أبحاث

منهج إسلامي في تدريس الفلسفة الأوربية الحديثة

العدد 19

1- تمهيد:

هذا البحث محاولة لوضع خطوط عامة لمنهج فكري إسلامي في دراسة تاريخ الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة في الجامعة، وفي تقويم شخصياتها ومذاهبها، وتجنب آثارها الضارة في مختلف المجالات في مجتمعاتنا الإسلامية.

وثمة تساؤلات هامة تلح على أذهان الكثيرين، منها ما يلي:

ما مفهوم الفلسفة الأوروبية؟ وما جدوى تدريسها في عصرنا؟ وهل من الصواب أن نزج بالطالب الجامعي المسلم في معترك أفكارها ونظرياتها لتتسرب إليه شبهات تؤثر على عقيدته وسلوكه؟

وإذا رأينا أن لتدريسها بعض النتائج النافعة، كأن تزود الطالب بثقافة عامة عن التطور الفكري في أوروبا الحديثة والمعاصرة، قد يحتاج إليها ليفهم مشكلات عصره، أو ليشحذ ذهنه، ويكتسب المران على التفكير، وينمي قدرته العقلية، أو ليكشف بنفسه ما يمكن أن يكون في الفكر الأوروبي من مبادئ إيجابية دافعة إلى التقدم الحضاري، فهل يكون ذلك على أساس منهج عقلاني حيادي، أو على أساس منهج إسلامي؟

وإذا كانت مجتمعاتنا الإسلامية قد عانت من الغزو الفكري الأوروبي الذي صاحب الاستعمار ولا تزال، وتريد أن تحتفظ بما لها من شخصية حضارية متميزة، فما هو المنهج الصحيح لمعالجة قضايا الفلسفة الأوروبية بما يحفظ عليها نظرتها الإسلامية الخاصة في كل ما يعرض عليها منها؟

وكيف يمكن بعد ذلك أن تتلافى مجتمعاتنا الإسلامية الآثار المدمرة للمذاهب الفلسفية الأوروبية الإلحادية أو العبثية؟

وكيف نقنع شبابنا المسلم بأن الإسلام كدين وكحضارة يغني عن استيراد المذاهب الفلسفية الأوروبية على اختلاف ألوانها، على اعتبار أن هذه المذاهب من حيث هي فكر إنساني، تحتمل الصواب والخطأ، على حين أن ما جاء به الإسلام باعتباره وحياً لا يكون إلا صواباً، ونفعاً كله للفرد والمجتمع؟

كل أولئك تساؤلات يجب علينا كمسلمين أن نجد لها إجابات واضحة محددة ومقنعة، ولا يجوز أن نشغل أنفسنا بالإجابة عليها في نطاق الفكر النظري وحده، وإنما يجب أن نتجاوز هذا النطاق إلى اقتراح الحلول العملية لتدريس الفكر الأوروبي في الحديث والمعاصر في جامعاتنا الإسلامية، بإعادة النظر في برامج الدراسات الفلسفية، والالتزام بمنهج إسلامي في الدراسات يثبت للعلم أن من الممكن أن ينطلق العالم الإسلامي مرة أخرى فكرياً من الإسلام ليحقق تقدمه الحضاري المنشود بشقيه الروحي والمادي، وأن هذا العلم قادر أن يتجاوز الفكر الأوروبي إلى فكر آخر نابع من تراثه الحضاري، وأكثر قدرة على معالجة مشكلات العصر على أسس إيمانية وأخلاقية.

ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن ما يصلح في مجتمعات الشرق أو الغرب على السواء من مبادئ وأفكار لا يكون صالحاً بالضرورة لمجتمعات عالمنا الإسلامي، وأن المجتمع الأوروبي ليس بالضرورة مثالاً لكل المجتمعات، وقد تتجاوز البشرية حضارة الغرب إلى نوع آخر من الحضارة أفضل وأكمل، تضم خير ما في تلك الحضارة، وتقيم التوازن بين الجانب الروحي والجانب المادي، وتجعل دعائمها الإيمان بالله، والعلم، والعدل الاجتماعي. وهنا يبرز الدور الذي يجب أن يقوم به المسلمون في هذا العصر انطلاقاً من دينهم ليحققوا أمل البشرية في مستقبل أفضل.

2- تطور مفهوم الفلسفة في أوروبا وموقفنا كمسلمين منه:

ونقطة البداية في الإجابة عن التساؤلات التي طرحناها آنفاً هي تتبع مفهوم الفلسفة في أوروبا في إيجاز، وتحديد موقفنا كمسلمين منه، واقتراح مفهوم إسلامي للفلسفة نابع من مبادئ ديننا واحتياجات مجتمعاتنا الفكرية والروحية.

إن كلمة “فلسفة” –كما نعلم جميعاً- معربة عن اليونانية، وهي في الأصل مكونة من مقطعين (Philo) بمعنى محبة، و (Sophos) بمعنى الحكمة، فيكون معناها حب الحكمة. وذهب كثير من مؤرخي الفلسفة من الأوروبيين إلى أنها ابتكار يوناني، وأنها معجزة على غير مثال سابق، وأصبح رأيهم هذا بمثابة مسلمة من المسلمات حتى أن فيلسوفاً كبيراً معاصراً مثل برتراند راسل، مع ما عرف عنه من نزعة فكرية استقلالية سلم به، واعتبر أن “اليونان –وليس قدماء الشرقيين- هم الذين أنشأوا الرياضيات، وابتدعوا العلم الطبيعي، وابتكروا الفلسفة، مغفلاً مع كثير من مؤرخي الفلسفة الأوروبيين أن الشرق هو الذي أنشأ الحضارات الإنسانية الأولى.

على أن هذا الأمر ليس موضوع بحثنا الآن، وإنما الذي يعنينا هو أن نشير إلى أنه قدر للفيلسوف اليوناني أرسطو (384- 322 ق. م) أن يسيطر على الفكر الأوروبي في العصر المدرسي سيطرة تكاد تكون كاملة. وقد عرفت أوروبا فلسفته عن طريق العالم الإسلامي، ويشير الأستاذ جيلسون، أكبر مؤرخي فلسفة العصور الوسطى في أوروبا في عصرنا إلى أن أوروبا في القرن الثالث عشر الميلادي كانت تتطلع إلى الفكر الإسلامي تريد أن تأخذ عنه وتفيد منه، وقوى الاتصال بشكل ملحوظ بين الفكر المسيحي والفكر الإسلامي في هذا القرن. وقوى الاتصال بشكل ملحوظ بين الفكر المسيحي والفكر الإسلامي في هذا القرن. وكان لما ترجم من الكتب العربية واليونانية أثر كبير في وجود نشاط فكري هائل في أوروبا وظهور الجامعات. ولم تكن وظيفة الأساتذة المسيحيين في الجامعات في ذلك القرن تتعدى شرح أو قراءة كتب أرسطو المعروفة لهم لتلاميذهم. وكان للفيلسوف ابن رشد أكبر الأثر في الفكر المدرسي بشروحه على أرسطو.

وكان أبرز مفكر لاءم بين المسيحية وفلسفة أرسطو –أو على حد تعبير برتراند رسل- بين أرسطو المسيح- في ذلك القرن القديس توماس الأكويني (1225- 1274م)، وأصبح مذهبه اللاهوتي القائم على دعائم من فلسفة أرسطو مذهباً رسمياً للكنيسة الكاثوليكية منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا.

وقد أحدث الربط بين العقائد المسيحية ومذهب أرسطو قيداً على الفكر الأوروبي زمناً ليس بالقصير، وأصبحت الفلسفة عند المدرسين تفهم على أنها خادمة للدين (Ancilla Theologiae)، وأصبح اللاهوت فلسفة، والفلسفة لاهوتاً، وأقامت الكنيسة محاكم التفتيش لتنكل بأصحاب الآراء والنظريات العلمية الجديدة، وكانت تصل عقوباتها أحياناً إلى حد حرقهم أحياء، وما ذلك إلا لأنهم خالفوا ما هو مأثور عن أرسطو من نظريات، وكانت مخالفة أرسطو في نظرها خروجا ًعلى العقائد المسيحية، وهكذا كانت الكنيسة سلطة ظالمة رهيبة عائقاً أمام أي تقدم فكري أو علمي.

ونحن إذا عرفنا هذا عرفنا معنى التطورات اللاحقة في أوروبا في مجال الفكر.

فقد جاء عصر النهضة إبان القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين بمثابة تمرد أو ثورة على سلطة الكنيسة، واتجه المفكرون فيه إلى إحياء التراث الفلسفي اليوناني والروماني، وهو تراث وثني –وترجموه إلى اللغة اللاتينية، وجعلوه مصدر فكرهم ووحيهم، وسموا أنفسهم “الإنسانيين”، ومذهبهم “الإنسانية” وعلى أيديهم استقلت الفلسفة عن الدين، واتجهت في أغلب الأحايين إلى الإلحاد، وظهرت الفردية العنيفة في ميدان الفكر، والعناية بالعلم المادي وتطبيقاته العملية، وكل ذلك في إطار الغرور الشديد بالعقل الإنساني. ولم ينتج عصر النهضة شيئاً ذا قيمة في مجال الفكر الفلسفي، وكان الفلاسفة يرددون فيه الفلسفات القديمة: فكان منهم أفلاطونيون، وأرسطيون، وآخرون يلفقون بين المذاهب المختلفة، وآخرون يعلنون في مجال السياسة آراء منحطة تبيح الاستبداد، وتدعو الساسة إلى إطراح كل قيمة خلقية في ممارسة الحكم، أو يعلنون إفلاس العقل والوقوع في الشك المطلق.

ولم يكن ثمة إنجاز جدير بالتقدير في عصر النهضة إلا ذلك المتعلق بنهضة العلوم الطبيعية على يد طائفة من العلماء من أمثال ليوناردي فنشي وفيسال وهارفي وكوبرنك وكيلر وجاليليو، وكان عملهم في الحقيقة بداية النهضة العلمية الحديثة والمعاصرة في أوروبا.

وجاءت الفلسفة الأوروبية الحديثة منذ القرن السابع عشر الميلادي لتسير في نفس خطوط فلسفة عصر النهضة تقريباً، وهي الابتعاد عن الدين، والاعتداد بالعقل، والعناية بالعلم المادي وتطبيقاته. وسار فلاسفة أوروبا المحدثون في اتجاهين رئيسيين: الاتجاه العقلي، كما هو الشأن عند ديكارت (1596- 1650م) وسائر العقليين، والاتجاه التجريبي، وقد تزعمه بيكون (1561- 1626م) ومن جاء بعده من فلاسفة الإنجليز التجريبيين. وتميز هؤلاء الفلاسفة عموماً بالعناية بنظرية المعرفة من حيث إمكانها وطبيعتها وأدواتها ومناهجها، وهم على الجملة أكثر اتزاناً وهدوءاً من مفكري النهضة.

أما الفلسفة الأوروبية المعاصرة، وتبدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي إلى يومنا هذا، فقد غلب على مدارسها ومذاهبها الإلحاد الصريح نتيجة الغرور بتقدم العلوم المادية والصناعات في أوروبا، أو التشاؤم الذي ساد بعض المجتمعات الأوروبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

فمن مذاهب الفلسفة الأوروبية المعاصرة ما يؤمن بالتفسير المادي للوجود، فليس ثمة في العالم إلا المادة وقوانين تطورها، وما العقل إلا أسمى نتاج للمادة، ولا يمكن فصل الفكر عن المادة، ونمو الحياة الإنسانية، فردية واجتماعية يتوقف تماماً على الظروف المادية والاقتصادية، والصراع بين الطبقات هو الذي يتحكم في سير التاريخ. والفلسفة عند هؤلاء هي النظر العقلي الذي يعمل على تغيير المعالم.

ومن هذه المذاهب ما يرى أن العالم لم يوجد إلا اتفاقاً أو مصادفة، فلا خلق ولا خالق.

ومنها ما يبدأ سيره من إيمان لا حد له بمنهج العلم التجريبي بحيث يجعل معيار الحقيقة التجربة الحسية وحدها، ومن ثم لا مجال للتفلسف الذي يحاول تجاوز عالم الحس إلى ما وراءه، والعلوم الجزئية كفيلة بحل المشكلات التي كانت تبحثها الفلسفة، ولم يبق عند هؤلاء من مفهوم للفلسفة إلا أنها المنهج الذي ينظم نتائج العلوم الجزئية.

ومن فلسفات العصر أيضاً ما ينكر بحث الفلسفة في الوجود بإطلاق، ويتجه إلى التحليل المنطقي لألفظ اللغة وعباراتها على أساس أن كل لفظ ليس له ما صدق في عالم الحس فهو لفظ زائف، وبالتالي فإن القضية التي يستخدم فيها مثل هذا اللفظ فارغة المعنى، والفلسفة في مفهوم هؤلاء تحليل منطقي لعبارات اللغة وألفاظها. ولو امتد منهج الفلسفة إلى نطاق الدين لأصبحت بعض قضايا الدين التي تتحدث عن غيبيات لا معنى لها، ومن هنا تعتبر هذه الفلسفة منتهية بطبيعة منهجها إلى تقويض أركان العقيدة الدينية، حتى وإن لم يعن أصحابها بتحديد موقفهم من الدين صراحة.

ويوجد من بين فلسفات العصر أيضاً الفلسفة العملية التي اعتبر أصحابها صدق فكرة ما معناه التحقق من منفعتها بالتجربة، ومعيار الصواب والخطأ في مجال الأفكار والمعتقدات هو القيمة المنصرفة (Cash Value) لها في دنيا الواقع. وقد صرح أحد زعمائهم بأن علينا أن نعود مرة أخرى إلى قول بروتا جوراس السوفسطائي: الإنسان مقياس الأشياء جميعاً.

وثمة فلسفة أخرى في عصرنا تنطلق من القول بأن حياة الإنسان لا معنى لها ولا هدف منها إلا الإلحاد. ويرى بعض أصحابها وجود الإنسان على هذه الأرض مجرد مأساة، وأمراً غير مفهوم أو معقول. ويرى بعضهم الآخر حرية الإنسان بإطلاق في تحقيق ماهيته، إذ لا إله يخلق وفق ماهية سابقة، ولذلك يكون الوجود الإنساني سابقاً على الماهية، ومآل الإنسان إلى العدم، فلا بعث ولا ثواب ولا عقاب. وهؤلاء يفهمون الفلسفة على أنها تبحث في الوجود الإنساني الواقعي المشخص وعلاقته بالكون والآخرين. ومنهم أيضاً من يؤكد على عدم الإيمان بأي قيمة أخلاقية أو حقيقية مؤكدة، ويتجهون بعنف إلى الهدف فتوصف فلسفاتهم بوصف العدمية (Nihilism).

وجميع هذه الفلسفات الأخيرة في أرينا عبثية، من حيث أنها ترى الوجود الإنساني مجرد عبث، وتشاؤمية بالطبع، وشاعت بوضوح في أعقاب الحرب العالمية الثانية –خصوصاً في فرنسا- كرد فعل للمحن التي عانت منها المجتمعات الأوروبية. ومن أسف أنها تشيع في عصرنا شيوعاً غير عادي عن طريق الكتابات الأدبية والمسرحية في أوروبا، وهي كفيلة بالقضاء على أعظم ما أنتجته البشرية من حضارة لأنها تقتل في الإنسان طموحه ولا تجعل له هدفاً ما يسعى إليه.

نحن إذن في العالم الإسلامي أمام خطر شديد، وهو خطر تسرب مثل المذاهب الفلسفية المعاصرة في أوروبا إلى أذهاننا بحيث تشل قدرتها الذاتية على التفكير، وتنحرف بها إلى الإلحاد والهدم. وقد حدث شيء من ذلك فعلاً، فكل المذاهب التي أشرنا إليها لها أنصارها ودعاتها في عالمنا العربي والإسلامي، وهو أمر لا ينبغي أن نهون منه، أو من آثاره على مجتمعاتنا الإسلامية على المدى القريب أو البعيد، لأن معاول هدمها في هذه الحالة في أيدي بعض أبنائها ممن تمذهبوا بمذاهب معادية للإسلام، آلوا على أنفسهم أن ينشروها مهما تكن النتائج، إما لإيمان بها، أو لتحقيق منافع ذاتية، أو لأنهم مجرد أدوات في أيدي أعداء الإسلام يسخرونهم لتنفيذ مخططات استعمارية من نوع جديد.

ولعله قد اتضح الآن مما ذكرناه عن مفهومات الفلسفة في أوروبا منذ العصر الوسيط إلى الآن أنها مرفوضة من وجهة نظر الإسلام، وهي غريبة على مجتمعاتنا الإسلامية لأنها تبعث في أوروبا من واقع تاريخها الحضاري والديني والسياسي والاجتماعي.

فمفهوم الفلسفة في أوروبا في عصر المدرسيين مرفوض لدينا، فليس من شأن الفلسفة في الإسلام –باعتبارها نظراً عقلياً- الخضوع الأعمى لسلطة دينية شبيهة بالكنيسة، فليس في الإسلام نظام كنسي، أو سلطة علمية كسلطة أرسطو، وكل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا، ويذم القرآن الكريم التقليد للآراء السابقة الموروثة كما في مثل قوه تعالى: “وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباءهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون”.وينعي القرآن الكريم على أولئك الذين ألغوا أشخاصهم وعقولهم فعبدوا الأحبار والرهبان بمثل قوله تعالى: “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله”. ويتحدى القرآن الكريم المقلدين للعقائد الباطلة الموروثة بمثل قوله تعالى: “قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين”، وقوله تعالى: “قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون”.

يضاف إلى ما تقدم أن القرآن الكريم يدعو الإنسان صراحة  إلى استخدام المشاهدة الحسية مع النظر العقلي وذلك لمعرفة آيات الله تعالى في خلقه والآيات على ذلك أكثر من أن تحصى في هذا المقام.

على أن دعوة الإسلام العقل إلى النظر والاعتبار فيما حوله، كما في قوله تعالى: “فاعتبروا يا أولي الأبصار”، لا تعني أن العقل يتقدم الشرع، لأن ملكات الإنسان، ومنها العقل الاستدلالي محدودة، ولأن العقل لا يكون في كل حالاته بمعزل عن الهوى أو العاطفة. ومن هنا ليس لدينا ما يضمن صدق أحكامه باستمرار. ولذلك كان من الضروري أن يلجأ الإنسان –مع استخدامه العقل –إلى الوحي، فالعقل على حد تعبير الغزالي- في معرض رده على المعتزلة من المتكلمين- ليس بمأمن عن “العي والحصر”.

ولهذا فإن مفهوم الفلسفة الذي شاع في أوروبا منذ عصر النهضة إلى الآن، وهو أن الفلسفة هي الفكر العقلاني الحر الذي يسير في طريقه مستقلاً عن الوحي وتعاليمه، مخالف أيضاً الإسلام، فإن العقل في الإسلام مقيد بالوحي، وإذا كان العقل يخطئ ويصيب فإن النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاءنا به من عقائد وأحكام عن طريق الوحي معصوم من الخطأ. ولهذا يجب دائماً تصحيح ما يصل إليه العقل على أساس ما جاء به الوحي.

ولم يحد الفكر الإسلامي في مختلف عصوره عن هذا الاتجاه الذي يربط بين نظر العقل، وأحكام الوحي، فكان علماء التوحيد حريصين على إثبات ما جاء به الوحي من عقائد بواسطة إنظار العقل، وبين شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض مصنفاته موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، وحتى فلاسفة الإسلام الخلص، ابتداء من الكندي في المشرق وانتهاء بابن رشد في المغرب، كانوا معنيين دائماً بالملاءمة بين نظر العقل وأحكام الوحي، فأصابوا أحياناً وأخطئوا أحياناً أخري، ولكنهم على كل الأحوال لم يعزلوا النظر العقلي عن الدين فيما عرضوا له من مباحث الفلسفة.

ولهذا لا ينبغي أن يتطرق إلى الذهن أن ما جاء به الإسلام من عقائد وأحكام يتعارض مع العقل، وكيف يتعارض وقد عرض القرآن الكريم عقائد الإسلام على العقل ودعاه إلى مناقشتها ليتميز الحق عن الباطل، وهو حين يعرضها يدلل عليها بالحجة الواضحة، كما يذكر العقائد المخالفة لها، ثم يكر بالحجة عليها، وكل ذلك من شأنه أن يثير عند المسلم حب البحث العقلي ليتأتى إيمانه لا عن تقليد وإنما عن اقتناع ويقين.

وقد وقع كثير من المفكرين في عالمنا من الذين تشبعوا بفكر الغرب، بقصد أو بغير قصد، في وهم الاعتقاد بأن نهضة العالم الإسلامي في هذا العصر لن تتحقق إلا بسلوك نفس الطريق الذي سلكته أوروبا منذ عصر النهضة، ألا وهو التحرر من قيد الدين، غير واعين الاختلاف بين مفهوم الدين ووظيفته عندنا، وما يقابل ذلك عند الأوروبيين، وغير مدركين أن انطلاق العقل في أوروبا في اتجاه معاد للدين إن هو إلا رد فعل لاضطهاد الكنيسة للمفكرين والعلماء، وهو أمر لم يتفق لنا ولن يتفق في العالم الإسلامي، إذ يمكن أن تتحقق الانطلاقة الفكرية والعلمية في ظل الإسلام، وقد تحققت بالفعل في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، واستفادت منها أوروبا في بناء نهضتها الحديثة.

ولسنا في حاجة إلى إسهاب القول في أن معظم مفهومات الفلسفة المعاصرة في أوروبا مناقض للإسلام، فهي تنطلق من الإلحاد، وهو ظلمات بعضها فوق بعض، وكل فيلسوف ينطلق في عصرنا من الإلحاد “كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها”.

ولهذا يلزمنا أن نحدد مفهوماً إسلامياً للفلسفة تستمد عناصره من الكتاب والسنة، والتراث الفكري للمسلمين، يراعي احتاجاتنا الفكرية في واقع مجتمعاتنا الإسلامية.

والمفهوم المقترح يمكن تلخيصه في العبارات التالية:

الفلسفة هي الفكر الاستدلالي المنظم الذي يتناول بالبحث: الله والكون والإنسان، ليحدد علاقة الله بالكون والهدف من خلقه، وعلاقة الإنسان بالله، وعلاقته بالكون ودوره فيه، ورسالته في هذه الحياة التي تعتبر وسيلة إلى حياة أخروية أكمل، كما يتناول بالبحث المناهج التي يستطيع بواسطتها أن يفهم نفسه أولاً، وأن يفسر ما حوله من ظواهر طبيعية أو اجتماعية لاستخلاص قوانينها أو سنن الله تعالى فيها، ثانياً: وكذلك البحث في القيم التي يسلك وفقها في حياته، أو ينظم على أسس منها مجتمعه ليغيره إلى ما هو أكمل، أملاً في مستقبل جديد للبشرية، وذلك كله على أساس ما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة من عقائد وأحكام تشريعية وأخلاق تضبط علاقة الفرد بربه، وبنفسه، وبأسرته، وبمجتمعه، وتحكم سير المجتمع في تقدمه.

3- هل هناك فائدة من تدريس الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة؟

وإذا كانت أغلب مذاهب الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة تسير في غير اتجاه الدين، فهل نسمح بتدريسها في المرحلتين الثانوية والجامعية، أو هل من الأفضل أن نحذفها من البرامج التعليمية لأنها ستزج بالطالب في معترك الآراء والمذاهب الإلحادية، وتبث في عقله شبهات هو في غنى عنها، وقد لا يخرج من دائرتها أبداً؟

وهذا التساؤل له في رأينا ما يبرره، فإن الطريقة التي يدرس بها تلك الفلسفة في معظم جامعاتنا العربية والإسلامية الآن لا يؤمن معها من أن تتسرب إلى الطلاب أفكاراً إلحادية وشكوك فكرية، والدول الإسلامية لا ينبغي أن تترك هذه الشكوك وتلك الأفكار على اختلاف صورها لتتسرب إلى عقول الناشئة.

ومن السهل حذف الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة من برامج التعليم، ولكن هذا ليس حلاً للمشكلة: ذلك أن عصرنا بما ابتكره من وسائل إعلامية كالصحافة والإذاعة المسموعة والإذاعة المرئية والسينما والمسرح والقصة وغير ذلك، وفن الدعاية المنظمة للمذاهب والآراء الاجتماعية والسياسية، لا يجدي معه أي انغلاق. ويستطيع الطالب الجامعي أو المواطن العادي أن يقف على ما يشاء من المذاهب والآراء، بوسائل متعددة، إما عن طريق أجهزة الإعلام في البلدان الأخرى، أو عن طريق الكتب والمجلات، أو عن طريق السفر إلى الخارج. وتكمن الخطورة في هذه الحالة في أ نه غير محصن ضد الأفكار التي يسعى هو إلى معرفتها، أو التي تفد إليه. وتحصينه ضدها يتحقق بوسيلتين:

الأولى: تنشئته منذ مراحل التعليم الأولى تنشئة إسلامية وفق برامج دراسية موضوعة بعناية، ومن خلال كتب إسلامية هادفة ومؤثرة، وتعويده على ممارسة عبادات الإسلام، والالتزام بأحكامه التشريعية في المعاملات على اختلافها، وتحققه سلوكاً –لا علماً فقط- بأخلاقيات الإسلام.

الثانية: تقديم مذاهب الفكر الأوروبي إليه من خلال وجهة نظر نقدية إسلامية بحيث يقتنع في النهاية بأن الإسلام، بما انطوى عليه من مبادئ ومثل، يغني عن استيراد أي من تلك المذاهب.

ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن الحضارة الأوروبية الحديثة، بجانبيها، الثقافي والمادي، قد غزت العالم كله، وقلة من المفكرين فقط هم الذين يفطنون إلى نواحي الضعف والقصور فيها، لأن العصر بوجه عام مبهور بما حققته من إنجازات علمية وتكنولوجية مذهلة.

وفائدة دراسة الفلسفة الحديثة والمعاصرة أنها تبين للناشئة ما في الفكر الأوروبي من إيجابيات وسلبيات، وكيف تطور هذا الفكر، والخطوط التي سار عليها. كما أنها تشحذ عقولهم للبحث في مجالات متعددة من المعرفة، وتستنهض هممهم للتفوق والابتكار والتجديد.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العصر الذي يعيش فيه هو عصر الصراع الفكري (الأيديولوجي) بين أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وهو صراع يستند إلى فلسفات معينة تسود هذا المجتمع أو ذاك، ومن ثم فإن برامج التعليم لا يجوز أن تغفل في تكوينها للطالب ثقافياً، المواد التي تعينه على فهم مجريات الأمور في عصره، وعلاقات عالمه الإسلامي بمختلف الدول والكتل السياسية المعاصرة، ومن بينها الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة.

4- الاتجاهات الفكرية الحالية التي تحكم تدريس الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة في الجامعة:

من الملاحظ بوجه عام أن أقسام الدراسات الفلسفية في الجامعات العربية والإسلامية قد نشأت على نفيس النمط الذي توجد عليه مثيلاتها في العالم الغربي.

وإذا نظرنا إلى مادة الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، وجدنا أن تدريسها في جامعاتنا يرتبط بالإتجاه الفكري أو نوع الثقافة الذي يتميز به الأستاذ القائم بالتدريس، وثمة اتجاهات معينة تحكم تدريسها، ويمكن أن نلخصها فيما يلي:

(1)    اتجاه يغلب عليه التقليل من شأن العرب باعتبارهم من الجنس السامي، ويرى أنهم ليسوا أهلاً للفكر الفلسفي المترابط، ولا كذلك الأوروبيون باعتبارهم من الجنس الآري، وهو اتجاه ظهر في أوروبا في القرن الماضي، وكان له فلاسفته ومفكروه، ولكن لا يزال له بعض الأثر عند بعض المفكرين في عالمنا يبدو من خلال تمجيدهم الفكر الأوروبي وحده، وكأن الشعوب الأخرى لا فكر لها يذكر.

(2)    اتجاه يغلب عليه الطابع المسيحي، ويتناول المذاهب الفلسفية الأوروبية من خلال منظور مسيحي أرسطي، فيشيد بمن اتجه من فلاسفة أوروبا المحدثين أو المعاصرين نحو المسيحية، وينقد بعنف من سار منهم في الاتجاه اللاديني.

(3)    اتجاه يغلب عليه تفسير مذهبي معين: فأحياناً يكون تقييم المذاهب الفلسفية الأوروبية على أساس من المذهب الماركسي، أو الوجودي، أو التعصب للعلم المادي (Scientism) ومناهجه، أو المذهب البرجماتي، أو غير ذلك.

(4)    اتجاه حيادي عازل للدين يعرض المذاهب الفلسفية الأوروبية كما هي. ولكل من هذه الاتجاهات الأربعة خطورته على عقول الناشئة، وما يفعله معظم المختصين في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة عند تدريسهم لها أو نقدهم لمذاهبها أنهم يستعيرون وسائل التدريس أو النقد ذاتها من الشرق أو الغرب، فالواقعي يرد على المثالي، والماركسي يرد على البراجماتي، والوضعي المنطقي يرد على كل من يخالفه في النظرة، سواء أكان مثالياً أم ماركسياً أم براجماتياً، أم وجودياً وهكذا ينقل هؤلاء الأساتذة الصراع الأجنبي حول الآراء والمذاهب الفلسفية إلى أرض الإسلام، وكأن تخصصهم الجامعي في هذا الميدان من الدراسات يفرض عليهم فرضا ًإغفال الإسلام وتراثه الفلسفي عند تقييم ما درسوه ويدرسونه.

ولهذا فإننا في أشد الحاجة إلى منهج إسلامي في دراسة الفكر الأوروبي وتدريسه، ونقده وتقييمه، وفيما يلي سنحاول تحديد معالم هذا المنهج.

(5)    المنهج المقترح وقواعد:

يتألف هذا المنهج من مجموعة قواعد تصلح في رأينا أساساً لتدريس الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة في الجامعة، وهي كما يلي:

أولاً: ضرورة الربط في التدريس بين الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة والإسلام وتراثه الفلسفي، وهذا المنهج الارتباطي يجنبنا اعتبار أي من هاتين المادتين كافياً بذاته، أو لا علاقة له بالآخر مع أن العلاقة بين الفكر الإسلامي، والفكر الأوروبي ثابتة تاريخياً، وعطاء الأول للثاني لا ينكر.

ثانياً: تتبع الأصول الإسلامية للفلسفة والعلم الأوروبيين في عصر النهضة باعتبارهم ممهدين للفلسفة والعلم في أوروبا الحديثة والمعاصرة، وذلك لبيان أن النهضة الأوروبية، خصوصاً في ميدان العلوم التجريدية ومناهجها، لم تكن لتتحقق إلا عن طريق جهود فلاسفة الإسلام وعلمائه. و انتقال تراثهم إلى الغرب اللاتيني منذ القرن الثاني عشر الميلادي حين نشطت حركة الترجمة للكتب الفلسفية العربية.

ثالثاً: يجب عدم تطويع الإسلام لأي مذهب فلسفي باسم التحديث كما يجب إخضاع مشكلاتنا المعاصرة لمبادئ الإسلام وأسسه وروحه، لأن الإسلام وحي ثابت، وما عداه من آراء البشر حادث متغير، ولا يجوز إخضاع ما هو ثابت لما هو متغير.

رابعاً: مذاهب الفلسفة في عالمنا المعاصر. اجتهادات قابلة للصواب والخطأ، ومن ثم ليس لها صفة الحقائق الثابتة، أو العمومية، فلكل أمة عقائدها وقيمها وفلسفتها النابعة من واقع تراثها، وما يصلح لمجتمعات الشرق أو الغرب لا يصلح بالضرورة لمجتمعاتنا، بل قد يوقع بها أبلغ الضرر، ولهذا لا يجوز أن نستورد فلسفات هي نتاج عصرها وبيئتها، ولا تصلح لغير هذه البيئة وذلك العصر.

خامساً: ضرورة التأكيد على أن الفلسفات الأوروبية المعتدة بالعلم الطبيعي وحدة ومناهجه متعارضة مع الإسلام، وليس التعارض بين العلم الطبيعي والإسلام وإنما بين فلسفة العلم في الغرب والإسلام، وهي تلك الفلسفة التي آفتها إبعاد: فكرة الإله الخالق عن ميدان البحث، وحصر اليقين في دائرة الحس.

والدليل على أنه ليس ثمة تعارض بين العلم الطبيعي والإسلام أن العلم الطبيعي ينظر إليه في الإسلام على أنه العلم بمخلوقات الله، وهو يقودنا إلى العلم بالله، فلا تعارض إذن بين العلمين، و “كلما كانت معرفتنا بالمصنوعات أتم كانت معرفتنا بالصانع تعالى أتم وأكمل”، والذين يحصرون اليقين في دائرة الحس “يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون”، “ذلك مبلغهم من العلم”.

سادساً: ضرورة تدريس مذاهب الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة على أساس من إبراز مدى نجاحها أو إخفاقها عند التطبيق العملي لها في المجتمعات الذي ظهرت فيها. وسيتبين بوضوح أن دعاة الإلحاد في عصرنا حين يروجون لمذاهبهم لخدمة أهدافهم ومخططاتهم في مجتمعاتنا، وحين يعلنون أنهم تقدميون أو موضوعيون أو متحررون فكرياً، أو دعاة الإسلام، أو ما شابه ذلك من دعاوى، فإنهم لا يرددون في الواقع إلا شعارات خادعة لم يتحقق من ورائها شيء في واقع مجتمعاتهم التي تئن تحت وطأة الانحلال الخلقي، أو القهر والاستبداد، أو التمييز العنصري، أو التحلل الاجتماعي المتمثل في حركات الرفض المعاصرة بين الشباب، أو غير ذلك من ظواهر هي ثمرة الابتعاد عن الله، وإقصاء الدين عن واقع المجتمع، أو محاربته علانية.

سابعاً: ويجب في كل الأحوال تمكين الطالب الجامعي من المعرفة الموضوعية بالمذاهب الفلسفية الأوروبية الحديثة والمعاصرة، وتعويده على نقدها على أساس منهج العقل، ثم تمكينه من نقدها وتقييمها على أساس من عقائد الإسلام وشريعته وقيمته الخلقية وذلك ليتحقق الطالب من أن الإسلام هذه هي المرة الأولى التي يواجه الإسلام فيها تحدياً من قبل المذاهب الفلسفية والمعتقدات والديانات الباطلة، ففي العصر العباسي مثلاً شاعت مذاهب وآراء وديانات فاسدة تسربت إلى المجتمع الإسلامي نتيجة احتكاك أبنائه بأبناء الشعوب المفتوحة. فتصدى علماء الإسلام آنذاك لهذا الخطر بدراسة المذاهب والأفكار الوافدة في أصولها ومصادرها كما هي، ثم ردوا عليها بمنطق العقل، ليبينوا بطلانها، ثم أثبتوا أن الإسلام يغني عنها ويدفع عنا ضررها. ولنا في جهود علمائنا السابقين قدوة، فالغزالي لم يكتب “تهافت الفلاسفة” إلا بعد أن تعمق في دراسة الفلسفة ومذاهبها، حتى فاق علمه بها علم الفلاسفة أنفسهم فيما يرى البعض، وبذلك أمكنه إبطال ما انطوت عليه الفلسفة آنذاك من آراء مناقضة للعقيدة الإسلامية، وكذلك فإن علم شيخ الإسلام ابن تيمية بالفلسفة ومذاهبها، والتصوف وفلسفته، والمنطق وبراهينه، هو الذي مكنه من أن ينتصر في النهاية لعقيدة السلف، ويبعد عن المسلمين خطر المذاهب الإلحادية، أو الحائدة عن طريق الحق.

وبعد، فإن هذه القواعد العامة في تصوري كفيلة –إذا روعيت في تدريس الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة- بأن تدرأ عنا خطر الإلحاد، وذوبان شخصيتنا في شخصية الغير، وبأن تحول بين شبابنا وبين ذلك الإعجاب الشديد بالفكر الأوروبي. وهو الإعجاب الذي يعمي ويصم في كثير من الأحيان بحيث يدفع كثيراً منهم إلى حد اتخاذ ذلك الفكر مثلاً أعلى لهم في الحياة، دون وعي بما ينطوي عليه ذلك من خطر داهم على مجتمعاتهم الإسلامية.

وفي نهاية هذا البحث أود أن أتقدم ببعض اقتراحات لحلقة الإنسانيات والفلسفة والآداب والفنون، تتعلق بالوسائل العلمية لتحقيق الأهداف التي أشرنا إليها: وهي:

أولاً: توجيه البحث في الدراسات العليا (في مرحلتي الماجستير والدكتوراه) في ميدان الفلسفة الحديثة والمعاصرة وجهة إسلامية، بحيث يقوم الأساتذة المشرفون على الأبحاث بتوجيه طلابهم إلى ضرورة تتبع المصادر الإسلامية للفكر الأوروبي، أو عقد الموازنات بينه وبين الإسلام وقيمه ومبادئه وتراثه الفلسفي والحضاري.

ويترك لكل جامعة تحديد الوسائل لتحقيق هذا الهدف. وفي رأينا أنه إذا نص في لوائح الجامعة على أن ربط الطالب بين الفكر الأوروبي والفكر الإسلامي شرط ضروري في قبول الرسالة للمناقشة، أو أن هذا الربط يدخل في الاعتبار عند وضع التقدير لها، فإن هذا مما يحقق الهدف المنشود، ويخرج لنا جيلاً من أساتذة هذه المادة يضطلع برسالته العلمية على أفضل وجه، ويتصف بالأصالة في البحث والتفكير.

ثانياً: رصد جوائز ومكافآت مجزية للدراسات الفلسفية التي تتوخى دراسة المذاهب الفلسفية الأوروبية الحديثة والمعاصرة على ضوء الإسلام، وقيمه، والرد على مذاهبها الإلحادية، وكشف أضرارها وآثارها السيئة على مجتمعات عصرنا.

ثالثاً: انشاء معهد إسلامي لدراسة الفكر الأوروبي تكون مهمته البحث العلمي فقط، ويهدف إلى دراسة هذا الفكر من وجهة نظر الإسلام في مختلف مجالاته، وتكون فيه شعبة لدراسة المذاهب الفلسفية، وأخرى لدراسة علم النفس، وثالثة لدراسة علم الاجتماع، ورابعة لدراسة علم الاقتصاد وخامسة لدراسة العلوم السياسية. ويعكف الباحون فيه على التأليف العلمي ذي المستوى الرفيع، كل في ميدان اختصاصه (وقد يكون البحث فيه جماعياً أيضاً). وتقوم الجامعة التي سيكون المعهد تابعاً لها بنشر مؤلفات الباحثين، وترجماتها إلى بعض اللغات الأوروبية.

ويحسن أن يوجه هذا المعهد اهتمامه إلى الفكر الأوروبي المعاصر وحده، ليرصد اتجاهاته المختلفة، وآثاره على عالمنا المعاصر، ويحدد موقفنا منه كمسلمين بشكل واضح ومحدد، ويتجاوز ذلك إلى إقامة العلوم الإنسانية عموماً على أسس ومبادئ إسلامية من القرآن الكريم والسنة الصحيحة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر