أبحاث

القرآن الكريم والحضارة

العدد 13

كان القرآن الكريم وما يزال معجزة حضارية نزلت في أمة أمية لم يبعث الله فيها رسولا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، النبي الأمي، الذي كان كقومه أميا لا يعرف ما الكتاب بدليل قوله تعالى في سورة الشورى (52) (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم).

وكان هذا النور الذي فتح الله به على رسوله الكريم هو السبيل إلى فتح آفاق الحكمة والمعرفة والحضارة أمام هذه الأمة ألأمية فانتقلت بفضل معجزة القرآن من التخلف إلى التحضر لقوله تعالى في سورة الجمعة (2) (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) صدق الله العظيم.

ومعجزة القرآن الكبرى في هذا المقام هي أنه رغم نزوله في أمة أمية بدوية فلم يكن تعبيرا عن مرحلة البداوة، بل كان في جملته وتفصيله، تعبيرا عميقا عن مرحلة متقدمة من مراحل الحضارة والتمدن. ويكفي أن نذكر في هذا المقام: أنه خاطب الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب أول ما خاطبه بكلمة: (اقرأ). فمعجزة طلب القراءة من النبي الذي لا يقرأ تقابلها معجزة وضع الرسالة المعبرة عن أرقى صور الحضارة في الأمة الأمية الضاربة في البداوة. وكلتا المعجزتين دالة على قوله تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).

وحقيقة الأمر: أن رسالة الإسلام المودعة في القرآن الكريم لم تكن تعبيرا عن حالة العرب أو وضع جزيرتهم فحسب، بل كانت تعبيرا عن وضع الإنسانية جمعاء، وهي تنتقل من مرحلة البداوة وبساطة الحياة القائمة على رابطة الدم في حياة القبيلة إلى مرحلة الحضارة وتعقد النظام الاجتماعي القائم على رابطة المصلحة المشتركة في حياة المدينة. وقد كان هذا الانتقال من حياة البساطة والبداوة إلى حياة التعقيد الاجتماعي سبب قيام كل الحضارات والمدنيات القديمة التي كانت تزدهر لفترة ثم تنهار لتحل محلها حضارة جديدة، وقد كانت رسالات السماء كما يصورها القرآن الكريم موجهة في جملتها إلى هذه المجتمعات المتقدمة التي يبلغ التناقض فيها أشده بين القيم وواقع الحياة المعاش.

والمتتبع لقصص الأنبياء والرسل الذين وردت سيرهم في القرآن الكريم يجدها دائما مقرونة بحياة المدن التي يعبر عنها القرآن الكريم بكلمة القرى. والقرية في اللغة العربية: المصر الجامع، وتطلق على المدن، وفي الحديث الشريف: (أمرت بقرية تأكل القرى) وهي مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأم القرى. وفي القرآن الكريم في سورة الزخرف (31) (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) أي مكة والطائف، وكانتا مدينتين.

وهذه الفكرة التي تربط الرسالات بالمدن معروضة في القرآن الكريم في مواضع كثيرة كقوله تعالى في سورة يوسف (109): (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم). وكقوله تعالى في سورة الأعراف (94): (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء). وكقوله تعالى في سورة الزخرف (23): (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون). ويذكر القرآن الكريم في مواضع مختلفة أن القصص التي يقصها على النبي الكريم هي قصص القرى كقوله تعالى في سورة الأعراف (101): (تلك القرى نقص عليك من أنبائها)، وكقوله تعالى في سورة هود (100): (ذلك من أبناء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد) وكثير من هذه القرى أو المدن استحق العذاب لظلمه كما جاء في قوله تعالى في سورة القصص (58): (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها). وفي قوله تعالى في سورة الحج (45): (وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة).

وقد اقترنت حياة القرى بالفساد والظلم بحيث قل أن تنجو قرية من العذاب، وذلك مذكور في قوله تعالى في سورة الإسراء (58): (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا). وقد ذكر القرآن الكريم أسماء بعض المدن المرتبة ببعض الرسل والأنبياء. فحياة سيدنا موسى عليه السلام في مصر كانت حياة مدينة، وقد ذكر ذلك في سورة يونس (78) (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة). وفي سورة القصص تتحدث الآية الخامسة عشرة عن سيدنا موسى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها…) ويذكر (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين).

وقد أرسل الله شعيبا إلى مدين، وأرسل صالحا إلى ثمود الذين وصفهم القرآن الكريم بأنهم: (الذين جابوا الصخر بالواد)، فاستحقوا لعصيانهم الإهلاك بالطاغية، وأرسل هودا إلى عاد، وقد وصف الله تعالى مدينتهم (إرم) بقول جل وعلا في سورة الفجر: (إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد)، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية، وعاش سيدنا يوسف عليه السلام في قصور فرعون بعد السجن وأرسل إلى أبويه في البادية ليعيشوا معه في المدينة كما ورد في سورة يوسف (100): (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم). وذكر القرآن الكريم أصحاب الحجر في قوله تعالى: (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين)، ووصفهم في آية أخرى بقوله تعالى: (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين). وفي قصة لوط عليه السلام أوضح القرآن الكريم أنه كان يعيش في مدينة، فذكر في الآية (67) من سورة الحجر بشأنه: (وجاء أهل المدينة يستبشرون)، وذكر في سورة الأعراف (84) بشأنه أيضا: (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون). وقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام في منطقة ما بين الرافدين وفي مصر، وبناؤه الكعبة التي قامت حولها مدينة مكة مشهورة، وحتى قصة أهل الكهف متصلة بالمدينة، فقد ذكر القرآن الكريم على لسانهم بعد أن استيقظوا من سباتهم: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) الكهف (19). وتحدث القرآن الكريم عن سيدنا يونس في سورة يونس (98) فقال: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) . صدق الله العظيم.

وقد أكثر القرآن الكريم من ذكر مظاهر التطور السياسي والاقتصادي في هذه المجتمعات الحضرية، فتحدث عن الملأ، وهي الطبقة الحاكمة المحيطة بالملك أو صاحب السلطان، كفرعون وملئه في قصة موسى، كما ورد في سورة يونس (88): (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا). وتحدث عن ملأ بني إسرائيل، وملأ قوم نوح، وملأ هود في عاد، وملأ صالح في ثمود، وملأ قوم شعيب بمدين، وملأ سليمان، وملأ بلقيس، وتحدث عن المترفين والملوك وعصيانهم فذكر في سورة النمل (34) على لسان بلقيس (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون). وقال في سورة الإسراء (16): (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها). وقال في سورة سبأ (34): (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون). وقال في سورة الزخرف (23): (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون).

ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل في هذه الناحية، فقد بعثه الله في مدينة هي مكة أم القرى، وخاطبه تعالى بقوله في سورة الشورى (7): (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها). وقال تعالى في سورة الأنعام (92): (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها). وجعل الله هجرته إلى مدينة يثرب، وقد سميت بالمدينة في الإسلام، وكانت من قبل تدعى يثرب، وقد ذكر القرآن الكريم اسم المدينة أربع مرات، ولم يرد اسم يثرب إلا مرة واحدة في سورة الأحزاب (13) في قوله تعالى (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا).

وفي حديث القرآن الكريم عن العرب تركيز واضح على الحياة الحضرية وحياة المدينة، وقل أن نجد ذكرا للبداوة وحياة الرعي. بل إن القرآن الكريم حين يذكر البادية يذكرها كنقيض لحياة التحضر والمدينة، وقد وردت كلمة البدو مرة واحدة في القرآن كله، وذلك في سورة يوسف حين شكر يوسف ربه فقال: (إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو). وذكر القرآن الكريم لفظة الباد في سورة الحج (25): كمقابل للعاكفين في مكة فقال تعالى: (والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد). وتحدث في هذا المقام عن الأعراب، وهم البدو، ووصفهم بالغلظة، فقال جلت قدرته في سورة التوبة (97): (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله). وقال (101): (وممن حولكم من الأعراب منافقون) وقال في سورة الحجرات (14): (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم).

وقد بين القرآن الكريم في مواضع كثيرة أن الأعراب غير العرب، وهم البدو في أطراف المدن، ولذلك تحدث عن (أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب) في سورة التوبة، وتحدث عن المنافقين في المدينة، وقال عنهم في سورة الأحزاب (30): (وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب). وقد كانت لفظة الأعراب تعتبر ذما، وهي مقابلة لكلمة العربي التي يستعملها أهل المدن في معظم البلاد العربية لمن حولهم من البداة حتى في الوقت الحاضر، كما هو الحال عندنا في السودان، فقد قال ابن منظور في لسان العرب (ولا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب استوطنوا القرى العربية وسكنوا المدن.. فإن لحقت طائفة منهم بأهل البدو بعد هجرتهم، واقتنوا نعما- بفتح النون والعين- ورعوا مساقط الغيث بعد ما كانوا حاضرة أو مهاجرة، قيل قد تعربوا، أي صاروا أعرابا بعدما كانوا عربا. وفي الحديث الشريف: ثلاث من الكبائر منها التعرب بعد الهجرة، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه (من البادية) -من غير عذر- يعدونه كالمرتد) أ هـ.

وهذا التركيز على حياة المدينة الذي تجلى في كل القرآن يشير إلى أن ما كان أمرا طارئا وعابرا في ماضي البشرية من مظاهر الاستقرار والتحضر قد أصبح في حاضرها مركز الثقل في تطور الإنسانية. فالحياة المدنية القائمة على الزراعة المتطورة والتجارة والصناعة وما يتصل بها من تنظيم اجتماعي، وما ترتكز عليه من علم وثقافة ومهارة مما يستوجب سيادة العقل، كل ذلك قد تأكد على مستوى العالم، وفتح بذلك مرحلة جدية، في مسيرة التطور البشري هي مرحلة النمو الاجتماعي الثقافي المتكامل في حياة الحضارة القائمة على الزراعة المتطورة والتجارة والصناعة في المدينة. وفي هذا الطور تنهار علاقة رابطة الدم التي كانت تحكم النظام الاجتماعي المرتكز على اقتصاديا البداوة وتنهار معها سلطة الجماعة وما يتصل بها من أعراف كانت تنظم علاقات المجموعة لتحل محلها رابطة المصلحة المشتركة التي توفق بين المصالح المتناقضة في حياة المدينة، التي لا يتجمع الناس فيها على أساس رابطة الدم شأن القبيلة، وإنما يتجمعون كأصحاب مصالح على اختلاف ألوانهم، وتباين أصولهم، وتناقض مصالحهم، والتاجر الذي هو رمز المدينة لا يتعامل مع الناس كأقرباء وإنما يتعامل معهم كزبائن. وكانت مكة في القرن السابع الميلادي رمزا للمدينة الجديدة في كل زمان ومكان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فقد كانت حياتها الاجتماعية وما يكتنفها من تناقض صورة مصغرة لما يجرى في أي مدينة في القرن العشرين وما يليه على اختلاف في الدرجة لا في النوع.

وهذه النقلة الحضارية الكبرى في حياة البشر التي وضعت حدا فاصلا بين ماضي الإنسانية وحاضرها، ومهدت السبيل أمام إنسان العصر الحديث، تحتاج إلى فلسفة جديدة تضع في حسابها التعقيد الكبير الذي يحدثه هذا التطور في حياة مجتمعات هذه الحضارة التي تتراكم فيها الثروات. ويؤدي التطور الاقتصادي فيها إلى زعزعة كيان المجتمع، مما يحتاج الناس فيه إلى أكثر من القانون للحفاظ على سلامة المجتمع ومنعه من الانهيار من جراء النمو غير المتوازن بين جانب الحياة المادي وجانبها الروحي والإنساني. وفي مثل هذا المجتمع تتدهور العلاقات الإنسانية والاجتماعية، ويحتاج الناس إلى رادع قوي فعال يحل محل العرف وسلطة الجماعة التي كانت تحفظ على الناس تماسكهم الاجتماعي في مرحلة البداوة وبساطة الحياة. ولا يمكن لدين يأتي في هذه المرحلة المتأخرة من تطور الإنسان ككائن اجتماعي أن يترك حياة المجتمع في كل تفاصيلها للاجتهاد الشخصي وفوضى النظريات التي تنطلق في معظم الأحوال من الدوافع الذاتية وتتحكم فيها الأهواء والنزعات كما هو الحال في كثير من النظريات الاجتماعية المعاصرة ذات الاتجاه الواحد التي تحكم جانبا من جوانب الإنسان وتغفل جوانبه الأخرى، بل لا بد للدين من أن ينظم علاقة الإنسان بربه أولا ثم يوجه هذه العلاقة لتطوير العلاقات الإنسانية داخل المجتمع ويضع لها الأسس والضوابط عن طريق الأحكام العامة، ويترك للناس مجال الاجتهاد في التفصيلات والأشكال التي تتغير بتغير الظروف وتقلب الأحوال.

وكانت الديانات السماوية قبل الإسلام رغم اشتمالها جميعا في صورتها المصفاة على جوهر العقيدة الخالدة، تعبر عن مرحلة البساطة الأولى من تطور البشر، وتحمل سماتها على المستوى الاجتماعي. فكانت كل رسالة موجهة لمجموعة بعينها من الناس لتلائم وضعهم الحاضر. وتقلصت رسالات السماء في نهاية المطاف من جراء جحود الناس وعصيانهم لتصبح رمزا للجمود والتعصب والتحريف على أيدي من أنزلت عليهم، كما هو الحال في رسالة سيدنا موسى التي استحالت عند اليهود إلى ديانة قومية عنصرية تحل لليهود ما تحرمه على غيرهم وتحكم معيارين للتعامل، لليهود فيما بينهم معيار، ولليهود في علاقاتهم بغيرهم معيار آخر، وانتهى بهم الأمر إلى أن جعلوا الله رب كل الناس إلها قوميا خاصا بهم دون جميع الناس. وجاءت المسيحية لتصحيح هذه التحريفات حتى يتسع دين الله محبة للناس ورحمة، ويخرج من الإطار القومي الضيق الذي حصره فيه اليهود، وليصبح الله سبحانه وتعالى كما أراد جلت قدرته إلها لكل الناس، لا لليهود وحدهم. ولكن المسيحية لظروف تاريخية معلومة لم تتوسع في تنظيم علاقات المجتمع، وإنما اكتفت بما جاءت به التوراة، وما وضعه الرومان من تشريع، تاركه ما لله لله وما لقيصر لقيصر. وبذلك كانت هذه النقلة الحضارية الكبرى التي حددت مسار البشرية ووضعتها في طريق التطور المدني القائم على الاقتصاد المتطور في حياة المدينة في حاجة إلى دين جديد يعبر عن هذا الوضع الجديد. كانت البشرية في حاجة إلى تعبير جديد عن تطورها الروحي الجديد الذي يتسم بانهيار سلطة الجماعة وتضامنها في حياة المدنية وطغيان فردية الفرد على مصلحة المجموعة، مما يحتاج الأمر معه إلى صياغة جديدة للفرد والمجتمع تعيد إليهما جميعا التوازن والانسجام بما يحفظ للمجتمع تماسكه وتكافله ويضمن للفرد حريته وتطوره. وكان الجديد الذي أتى به القرآن الكريم تعبيرا عن هذا الوضع الجديد أنه أكمل رسالة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام بأن أدخل الدين في حياة المجتمع ومزج بين قيم الدين وشعائره ومجري الحياة اليومي بحيث أصبح الدين هو الدنيا وأصبحت الدنيا هي الواجهة الأخرى للدين، واتخذ من الفرد الإنساني وسيلة للتغيير الاجتماعي بحيث أصبح الفرد يحمل في ضميره كل قيم المجتمع وعلاقاته العامة لأنه ألغى الفوارق المصطنعة بين سلوك خاص يفعل الإنسان فيه ما يشاء ما دام بعيدا عن المجتمع وبين سلوك عام يتقيد فيه الإنسان بنوع معين من التقاليد.

ألغى الإسلام الازدواجية التي كانت قائمة في المجتمعات القديمة وما تزال قائمة في المجتمعات المعاصرة والنابعة من فكرة فصل الدين عن الدنيا بحيث يكون هناك معياران للسلوك: واحد خاص وآخر عام، فأصبح الفرد بحكم ما رسبه الدين في نفسه عن طريق الشعائر والمعاملات صورة للمجتمع يحمل في ضميره كل القيم الاجتماعية التي تحض على التكامل والتعاون والاحترام المتبادل وتدفع الإنسان إلى التفاني في خدمة الآخرين والحفاظ على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، لا لأنه يخشى الناس أو يطمع في مرضاتهم، ولكن لأن له معيارا موضوعيا ثابتا يحكمه في كل صغيرة وكبيرة خاصة وعامة، هو معيار التقوى وخشية الله، لأن الله الذي هو فوق كل خلقه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ومن خشي الله لم يهب أحدا ولم يخش في الحق لومة لائم.

وهذا النموذج المتطور للفرد -المجتمع أو الدولة- الذي سعى به الإسلام لعلاج تطور الحياة الحضرية في مرحلة حياة المدينة وأكمل به الدين على مدى الزمان هو الحل الحاسم لمشكلة الحضارة في كل البيئات والأزمات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك كان الإسلام خاتم الرسالات، وكان نظامه الفكري والاجتماعي والروحي الذي يركز على خلق الشخصية الإنسانية المتوازنة التي لا إفراط فيها ولا تفريط والتي توازن بين حاجات الجسد وحاجات الروح كما أمرها الله سبحانه وتعالى في قوله الكريم في سورة القصص 77 (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين).

كان هذا النظام الإسلامي في تكامله إنجازا وإتماما لما جاء به الرسل من قبل، وحين ذكر الله جلت قدرته في محكم تنزيله آخر ما نزل من القرآن الكريم (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فإن هذا كان تلخيصا رائعا لكل الجهد الروحي والحضاري الذي بذلته الإنسانية تحدوها عناية الله وهدايته من لدن آدم عليه السلام لتحقيق خلافة الإنسان لله على الأرض، وقد حوى القرآن الكريم كل هذا الجهد الخلاق بين دفتيه، وكان على خلاف كل معجزات الرسل: معجزة عقلية حضارية وضعت حدا فاصلا لعهود الأساطير وغلبة العواطف والأهواء والنزعات الضالة وأكدت سيادة العقل والعلم.

ولذلك فلا عجب أن كانت أول كلمة منه ثورة على الجهل: اقرأ، وكانت أول آياته تحديدا للمنطق العلمي الذي يسير عليه في تنظيم الحياة: (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم).

ولم يكن هذا التركيز على العلم الذي افتتح به القرآن الكريم الوحي المنزل هو نهاية المطاف لسعي الإنسان الذي انتهت إليه الإنسانية في هذا الطور الأخير من تطور البشر، بل نحس بتركيز القرآن عليه في كل ماضي الإنسان من لدن آدم عليه السلام الذي كرمه الله على كثير من خلقه بالعلم وكان اختصاصه بالعلم سببا في عصيان إبليس وقد ذكر ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى سببا في عصيان إبليس وقد ذكر ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة البقرة 30- 34 (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذا قلنا الملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين).

والقرآن في سبيل تركيز ملكة التفكير يوجه عقل الإنسان إلى مظاهر الكون الخارجية ليتخذ منها مادته في إذكاء جذوة الفكر وتقوية ملكة التأمل واكتشاف حقائق الوجود الدالة على حكمة الله فلذلك كثرت الآيات الكونية في القرآن وكلها آيات لقوم يعقلون، ولقوم يتفكرون، ولقوم يفقهون، ولقوم يعلمون، ويكفي في هذا المقام أن نذكر أن لفظة العلم ومشتقاتها تكررت أكثر من ثمانمائة مرة في القرآن الكريم، ولفظه العقل ومشتقاتها حوالي خمسين مرة والتفقه عشرين مرة والفكر ثمانية عشر مرة.

ولذلك لا عجب أن كان العلم الذي شرف الله به الإنسان على كل خلقه هو المعيار الحقيقي لمعرفة الله وإدراك حكمته كما ذكر القرآن في قوله تعالى في سورة فاطر 28 (إنما يخشى الله من عباده العلماء). وكما كان مدخل القرآن دعوة للقراءة والتعلم في أول آياته فإنه قد اتخذ أسلوبا عقليا ثقافيا في لفت أنظام العرب إلى محتواه الفكري الذي لا يقوى على إدراكه إلا المثقفون والضالعون في العلم، ويبدو هذا في أبلغ صورة فيما يسمى بفواتح السور، وهي عبارة عن أحرف مبهمة تبدأ بها سبعة وعشرون من السور المكية وسورتان مدنيتان هما البقرة وآل عمران المسماتان بالزهراوين وهي صيغ قد تكون حرفا واحدا مثل (ص) و (ق) و(ن)، وقد تكون حرفين مثل (طه) و(طس) و (يس) و (حم)، وقد تكون ثلاثة أحرف مثل (الر)، (ألم)، و(طسم)، وقد تكون أربعة أحرف مثل: (المص)، (المر)، ووردت مرة واحدة في خمسة أحرف هي: (كهيعص)، وهي ثلاثة عشر صيغة وردت في افتتاح 29 سورة وعدد الحروف المشتركة فيها أربعة عشر حرفا أي نصف الحروف الهجائية، ولا أريد أن أخوض في التفسيرات الكثيرة التي سعى بها العلماء لكشف أسرار هذه الأحرف، وهي مما استأثر الله بعمله، ولكني أشير إلى أنها أدوات علمية ثقافية تحتاج ممن توجه إليه إلى معرفة القراءة والكتابة وكأنه يشير إلى هؤلاء العرب بأن مفتاح هذا القرآن هو العلم والثقافة والتزود بهما فأنت محتاج إلى فك هذه الطلاسم الأولى لإدراك قيمة الحروف ومعرفة القراءة قبل الدخول في القرآن الذي يرمز اسمه نفسه للقراءة، فإن لفظة القرآن مشتقة على الأرجح من القراءة حملا على قوله تعالى في سورة القيامة 18 (إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)، وكثير من الآيات الأخرى تشير إلى هذا المعنى كقوله تعالى في صورة الإسراء 106 (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث). ويتصل بمعنى القراءة والكتابة. وقد أكثر القرآن من الحديث عن الكتابة والكتب بحيث تكررت حوالي ثلاثمائة وعشرين مرة في القرآن، وقد أقسم القرآن بحروف الهجاء وأقسم بالقلم وأقسم بما يسطرون وتحدث عن أدوات الكتابة من مداد وقرطاس وصحف وسجل وضرب بذلك المثل في قوله تعالى في سورة الأنبياء (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب).

وقد حوى القرآن من منهج العلم ومن محتوى الثقافة والفكر وما يتصل بهما من أساليب النظر العقلي مما اضطر معه العرب إلى التبحر في كل صنوف المعرفة لفهمه وإدارك معانيه فدرسوا اللغة والأدب وتبحروا في دراسة التاريخ والجغرافية ودرسوا كتب أهل الكتاب وغيرهم من أصحاب النحل والمذاهب، واستعانوا بها في التفسير ودرسوا علوم الطبيعة لإدراك معنى الآيات الكونية الواردة في القرآن الكريم فتبحروا في الفلك والكيمياء والرياضيات والهندسة والطب وما إليها ودرسوا الفلسفة الأخلاقيات للاقتراب مما ورد في القرآن من إشارات للظاهرة الإنسانية والظاهرة الاجتماعية وتفاعلهما مع مظاهر الكون المحيطة بهما وفي سنوات معدودة تغير مناخ جزيرة العرب الثقافي فأصبحت مهدا لحضارة بلغت في مدى قرن من الزمان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قمة من قمم الإنجاز العقلي في كل مجالات الحياة الإنسانية. والذي لا جدال فيه أن القرآن كله دعوة للعلم والثقافة وإعمال الفكر وكيف لا والقرآن الكريم يقول: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، وقد رفع الله من قدر العلماء فقال جلت قدرته (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، ومن ثم كان الإسلام من الديانات النادرة التي كان طلب العلم فيها فرضا دينيا لا يكون المسلم مسلما إلا بتنفيذه لأن معرفة الدين تحتاج إلى توسع كبير في طلب العلم ولهذا السبب كانت المجتمعات المسلمة حتى في عصور الظلام والتخلف من أكثر شعوب الأرض حبا للعلم وطلبا له لأن من أراد أن يقرأ القرآن للتعبد فلا بد من تعلم القراءة والكتابة.

وليس من قبيل الصدف أن تسمي مجموعة الأحكام الشرعية والقانونية في الإسلام بالفقه أي العلم وحسن الإدراك، ومما يكمل هذا المنحى العقلي في تناول الشريعة اعتبار الرأي والقياس مصدرا من مصادر استنباطها الأربعة بعد الكتاب والسنة والاجتماع واتخاذ الاجتهاد سبيلا إلى توسيع دائرة التشريع وإثراء محتواه. ولارتباط العلم الوثيق بفهم الإسلام وإبراز مراميه وردت الأحاديث عن طلب العلم ولو في الصين وعن تفضيل العالم على العابد، وعن ترجيح مداد العلماء عن دم الشهداء، وعن وراثة العلماء للأنبياء، وقد وصف القرآن كثيرا من الأمم السابقة التي تنكبت طريق الهداية بأنهم قوم لا يعلمون وتكررت عبارة (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) مرات عديدة.

ولأهمية العلم كانت لفظة العلم ومشتقاتها من أكثر ألفاظ القرآن دورانا إذ تكررت أكثر من ثمانمائة مرة، ولكن العلم في القرآن مقرون بالإيمان ويكفي في هذا أن أول آية نزلت في الأمر بالقراءة قرنت القراءة باسم الله الذي خلق، فهي ليست قراءة من أجل القراءة أو من أجل التسلية أو من أجل الأهواء وإنما هي قراءة موجهة بالإيمان بالله، وقد تكررت فكرة الإيمان ومشتقاتها أكثر من ثمانمائة مرة أيضا (817). وكما اقترن العلم بالإيمان في القرآن الكريم فإن الإيمان مقترن فيه بالعمل وقد تكررت فكرة العمل ومشتقاتها أكثر من ثلاثمائة وخمسين مرة. وقد تكررت فكرة العمل ومشتقاتها أكثر من ثلاثمائة وخمسين مرة. وقد تكرر هذا الاقتران في عدد كبير من ثلاثمائة وخمسين مرة. وقد تكرر هذا الاقتران في عدد كبير من الآيات كقوله تعالى في سورة الطلاق 11 (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) وكقوله تعالى في سورة النساء 24 (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة) ولقوة هذه الصلة بين الإيمان والعمل وصلف رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان فقال ما معناه: (ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل وإن قوما رحلوا من الدنيا وليس لهم عمل وقالوا نحسن الظن بالله، كذبوا لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل). ولذلك لا عجب أن اعتبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كثيرا من مظاهر السلوك والمعاملات شعبا من شعب الإيمان، فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم.

فالإيمان في الإسلام أسلوب حياة أسلوب حياة يمتزج فيه الديني بالدنيوي ويختلط فيه المعنوي بالمادي اختلاط الروح بالجسد فينصهر الجانبان في وحدة عضوية لا ينفصل فيها أحدهما عن الآخر. وهذه الوسطية التي جاء بها الإسلام لإحداث التوازن في نفس الإنسان، وفي علاقات المجتمع وفي صلة الإنسان بالكون، ملحوظة في كل نظم الإسلام وأفكاره. فقد رفض الإسلام مادية اليهود وتكالبهم على الدنيا ورفض في نفس الوقت رهبانية الناصري وابتعادهم عن الدنيا وأمر الناس بالتوسط فقال جل من قائل في سورة الأعراف 29 (قل أمر ربي بالقسط) ثم وضع هذا القسط في طلب الدنيا فقال 32- 34 (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون. قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) صدق الله العظيم.

ولكي يؤكد القرآن مفاهيم الحضارة ونماذجها الفاعلة استعار كثيرا من ألفاظ الحضارة للتعبير عن مختلف الأفكار. فاستعمل كلمات التجارة مثل كلمة الشراء التي تكررت في خمس وعشرين موضعا للدلالة على اكتساب الفضائل أو الرذائل كقوله تعالى في سورة البقرة 16 (أولئك الذي اشتروا الضلالة بالهدي) وكقوله في سورة آل عمران 77 (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) ويستعمل كلمات البيع والثمن والبضاعة والكيل والميزان والقسطاس وكلها من ألفاظ المعاملات المادية للتعبير عن الأفكار والمعاني. ويضرب الأمثال بنماذج متطورة من إبداع الإنسان كالحدائق الغناء التي يبذل فيها أهلوها الجهد الكبير ولكنها تذهب هباء لجحود أهلها.

وحب الناس للدنيا وزينتها أمر قامت عليه الشواهد وهو في فطرة الإنسان وقد أكثر القرآن الكريم من الإشارة إليه كقوله تعالى في سورة آل عمران 14 (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا. والله عنده حسن المآب) وما دام حب الدنيا في فطرة الإنسان فالحل لمشكلة الغني ليست بالتخلي عن الدنيا وإنما بتوجيه الأغنياء للإنفاق منها على المحتاجين والفقراء ولذلك ركز القرآن على فكرة الإنفاق التي تكررت من سبعين موضوعا منه، وقد اقترن فيه الإنفاق بالإيمان والعبادة في كثير من الآيات كقوله تعالى في سورة البقرة 3 (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) وجعل قمة التقوى “الإنفاق” في قوله تعالى سورة آل عمران 92 (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) ويكفي في هذا المقام أن الزكاة ركن من أركان الإسلام إضافة إلى ما ورد في القرآن من حث على التصدق مما يجعل من نظام الإسلام نظاما لا يقوم على فكرة المساواة التي تتحدث عنها كثير من المذاهب المعاصرة بقدر ما يقوم على فكرة الإيثار والتضحية في سبيل الآخرين لقوله تعالى في سورة الحشر 9 (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون). وهذا الإيثار وما يتصل به من بر وإحسان وعمل صالح مفيد يدخل في حيز الباقيات الصالحات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله الكريم في سورة الكهف 46 (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا). وميزان التعادل في ذلك يحكمه القول المأثور (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).

أخلصُ من كل ذلك إلى أن القرن الكريم لخص بين دفتيه نموذج المجتمع الحضري الذي يمتزج فيه الدين بالدنيا لخلق الفرد المتوازن جسما وعقلا وروحا والذي ترسبت في ضميره وعقله قيم المجتمع بحيث أصبح الفرد مجتمعا في فرد ودولة داخل الدولة. وهذه الصياغة الجماعية لشخصية الفرد المسلم هي التي حفظت للمجتمع المسلم تماسكه وقوته في كل عصور الانحطاط والاضطراب. وكل ذلك يشير إلى أن هذا النموذج البشري الذي نجح الإسلام في تشكيله هو الحل الحاسم لمشكلة المجتمع الحضري القائم على الاقتصاد المتطور الذي يزعزع كيان المجتمع ويدمر العلاقات الاجتماعية، والإنسانية بحيث لا يستطيع القانون ولا قوى الأمن ردع أطماع الطامعين وتطلعات ذوي الشهوات والرغبات، ولا سبيل إلى الوقوف أمام سيل هذه الرغبات الجامحة التي تغذيها حضارة الاستهلاك إلا بأن ينبع الرادع من الداخل، وأن يكون جزءا من كيان الفرد وضميره، وهو ما يهدف إليه الإسلام من صياغة الفرد صياغة اجتماعية تتوجه فيها كل طاقاته الروحية والفكرية والجسدية لتحقيق خلافة الله على الأرض بخلق المجتمع القوي الذي يطور الحياة ويرقى بالإنسان. وهو يتخذ من الفكر منهجا لتحقيق هذه الرسالة التي يمتزج فيها الإيمان بالعمل، ويهتدي فيها الإنجاز بنور العلم، لتحقيق الوسطية التي اختص الله بها أمة القرآن في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). وتحقيق هذه الوسطية ليس حلا لمشكلة المسلمين وحدهم، وإنما هو حل لمشكلة الإنسانية في عصر الصناعة والاقتصاد المتطور على مدى الزمان. ولهذا السبب انتهت الرسالات وختمت النبوات وأصبح واجب المسلمين هداية البشرية لكلمات الله التي لا تبديل لها لإنقاذ مستقبل الإنسانية التي تتخبط في ظلمات الحس والأنانية من جراء غلبة النظرات المادية ذات الاتجاه الواحد التي تحسب أن تقدم الإنسان في إشباع البطن وتحقيق رغبات لاحس دون اهتمام بحاجات العقل والروح وتطوير إنسانية الإنسان.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما الذي بقى في حياة المسلمين من الإسلام بحيث يكونوا شهداء على الناس كما أراد الله لهم أن يكونوا ليستحقوا شهادة الرسول عليهم؟ والأمر المؤكد أن المسلمين جميعهم صياغة حقيقية للإسلام كما تهيأ له أن يدخل في حياتهم وبالتالي فإن هذه الصياغة تتفاوت في الدرجة والكيف خاصة وأن معظم العالم الإسلامي المعاصر قد برز إلى الوجود وحضارة الإسلام في حالة جذر وضمور ولكن نور الإسلام كأمن في النفوس والقلوب وأن حجبته من الإشعاع على حياة الناس رواسب القرون ومخلفات عهود الجهالة والجمود التي استغلها المستعمرون في العصور الحديثة لتعطيل فعالية الإسلام في حياة المسلمين وعقولهم. ومن الحقائق التي يجب أن يتنبه لها المسلمون: إن الإسلام دين حركة وثقافة وعمل، وكلما تراخي المجتمع وفتر نشاطه تقلصت بالتالي فعالية الإسلام في حياته. ولهذا السبب لم يجمد الإسلام طوال تاريخه على مستوى حضاري بعينه، بل كان يهجم على كل ثقافة وفكر ويحوره ويهضمه في بوتقته الفاعلة ليخرج نتاجا إسلاميا يزداد به ثراء المجتمع المسلم. فلم يكتف المسلمون الأوائل بمجرد قراءة القرآن والحديث، ولم يظلوا عاكفين علميهما دون تفكير وتأويل ودون تلاقح مع تجدد الأحوال والظروف بل أعملوا فيهما الذهن وعبروا عن نمو حضارة الإسلام في حياتهم عربيا في البداية مما برز في علوم اللغة القرآن والحديث ثم كلاميا حين انتقلوا إلى الأمصار واتصلوا بأصحاب الحضارات القديمة في فارس والروم ثم فلسفيا حين ترجمت فلسفة اليونان إلى العربية ثم عمليا حين تعمق المسلمون في التراث الحضاري الذي وصلهم عن أصحاب الحضارات إلى جوارهم، وفي كل هذه الأطوار كان الإسلام يتجدد ويزداد غنى وثراء اتساع آهابه للتعبير عن كل جديد يطرأ على حياة المسلمين اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا ودينيا. ولأن الدين في الإسلام هو عمود الحياة الفقري فقد كان ازدهار هذه الحياة زراعيا وتجاريا وسياسيا ينعكس على الدين حيوية وفعالية مما جعل من الفقه الإسلامي تعبيرا صادقا عن حركة الحياة في كل ميادينها الاقتصادية والزراعية والتجارية والاجتماعية عامة.وحين تقلص نشاط المجتمع بانهيار الدولة المركزية واستفحال الاضطراب في عصور الظلام وما تبع كل ذلك من تدهور الزراعية واضطراب التجارة وتقلص النشاط الاقتصادي عامة وانهيار النظام الإداري والسياسي بحيث ارتد العالم الإسلامي إلى ضرب من الاقتصاد البدائي تقليص بالتالي نشاط المجتمع الثقافي والفكري الذي كان ينبثق من حركة المجتمع ويعبر عن حيويتها فاندثرت العلوم الطبيعية وقل اهتمام الناس بقضايا الزراعة والاقتصاد والتجارة وانعكس كل ذلك على الحركة الفقهية التي كانت تزداد غنى وثراء بالاستفادة من كل هذه العلوم والمعارف لتصبح أكثر قدرة على التعبير عن حركة الحياة ونمو المجتمع على الصعيد الفقهي والتشريعي. لقد كانت كل حركة المجتمع الاقتصادية والثقافية والعلمية رافدا حيويا يمد الحركة الدينية بالفداء، ويمنحها القدرة الذاتية على مسابقة الزمن للبحث عن كل القضايا التي تلم بالمجتمع وتحتاج إلى الحل الحاسم على مستوى التشريع. ولهذا السبب كان كل علمائنا الأوائل موسوعيين في ثقافتهم بحيث كانوا يلمون بكل معارف العصر ليتمكنوا من التعبير عن روح العصر وينتقل الإسلام بعقولهم ومداركهم إلى مرحلة أعلى في سلم الرقي والكمال. وحين وقفت حركة المجتمع ووقفت معها حركة العلم المعبرة عنها وقفت حركة الاجتهاد في الفقه واقتصر النظر فيه على العبادات ومما يتصل بالأحوال الشخصية وبعض المعاملات دون سائر النشاط الإنساني الآخر وظل الخلف يتلقى عن السلف ما ورثه عن آبائه في تقليد وتسليم في الوقت الذي جدت فيه قضايا كثيرة وتغيرت أحوال المسلمين مما يحتاج الأمر معه إلى الحلول الفقهية التي تسلك تجربة المجتمع الحديث في إطار نظام الإسلام فقهي والتشريعي. وحين عجز العلماء عن ذلك دخلت في حياة المسلمين ألوان وألوان من المعاملات والاقتباسات لا تدخل في إطار الشريعة، ولكن حركة الحياة التي لا تقف لا تترك للناس الخيار، فإن الحياة لا تقف لأن عقول الفقهاء والعلماء قد وقفت عن الاجتهاد. ويقيني أ، ما يحدث في العالم الإسلامي اليوم من حركة ونشاط بعد هذه القرون الطويلة من الجمود والتحجر التي انفصل فيها المجتمع المسلم عن حيوية تراثه ستنعكس على فكرنا الديني بحث تدب فيه الحياة كنتيجة للحركة الشاملة التي بدأت تنتظم حياتنا الاقتصادية والثقافة والاجتماعية، فيصبح هذا الفكر الديني- كما كان في سابق عهده- تعبيرا أصيلا وصادقا عن حركة الحياة في شمولها- واتساعها. وعندها لا تصبح ثقافتنا الدينية قاصرة على العبادات وحدها كما هو الحال في عصور الجمود والتخلف- وإنما تصبح شاملة لكل قضايا العصر التي تواجهنا على كل المستويات العلمية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فإن تراثنا ليس مجرد ثقافة وإنما هو الأساس الفلسفي والفكري لسلوكنا العام والخاص والقرآن ليس نصا للتلاوة والتبرك فحسب بل هو دستور حياتنا والمرشد العملي لكل تصرفاتنا ومقدار حيوية المجتمع المسلم تعتمد على اتخاذ القرآن والسنة وكل تراث الإسلام منهجا للعمل والسلوك لا لمجرد التلاوة والتشدق بالألفاظ. وبذلك وحده يعيش الإسلام في حياتنا وتنبض شخصيتنا القومية بالحياة والفعالية لأننا بدأنا نعيش حضارتنا بدل أن نجتر قوالبها ونصوصها في تقليد سالب ونصل شخصيتنا بمنابع إبداعه
ا ونربطها بجذور أصالتها الواردة في القرآن والسنة والمعبر عنها في كل إنجاز حضارتنا الإسلامية. إننا جميعا الصورة الكامنة لحضارتنا وقد تعاودت عليها ظروف الجمود والتخلف والانهيار ومخططات وقد تعاودت عليها ظروف الجمود والتخلف والانهيار ومخططات الاستعمار ففقدت مع الزمن قدرتها الذاتية على الحركة والتطور.

والآن وقد تخلصنا في معظم عالمنا الإسلامي من الاستعمار المباشر في صورته العسكرية والسياسية الذي شل قدرتنا على الحركة، فإن واجبنا الديني والقومي أن نتابع معركة التحرر الوطني ونصل بها إلى غايتها المنطقية بأن نرفد ثورتنا السياسية التي أخرجنا بها الاستعمار المباشر بثورة حضارية نعيد بها النظر في كل مجالات حياتنا فننفي عن وجودنا كل مظاهر التخلف والجمود وموروثات الاستعمار ونظمه، فنستعيد بذلك أنفسنا ونرسي دعائم تقدمنا على ركائز ثابتة في أرضية حضارتنا بحيث تنطلق كل أوجه نشاط المجتمع من استراتيجية إسلامية كبرى تتخذ من القرآن الكريم وسنة رسوله العظيم وموروث حضارتنا مرتكزها الأساسي، وبذلك يكون جهدنا الوطني في كل قطر من أقطار الإسلام نابعا من ضمائرنا محققا لذواتنا مطورا لوجودنا في انفتاح على روح العصر.

ونحن لا نبني بذلك أوطاننا فحسب وإنما نبعث في نفس الوقت حضارتنا ونسهم بما نقدمه من إنجاز في دفع حركة التحرر الثقافي في كل عالمنا الثالث الذي يدرك أن معركة المستقبل هي معركة حضارية في الصميم، ولا بقاء فيها إلا الصامدين المؤمنين بأنفسهم المحققين لذواتهم. وفي قيامنا بهذا الواجب نحقق صلاح ديننا وصلاح دنيانا مهتدين بقوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) صدق الله العظيم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر