. وقد سبق نقل بعض ملاحظاته ومآخذه على التعريفين الأولين وسأذكر هنا انتقاداته اللاذعة (التي لا تليق بالبحث العلمي الهادف) للتعريف الثالث (للشرفي).

يقول الدكتور سانو: وبالتأمل في هذا التعريف (أي تعريف الدكتور عبد المجيد) نجد أنه يشتمل على خلل منهجي ومخالفات واضحة للمقاييس الأصولية المعتدّ بها في صياغة التعريفات والرسوم والحدود، ويمكننا تلخيص مواطن الخلل في النقاط الآتية [44]:

وسأختصر نقاطه فيما يلي:

أولا ً: يرى أن الدكتور السوسوة (الشرفي) قد توهم ورجم بالغيب عندما اعتبر أن تعريفات الاجتهاد في كتب الأصول القديمة- ومنها تعريف ابن الحاجب الذي اختاره- تعبر عن الاجتهاد بنوعيه الفردي والجماعي, لأن ثم فروقاً جوهرية بين الاجتهادين, وليس الفرق بينهما في عدد المشاركين في العملية الاجتهادية فحسب[45].

أقول: مع أني أوافق الدكتور سانو على أن ثمة فروقاً جوهرية بين نوعي الاجتهاد غير العدد- وقد ذكر بعضها- إلا أنني لا أرى مبرراً لهذه الشدة في الانتقاد لاسيما أن الدكتور الشرفي لم يجزم بأن تعريفات السابقين تعني الاجتهاد الجماعي أيضاً, والدليل أنه اختار له تعريفاً خاصاً, كما رأينا سابقاً[46].

ثانياً: يؤخذ على هذا التعريف جنوح صاحبه بالنظر الاجتهادي إلى كونه شأناً خاصاً بالفقهاء دون سواهم من جهة, وإلى اعتباره النظر الاجتهادي الفردي والجماعي عملية مستهدفة تحصيل ظن بحكم شرعي فقط من جهة أخري, وفضلاً عن هذا فإن هذا التعريف خلا من أدنى إشارة إلي طبيعة المسائل والموضوعات التي يمكن أن يغشاها هذا النوع من النظر الاجتهادي[47].

أقول: إن لم يكن الاجتهاد خاصاً بالفقهاء, فمن سواهم يجوز له أن يجتهد اجتهاداً شرعياً؟

أما ما أخذه عليه- بجعله الاجتهاد بنوعيه يستهدف تحصيل ظن بحكم شرعي- فهو محق فيه في جانب الاجتهاد الجماعي, لأننا نسعى به للاقتراب من الإجماع ما أمكن, وبالتالي تحصيل القطع بالحكم لا الظن وإن كان الاجتهاد الجماعي يبقى في دائرة الظن الراجح ما لم يصل إلى الإجماع التام.

ولهذا أرى: إن كان إدخال عبارة (لتحصيل ظن بحكم شرعي) مناسباً في تعريف الاجتهاد الفردي, فإنه غير مناسب في تعريف الاجتهاد الجماعي, لأن هذا الأخير طريق إلى الإجماع السكوتي على أقل تقدير, إن لم نتمكن من الإجماع الصريح, بل إن بعض الباحثين المعاصرين طابق بين الاجتهاد الجماعي وبين الإجماع, كما رأينا في بعض تعريفات المجموعة الأولي.

وأما الإشارة إلى طبيعة المسائل والموضوعات التي تكون مجالاً للاجتهاد الجماعي, فليس شرطاً لازماً في التعريف, ولم يرد في تعريفات الأصوليين تحديد لمجال الاجتهاد وإنما يبحث بحثاً مستقلاً, لأن المقصود بيان ماهية العملية الاجتهادية الجماعية عندما تتم في مجالها الطبيعي.

ثالثاً: ويرى الدكتور سانو أن تعريف الدكتور الشرفي قد اشتمل على ركاكة تعبيرية واضحة وخلل في الصياغة, لأن جملة « استفراغ أغلب الفقهاء » لا تنسجم مع جملة « واتفاقهم جميعاً أو أغلبهم» [48].

أقول: لا جرم أنه يبدو التشويش والقلق واضحين في هاتين الجملتين حيث أن المراد بهما: اتفاق جميع (أغلب الفقهاء) الذين اجتمعوا لبحث المسألة أو اتفاق أغلب (أغلب الفقهاء)؛ لأن هذا التعريف- ومثله تعريف الدكتور الشاوي وتعريف ندوة الإمارات- يصدر عن واقع ما يجري في المجامع الفقهية، فهو يرصد حركتها من جهة، ويحاول الابتعاد عن تعريف الإجماع من جهة أخري، وقد يكون له شئ من العذر بهذا.

رابعا ً: أن التعريف لم يحدد المراد بمصطلح (الفقيه)، وهو مصطلح مختلف في تحديده؛ ولذلك كان حريّا ً بالباحث الابتعاد عنه؛ لأن يتعذر معرفة العلماء الذين ينطبق عليهم وصف الفقيه، وبالتالي تتعذر معرفة أغلبهم؛ ولهذا فإن إيراد الكاتب هذا القيد في تعريفه يجعله غامضا ً ومخالفاً للمقاييس الأصولية التي تقتضي الوضوح والضبط [49].

أقول: صحيح أن مصطلح الفقيه مختلف فيه لكنه مفهوم محدد في الغالب يتصوره السامع ويتبادر إلى ذهنه، وهو العالم الذي جمع شرائط معينة معروفة في كتب الأصول، يقدر بامتلاكها وتحققها فيه من استنباط الأحكام من أدلتها، ولا يشترط أن تشرح كل مصطلح آخر، حتى لو كان واضحا ً في الغالب؛ لأنك لوفعلت هذا لطالت الحدود وتمددت وحدث الخلط والتشويش بدل الإيضاح والتيين، وللدكتور سانو مآخذ أخرى على تعريف الدكتور عبد المجيد السوسوة الشرفي اكتفيت بذكر الأكثر، وهي النقاط الأربع السابقة، مع بيان موافقتى أو مخالفتي فيها.

وختم كلامه بقوله: وعلى العموم هذا مجمل لأوجه الخلل التي ترد في هذا التعريف، مما يجعله غير جدير بأن يسمى تعريفا ًللاجتهاد الجماعي المنشود [50].

أما أنا فأقول: لقد تجني الدكتور سانو بكلامه هذا، وقد كانت انتقاداته شديدة، كما رأينا.

وأما رأيي بتعريف الدكتور شرفي فقد بينته قبل صفحات عندما أبديت ملاحظاتي عليه.

والآن نأتي إلى تعريف الدكتور سانو نفسه ومناقشته:

بعد أن انتهى من مناقشته النماذج الثلاثة لتعريف الاجتهاد الجماعي خصص مبحثا ً من بحثه [51] لتصوره عن مفهوم الاجتهاد الجماعي المنشود، وبيان مرتكزاته ومنطلقاته قال في أوله: لئن كنا أوسعنا التعريفات الثلاثة السابقة جانب النقد والمراجعة، وأوضحنا ما انطوت عليه من خلل منهجي، ومخالفة واضحة للمقاييس الأصولية، فإننا نرى أن ننتقل إلى صياغة تعريف لهذا النظر الاجتهادي في ضوء الواقع الذي نعيش فيه.

ثم أورد تصوره له وهو: (بذل الوسع العلمي المنهجي المنضبط الذي يقوم به مجموع الأفراد الحائزين على رتبة الاجتهاد في عصر من العصور، من اجل الوصول إلى مراد الله في قضيته ذات طابع عام تمس حياة أهل قطر أو إقليم أو عموم الأمة، أو من أجل التوصل إلى حسن تنزيل لمراد الله في تلك القضية ذات الطابع العام على واقع المجتمعات والأقاليم والأمة)[52].

ثم شرع في بيان المرتكزات والمنطلقات التي بني عليها تصوره هذا عن الاجتهاد الجماعي المنشود في هذا العصر، فكانت ستة، أذكر عناوينها فقط، فهي بمثابة قيود التعريف وضوابطه عنده [53]، وهي:

المنطلق الأول: الاجتهاد الجماعي فكر وممارسة منهجية.

المنطلق الثاني: الاجتهاد الجماعي فكر صادر عن أهل الاجتهاد جميعا ً.

المنطلق الثالث: للاجتهاد الجماعي مجالات وقضايا خاصة به، وجعلها في ثلاثة أنواع:

أ- قضايا ومسائل قطرية.

ب- قضايا ومسائل إقليمية.

جـ- قضايا ومسائل أممية.

المنطلق الرابع: للاجتهاد الجماعي غايتان أساسيتان:

أ- التوصل إلى مراد الله في قسم من القضايا.

ب- التوصل إلى حسن تنزيل مراد الله الذي تم التوصل إليه.

المنطلق الخامس: وسائل الاجتهاد الجماعي مرنة ومتطورة.

المنطلق السادس: الاجتهاد الجماعي مطلوب في المسائل العامة مطلقاً ً.

مناقشة التعريف:

إن الدكتور قطب سانو قد بذل وسعه في نقد تعريفات الاجتهاد السابقة لتعريفه، وبيان عيوبها الفنية والعلمية، خاصة النماذج الثلاثة التي اختارها. وكان بذلك يمهد لتصوره ومفهومه الذي سكبه في تعريفه الذي أوردته آنفا ً. والآن جاء دورنا لنناقشه في تعريفه هذا.

ولنبدأ بذكر المآخذ التي أراها تعيبه مع ما فيه من مزايا كثيرة ستأتي لاحقا ً.

أولا ً: يلاحظ عليه الطول والتوسع، فليس من مزايا التعريفات الاصطلاحية المنضبطة أن تكون طويلة يصعب حفظها، فقد زاد تعريفه عن أربعة أسطر.

ثانيا ً: لم يلتزم نصا ً واحدا ً لتعريفه، فقد وضع له أربع تعريفات في ثلاثة مواضع، وكل منها يختلف كثيرا ً عن الأخرى، الموضع الأول: وهو الأخير من حيث التاريخ- تعريفه الذي وضعه في بحثه المنشور في مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية في (دبي) في العدد الحادي والعشرين، الصادر في شهر ربع الآخر سنة 1422هـ (الموافق يونيو- حزيران/2001م) وهو الذي أوردته آنفا ً، واعتمدته هنا لأنه آخر الأمر عنده. الموضع الثاني: في كتابه (معجم مصطلحات أصول الفقه) [54] وهذا نص تعريف الاجتهاد الجماعي فيه: مطلق بذل الوسع من جماعة من المؤهلين للاجتهاد، من أجل التوصل إلى حكم الله المراد في مسألة من المسائل، لها مساس بحياة عموم الأمة وارتباط بها، أو بجماعة من أبناء الأمة في قطر أو في إقليم، أو من أجل ضمان حسن تنزيل المراد الإلهي في واقع حياة الأمة، أو في واقع حياة بعض ابنائها في قطر أو في إقليم [55]. وأعاد صياغته بقالب آخر مغاير لهذا بشكل كبير، في الصفحة ذاتها، فقال: استفراغ الوسع من مجموع المؤهلين للاجتهاد وذوي الاختصاصات العلمية الدقيقة أهل المعرفة بالقضية المبحوثة من أجل تحصيل الظن بحكم شرعي في مسألة قديمة أو حديثة لها ارتباط بحياة عموم الجماعة الإسلامية أو بعض أفرادها في قطر ما أو في إقليم.

الموضع الثالث: في كتابه «أدوات النظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاصر» [56].

قال فيه: فلئن جاز لنا أن نقدم تصورا ً متواضعا ً عن مفهوم النظر الاجتهادي الجماعي المنشود في هذا العصر، فإننا سنقول: إن هذا النظر الاجتهادي الجماعي عبارة عن: العملية الذهنية العلمية المنهجية التي يقوم بها أفراد حائزون على الدرجة الوسطي من ادوات النظر الاجتهادي؛ وذلك بغية التوصل إلى فهم سديد للمراد الإلهي في مسألة أو نازلة تمس حياة مجتمع أو أهل إقليم أو عموم الأمة الإسلامية من جهة، وبغية التوصل إلى حسن تنزيل ذلك المراد الإلهي على الواقع المحلي، أو الإقليمي، او الأممي [57].

ولم ينته هذا التعريف عند هذا الحد، فله بقية تزيد عن ثلاثة أسطر.

فأي تعريف اصطلاحي هذا الذي يكتب بأربع صيغ متباينة؟ وأيها المعتمد عنده؟ لعله المتأخر من حيث الزمن، بناء علي قاعدة الناسخ والمنسوخ؟! أم جميعها معتمد ومقصود، ويري أن الفروق بينها بسيطة؟ وتكفي نظرة سريعة ليبدو البون الشاسع بين كل اثنين منها.

وإذا كان شأن الدكتور سانو- سامحه الله- من التردد والاضطراب، بحيث يضع أربع تعريفات مختلفة لمصطلح واحد، في غضون سنتين تقريبا ً فكيف يحق له أن يصف أحد التعريفات التي انتقدها بأن صاحبه قلق متردد في تعريفه، وهو لم يضع إلا تعريفا ً واحدا ً، قد يكون فيه شئ من الغموض؟

ثالثا ً: ومن الملاحظ عليه إصراره الدائم على استخدام عبارة (النظر الاجتهادي) بدلا ً من كلمة (الاجتهاد). فماذا تفيد كلمة (النظر) هنا؟ أليس الاجتهاد بحثا ً ونظرا ً أو بذلا ً للجهد في البحث والنظر؟ فعندئذ تكون كلمة (النظر) التي يضيفها بإلحاح زائدة؛ لأنها لا تفيد معنى زائدا ً، اللهم إلا نفخ الكلمات وتفخيمها لتحدث رنينا ً خاصا ً يستمتع به القارئ والسامع.

وكذلك إصراره على إضافة وتكرار كلمة (المنشود) بعد كل عبارة (نظر اجتهادي). فماذا يعنى بذلك؟ هل يريد أن يبقى (النظر الاجتهادي) خيالا ً نحلم به، ولا نصل إليه؟! أليس النظر الاجتهادي- فرديا ً كان أو جماعيا ً- واقعا ً ملموسا ً قديما ً وحديثا ً، وإن كان بحاجة إلى تطوير وتجديد بما يناسب مستجدات الحياة؟ أليس ما تقوم به المجامع الفقهية نظرا ً اجتهاديا ً جماعيا ً، تلقاه علماء الأمة بالقبول، وإن كان بحاجة إلى التكميل والتحميل؟!

وأنا لا أعيب إضافة (النظر) إلى الاجتهاد، وكذلك (المنشود) في بعض العبارات التي تستدعي ذلك، ولكن أعيب عليه هذه الملازمة بينها في جميع جمله، حتى في عنوان كتابه (أدوات النظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاصر)، فهو أشبه بالدعايات التي يبالغ فيها.

رابعا ً: فيه حشو زائد لا ضرورة له في التعريف، ويمكن جعله في شرحه ومن ذلك جملة (الذي يقوم به مجموع الأفراد الحائزين علي رتبة الاجتهاد في عصر من العصور) فكان يكفيه عن ذلك كله كلمة (الفقهاء). وكذلك تكرار جملة (قضية ذات طابع عام تمس حياة قطر أو إقليم أو عموم للأمة) وكان يكفيه ذكرها مرة واحدة في آخر التعريف. فمثله في هذا الحشو والتكرار، كمثل معلم يريد أن يفهم متعلمين مبتدئين.

إن التعريفات الاصطلاحية توضع للمتخصصين، فلا ضرورة فيها للتوسع والتكرار، كما أن الإيجاز الشديد مرفوض لأنه يورث الغموض.

خامسا ً: في قوله: (من اجل الوصول إلى مراد الله) مجانبة للدقة والصواب؛ لأن المجتهد- فردا ً كان أو جماعة- لا يدري ما مراد الله تعالي على جهة الجزم، ما دامت المسألة اجتهادية، وفيها مجال لتعدد الأنظار، وهذا بناء على مذهب الـمخطئة، الذي هو مذهب جمهور الفقهاء والأصوليين، كما حققته في رسالتي للماجستير التخطئة والتصويب في الآراء الاجتهادية [58] الذين يرون أن الحق في كل مسألة اجتهادية واحد لا يتعدد، فمن وافقه من المجتهدين فهو المصيب، ومن خالفه فهو مخطئ، ولكنه مأجور بأجر واحد على اجتهاده، ومعذور من حيث العمل بهذا الخطأ؛ لأننا لا ندري ما حكم الله فيها علي جهة اليقين، ومستندهم الحديث الشريف « إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد» [59].

والدليل الصريح الذي يرد علي عبارته (الوصول إلى ما أراد الله) حديث « فإذ حاصرتم حصنا ً أو مدينة فطلبوا منكم أن تنزلوهم على حكم الله، فلا تنزلوهم فإنكم لا تدرون ما حكم الله فيهم» [60].

* مزايا تعريف الدكتور قطب سانو:

لا يضير تعريف الدكتور سانو تأخير ذكر المزايا عن ذكر المآخذ؛ فإن واضعه اجتهد فيه ليجدد في صياغته ويوسع من دائرته، وهو يدرك أن تعريفه محاولة من محاولات سابقة ولاحقة للوصول إلى مفهوم الاجتهاد الجماعي المنشود، وسأكتفي ببيان أهم ميزتين أراهما فيه؟

الأولى: لعل أهم ميزة لهذا التعريف تقييده لبذل الوسع- الذي هو عمود الاجتهاد- بقوله: « بذل الوسع العلمي المنهجي المنضبط» وهذا أمر حسن تستدعيه طبيعة الحياة المعاصرة العلمية والثقافية، حيث أصبحت العلوم أكثر تمايزاً وضبطًا ومنهجية, لتؤدي أهدافها المرسومة لها, وعلم الاجتهاد[61] أحق بهذه المنهجية وهذا الضبط, لسببين:

الأول: لأنه عظيم الثمرة, فهو يثمر الأحكام الفقهية الشرعية التي توجه سير المسلمين في حياتهم, لبيان ما يجوز فعله وما لا يجوز, ما يحل لهم وما يحرم عليهم.
الثاني: لأننا نفتقد في زماننا أمثال الأئمة المجتهدين الأوائل, من حيث الملكة الفقهية, ومن حيث القدرة على جمع العلوم المتنوعة.
لذلك يلزم العلماء الباحثين المجتهدين أن يسيروا- باجتهاداتهم- وفق منهج علمي منضبط،  كي لا ينحرف اجتهادهم عن مساره. فالقيد الجديد الذي أدخله على التعريف أراه ضروريًّا, وسيأتي في التعريف المختار.

الثانية: ومن مزاياه أيضًا إشارته إلى غايتي الاجتهاد وهما: إما استنباط حكم لمسألة طارئة, وقد عبر عنه بــ (الوصول إلى مراد الله في القضية… ), وإما حسن تطبيق حكم شرعي معروف بنص أو اجتهاد سابق على واقعة أو نازلة, وعبّر عنه بـــ (التوصل إلى حسن تنزيل مراد الله في تلك القضية) وبينت في ملاحظاتي عليه عدم الدقة في هذا التعبير.

وقد يكون في ذكر هاتين الغايتين للاجتهاد- ويمكن التعبير عنهما بالاجتهاد في الاستنباط والتطبيق – أهمية في اعتبار الاجتهاد التطبيقي من صلب الاجتهاد, ولا يقل أهمية عن الاجتهاد الاستنباطي,وقد أولاه الشاطبي اهتمامًا كبيرًا[62].

المطلب الثاني

التعريف المختار وبيان ضوابطه

لعله من المفيد للباحث والقارئ- قبل أن أضع التعريف المختار عندي- أن ألخص عيوب ومزايا الأقوال والتعريفات السابقة للاجتهاد الجماعي, حتى نستفيد من المزايا والمحاسن بجمعها في تعريفنا المختار, ومن العيوب والمآخذ بمنعها من الدخول فيه, فيأتي التعريف جامعًا مانعًا على ما نأمل, إن شاء الله.

وعليه فإن هذا المطلب سيكون في مدركين:
الأول: لتلخيص محاسن ومثالب التعريفات السابقة ووضع التعريف المختار في ختامها.

الثاني: لشرح قيود التعريف المختار وضوابطه.

 

المدرك الأول؛ ينقسم إلى جملتين:

الجملة الأولى – خلاصة الملاحظات على التعريفات السابقة (المزايا والعيوب):

 

أولاً- أهم المزايا التي تستخلص من مجموع المقولات والتعريفات الواردة في المطلب الأول:

1-الإيجاز[63], وهو مطلوب في جميع التعريفات, بشرط عدم الإخلال بالمعنى.
2-تحديد صفة القائمين بهذا الاجتهاد[64], وهو قيد (الفقهاء والمجتهدين).

3-اشتراط التشاور[65] بين القائمين بالاجتهاد الجماعي, وهو شرط قرين الجماعية.
4-تقييد بذل الوسع بأن يكون وفق منهج علمي منضبط[66].
5-تحديد الحالة التي يتم بها التشاور, وهي المجلس الخاص, كالمؤتمرات والندوات الفقهية المنظمة[67].

6-تحديد طبيعة المسائل التي يتم فيها الاجتهاد الجماعي, وهي المسائل الظنية[68].

ثانيًا- المآخذ والعيوب:

1-الإطالة[69]. وهو عيب كبير في تعريف المصطلحات في جميع العلوم؛ لأنها توضع لتحفظ من قبل الدارسين غالبًا, وتطويلها يجعلها عسيرة الحفظ, وعسيرة على الفهم.

2-بدء التعريف بالجنس (اتفاق)[70], وهذه الكلمة لا تناسب الاجتهاد – الذي هو بذل الجهد – بل هي ألصق بالإجماع . والاجتهاد بنوعيه الفردي والجماعي باب قد يوصل إلى الإجماع وقد لا يوصل وهو الغالب.
وكذلك البدء بكلمة (التشاور)[71]؛ لأن التشاور شرط في الوصول إلى الجماعية في الرأي, وليس جنسًا في التعريف.
3-عدم تحقيق شرائط التعريف المنطقية[72].
4-الاضطراب والغموض الذي اكتنف كثيرًا من المقولات وبعض التعريفات, وقد سبقت الإشارات إليه في مواضعها.

 

الجملة الثانية – التعريف المختار:

بعد أن أمعنت النظر[73] في مزايا التعريفات السابقة وفي عيوبها, التي لّخصتها آنفًا أقترح التعريف التالي للاجتهاد الجماعي الذي أرى أنه تعريف جامع مانع, فأقول:

«هو بذل جماعة من الفقهاء المسلمين العدول جهودهم – كلٌّ على حدة – في البحث والنظر وفق منهج علمي أصولي, ثم التشاور بينهم في مجلس خاص, لاستنباط أو استخلاص حكم شرعي مناسب في زمانهم, لمسألة شرعية ظنية».

المدرك الثاني: بيان قيود التعريف المختار وضوابطه:

 

ويتم هذا البيان من خلال النقاط الست التالية ثم شرحها:

1-الاجتهاد الجماعي بذل لجهد جماعي, أو هو مجموع لجهود جماعة من الفقهاء.
2-الاجتهاد الجماعي لابد أن يقوم به فقهاء مسلمون عدول.

3-الاجتهاد الجماعي بحث ونظر, وفق منهج علمي أصولي.

4-الاجتهاد الجماعي لابد أن يقوم على مبدأ الشورى.
5-الغاية من الاجتهاد الجماعي استنباط أو استخلاص حكم شرعيّ, يحقق مقاصد الشريعة في المسألة محل الاجتهاد, في زمانها.
6-الاجتهاد الجماعيّ – كالاجتهاد الفرديّ – لا يكون إلا في مسألة شرعيّة ظنيّة.


أولاً- الاجتهاد الجماعي بذل لجهد جماعي, أو مجموع لجهود جماعة من الفقهاء:

 

رأينا عدم مناسبة بدء التعريف بكلمة (اتفاق)؛ لأن الاجتهاد ليس اتفاقًا, وكذلك عدم مناسبة البدء بكلمة الشورى أو التشاور؛ لأن الاجتهاد ليس تشاورًا في ذاته, وإنما التشاور شرط لابد منه للوصول إلى الرأي الجماعي, ولهذا أدخلناه في تعريف الاجتهاد الجماعي, ولا يصح إدخاله في تعريف الاجتهاد الفردي أو الاجتهاد بشكل عام.
وبناءً عليه فليس هناك كلمة نجعلها جنسًا في التعريف إلا (بذل الجهد) أو (استفراغ الطاقة), وقد اخترت الأولى؛ لأنها ألصق العبارات بلفظ (الاجتهاد) من حيث المعنى اللغوي.
ومعلوم أن التعريفات الاصطلاحية ينبغي أن تكون وثيقة الصلة بالمعاني اللغوية لمفرداتها؛ لأنها المتبادر للذهن عند السماع.
وقولنا: (كلٍّ على حِدَة) يوضح أمرًا مهمًّا في هذا النوع من الاجتهاد؛ وذلك أن صفة الجماعية فيه لا تأتي أبدًا من اجتماع الاجتهادات الفردية في عقل واحد, وهذا من المستحيل عادة, ولا تأتي أيضًا من اجتماع المجتهدين في مجلس ثم طرح المسألة المعينة وبدء التفكير الجماعي فيها في أثناء المجلس, فهذا الأمر يتعذّر حصوله في الواقع, وخاصة في زماننا؛ لأن كل واحد من الفقهاء يحتاج إلى فرصة كافية ليبحث في المسألة المطروحة عليه, بالرجوع إلى رصيده العلمي والثقافي ومراجعة كتب التفسير والحديث وأصول الفقه والفقه وغيرها, بل إلى إعداد بحث كامل أحيانًا فيها, كما في المسائل والموضوعات التي تعرض على أعضاء المجامع الفقهية حيث تكتب البحوث المتعددة في الموضوع الواحد, وهذا قد يحتاج إلى شهر أو شهور – وكلما تعقدت المسائل احتاجت إلى زمن أطول – ولهذا نرى أن اجتماعاتهم تكون سنوية في الغالب, وهناك مسائل لا ينتهي البحث فيها بسنة أو سنتين, فنجدهم يرجئون البتّ فيها من دورة إلى أخرى.
أما صفة الجماعية فتأتي من الاجتماع للتشاور وتبادل وجهات النظر بتلاوة خلاصات بحوثهم وتلخيص الآراء, ثم الصياغة الجماعية لرأي الجميع أو الأغلبية. فالعمل الجماعي يأتي متأخرًا عن الاجتهادات الفردية. إذن الاجتهاد عمل فردي في أصله, ولا يصبح جماعيًّا إلا بما ذكرنا؛ ولذا أرى وصف الاجتهاد بالجماعي يكاد يكون من باب المجاز, والله أعلم.

ثانيًا: الاجتهاد الجماعي لابد أن يقوم به فقهاء مسلمون عدول:

فيشترط في كل من يتصدى للاجتهاد بشكل عام, والاجتهاد الجماعي بصفة خاصة أن يتصف بهذه الصفات الثلاث, الفقه, الإسلام, العدالة. هذا إضافة إلى البلوغ والرشد, وإضافة للشروط العلمية الخاصة بالمجتهد.

أما بيان لزوم هذه الصفات بإيجاز, فكما يأتي:
-الأولى صفة الفقيه: لم أختر صفة (المجتهد) كي لا تقع فيما يسمى بالدور في المنطق, وهو من عيوب التعريفات. ولم أختر صفة (العالم) لأنها عامة, تشمل عالم العلوم الشرعية (الدينية) وعالم العلوم الدنيوية, ثم لا يلزم أن يكون العالم قد بلغ رتبة الاجتهاد التي تؤهله للخوض في استنباط الأحكام.
أما صفة (الفقيه) فأدل على من يتأهل لمنصب الاجتهاد بمرتبة من مراتبه المعتبرة[74].
ويمكن بحسب حال زماننا – وكما هو الشأن في العصور المتأخرة بعد القرن الرابع الهجري أيضًا – قبول اجتهاد المرتبتين الأولى والثانية من المجتهدين المقيدين, لا سيما أن اجتهاداتهم سيقوّي بعضها بعضًا من خلال مجلس التشاور الذي يعقدونه, ثم إنّ هذا التقسيم لمراتب المجتهدين اصطلاحي دراسي وضعه أصوليون في القرنين الخامس والسادس الهجريين, واختلفوا فيه أيضًا, ولم يرد فيه نص من قرآن أو سنة أو إجماع أو قول صحابي, ولم يكن هذا التمايز واضحًا بين مجتهدي الصحابة والتابعين, وإن كنا نعلم قطعًا أن مجتهدي الصحابة لم يكونوا على درجة واحدة, وأن مجتهدي التابعين لم يكونوا في مرتبة واحدة, ولكننا قبلنا اجتهاداتهم كلها على الجملة, وأخذ بها الأئمة المجتهدون وصارت متفرقة في مذاهبهم.

وبناء عليه فإن صفة الفقيه كافية للدلالة على كل من له نصيب معتبر من الاجتهاد ويرتضيه جمهور المسلمين, لا سيما أنني أميل إلى قبول الشروط المخففة لاعتبار الاجتهاد في العالم, وهذا ما يميل إليه أكثر العلماء في العصر الحاضر؛ لصعوبة توفر الشروط التي وضعها الأصوليون فيه كاملة.
-الصفة الثانية «صفة الإسلام»:

مع أن اشتراط الإسلام في الفقيه معروف في الشروط العامة إلا أنه يلزم تأكُّدُه[75] هنا؛ لإخراج الفقيه غير المسلم, بناء على احتمال أن يحصّل شخص ما غير مسلم مؤهلات الاجتهاد, وإن كان احتمالًا ضعيفًا, إذ كيف يُقبل الاجتهاد في الشرع من إنسان لا يؤمن به؟

وإن قال قائل: إن صفة الإسلام تشمل المسلم المؤمن والمسلم المنافق, فهل نقبل الاجتهاد من منافق لو افترضنا تحصيله مؤهلات الاجتهاد؟.

والجواب في اشتراط الصفة الثالثة (العدالة).

-الصفة الثالثة «العدالة»:

وهي تعْني: هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة –جميعًا- حتى تحصل ثقة النفس بصدقه[76]. وهذه الصفة لا تكون في المنافق أبدًا؛ لأنّ لأن الكذب من خصاله التي عدّدها الرسول – غ – في حديثه الشريف: «أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا, ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا اؤتمن خان, وإذا حدّث كذب, وإذا عاهد غدر, وإذا خاصم فجر»[77].
قال الزركشي: (وشرط الأستاذ أبو منصور والغزالي وإلكيا وغيرهم العدالة بالنسبة إلى جواز الاعتماد على قوله (أي المجتهد) قالوا: وأما هو في نفسه إذا كان عالمًا فله أن يجتهد لنفسه ويأخذ باجتهاده لنفسه. فالعدالة شرط لقبول الفتوى, لا لصحة الاجتهاد. وقضية كلام غيرهم أن العدالة ركن. وقال الماوردي والروياني وابن السمعاني: إن قصد بالاجتهاد العلم صح اجتهاده وإن لم يكن عدلًا, وإن قصد به الحكم والفتيا كانت العدالة شرطًا في نفوذ حكمه وقبول فتياه؛ لأن شرائط الحكم أغلظ من شرائط الفتيا. قال ابن السمعاني: لكن يشترط كونه ثقة مأمونًا, غير متساهل في أمر الدين. قال: وما ذكره الأصحاب من عدم اشتراط العدالة مرادهم به ما وراء هذا)[78].
والخلاصة: أن صفات (الفقيه, المسلم, العدل) قيود يخرج بها اجتهاد غير الفقيه (الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد على نحو ما بينا) واجتهاد غير المسلم, واجتهاد غير العدل, سواء أكان منافقًا أم فاسقًا, أم مبتدعًا.

ثالثًا: الاجتهاد الجماعيّ بحث ونظر وفق منهج علميّ أصوليّ:
إن الاجتهاد الفقهي الشرعي – فرديًّا كان أو جماعيًّا – ليس أيّ بحث وأيّ نظر. وإنما ينبغي أن يكون منضبطًا بمنهج علمي له أصوله وقواعده, وهذه الأصول والقواعد تُستمدُّ في معظمها من علم أصول الفقه, الذي بدأ تأسيس بنيانه الإمام الشافعي ولا زال ينمو ويتسع في القرنين الثالث والرابع الهجريين حتى اكتمل, وإن كان قابلًا للترميم والتجديد في كماليّاته لا في جوهره, في كل عصر, بما يناسب ظروفه وتطور وسائله.

وهناك أصول وقواعد يحتاجها المجتهد من العلوم الأخرى, خاصة الإنسانية منها كعلوم التربية والاجتماع والسياسة والاقتصاد, وعلم الإحصاء من الرياضيات, وربما احتاج إلى معرفة المبادئ الطبية العامة.
ورب سائل يسأل: من أين جئت بهذا القيد (وفق منهج علمي أصولي), ولم يرد في أي تعريف للاجتهاد في القرون الخوالي كلها؟ ومن ناحية أخرى: هل كان المجتهدون السابقون يجتهدون بغير منهج علمي؟! والجواب عن هذين السؤالين كما يلي: ألم يكن فقهاء الصحابة وفقهاء التابعين يجتهدون, ولم يقل – أو يكتب – أيٍّ منهم القواعد والأصول التي كان يتبعها في اجتهاده, إلى أن جاء الشافعي – رحمه الله – فوضع نواة علم أصول الفقه في رسالته المشهورة, ثم تتابع العلماء بعده في تقعيد وتأصيل هذا العلم الجليل إلى أن أصبح عند بعضهم العلم الأهم لتحصيل منصب الاجتهاد[79]. فهل ألغى عمل هؤلاء العلماء اجتهاد من قبلهم, بحجة أنهم لم يضعوا تعريفًا للاجتهاد ولم يسجلوا القواعد اللغوية والأصولية, ولم يكتبوا عن الروايات والأسانيد وغيرها؟
ثم إن الإمام الشافعي قَصَر الاجتهاد على القياس, وقال: هما اسمان لمعنى واحد[80]. ثم جاء مَنْ بعده ووسع معنى الاجتهاد, فهل أثر ذلك على اجتهادات الشافعي فأبطلها أو أنزل من قدرها؟!
إذن فتطور علم أصول الفقه وتبلور قواعده, لا يضير اجتهادات السابقين ولا يحط من قدرها, فقد يدخل فيه أمور تحسِّنه في عصر من العصور كاشتراط معرفة علم الكلام للمجتهد في فترة ما[81], ثم يتغيّر الزمان وتنتفي الحاجة إليه, ويحتاج الاجتهاد إلى أمور جديدة, وهكذا دواليك, وتبقى أمور ثابتة لا تتغير بتغيير الزمان وتبدل المكان كالعلم بالقرآن والسنة, وإن اختلفت وسائل تحصيل هذا العلم بهما.

وكذلك عصرنا الحاضر بما يحمله من متغيرات كثيرة في جميع مناحي الحياة, وبما أفرزه من مشكلات ومعضلات وأزمات, وبما وسّعه في العلوم كافة وما شقّقه منها, يجعلنا نعيد النظر في اصطلاحات السابقين وما وضعوه من قيود وشروط, فنعدّل فيها بما يتناسب وأحوال عصرنا, ومن ذلك تعريف الاجتهاد بشكل عام, والاجتهاد الجماعي بشكل خاص, فهو سمة من سمات هذا العصر, وهو يتطور عامًا بعد عام.

ولما ذكرنا من ظروف هذا العصر فإني رأيت أن اشتراط (المنهج الأصولي) ضروري للمجتهد فرديًّا وجماعيًّا. وقد سبقني إلى إدراج هذا القيد في التعريف الدكتور قطب سانو[82], ولم أجده عند غيره من الباحثين.

ومما قاله في القيد الذي جعله المنطلق والمرتكز الأول لتعريفه: «وقد عبرنا عن هذا المنطلق بالتنصيص على كون الاجتهاد الجماعي المنشود بذلًا للوسع العلميّ المنهجي المنضبط, ويعني هذا كون الاجتهاد الجماعي همًّا فكريًّا توجيهيًّا بالدرجة الأولى, كما يعني كونه شأنًا ضروريًّا لتسديد حركة الحياة وتوجيهها وفق المنهج المراد لله جل شأنه, وفضلًا عن ذلك, فإنه فكر منهجي موجه هادف إلى تحقيق غايتي الاجتهاد المتمثلين في حسن فهم المراد الإلهي, وحسن تنزيل ذلك المراد في الواقع. وبناء على هذا فإن الاجتهاد في تصورنا ليس استفراغًا آليًّا للطاقة, ولا بذلًا غير منظم ولا منضبط للوُسع, ولكنه في حقيقته تفاعل علمي منهجي موجّه ومنضبط بين العقل البشري والوحي الإلهي (الكتاب والسنة) من جهة, وبين العقل البشري والواقع المعيش من جهة أخرى, وذلك سعيًا إلى إحداث تواصل وترابط بين هذه الثلاثة النص, والعقل, والواقع»[83].

رابعًا: الاجتهاد الجماعي لابد أن يقوم على مبدأ الشورى:

الشورى – في أبسط تعريفاتها – تعني: تداول الآراء حول مسألة ما للوصول إلى الحل الأمثل.

وعرّفها بعضهم بأنها: طلب آراء أهل العلم والرأي في قضية من القضايا, التي لم يرد فيها نص صريح مباشر من الكتاب والسنة[84].

وقد أمر الله تعالى بها نبيَّه –صلى الله عليه وسلم – بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ]آل عمران : 159[ أيّ تعرف على آرائهم في سياسة الأمة في الحرب والسلم وشئون الحياة الدنيوية تطييبًا لقلوبهم, وليُستنَّ بك, وكان-صلى الله عليه وسلم – كثير المشاورة لأصحابه. قال الحسن رضى الله عنه: قد علم الله أن ما به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستنّ به من بعدهم[85].

وقال أبو هريرة – رضى الله عنه – : لم يكن أحد أكثر مشاورة من رسول الله –صلى الله عليه وسلم –[86], ووقائع مشاوراته كثيرة مشهورة في سيرته[87].
وللشورى فوائد كثيرة, وأهمها: تقدير المستشارين, وإنضاج بحث الرأي المقترح بعد تقليب وجهات النظر, واتحاد الناس في مسعى واحد واختيار الرأي الأصوب[88].

وهل كانت الشورى ملزمة وواجبة على النبي – ج – أو من باب الندب تطييبًا لقلوبهم؟ اختلف الفقهاء على قولين, والظاهر القول الأول؛ لما روى الإمام أحمد أن الرسول – ج- قال لأبي بكر وعمر: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» وروى ابن مردويه عن على بن أبي طالب قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العزم, فقال: «مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم»[89].

والتشاور في الأمور, ولا سيما المهمة, مستحب في حق الأمة بإجماع العلماء[90]؛ لقوله تعالى في الثناء على المؤمنين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ ]الشورى: 38[[91].

وإذا كان هذا شأن الشورى والتشاور من حيث طلبُه وأهميتُه, في الأمور عامة, وبين المؤمنين كافة, فإنَّ أولى الناس بهذا التشاور هم فقهاء الأمة وأهل الحل والعقد فيها, الذين يستنبطون الأمور ويستخرجون الحلول ويسير الحكام والمحكومون على هداهم, الذين هم عُدّة الأمة وذخيرتها في الملمّات والأزمات, وعند وقوع النوازل والمعضلات. وقد كان الخلفاء الراشدون – لا سيما الشيخين أبي بكر وعمر- رضى الله عنهم – إذا نزلت بهم نازلة, لم ينزل بها نصّ كتاب ولم تمضِ فيها سنة بينة من رسولهم -صلى الله عليه وسلم– كانوا يجمعون لها رءوس الصحابة, ويجعلونه شورى بينهم, فيحكمون بما يتفقون عليه جميعًا, أو تقول به أغلبيتهم, اقتداء برسولهم -صلى الله عليه وسلم – الذي درّبهم على التشاور, ووجّههم إليه.

قال الشيخ العلامة مصطفى الزرقا – رحمه الله -: وهذه الشورى هي الطريقة التي كان يلجأ إليها الخلفاء الراشدون في المشكلات العلمية والسياسية كلما حزبهم أمر. وقد كان لعمر بن الخطاب شورى خاصة وشورى عامة.
-فشوراه الخاصة كان تختص بعِلْيَةِ الصحابة من المهاجرين الأوّلين وكبار الأنصار, وهؤلاء يستشيرهم في صغير أمور الدولة وكبيرها.

-وأما الشورى العامة فقد كان يجمع فيها ذوى الرأي من أهل المدينة أجمعين في الأمر الخطير من أمور الدولة, فيجمعهم في المسجد النبوي, وإذا ضاق بهم جمعهم خارج المدينة, وعرض عليهم الأمر ورأيه فيه[92].

ولئن كان الرسول -صلى الله عليه وسلم – يقتصر في مشاورته على أمور السياسة في الحرب والسلم وفي مصالح الحياة الدنيوية, في الغالب[93]؛ استغناء فيما يأتيه من الوحي؛ فإن الحكّام والعلماء من بعده بحاجة ماسة إلى التشاور في كلّ قضية ذات بال, ليس فيها نصُّ كتاب أو سنّة, وحتى فيما فيه نصوص محتملة فهم بحاجة إلى اختيار أنسبها في العمل والتطبيق, وهو ما يسمى »تحقيق المناط« أو حسن تنزيل الحكم الشرعي المعروف على المسألة الواقعة.

وكلما كانت المسائل متشابكة, كثيرة التعقيد والتشعيب, كثيرة الأشباه والنظائر, كانت المشورة فيها بين الفقهاء أوجب وألزم, وهذا لا يتم إلا إذا كان اجتهادهم لها جماعيًّا, ومن أجل هذا كان التشاور من أهم القيود والضوابط في تعريف الاجتهاد الجماعي, وقد رأينا كيف أجمعت التعريفات كلها على اشتراطه, وهذا ما فعلناه في تعريفنا المختار أيضًا.

وأما تقييدنا هذا التشاور بكونه «في مجلس خاص», فلأن اجتماع المجتهدين جماعيًّا بأي شكل من أشكال الاجتماع, في مؤتمر أو ندوة أو مجلس هيئة أو منظمة أو مؤسسة شرعية, أمر ضروري لتحقيق التشاور على الوجه الصحيح, بحيث يخاطب كل عضو مجتهد سائر الأعضاء كفاحًا, ويستمع منهم مباشرة, ويلتقي كل منهم الآخرين لقاء حواريًّا, يعطي ويأخذ ويردُّ عليه, فلربما تراجع عن رأي أو عدّل فيه من خلال ذلك المجلس, فيكون ما يصدر عنه آخر الأمر عنده في المسألة المعروضة.

أما تجميع آراء المجتهدين بأي وسيلة أخرى غير الشفهية الحضورية, كالمراسلة أو الاتصال الهاتفي ونحوه, فإني أرى أنه غير مُجد في تحقيق معنى التشاور.

إذن لابُد من مجلس خاص يجتمع فيه المجتهدون جماعيًّا, وليُسمى هذا المجلس بعد ذلك ما يُسمى ولا يضر غيابُ بعضهم لظروف قاهرة أو طارئة, فالغائبون يمكن استدراك آرائهم بالمراسلة وغيرها.

وهذا ما تفعله المجامع الفقهية ومؤسسات الفتوى الشرعية الجماعية في وقتنا الحاضر, فلهم اجتماعاتهم التشاورية الدورية السنوية أو الشهرية أو الأسبوعية, ونعم ما يفعلون, يقول العلامة الزرقا: (لذلك أصبح من مصلحة الفقه الإسلامي نفسه أن يقوم فيه اجتهاد من نوع آخر, هو اجتهاد الجماعة على طريقة الشورى العلمية في مجامع فقهية تضم فحول العلماء من مختلف المذاهب والأقطار, ليفُوا حاجة العصر من هذا الفقه الإسلامي الفيّاض الذي لا ينضب معينُه)[94].

خامسًا: الغاية من الاجتهاد الجماعي إما استنباط وإما استخلاص حكم شرعي يحقق مقاصد الشريعة في المسألة محلِّ الاجتهاد:

لكل عمل جادّ غاية أو غايات يقصد إلى تحقيقها, والاجتهاد الجماعي من أعظم الأعمال أهمية وأثرًا, فما الغاية الأساسية التي يتغيّاها؟

إن هذه الغاية يشترك فيها الاجتهاد الجماعي والاجتهاد الفردي, وهي استنباط الحكم الشرعي للمسألة المطروحة, ويدل عليها قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ]النساء: 83[.

واستنباط الشئ: استخراجه وإظهاره بعد خفاء[95].

والاستنباط في الاصطلاح الشرعي:

استخراج المعاني من النصوص, فيما يعضُل ويُهمُّ, بفرط الذهن وقوة القريحة[96].

ولما كان الاستنباط في عرف الأصوليين خاصًّا باستخراج حكم جديد لمسألة طارئة, بالقياس أو الاستحسان أو الاستصلاح أو غيرها, فإن انتقاء اجتهاد سابق من بين اجتهادات عدة لتطبيقه على الواقعة المعروضة لمناسبته لها – وهو ما يستطيع فعله أيضًا مجتهدو التخريج والترجيح والفُتيا, كما مرَّ سابقًا – يمكن أن نطلق عليه (استخلاص الحكم الشرعي) ليكون متممًا لاستنباط الحكم الشرعي, في الاجتهاد, ولهذا أدرجت كلمة (استخلاص) في التعريف لتدل على هذا المعنى, وإن كنت أستشف من معنى الاستنباط الوارد في الآية الكريمة {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أنها عامة تشمل استخراج الحكم الجديد الذي لا سابق له, وتشمل اختيار اجتهاد سابق تنزيله على واقعة طارئة, وهذا ما يحدث في كثير من المسائل التي تُعرض على المجامع الفقهية وهيئات الفتوى الشرعية, فإنهم في الغالب يتخيرون لها قولًا من أقوال الأئمة والمجتهدين السابقين, يرون بدلائلهم الخاصة أنه الأصح للعمل به في ظروف معينة.

بل إنّ الأئمة المجتهدين كانوا يتخيرون من أقوال الصحابة عند تعددها في المسألة الواحدة, وهو ما يسمى (العمل بقول الصحابي) عند الأصوليين, وكان مُقدّمًا عند بعضهم على الاجتهاد نفسه, كما هو شأن مذهب الإمام أحمد[97].

وهذا التخيّر الذي سميناه (استخلاصًا) – وكذلك الاستنباط – ليس عشوائيًّا وليس اتباعًا للهوى, وإنما يهدف إلى تحقيق مقصد أو أكثر من مقاصد الشريعة الإسلامية المعروفة.

ومقاصد الشريعة الخمسة وهي: (حفظ الدين, وحفظ النفس, وحفظ العقل, وحفظ النسل, وحفظ المال) وما يتفرع عنها, قررها العلماء من خلال استقراء نصوص الشريعة في القرآن والسنة؛ لأن الشريعة من وضع الحكيم الخبير – سبحانه وتعالى – جاءت لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل, وعلى المكلّف أن يسعى إلى تحقيق ما أراده الله تعالى له. وأوّل من أصّل هذا الأمر تأصيلًا وجعله شرطًا في مؤهلات المجتهد هو الإمام الشاطبي في كتابه القيّم »الموافقات في أصول الشريعة«[98].. ثم درج بعده كثير من العلماء على هذا الأمر, واهتم به العلماء المعاصرون اهتمامًا كبيرًا, فقالوا: لابد للمجتهد من العلم الكافي بمقاصد الشريعة, لتكون نصب عينيه عند الاستنباط وعند التطبيق[99].

سادسًا: الاجتهاد الجماعي – كالاجتهاد الفردي – لا يكون إلا في مسألة شرعية ظنية:

هذا القيد في التعريف يحدد مجال الاجتهاد الجماعي, وهو لا يختلف فيه عن الاجتهاد العام, وقد مرّت تعريفات عدّة له, ولم يبيّن أيٌّ منها ضابطًا يحدد مجال الاجتهاد صراحة, وإنما أشارت إليه بعض التعريفات إشارة, وذلك في مثل عباراتهم (استفراغ الوسع في طلب الظن بشئ من الأحكام الشرعية..) عند الآمدي[100]. و(استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي) عند ابن الحاجب[101]. والإشارة في كلمة (الظن) على وجه التحديد؛ لأنهم لما جعلوا القصد من الاجتهاد طلب الظن أو تحصيله دلّ على أنهم يعتقدون أنه يدور في دائرة الظنيات ولا يتعدًّاها إلى القطعيات, ولهذا توجّه النقد إلى تعريف الغزالي للاجتهاد بأنه (بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة)[102] إذ جعل القصد منه طلب العلم وهو درجة فوق الظن وقلّما تحصل بالاجتهاد, بل أرى أنها لا تحصل أبدًا إلا إذا انقلب الاجتهاد – فرديًّا كان أو جماعيًّا – إلى إجماع صريح, وهيهات أن يحصل.

من أجل هذا رأيت من المناسب جدًّا إضافة هذا القيد, وهو حصر مجال الاجتهاد بالمسائل الشرعية الظنية؛ لإخراج ما ليس من المسائل الشرعية كاللغوية والعقلية, مثل مسائل الفلسفة والمنطق وما يشتق منها, والحسية كما في العلوم التطبيقية كالفيزياء والكيمياء والطب ونحوها.

ولم أضف وصف (العملية) إليها كما جاء في تعريف الزركشي (بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي..)[103]؛ لأنني أرى أن الاجتهاد الجماعي له الحق في أن يتجاوز المسائل العملية, كالعبادات والمعاملات, إلى مسائل علمية نظرية[104], كالقضايا الفكرية والاعتقادات, مما هو قريب أو متفرع من أصول العقيدة, كما نرى ذلك في نماذج لاجتهادات المجامع الفقهية الجماعية, مثل القرارات ( 1 – 4) في الدورة الأولى لمجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في حكم كل من الماسونية والشيوعية والقاديانية والبهائية, والانتماء إليها. ومثل قرار رقم (7) من الدورة السابعة لمجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي, بشأن الغزو الفكري, ومثل كثير من الفتاوى الجماعية في أوقاف دولة الكويت, التي صدر منها حتى الآن سبعة مجلدات, الكتاب الأول في كل منها في مسائل العقائد؛ فهُمْ ينفذون الاجتهاد التطبيقي في هذا المجال, وهو حسن تنزيل أو تطبيق أحكام الشريعة الثابتة على الوقائع الطارئة, ولا يجتهدون اجتهادًا استنباطيًّا؛ لأن هذا لا يكون في القطعيات كالعقائد الإيمانية.

ويخرج بوصف (الظنية) المسائلُ القطعية المعلومة من الدين بالضرورة, وأصولُ الشريعة, فلا يصح الاجتهاد الاستنباطي ولا اختلاف الرأي فيها.

هذا , والله تعالى أعلم.

 


[1] وهو العدد (62) من سلسلة كتاب الأمة، التي تصدر كل شهرين عن وزارة الأوقاف في دولة قطر.

[2] منشور في العدد (21) من مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية – في دبي.

[3] الصواب أن نقول: اهتم للأمر. والخطأ الشائع تعدية (اهتم) بالباء.

[4] مثل: مجمع الفقه الإسلامي في الهند، أنشئ في (نهاية عام 1988م)- المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، الذي يعنى بالأحكام الشرعية الخاصة بالجاليات والأقليات الإسلامية في أوربا، أنشئ عام (1417هـ – 1997م) ويرأسه الدكتور يوسف القرضاوي.

[5] كما في اللجنة الدائمة للإفتاء في الرياض التابعة لهيئة كبار العلماء، وقطاع الإفتاء في وزارة أوقاف الكويت، وغيرهما، وسيتم الحديث عنها بالتفصيل فيما بعد.

[6] مثل: بنك دبي الإسلامي، وهو أول بنك إسلامي متكامل، أسس عام 1975، بيت التمويل الكويتي، بنك فيصل الإسلامي، مؤسسة الراجحي المصرفية، مجموعة دلة البركة للاستثمار، وغيرها كثير.

[7] وقد نالت هذه الندوة من العناية والاهتمام شيئا ً كثيرا ُ، واستمرت ثلاثة أيام في عشر جلسات، عرض فيها ثلاثة وعشرون بحثا ً، وحضرها عدد كبير من الفقهاء والعلماء.

[8] ص 13.ط4 . دار القلم- الكويت. وقد كانت طبعته الأولي سنة 1954م في معهد الدراسات العالمية بالقاهرة. وهذا التعريف أسبق من إنشاء مجمع البحوث الإسلامية التابع لأزهر، الذي يعد أقدم مؤسسة رسمية تعنى بالاجتهاد الفقهي الجماعي. ولم أطلع علي قول يسبق ما قاله الشيخ خلاف رحمه الله.

[9] أصول التشريع الإسلامي من 108،ط 4 ، دار المعارف – مصر.

[10] فقه الشورى والاستشارة، له ، ص242. ط 3 دار الوفاء- المنصورة.

[11] من بحث له بعنوان (قراءة تحليلية في مصطلح الاجتهاد الجماعي المنشود) منشور في العدد الحادي والعشرون، من مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية- بدبي ص 199- 200.

[12] فقه الشوري والاستشارة، ص 245.

[13] انظر بعثة >> الاجتهاد الجماعي وأهميته في العصر الحديث << العدد العاشر من المجلد الرابع عشر لسنة 1987م من مجلة (دراسات) التي تصدرها الجامعة الأردنية، ص 215.

[14] المصدر نفسه.

[15] أبحاث ندوة جامعة الإمارات في الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي، ج 1 ص 31.

[16] يعني الدكتور الطيب خضري السيد، في كتابه >> الاجتهاد فيما لا نص فيه<< ص 18.

[17] أبحاث ندوة الإمارات، ج 1، ص 51.

[18] انظر كتابه الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ص 182، ط دار القلم الكويت.

[19] وهو ما توصلت إليه من خلال المقارنة بين الإجماع والاجتهاد الجماعي في الفصل الثاني، من رسالة الدكتوراه (الاجتهاد الجماعي في الفقه الإسلامي).

[20] أبحاث الندوة ج 1 ص 130.

[21] أبحاث الندوة، ج1 ص 392، وانظر أصول التشريع الإسلامي للشيخ حسب الله، رحمه الله، ص 149.

[22] أبحاث الندوة، المكان نفسه.

[23] أبحاث ندوة الإمارات ج 2 ص 691.

[24] مثل: الندوة الفقهية لقضايا الزكاة المعاصرة، التابعة لبيت الزكاة في دولة الكويت،وهي تعقد سنويا ً، وكذلك لجنة الفتوى التابعة لوزارة الاوقاف الكويتية، واللجنة الدائمة للإفتاء في الممكلة العربية السعودية، ولجنة الإفتاء في الأزهر، فهذه كلها تبحث المسائل المعروضة عليها وتناقشها وتصدر فيها الأحكام المناسبة، بشكل جماعي عن طريق التشاور.

[25] أبحاث ندوة الإمارات، ج 2 ص 1016.

[26] أبحاث ندوة الإمارات ج 2 ص 1043.

[27] إن تعدية فعل (اجتهد) بـ (البناء) خطأ شائع عند المتأخرين وفي عصرنا، والصواب ان تقول: (اجتهاد الرأي) وليس (الاجتهاد بالرأي). وجميع النصوص الواردة في القرون الأولى ليس فيها التعدية بالباء، انظر تحقيق هذا الأمر في رسالتنا (التخطئة والتصويب في الآراء الاجتهادية).

[28] أبحاث الندوة ج 2 ص 1045.

[29] راجع ما سبق من أجل بيان تقسيم الأقوال والتعريفات إلي مجموعتين على أساس الترتيب الزمني، والحد الفاصل بينهما ندوة الإمارات الخاصة.

[30] ولابد أنه كان من أعضاء هذه اللجنة بعض العلماء الذين سبق عرض مقولاتهم في الصفحات السابقة. وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور عبد الناصر العطار رئيس لجنة الإعداد والتنظيم للندوة، ومقررها العام، راجع تعريفه فيما سبق.

[31] أبحاث ندوة الإمارات ج 2 ص 1079.

[32] راجع التعريف ومناقشته في الصفحات السابقة.

[33] انظر بحثه (قراءة تحليلية في مصطلح الاجتهاد الجماعي المنشود)، في مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي، العدد (21) ص 201.

[34] المصدر نفسه، ص 202.

[35] المصدر السابق، نفسه.

[36] وهذا ما يحث فعلا ً في أكثر المسائل التي تعرض علي لجنة الفتوي في قطاع البحوث والإتاء في وزارة الأوقاف في الكويت كذلك في أوقاف دبي، واللجنة الدائمة للإفتاء في الرياض وغيرها، فهم يبحثون في المسائل المعروضة عليهم بشكل جماعي ويصدرون فتوي جماعية، وفي الأجزاء التي صدرت من فتاويهم خير شاهد، وهي ذات قيمة فقهية وشرعية كبيرة.

[37] المصدر السابق، ص 202-203، وانظر كلام الشاطبي في الموافقات ج 4 ص 89، بتحقيق الشيخ عبدالله دراز رحمه الله.

[38] المصدر نفسه.

[39] الاجتهاد الجماعي دور المجامع الفقهية في تطبيقه، له، ص 21، دار البشائر الإسلامية- بيروت، ودار الصابوني “حلب”.

[40] في كتابه: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص 182.

[41] الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي، له، ص 44-45، ط 1، وهو العدد (62) من كتاب (الأمة)، وهي سلسلة دورية تصدر كل شهرين عن وزارة الأوقاف في قطر.

[42] المصدر السابق ص46.

[43] انظره في العدد (21). من مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، بدبي.

[44] المصدر السابق، ص 205، وانظر أيضا ً ما قاله في كتابه (أدوات النظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاصر) ط 1، دار الفكر دمشق، صص 153-154.

[45] المصدر السابق نفسه.

[46] انظر: الاجتهاد الجماعي, للشرفي, ص46.

[47] انظر: بحث >> قراءة تحليلية .. << السابق. ص206.

[48] المصدر السابق، نفسه.

[49] المصدر السابق، ص 207.

[50] المصدر السابق، نفسه.

[51] المذكور سابقا ً والمشارإليه في الإحالات السابقة، وهو >> قراءة تحليلية في مصطلح الاجتهاد الجماعي المنشود<<، في العدد (21) في مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، بدبي.

[52] المصدر السابق، ص 209، وقارن تعريفه هنا بتعريفه له في كتابه >> معجم مصطلحات أصول الفقه<<ط 1، دار الفكر، ص30. فبينها فروق واخترنا هذا لأنه المتأخر، ولأن بحثه هذا خاص بهذا المفهوم.

[53] المصدر نفسه، ص 209-218.

[54] صدرت طبعته الأولي عن دار الفكر بدمشق في عام 1420هـ- 2000م، ورقمه الاصطلاحي فيها هو (011،1348).

[55] المصدر المذكور، ص 30.

[56] صدرت طبعته الأولي عن دار الفكر بدمشق في عام 1421هـ- 2000م، ورقمه الاصطلاحي فيها هو (011،1360)، وهذا يدل علي صدروه عقب كتابه السابق بقليل (قارن التاريخ والرقم الاصطلاحي لكل منهما).

[57] المصدر المذكور، من 155.

[58] كان هذا الموضوع نصف الرسالة. والنصف الثاني دراسة وتحقيق لرسالة لطيفة بعنوان >> القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد<< للشيخ محمد عبدالعظيم بن ملا فروخ المتوفي (1061هـ- 1651م). وكانت الرسالة بإشراف الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي، حفظه الله، ونلت بها درجة الماجستير بامتياز من كلية الشريعة بجامعة دمشق أوائل عام 1994م. وقد توسعت في بحث (الخطأ والإصابة) في الاجتهاد وحققت أقوال الأئمة والعلماء فيها، ووازنت ورجحت.

[59] أخرجه البخاري في كتاب 0الاعتصام) باب (أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ)، ومسلم في كتاب (الأقضية) باب (بيان أجر الحاكم إذا اجتهد) برقم (1416)، وأحمد ج 4، ص 198، والشافعي في الرسالة ص 494، وأبو داود برقم (3574)، والنسائي ج 2 ص 204، والترمذي ج1 ص 249، وغيرهم.

[60] هذا جزء من حديث طويل أخرجه مسلم في (الجهاد) باب (تأمير الإمام الأمراء) برقم (1357)، وأبو داود في (الجهاد) باب(دماء المشركين) ج3 ص 83، والترمذي في (الجهاد) باب (ما جاء في وصية النبي-صل الله عليه وسلم- وقال: حديث حسن صحيح، ج4 ص 192.

[61] قد يُستغرب استخدام هذه العبارة, ولكن الحقيقة أن الاجتهاد يمكن ضبطه بقواعد دقيقة تجعله علمًا مستقلاً, وأقدم من رأيته لفت النظر لهذا هو الإمام الشاطبي – رحمه الله – حين قال: (إن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علم مستقل بنفسه, ولا يلزم في كل علم أن تُبرهن مقدماته فيه بحال) ]الموافقات 4/110[ ط المكتبة التجارية – مصر.

[62] انظر, الموافقات ج4 ص89-95. وعبّر عنه بالاجتهاد الذي لا ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف, وذلك عند قيام الساعة.. وهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط.

[63] كما رأينا في تعريف كل من د. العبد خليل، ود. عبد الناصر العطار، والشيخ محمد عبد الحكيم زعير، ود. عبد المجيد السوسوة الشرفي.

[64] كما في التعريفات السابقة، وتعريف الدكتور قطب سانو.

[65] وهو قيد اشترطته الأقوال والتعريفات السابقة جميعها.

[66] تفرد به الدكتور قطب سانو.

[67] كما في تعريف الشيخ زعير والتعريف المختار لندوة الإمارات.

[68] كما في معظم التعريفات.

[69] كما في تعريف الدكتور توفيق الشاوى، والدكتور قطب سانو.

[70] كما في تعريف الدكتور العبد خليل، الدكتور العطار. والدكتور جمال الدين محمود، وتعريف ندوة الإمارات.

[71] كما في مقولة الدكتور علي المحمدي, ومقولة الدكتور شعبان إسماعيل, ومقولة الدكتور محمد كمال الدين إمام.

[72] وهذا ما رأيناه في جميع المقولات في الاجتهاد الجماعي. ولم يقل أصحابها أنهم وضعوا تعريفًا اصطلاحيًّا, وكذلك في أكثر التعريفات, وربما سلمت من هذا العيب تعريفات كل من: العطار, والشرفي, وسانو, وكذلك تعريف ندوة الإمارات, إلى حد كبير.

[73] الصواب إنعام النظر, وليس إمعان كما هو خطأ.

[74] المجتهدون ليسوا بمرتبة واحدة, بل لهم مراتب, وأشهر التقسيمات لهذه المراتب ما وضعه ابن الصلاح وتابعه فيها النووي ثم السيوطي واختارها أكثر العلماءو وخلاصتها الآتي: المجتهد إما مطلق أو مقيد, والمطلق له حالات مستقل وغير مستقل (منتسب) وهاتان المرتبتان يمثلهما أئمة المذاهب الفقهية المعروفة, وتلاميذهم المشهورون, ويتأدى بهما فرض الاجتهاد باتفاق.

وأما المجتهد المقيد فله مراتب أيضا أعلاها مجتهد التخريج (أو صاحب الوجوه أو المجتهد في المذهب) ويليها مجتهد الترجيح وأدناها مجتهد الفتيا, وهؤلاء المجتهدون المقيدون لا يتأدى بهم فرض الكفاية في الاجتهاد كما قرره السابقون, ولكن قرر ابن الصلاح أن مجتهد التخريج يتأدى به فرض الفتوى, وإن لم يتأد فرض الاجتهاد. ]انظر: المجموع, للنووي, ج1 ص 76 – 77, الرد على من أخلد إلى الأرض, للسيوطي ص 40 – 41, التقرير والتحبير, ابن أمير الحاج, ج3 ص 346[.

[75] نقول: تأكد الأمر, ولا يصح أكدت الأمر, كما هو شائع خطأ.

[76] المحصول ج4 ص398 – 399. وانظر ما قاله الزركشي في البحر المحيط ج4 ص 273. ففيهما تفصيل حسن لهذه الصفة؛ ما تتحقق به وما يترتب عليها.

[77] أخرجه البخاري برقم (33) ورقم (2942) مع اختلاف في بعض الألفاظ, وأخرجه مسلم برقم (88) مع اختلاف بعض الألفاظ أيضًا.

[78] البحر المحيط: 6/204.

[79] قال الفخر الرازي: وقد ظهر مما ذكرنا أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه. ]المحصول: ج6 ص 25[. وقال الغزالي قبل ذلك: إن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون: الحديث, واللغة, وأصول الفقه. وانظر ما قاله الشوكاني في اشتراط العلم بأصول الفقه: فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه, ]إرشاد الفحول ص 823, ط دار القلم, دمشق[.

[80] الرسالة ص 477, بتحقيق أحمد شاكر, ط دار الكتب العلمية – بيروت.

[81] انظر ما لخصه الإمام الجويني من كلام القاضي الباقلاني, في كتاب الاجتهاد من كتاب التلخيص ص 127 دار القلم دمشق,  ودار العلوم والثقافة بيروت, وانظر أيضًا: أدوات النظر الاجتهادي, سانو, ص 43, ط 1, دار الفكر – دمشق.

[82] وقد سبق ذكر تعريفه ومناقشته.

[83] من بحثه <<قراءة تحليلية في مصطلح الاجتهاد الجماعي المنشود>>, المنشور في العدد (21) من مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية, بدبي, ص 209 – 210.

[84] معجم مصطلحات أصول الفقه, سانو, ص251, ط1, دار الفكر – دمشق.

[85] التفسير المنير, الزحيلي, ج4 ص 139 – 140.

[86] قال أستاذنا الزحيلي في التفسير المنير ج 4 ص 140: أخرجه الترمذي, وفي تفسيره لسورة الشورى ج25 ص82 نسب هذا القول إلى الحسن البصري. وبعد البحث لم أجده عند الترمذي, ولا غيره من الكتب التسعة, وربما نقله بالمعنى, أو كان في غيرها, وعلى كل حال فإن الاستدلال به يبقى صحيحًا, لأنه يُعد من مرسلات الحسن وهو من كبار التابعين, وهذا القول خيري لا إنشائي.

[87] انظر باب قول الله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾… من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة, في صحيح البخارى.

[88] التفسير المنير ج4 ص141.

[89] المصدر السابق, ص 143.

[90] موسوعة الإجماع, أبو جيب, ج2 ص614, ط3, دار الفكر – دمشق.

[91] والشورى هنا مصدر كالفتيا بمعنى التشاور, أي أمرهم ذو شورى, يتشاورون ولا ينفردون برأي حتى يتشاوروا, وذلك من فرط تيقظهم في الأمور, وإحكام الخطط, والظفر بالمطلوب. ]التفسير المنير, ج25 ص 79[.

[92] المدخل الفقهي العام, ج1 ص 206 – 207, ط1 دار القلم – دمشق.

[93] قلنا: في (الغالب)؛ لأنه ثبت عنه-  ج – أنه استشار أصحابه في أمور دينية تعبدية, كما في كيفية جمع الناس إلى الصلاة.

[94] المدخل الفقهي العام, ج1 ص 206, دارالقلم – دمشق.

[95] المصباح المنير,  الفيومي, ج2 ص 520, المنجد في اللغة والأعلام, مادة نبط.

[96] معجم المصطلحات أصول الفقه, ص 61.

[97] انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد, لابن بدران, ص 42, مكتبة ابن تيمية – القاهرة.

[98] فقد أفرد الجزء الثاني منه لشرح مقاصد الشريعة, وقال في  اشتراطها للمجتهد: إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: <<أحدهما>> فهم مقاصد الشريعة على كمالها, والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها. ]الموافقات ج4 ص 105 – 106[.

[99] انظر مبحث شروط المجتهد في أيّ من كتب أصول الفقه المعاصرة.

[100] الإحكام في أصول الأحكام ج4 ص192.

[101] مختصر المنتهى, بشرحه للعضد الإيجي, وحاشية السعد التفتازاني ج2 ص289.

[102] المستصفى ج2 ص350.

[103] البحر المحيط ج6 ص197.

[104] المراد بـ(العلمية النظرية) ما يقابل (العملية) عند أهل المنطق؛ فالأولى مجالها البواطن في الفكر والاعتقاد, والعملية مجالها الظواهر وعمل الجوارح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر