أبحاث

تعقيب على بحث الاجماع في أصول الفقه من الشورى إلى النظام النيابي

العدد 141- 142

بسم الله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد… فالمطالع للبحث المذكور لأول وهلة قد يظن أن البحث يقوم على نقد الإجماع، لكن بالتأمل في البحث تبين لنا أن الكاتب يرمي إلى التعظيم من شأن الإجماع باعتباره نظامًا إسلاميًا يضاهي نظام النيابة البرلمانية عند الغرب الديمقراطي، ويؤكد على شدة احتياج الأمة إليه مع تحويله من فكرة مجردة أو ممارسة فردية لبعض المجتهدين – بطريقة لا تتناسب مع مقتضيات عصرنا الحاضر – إلى هيئة منظمة تضاهي البرلمان الديمقراطي، وعليه فلا تنحصر أهمية الإجماع في كونه من مصادر الأحكام الشرعية، بل تتعدى هذا إلى كون الإجماع أداة سياسية متطورة لتنظيم الممارسة النيابية.

ومن ثم فمجمل البحث وفكرته التأسيسية تستحق الدعم؛ لأنه يقوي من حجية الإجماع، ويوسع من دائرة الانتفاع به، ويبرز أن مباحث الأصول ليست مباحث نظرية بحتة، أو أنها بمنأى عن العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة؛ بل يمكن أن يكون لها من التطبيقات ما يخدم نهضة الأمة، ويعينها على مسايرة متغيرات العصر.

وبعد هذا المدخل تبقى لنا ملاحظات إجمالية وأخرى تفصيلية:

أما الملاحظات الإجمالية:

فالكاتب أحيانا يطلق دعاوى بلا برهان، وبعض أفكاره مبنية على الانطباعات والقناعات الذاتية التي لا يدعمها تأصيل علمي، وسترد أمثلة لهذا في الملاحظات التفصيلية.

وأحيانا ينقل الكاتب عن منتقدي الإجماع أفكارا هو لا يقتنع بها، ومع هذا يتركها بلا مناقشة أو تفنيد، كما يظهر في الأفكار التي نقلها عن (محمد أركون) على سبيل المثال.

وأما الملاحظات التفصيلية:

فتحت عنوان: (الإجماع والجدل المستمر):

نقل الكاتب عن الشيخ شلتوت أن الإجماع قد حكي “في كثير من المسائل التي ثبت أنها محل خلاف”، وهنا نود أن نعقب بأن الإجماع له مفهوم محدد، وهو:”اتفاق المجتهدين من الأمة في عصر من العصور على حكم في مسألة ما”(1)، والتساهل من بعض الفقهاء في إطلاق الإجماع ينحى باللائمة على المتساهل في التطبيق على الفروع الفقهية، لا على مفهوم الإجماع ذاته وما له من حجية ملزمة.

وتحت نفس العنوان:

قوله: “فقد ظلت هذه الفكرة على حالها في الدراسات الأصولية …. إلخ”:

قلنا: هذا كلام عن تجديد الشكل الذي تعرض به فكرة الإجماع، وهو لا يقدح في صحة الفكرة في ذاتها، ولا يلزم تطور كل فكرة حتى تكون مقبولة!

ثم إن إطلاق القول بأن فكرة الإجماع لم تتطور؛ غير صحيح، فأدنى مقارنة بين كتب أصول الفقه التي صنفت في الطور الأول من أطوار هذا العلم وبين الكتب المتأخرة تبين أن مقدار البحث في الإجماع قد نضج وزاد عما كان عليه الحال في الكتابات الأصولية الأولى، فمبحث الإجماع شأنه- في هذا- شأن بقية مباحث الأصول التي نضجت وتكاملت بتتابع المحققين الأصوليين على البحث والكتابة فيها، كمباحث القياس ودلالات الألفاظ التي توسع فيها علماء الأصول ببحث زائد عن بحث اللغويين، فصار المطالع لهذه المباحث في كتب الأصول يجد من المسائل والتفريعات ما لم يتطرق إليه اللغويون إبان عرضهم لهذه المباحث في كتبهم، وكذلك المقاصد الشرعية بعدما كانت تُذْكَر في بعض مباحث العلة من كتاب القياس في أصول الفقه أصبحت تشغل منه حيزا كبيرا إن لم يكن مستقلا كما هو صنيع الإمام العز بن عبد السلام (ت:661هـ) في كتابه: “قواعد الأحكام ومصالح الأنام” تأصيلا وتطبيقا، وكما أجاد الإمام أبو إسحاق الشاطبي (ت:794هـ) في كتابه: “الموافقات” تأصيلاً وتقعيدًا .

وتحت عنوان: (الإجماع والعلاقة بين السياسة والأصول):

انتقد الكاتب خلو الدراسات الأصولية عن الحديث عن علاقة السياسة بأصول الفقه.

وينبغي أن نعلم أن هذا ليس موضع انتقاد ومؤاخذة؛ لأن خلو الدراسات الأصولية عن الحديث عن علاقة السياسة بأصول الفقه أمر بدهي؛ لأن تناول هذه العلاقة خارج عن موضوع علم الأصول، ولا يعترض على العالم بترك ما لا يدخل في موضوع فنه، ولا دلالة في هذا- ألبتة- على أن الأصوليين أعرضوا عنها لرؤيتهم أنها لا قيمة لها، كيف وقد تكفلت كتابات السياسة الشرعية- التي كتبها أصوليون- بالحديث عن هذه العلاقة من خلال فكرة أهل الحَل والعقد مثلا!

بل لعله لا يُستَغرَب إذا قلنا: إن هذا النقد يمكن أن يوجه إلى أهل العلوم الإنسانية والاجتماعية الذين لم يستثمروا هذا المصدر في إثراء البحث في علومهم.

وفي هذا السياق أرجع الكاتب إهمال العلاقة بين أصول الفقه والسياسة إلى أن الدراسات الأصولية الحديثة اهتمت بالدراسة في العلم، دون الدراسة عنه أو حوله، الأمر الذي حال دون الحديث عن علاقة علم أصول الفقه بالعلوم الاجتماعية.

وهذا الاستنتاج مردود بأن الدراسات الأصولية الحديثة اهتمت بالكلام عن العلم وحوله من زوايا مختلفة: فمنها ما اعتنى بتاريخ العلم وما مر به من أطوار، ومنها ما اهتم بأعلام علم الأصول، ومنها ما تكلم عن علاقة علم الأصول ببعض العلوم الإنسانية كعلم الفلسفة كما فعل فضيلة الأستاذ الدكتور/علي جمعة “مفتي الديار المصرية” في كتابه الماتع: “علم أصول الفقه وعلاقته بالفلسفة الإسلامية” وكذلك ما كتبه الأستاذ الدكتور/ فتحي الدريني في بحثه: “النظريّة العامّة للشريعة الإسلاميّة” عن أثر المصلحة وبيانها بالمعنى الأصولي في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وغير ذلك من الجوانب التي اهتمت بها الدراسات الأصولية الحديثة في إطار بحثها حول علم الأصول وعنه.

ومن الناحية المنهجية: يؤخذ على الكاتب أنه استرسل في النقل عن الشيعة الإمامية لبعض مزاعمهم التي اتكأوا عليها في نقض حجية الإجماع، ولم يعن الكاتب ببيان طرف من أجوبة أهل السنة التي دفعوا بها مطاعن الشيعة في حجية الإجماع، ومنها: أن الإجماع له استدلال بيِّن بالاستقراء في القرآن الكريم، وكذلك له أصل راسخ في السنة النبوية يعرف بأدنى مطالعة لكتب أصول أهل السنة التي عنيت ببسط المناقشات العلمية بين أهل السنة والشيعة الإمامية حول حجية الإجماع(2).

والزعم بأن أهل السنة اضطروا إلى تصحيح شرعية البيعة لأبي بكر الصديق t من طريق الإجماع، مبني على أن البيعة لا سند لها عند أهل السنة إلا الإجماع، وهذا فاسد من وجوه، منها أن اختيار أبي بكر t انبنى على ما له من سوابق جليلة في خدمة الدين ونصرة النبي r بما لم يقدمه غيره، ومن هذا: أن البيعة لها سند من القياس؛ حيث قاسوا الإمامة العظمى في الدنيا على إمامة الصلاة، وغير ذلك من الأسانيد التي لا تنحصر في الإجماع(3).

وحتى لو سلمنا أن بيعة أبي بكر t لا سند لشرعيتها إلا الإجماع فيلزم الشيعة الإقرار بشرعية هذه البيعة؛ لأن الشيعة أقروا بصحة الإجماع إذا كان الإمام المعصوم بين المجمعين، قال الحلي: “الإجماع إنما هو حجة عندنا؛ لاشتماله على قول المعصوم، فكل جماعة- كثرت أو قلت- كان قول الإمام في جملة أقوالها ، فإجماعها حجة لأجله، لا لأجل الإجماع “(4)، وبيعة أبي بكر t وقعت بالإجماع، وكان بين المجمعين علي t، وهو إمام معصوم في نظر الإمامية، فيصح الإجماع الذي يتضمن قوله.

قال الحافظ ابن كثير(5): “فهذه البيعة التي وقعت من عليّ لأبي بكر، بعد وفاة فاطمة، بيعة مؤكّدة للصلح الذي وقع بينهما، وهي ثانية للبيعة التي ذكرناها أوَّلا يوم السّقيفة، كما رواها ابن خزيمة، وصحّحه مسلم، ولم يكن عليٌّ مجانبًا لأبي بكر هذه الستّة الأشهر، بل كان يصلّي وراءه، ويحضر عنده للمشورة، وركب معه إلى ذي القَصّة”(6).

والحقيقة كما قال العلامة الطاهر ابن عاشور: “أما الشيعة فإنما منعوه- أي الإجماع- فرارا من إلزامهم بصحة خلافة الخلفاء الثلاثة y، ولأنهم شرطوا وجود إمام معصوم ضمن المجمعين وهو في الصدر الأول لم يُجمع لأن عليًّا t إنما سكت عن حقه في الخلافة عندهم تقية وبعد ذلك صار المعصوم محتَجَبا”(7).

وأدلة شرعية البيعة مقررة قبل دخول الإجماع حيز الدراسات الأصولية، فما نقله الكاتب عن بعض علماء الإمامية في هذا الصدد- دون تعقيب منه- محض تخرصات لا دليل عليها.

وتحت عنوان: (الإجماع وانقسام الموقف):

امتدح الكاتب فكرة المجاراة لجماعة المسلمين التي تبناها بعض علماء الشيعة الإمامية؛ حيث أطلقوا اسم الإجماع على الصورة التي يقبلونها من صور الإجماع، واعتبر الكاتب هذا المسلك كاشفًا عن رغبة لها علاقة بفكرة الانسجام الإسلامي.

ومن جهة أخرى نسب الكاتب إلى أصوليي أهل السنة التقصيرَ في تناول الإجماع بما يستحقه من اهتمام في حدود ما اطلع عليه الكاتب من كتب الأصول.

ونقول: لكن القدر الذي لم يطلع عليه الكاتب من كتب الأصول عند أهل السنة- وهو كثير- زاخر بالمناقشات المطوّلة حول الإجماع، والتي استقصت الآراء والأدلة، وإن أدنى نظرة في نحو: محصول الرازي وإحكام الآمدي لكفيلة بإيقاف الكاتب على جهود أهل السنة في هذا الصدد.

وتحت عنوان: الإجماع بين الفقه والأصول:

ما ذكره الكاتب هنا مستقى من منهج الشيعة وكتبهم، والأمر ليس كذلك عند أهل السنة؛ فإن استخدام الإجماع عند فقهاء السنة وإن اختلف عنه عند الأصوليين- في مدى استخدامه بدقته المشروطة في أصول الفقه- إلا أنه لم يكن بهذه الطريقة المتباينة عند علماء الشيعة الإمامية، وهذا شيء طبعي في الاستخدام عندما ننتقل من مرحلة التنظير والتأصيل إلى مرحلة التنزيل والتفريع الجزئي، شأن أي علم تتجاذبه الحالة الذهنية والتطبيقات الخارجية، كما نرى في حالة الاستدلال بالحديث الضعيف عند المحدّثين والأصوليين من جهة وعند الفقهاء من جهة أخرى، فحين لا يعتمد عليه الأولون في الأحكام نرى الآخرين يستندون إليه في الاستدلال؛ مراعاة لكثرة المسائل والجزئيات، وقد يكون المستدل به ممن لم يعتمده أصوليًا، كما عند ابن حجر العسقلاني في “بلوغ المرام” والشوكاني في “نيل الأوطار”، وكذلك هو صنيع جُلة من فقهاء المذاهب الأربعة.

وعند الكلام عن الإجماع والمنحى الجديد:

بالغ الكاتب في التفخيم من شأن العلاقة بين الإجماع والنظام النيابي الغربي بحيث يبدو للقارئ أن ارتباط الإجماع بالممارسة النيابية لم يسبق له مثيل في التاريخ الإسلامي، والواقع أن الإجماع في تاريخ المسلمين لم يكن مقطوعَ الصلة بنظام أهل الحَل والعقد، الذي يعد من أبرز الأنظمة التي يقوم عليها العمل السياسي الشرعي.

وفي سياق كلامه عن: الإجماع وعنصر المرونة والتطور في أحكام الشريعة:

نقل الكاتب عن السنهوري: أن الإجماع كان أمرا ضروريا؛ لسد حاجة المجتمع الإسلامي إلى أحكام في المستجدات التي لم يُنص عليها في الكتاب والسنة، وهذه الفكرة تحتاج تفصيلا؛ إذ الإجماع المعتمد عند السنهوري والذي يرى ضرورته لتطور الفقه مع مسائل كل عصر، إنما هو اتفاق الأكثرية من المجتهدين في عصر من العصور على حكم ما، وهو يخالف المعتمد والراجح عند جمهور أهل السنة(8).

ويشير الباحث إلى ما قرره الدكتور/ السنهوري من علاقة الإجماع بالنظام النيابي، واستدلاله بقول المستشرق المجري جولد زيهر : “لا شك أن الإجماع قد احتوى على ينبوع القوة التي تجعل الإسلام يتحرك ويتطور” ومما هو حريٌّ بالتنبيه أن ذلك المستشرق وغيره قد توهموا أن كل إجماع مقدَّم على النصوص، متجاهلين أن الإجماع لا يمكن أن يغير أصول الإسلام ومبادئه وأحكامه الثابتة، وأن مهمته تقوية الأحكام، وإظهارها بصورة حاسمة في الأذهان، حينما لا تتضح الأمور، وتكون الدلالات ظنية، مبهمة أو مجملة، وليس للمجتهدين إنشاء أحكام(9).

وتحت عنوان: (الإجماع والمنحى النقدي):

يجاب عن مجمل الدعاوى التي نقلها الكاتب عن منتقدي الإجماع بالتنبيه على ما يلي:

– على خلاف ما نقله الكاتب عن الشيخ شمس الدين- نَقول: بل تسبب الإجماع في نمو الفقه ونضجه، فصار من مصادر القوة والتميز في الشريعة الإسلامية؛ لأن القول بحجية الإجماع فيه توسعة لمصادر الشريعة، ويسعف الفقهاء في بيان الحكم الشرعي في كثير من النوازل التي لا نص فيها من كتاب أو سنة، وربما يتعذر فيها القياس.

– الزعم بأنَّ الإجماع يعفي الفقيه من عناء البحث إنما يتوجه إلى الفقيه الذي جاء بعد عصر الإجماع؛ وهذا ليس عيبا طالما أن الإجماع ورد صحيحا، إذ العلوم والمعارف تتراكم، وهذا ما يجعل المسلمين -أكثر من غيرهم- مرتبطين بتراثهم العظيم الذي يحترمونه ولا يقدسونه، ومن المعلوم أن الإجماع لا يصدر عادة إلا بعد نظر الفقهاء في المسألة وتقليب الفكر فيها، وربما صدر بعد مداولات ومناظرات تنتهي إلى الاتفاق، كما جرى بين الصحابة في مسائل، منها على سبيل المثال: مسألة أقل مدة الحمل.

– وحتى لو سلمنا أن الإجماع يعفي الفقيه من عناء البحث فهذا لا ضير فيه؛ لأنه يعني أن الإسلام قد ادخر بعضا من طاقة المسلم في البحث والنظر من أجل العمل، فلم يكلفه إعادة البحث فيما انعقد فيه الإجماع، والعمل مقصد أساسي في الإسلام.

– أما رأي الشيخ/ محمد مهدي شمس الدين بأن الإجماع كان أداة سياسية وضعت لمواجهة الرأي المخالف في السجال السياسي، فهو ينزع فيه بطبعه إلى نظرة الشيعة إلى الإجماع والذي يؤسسونه على ما حدث يوم السقيفة، وقد رددنا عليه فيما سبق.

– والزعم بأن “الإجماع يحول دون استجابة الشريعة لمستجدات الواقع” فاسد كذلك؛ لأنه مبني على جعل الإجماع في مقابلة العقل والفكر، وهذا ما لم يقل به أحد؛ بل الإجماع هو ثمرة العقل والفكر وتقليب أنظار الفقهاء في المسألة المبحوث عنها، فضلا عن أن هذا الزعم يصح لو قصرنا الإجماع على الثوابت فحسب، وأهل السنة يستخدمونه أصالة في المتغيرات بشروطه المعتمدة لديهم.

وأما المزاعم التي نقلها الكاتب عن (محمد أركون) فهي تخرصات مرسلة لا برهان عليها.

ويلاحظ أن أركون يخلط بين الأرثوذكسية وبين الإسلام خلطا عجيبا لا يقبله عاقل فضلا عن عالم بحقائق الأديان والمقارنة بينها.

ثم إن كلام (أركون) ينطوي على نقد لخضوع المجتمعات للكتاب الموحَى، وهذا يعكس موقفا نقديا من حاكمية القرآن الكريم من الأساس على طريقة غلاة العلمانية، وهذا ما تكفلت بدحضه كتاباتُ العلماء والمفكرين المعتدلين في منهجهم، حتى خارج نطاق البحث الأصولي.

ونرى أركون- فيما نقله عنه الكاتب- يتهم الفقهاء باتباع الهوى وإصدار الأحكام بالصدفة، دون أن يقيم دليلا واحدا يظهر فيه هذا الهوى الذي اتبعه الفقهاء، وبهذا يظهر عدم إحاطته (أي: أركون) بعلم الأصول الذي نص علماؤه على أن الإجماع مُظهِر لا مثبت، بمعنى أن الإجماع لا بد له من مستند شرعي من الكتاب أو السُّنَّة يكون الإجماع كاشفًا عنه(10).

وتتواصل التخرصات المرسلة واتهام النوايا بلا برهان، وتظهر فيما نقله الكاتب عن الدكتور/عبد المجيد الشرفي، ويلاحظ أن الدكتور/ الشرفي- بحسب المنقول عنه- ينقم على الأصوليين أنهم لم يعتبروا وفاق العوام في الإجماع، مع أن مسلك الأصوليين في اطِّراح موافقة العوام هو ما يؤيده العقل السديد والمنطق الرشيد، وإلا فأيُّ فن من الفنون اعتد أربابه بوفاق من هو ليس من أهل هذا الفن؟!

وهل إبداء الرأي في أحكام الله تعالى- التي تستباح بها الدماء وتستحل بها الفروج- أقل خطرا من سائر الفنون والعلوم التي لا يقيم أربابها وزنًا لرأي غير المتخصص فيها(11).

وفي هذا المنحى تسفيه للعقلية المنهجية التي تلتزم بالجماعة العلمية، وهذا مسلك قد بُنِي على أن المنظومة العلمية لدى العلماء والفقهاء غير متكاملة، وبناء عليه لا يبقى هناك ثوابت نركن إليها ونعوذ بها، وهذا ما يريده دعاة الحداثة وغلاة العلمانية.

* وفي نهاية البحث وصل كاتبه الفاضل إلى بعض النتائج والملاحظات، ولنا عليه فيها بعض التعليقات، وهي :

– بالنسبة لما ذكره أولاً بأهمية قبول المنحى السلبي الناقد للإجماع كما نقبل المنحى الإيجابي لتكتمل الإحاطة بالموضوع المنتقد ، لا أحد يختلف معه في هذا بشرط أن يكون النقد بنَّاءًا وذا منهج منضبط، وأن يكون الناقد كما يقولون أديبا وزيادة، وأن ينبعث عن صدر سليم طالب للحق، ومؤسس على حجج مقبولة.

– كثير مما ذكره الكاتب عمن نقل عنهم يفتقد إلى هذه الشروط أو بعضها، كما أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سبق.

– ما ذكره ثانيًا غير مسلَّم، فالمنحى السلبي أو ما هو كائن -كما يسميه- وهو المتوارث عن علماء الأمة وفقهائها، ليس سلبيا؛ لأنه مبني على منهج منضبط تناقله العلماء عبر العصور بين بسيط ووسيط ووجيز في تأصيله وتطبيقاته، ولذلك فالسلبي هنا ليس العمل الجليل الذي قام به علماء الأصول منذ الإمام الشافعي إلى الآن، وإنما السلبي من خارج تلك الدائرة، حيث لم يستثمر غيرهم فكرة الإجماع التي أجاد فيها أولئك العلماء المذكورون، والكاتب جعل ذلك الاستثمار هو المنحى الإيجابي أو ما ينبغي أن يكون في نظره.

– ما ذكره الباحث ثالثًا من أن تجديد أصول الفقه – كغيره من العلوم- قد يأتي من خارج حقله المعرفي على أيدي غير الأصوليين ممن يسميهم المفكرين المصلحين، هو خلط غير مقبول؛ إذ التجديد يكون في منهج ذلك العلم أو أدواته وضوابطه وكيفية تطبيقاته، وليس في الاستفادة منه في حقل معرفي آخر، ولذلك فطن الأستاذ/ عبد الوهاب خلاف لهذا الفارق، فأشار إلى أن تجديد شيء من موضوع الإجماع يكمن في كيفية تحققه وانعقاده في زمننا الحاضر الذي تباعدت فيه أطراف الدول الإسلامية وتناءت الحدود فيما بينها، ولذلك قال الأستاذ/ خلاف : “والذي أراه الراجح أن الإجماع بتعريفه وأركانه التي بينّاها لا يمكن عادة انعقاده إذا وُكل أمره إلى أفراد الأمم الإسلامية وشعوبها. ويمكن انعقاده إذا تولت أمره الحكومات الإسلامية على اختلافها، فكل حكومة تستطيع أن تُعيّن الشروط التي بتوافرها يَبلُغ الشخص مرتبة الاجتهاد، وأن تمنح الإجازة الاجتهادية لمن توافرت فيه هذه الشروط، وبهذا تستطيع كل حكومة أن تعرف مجتهديها وآراءهم في كل واقعة، فإذا وقفت كل حكومة على آراء مجتهديها في واقعة، واتفقت آراء المجتهدين جميعهم في كل الحكومات الإسلامية على حكم واحد في هذه الواقعة- كان هذا إجماعا، وكان الحكم المجمع عليه شرعيا واجبا اتباعه على المسلمين جميعهم”(12) .

– وأما رابعًا فقد ذكر فيه الباحث نظريتين عن الإجماع عند الشيعة وأنهما متفاوتتان في قربهما من الدراسات الأصولية، ولا يخفى أن مآلهما واحد بالنسبة لأهل السنة، فالأولى لا ينطبق عليها الإجماع بمعنى اتفاق جميع المجتهدين، والثانية تطعن صراحة في الإجماع عند أهل السنة؛ ولذا فهما لا يخدمان الإجماع وتجديده فضلا عن التقريب بين السنة والشيعة من قريب أو بعيد.

وختاما ..

فنحيي في الكاتب المنحى العملي الذي عُنِي بالكشف عن التطبيقات العملية التي تدعم مكانة الإجماع؛ بتوسيع دائرة الاستفادة منه في الجانب الحضاري، ونحن في حاجة إلى مثل هذه البحوث والدراسات التي تُظهر قيمة تراث المسلمين وعطائه المستمر كرافد ومنهل عذب للعلوم الاجتماعية والإنسانية.. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

***

 

الهوامش

(1) ينظر: المستصفى للغزالي (1/110) والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/101) ومسلم الثبوت لابن عبد الشكور 2/166) وإرشاد الفحول للشوكاني ص63.

(2) ينظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/290).

(3) ينظر للاستزادة: تاريخ الإسلام للذهبي (3/6)، الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني (1/47).

(4) تهذيب الوصول إلى علم الأصول لابن المطهر الحلي : ص 70.

(5) البداية والنهاية (5/ 286).

(6) موضع على بعد مرحلة من المدينة إلى جهة الشرق، على طريق العراق، وكانت مسرحا لمعركة فاصلة بين جيش المسلمين والمرتدين الذين تجمعوا لقتال المسلمين بعد وفاة النبي r. ينظر: تاريخ خليفة بن خياط (1/101)، مؤسسة الرسالة، ط2.

(7) التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح (2/96).

(8) ينظر: إسلاميات السنهوري باشا، للدكتور محمد عمارة (2/555) ، وأصول الفقه الإسلامي، د/ وهبة الزحيلى (1/518).

(9) ينظر: أصول الفقه الإسلامي، د/ وهبة الزحيلى (1/588).

(10) ينظر للتفصيل: كشف الأسرار للبزدوي (2/983) والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/342) وشرح العضد لمختصر ابن الحاجب ص39، والمدخل إلى مذهب أحمد لابن بدران ص132

(11) ينظر للتفصيل: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/299).

(12) علم أصول الفقه، ص54،55.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر