أبحاث

النظام العام في الشريعة الإسلامية (1)

العدد 111

تمهيد

يتوخى البحث في عجالة في هذا التمهيد إبراز المفهوم الوضعى لفكرة النظام العام وتعيين سماته الأساسية المميزة له والمفرزة لقواعده عن غيرها من القواعد القانونية، وبذلك نتمكن من أن نشيد نظريًا بناءه الهيكلي الذي يتوزع على مستوياته المترتبة على قواعد النظام العام . ويحاول البحث أن يستجلى في السيرة الذاتية للمفهوم، بعدًا تاريخيًّا ، أحسبه يعبر عن الإطار المعرفي لفكرة النظام العام، وتحاول الدراسة الإفصاح في النظام الوظيفى لهذا المفهوم، عن إعادة تشكيل إطاره المعرفى على أصول أكثر انضباطًا مما كان مبنيًّا عليه حسب الفهم الشائع فقهًا لفكرة النظام العام(1).

فبداية ، وعلى المستوى التاريخي للنظم القانونية عامة، يتبين أن القواعد القانونية التى انطوت عليها لم تكن على ذات المستوى من جهة الأهمية للنظام الجمعى والسياسي القائم ومن جهة القوة واللزوم، فقد تمايزت هذه القواعد ما بين مؤكد لأصول الجماعة وكليات نظامها السياسي الحاكم حفاظًا لها وصونًا لأسسها وما بين ناظم للعلاقات داخل الجماعة ضبطًا لآليات حركتها وحدود نشاطها بما يكفى لتوفير علاقات تسودها اعتبارات الإنصاف والعدالة وبما يوفي للمجتمع بأسره الاستقرار الآمن داخليًّا ، وعلى حين اتسمت المجموعة الأولى من القواعد بقدسية جمعية ورسمية منحتها قوة لزوم فائق حالت دون مكنة الخروج عليها، دعمها جزاء شديد الردع لكل مجاوزة متصورة لحدود هذه القواعد، نرى المجموعة الثانية من هذه القواعد وقد اتسمت بقدر من المرونة – وإن كانت لا تنفى عنها صفتها القانونية – مكنت الأفراد في حدود علاقاتهم المتبادلة أو في حدود علاقاتهم بمجتمعهم، من التصرف على نحو به قدر من الحرية حتى أن من هذه القواعد ما أجاز لهم مكنة المجاوزة دون جزاء، ومنها ما رتب جزاء هينًا اقتصر على إبطال الجزئية المخالفة دون باقى التصرف الذي شملها . هذه الخصائص التى تمتعت بها المجموعة الأولى من القواعد، قاربت في سمتها السمت الظاهرى لقواعد النظام العام من جهتي القداسة والاستعلاء على باقى القواعد القانونية داخل ذات النظام القانونى الواحد ومن جهة قوة اللزوم، مما حدا بنا إلى ترجيح قالة معرفة النظم القانونية قاطبة لقواعد شبيهة بقواعد النظام العام في مفهومها المعاصر . لذا ، وعلى هذا المستوى من التحليل، نخلص إلى اتفاق النظم القانونية جمعاء في أمر عدم التسوية بين قواعدها القانونية من حيث افتراقها إلى مجموعتين متمايزتين ، تتمتع إحداهما بسمات القداسة والفوقية على الأخرى .

أما على مستوى الحدث التاريخي المخصوص الذي ولدت فكرة النظام العام في كنفه وتطور مفهومها من خلال تفاعل عناصره، فقد تمثل في ظهور الدولة القومية بهيئتها المعاصرة ، وصعود الطبقة البورجوازية إلى سدة الحكم ، إيذانًا بطرح قيم ومفاهيم فكرية وفلسفية واجتماعية لم تشهدها المجتمعات قبلاً ، وذلك على حساب المفاهيم الكنسية الإقطاعية التى كانت قائمة. الأمر الذي لزم معه – دعمًا لكيان الدولة الوليد وتكريسًا لمفاهيمها المستجدة – خلق آليات قانونية تمكن من إنجاح عملية تغيير النظام السياسى القائم وتدعيم سيطرة الطبقة الجديدة على الحكم، وتكريس القيم والمفاهيم المستحدثة داخل الوجدان الجمعى لهذه الجماعات السياسية. فكانت فكرة النظام العام أحد أهم هذه الآليات ، فالدولة بنظامها السياسي الحاكم غدت المحتكر الوحيد لصناعة القانون، وأضحت أنساقها الفكرية والفلسفية وأيديولوجياتها الوعاء الثقافي الوحيد للقواعد القانونية السائدة بالمجتمع، ولما كان من المحال خلق قاعدة قانونية لكل حدث أو نازلة، وخوفًا من حصول ما يستجد مما ليس محكومًا بنص قانونى، وضبطًا للنشاط الاجتهادي والتفسيري في النصوص القانونية، حتى تستوى ثمرة هذا النشاط غير بعيدة عن كليات الدولة وأصولها، فقد استعان النظام القانونى للدولة القومية بفكرة النظام العام حتى يمارس على الإرادات الفردية – أو الجمعية – سلطة إلزامها حدود كل ما هو متبنى من قبل الدولة من أنساق فكرية وفلسفية وأيديولوجيات اجتماعية واقتصادية وسياسية ، فلا تأتى الإرادة تصرفًا يجاوز أصلاً من أصول الدولة أو كلية من كلياتها إلا وكان جزاؤه البطلان، إهدارًا لكل آثاره المترتبة، بما يضمن تناغم حركة كافة الإرادات – فردية أو جمعية – داخل الدولة مع قيم الدولة وأصولها المتبناة . وبذلك ولدت فكرة النظام العام، وعلى ذلك عاشت ونمت، آلية قانونية شديدة الإخلاص للدولة القومية بهيئتها المعاصرة(1) . الأمر الذي يدعونا إلى التأكيد على الربط الكامل بين مفهوم فكرة النظام العام ومفهوم الدولة القومية بحسب الأول آلية قانونية يتأصل عليها الكيان السياسى والاجتماعي للثاني وليس فقط كيانه القانوني .

وعلى مستوى الفلسفة الجمعية ، يرتبط مفهوم فكرة النظام العام وثوقًا ، بأحد المفاهيم التى تأصل عليها كيان الدولة القومية، ألا وهو النزوع الفردى المغرق في التأكيد على إطلاق الحق الفردى ومبدأ سلطان الإرادة ، بحسبان الفرد هو القيمة العليا وحريته هي موضوع القانون من جهة ضمانها، وحقوقه هي لبنات هذا القانون، ومن ثم أضحى غاية النظام القانونى أجمع ، وتهيأت مقولة أن الحق الفردي هو حق ذاتي كسبه الفرد بواقعة وجوده بالحياة، مستجلبًا أياه معه – إلى المجتمع . هذا التصور عن الفرد على النحو الذي صيغ به ، من جهات إطلاق حركة إرداته واطلاق مكنات حقوقه، خلق نوعًا من الصراع الصدامي بين الأفراد نتيجة تعارض اتجاه الإرادات الفردية، فكل إرادة ترى في ذاتها المطلق والغاية وتعتبر إرادتها غير محدودة أو منضبطة في استخدام مالها من حقوق منحتها الطبيعة إياها بواقعية الوجود بالحياة مما يتعذر على القيد، وزاد من دقة خطورة الأمر، تعامل الإرادة الفردية مع إرادة الدولة المشخصة للإدارة الجمعية، تعاملاً متفلتًا مستعصيًا على الانضباط أو الانصياع. هذا الوضع أوجد حالاً من التحدي أمام الدولة القومية الوليدة ، فإما أن تؤكد وجودها وسيادتها داخليًا ولو على حساب جزء من معتقدانها الفلسفية التى تنبني عليها أيديولوجيًّا نظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وإما أن ترتضى ضعفًا يؤدي بها إلى الذبول والانزواء. فكان الخيار الأول وكان الاتباع التنظيرى في كافة المجالات دعمًا لسلطان الدولة وسيادتها وحدًّا من تفلت الأفراد تجاهها، وما فتئت فكرة النظام العام أن لحق، بُعدها القصدى تطورًا ، غدت بمقتضاه أداة بيد الدولة في مواجهة تفلت الأفراد، لضبط الاتزان القسرى للجماعة السياسية بعد كل ما لحقه من اضطراب، مما أعاد للمجتمع تماسكه، وهكذا مرت فكرة النظام العام بمرحلتها الارتكازية الثانية، حيث لحق مفهومها تطورًا قصديًّا بموجبه زادت التصاقًا بالدولة – بالقدر نفسه انفصالاً عن المفاهيم البورجوازية وأفرادها المسيطرين – وتعينت وظيفتها على نحو أكثر وضوحًا في اتجاه صون الأيديولوجيات والأنساق الفكرية والفلسفية المتبناه رسميًّا من قبل الدولة. في هذه المرحلة ، تمكنت الدولة بمؤسساتها من التغول في سلطانها، وذلك على حساب الفرد والجماعة، فقامت بعملية تأميم احتكاري واسع لمظاهر القوة داخل المجتمع، ولعل أبرز هذه المظاهر، قوة الشرعية، إذ سيطرت الدولة كاملاً على مفاهيم الشرعية وعدت ذاتها المصدر الوحيد لها، فما تعده شرعيًّا صار شرعيًّا وما لا تعده كذلك لا اعتبار له، ومن أجل التمكين لها في هذا الأمر، قامت بحيازة صناعة القانون كاملاً، حتى كاد التقنين أن يكون من الناحية العملية المصدر الوحيد للشرعية ولتتوارى خلفه كافة مصادر القانون الأخرى، وبذلك تم تجريدالجماعة من كل إمكانية متصورة للإسهام في تشكيل إطار المشروعية داخل المجتمع، مما أثار اضطرابًا آخر في الاتزان القسرى للمجتمع، حيث قامت الجماعة بشحذ قواها في محاولة لاستعادة جزء من قوتها المسلوبة من قبل الدولة، وهو صراع صبغ القرن التاسع عشر وامتد طويلاً حتى منتصف القرن العشرين، ولم ينحسم حتى بلغت العلاقات بين القوى الثلاث داخل المجتمع – الفرد، الجماعة، الدولة – نقطة اتزان، سواء في القيم المتبناه أو الأنساق الفكرية والفلسفية المعتنقة داخليًّا، مما انعكس إيجابيًّا على علاقات القوى داخل المجتمع، وعندئذ تمكنت الجماعة من أن تغدو كلاًّ مؤثرًا في الجدل الداخلي لظاهرة الشرعية. وهنا، وعند هذه النقطة ، حدثت الانعطافة الثالثة في المسار التاريخي لمفهوم فكرة النظام العام، حيث صارت قيم الجماعة وكلياتها أحد مكونات الوعاء الثقافي لهذا المفهوم، إذ تعينت فكرة النظام العام، واحدة من أهم الأدوات التى يمكن أن تستخدمها الجماعة للنفاذ بقيمها وأسسها إلى دائرة الشرعية، وبذلك صارت الجماعة مرجعًا لشرعية التصرفات إلى جانب أصول الدولة وكلياتها ، وغدت خيارات الجماعة الأيديولوجية والفكرية ومعتنقاتها الاجتماعية والسياسية والدينية حدًّا ضابطًا لحركة جميع الأدوات داخل المجتمع – سواء كانت الأدوات فردية ، أو جمعية ، أو رسمية – ولعل من أظهر المظاهر التى تجلى بها دور الجماعة المرجعي لشرعية التصرفات ، ما عرفه الفكر القانونى المعاصر من مفهوم (الآداب العامة ) الذي عُد أحد عناصر مكون مفهوم النظام العام، إذ الآداب العامة ما هي إلا المعادل القانونى لمفهوم الأخلاق، وبعد أن كانت الدولة القومية تحالفًا مع قوى البورجوازية قد قامتا باستبعاد الأخلاق من إطار القانون، استبعادًا كاملاً، وذلك في صراعهما المرير مع المفاهيم الكنسية الإقطاعية التى كانت تعول كثيرًا على الأخلاق بحسبها مفردًا دينيًّا ، أقول – بعد أن تم هذا الاستبعاد ، عادت الأخلاق لتطرح نفسها ثانيًا على المفاهيم القانونية، ولكن من زاوية أخرى هذه المرة، ألا وهي زاوية الجماعة وقيمها وأسسها، ومن الزاوية الدينية كما كان سابقًا ، بحسبان أن الأخلاق الجمعية متعينة الاعتبار في كل تصرف قانونى ، فلا يجوز لإرادة أيًّا ما تكون – فردية أو جمعية أو رسمية – تجاوز هذه المفردات الأخلاقية وإلا صارت معتدية على إحدى القيم التى يتشكل منها النسق القيمي الكلي للجماعة .

وعليه ومن خلال هذا التطور التاريخي الطويل الذي مرت به فكرة النظام العام، استوى مفهومها على أنها وضع تكليف اقتضائي يرد حدًّا على الإرداة وهي بصدد إتيان تصرف قانونى، صونًا لأصول وكليات المجتمع، وحفظًا لكيان الجماعة وهيبة الدولة، فيقيد هذه الإرادة أخلاقًا، على النحو الذي يؤدى إلى إهدارها عند كل تفلت من جانبها أو مجاوزة خارجة عن طوق هذه القيود.

والظاهر مما تقدم ، أن فكرة النظام العام، وإن بدت اليوم مفهومًا محوريًّا لدى النظم القانونية الوضعية المعاصرة فإنها تظل نبت بيئة فكرية فلسفية معينة ونتاج علاقات صراع حضاري مخصوص اتسم به الواقع الأوروبي طيلة القرون الثلاثة الماضية. هذه الظروف قامت بصياغة النظم القانونية على نحو معين، ونقول: صياغة وليس إنشاء ، لكون هذا الواقع لم يستحدث نظمًا جديدة وإنما قام بعملية توفيق للنظم القائمة مع الواقع الحديث، فقط استحدث عددًا من المفاهيم التى ساهمت بفاعلية في عمليات التوفيق المقصودة، وتم زراعة هذه المفاهيم داخل أجساد النظم القانونية الموفقة وواقعها الجديد، لتخوض جدل التطور حتى استوت على نحو معين، اكتملت فيه عناصرها وتعينت فيه حدودها ، وبرزت على هيئة الركن الأصيل للنظم الوضعية القائمة، حال كونها لم تكن كذلك في ظل الظروف السابقة على هذا الواقع الجديد . ودلالة هذا، إن فكرة النظام العام وإن قامت في التفصيل القانونى الدقيق، على أساس حقيقة التمييز داخل أي نظام قانونى بين مجموعتين من القواعد القانونية ، تتسم إحداها بصفات الفوقية والعلو بحسبها مرجعًا للشرعية داخل المجتمع، ولكونها انعكاسًا قانونيًّا لأصول هذا المجتمع وكلياته، فإن المشاهد في كافة النظم القانونية أن تطورًا مماثلاً لذلك الذي شهدته المجتمعات الأوروبية وأفرز نحتًا لفكرة النظام العام المعاصرة، لم يحصل قبلاً، مما يؤكد حقيقة أن فكرة النظام العام إنما هي بنت واقعها .

وهنا يتعين التساؤل الذي أرجأناه في بداية هذا البحث عن مدى علاقة مفهوم فكرة النظام العام بالتشريع الإسلامي(1) بيد أن الأمر ليستلزم بداية العرض للواقع التاريخي الذي وجد فيه الإسلام، من جهة حال الاجتماع البشري للعرب ونظمهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى شهدها هذا الواقع قبيل نزول الإسلام، ثم ما آل إليه هذا الواقع بعد ظهور الإسلام من جهة إشكال العلاقات داخل المجتمع الإسلامي وأثر الإسلام عليها، وذلك كله حتى يمكن رسم حدود واضحة للبيئة التى نما فيها التشريع الإسلامي وازدهرت آلياته القانونية ، وذلك للوصول إلى ما إذا كان هذا النظام القانونى العريق قد عرف مفهومًا شبيهًا بمفهوم النظام العام الوضعى، أم لا؟ وإن كان قد عرفه فما هو وما هي الأليات التى يمكن من مجملها القول بأنها شكلت مفهوم النظام العام، أما إن لم يكن قد عرفه ولم يعرف آليات مشابهة فما أسباب ذلك؟ وكيفتمكن من حل الإشكال المعقد المتمثل في ضبط حركة الإرادات داخل المجتمع ، على نحو ما قامت به وظيفيًّا فكرة النظام العام .

أولاً: الواقع البيئي للمجتمع العربي قبل الإسلام :

أ – البيئة الجغرافية:

تخير الله تعالى بلاد العرب، كي تكون الموطئ الأول لدينه الخاتم الإسلام، وذاك لإقامة الحجة على كون دينه الحق قادر وحده على إقامة حضارة دنيوية عظمى إلى جانب ما يبغيه من صلاح في الآخرة ، فهاك الإسلام يحول شرذمة من القبائل الموزعة في صحراء قحلاء لا يجمعهم سوى وحدة اللغة والاتفاق على اعتماد الغزو وسيلة هامة من وسائل العيش، وفي غضون عقود قليلة ، إلى شعب موحد يمثل أعظم الحضارات العالمية التى سادت البشرية لما يقرب من الألف عام، سيادة تسمو فيها القيم الإنسانية القويمة وتعلوها عقيدة الإيمان بالله وبالبعث والحساب ويحركها معتنق جمعى موحد بأن الحياة الدنيا ليست غاية مراد العباد، ولكنها خطوة لحياة الخلد أي الحياة الحقيقية (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 64]، (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى) [النساء: 77]، (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَــا فِي الآخِــرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) [التوبة: 38] .

وفي الحال ذاته حث الله عباده على الاستمتاع بطيبات الحياة، ولم ينكرها عليهم، فقال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْـكَ وَلاَ تَبْـــــــغِ الْفَسَـــــادَ فِي الأَرْضِ) [القصص: 77] . (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الشورى: 36] .

وبذلك وانطلاقًا من هذه الثوابت الفلسفية في النظر إلى الحياة وحدود المتبقى منها ، تهيأت الحضارة الإسلامية في سنوات قليلة لتنتشر في كافة أصقاع الأرض، نشرًا لدين الإسلام وتعاليمه وإقامة لعمران دولة عظمى أنارت البشرية على المستويين القيمي الإنساني والحضاري المادي .

وكان الإسلام قد نزل ببلاد العرب، في شبه الجزيرة العربية بالجنوب الغربي من القارة الآسيوية وهي بعد – لم تزل – تتكون من مساحات شاسعة من الصحراء المجدبة التى لا نبات فيها ولاماء(1) . ولم يكن حال أهلها بأفضل من حال واقع الجغرافيا المكانية لبلادهم، عاش غالبهم عيشة البداوة ، بدو رحل متنقلين بحثًا عن الكلأ والماء سكنوا بيوت الشعر والخيام، معتمدين على منتجات ماشيتهم، وعلى الغزو والإغارة وسيلة من وسائل المعيشة، حيث يغنم الغالب من المغلوب المتاع والحيوان بحسبهما مظاهر الثروة الوحيدة لدى أهل البادية، على حين عاش جزء قليل منهم بأصقاع وقرى ومدن شبه متحضرة كأهل يثرب (المدينة المنورة) ومكة واليمن، وأولئك عرفوا قدرًا من الاستقرار ومارسوا التجارة وبعض صناعة في صورتها البدائية ، حال امتهن بعضهم الزراعة في بعض من الأماكن القابلة لها ، وبالجملة كان هؤلاء من أهل الحضر أكثر رقيًّا من الجهة الحضارية من أولئك أهل البادية(1) .

ب – النظام الاجتماعي:

لم يعرف العرب من النظم الاجتماعية سوى كيان القبيلة باعتبارها وحدة اجتماعية تقوم على رابطة الدم، حيث يتوجه الفرد بولائه الكامل لهذه القبيلة في مجموعها، ليخضع خضوعًا اختياريًّا لرئيسها، ونظير هذا يستمد الفرد من القبيلة الحماية لشؤونه ومصالحه، حتى أن الفرد إذا ما انتهت به المقادير إلى الطرد خارج حظيرة القبيلة، غدا طريدًا عن كل مسئولية جماعية تجاهه، خارجًا عن القانون ذاته، بكل ما تحمله هذه الألفاظ من معان(2)، فلا أمان له على نفسه أو ماله أو حياته، وضع إهدار كامل لشخص الطريد، لا فكاك من مآله سوى النجاح في اللحاق بمجموعة قبلية أخرى، مثل ذاك الشكل الاجتماعي الذي صبغ الواقع العربي آنئذ بشيم الكرم والشجاعة والتضامن الجمعى على مستوى القبيلة، ولكنه، وفي الحال ذاته، أفرز سلبيات العصبية القبلية والتناصر القبلي في الحق والباطل، فضلاً عن الاقتتال العنيف بين القبائل للتافهمن السبب بما يجره هذا من عادات الغزو والنهب والسلب والسبي، ولعل الذي ساهم بفاعلية في سيادة هذه السوءات قسوة الواقع البدوى المصحوب بشظف العيش وندرة الموارد، وهذه جميعها عناصر كما أدت إلى وصم الواقع العربي بظاهرة مميزة وهي القتال، أفرزت عددًا من العادات الاجتماعية أشد فداحة كانتشار ظاهرتى سبي النساء والفخر بذلك، ووأد البنات ، ولعل من أسباب ذلك استصغار شأن المرأة وقتئذ لعدم قدرتها على القتال الذي هو من أهم وسائل العيش، مما جعل العربي ينظر إليها نظرة دونية؛ حتى أنه حرمها من الميراث(3) .

جـ – الواقع السياسي:

الحديث عن هذا الأمر، بداية المساس بجوهر عمل هذه الدراسة، وذاك من جهة الوضع السياسي الذي كان عليه العرب قبيل الإسلام وما تطور إليه وضعهم في هذه الخصوص بعد البعثة المحمدية، وتأثير هذا كله على الوضع القانوني عامة والآليات التى نهجت لأداء وظائف فكرة النظام العام خاصة – إن كان ثمة ما عرفه التشريع الإسلامي منها – على ما سوف يتبدى آنفًا .

فعن الواقع السياسي لحال العرب قبل الإسلام، فالواجب التفرقة ما بين حال أهل البادية وحال أهل التجمعات الحضرية. فأهل البادية، تجمعوا على نحو طبيعي بدافع من غريزة البقاء في شكل القبيلة بحسبها وحدة اجتماعية لا ترقى لتكوين المجتمعات السياسية – إذ لم تعرف هذه الصورة من التجمع أي شكل من أشكال السلطة السياسية بظواهرها المتمثلة في سلطة عليا داخل الجماعة، يخضع لها سائر الأفراد خضوعًا تكرسه مظاهر الشرعية المدعومة بالقوة إن لزم الأمر . وإنما كل ما شهدته هذه المجتمعات من تنظيم لم يكن ليتعدى سيادة مفاهيم المساواة الكاملة لكافة الأفراد في الحقوق والواجبات، مساواة جعلت رئيس القبيلة – شيخها – مجرد شخص ذي سلطة معنوية هدفها الحفاظ على الوحدة بين أبناء قبيلته(1) . ولعل مبعث عدم معرفة قبائل البادية لمظاهر السلطة السياسية يكمن – كما تفضل أستاذنا الدكتور محمد سليم العوا – في أن التجمع السياسي يستلزم توافر عددًا من العناصر، منها التقيد الأقليمي أي ارتباط أهل الجماعة بإقليم محدد ارتباطًا يفضي إلى ظهور مفهوم الوطن بما يستتبعه من شعور الأفراد بواجب المحافظة على هذا الوطن والدفاع عنه، ومنها بلورة مفهوم الشرعية داخل الجماعة بما يستلزمه من ظهور سلطة سياسية تحتكر القوة الفعلية والقانونية ، احتكارًا يمكنها من إقرار الأمن والسلام داخل الجماعة، وهذان عنصران افتقر إليهما التجمع البشري لقبائل البادية العربية قبل الإسلام(2) .

أما مجتمعات أهل الحضر، فلم تكن بأفضل حال من نظيرها : مجتمعات البدو في الوجهة السياسية ، إذ ورغم سكنهم مدنًا كبيرة نسبيًّا كمكة والطائف والمدينة المنورة (يثرب) ، فإن العلاقات الفردية والاجتماعية كانت تحكم في الغالب بذات القواعد التى حكمت حال العلاقات المماثلة لدى البدو، فلم تعرف هذه المدن أي تنظيم سياسي، ولم تشهد مظاهر السلطة السياسية المعنى المعروف لهذه الكلمة، وإن تميزت مكة قليلاً عن غيرها من المدن، بحسبان وجود الكعبة بها، وتقاسم القبائل والبطون إدارة شؤونها وخدمتها وحمايتها؛ مما خلق نوعًا من التنظيم لديها، بيد أنها ورغم ذلك لم ترق إلى مظاهر هذا التنظيم إلى حد معرفة النظام السياسي(1) ، ويحتج العلماء على ذلك بواقعة تنازع القبائل عند إعادة بناء الكعبة حول إعادة وضع الحجر الأسعد بمكانه من الكعبة المشرفة؛ إذ لو كان ثمة سلطة سياسية بالمجتمع المكي آنئذ ، لفوضت كلمتها ولخضع لها الجميع ، حال أن الشاهد خلاف هذا(2) .

د ـ التنظيم القانوني:

من المتعذر، وحال اجتماعي سياسي كهذا، أن يطمع المرء أن يجد تنظيمًا قانونيًّا، يحكم حال أهل الجزيرة العربية البادية منها والحاضرة ، إذ نظرًا لغياب كافة مظاهر التنظيم السلطوى، ونظرًا لحال الترحال الدائم فيما يخص قبائل البادية، وحال تزاحم أكثر من قبيلة فيما يخص البقاع الحضرية المفتقرة لأى شكل من أشكال السلطة السياسية ، إضافة إلى غياب البُعد الديني الإلهي في تصريف شؤون الحياة مقارنة ببعض الحواضر البدائية بالنظم القديمة التى كانت النسبة إلى إله متوهم تكفى لابتناء كيان شبه قانونى منظم تقوم فيه السلطة الدينية ممثلة في كهنة الإله بممارسة اختصاصات حفظ أوامر الإله ومعاقبة المخالف، إضافة إلى شيوع روح التقاتل والعدوان بحسبهما من الوسائل الهامة لكسب العيش وتحول قيمهما من سلوكيات مهجونة إلى مصدر فخار واعتزاز، كل هذا – كما فعل فعله في تأخير ظهور تنظيم سياسي ولو على مستوى كل قبيلة، آتى أُكُلَهُ في تغييب كل فرصة ممكنة لخلق نظام قانوني تنضبط بأطره سلوكيات أفراد هذه الجماعات إلا أن هذا لم يكن ليعني انتفاء كافة مظاهر التنظيم داخل هذه المجتمعات، إذ تمكنت الأخيرة من نظم عادات شابهت في تكرر إتيانها في تحاكم أفراد الجماعات على هداها – أقول – شابهت الأعراف ، وإن كان من العسير اعتبارها أعرافًا قانونية بمعناها المعاصر، ذلك أن غياب أي جهاز رسمي تنفيذي يضطلع بمهام حقوق هذه العادات وإلزام الأفراد بالتزامها وإنزال العقاب على من يخرقها ينتصف إليه المغبون أو يستنصره المظلوم، أدى إلى نفى اتصاف هذه العادات بالقواعد القانونية العرفية(1) .

وعليه – وفي ظــل هذا الوضع القانوني – يغدو من العسير تلمس أي مظهر من مظاهر النظام العام أو خاصية من خواص مفهومه إلا إذا عقدنا مقارنة بين عنصر الالتزام الوارد بالعادة وعنصر الالتزام الذى تنطوى عليه كل قاعدة من قواعد فكرة النظام العام الوضعية ، وغلبنا التقابل بينهما، وصولاً إلى أن ثمة من مظاهر مفهوم النظام العام ما يبدو بالعادات التى حكمت عرب الجاهلية ، حال أن الأمر إن تم على مثل هذا النحو من التبسيط إنما يوقعنا في خطأ جسيم، إذ يجعلنا نختزل ظواهر قاعدة النظام العام، في عنصر اللزوم فقط، حال أن تحليلنا السابق ورغم ما انتهينا إليه من أن عنصر اللزوم يُعد من الخصائص الأساسية لقاعدة النظام العام وما لا يعد كذلك، إلا أننا نفينا نفيًا قاطعًا أن يكون اللزوم وحده المعيار الذي يقاس عليه لتبين ما يُعد من النظام العام، بحسبانه المظهر الخارجي لقاعدة النظام العام فقط، دون أن يكون هو جوهر مفهوم الفكرة، إذ من القواعد ما يرد به لزوم من أمر أو نهى ومع ذلك لا يُعد من النظام العام ولا يعدو كونه قاعدة آمره .

ودلالة ذلك ، أن فكرة النظام لدينا وإن استلزمت من الناحية الفنية أن يرد بقواعدها تكليف أي إلزام، فإن هذا لا يكفي وحده، وإنما يتعين أن يقترن هذا التكليف باقتضاء، وأن يرد قيدًا على الإدارة، وهي بصدد تصرف قانوني، فيحدها بضوابط معينة؛ وذلك صونًا لأصول المجتمع – أسس الجماعة وكليات الدولة ممثلة في النظام السياسي القائم والمؤسسات التنفيذية الفاعلة – ومن ناحية أخرى انبنى مفهوم فكرة النظام العام فلسفيًّا، على أصل من أن ثمة كليات وأصول يقيم عليها المجتمع أوده، وبدونها لن يكون ثمة استقرار له أو انتظام لحركته أو اطراد لتقدمه، وذلك على هدي من منطلقاته الفكرية والفلسفية التى تمثل مقتنعه الأيديولوجي. والناظر إلى ما نقل إلينا من عادات عرب الجاهلية وعند محاولة ضبطه داخل سياقهم الحضاري، وأنساق معيشتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يتعذر عليه تلمس سياق عام تندرج داخله تلك العادات التى كانت قائمة وقتئذ ، فمثلاً وفي مجال الأسرة ، عرف عرب الجاهلية صـورًا شتى من الأنكحة كزواج الشغار(1) ، وزواج المقت وهو تزوج الابن زوجة أبيه المتوفى دون مهر ودون توقف على رضاها، ذلك الزواج الذي كان شائعًا مشهورًا عندهم ، كما عرفوا الجمع بين الأختين في آن واحد ، وفي الحال ذاته حـرموا زواج المحارم كليًّا(2)، وهو ما يتبدى عنه أن ليس ثمة نسق موحد تدور هذه القواعد في فلكه، وليس ثمة أصل كلي يحكم فلسفة الزواج عندهم .

وكذلك الناظر في أحكام الإرث يجد أنهم قد قصروه حصرًا في أكبر الأبناء، محرمين إياه على باقيهم وكافة الإناث والصغار ، وأجازوا التوريث بالتبني والمعاقدة والحلف، مما يتعذر معه إيجاد أصل مشترك يمكن رد هذه الأحكام كلها إليه(3) .

والأمر يظهر جليًا، في كافة صور المعاملات، حيث عرفوا غالب أشكال التعاقدات التى كانت معروفة آئنذ – حتى للحواضر الأكثر رقيًّا – مع ذلك لم يفرقوا بين فاسد وحسن ، وإنما تعاملوا في كافتها مجيزين إياها دون تحفظ أو توقف عند أيها(4) .

وإذا كانت المعاملات من أهم الدلائل المفيدة لمستوى الرقي الحضاري والفكري والثقافي للجماعات، ونوعية نظمها الاجتماعية والسياسية وحجم نظمها الاقتصادية ، فإن التفاصيل القانونية الضابطة لهذه التعاملات ، إنما تحمل دلالة لا تقل أهمية في إفادة الكشف عن مستوى الجماعات في المجالات آنفة البيان ، وكلما تسطحت هذه التفاصيل القانونية أو غابت، كلما كشف عن وضع جمعي شديد البدائية، مما يحمل دلائل عدم قدرة الجماعة بعد على بلورة أصول جمعية لها تحمل خصوصيتها، أي أنها لم تتمكن بعد من أن تشكل هويتها الذاتية . وعليه وإن كانت التجمعات العربية الجاهلية، وقبل نزول الإسلام، مفتقرة للشواهد التى تفيد بلوغ مرحلة نضج حضاري، تتبلور فيها لها خصائص الهوية الذاتية، فمن ثم فالأمر ما زال بعد بعيدًا جدًّا عن أي حديث في خصوص مفهوم فكرة النظام العام، لتغدو مجموعة القواعد الضابطة لأطر سلوكها ، لا تعدو كونها عادات جمعية ، لا يوجد ما يؤمن لها اللزوم الذي تنطوى عليه، وتكون دومًا عرضة للمخالفة ممن امتلك قوة حماية هذه المجاوزة ، خاصة أن ليس ثمة جهاز رسمي تنفيذي يكفل لهذه العادات الصون والحماية حال المخالفة.

ثانيًا: المجتمع الإنساني بعد نزول الإسلام

نزل الإسلام على المصطفى المختار، محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) ، باعتباره رسولاً ونبيًا للعالم أجمع، هداية للخلق ورحمة للعالمين، ورسالة خاتمة أتم الله بها كلمته إلى البشر، ضمنها مفاتيح الخير وسبل الخلاص، وأودع بها سر الحياة، فتعرف فيها الإنسان على غاية وجوده كما تعرف على مسيرته وجهته، وتعينت رسالته في الدنيا ، فصار لحياته قيمة ومعنى، ولعيشه طعمًا ومذاقًا، واستقر وجدان الإنسان على الوجهة الربانية، فلا ملجأ ولا منجى في هذه الحياة من الله إلا إليه.

نزل الإسلام ، فكرة شاملة ومنهجًا كليًّا، متأصلاً على عدد من المفاهيم الأساسية ، مثلت محاور الارتكاز لكافة مفاهيم المعارف التى تبلورت ونمت في ظل هذه المنظومة الفكرية الكلية، وصابغة الحياة الإسلامية بهداها . فالإسلام يقوم من الناحية الفلسفية على أصلين اثنين، الأول مفهوم الربانية من جهات الغــــاية (الوجــــهة) والمصدر ((المنهج) ، والثاني مفهوم الإنسانية من جهات الحرية في إطار العبودية لله والمساواة والعدل(1) .

أ – الربانية :

أما المعنيّ بالربانية بحسبها الغاية والوجهة، أن الإسلام في هدايته لحياة البشر جميعًا إنما يجعل غايتهم النهائية وهدفهم البعيد، حسن الصلة بالله تبارك وتعالى ، والحصول على مرضاته، باعتبار هذه غايات البشر ووجهتهم ومنتهى سعيهم وكدحهم، (يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ) [الانشقاق: 64] ، (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) [النجم: 42]. فإذا كان للإسلام بحسبه دينًا ودنيا غايات وأهداف إنسانية واجتماعية عظمى، فإنها لا تعدو في حقيقتها أن تكون خادمة للهدف الأسمى الأجل، وهو حسن رضاء الله وحسن مثوبته . فالإسلام أتى بما لم يأت به دين من قبل، في تنظيم لحياة الناس، والسعى في الأرض ومناكبها، والاستمتاع بطيبات الحياة، ولكنه فيما انتظم لم يكن سوى موجهًا مرشدًا للإنسان، وهو بصدد ممارسته لشؤونه الحياتية ، كي ينضبط حاله؛ عبدًا مخلصًا لله، ساعيًا لمرضاته وحده دون سواه، ومن هنا كان التوحيد جوهر الإسلام وروحه، والتوحيد هو أن يعلم الإنسان ألا إله له إلا الله المتفرد بالعبودية والاستعانة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 4] ، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 56-58] . وأن الحكمة من خلق الإنسان، أن يكون الإنسان لله المتعال، بمعرفته وعبادتـه وأداء أمانته على الأرض(1) .

وأما ربانية المصدر والمنهج فالمعني بها، المنهج الذي خطه الإسلام وصولاً إلى غاياته المرسومة وأهدافه المعنية، وهو منهج رباني خالص، لكون مصدره وحي الله تعالى المنزل على خاتم رسله محمد (صلى الله عليه وسلم) . هذا المنهج لم يكن نتيجة إرادة فرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو شعب ، وإنما هو نتيجة إرادة الله الواحد الخالق، وفي هذا المنهج مكانة سامية للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) فهو الداعى إليه، المبين للناس ما اشتبه عليهم من أمره، (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1)مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(2)وَمَـــــــا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 1-4] دور مأمور به من لدن الحكيم الخبير المحيط بالجميع القادر عليهم، ليتعين دور الرسول من هذه الوجهة المنهجية في وظيفة مزدوجة ، الأولى: التلقى والحفظ (سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى) [الأعلى: 6]، والثانية: التبليغ والدعوة (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) [المائدة: 67]. (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44].

ولعل ما يميز الإسلام من وجهته المنهجية ، أنه المنظومة الوحيدة في العالم أجمع الذي يرتد في كل مصادره إلى كلام الله المحفوظ دون حرف أو مبادلة، غير المخلوط بأوهام البشر وأغلاطهم ، إذ قد تعهد الله تعالى بكفالة حفظه (إِنَّا نَحْــنُ نَزَّلْنَا الــذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]. وصدق وعده ، فقد صان كافة مصادر هذه المنظومة الربانية المستقاة من القرآن الكريم والمبينة بسنة الرسول الكريم . وتتمثل هذه المصادر التى تشكل المنهج الرباني، في عقيدة التوحيد، وشعائر التعبد لله التى رسم سبحانه صورها والآداب الأخلاقية التى أرسى أصولها ووضع أسسها، إضافة إلى التشريعات الإسلامية الضابطة للحياة الفردية والأســرية والاجتماعية والدولية(1) . والمعنى بهذه التشريعات تلك الأسس والمبادئ والأحكام الأصلية التى انتظم بها الله مسيرة القافلة البشرية والتى على هداها يبتنى الأفراد والجماعات علاقاتهم.

وأهم ما يميز المنظومة الإسلامية من هذه الوجهة الربانية، أن الحاكمية إنما هي لله تعالى ، فلا مشرع سواه، فهو الآمر الناهي، المحلل المحرم ، المكلف الملزم، وذاك بمقتضى ربوبيته وألوهيته وملكه لخلقه أجمعين ، وإن التشريع حق مطلق له ، فليس لسواه حق في هذا الشأن سوى ما أذن هو تعالى فيه مما ليس به نص ملزم، وهذا هو عمل المجتهد، وعليه فالمجتهد ليس مشرعًا أو حاكمًا ، وإنما هو مستنبط لحكم الله تعالى غير المصرح به، على ما سوف يأتى لاحقًا.

ب – الإنسانية:

وأما المعني بإنسانية رسالة الإسلام بحسبها أحد المفاهيم الأساسية التى يؤصل عليها الإسلام منظومته الفكرية والفلسفية ، إن الإسلام في ربانيته الغائية، إنساني المقصد، فالله تعالى كرم الإنسان وجعله في الأرض خليفة، وسخر له ما في السماوات والأرض، بغية تحقيق سعادته في الدنيا وفوزه بالنعيم المقيم في الآخرة . وسبحانه في هذا وهب الإنسان عقلاً ومنحه قدرة ، ليفكر بالأول وبالثاني يرجح وينفذ، وهذا كله بأمر الله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) [الإنسان: 20]، فالإنسان مقصود برسالة الإسلام، خلقه الله في أحسن تقويم، وخلق روحه من نفخة روح الله تعالى وسخر الأكوان لخدمته، ولهذا كله يسر الله له سبل العيش، وحلل له متع الدنيا ، وشرع له من الأحكام الموجبات والمحرمات نأيًا به عن التردي فيما يضر(1)، وفي هذا التوجه الإنساني ، أقام الإسلام أسسه على عدد من المفاهيم الأساسية التى صارت منذئذ صبغة المنظومة الإسلامية ومميزتها عن غيرها من المنظومات ، وهذه المفاهيم هي الحرية في إطار العبودية لله وحده، والمساواة والعدل .

1- الحرية:

إن الله تعالى وقد أكمل كلمته بالرسالة المحمدية، أكمل للإنسان حريته، بتحريره من كل ما يكبله من قيود العبودية وآثام الخطيئة تلك التى كانت تكبله من قبل، وظلت من بعد نزول الإسلام ، تثقل كاهل الأفراد بالنظم غير الإسلامية . وما من شك في أن المنظومة الفكرية الإسلامية ، قد أقامت مفاهيمها على أصل من حرية الإنسان ، حتى أن الله تعالى قد خلق للإنسان وحده، دون غيره من باقى مخلوقاته،العقل والارادة والاختيار، جاعلاً فطرته تكمن في حقه في الاختيار (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً) [الأحزاب: 72]. وليس بأدل على ذلك مما أبانه القرآن في قصة آدم عليه السلام وزوجه ، فإنه نهاهما عن الأكل من إحدى شجيرات الجنة، ومنحهما قدرة على الاختيار بين الأكل والامتناع عنه، وإذ اختارا معصية الله وأكلا من الشجرة، وقع عليهما عقاب الله تعالى فأخرجهما من الجنة مع قوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [البقرة: 38] ، وما هذا التعبير باتباع الهدى أو الإعراض عنه إلا تأكيدًا على الحق في الاختيار، أي الحرية التى فطر الإنسان عليها(1) . أي أن الله تعالى ، لم يشأ إلا أن يجعل الحرية والحق في الاختيار ، قرينًا للإنسان بمقتضى حاله من عقل قادر على التمييز والاختيار، هذه الحرية هي موضع الحساب ومساءلة الله عباده في الآخرة، فمن شاء آمن ومن شاء كفر . فإذا كان الله يخير الإنسان في شأن جلل كالإيمان به ، فليس ذاك بأدل على منحه حرية كاملة في شأن حياته .

بيد أن الإسلام بحسبه رسالة خلاص للإنسان، يأبى إلا أن يكمل تحرير الإنسان، مما علق به من عبودية عبر تاريخه البشرى ، فيؤكد تحريره من غواية أنانيته وعبودية غرائزه وشهواته واستسلامه لمطالبه المادية ورغباته الشخصية، وذلك بأن ضبط حريته وحقه في الاختيار ، بضابط البُعد الرباني ، فبالإيمان بالله واليوم الآخر وهو طريق الربانية ، لمن شاء الفلاح في الآخرة ، يقف الإنسان موقف الموازنة بين رغبات نفسه ومتطلبات دينه، وبين ما تدفعه إليه شهواته وما يأمر به دينه، موازنة دقيقة تخلع عنه نير العبودية للهوى، وترتقى به إلى أفق الإنسانية المتحررة من الغرائز الحيوانية، والإسلام له ، في هذا كله، هادٍ ومنيرٌ إلى درب الطريق المستقيم(2) ، ومن جانب آخر ، يحرر الإسلام الإنسان من عبودية غيره من البشر، إذ من أشد صور العبودية وأبعدها خطرًا خضوع الإنسان للإنسان، الذي يحل له ما يشاء ويحرم عليه ما يشاء، ويأمره بما يريد وينهاه عما يريد، إذ بالفهم الرباني ينفض الإنسان عن نفسه هذا النهج البشري الخاضع فيه لإنسان غيره، ويرتد إلى بارئه ، رب الناس وخالق الأكوان، الذى له وحده – بحكم خلقه ومقتضى ربوبيته – الأمر والنهى والتحليل والتحريم.

وبهذا تحرر الإنسان من صورتين من العبودية عانى منهما: أولاهما: العبودية للبشر والتى تمثلت في صورتين الأولى: الانصياع الاستعبادى للحاكم الذي يفرض رأيه إما بحسبه حكم من لدن إله أعلى أو بحسبه هو ذاته إلهًا ، أو دون تمحل بالآلهة، وإنما من وجهة كونه الحاكم المالك يأمر فيطاع، وينهى فينصاع له. والصورة الأخرى الشهيرة هي التى سادت زمنًا طويلاً في المجتمعات التى حكمتها الأديان السماوية اليهودية والمسيحية حيث ملك الرهبان والأحبار وحدهم سلطة التشريع أمرًا ونهيًا ، مزاحمين الألوهية في سلطانها، دون أن يكون لأحد حق الاعتراض أو المراجعة، (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 31] .

وبهذا حرر الإسلام الإنسان من ربقة استعباد غيره له(1) . وثانيتهما: حرر الإسلام الإنسان من وصمة التلوث بالخطيئة ، تلك الفكرة التى زعمت أن الإنسان يولد وارثًا خطيئة آدم الأولى وهي الأكل من الشجرة المحرمة، غير ناج منها إلا بالكفارة والفداء ، إذ قرر أن كل إنسان يولد على الفطرة غير ملوث بأي خطيئة أو مثقل بذنب، فالإنسان مسؤول عن نفسه، ولا يحمل وزر غيره (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَـــا وَلاَ تَـزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [الأنعام: 164]، ومعصية آدم قرر الله تعالى برحمته غفـــــرانها ، (وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(121)ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) [طه: 121،122].

وبذلك تحرر الإنسان في إطاره المعنوى من عبودية غيره من البشر كما تحرر من عبودية الآثام التى كانت تثقل كاهله بذنب لم يقترفه، ويحيا حياته للتكفير عنها ويقدم عُمره فداء لها. إضافة إلى تحرره في إطاره المادى من متطلبات غرائزه وشهواته.

وعليه ، وإذ تأصلت الفكرة الإسلامية على هدي من مفهوم هذه الحرية، فقد تعينت هذه المنظومة الفكرية، أصلح النظم إطلاقًا مقاومة لكافة صور الاستبداد السلطوي، حتى أن الأمر صيغ في التصور الإسلامي، أن طاعة السلطة إنما تتوقف على طاعتها هي لله بداية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، على ما سيرد لاحقًا .

وعليه، فكان الإسلام محررًا الإنسان من مظاهر الاستعباد هذه التى عرفها مساره البشري، ولكنه لم يكن التحرير المتفلت من كل ضابط أو قيد ، وإنما هي الحرية المنضبطة بحدود مفهوم الربانية، وذلك لمن شاء الفلاح في الدنيا والآخرة، فينفض الإنسان عن نفسه كافة مظاهر الاستعباد لينطلق حرًّا في رحاب مشيئة خالق غير عابئ سوى برضاء المولى عز وجل.

2- المساواة:

لعل من أهم المبادئ التى انطوت عليها المنظومة الفكرية الإسلامية ، ما استحدثته خاصًّا بمفهوم المساواة، فهذا المفهوم على هذه الهيئة وبهذه الكيفية ، لم يكن فقط مفهومًا صارخًا في ظل ظروف عصره الذي نزل فيه وتقرر، وإنما هو – وإلى الآن – ما زال مفهومًا صارخًا مقارنة بكل النظم الفكرية التى عرفتها البشرية، فهذا المفهوم في النظر الإسلامي يتأصل على احترام الإسلام للإنسان من حيث هو إنسان، لا من أي حيثية أخرى، فلا تفرقة بين إنسان، وآخر، نزولاً على أي عنصر من عناصر التمييز، أكان للانتساب لقوم أو قبيلة أو لون أو جنس أو طبقة، فالله تعالى يخاطب الناس جميعًا (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَـــــــــاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13] ، ويؤكد رسوله الكريم هذا المعنى تفصيلاً في خطبة الوداع قائلاً 🙁 يأيها الناس إن ربكم واحد وأباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(1) ، وذلك لأن ( الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب)(2) .

وبهذا تسقط كل اعتبارات الفرقة بين العباد، فالبلاد جميعها أرض الله، والبشر جميعهم عيال الله وعباده، ليس لأحدهم قيمة إنسانية تعلو قيمة الآخر، فهي قيمة إنسانية واحدة للجميع، الحاكم إنسان والمحكوم إنسان ، رب العمل إنسان والعامل إنسان، الغنى إنسان والفقير إنسان، الرجل إنسان والمرأة إنسان، الكل سواسية من الوجهة الإنسانية، فتعامل الإسلام في منطلقاته الفكرية مع الجميع من هذه الوجهة الإنسانية ، دون اعتبار لعناصر التقدير الأخرى المصاحبة بل إن (التقوى) ذاتها التى جعلها الرسول عنصر تمييز لإنسان على آخر، حيث تتعين ضابط تفاضل بين الناس، لا تأثير لها على التطبيق البشرى لمفهوم المساواة الإسلامي في حياة الناس، ذلك أن محل التفاضل على هذا النحو هو الآخرة وليس الحياة الدنيا، أمام الله لا بين الناس(1) . ولهذا أثره من الناحية القانونية كما سوف يتبدى لاحقًا.

وتتبدى عظمة الإسلام من هذه الوجهة في خصوص مفهوم المساواة – وكيف لا وهو دين الله الخاتم خلاص البشرية ؟ في أن تقريره لمبدأ المساواة، تأكد من وجهة كونه حقيقة إنسانية اجتماعية بالأساس قبل أن تكون مبدأ قانونيًّا . فالإسلام هبة الله للبشرية ، أبى إلا أن يتناظر الناس فيما بينهم – حتى قبل أن يدخلوا في تعاملات مباشرة على أساس التساوى في القيمة ، فلا يعتقد أحد علوه على آخر ولا يتصور أحد أفضليته على الآخر، فالجميع إخوة متساوون ، قد يمنح الله أحدهم تفوقًا بشريًّا على آخر في أحد مجالات الحياة أو بعضها، دون أن يكون له فضل في هذه المفاضلة، وإنما مرده مشيئته تعالى، فإذا كان الله هو المعتبر في هذه المفاضلة فلا وجه للإنسان لأن يستعلى على أخيه وهو ليس سبب هذه المفاضلة .

وتتأكد عظمة التصور الإسلامي لمفهوم المساواة، إن قارناه بباقي التصورات الوضعية، فالمساواة في هذه الأخيرة ظهرت أول ما ظهرت في (إعلان الحقوق الفرنسي) الصادر عام 1789 إثر الثورة الفرنسية ، وقصد أن جميع الأفراد متساوون في الحقوق والحريات والتكليفات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب جنسى أو أصل أو لغة أو عقيدة، أي أن المعني به المساواة القانونية لا المساواة الفعلية ، والفرق بين هذين النوعين من المساواة كبير، فالمساواة القانونية تفيد خضوع جميع الأفراد المتماثلين في الظروف لذات القواعد التى تحد الحريات والحقوق العامة، حال كون المساواة الفعلية إنما تعني انطباق كافة القواعد على كافة الأفراد مهما تباينت ظروف المتواجدين بها، وأيًّا ما يكون مدى اختلاف هذه الظروف(1) . وهذا ما حاول الإسلام تحقيقه ، عند صياغة تصوره لمفهوم المساواة، إذ كان يستهدف خلق حال اجتماعي يتأسس على أصل من المساواة الفعلية بين جميع الأفراد، وهو ما انعكس على العبادات، ففي الصلاة والحج يتجاور الجميع دون أدنى فرقة بين كريم أصل مهيب مقام ورقيق حال، وفي الزكاة لن يكتمل للغني دينه إن لم يقم بأداء جزء من ماله إلى الفقير المعوز، وهكذا يمضي الإسلام قدمًا في اتجاه تكريس المساواة الفعلية بين جميع أعضاء المجتمع .

وليس هذا بغريب عن الإسلام، الذي هو كلمة الله المكتملة العليا، فمن هذه الوجهة المستعلية، نظر سبحانه وتعالى إلى كافة القيم والمبادئ والأفكار التى يؤصل عليها دينه الحنيف، فللإسلام نظرة مفارقة مستعلية على البشر ، تتعامل معهم من فوقهم،ليقفوا أمامها سواسية متساوين ، خلاف حال النظم الوضعية التى صيغت من قبل البشر، القاصرين العاجزين، مهما بلغ شأوهم الفكري ، عن البلوغ بالفكرة إلى منتهى نضجها وحيادها، الأمر الذي أصبح معه مفهوم المساواة بهذه النظم الوضعية غير قادر على تخطي سقف الترتيبات القانونية إلى رحابة الأوضاع الاجتماعية كاملة، القانوني منها وغير القانونى(1) ومما يبرر نجاح المنظومة الفكرية الإسلامية في غرس مفهوم المساواة على هذا النحو من الشمول والعمق، على كافة مستويات الفعل الإنساني، أنها لا تستند في حقيقة كنهها على مجرد الدعوة لإقامة المعوج الظاهر في المعادلة الاجتماعية، وإنما هي لبنة من لبنات بناء فكري متكامل يشاد على أصل من نهج عقدي يقوم بإعادة بناء المعادلة الاجتماعية بناء كاملاً. مهيئا لها صيغ الاتزان ، فلا يخاطب الأفراد من الزاوية القانونية فقط، وإنما يخاطبهم من كافة زوايا ظاهرة الاجتماع البشري ، فضلاً عن جانب المعتنق العقدى الذي يتعامل مع ضمائر الأفراد في علاقة مباشرة بينهم وبين بارائهم الذي يدينون له بالانصياع والخضوع .

وقد ترتب على تبلور مفهوم المساواة في الإسلام على هذا النحو المذكور ، أن تبدلت أحوال العرب جذريًّا خلال وقت قصير، فمن بعد وضع جمعي يقوم على العصبية القبلية والتفاخر بالأنساب وأحوال المقامات ، غدت التسوية بين أوضاع العرب المسلمين جميعًا هي الأصل الحاكم للحال العام لهم ، فرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، زجر صحابته عن محاولتهم الشفاعة في امرآة سرقت حتى لا يقام عليها الحد . قائلاً :(وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)(1) ، ولم يكن الصحابة أقل تمسكًا بتطبيق مفهوم المساواة من رسولهم الكريم ، فهاك واقعة عمر بن الخطاب خليفة المسلمين مع جبلة بن الأيهم لا تقل دلالة عما ذكر قبل. إذ قد شكا أعرابي إلى عمر لطم جبلة له دون حق ، أبى عمر إلا أن يقتص الأعرابي لحقه من جبلة أو يصفح عنه ويعفو، وإذ عز على الأمير الغساني أن يفعل ذلك ، وكيف يتأتى وهو ملك والأعرابي من السوقة ، رغم تعليل عمر بأن الإسلام قد سوى بينهما ، ليرفض الأمير هذا الأمر ويخرج من المدينة هاربًا مرتدًا عن الإسلام ، ولم يبال عمر ولا الصحابة بهذه النتيجة التى أفضت إلى ارتداد رجل عن دينه، بحسبان هذا أهون من التهاون في تطبيقه مبدأ عظيمًا من مبادئ الإسلام الارتكازية ، فخسارة فرد لا تقاس بخسارة مبدأ(2) .

ومما يجدر ملاحظته ، من هذه النوازل المسجلة، أن من تمسك بإعمال مبدأ المساواة على النحو المقرر بالإسلام، لم يكن العامة فقط، بل ولاة الأمور ذاتهم، ما يفيد في دلالته، أن التفاعل مع هذه المفهوم لم يكن وفقط على مستوى المسؤولية القانونية وما قد يجره من مسؤولية سياسية، وإنما التفاعل كان بالأساس على المستوى الإيماني العقدي، بحسبان ما في عدم الانصياع لإعمال مفهوم المساواة بكافة مفردات عناصره ، من جر لمسؤولية دينية لها آثارها المترتبة من إغضاب الخالق مصدر الشرعية لهذا النظام من الوجهة السياسية، ومرجع التشريع من الوجهة القانونية ، بكل آثاره من عواقب عند الحساب في الآخرة ، وهذا بالطبع فضلاً عن المسؤولية السياسية ، ممثلة في جواز الخروج عن ولي الأمر حالتئذ، لكون واجب طاعته إنما هو موقوف ابتداء وبقاء، على طاعته هو لأمر الله تعالى وأمر رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم).

3- العدل:

والحديث عن العدل بوصفه مفهومًا تأصلت عليه المنظومة الفكرية الإسلامية من وجهتها الإنسانية، إنما يتطلب التعامل مع هذا المفهوم، على مستويين، أولهما: المستوى البسيط الخاص بالمدلولين اللفظي والاصطلاحي لهذا المفهوم وطريقة تعاطي المنظومة الفكرية الإسلامية له، وثانيهما: المستوى المركب لهذا المفهوم، من جهة ابتناء العلاقات الفردية والجمعية والرسمية، على هدي من كينونة العدالة أصل شرعة وأساس شرعية لصحة هذه العلاقات .

فأما عن المستوى البسيط لمفهوم العدل، فالمعني لغة بهذه اللفظة مال وحاد ورجع ( كما في عدل عن الطريق أي رجعه) ، وعدل في الأمر أي استقام، وعدل الشيء أي أقامه وسوّاه ، يقال: عدل فلانًا بفلان، أي سوى بينهما، والعادل هو من يوازن بين شيئين(1).

أما في الاصطلاح الإسلامي فالمقصود بمادة عدل القصد في الأمور والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط ، ويعني الفقهاء بالعادل من تكون حسناته غالبة على سيئاته، وهو ذو المروءة غير المتهم، والعدل خلاف الجور والظلم، والظلم في الشرع هو التعدي عن الحق إلى الباطل(2) . ما يفيد معه ، أن العدل هو الاستقامة في الأمر وعدم الحيد عن جادة الحق، ومن هذه الزاوية ، كانت مقاربة الإسلام لهذا المفهوم، أو أقام أسسه على هدي من كون العدل حقيقة إنسانية متعينة الوجود ابتداء والحفظ والصون بقاء ، حتى ينصلح للجماعة حالها ويستقيم للفرد عيشه ويستقر للسلطة السياسية الحاكمة أمرها ، لذا كان العدل موجبًا للمساواة بين الأفراد جميعًا، وكان أصلاً للأخوة الإنسانية ، ومرجعًا في صون دماء البشر وأعراضهم وأموالهم وعقولهم، فالعدل في الإسلام هدف إنساني سامٍ، غايته صالح البشر جميعًا في المعاش والمعاد ، لا صالحطبقة دون أخرى ولا شعب دون آخر، ولا صالح قيمة مادية دون باقى القيم الأخلاقية والعصبية، وهو غاية دنيوية كما هو غاية أخروية(1) .

ومن هذا المنطلق بلغت العدالة شأنًا في الإسلام لم تبلغه في غيره من الشرائع والنظم الأخرى في القديم أو الحديث ، الأمر الذي يظهره التوكيد الإسلامي عليه مرارًا وتكرارًا ، بآيات الله المفصلات (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) [النحل: 90]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) [النساء: 58]، والذي يثير الاعجاب، أن الإسلام لم يستلزم العدل آمرًا به في الشأن الداخلي بين المؤمنين بعضهم بعضًا فقط ، بل استوجبه في كافة العلاقات الإنسانية ، وما يداخلها من علاقات بين المؤمنين وأعدائهم (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:8]، ليرتقى الإسلام في تعامله مع العدل إلى أعلى مدارج الإنسانية، فيستلزمه ليس فقط في الحكم والفعل وهي الأمور المؤثرات، وإنما استلزمه ، فضلاً، في القول (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّـــاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّــرُونَ) [الأنعام: 152].

ومما يدلل على سمو مكانة العدل في المنظومة الإسلامية ، بحسبه أصلاً وركيزة تبتنى عليه دعائمها، أن الله تعالى أوجب فرض العدل على الناس ولو بالقوة (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) [الحديد: 25]، وفي هذا قال ابن تيمية: المقصود بإرسال الرسل وإنزال الكتب، أن يقوم الناس بالقسط والعدل في حقوق الله وحقوق خلقه، فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد(2) . ليغدو مفهوم العدل من وجهة دلالته اللفظية والاصطلاحية كلاًّ تتأصل عليه الحياة الإسلامية، فالإمام في الصلاة اشترط البعض فيه العدل، وعامل الزكاة اتفق الفقهاء على وجوب عدله ، ووليّ النكاح ذهب البعض إلى اشتراط عدله، وكذا الوصي، حال اتفق الفقه على وجوب عدل ناظر الوقف وولي المحجور عليه ، وذهب غالب الفقه إلى تعين تحقق العدل في متولي الولاية العامة والقضاة والمحكمين ، وكذا في الشهود، واتفقوا على اشتراط عدالة راوي حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، كما اتفقوا على وجوب العدل في الحكم لقوله تعالى (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات: 9] ، واتفق الفقهاء على وجوب العدل بين الزوجات والعدل بين الأولاد(1).

إذا كان العدل هو عدم الظلم والجور في مدلوله المعاكس، فقد حرم الظلم إطلاقًا لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا(168)إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [النساء: 168،169]، وهو الأمر الذي تلقفه الفكر الإسلامي وعالجه، بحسب عدم الظلم وعدم الجور وعدم العدوان ، إنما هي من مكملات مفهوم العدل الذي ابتني عليه النظام الفكري والتشريعي للإسلام، فذهب الفقهاء إلى لزوم القضاء على الزوج إذا جار على إحدى زوجاته فلم يقسم لها أو قسم لإحداهن ما يزيد عن قسم للأخريات، ورتبوا حال قيام الحاكم بفرض مال ظلمًا لا شبهة فيه على الناس، جواز عصيانه بعدم دفع هذا المفروض، ولا يعتبر امتناعهم حالتئذ بغيًا، وذهب الفقه إلى اعتبار من قتل ظلمًا شهيدًا، واختلفوا فيما إذا كان ليعد شهيدًا في الدنيا والآخرة أم في الآخرة فقط فيجب غسله والصلاة عليه ، وقضوا بجواز دعاء المظلوم على الظالم بقدر ما يوجبه ألم ظلمه(2) .

ولهذا جميعه دلالته في إفادة اعتناء الإسلام بمفهوم العدل على مستوى مدلوليه اللفظى والاصطلاحي ، فما من شاردة أو واردة قاربت أو مست هذا المفهوم أو أحد مقتضياته أو موجباته ، إلا وانصب علاج الإسلام لها لإقامة مفهوم العدل على جادة الصواب.

بيد أن مقاربة الإسلام لمفهوم العدالة، لم يكن ليقتصر على ظاهرة المدلول اللفظي أو الاصطلاحي لهذا المفهوم ، وإنما تأصل تصوره الفرضى لنموذج العلاقة بين الفرد والحكم وبين كل منهما والنظام السياسي الحاكم على هدي من العدل، أي على أساس اتزان دقيق بين صالح كل منهما، فلم يتحول صالح أي من هذه القوى على صالح القوى الأخرى، فالمشاهد في النظم الوضعية الليبرالية منذ قيام الثورة الفرنسية، تأصلها على محاباة الفرد على حساب الجماعة والدولة، إذ ثمة إسراف شديد في حجم ما هو ممنوح للأفراد من حقوق لا يكاد يحدها ولا يقيدها قيد، إلا النذر اليسير وفي أحوال ضيقة، مما ضخم حقوق الفرد وأطغاها على حساب حقوق الجماعة وصوالح الدولة، فإذا اعتبرنا ما قد يتمتع به بعض من الأفراد من نفوذ سياسي ومالي، اتضحت الصورة جلية في الظلم المحيق انتهاء بكافة أفراد المجتمع ممن لا يحوزون نفوذًا كاملاً ، فضلاً عن مؤسسات الدولة ذاتها، وهو حال الغلبة الغالبة من المجتمعات الشرقية . وكذا الناظر في حال النظم الاشتراكية التى ابتنت عليها بعض الدول أصولها ، إذ سحق الفرد في مواجهة المجتمع ، حيث ضغط الأخير بقوة على أحوال الفرد، حتى كادت حقوقه أن تنفد، فلا ملكية خاصة، ولا حق في التنقل والتعاقد أو حتى اختيار العمل، ولا حق في إبداء الرأي أو التعبير، ولا حرية في الاجتماع، وهذا كله كاد أن يفضى إلى ذبول الفرد وانكماشه، وإلى صدأ قدراته وإمكاناته، مما أضعف المجتمع ذاته، حتى هوت هذه المجتمعات على النحو المؤثر الذي شهدته نهايات القرن العشرين. حال تباين الوضع في المنظومة الإسلامية، ابتنيت العلاقات داخل المجتمع بين قواه الثلاث، ابتناء متوازنًا، دون تفريط أو إفراط في حقوق أيها، بل إن فلسفة الحق ذاتها في هذه المنظومة، لم تقم على أصل الحق المطلق للفرد كما في النظم الليبرالية، ولا الحق المطلق للجماعة – ممثلة سياسيًا في الدولة – كما في النظم الاشتراكية ، وإنما تأصل مفهوم الحق بحسبه حقًا مقيدًا ، أي أنه كما يمنح صاحبه سلطات ، فإنه يفرض عليه التزامات، تتمثل في عدم المساس بحقوق الآخرين أولاً ، وفي استخدام الحق على النحو المقرر له وفي الحدود المحيز داخلها دون تجاوز ، ثانيا، وفي ممارسة الحق على النحو المحقق للأهداف الجمعية المرسومة المبتغاة منه ثالثًا، الأمر الذي غدا معه الحق في التصور الإسلامي حقًّا منضبطًا ابتداء بعدد من الأطر ، وذاك لصالح الآخرين، هذا إضافة إلى أن لكل حق في الإسلام غاية عامة، خلاف الغاية المخصوصة لصاحبه ، هذه الغاية العامة هي تحقيق الصالح العام للمجتمع بأسره بكافة قواه الفاعلة، وعليه فالفرد وهو يمارس ما يتقرر له من حق ، عليه أن تستوي ممارسته على النحو الذي يشبع الهدف العام المرسوم في هذا الشأن، أي أنه فضلاً عما يحصله من صالح مخصوص، عليه مراعاة صالح الجماعة، وكذا صالح السلطة السياسية الحاكمة، وكذا الدولة أو الجماعة وهي تمارس ما لها من حقوق عليها مراعاة صالح باقى القوى الفاعلة داخل المجتمع، فلا تفتئت على حقوق الأفراد، ولعل من أبرز أمثلة هذا حق الملكية الخاصة، فهذا الحق ليس مطلقًا كما في النظم الليبرالية، وليس محظورًا إطلاقًا كما في النظم الاشتراكية، ، وإنما هو مكفول للأفراد بقيود مقررة لصالح المجتمع أشمل ، فثمة قيود على طرق التملك، وثمة قيود على طرق تنمية الملك، وقيود على الإنفاق والاستهلاك، وقيود على عمليات التبادل التى تتم بواسطة المال والبضائع، إضافة إلى قيود أخلاقية تتأصل على مفهوم الربانية آنف البيان، وهذا كله بهدف إشاعة العدل بين الناس، والتكافل والتراحم داخل الجماعة، واستقرار الأوضاع لدى السلطة السياسية الحاكمة، كذلك من أمثلة ما تقدم حق السلطة السياسية في الحكم، فقد عرف الإسلامقبل أن تعرف البشرية جمعاء مفهوم شرعية الحكم، ومن ثم تم تقييد هذا الحق بأصل شرعته، ففي المنظور الإسلامي، الحاكم هو المفوض من قبل الله تعالى كي يسوس الجماعة على هدي من شرع الله وسنة رسوله ، حيث تغدو الشريعة الإسلامية مرجعه فيما يسوسه من أحكام ونظم، وله على الجماعة والأفراد واجب الطاعة، طالما التزم هو طاعة الله وأمر رسوله الكريم ، أي أن طاعة الله ورسوله هي أصل شرعية وجوده على سدة الحكم، وما دام التزم حدود شرعية وجوده، وقيد نفسه بما أمر به الله ورسوله ، دام له سلطان حكمه، وإلا وجب على الجماعة عصيانه فيما يأمر به مما يجاوز طاعة الله ورسوله . وبهذا يكون الإسلام قد وضع اللبنة الأساسية في نظم الحكم من وجهة التزام الحاكم فيما يمارسه من وظائف حكمه، إطارًا معينًا عليه أن ينضبط داخله، وهو ما عرف في النظم الحديثة بالمشروعية.

وعليه، ومما تقدم يضحى جليًّا أن المنظومة الفكرية الإسلامية، وقد أقامت أسسها على أصل من العدل ، فقد قاربته من زاوية المعنى البسيط للعدل من جهة نفي الظلم والجور، ومن زاوية معناه المركب من جهة تقرير أبنية العلاقات داخل المجتمع على أساس عادل، إذ ابتنيت على أصل من اتزان دقيق بين مراكز كل قوة من القوى الثلاثة الفاعلة داخل هذا المجتمع ، فلا افتئات لأي منها على الأخرى .

انعكاس مفهومي الربانية والإنسانية بأصولهما على التشريع الإسلامي

إذا كان الإسلام ، قد نزل على البشرية ، كي تهتدى به الجماعات البشرية، إلى طريق الصلاح والفلاح في الدنيا كما في الآخرة ، مقررًا لهم نهجًا معينًا ، عليهم التزام أطره إن شاءوا بلوغ منتهاهم على هدي منه، أقول: إن كان ذلك كذلك ، فقد تأصلت منظومته الفكرية الفلسفية على نحو ما تقدم، على أصليين أساسيين ، هما مفهوما الربانية والإنسانية، الربانية بتوكيد البُعد الإلهى للحياة الدنيا وبتعيين الآخرة هدفًا وغاية نهائية لهذه الحياة، والإنسانية بإقامة الحياة الدنيا على عمد من أصلح الأنساق القيمية التى تبلغ بها الجماعات منتهى الصلاح في الدنيا وفق ما يمكنها من الفلاح في الآخرة ، لذا كان على الجماعات التى ترتضى الإسلام دينًا ، أن تهيئ حياتها على أسس مقتضى المنظومة الفكرية والفلسفية للإسلام، وإن كان النظام القانونى لأي جماعة بشرية، من ضرورات حياتها، فقد كان لزامًا على المجتمعات البشرية الإسلامية، أن تبتني نظامها التشريعي على أصل من المنظومة الفكرية الإسلامية، وهي بصدد ضبط مجمل أوجه حياتها على أصل هذه المنظومة الفكرية .

أولاً: المشروعية :

ولعل أول وأبرز ما يلفت النظر إليه، ونحن بخصوص بيان أصول النظام التشريعي الإسلامي، وبتأثير من مفهوم الربانية والحرية الإنسانية المنضبطة أصولاً بعبادة الله وحده، هو كيفية ابتناء المشروعية داخل كيان المجتمعات الإسلامية، أو بمعنى آخر: كيف يتعين إطار المشروعية داخل منظومة التشريع الإسلامي؟ ومفهوم المشروعية – في حقيقته – حديث نسبيًّا – فقد ظهر مع ظهور الدولة القومية المعاصرة، وهو مفهوم وفق النظر القانوني الوضعي السائد يفترض ابتداء وجود دولة بحسبها مشخص السلطة السياسية داخل المجتمع، تدعي نسبة وجودها إلى غاية خير الجماعة باستهدافها وصيانتها ، أيــًّا ما يكون الأصل الفلسفي لوجودها، هذه السلطة على هذا النحو يتعين أن يتوافر لها نظام قانونى قادر على توفير الأمن وتحقيق العدالة داخل المجتمع ، الأمن والعدالة اللذين هما سند وجودها، فيفوض من الأوامر والنواهي ما يمكن من بلوغالمستهدف من صالح عام، بحسبان هذا النظام القانونى تصويرًا مقبولاً لفكرة العدل المستكنة في ضمير الجماعة وتجسيدًا سليمًا لمعنى الصالح العام(1) .

ويفترض مفهوم المشــــروعية أيضًا – وفق ذات النظر – تلازمًا حتميًا بين السلطة السياسية الحاكمة والقانون، فرغم كون هذا المفهوم يتأصل على خضوع الجميع لمقتضى النظام القانوني، بما يفيد خضوع الدولة ذاتها لهذا النظام، فإن القانون يظل أحد أصول هذه السلطة السياسية والمبرر لانصياع الكافة لأوامرها. فالسلطة السياسية لم تكن ولم توجد إلا لخير المجتمع، والقانون حين ما وضع من جانبها ، إنما كان كشفًا عن ضمير العدالة، ومن ثم فالسلطة والقانون وجهان لعملة واحدة، فالأولى تخلق الثاني، والثاني لا سلطان له إلا مـن خلال الأولى كما عبر (هوريو)(2)، حسب مفاهيم المدرسة الوضعية السائدة في الفكر القانوني المعاصر. ومن جانب آخر، يتأصل مفهوم المشروعية على فكرة سيادة الدولة، التى تقوم عليها كافة الدول في وقتنا المعاصر ، من وجهة السيادة الكاملة لمؤسسات الدولة داخليًّا، وعلوها على كافة الأبنيةوالنظم القائمة داخل مجتمع الدولة، ومن جهة السيادة الكاملة لها خارجيًّا فلا تعلو أرادتها في المحيط الدولى إرادة أخرى ، حيث تستوى – قانونًا – كافة الدول على ذات قدم المساواة، ما مفاده أن سيادة الدولة إنما هي الاستعلاء داخليًا وخارجيًا على أي إرادة أخرى ، بما ينفى عن الدولة كاملاً أي تصور يتعلق بالخضوع لغير ما تنتجه إرادتها الذاتية من تصرفات(1).

وبذلك يستوى مفهوم المشروعية في التصور الوضعى ، على كونه انعكاس سيادة الدولة الداخلي، المتمثل فيما تنتجه مؤسساتها المختصة من وضع قانونى تنتظم داخله كافة قوى المجتمع، أفرادًا ، وجماعات ، ومؤسسات الدولة ذاتها – بحيث تتحدد شرعية التصرفات التى تتم على ضوء مقتضى اتفاقها أو اختلافها مع نظم وأحكام وقواعد هذا الوضع القانونى الحاكم، وذاك كله في ظل الحاكمية العليا للدولة بحسبها مصدر المشروعية وأساس الشرعية في محصلتها النهائية .

فإن شئنا تلمس وضع المشروعية في النظام الشرعي الإسلامي، وجدنا تبدلاً جذريًّا في أصل تكون هذه المشروعية. فالإسلام بكافة نظمه ، وهو يقوم على أصل مفهوم الربانية ينطلق من حقيقة حاكمية الله تعالى وحده. فهو صاحب الخلق، ومن ثم المتحكم الأوحد فيهم حسب مشيئته . والله سبحانه وإن بعث محمدًا (صلى الله عليه وسلم) ، بالقرآن الكريم، مقررًا فيما قرره ، تنظيمًا شاملاً في مجمله لحياة الناس، ومفصلاً في سنة رسوله لما أجمله من أحكام ونظم، إنما كان لتضحى كلمته هذه ، هي العليا، داخل المجتمع وخارجه . فبمقتضى ربوبيته واستعلائه يحكم حياة عباده وينتظم أوضاعها وأطرها ، ليصير الله تعالى ، مصدر جميع الأحكام الشرعية بما تتضمنه من تصور عقدى عن الله والكون والإنسان، وتصور أخلاقي، سواء يظهر مباشرة بالنصوص أم يهتدى إليه بالاجتهاد، فضلاً عن الكليات والأصول الضابطة لحركة المجتمع بقواه المختلفة، وهي الأحكام الخاصةبالسلوك والمعاملات . وعليه فلا تعلو إرادة على إرادة الله ولا يخضع لسواه خاضع، لينفرد سبحانه بالحكم إطلاقًا وعمومًا ، وهذا الحكم إنما يستفاد إما بالنصوص الثابتة بكتاب الله وسنة نبيه ، وإما باجتهاد العلماء في إطار المنهج الرباني ومن داخل مصادر التشريع الإسلامي المنضبطة ابتداء بالكتاب والسنة(1) . وعليه ومن ثم ، تتأسس المشروعية في التصور الإسلامي ، لا على مفهوم الدولة وسيادتها ، وإنما على مفهوم حاكمية الله العليا وعلى مقتضى كلمته الواردة بالكتاب والسنة، ولتتعين المشروعية في كلام الله وأحكامه ونظمه وأوضاعه التى قررها لعباده .

ودليل ذلك أن المشروعية الإسلامية، وهي ربانية بالأساس إنما تتمثل مرجعيتها في كلام الله لقوله تعالى : (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) [التوبة: 40]، وسنة نبيه المختار لقوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا(64)فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 64،65].

وبعد ، وإزاء هذا التباين الجذري في محتوى المشروعية بين النظم الوضعية والنظام الشـرعي الإسلامي، فثمة آثار جوهرية، تترتب على اعتبار الله مصدر المشروعية والمرجع الوحيد للأحكام بحسبان نسبتها كافة إليه وحده، وهي على الآتى :

أ – إن الدولة – بوصفها السلطة السياسية مشخصة الجماعة – لم تعد غاية في ذاتها، ولم تعد القيم المتبناة جميعًا أدوات تستخدمها الدولة لتحقيق مآربها حسبما يتراءى لها ، وعليه لم يعد الدين مطية للدولة تستعمله لتحقيق صالحها أو صالح المجموع حسب تصورها هي ، كما هو حال النظم الوضعية، وإنما صار الدين هو الأصل، وغدت الدولة هي الفرع ، صار الدين الحاكم المتحكم وغدت الدولة خاضعًا منضبطًا داخل أطر حاكمية الدين. ومن ثم لم يعد الأصل السياسي هو صاحب سلطان الهيمنة على العنصر الديني ، وإنما تبدل الدين من مجرد عنصر إلى أصل، وغدا السياسي عنصرًا في المعادلة الدينية الحاكمة للمجتمع أشمل.

ب – ويرتبط بذلك، وعلى مستوى المصلحة المبتغاة، تبدلاً مقابلاً ، فإذا كانت فكرة الصالح العام لتتعين في المنظور الوضعى على أصل من ركيزتين اثنتين(1) ، أولاهما: مفهومها، وإنما على العكس يتم استخدام الدين كعنصر من ضمن عناصر أخرى، وعلى نحو برجماتي نفعي، في تحقيق المصلحة ودنيويتها البحتة باعتبار أنه لا يداخلها أي عناصر دينية أو وضعية، أي لا تساهم الأخيرة في بلورة المنشود من أهداف هذه المصلحة، وثانيتهما: انفراد الدولة وحدها والقوى السياسية داخلها بتحديد صالح الجماعة وتعيين عناصر هذه المصلحة . أقول: إذا كان ذلك كذلك فإن فكرة الصالح العام لدى النظام الشرعي الإسلامي إنما ترتكز بالأساس على إقامة الدين والتمكين له داخل المجتمع ، ولتصير غاية الدولة الأولى والأسمى هي تكريس السيادة والسلطان للدين داخل المجتمع ، ومن جانب آخر فلا تتحدد مصلحة الجماعة وفق أهواء القوى السياسية الفاعلة، وإنما تنضبط حسب التصور الإسلامي لمصلحة الناس، ذاك أن مصلحة الجماعة سابقة على وجود الجماعة أو الدولة الإسلامية ذاتها، ولازمة لها بحيث تفقد هذه الدولة مبرر وجودها إذا تخلت عن غايتها أو تنكرت لها(2) .

وعليه فالنظام السياسي الحاكم، ليفقد سند شرعيته ، إن هو تنكر لأصل المشروعية الإسلامية الحاكمة ، إن هو تخلى عن الغاية الأولى ممثلة في صالح الدين، أو قام ببلورة صوالح للجماعة تمايز صالحها المرسوم بالتصور الإسلامي مهدرًا الأخيرة، وبذلك يضحى التصاق السلطة السياسية الحاكمة بالغاية المقررة إسلاميًّا في إعلاء سلطان الدين والتمكين له من جهة، وفي استهداف صوالح الجماعة كما هى مقررة بالنهج الإسلامي، وعدم الحيد عنهما، – أقول: يضحى هذا شرط ابتداء لمشروعية هذه السلطة كما هو شرط بقاء لاستمرار هذه المشروعية، وإخلال السلطة بهذه الغاية من شأنه أن يفقدها أصل شرعيتها؛ مما يجيز للجماعة عصيانها ويرفع عنها واجب التزام الطاعة(3) .

جـ – لم يعد القانون صنعة النظام السياسي الحاكم، من جهة كسب المشروعية بالانتساب إلى المؤسسات الرسمية المختصة بهذا الشأن، وإنما صارت مشروعيته رهينة الانتساب إلى المصدر الإلهى، فالتشريع يتعين فيه للقول بمشروعيته، قيامه تأسسًا على هذا المصدر الإلهى، إذ أن مقتضى المشروعية الإسلامية، الاعتقاد بصلاحية شرع الله بحسبه مصدرًا للتشريع وببطلان كافة التشريعات والقوانين التى تناقض هذا الشرع، وابتناء الكيان الجمعي على أصل من هذا الشرع، حتى يتحقق المنهج الإلهى القويم ممثلاً في الإنزال العقدي على الواقع التطبيقي صبغًا للحياة الجمعية بالأردية الإسلامية، فإن كانت الغاية الإلهية تتمثل في أسلمة الحياة، فإن ذلك ما يكون له أن يتحقق إن ظل الواقع التطبيقي بمعزل عن الأصل العقدى ، ومن ثم فليس ثمة مناص من تلامس الحياة لكل ثنيات وتفاصيل الإطار العقدى العام الحاكم، وليس فقط لكيانه وأصوله، وهو ما لا فكاك معه، وخاصة في الشأن التشريعي ، من التربص بالشريعة الإسلامية بحسبانها مرجعية تشريعية حاكمة، ليغدو النظام القانونى صنعة الإطار الديني الحاكم وليس صنعة الدولة . بل وفضلاً ، فإن الدولة ذاتها تعد – كما هو حال النظام القانوني – صنعة هذا الدين، فكلاهما يستمد من الدين أصل شرعته، وكلاهما يؤصل كافة أوضاعه وأحكامه ومفاهيمه ويضبط حركته حسب نظم هذا الدين .

د ـ بنزول الإسلام – ونحن هنا نتحـــدث على مستوى التنظير لا التطبيق – حدثت مصالحة تاريخية بين الجماعة – هيئة الأفراد المؤلفة لكيان المجتمع – وبين الدولة – النظام السياسى الحاكم والمشخص لهذا المجتمع – فالمشاهد بالاستعراض التاريخي السالف، أن ثمة فراقًا كان دومًا قائمًا على مستوى التنظير والواقع بين الجماعة والسلطة السياسية التى تبلورت بعد حين في شكل الدولة المعاصرة ، فراقًا تمثل في اختلاف القيم والأهداف والمصالح بين كل منهما، فلم تكن الدولة تعبيرًا أمينًا لطموحات الجماعة بكاملها، وإنما كانت دومًا تعبر عن طموح جزء منها، طائفة أو طبقة أو عرق أو جنس معين – دون باقى أجزاء الجماعة ، مما مثل حالاً من الصراع الداخلي الدائم بين الجماعة وبين السلطة السياسية الحاكمة – وكان مبعث هذا الافتراض بين كل من الجماعة والدولة، أن الأخيرة كانت تعيش نسقًا قيميًّا معينًا للقائمين عليها المهيمنين على سلطان الحكم، المحتكرين له، مختلفًا عن ذلك المعتنق من قبل باقى الجماعة، وكثيرًا ما كانا يفترقان جذريًّا على المستوى الأيديولوجي أو العقدى، مما كان يرتب أثاره على كافة مستويات الواقع المعاش، ابتداء بالأهداف الغائية المبلورة، وانتهاء بالتفاصيل الحياتية المعيشة، على نحو خلقِ حالٍ من التوتر الدائم بين الجماعة المحكومة والدولة الحاكمة. غير أنه ومع نزول الإسلام ، حدث تبدل تاريخي في العلاقة بين السلطة الحاكمة والجماعة، فلم تعد الأولى حكرًا على فئة معينة دون أخرى – وأكرر أنى أتحدث على المستوى النظري – ولم تعد الثانية تستشعر تهميشًا لها على المستوى العقدى والأيديولوجي أو مستوى الأهداف المبتغاة، فالكل يدين عقديًّا بالإسلام، والكل يستمد منه أصل شرعته، ومنه يتشكل إطار المشروعية، فالله تعالى هو المرجع من قبل ومن بعد، ومن شريعته تتحدد الولايات العامة وحدود سلطانها وضوابط حكمها واختصاصها، وإلى الله يتوجه الجميع في كافة الأعمال ، مما يرفع عن العمل مشروعيته إن استوى بعيدًا عن الوجهة الربانية، وعليه كانت أصول الشريعة الإسلامية وكلياتها وما انطوى عليه الكتاب وفصلته السنة النبوية من أحكام وقواعد، فما الضابط المحدد لحياة الجماعة وحدود علاقتها بسلطة الحكم، وفي الأخير غدا مناط طاعة الجماعة سلطة الحكم، هو التزام الأخيرة لكلام الله وسنة نبيه وأحكام شريعته. وبذلك لم يعد ثمة افتراق بين الجماعة والسلطة السياسية وذلك على المستوى النظري . وهو ما انعكس عمليًّا في التطبيق، فما فتئت سلطة الحكم تستمد أصل مشروعيتها من الإسلام حتى صار انصياعها لضوابط الشرع الإسلامي أمرًا يكاد يكون هو الغالب ، وصار للجماعة حق العصيان عند خروج السلطة عن مقتضيات هذا الشرع، وكان من انعكاسات هذا الأمر، أن غدا التشريع الإسلامي تشريعًا تابعًا للنص المنزل، لا لرؤية السلطة الحاكمة وأهوائها، وأضحت المصلحة المحمية من قبله لا الصوالح المخصوصة حسب الرؤية الإنسانية، وإنما الصوالح الربانية المرسومة منهجًا وكليًّا بالكتاب والسنة .

ثانيًا : الحق ومبدأ سلطان الإرادة:

عرضنا آنفًا لمفهوم الحق لدى الفكر القانوني المعاصر، المصاغ في كنف الفكر الفردي منذ نهايات القرن السابع عشر، وتبين لنا أن تلك المنظومات الفكرية، كانت قد انبنت فلسفاتها على سند من كون الحق الفردي، إنما هو حق ذاتي مطلق، حق ذاتي من وجهة اكتساب الفرد له بواقعة الميلاد، أي بواقعة الوجود في الطبيعة، ثم استصحبه معه بعد ذلك عندما قرر الفرد مشاركة غيره تجمعًا إنسانيًّا ، وهو مطلق من وجهة ما يقرره من مزايا لا انتهائية لصاحبه ترتب التزامات على سائر الأفراد الآخرين من حيث وجوب احترام هذه المزايا ومنع التعرض لصاحب الحق في استعماله إياها.

وارتبط بذلك تبلور مطلق لمفهوم سلطان الإرادة ، التى صار لها في ظل هذه النظم قدرات غير محدودة بأي ضابط أو قيد، وذاك في مجال صياغة التصرفات القانونية، بحسبان أن ليس ثمة ما يلزم الإرادة الفردية سوى ما قررته، فهى وحدها مصدر الالتزام، وهي وحدها محددة مضمونة .

بيد أن هذا الحال ليتباين مليًّا إن نظرنا إليه من خلال منظومة الشريعة الإسلامية، فلا الحق على هذا النحو من الذاتية والإطلاق المتقدم، ولا سلطان الإرادة يتمتع بهذا القدر المتناهى من الأطلاق المتفلت على ما تبدى، وذاك على ما يلي :

أ – الحق في الفكر الشرعي الإسلامي:

الحق – لغة – صح وثبت وصدق، قال الله تعالى: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) ويقال : يحق عليك أن تفعل كذا : أي يجب، ويحق لك أن تفعل كذا : أي يسوغ، وحقيق عليّ ذلك : أي واجب(1) .

وجاء في لسان العرب: حق إنما تعنى صار وثبت؛ وقال الأزهري : معناه وجب يجب وجوبًا، وحق عليه القول وأحققته أنا: أي وجب وأوجبته . ويحق عليه أن يفعل كذا: يجب واستحق الشيء: استوجبه، وفي التنزيل (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ) [المائدة: 107] أي استوجباه بالخيانة(2) .

حال استقر الاصطلاح الإسلامي على أن للحق معنيين: أولهما: الحكم المطابق للواقع، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ويقابله الباطل، والآخر: إنمــا يكون بمعنى الواجب الثابت(1). ما يبين بعد أن ثمة تداخلاً في المفهوم اللغوى ما بين الحق و(الواجب)، إذ أن مناط التمييز في المعنى بين كل منهما – لغويًا ـ إنما يكمن في حرف الجرّ الذي يليهما، فـ (وجب له) و( واجب له) إنما يعنيان (حق له)، أما ( واجب عليه) و(وجب عليه) فيعنيان ( حق عليه) و(حقٌ عليه) الأمر الذي يؤكده المعنى اللغوى للواجب، إذ وجب الشيء إنما يعنى لزومه ، وأوجبه هو ، وأوجبه الله ، واستوجبه فإنما يعنى استحقه، ويقال: وجب الشيء وبه يجب وجوبًا إذا ثبت ولزم(2) .

والبين مما تقدم، أن المنظومة الإسلامية وهي العربية ثقافيًّا ، إنما تبنت المفهوم الاصطلاحي (للحق) على أصل من حقيقة معنى الجذر اللغوى لكلمة (حق) من وجهة التداخل ما بين مفهوم كل من (الحق) و(الواجب) حتى غدا مضمون الحق في الاصطلاح الإسلامي إنما ينطوى على معنيين أحدهما الواجب الثابت(3) .

ومن هذا الفهم، يمكن رصد القاعدة الأساسية التى تبلور على سندها مفهوم (الحق) في التشريع الإسلامي ، ففي نظرنا، الحق لا يفيد امتيازًا خالصًا مجردًا إطلاقًا لصاحبه، وإنما يخصه بمكنات قدر ما يحمّله بواجبات. ذاك أن الحق يتضمن ذاتيًّا وجهين من الواجبات: الوجه الأول: هو ما يثقل كاهل الآخرين من واجب عليهم تجاه صاحب الحق، أو حسب النظريات الاجتماعية يثقل كاهل صاحب الحق ذاته تجاه الجماعة بأن يستخدم الحق على نحو ما يوفر به للجماعة ما هو مقرر تحصيله جمعيًا من وراء هــذا الحق. وذلك في أحـوال تعلق الحق بعلاقة متبادلة بين اثنين أو أكثر، يمثل الحق المقرر لأحد طرفيها واجبًا على طرفها الآخر، وهذا الوجه من الواجبات أمر متحقق لدى كافة النظم التشريعية، الوضعي منها والإسلامي، ويمكن اعتبار هذا الوجه من الواجبات بالواجبات الخارجية ، أما الوجه الآخر منها الذي يتضمنه الحق ، وهو الذي يعتبر الواجبات الداخلية الذاتية، هو ذاك الذي يثقل كاهل صاحب الحق نفسه بسبب هذا الحق ذاته، وهذا الوجه الأخير هو موضع عنايتنا ومقصودنا بهذا الخصوص، إذ التصور الوضعي للحق، لا يتجه نهائيًّا سوى إلى مكنات هذا الحق والامتياز الذي يرتبه لصاحبه والالتزام الذي يثقل كاهل الغير نتاج هذا الحق، أما التصور الفقهي فبحكم انطلاقه من الحقيقة الربانية للحياة ، التى تتأصل على الاعتراف بالله تعالى والاعتراف له سبحانه بالمرجعية التشريعية في الجزء الاختياري من حياة العباد – كما هو معترف له بحاكميته على الجزء غير الاختياري منها – إنما يرى الحق بحسبه منحة الله تعالى للإنسان، التى أودعها إياه(1) ، ومن ثم فليس في الحق من قدرة سوى تلك التى انتظمها الله تعالى له ، وعليه إزاء كون الحق وديعة، فلا يكون الإنسان بمتصرف فيها على رسله حسبما يشاء، وإنما هو ملتزم من وجهة كونه مودع لديه، بحق صيانة الوديعة وحفظها ، واستخدامها على نحو لا يؤدى إلى تبديدها أو إهدارها ، فسلطان الإنسان على الحق، منضبط بالحدود المعينة من قبل الله سبحانه في الانتفاع بهذا الحق، إن الإنسان ما نال هذا الحق بقدرته، وإنما ناله بقدرة الله تعالى، فوجب على الإنسان حالتئذٍ استخدام الحق على نحو ما هو مأمور به من لدن خالقه، ومن ثم غدا الحق في المنظور الفقهي، واجبًا على صاحبه كما هو امتياز له، أي أنه في البيان الدقيق لا يعدو كونه مركزًا قانونيًّا يتهيأ فيه صاحبه، فينشأ له مكنات تترتب عليها ذاتيًّا التزامات تثقل كاهل ساكن هذا المركز، وتتعين هذه الالتزامات حسب طبيعة كل مركز قانونى، أي بحسب طبيعة الحق المقرر أو الناشئ، ولعل أبرز ما يفسر ما تقدم، حق الإنسان في الحياة ، فهذا الحق هبة من الله تعالى للإنسان (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) [الحج: 66] ، فالله سبحانه (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ(7)ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصـــــارَ وَالأَفْئِدَةَ ) [السجدة: 7-9] .

ومن ثم صارت الحياة حقًّا مؤمنًا للإنسان ليس لأحد أن يمسها ، وما يكون الواجب الخارجي لهذا الحق، فهو واجب على الغير يلزمه بألا يرتكب ما يصيب الإنسان في أصل حياته أو صحة وسلامة جسمه وروحه، بيد أن ثمة واجبًا داخليًّا يتضمنه هذا الحق يتمثل في التزام الإنسان نفسه بألا يمس حياته الذاتية بضرر وألا يصيب جسمه أو روحه بأى أذى، ومن هنا كان تحريم الله تعالى على الإنسان قتل نفسه – الانتحار – (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29)وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَــــوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا) [النساء: 29-30]. وغير ذلك من الأمثلة تدليلاً على ما نذهب إليه كثير، فحق الإنسان في التمتع بحياته ثابت. فالله تعالى يقول : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ ) [البقرة: 267]، ويقول: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) [النحل: 72] . أي أنه سبحانه خلق الإنسان في الحياة ليحياها متمتعًا بما أحله تعالى له، إلا أن ثمة واجبات يرتبها مقتضى هذا الحق، الوجه الأول منها وهو الخاص بالواجبات الخارجية يتمثل في عدم إضرار الإنسان في استمتاعه بما أحله الله بالغير أكان فردًا واحدًا أو مجموعة معينة من الأفراد أو مجمل الجماعة التى يعيش فيها، أما الوجه الآخر وهو المتعلق بالواجبات الداخلية فيتمثل في ألا يضر الإنسان بنفسه نتاج تمتعه بهذا الحلال.

وكذا حق الإنسان في الاعتقاد، فالله تعالى وبمقتضى ما منحه للإنسان من حرية في الاختيار (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(2)إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان: 2-3]، فمنح الإنسان حقًّا في الاعتقاد ، فله الإيمان بالله تعالى إيمانًا حقًّا وفق النهج الرباني المقرر بالإسلام ، وله الإيمان به إيمانًا مشوهًا محرفًا حسب ما جاء بباقى الأديان السماوية، وله الكفر به إطلاقًا – والعياذ بالله – وفي كل ذلك أقر الإسلام الإنسان في اختياره هذا وحفظه عليه وآمنه في اختياره، وذاك مما انتظمه من أحكام لحفظ العلاقات بين المسلمين وغيرهم من أهل النحل والملل، إذ قال تعالى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 8-9] . مما يفيد أن ثمة واجبًا عامًّا على كافة المسلمين – تجاه معتقدى غير الإسلام دينًا – بأن يقسطوا إليهم ويبروهم وهو التزام يرتقى مرتبة أعلى إن كان أولئك من غير المسلمين من أهل الأديان السماوية ، فالله سبحانه يقول في محكمه: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمـُونَ) [العنكبوت: 46](1) .

يغدو الحق في الاعتقاد وتخير غير الإسلام دينًا حقًّا ثابتًا يرتب واجبات على الغير – وهم حالتئذ المسلمون – بأن يحفظوا عليهم العيش الآمن داخل ديار الإسلام ويحفظوا لهم معتنقهم المختار بعدم إكراههم على الإسلام ، إذ (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256] .

بيد أن هذا الحق ليرتب آثارًا داخلية تقع على غير المسلمين المتمتعين به، يتمثل في وجوب التزامهم أحكام الإسلام وحدوده ، ومراعاة شعور المسلمين ، وعدم مناصرة أهل دار الحرب(2) . بل ويرتب واجبًا داخليًّا آخر – أبعد عمومية – يتمثل في التزام كل إنسان من جهة كونه إنسانًا – بتخير الإسلام دينًا إن شاء الفلاح في الدنيا والآخرة . ولعل هذا الحق، بما يقرره من حقوق لأصحابه وواجبات عليهم وعلى غيرهم من المسلمين، إنما يمثل جوهر عقد الذمة، الذي هو من العقود الدستورية العامة، التى تبرمها الجماعة السياسية العامة، وهم المسلمون، مع بعض الجماعات الفرعية المنتمية لدار الإسلام، بمقتضاه يتم إقرار غير المسلمين على دينهم متمتعين بحماية الجماعة الإسلامية ورعايتها، شريطة التزام الجماعة الفرعية أحكام النهج الإسلامي في غير الشأن الديني(1) .

وبذلك نكون قد انتقلنا في معرض التدليل على تصورنا لمفهوم الحق بالفقه الإسلامي من الحق الفردي الخاص، إلى الحق الجمعى العام، ولسوف تتضح الحقوق العامة بعد ما يلي من عرض لأنواع الحقوق في الإسلام .

ولعل ما يدعم رأينا في هذا الخصوص، ما اعتمده غالب الفقه الإسلامي من تقسيم للحقوق إلى حقوق لله وحقوق للعبد(2). فإذا كان الشائع لدى العلماء أنها أربعة أقسام ، قسم أول وهو حقوق خالصة لله، وقسم ثان وهوحقوق خالصة للعبد، وقسم ثالث وهو ما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب كحق القذف ، وقسم رابع وهو ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد غالب كالقصاص(3) . فثمة من يحتسبها ثلاثة أقسام فقط، إذ يذهب الإمام القرافي إلى انقسام الحقوق إلى حقوق لله تعالى فقط، وهي القائمة على أمر الله ونواهيه كالإيمان وتحريم الكفر، وحقوق العباد فقط، وهي القائمة على مصالحه والتكاليف كالديون والأثمان، وحقوق اختلف فيها هل يغلب عليها حق الله أم حق العبد، ومناط التغليب في هذا القسم الثالث إنما هو قدرة العبد على إسقاطه، فإن أمكنه ذلك كان حقه فيه غالب، وإن لم يكن كان حق الله فيه غالب(4).

بيد أن ما نراه أقرب إلى الصحة في هذا الخصوص، ذاك الرأي الذي ذهب إلى أن ليس ثمة حق خالص، أكان لله أم للعبد، فلله دائمًا حق بحسبان أن كل تكليف إنما يُعد حقًّا لله وكان لله ألا يجعل للعبد حقًا أصلاً، وكذلك كل حكم شرعي واف كان من قبيل الإيمان بالله وتحريم الكفر – إنما يعد من مصلحـة العباد عاجلاً أو آجلاً(5)، وينتهى هذا الرأى إلى أن الحقوق نوعان، نوع غلب في حق الله ويطلق عليه اختصارًا حق الله ونوع آخر غلب فيه حق العبد ويطلق عليه اختصارًا حق العبد(1) .

وعليه يقرر هذا الاتجاه أن حقوق الله حالتئذ إنما هي ما قصد به قصدًا أوليًّا التقرب إلى الله سبحانه وتعالى وإقامة دينه كالعبادات الواجبة من الصلاة والصوم، وما قصد به حماية المجتمع بأن ترتبت عليه مصلحة عامة له من غير اختصاص بأحد، أي هي حقوق جماعية تمت نسبتها إلى الله تعظيمًا وتشريفًا لها ، وأخيرًا ما قصد به حماية من يظن به الضعف عن حماية حق القاصر والصغير الذى لا حاضن له(2) . أما حق العبد فهو ما ترتبت عليه مصلحة خاصة لفرد أو أفراد كحق كل إنسان في داره وعمله وزوجته، ويسمى بالحق الخاص(3) .

ووجه الدلالة فيما تقدم على منتهى بحثنا، أنه إذا كان ثمة تقابل دائم بين حقوق العباد وحقوق الله فثمة واجب دائم ينطوى عليه كل حق – أكان حقًا فرديًّا خاصًّا أو حقًّا جمعيًّا عامًّا – ذاك أن العبد وهو بصدد إحصاء حقوقه الفردية، كما في حقه المقرر على ملكه الخاص، فثمة واجبًا عليه في صونه وحمايته على نحو ما ينتفع به المجتمع، فاختصاص صاحب الحق الخاص به ليس اختصاصًا كاملاً ، وليس له حرية مطلقة في التمتع به كما قد يتبادر من وصفه بالخاص، بل الواقع أن للجماعة فيه حقًّا عامًّا ومشتركًا بينهم(4) ، وذلك من ناحيتين: الأولى ، أن تصرف الشخص فيه مشروط بشرط سلامة الغير من أي ضرر ينشأ عن استعمال هذا الحق، ولذلك فللجماعة منعه عن استعمال الحق استعمالاً ضارًّا بهم، وقد ذهب الفقهاء إلى عدم جواز استعمال المالك ملكه استعمالاً يترتب عليه ضرر بيّن بجيرانه، والناحية الثانية، أن الحق الخاص- كما جعل سبحانه فيه مصلحة فردية لصاحبه – جعل فيه مصلحة اجتماعية لصالح الجماعة؛ لكونه من ثروة الجماعة التى تعتمد عليها ؛ ولذا نهى الشخص عن إتلاف ماله وعن تبذيره؛ لأنه إن لم تصبه هو الخسارة أصاب الجماعة الخسر ويدل على ذلك النهى عن الاحتكار ورفع الأسعار(5) ، وفي ذلك قال تعالى: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ) [النساء: 5]، وقال: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة: 34].

ومما يؤكد هذا القول، ما ذهب إليه العز بن عبد السلام، في تقسيمه الفريد للحقوق إلى أربعة: (حق الله على العباد، وحق لكل عبد على نفسه، وحق لبعض العباد على بعض، وحق للبهائم على العباد. وهي منقسمة إلى: فرض عين، وفــرض كفــاية، وسنة عين وسنة كفاية، وليس في حق العبد على نفسه فرض كفاية ولا سنة كفاية)(1) ما يتضح منه بجلاء أن مناط تعيين الحقوق لديه، إنما هو ما ترتبه من واجبات على صاحب الحق، فقد أبان الحق من وجهة الفرض أي الواجب الذي يقرره، سواء على صاحبه أو على الغير، وأساس التمييز بينها جميعًا يكمن فيمن يتوجه إليه الواجب المقرر وفي مدى لزوم هذا الواجب ، ومدى تعيينه، وإن كان ما يعنينا في هذا الخصوص مقاربة الإمام للحق من زاوية ما يرتبه من واجب .

وإن كان ذلك كذلك، ونحن في خاصة الحقوق الفردية، فالأمر ليس ببعيد في شأن الحقوق الجمعية العامة، ذاك أنه إذا كان للجماعة السياسية العامة وكذلك الجماعات الفرعية ذات وحدات الانتماء المخصوص داخل هذه الجماعة العامة، حقوق على أفرادها، من ولاء وطاعة وانصياع لنظمها، فإن هذا الحق ليس حقًا عامًّا مطلقًا، بحيث ينسحق الفرد كاملاً داخل جماعته دون أن يكون له أي حقوق قبلها. إن المجتمع في النظر الإسلامي أسرة مترابطة، يرتبط أفرادها بروابط الإيمان والإسلام، حيث يلتقى الجميع على غاية واحدة ومنهج واحد ، ويجمعهم وحدة شعور وعاطفة ومصير، فالمجتمع الإسلامي جسد واحد كجهاز أو عضو أو خلية به يرتبط حتمًا بباقى أجهزته ، يمدها ويستمد منها وينفعها وينتفع منها، ومن هذه الزاوية فحق المجتمع في طاعة الأفراد له، يتضمن واجبًا عليه يصون كل فرد من أفراده ، ويحميه، بإشاعة العدل بين كافة أفراده، وهنا يتعين واجب المجتمع في كفالة المعوزين من أفراده الذين تقطعت بهم سبل العيش والارتزاق ، فإعانة هؤلاء لتعود كونها فرض كفاية على المجتمع أشمل، بحيث يتعين هذا الواجب في ذمة الدولة المشخص السياسي للجماعة، إن لم يتصد أي من أفراد المجتمع أو جماعاته الفرعية لإعانة المحتاج. وتفصيلاً نجد أن هذا الواجب الملقى على عاتق الجماعة ، إنما هو كذلك على ثلاثة مستويات، يتدرج من حال الواجب الفردي الملقى على الغني تجاه أقربائه الفقراء ،إلى حال الواجب الفردي الملقى على الغني تجاه أي من فقراء الجماعة بكاملها، إلى الحال الواجب الملقي على الجماعة كلها ممثلة في الدولة مشخصها السياسيى – تجاه أي من الفقراء المعوزين.

فعلى المستوى الأول: أكد الإسلام حق ذوى القربى وحث في أيات محكمة وأحاديث رسوله على برهم وصلتهم والإحسان إليهم، كما توعد قاطع رحمه والمسييء إلى ذويه بالعذاب الشديد، فقال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَـدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) [النحل: 90] ، (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُــمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)[الإسراء: 26]، (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَــنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) [النساء: 36].

ويفصل رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) ، فعن محمد بن عيسى عن الحارث بن مرة بن كليب بن منفعة عن جده أنه أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: من أبر قال أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك ، حق واجب ورحم موصولة)(1) . الأمر الذي يتأكد معه ما للقريب على قريبه من حقوق ، وما لا ريب فيه أن من أهم هذه الحقوق الإعالة والإنفاق على المحتاج منهم، ولا أدل على ذلك من قول رسول الله بأن هذا واجب على القريب، حق للقريب الآخر، وقد أجمع فقهاء المسلمين على أن الزوج يجبر على نفقة زوجته ، والوالد يجبر على نفقة ولده الصغير والأنثى ، والابن يجبر على على نفقة أبويه، واختلفوا بعد ذلك: في بقية فروع الأقرباء، ومبلغ سلطة القاضى في إجبار القريب لينفق على قريبه ، وإن أوجبـوا عليه صلته وبره دينًا ، بالإجماع(1) .

ويؤكد هذا آي القرآن الكريم ، حيث إتيان ذوي القربى قرين عبادة الله وعدم الإشراك به والإحسان للوالدين على ما تقدم بسورة النساء: آية 36، ما يفيد اتحادهم في الحكم ، فإن كان حكم عبادة الله وعدم الإشراك به والإحسان للوالدين الوجوب غدا إيتاء ذوى القربى واجبًا بدوره.

أما المستوى الثاني: فقد شرع المولى عز وجل الزكاة واحتسبها ركنًا أصيلاً من أركان الدين التى لا يكتمل إلا بها، إن الزكاة مع التوبة من الشرك وإقامة الصلاة – عنوان الدخول في دين الإسلام واستحقاق أخوة المسلمين والانتماء إلى المجتمـع الإسلامي(2)، إذ قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم) [التوبة: 5] ، وقال سبحانه: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) [التوبة: 11] ، فإذا كانت إقامة الصلاة هي الرابطة الاجتماعية بين المسلمين فإن إيتاء الزكاة يضحى الرابطة المالية الاجتماعية بينهم(3) . والزكاة من حيث الحكمة منها، إنما هي إعانة الفقراء المعوزين ممن فاتتهم الإعانة على المستوى الأول ، فهي من أهم مظاهر التضامن الجمعي بين أفراد المجتمعالإسلامي ، حيث الغني الذي أنعم الله عليه وفضله بصنوف ما يزيد عن حوائجه، عليه رد جزء من أنعم الله إلى خلق الله ممن لا يجدون أقواتهم التى تقيم أودهم، وعن حكم الزكاة، فهي حق لجموع الفقراء بالمجتمع الإسلامي ، وواجب ودين في أعناق الأغنياء (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات: 19] ، (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَــــقٌّ مَعْلُومٌ(24)لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [المعارج: 24،25]، أي ان مستحقى الزكاة هم الملاك الحقيقيون لمال الزكاة، ولا غرابة في ذلك ؛ إذ أن الإنسان ليس مالك المال، وإنما هو أمين عليه من قبل مالكه الأصلى وهو الله تعالى ، وعليه فمن واجب الإنسان الإذعان لما يأمر به الخالق مالك المال ، من أداء للزكاة المفروضة وجوبًا(1) . ومما يؤكد هذا الأمر ، ما هو مقرر من عقاب لمانع الزكاة ، الذي لا يقف عند العقاب المالي فقط، وإنما يتعداه إلى جواز إنزال عقاب بدنى عليه(2) ، ما يقطع ليس فقط بوجوب الزكاة وليس فقط لكونها أحد أركان الدين الذي لا اكتمال له إلا بها، وإنما أيضًا لأهميتها في اعتدال حياة المجتمعات واستقامة معيشتها ، وبذلك يكون الإسلام قد وفر سبيلين لإعانة المحتاجين ، مقررًا إياهما بحسبهما حقًّا للمحتاجين ، وفرض عين على القادرين، فعل المستوى الأول هو واجب عين على الغني تجاه أقربائه الفقراء ، وعلى المستوى الثاني هو واجب عين على الغني تجاه فقراء المجتمع أجمع دون تعيين لعين المستحق . ليتبقى مستوى ثالث، وهو ذاك الذي تناول حال المحتاج ممن فاتته فرص الإعالة في أي من المستويين الأول والثاني المذكورين ، كما إن لم يكن له أقارب أغنياء يتكفلونه بالنفقة ، أو لم تصل إليه الزكاة من قبل من تجب عليهم، أو ضاقت حصيلة الزكاة المقررة لهم عن الوفاء بحاجتهم، فعندها يتعين في ذمة مال الدولة حق لهؤلاء في سد حاجاتهم منه، فلكافة المحتاجين حق في أي مال يكون تحت يد الدولة، فالله تعالى يقول: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَــــاءِ مِنْكُمْ ) [الحشر: 7]، وقال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) [الأنفال: 41] .

ويذكر الإمام السرخسى في المبسوط أنه على الإمام ( أن يتقى الله في صرف الأموال إلى المصارف، فلا يدع فقيرًا إلا أعطاه حقه من الصدقات حتى يغنيه وعياله، وإن احتاج بعض المسلمين وليس في بيت المال من الصدقات شيء أعطى الإمام ما يحتاجون إليه من بيت مال الخراج، ولا يكون ذلك دينًا على بيت مال الصدقة؛ لما بينا أن الخراج وما في معناه يصرف إلى حاجة المسلمين، بخلاف ما إذا احتاج الإمام إلى إعطاء المقاتلة ولا مال في بيت مال الخراج؛ صرف ذلك من بيت مال الصدقة كان دينًا على بيت مال الخراج لأن الصدقة حق الفقراء والمساكين، فإذا صرف الإمام منها إلى غير ذلك للحاجة كان ذلك دينًا لهم على ما هو حق المصروف إليهم وهو حال الخراج)(1) ، مما يفيد أن ثمة التزامًا دائمًا في ذمة الدولة بكفالة مواطنيها ممن تعوزهم الحاجة، حتى إنه إذا ضاقت موارد الخزانة العامة للدولة عن تحقيق كفاية الفقراء والمساكين، ولم يكن أبناء المجتمع المسلم من القادرين بكفاية أولئك المحتاجين، فإن على أولى الأمر في الدولة فرض أعباء مالية على أموال الأغنياء لمعونة الفقراء والوفاء بحاجاتهم الأصلية(2) . الأمر الذي يبين، من جملة هذه المستويات الثلاث ، أن ثمة إطارًا ينتظم كفالة المحتاجين داخل المجتمع الإسلامي، هذا الإطار يتأصل على أحكام الوجوب التى تتعين في القادرين لصالح الأقرباء من غير القادرين، أو تتعين في القادرين لصالح غير الأقرباء من غير القادرين ، وإما تتعين كفاية في ذمة المجتمع بأسره؛ حيث تلتزم به الدولة المشخص السياسي لهذا المجتمع، وهذه المنظومة من الواجبات التى تصب في حق غير القادرين، إنما هي عناصر متضمنة في حق أصلى للجماعة بانصياع الكافة لها وأئتمارهم بأمرها، وفي حق الأغنياء داخل الجماعة في الاستمتاع بما قسم الله لهم من نعمة وخصهم بها دونًا عن باقى أفراد الجماعة . مما يؤكدقولنا الذي سبق تبيانه من كون الحق، خاصًا أو عامًا ، إنما هو غير مطلق محدود ومنضبط ذاتيًّا بما يتحمله من أعباء نظير ما يوفره من مكنات .

ب – مبدأ سلطان الإرادة في الفكر الشرعي الإسلامي:

يقصد بمبدأ سلطان الإرادة في القانون الوضعي، كفاية الإرادة بذاتها لعقد تصرف قانونى دون حاجة إلى أي عنصر آخر، أي قدرتها منفردة على بناء التصرف وتعيين أركانه وشروطه، فضلاً عن إحداث آثارة القانونية . وقد اعتدت الشريعة الإسلامية بقدرات الإرادة في مجال التصرفات القانونية نزولاً على قول رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم): (المسلمون عند شروطهم) ، إلا أن ما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع الأخرى، إحاطتها هذا المبدأ بكثير من القيود؛ وذلك حماية: إما لأصول المنظومة الإسلامية أو للكليات الدينية أو لصالح الجماعة العام. فالشريعة الإسلامية، منظومة صافية شاملة، لا تقتصر على النظام في علاقات الأفراد بعضهم ببعض ، وإنما تنتظمهم داخل إطار تنظيمي بالغ الاتساع والتشعب ، يضبط علاقات الفرد بربه وبنفسه وبغيره من الأفراد ، كما يضبط علاقته بجماعته السياسية العامة المنتمى إليها وجماعاته الفرعية المنتسب لها ، فضلاً عن ضبطه أطر علاقات الجماعات بعضها ببعض وعلاقاتها بالسلطة السياسية الحاكمة، تنظيمًا يجد منطلقاته من قبل مقاصد الشارع الحنيف المجمع عليها، تحقيقًا لصلاح الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول أحمد إبراهيم بك: إنه (وبالجملة فإرادة الإنسان في الشرع الإسلامي حرة في تصرفاتها – قانونية وغير قانونية – ولم تقيد إلا بقيدين ، قيدها بهما الشرع والعقل ورعاية صالح المجتمع الإنساني؛ أولهما: ما حرمه الله تعالى ونهى عنه، فإنه يجب الابتعاد عنه حتمًا ، ويقابله في القانون ما يخالف النظام العام والآداب العامة . وثانيهما : ما فيه اعتداء على حقوق الناس المكتسبة شرعًا. وعند تصادم الإرادات يحفظ التوازن بينها بحكمة الشرع بالميزان الذي هو العدل الآلهى)(1) .

ففي التصور الإسلامي، لكل من التصرف القانونى والإرادة مدلول متباين مفارق لمدلوله الوضعى . فالتصرف القانوني في الفقه الإسلامي – وحسبما تواضع عليه العلماء المعاصرون، بمسمى التصرف الشرعي – هو (كل ما يكون من تصرفات الشخص القولية، ويرتب عليه الشارع أثرًا شرعيًّا في المستقبل) وفق ما استقر عليه الشيخ محمد أبو زهرة)(2) . وحسب ما ذهب إليه الأستاذ / محمد فهمى أبو سنة فإن المراد بالتصرف هو الالتزام الذي يصدر من الشخص فيرتب الشرع عليه أحكامه ، سواء كان بسيطًا أي من جانب واحد كالنذر، أو كان مركبًا من التزامين متبادلين يتوقف أولهما على ثانيهما كما في عقود المعاوضة(1) ما يبين بعد أن ثمة اختلافًا في مفهوم التصرف الشرعي عن قرينه التصرف القانوني في القانون الوضعى، وذلك من وجهتي الارادة الفاعلة بالتصرف والآثار المترتبة عليه ، إذ الغالب في خصوص الإرادة لدى الفقه المعاصر ، أن المذاهب الفقهية وعلى تباينها، بينها تقارب في خاصة هذا الشأن ، من وجهة تقسيم الإرادة إلى (اختيار) و (رضا) ، فرغم ما درج الفقهاء على قوله من كون التفرقة بين الرضا والاختيار داخل الإرادة هي تفرقة تخص الفقه الحنفى، فالمشاهد أنها تفرقة لا تتوقف عليه فقط، بل هي مشتركة بينه وبين بقية المذاهب، بيد أن بروزها لدى الأحناف إنما مرده عدم تلاقيها مع مبدأ آخر يطغى عليها ويخفف من دخولها ، كما الجعلية لدى الشافعية، وكما بروز دور العاقد في إنشـاء التصرف القانونى لــــدى الحنابلة(2).

والاختيار هو ترجيح فعل الشيء على تركه، أو القصد إلى مقدور متردد بين الوجود والعدم بترجيح أحد جانبين على الآخر، فهو يفترض قيام أكثر من بديل تتردد بينهما الإرادة ، أي أن الاختيار يعنى الرغبة أو القصد أو التلفظ بالعبارة المنشئة للعقد على أنها سبب عادى منشيء له وأداة شرعية لذلك . أما الرضا فهو الارتياح إلى فعل شييء أو ابتداء الاختيار وبلوغه نهايته، أي أن الرضا يعنى الرغبة في آثار التصرف أي اتجاه الإرادة إلى ترتيب آثار التصرف(3). ومن أمثلة أحوال انفكاك الرضا عن الاختيار ، حال المريض الذي يختار بتر عضو من أعضائه دون رضاه، وكذا حال الهازل والمكره في التصرف القانونى، فكلاهما يقصد التلفظ بعبارة إنشاء العقد ولكنه لم يرغب فيه ولم يشأ ترتيب آثارة .

والإرادة بهذه الكيفية، وهي بصدد التصرف الشرعي على ما تقدم – سواء أكان في مجال الالتزمات الشخصية أو مجال الولاية الخاصة على النفس أو مجال الولاية العامة المتعدية على الغير – إنما تنفذ بحكم الشارع الحنيف(1) ، إذ يكاد يتفق الفقه على أن الإرادة، وإن صلحت لإبرام التصرف الشرعي ، فإن الشارع هو الذي يرتب آثار هذا التصرف لا إرادة الفرد ذاتها(2) . وما يفيد كونها غير مطلقة السلطان كما حالها بالقانون الوضعى .

وبيان ذلك أن الإرادة في مجال الالتزامات الشخصية، حيث التصرفات الملزمة لجانبين كالعقود، والتصرفات الملزمة لجانب واحد كالالتزام بالإرادة المنفردة، والالتزامات الناتجة عن الأفعال الضارة وأعمال الفضالة، إنما ليتوقف مداها – أي الإرادة – عند حدود الحل والحرمة، أي أن سلطانها إنما يتحرك داخل مجال الحل المباح بينما تعجز عن تجاوز أطر التحريم المقررة بالأوامر والنواهي الربانية نصًّا أو إجماعًا، أو قياسًا معتبرًا. الأمر الذي تؤكده كافة المذاهب الفقهية، رغم ما بها من تباين في شأن قدرات الإرادة ومكناتها إزاء التصرفات الشرعية وما تنطوى عليه من شروط، فحال يذهب الشافعية والظاهرية إلى عدم إجازة العقود أو الشروط التى لم يقررها نص أو إجماع، حيث تنحصر فاعلية الارادة داخل تلك العقود أو الشروط المنصوص عليها أو المجمع عليها فقط، يذهب الحنابلة في اتجاه موسع إلى إطلاق قدرة الإرادة على إنشاء تصرفات قانونية شرعية لم يرد لها ذكر بنص أو إجماع. فليس بلازم لديهم لصحة التصرف أو الشرط ورود ما يشايعه نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا معتبرًا ، وإنما يكفى بمجرد انتفاء المحرم، أي عدم ورود ما يفــيد تحريم التصـرف أو تحريم الشرط)(3). ويتوسط الأحناف في منزلة البين بين ،فلم يشترطوا لإباحة التصرف أو الشرط ورود نص معين يفيد الإباحة كما الاتجاه الأول، ولم يجعلوا أصل الأمور الإباحة كما الاتجاه الثاني، وإنما مالوا إلى حقيقة اتساع قدرة الإرادة حيال التصرفات الشرعية وما تتضمنها من شرائط، وفي الحال ذاته أوردوا من الاستثناءات ما ضاق به الإطار الذي تتحرك داخله الإرادة، وعلى هذا الحال انقسمت التصرفات لديهم ما بين صحيحة وفاسدة وباطلة. الأمر الذي يتبين معه أن جوهر حقيقة الخلاف بين هذه المذاهب الفقهية جميعًا إنما يدور حول مدى احتمال النظام القانونى الشرعي القائم على هدى المنظومة الإسلامية ، لتقبل صورًا من التصرفات والشروط التى لم يرد لحكمها ذكر بإباحة أو تحريم بنص أو إجماع، ولم يكن التوصل إلى حكمها بالقياس المعتبر.

الأمر الذي يتبدى معه، أن الإرادة في مدلولها الفقهي الإسلامي، لا تتكافأ في المعنى مع الإرادة في مدلولها الفقهي الوضعى، فالإرادة في المدلول الأخير، إنما يُعنى بها قدرتها على إنشاء التصرفات القانونية من جهة وقدرتها على ترتيب آثار هذه التصرفات من جهة أخرى، وهو المعروف في الفقه الوضعي (بمبدأ سلطان الإرادة).

أما الإرادة في المدلول الأول، أي في مدلولها الفقهي الإسلامي، فينصرف إلى قدرتها على إيجاد التصرف القانونى الذي اتجهت إليه، أي مدى صلاحيتها سببًا في حصول هذا التصرف، وثمة فارق جوهري بين الأمرين، فالإرادة في النظام القانونى الوضعي، من الاتساع والقدرة بحيث تصلح لخلق ما تشاء من تصرفات، فتنسب أثارها بكاملها إلى هذه الإرادة، بحسبها هي المرتب بهذه الآثار بحكم فعلها المتمثل فيما أنشأنه من تصرف قانوني، فللإرادة مجال واسع يجعلها مصدرًا لكثير من الحقوق، ويجعلها المرتب لآثار هذه الحقوق(1) . بل إنه وبفرض تقيدها ببعض من أحكام القانون، فهي لا تعدو قيودًا تحد من سلطانها المطلق، في مجال إبرام التصرفات القانونية حال تبقى قدراتها كاملة في نسبة ما يترتب من أثار هذا التصرف المشروعة ، بينما حال الإرادة في النظام الفقهي الإسلامي ، لا يتسم بهذا الاطلاق، إذ هي مقدرة القدرات والمكناتمن البداية ومعينة المجال ومحدودة داخل إطار مقنن، مرسوم بأحكام الشرع الإسلامي ، حسب ما هو مقرر بكل مذهب على حدة، ليس لها أن تتجاوز هذا الإطار وليس من صلاحيتها بحسبها سببًا لحصول التصرف، الخروج عما هو مرسوم لها من أطر تتحرك فيها ، وذلك على أصل ما يقرره كل مذهب من أحكام في هذا الخصوص، فمنها – وعلى ما سلف – ما ينكر على الإرادة أي دور في التوجه لتصرفات جديدة لم يرد بها ذكر بنص أو إجماع أو قياس معتبر، وحالتئذ وفي إطار هذا المذهب، تعجز الإرادة عن التوجه إلى غير التصرفات المقررة نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا معتبرًا ، فيضيق نطاق تحركها داخل هذه التصرفات المقررة فقط دون سواها، ومن المذاهب ما توسع وأجاز للإرادة الاتجاه إلى تصرفات لم تتقرر سلفًا بنص أو إجماع أو قياس، ولكنه وفي الحال ذاته قيدها داخليًّا بما هو مقرر بالنص والإجماع والقياس من أحكام ضابطة – آمرة أو ناهية – تعين إجمالاً ساحة تحرك الإرادة، سواء داخل ما هو مقرر من تصرفات أو بغيرها مما لم يتقرر، فتحدد بها الإرادة وهي بمجال نشاطها المنفعل، ويتحدد نطاق صلاحيتها ، سببًا في إيجاد التصرف المتجهة إليه، حسب التزامها بهذه الضوابط المقررة، أي أن الإرادة في خصوص هذا الجانب، الأصل فيها على خلاف مثيلها في القانون الوضعي، منضبطة تقيدًا بالحدود النصية والإجماعية والقياسية، أكان انضباطًا محصورًا بأطر التصرفات المقررة فضلاً عن الأطر الموضوعية العامة المعينة لحركة الإرادة إجمالاً، أو انضباطًا بهذه الأخيرة فقط، ففي كلا الحالين وضع الإرادة ينطلق في صلاحيته ومشروعيته من حدود نصية بالأساس وفي ذلك يقول الشيخ على الخفيف : (قد حدد الشارع للعقود حدودًا … وحتى لا تؤدي بهم إلى نزاع، ولا ينالهم فيها غبن، ولا يلحقهم بسببها غرر، ولا يلزموا بها على غير رضا منهم واختيار، وحتى لا يتخذوها وسيلة وطريقة إلى اقتراف ما نهى الله عنه)(1)، خلاف حالها في القانون الوضعي، حيث تنطلق فلسفيًّا من أصل سلطانها المطلق . ومن جانب آخر، فالإرادة في الفقه الإسلامي ، يقتصر دورها على إحداث التصرف، أي تنحصر في دور السبب الموحد للتصرف فقط، دون أن يكون لها أي دور في إحداث الآثار أو ترتيب النتائج المقررة وراء التصرف، إذ يكاد الفقهاء يجمعــــــون على أن آثــار العقــــــود (التصرفات) من صنع الشارع لا من عمل العاقدين، فالشارع وحده هو الذي يخصص لكل عقد آثارًا معينة، ويجعل من هذه العقود طريقًا موصلاً إلى هذه الآثار. وهذه الآثار المعينة التى يخصصها الشارع لكل عقد ليس هي فقط ما اثبتته نصوص الشريعة ، بل يتممها ما أضافه الاجتهاد إليها عن طريق القياس والاستحسان والاستصلاح وسد الذرائع(1) . وهذه النسبة للآثار إلى الله تعالى هي ما يعرف فقهًا (بجعلية الآثار) وأساس هذه الجعلية ، أي نسبة الأثر إلى الله تعالى مباشرة ، لا إلى المتصرف، إنما مردها مفهوم العدل الذي استقام البناء المنظومي للإسلام على أصل من سنده، فالله سبحانه وهو يقيم التوازن بين حقوق المتصرفين الناشئة عن التصرف، معينًا على وجه الدقة حدود التعامل بين الأفراد، ومقعدًا أصول العلاقات التى يجوز نشوؤها بينهم، لم يكن يترك الأمر على عواهنه بعد، فقام بنسبة آثار هذه المعاملات إلى ذاته العلية، حتى يُحكم سبحانه سلطان عدله على طرفي المعاملة الشرعية، الطرف الأول وهو موضوع التصرف من إجراءات معاملة وسلوكيات وحدود التصرف وقواعد أحكام انعقادها، والطرف الآخر هو آثارها المترتبة عليها .

وقد يتصدى مُعترض ، بكون تكييف وضع الإرادة على هذا النحو، وتهيئة أمر التصرف الشرعي على هذه الهيئة إنما يؤدى إلى النيل من مكنة الاختيار التى هي إحدى ركني الإرادة، بحسبان أن الجعلية إنما تضيق من سلطة إرادة المتصرف في ترتيب مبتغاها من آثار أو تعديل ما هو موضوع من آثار، فكونها من صنع الشارع الحنيف وحده لا يترك أي سلطة حيالها حالتئذ – سواء أكانت سلطة إنشاء أو تعديل أو إلغاء – بيد أن هذا الاعتراض ليذهب جفاءً، إن قمنا بتحليل حقيقة وضع منظومة التشريع الإسلامي، فهذه الأخيرة بمنطلقها الرباني ، تنسب من الناحية الفلسفية، قوة الفعل وأثره، إلى خالق الأفعال، بحيث يبقى الفاعل الحقيقي حينئذ الله تعالى، ويصير الفرد ما هو إلا سبب، أي أداة حقق بها الخالق الفعل الحادث، وحال كهذا لا فكاك إزاءه من نسبة أثر الفعل إلى الفاعل الأصلى لا إلى الأداة الحاصل الفعل بها، فالتصرف الشرعي تم بقوة الله تعالى المنفذة، ومن ثم فالأثر لابد من رده إليه، ويبقى الفرد أداة لها اختيار منحصر ما بين إيجاد التصرف وبقاء العدم أي ما بين حصول التصرف وتركه، فإذا قصد الفرد إيجاد التصرف، يكون قد أعمل إرادته في الاختيار، حال ينسب فعل الحصول ذاته إلى الله تعالى بمشيئته العلية ، وترتد الآثار التى أرادها الفرد من التصرف إلى الله سبحانه صاحب القوة المنفذة . ومن جانب آخر، فإن بناء المنظومة الإسلامية على أصل من أصول وأسس كلية ، تضبط أنماط الأفعال والسلوك داخل المجتمع ، وتحكم أثار هذه الأفعال والسلوكيات ، في أطر شرعية مرسومة ومقدرة تحديدًا، إنما ليحول من الوجهة الكلية دون افتراض إضفاء شرعية على آثار تناقض أيًا من أصول هذه المنظومة، فالغرض في ظل هذا الفهم، تناغم كلي بين كافة الأفعال داخل المجتمع المتشح بالنظم الإسلامية، وتوافق أصلى بين هذه الأفعال وأصول هذه النظم، فإن كان الأصل المهتدى به والمنضبط بكله من الله تعالى، غدا الأثر الدائر بفلكه الملتزم بقيده منسوبًا في ترتبه إلى الله تعالى الهادي واضع الضوابط وحاكم القواعد، مالك القوة الفاعلة داخل المجتمع .

وقد يتصدى معترض آخر ، بكون الجزم بجعلية التصرفات في الشريعة الإسلامية، إنما يفضي إلى التضييق من حرية الأفراد في التصرف، حيث يغدو دور الإرادة قاصرًا ومحدودًا عاجزًا عن ترتيب آثار التصرف، ومن ثم عن إنشاء تصرفات جديدة(1) . بيد أن هذا الاعتراض بدوره مردود من وجهة منطقه، فهو ينطلق من أصل نظر لدور الإرادة في المنظومة الإسلامية من خلال مقارنتها بدور الإرادة في النظم الوضعية. وهو نظر جد خاطيء ، فليس من المقبول عقد مقارنة تقريبية بين مفهومين، لكل منهما بيئته المستقلة المتميزة تباينًا عن بيئة الآخر، فللإرادة في الفقه الوضعى منطلقها الفلسفي القائم على الاطلاق في سلطانها، والمشاد على فهم واسع – يصل إلى حد التفلت – للحرية، فضلاً عن الصياغة الوضعية البشرية للتشريع وفلسفته ولنظام التسيير المجتمعى وأصوله، وهي منطلقات ترى التسوية الكاملة بين الإرادات الفردية وبينها والإرادةالجمعية، وتحصر – فلسفيًّا – إرادة الدولة داخل حدود معينة لا يجوز تجاوزها ، فإن حصل هذا التجاوز كان لأمور محددة مسبقًا ومقدرة تشريعًا، وفي كل الأحوال لا تنال من قدسية سلطان الإرادة الفردية، إضافة إلى ما للحق من مكنات مطلقة تعطى مالكه – الفرد صاحب الاردة سلطات واسعة غير محدودة – سوى باحترام الحقوق الأخرى وعدم العدوان عليها – على موضوع هذ الحق، حال كون الأمر يتباين في بنائه الكلي في خاصة الإرادة في الشريعة الإسلامية، فهي كغيرها من المفاهيم القائمة بالنظم الإسلامية ، تنطلق من حقيقة الربانية، حيث الله خالق الأكوان ومسير الأفلاك، مالك الأمر، والحاكم على ملكه، ومن ثم وبحكم ربوبيته يدور الجميع وفق هداه، وتصاغ الإرادات الفردية على هدى من أمره، تضحى معه هذه الارادة الفردية بمنزلة ما هو دون الأمر الإلهي ، أي تشغل حيزًا منضبطًا ابتداءً بأمر الله سبحانه ، ومن ثم فهي تتمتع بحرية في حدود نطاق ما هو مسموح به من قبله تعالى، وتتحرك داخل هذا النطاق وفق ما ضبطه من أحكام عينها في هذا الخصوص، وعليه تغدو الإرادة في النظم الإسلامية، ليست قاصرة أو ناقصة أو عاجزة، وإنما هي إرادة منضبطة ابتداء بمفهوم الربانية وتداعياته، ومحكومة انتهاء بأصول الحكم الإلهي من أوامر ونواه ، ومن خلال هذه الضوابط والأحكام تتعين حرية الإرادة ومجال حركتها.

وعليه ولما تقدم، فلا يجوز الحكم على الإرادة في النظر الإسلامي من خلال مفاهيم نظر آخر وضعي منبت الاتصال – أصولاً ومفاهيم – عن حقيقة الوضع القائم في النظم الإسلامية، فلكل من الإرادة في النظر الوضعى والنظر الإسلامي ، مجاله الذي تتحرك داخله، والمعين في ضوء المفاهيم والأوضاع الكلية للنظر الخاضعة له الإرادة.

ومن جانب آخر، ليس ثمة تأثير لجعلية آثار التصرف على حرية الإرادة في إبرام التصرفات ، إذ إن حكمة الجعلية ليس في تقييد الإرادة والحيلولة دونها وإبرام تصرفات شرعية لم تتقرر نصًّا أو أجماعًا ، فتلك منضبطة ابتداء لا بالجعلية ، وإنما بحدود الحل والحرمة المقررة نصًّا وإجماعًا وقياسًا ، وإنما حكم الجعلية في الحيلولة دون ترتب آثار عن التصرف الشرعي قد تناقض أي من أصول أو كليات الشريعة الإسلامية أو تخالف نصًا أو إجماعًا أو قياسًا معتبرًا يفيد حرمة هذا الأثر وينهى عنه ، فإذا كان لا خلاف – بين كافة المذاهب الفقهية بالشريعة الإسلامية – حول وجوب التزام الحدود النصية وما هو مجمع عليه وما هو موصول إليه بالقياس المعتبر لدى كل مذهب وفق نهجه الأصولي ، فمن ثم لا يكون ثمة ادعاء بتقيد الإرادة وعجزها عن إبرام ما تشاء من تصرفات بأن قلنا بجعلية آثار التصرف الشرعي، إذ مشيئتها في هذا الخصوص منضبطة ابتداء – وفي كافة المذاهب – بحدود أوامر الشرع ونواهيه.

الأمر الذي يستظهر منه، حجم ومدى افتراق مدلول الإرادة في الفقه الشرعي الإسلامي عن مدلولها في المنظور الوضعى، وذلك من وجهة الدور الذي يؤديه كل منهما في مجال تكوين التصرفات القانونية أو الشرعية، وكذا من وجهة ما يحوزه كل منهما من إمكانات يتيحها له نظامه القانوني الذي تنفعل الإرادة داخله، وأخيرًا من وجهة علاقة كل منهما بالآثار القانونية المبتغاة من التصرف القانوني أو الشرعي، أي تلك الآثار التي هي من وراء القصد.

بيد أنه تساؤل لا فكاك من الإجابة عليه، حتى تكتمل لهذه الرؤية خطوطها الرئيسية، وهو التساؤل المتعلق بمدى علاقة الإرادة في مدلولها الإسلامي، بحدود المشروعية المقدرة مسبقًا بالنص أو الإجماع أو القياس . وهو التساؤل المبني على ما تقدم من حقيقة كون الإرادة المقيدة ابتداء بالحد الشرعي، فإذا كان ذلك كذلك ، فما حكم هذا الإرادة إن هي خرقت حدود نطاق المشروعية المحيز لحركتها.

جـ ـ الارادة وحد المشروعية:

تبدى لنا من العرض المتقدم ، أن الإرادة في التصور الشرعي الإسلامي، موضع اعتبار رئيسي في كافة التصرفات الشرعية ، بيد أنها تتباين مع الإرادة في التصور الموضعي من وجهة إطلاق سلطانها، – فالإرادة في التصرف الشرعي إرادة مقيدة منضبطة ابتداء بحكم أصل الشرعية والتنظيم بالحد الشرعي المقرر نصًّا، أو إجماعًا أو قياسًا معتبرًا . وكذلك تبدى لنا أن للإرادة دور محدود في إنتاج آثار التصرف، بحسبانها لا تعدو أن تكون سبب حصول التصرف أو أداة تحقق التصرف وظهوره للوجود، حال كون الآثار إنما تترتب بحكم الشرع الحنيف، أي بجعل من الله تعالى وليس الإرادة ، فالإرادة فقط تتجه صوب هذه الآثار، فتتخير الأداة الشرعية الملائمة لإنتاجها ، وتأتى التصرف الشرعي المفترض أنه منتج لهذه الآثار بجعل من الله تعالى ، أي تأتى التصرف الذي عينه المولى المشرع الأعظم – سببًا لحصول هذه الآثار ، ولكن ماذا إن اتجهت الإرادة إلى آثار غير مشروعة، لم يجيزها الشرع، وما تأثير ذلك على التصرف الشرعي ذاته؟ وما هو دور المشروعية مقارنًا بالإرادة داخل التصرف الشرعي، وهي جميعها تساؤلات تتكامل فيما بينها لتقرير موضع المشروعية من التصرف وركنه الأساسي الإرادة.

والحق، أنه إذا كان للإرداة مكانًا رفيعًا في التصرف الشرعي حسب التصور الإسلامي، فقد ربط الفقه أجمع هذه الإرادة دومًا بسياج المشروعية المتعين تهيؤها فيه حتى تصلح ركنًا صحيحًا مكتملاً قادرًا على تكوين التصرف وإتمام حصوله، فلكل تصرف شرعي غاية اقتضتها حكمة الشارع لوصول الناس إلى أغراضهم من معايشهم، ووضع لكل عقد ما يحقق ذلك، فعقد البيع (مثلاً) الغرض فيه نقل ملكية المبيع إلى المشترى في مقابلة الثمن وعقد الإجارة الغرض منه انتفاع المستأجر بالعين المستأجرة وعقد الزواج الغرض منه حل كل من ا لزوجين للآخر، وهكذا. فإذا قصد الناس من عقودهم هذه المعاني التى رتبها الشارع على كل عقد واستوفى العقد كل الشروط المطلوبة لتحققه كان العقد صحيحًا(1) .

بيد أن الفقه المعاصر وتأثرًا من جانبه بالتصورات النظرية الوضعية، أبى إلا أن يفرد لمشروعية التصرف، ركنًا مستقلاًّ أطـلق عليه السبب الباعث على التصرف(2) ، بحسبان أن (السبب الباعث هو الذي يحرك الارادة نحو غرض محدد تبتغي تحقيقه، وهذه الإرادة إذا التقت بإرادة أخرى فإننا نكون بصدد عقد . والعقد وهو التقاء إرادتين نحو تحقيق غرض مشترك يبتغى المتعاقدان تحقيقه، لابد له من محل يقع عليه ، فأى عملية عقدية لابد لها من سبب يدفع إليها ويحركها نحو هدف معين، وفي الوقت نفسه لابد لها من محل تقع عليه وتدور حوله الالتزامات المتقابلة(1) .

أي أن الفقهاء المحدثين، اعتمدوا التقسيم الوضعي لأركان التصرف القانوني، واستجلبوه إلى ساحة التصرف الشرعي في الفقه الإسلامي، وأفردوا للمشروعية ركنًا مستقلاًّ أطلق عليه من قبلهم ركن السبب الباعث.

حال أن الأمر في حقيقته ، وبمزيد إنعام للنظر، إنما يفصح عن مخالطة شبه كاملة من قبل المشروعية لكل من الإرادة والمحل. فللمشروعية موضعان من التصرف الشرعي، الموضع الأساسي هو الإرادة ومكمنه حقيقة تقصد التصرف والمرنو إليه غائيًّا ، والموضع الآخر تبعي وهو محل التصرف، أي ما يجرى عليه وبخاصته التصرف المبرم. وليس هذا بمقام المجادلة الفقهية حول صحيح أركان التصرف، وإنما ما يهمنا في هذا الخصوص ، استظهار الموقف الشرعي الفقهي من المشروعية التى لا نرى انفرادها بركن مستقل، وإنما اندماجها بكل من الإرادة بالأساس والمحل على نحو تبعي ، فقط نشير إلى أننا سوف نطلق عناصر المشروعية المكونة من المقاصد والنوايا بلفظة الباعث، مع فصلنا الكامل بين مقصودنا في الباعث وبين السبب الباعث في المقصود الوضعي الفقهي .

وتفصيل ذلك ، أن الفقه الإسلامي، وعلى تباين مذاهبه، يكاد يجمع على تأثير المشروعية على صحة التصرف، فقط موضع الخلاف بين هذه المذاهب، يكمن في كيفية استظهار عناصر المشروعية . فيذهب الأحناف والشافعية إلى أن الباعث لا يبحث عنه خارج الإرادة، بل يتعين – للحكم عليه – أن يكون موجودًا في صيغة العقد وذاتها داخلاً في دائرة التعامل ، فلا مناص عن تضمينها التعبير عن الإرادة ، بحسبان الباعث جزءًا من هذا التعبير لا ينفصل عنه ، ولذلك فلا اعتداد بهذا الباعث إن لم تتضمنه صيغة العقد أو التعبير عن الإرادة(2) . وهذا الاتجاه لا يرى الباعث إلا في الإرادة الظاهرة بحيث لا يجوز تجاوز هذه الإرادة الظاهرة إلى تفتيش النوايا الخفية ، فإذا لم تتضمن هذه الإرادة الظاهرة أيًّا مما يفيد وجود باعث غير مشروع استوى التصرف صحيحًا قائمًا على أركانه متمثلاً ونافذًا بشروطه. وفي هذا ذكر الإمام الشافعي أن ( أصل ما أذهب إليه أن كل عقد كان صحيحًا في الظاهر لم أبطله لتهمة ولا بعادة بين المتبايعين وأجزم بصحة الظاهر ، وأكره لهما النية إذا كانت النية لو أظهرت كانت تفسد البيع . وكما أكره للرجل أن يشتري السيف على أن يقتل به ولا يحرم على بائعه أن يبيعه، فمن يراه أنه يقتل به ظلمًا لأنه قد لا يقتل به وأفسد عليه هذا البيع، وكما أكره للرجل أن يبيع العنب ممن رآه يعصر خمرًا ، ولا أفسد البيع إذا باعه إياه؛ لأنه باعه حلالاً ، وقد يمكن أن لا يجعله خمرًا أبدًا ، وفي صاحب السيف أن لا يقتل به أحدًا أبدًا، وكما أفسد نكاح المتعة، ولو نكح رجل امرأة عقدًا صحيحًا وهو ينوى ألا يمسكها إلا يومًا أو أقل أو أكثر لم أفسد النكاح، وإنما أفسده أبدًا بالعقد الفاسد)(1) .

وجاء في البدائع أنه (لا تجوز إجارة الإماء للزنا، لأنها إجارة على المعصية. وقيل فيه نزل قوله تعالى: (وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . وروى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى عن مهر البغى، وهو أجر الزانية على الزنا(2) .

وكذلك جاء في البدائع أنه ( لو اشترى قمرية على أنها تصوت، أو طيرًا على أنه يجيء من مكان بعيد، أو كبشًا على أنه نطاح، أو ديكًا على أنه مقاتل، فالبيع فاسد عند أبى حنيفة رحمه الله، وهو إحدى الروايتين عند محمد رحمه الله … لأن هذه الصفات يتلهى بها عادة، والتلهي محظور ، فكان هذا شرطًا محظورًا ، فيوجب فساد البيع … ولو اشترى جارية على أنها مغنية على سبيل الرغبة فيها، فالبيع فاسد، لأن التغنية صفة محظورة لكونه لهوًا، فشرطها في البيع يوجب فساده، ولو اشترى جارية على أنها مغنية على وجه إظهار العيب، جاز البيع ، لأن هذا البيع شرط البراءة عن هذا العيب، فصار كما لو باعها بشرط البراءة عن عيب آخر، فإن وجدها لا تغني لا خيار له ، لأن الغناء في الجواري عيب فصار كما لو اشترى على أنه معيب فوجده سليمًا(1). الأمر الذي يبين معه، أن هذا الاتجاه الأول ورغم تقييده لآليات استظهار عناصر المشروعية وحصرها فيما تفصح به الإرادة الظاهرة عن صحيح باعثها وإلا حمل التصرف على صحة المقصد، فإنه لقاطع في اعتبار مشروعية التصرف أحد أصول ابتناء ركن الإرادة، فلا قيام ابتداءً – للتصرف دونه. بل إن من حداثى الأحناف من توسع في الأخذ بدلالات مشروعية التصرف غير حاصرٍ لها فيما ورد بظاهر التعبير عن الإرادة ، فيرى أن (الأصل أن تحصل العقود على أسبابها الشرعية الظاهرة التى يظهر أنها غرض المتعاقدين ، حتى إذا قام دليل أو قرينة على أن حقيقة الأمر غير ظاهرة وجب التمسك بالحقيقة(2) . أي أنه لم يعد يستلزم لتعيين حدود مشروعية التصرف ورود الباعث في متن الإرادة المعبر عنها، وإنما اكتفى بقيام الدلائل الجدية على حقيقة انتفاء المقصد المشروع عن التصرف، لذا يذهب إلى أنه إذا كان ثمة ( رجل أراد أن يقترض من آخر مائة جنيه (مثلاً) على أن يردها إليه بعد مدة معينة مائة وعشرين لكن الرجلينكليهما يتورعان عن صورة الربا فقط. فيتفقان على أن يبيع الأول للثاني شيئًا بمبلغ مائة وعشرين جنيهًا مؤجلة إلى مدة كذا، وبعد أن تتم الصفقة يشتري الأول من الثاني ذلك الشيء بعينه بمبلغ مائة جنيه ، يقبض إياها في الحال تحقيقًا لغرضهما ، والمحققون من الفقهاء ، قالوا ببطلانه، لأنه ربًا مستتر تحت صورة عقد بيع، وأما غير المحققين فلهم كلام كثيرلا أدري على أي أساس شرعي فقهي قد بني)(3) أي قيام دلائل تفيد على نحو جدي عدم مشروعية المقصد من التصرف ، إنما يؤدي إلى انهدار كامل للإرادة – وإن تحقق لها سائر شرائط قيامها – لينهدر معها التصرف ذاته، فيصير حالتئذ باطلاً .

حال يذهب المالكية والحنابلة ، وهم في اتجاه التأكيد على دور المشروعية في ابتناء التصرف صحيحًا، إلى التوسعة في الاستدلال على عناصر مشروعية التصرف، أي مشروعية توحد الإرداة وهي بصدد إبرام التصرف، وصحيح اتفاق مقصودها، وأحكام الشارع الحنيف ، فيرى هذا الاتجاه وجوب الاعتداد بالباعث على التعاقد، سواء ذكر بالعقد أم لم يذكر ، ما دام كان معلومًا للطرف الآخر ، فإن ثبتت مشروعية الباعث غدا العقد صحيحًا، وإلا فلا .

ويذكر ابن القيم بإعلام الموقعين (وتأمل قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يُصد لكم . كيف حرم على المحرم الأكل مما صاده الحلال إذا كان قد صاده لأجله؟ فانظر كيف أثر القصد في التحريم ولم يرفعه ظاهر الفعل).

ومن ذلك الأثر المرفوع من حديث أبى هريرة : من تزوج امرأة بصداق ينوى أن لا يؤديه إليها فهو زان، ومن أدان ينوي أن لا يقضيه فهو سارق ، ذكره أبو حفص بإسناده، فجعل المشترى والناكح إذا قصد أن لا يؤديا العوض بمنزلة من استحل الفرج والمال بغير عوض، فيكون كالزاني والسارق في المعنى، وإن خالفهما في الصور.

ويؤيد ذلك ما في صحيح البخاري مرفوعًا : من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله.

فهذه النصوص وأضعافها تدل على أن المقاصد تغير أحكام التصرفات من العقود وغيرها، وأحكام الشريعة تقتضى ذلك أيضًا ، فإن الرجل إذا اشترى أو استأجر أو اقترض أو نكح ونوى أن ذلك لموكله أو لموليه كان له وإن لم يتكلم به في العقد، وإن ينوه له وقع الملك بالعقد، وكذلك لو تملك المباحات من الصيد والحشيش وغيرها ونواه لموكله دفع الملك له عند جمهور الفقهاء، نعم، لابد في النكاح من تسمية الموكل؛ لأنه معقود عليه، فهو بمنزلة السلعة في البيع، فاقتقر العقد إلى تعيينه لذلك، لا أنه معقود له . وإذا كان القول والفعل الواحد يوجب الملك لمالكين مختلفين عند تغير النية ثبت أن للنية تأثيرًا في العقود والتصرفات، ومن ذلك أنه لو قضى من غيره دينًا أو انفق عليه نفقة واجبه أو نحو ذلك ينوى التبرع أو الهبة لم يملك الرجوع بالبدل ، وإن لم ينو فله الرجوع إن كان بإذنه اتفاقًا، وإن كان بغير إذنه ففيه النزاع المعروف، فصورة العقد واحدة، وإنما اختلف الحكم بالنية والقصد. ومن ذلك أن الله تعالى حرم أن يدفع الرجل إلى غيره مالاً ربويًّا بمثله على وجه البيع إلا أن يتقابضا، وجوز دفعه بمثله على وجه القرض ، وقد اشتركا في أن كلاًّ منهما يدفع ربويًّا ويأخذ نظيره ، وإنما فرق بينهما القصد؛ فإن مقصود المُقرض نفع المقترض، وليس مقصوده المعاوضة والربح. ولهذا كان القرض شقيق العارية، كما سماه النبي (صلى الله عليه وسلم) منيحة الورق فكأنه أعاره الدراهم ثم استرجعها منه ، لكنه لم يمكن استرجاع العين باسترجاع المثل. وكذلك لو باعه درهمًا بدرهمين كان ربًا صريحًا، ولو باعه إياه بدرهم ثم وهبه درهمًا آخر جاز ، والصورة واحدة وإنما فرق بينهما القصد. فكيف يمكن أحد أن يلغي المقصود في العــــقود ولا يجعل لها اعتبارًا)(1) . أمر يتبدى معه ما أولاه هذا الاتجاه من بالغ اهتمام وتقــدير للمقصد من التصرف ((ويعنى به باعثه)، حتى أنه ليبحث عنه في كل ظرف يخالط التصرف أو يرافقه، فإذا ما تبين هذا المقصد بأي استدلال يكون قد تحددت مشروعية التصرف على هداه. فيذهب الإمام الشعراني في الميزات الكبرى إلى أنه وفي خصوص حال بيع العنب لعاصر الخمر ومن ذلك قول الأئمة الثلاثة أنه يصح بيع العنب لعاصر الخمر مع الكراهة مع قول أحمد بعدم الصحة، فالأول فيه تخفيف: والثاني مشدد.

ووجه الأول أن المقاصد هي التى يؤاخذ بها العبد أما الوسائل فقد يحال بين العبد وبينها، فلذلك كان بيع العنب لمن يريد يعصره خمرًا غير حرام لعدم تحققنا أنه يتمكن من عصره.

وكان الحسن البصري يقول: لا بأس ببيع العنب لعاصر الخمر. وكان سفيان الثورى يقول: بع الحلال لمن شئت

ووجه الثاني سد الباب؛ لأنه ما يتوصل به إلى الحرام فهو حرام ولو بالقصد، كما لو نظر إنسان إلى ثوب موضوع في طاق على ظن أنه امرأة أجنبية فإنه يحـــرم عليه ذلك فافهم(2).

وهذا مثال بالغ الدلالة في مدى مخالطة المقصد (أي الباعث) للإرادة التى بنى عليها التصرفات، بحيث أن التصرف الواحد يمكن حمله على الصحة كما يحمل على البطلان، والفاصل في الأمر إنما هو المقصد المحمول التصرف عليه . ما يستظهر بُعْد مدى مخالطة المشروعية المؤصلة على عدم مخالفة قصد الشارع وعدم مجاوزة أحكامه الثابتة بسند نص أو إجماع أو قياس معتبر ، لركن الإرادة بالتصرف الشرعي، بحيث يتعين صحة التصرف بداية على حسب هذا المقصود. وبمعنى آخر أنه في غالب التصرفات حال ما إذا توافرت لها كافة شروط الصحة، ليس منها ما يحمل على عواهنه صحة أو بطلانًا ، وإنما المعتبر في هذا الخصوص تقدير المقصد من وراء التصرف، على الخلاف الفقهي المقدم في استظهار هذا المقصد – فإن تبدى مناقضته لحكم الشرع أو مقتضاه بطل، وإن تبدى موافقته صح حالتئذ. ولعل مما يزيد الأمر وضوحًا ، أن المشروعية في غير قليل من التصرفات الشرعية ، تخالط المحل أيضًا، فتتحدد مشروعية المحل في ضوء المقصد من وراء استخدامه، فنرى ممايزة في حكم ذات التصرف الشرعي حال تكراره، فتارة يحمل على صحة، وأخرى يقضى ببطلانه حسب طبيعة المحل والمستخدم فيه في التصرف موضع الإبرام، ومثاله قول أبى حنيفة ومالك بجواز بيع الكلب مع الكراهة، فإن بيع كلب لم ينفسخ البيع إن أمكن الانتفاع به عندهما وقال الشافعي وأحمد: لا يصح بيع الكلب بوجه من الوجوه، ولا قيمة له إن قتل أو أتلف .

فالأول مخفف والثاني مشدد، فرجع الأمر إلى مرتبتي الميزان .

ووجه الأول أن النهى عن ثمنه لا يلزم من عدم صحة بيعه نظير ما ورد في كسب الحجام، فإن الحجامة جائزة وكسبها مكروه ووجه الثاني أن النهى عن أكل ثمن الكلب يقتضى عدم صحة بيعه لندور الحاجة إلى بيعه لكثرة الكلاب في كل زمان ومكان، مع قول جمهور الأئمة بنجاستها وخبثها، وأمر الشارع بالغسل من فضلاتها سبع مرات إحداهن بالتراب الطهور، ويصح حمل القولين على حالين، فمن احتاج إلى كلب لماشية أو حراسة دار فله شراؤه، ومن لا فلا والله سـبحانه و تعالى أعلم)(1) .

وكذلك الأمر في قول رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) : ( إن الله إذا حرم شيئًا أو حرّم أكل شيء حرّم ثمنه ).

يقول الإمام ابن القيم: ( يراد به أمران: أحدهما : ما هو حرام العين والانتفاع جملة، كالخمر، والميتة ، والدم، والخنزير، وآلات الشرك، فهذه ثمنها حرام كيفما اتفقت. والثاني: ما يباح الانتفاع به في غير الأكل، إنما يحرم أكله ، كجلد الميتة بعد الدباغ، وكالحمر الأهلية، والبغال ونحوها مما حرم أكله دون الانتفاع به ، فهذا قد يقال: إنه لا يدخل في الحديث، وإنما يدخل فيه ما هو حرام على الإطلاق، وقد يقال: إنه داخل فيه، ويكون تحريم ثمنه إذا بيع لأجل المنفعة التى حرمت منه، فإذا بيع البغل والحمار لأكلهما حرم ثمنهما، بخلاف ما إذا بيعا للركوب وغيره، وإذا بيع جلد الميتة للانتفاع به ، حل ثمــــنه، وإذا بيـع لأكله، حرم ثمنه)(1). وهو الأمر عينه في شأن السياسة الشرعية، من وجهة حق ولي الأمر في التسعير، يقول الإمام ابن القيم: (وأما التسعير : فمنه ما هو ظلم محرم ، ومنه ما هو عدل جائز . فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس ، مثل : إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب)(2) . وذكر الإمام في خصوص مسألة إلزام الناس بعدم بيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون لا تباع تلك السلع إلا لهم، حيث يتولون فيما بعد بيعها لمن يريدون، إنه (من البغى في الأرض والفساد والظلم الذي يحبس به قطر السماء، وهؤلاء يجب التسعير عليهم، وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل، ولا يشتروا إلا بقيمة المثل ، بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء ؛ لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه فلو سوّغ لهم أن يبيعوا بما شاءوا أو يشتروا بما يشاءوا ، كان ذلك ظلمًا للناس، ظلمًا للبائعين الذين يريدون بيع تلك السلع، وظلمًا للمشترين منهم. فالتسعير في مــثل هذا واجـب بلا نزاع)(3).

أي أن محل التصرف يجب أن يكون قابلاً لحكم التصرف شرعًا، أي مشروعًا، وإلا بطل التصرف بالملكية، فكما يتعين أن يكون هذا المحل مالاً، يجب أن يكون أيضًا متقومًا، والتقوم المقصود هنا، هو اتفاق المحل مع عناصر التصرف المأتي حق الضوابط الشرعية الكلية الحاكمة، إذ أن مشروعية المحل ليست بالأمر المقطوع به سلفًا – في غالب الأحوال – وإنما تتحدد هذه المشروعية ، حسب موضع هذا المحل من التصرف، فالسلاح مثلاً إن بيع وثبت يقينًا أن قصد مشتريه محاربة المسلمين ، غدا مالاً غير مشروع يبطل به التصرف بالكلية، وكذا بيع الكلاب والحمير والبغال فإن كان لاستخدام مشروع كالحراسة للأول والركوب للآخرين انعقد التصرف صحيحًا، وإنما إذا كان البيع لأكلهما، كان التصرف باطلاً لعدم مشروعية المحل، كذا جلد الميتة بالخلاف ما بين إذا كان لشراء للأكل أم للانتفاع، ففي كل هذه الأحوال خالطت المشروعية الإرادة، وفي بعضها امتدت في مخالطتها إلى محل التصرف ذاته، فتوقف حكم التصرف المأتي على مدى موافقة أو مخالفة الإرادة ومعها المحل في بعض الأحوال للمشروعية المقررة، فتارة ينعقد التصرف صحيحًا، وتارة يستوى هو ذاته، لمقصد غير مشروع، أو لمحل بموضع غير مشروع، باطلاً .

وعليه، يضحى البادي أن الإرادة ومعها المحل في أي تصرف شرعي، إنما هما موضع اعتبار أول من جهة المقصد المبتغى والهدف المرنو إليه، ومن جهة موضع المحل داخل التصرف والاستخدام المتهيأ له، أي أنهما – فلسفيًّا – ليسا على الإطلاق المبتدأ من حيث الإجازة، وإنما هما مقيدان ابتداء بضوابط المشروعية المقررة بأي سند شرعي نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا مقيدًا . أي أن أصل الشرعة في خصوص إجازة الإرادة وقدراتها على إتيان التصرف الشرعي المنتج أو في شأن أهلية المحل وصلاحيته؛ لأن يكون موضع تصرف ، إنما هي على التقييد ، بحد المعتبر شرعًا منها . الأمر الذي يتبين منه، قدر مفارقة التصرف القانوني للتصرف الشرعي، إذ أن الأول وبحكم انطلاقه تأسسًا على مبدأ سلطان الإرادة وحرية الأخيرة في التوجه صوب ما تشاؤه من أعمال قانونية غير محدودة بحد أو مقيدة بقيد سوى عدم الإضرار بحقوق الآخرين من الغير، وقدرتها والحال هذه على ترتيب ما تشاء من آثار قانونية ترنو إليها بحكم هذا كله انفرز وضع بالغ الخطورة على نظام المجتمع إجمالاً والنظام القانونى خصوصًا، الأمر الذي عالجه الفقه الوضعي من جانبين: الأول: تمثل في أفراد ركن مستقل لعناصر المشروعية بمسمى السبب، ووضع فيه من القيود على الإرادة ما لم يتمكن من التصريح بانضباط الإرادة به ابتداء، وتأصل ركن الإرادة على هدى من حقيقة تقيد الإرادة بعناصر المشروعية المقررة، أي أنه التف على سلطان الإرادة المطلق وقام بتقييده من خارج هذه الإرادة، وأما الثاني فكان أن ابتدع فكرة النظام العام ووجهها صوب ركني المحل والسبب ليقوما عليه، فيقيدان حالتئذ الإرادة بمقتضى مفهوم هذه الفكرة، حال تبدى لنا الأمر على نقيض هذا في التصرف الشرعي، فلا خير ليس فيه – منهجًا – أي ادعاء بخصوص إطلاق الإرادة أو أي حديث عن سلطانها غير المحدود ، وإنما على خلافه، فالإردة نشأت مقيدة ابتداء بالحد الشرعي، والمقصد من وراء الإرادة إنما هو موضع اعتبار دائم في تبين مدى مشروعية التصرف، كما أن هذه الإرادة ليست هي مرتب الآثار المرجوة، وإنما تترتب بجعل من الله تعالى، فضلاً عن أن محل أي تصرف يرتبط ابتداء في تقدير مشروعيته بموضعه من التصرف ذاته، ومن ثم فلم يتم فصل المشروعية عن التكوين الأساسي لركني التصرف الشرعي – الإرادة والمحل – بل هي – أي المشروعية – متبطنة بهما، مقيدة لهما، محددة ابتداء لأصل شرعتهما، وهما بصدد التصرف المزمع.

وعليه وإزاء هذا جميعه لم يجد النظام الشرعي القانوني في الإسلام ، احتياجًا فنيًّا – تقنيًّا – لإبداع فكرة كالنظام العام تلعب دور المقيد والمحدد لسلطان الإرادة وهي بصدد التصرفات الشرعية، فالقيد وارد ابتداء ، والحد معين شرعًا، والنسبة إلى الله تعالى في آثار التصرف مقطوع بها، ومن ثم فليس ثمة حاجة إلى إيجاد آليات قيد خارجة عن نسبة التكوين الداخلي للتصرف للحد من غلوائه؛ لأن هذه الغلواء غير مفترضة في التصور الشرعي الإسلامي، كما أنه من غير المفترض وجود آثار قانونية تناقض مقتضى النظام الشرعي ، فلكون الآثار إنما تترتب بجعل من الله تعالى فلا محاجة حالتئذ بإمكان ترتب آثار تناقض أحكام الله، فسبحانه منزه عن أن يرتب آثارًا تخالف أحكامه، أي أن افتراض قابلية التصرف لإنتاج آثار تعارض أي من أحكام وأصول النظام الشرعي الإسلامي، منتف بحكم جعلية الآثار، ليغدو مثل هذا التصرف باطلاً منذ مولده لعدم قدرته أو صلاحيته لترتيب أي من الآثار المقصودة طالما عارضت حكم الشرع ، لكون الأخير هو الذي يقرر الآثار ويرتبها وليس التصرف ذاته، فكيف يرتب آثارًا لا يريدها هو.

وعليه فأي تصرف يفتقد عناصر المشروعية المعينة، إنما هو باطل ابتداء منهدر انتهاء غير قادر عن ترتيب آثاره غير المشروعة، أي أنه ليس بحاجة لآلية فكرة النظام العام، التى تدخل على التصرف القانوني المتكامل صحة وتكوينًا ، فتبطله وتهدر آثاره، لمخالفته المشروعية الوضعية المقررة.

* * *

ومما تقدم ، يكون قد انجلى من الحقائق بشأن صحيح وضع وتكوين الشريعة الإسلامية، ما يحذو بنا إلى عدم الانقياد وراء ما وجد من بعض الظواهر في النظام القانوني الشرعي القائم بهذه الشريعة مشابهًا في قشرته الخارجية لفكرة النظام العام الوضعية، وبالتالى الموافقة على قالة معرفة الشريعة الإسلامية لتكوين مفهوم النظام العام بحسبه نسقًا معرفيًّا بالأساس، موجودًا بهذه الشريعة كما هو موجود بالنظم الوضعية. إذ أنه وإزاء ما انبسط أمامنا من حقائق سواء هذه التى تخص تكوين الشريعة الإسلامية ، وأنساقها المعرفية أو تلك التى  تخص مفهوم النظام العام وأوضاعه التاريخية والسياسية والقانونية الملابسة، فضلاً عن وظائفه التى اضطلع بها، والتطور الذي لحق هذه الوظائف منذ مولد هذا المفهوم وإلى ما استوى عليه الآن ، يغدو من العسير التسليم بأن في النظام الشرعي الإسلامي ما يمكن الاعتداد به نسقًا يكافئموضعيًّا مفهوم النظام العام الوضعي . فمواضع التشابه التى تثير من اللبس بين النظام الشرعي الإسلامي والنظام الوضعي وتدفع إلى الاعتقاد في قالة معرفة الأول لمفهوم النظام العام ، لا تعدو أن تكون ظواهر خارجية تتعلق بتشابه في أحكام الأمر والنهى وفي البعد القيمي الكامن وراء مثل هذه الأحكام بحسبها انعكاسًا قانونيًّا لأصول أيديولوجية معتنقة . حال أن حقيقة الكشف المنهجي عن وجود شيء مزروع بحقل معرفي معين لدى حقل معرفي آخر ، يستلزم بداية دراسة كلا الحقلين واستظهار مدى قابلية الحقل المكشوف عنه لتقليل هذا الشيء ومدى احتياجه له، فيتم العكوف على استظهار كافة عناصر هذا الشيء لدى ذلك الحقل الأخير من حيث مساره التاريخي والدور الذى يضطلع به والوظائف الموكول بها إليه، فضلاً عن أبعاده الاجتماعية والسياسية بوصفه بالأساس حقيقة ملابسة للوضع المجتمعى الذي تنشط به، والثابت لدينا – ومما تقدم جميعه – أن الفرض المنهجى الأول والخاص بمدى إمكان النظام الشرعي الإسلامي لتقبل مفهوم النظام العام واحتياجه له، غير متحقق، للتباين الجلي بين هذه المنظومة القانونية، والمنظومة القانونية الوضعية، وذلك من جهة المنطلقات الأساسية التى تبدأ منها فروضه الأصلية، ومن ثم فليس ثمة حاجة إلى القول بمعرفة -أو باحتياج- النظام الشرعي الإسلامي لمفهوم النظام العام .

(*) دكتوراه من كلية الحقوق – جامعة الأسكندرية .

(1) إذ يغلب على الفقه  التقليدي النزوع إلى تعيين الإطار المعرفي لفكرة النظام العام باللجوء إلى ضابط الماهية المعياري، تجاهلاً لأصوله الوظيفية التى هي سند نشأة الفكرة وعماد تطورها وبقائها .

(1) رغم ما شهده التطور – على نحو ما تقدم – من دور آخر بدأت فكرة النظام العام في لعبه، لصالح الجماعة على حساب تسلط الدولة ومؤسساتها .

(1) عرف النظام القانونى الإسلامي، في الحقل المعرفى الفقهي بمسمى التشريع الإسلامي . والتشريع الإسلامي مصدر شرع (بتشديد الراء) كالشرع مصدر شرع (بتخفيف الراء المفتوحة) ، والمراد وضع أحكام للناس ليعملوا بها، ولتطبق على ما يصدر عنهم، فإن كان واضع هذه الأحكام هو الله سمى شرعًا أو تشريعًا إلهيًّا، وإن كان الواضع هم الناس سمى شرعًا أو تشريعًا وضعيًّا . وقد انتهى الشرع الإسلامي بوفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؛ إذ الشارع وحده هو الله تعالى والرسول مبلغ عنه بواسطة الوحى، وبموت الرسول انقطع الوحى ، ومازاد بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم) إنما جاء استنباطًا من فقهاء الصحابة والتابعين ومن خلفهم من أئمة الاجتهاد، وهو ماسوف يوضح تفصيلاً لاحقًا .

انظر الشيخ / أحمد أبراهيم بك – علم أصول الفقه، ويليه تاريخ التشريع الإسلامي – دار الأنصار – ص1 و ص2 من الملحق .

(1) الشيخ أحمد إبراهيم بك – المرجع السابق – جـ 2 وما بعدها .

(1) د/ عبد الحكيم زيدان – المدخل الدراسة الشريفة الإسلامية – دار عمر بن الخطاب للطباعة والنشر بالإسكندرية – الطبعة الرابعة – 1969 – ص16 .

(2) ن، ج، كولسون – في تاريخ التشريع الإسلامي – ترجمة د/ محمد أحمد سراج – دار العروبة بالكويت – طبعة 1402 – 1982 – ص37 .

(3) د/ عبد الكريم زيدان – المرجع السابق – جـ 18 وما بعدها .

(1) د/ محمد سليم العوا – في النظام السياسي للدولة الإسلامية – المكتب المصرى الحديث – الطبعة السادسة – 1983 – ص 36 ، 37.

(2) المرجع السابق – ص38 .

(1) د/ محمد سليم العوا – المرجع السابق – ص38 وما بعدها .

(2) المرجع السابق – ص 42 .

(1) كولسون – المرجع السابق – ص 37 ، 38 .

(1) زواج الشغار هو تزويج الرجل لابنته أو من تحت ولايته، آخر نظير قيام هذا الأخير بتزويج ابنته أو من تحت ولايته لهذا الأول، لتغدو كل من الزوجتين مهرًا وصداقًا للأخرى ، انظر د/ عبد الكريم زيدان،  المرجع  السابق ، ص 26 ، ص 27 .

(2) المرجع السابق – ص 28 .

(3) المرجع السابق – ص 32 ، 33.

(4) المرجع السابق ص 33 وما بعدها .

(1) انظر الشيخ الدكتور/ يوسف القرضاوى – الخصائص العامة للإسلام – مكتبة وهبة – 1367هـ  1977م – ص5 وما بعدها .

(1) د/ يوسف القرضاوى – المرجع السابق – ص7 وما بعدها .

(1) د/ يوسف القرضاوى – المرجع السابق، ص 33 وما بعدها .

(2) د/ يوسف القرضاوى ص 53 وما بعدها .

(1) د/ محمد سليم العوا – المرجع السابق – ص 222 وما بعدها .

(2) د/ يوسف القرضاوى – المرجع السابق – ص 16 وما بعدها.

(2) د/ يوسف القرضاوى – المرجع السابق – ص 51 ، 52 .

(3) سورة الأنعام: 164.

(4) سورة طه: 121 ، 122.

(1) سورة الحجرات: 13.

(1) رواه البيهقي من حديث جابر.

(2) حديث رسول الله ، رواه أبو داود والترمذي وحسنه البيهقي.

(1) د/ محمد سليم العوا – المرجع السابق – ص 243 .

(2) المرجع السابق – ص 239.

(1) وليس أكثر دلالة على ذلك من حال مجتمعات الدول الملقبة بالعالم الغربي، التى ما زالت تعاني من مظاهر تمييز عنصري واضح يلقي بظله على أوضاعها الداخلية ، رغم ابتناء نظمها القانونية على النفي الكامل لهذه الظاهرة ، ورغم الجهود التشريعية المبذولة في هذا السياق.

(1) د/ محمد سليم العوا – المرجع السابق – ص 244 .

(2) د/ يوسف القرضاوى – المرجع السابق – ص 91 ، 92 .

(1) المعجم الوسيط – الجزء الثاني – مجمع اللغة العربية – طبعة 1381 – 1961 – ص 594 – مادة : عدل .

(2) الموسوعة الفقهية – الجزء الثلاثون – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت – ص5 .

(1) شريعة الإسلام ، خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان – يوسف القرضاوى – المكتب الإسلامي – الطبعة الثالثة – 1403هـ ، 1983 – ص 20.

(2) محمد سليم العوا – المرجع السابق – ص 215 ، 216 .

(1) انظر: الموسوعة الفقهية – المرجع السابق – ص 5 وما بعدها على تفضيل في مادة عدل .

(2) انظر الموسوعة الفقهية – المرجع السابق – الجزء التاسع والعشرون ص 170 وما بعدها على التفصيل في مادة ظلم .

(1) مبدأ المشروعية وضوابط خضوع الإدارة العامة للقانون – د/ طعيمة الجرف  دار النهضة العربية – الطبعة الثالثة 1976  ص 13 ،  14 .

(2) المرجع السابق  ص 33 .

(1) المرجع السابق  ص 33 .

(1) الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية، رؤية معرفية – هشام أحمد عوض جعفر – المعهد العالمي للفكر الإسلامي – سلسلة الرسائل الجامعية (14) – طبعة 1416 ، 1995 – الطبعة الأولى – ص 88 ، 89 .

(2) سورة التوبة: 40.

(3) سورة النساء: 64 ، 65 .

(1) د/ محمد سليم العوا – مرجع سابق – ص 153.

(2) المرجع السابق – ص 153 .

(3) المرجع السابق – ص 153 ، 154.

(1) المعجم الوسيط – المرجع السابق – الجزء الأول – ص 187 .

(2) لسان العرب – ابن منظور – دار المعارف – الجزء الثاني – ص 939 وما بعدها .

(1) الموسوعة الفقهية – المرجع السابق – الجزء 18 – ص 7 .

(2) لسان العرب – المرجع السابق – الجزء السادس – ص 4766.

(3) الروافد الفكرية العربية الإسلامية لمفهوم التنمية البشرية – أحد الأبحاث المقدمة لندوة التنمية البشرية في الوطن العربي – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – شباط / فبراير 1995 – ص49 ، 50.

(1) أبو الأعلى المودودى – نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور – الدار السعودية للنشر والتوزيع -طبعة 1405هـ ـ 1985م – ص130 ، ص 131.

(1) غير المسلمين في المجتمع الإسلامي – يوسف القرضاوى – مكتبة وهبة – 1397هـ ، 1977م. ص5 ، جـ6.

(2) المرجع السابق – ص 39.

(1) المرجع ذاته – ص 7.

(2) حقوق الإنسان في الإسلام النظرية العامة – جمال الدين عطية – ص 20 .

(3) المرجع السابق – ص 20.

(4) الفروق – أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المشهور بالقرافي – عالم الكتب – بيروت – الجزء الأول – الفرق الثاني والعشرين ص 140.

(5) المرجع السابق – تعليق ابن الشاف عليه في الفرق الثاني والعشرين .

(1) جمال الدين عطية – المرجع السابق – ص 21.

(2) المرجع السابق ص 22 .

(3) ذات المرجع – ص 24.

(4) ذات المرجع ص 24 ، 25 .

(5) ذات المرجع – ص 25

(1) القواعد الصغرى – العز بن عبد السلام السلمى – دار الفكر المعاصر، دمشق – 1416هـ – تحقيق : إياد خالد الطباع – ص 61، ص 62 .

(1) رواه أبو داود.

(1) مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام – يوسف القروضاوى – مكتبة وهبة – الطبعة الثالثة – رمضان 1397، أغسطس 1977- ص 56 : والاختلاف في الفقه حول الأقرباء الذين يحب لهم الإنفاق وحدود صلة القربى التى يثبت بها حق الإنفاق والإعالة – المرجع السابق – ص 59 وما بعدها .

(2) المرجع السابق ص 69.

(3) المرجع السابق ص 69.

(1) المرجع السابق ص 76 .

(2) المرجع السابق ص 73.

(1) المبسوط للسرخسي – محمد بن أبى سهل السرخسي أبو بكر – دار المعارف – بيروت – طبعة 1406 – الجزء الثالث – ص18.

(2) يوسف القرضاوى – المرجع السابق – ص114.

(1) الالتزامات في الشرع الإسلامي – أحمد إبراهيم بك – مجموعة الاعمال الكاملة – 2- توزيع دار الأنصار – ص 43 ،44.

(2) التعبير عن الإرادة في الفقة الإسلامي – وحيد الدين سوار – رسالة دكتوراه ، دار النهضة العربية ، 1960م، ص 32 .

(1) المرجع السابق ص 34 .

(2) المرجع السابق ص 452 .

(3) التشريع الإسلامي والنظم القانونية الوضعية – مبدأ سلطان الارادة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الغربية – عادل مصطفى بسيونى – مركز تبادل القيم الثقافية بالشعبة القومية باليونسكو – الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1978 – ص 157.

(1) المرجع السابق – ص 144 .

(2) عبد الكريم زيدان – مرجع سابق – ص 392.

(3) المرجع السابق – ص 393 وما بعدها .

(1) عبد الرازق السنهورى – الوسيط – الجزء الأول – المرجع السابق – ص 148.

(1) وحيد الدين سوار – المرجع السابق – ص 582.

(1) المرجع السابق – ص 579 وما بعدها تفصيلاً في اتجاه كل مذهب إلى الأخذ بهذا التكييف.

(1) عادل بسيونى – المرجع السابق – ص 171 .

(1) أحمد إبراهيم بك – الالتزامات في الشرع الإسلامي ( الأعمال الكاملة) – الجزء 2، توزيع : دار الأنصار – ص98.

(2) المرجع السابق – الشيخ أحمد إبراهيم – ص98 وما بعدها ، وبهذا المعنى عبد الرزاق السنهورى – مصادر الحق في الفقه الإسلامي – الجزء الرابع – الطبعة الثالثة – 1967 – ص 51 وما بعدها .

(1) محمود محمد شعبان – السبب الباعث على التعاقد في الفقه الإسلامي، طبعة الاخلاص – ص 117.

(2) مصادر الحق في الفقه الإسلامي – عبد الرزاق السنهورى – الجزء الرابع – معهد البحوث والدراسات العربية – ص 54 .

(1) الأم – الإمام الشافعي – الجزء الثالث – كتاب الشعب – ص 65.

(2) البدائع – الجزء 4 – ص 190 عن السنهورى المرجع السابق ص56 .

(1) المصدر السابق – الجزء 5 – ص169 عن السنهورى المرجع السابق – 56 ، 57 .

(2) أحمد إبراهيم بك – المرجع السابق – ص 100 .

(3) المرجع السابق – ص 99 .

(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين – ابن قيم الجوزية – تحقيق : طه عبد الرءوف سعد – الجزء الثالث – طبعة 1400هـ – 1980م ـ مكتبة الكليات الأزهرية – جـ 98 ، 99 .

(2) الميزان للعارف الصمداني والقطب الرباني سيدى عبد الوهاب الشعراني – الجزء الأول – المطبعة الحسينية المصرية – طبعة 1329هـ – ص57 .

(1) المرجع السابق – الجزء الثاني – المرجع السابق – ص 60 ، 61 .

(1) جامع الفقه – موسوعة الأعمال الكاملة للإمام ابن قيم الجوزية – جمعه ووثق نصوصه وخرج أحاديثه / يسرى السيد محمد / الجزء الرابع – دار الوفاء المنصورة – الطبعة الأولى 1421هـ ـ 2000م . ص 133 ، 134 .

(2) المرجع السابق – ص 138 .     (3) المرجع السابق – ص 139 ، 140 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر