أبحاثملفات

معالم مدرسة التجديد الحضاري في الفكر الإسلامي المعاصر : بن نبي والمسيري

Al-Messeiri' Basic Concept of Islam and Range of its Acceptance by Islamists. العدد 129

لم يكن مصطلح الفكر الإسلامي حاضرًا في الدراسات الإسلامية القديمة، فهو مصطلح حديث النشأة، حيث يعود تاريخ ظهوره إلى القرنين الأخيرين نسبيًا، بعد أن برزت الحاجة إلى تمييز الفكر الإسلامي عن الفكر الآخر غير الإسلامي، سواء ظهر في بيئة إسلامية أم خارجها.

ومن هنا فمن الخطأ الشنيع الادعاء زورًا بأن الفكر الإسلامي هو كل ما نشأ من فكر في دار الإسلام وعلى أرضه، لأن هناك أفكارًا غير إسلامية تحيا في بلاده ولا تمت إليه بصلة.

وبهذا فالفكر الإسلامي المعاصر يُعنَى بكل ما أنتجه المسلمون من فكر، سواء في معالجة القضايا المحلية أم مجابهة التحديات المستجدة وحتى التحديات القديمة – والتي لا تزال في هذا العصر تعاني منها الأمة – مستلهمين ذلك من مصادره الأصلية(1).

وثمة ملاحظة جديرة بالتذكير، وهي أن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام المثل بالمثل، بل هو ما أبدعته العقلية الإسلامية في محاولتها لإسقاط الإسلام على الواقع وتطبيقه، فهو بذلك محكوم بالأطر الزمانية والمكانية.

فالفكر الإسلامي قد يخطئ ويصيب فهو غير معصوم في ذلك كله، الفرق بين الإسلام و بين الفكر الإسلامي، هو الفرق بين ما نسب إلى الله و ما ينسب للإنسان، والعلاقة بينهما هي علاقة بين شيئين أحدهما قام على الآخر واعتمد عليه في قيامه ووجوده، ولكن لا على أن يكون مطابقا له تمام التطابق(2).

ولذلك إذا تتبعنا بعض عثرات هذا الفكر في بحثنا هذا فلا يفهم منه أنه تطاول على الدين، وإنما نحن على قناعة بأن عمليات التصويب و الإقرار بالخطأ لا تخدش من قيمة الفكر الإسلامي بل هي انتصار لقضية الإسلام.

أولا: مفهوم التجديد في الفكر الإسلامي:

يمثل التجديد في الفكر الإسلامي سمة بارزة لرسالة الإسلام، من خصائص الإسلام الأساسية أنه خاتم الأديان السماوية، وحتى يتحقق له الخلود فمن الضروري أن يتجدد عطاؤه الحضاري في كل عصر، لأن التجديد في الإسلام وريث تتابع النبوات والرسالات في الأمم السابقة.

عرف الفكر الإسلامي المعاصر مستويات متفاوتة في التجديد تحمل أنماطا وأنساقا متباينة في الخطاب، يمكن حصرها في الاتجاهات الآتية:

– المجال الفكري الأصولي: يعنى إعادة الأفكار إلى جذورها وذلك بإزالة الشوائب التي عكرت صفوها، وهذا ينطبق على أهم تيارات التجديد في الفكر الإسلامي، حيث عبرت عن نهضة شاملة تقوم على تطهير الإسلام مما لحق به من شوائب، أصدق تعبير على هذا تعريف أبي الأعلى المودودي: “التجديد في الحقيقة عبارة عن تطهير الإسلام من أدناس الجاهلية، وجلاء ديباجته حتى يشرق كالشمس ليس دونها غمام”(3).

لاحت بوادر هذا الاتجاه مع بداية القرن التاسع عشر، الذي يعد عصر التقدم العلمي والتقني في الغرب، وعصر التخلف و الانحطاط و الفساد والاستعمار في الشرق.

أمام هذا الوضع المتأزم برز سؤال في غاية الأهمية: ما هو سر تقدم الغرب مع كفرهم وبالمقابل تأخر العرب والمسلمين؟ وما هي الوسيلة المثلى والناجعة،التي يمكن للمسلمين عن طريقها أن يصبحوا جزءًا من العالم المتحضر مع الحفاظ على تراثهم العقدي والتاريخي؟

انتهى رأي علماء هذا التيار إلى الاتفاق على أن تقهقر العرب والمسلمين وضعفهم، يعود إلى أنهم هجروا تعاليم الإسلام الصحيحة، وافتتنوا بالحضارة الغربية فارتموا في أحضانها.

يمثل هذا الاتجاه معظم الأدبيات الإسلامية التي قدمها المفكرون المسلمون المعاصرون، والتي تتبنى قضية العودة إلى الذات وتجعلها محورا أساسيا لمشروع النهضة الحضارية.

اتخذ هذا الاتجاه في عمومه منهجا متشددا في التعامل مع الآخر وخاصة في مواجهة الفكر الغربي ومناهجه، حيث اتسم بموقف التصدي للتحدي الحضاري الغربي، حيث خلف هذا التحدي نزوعا إلى الانتصار إلى الهوية الإسلامية بالعودة إلى أسباب العزة الكامنة وبعثها من جديد.

إن هذا الاتجاه اضطلع بدور عظيم في زمن الانبهار بالغرب وحضارته، ومحاولة هذا الأخير القضاء على أصالة الشعوب وحضارتها والدعوة إلى الارتماء في أحضان الفكر الغربي باعتباره النموذج الوحيد والأمثل لأي نهضة وتقدم.

ولذلك أضحت غاية هذا الاتجاه إبراز الحقائق الإسلامية وبعثها من جديد وإحياء النفوس بها، وأن هذه الحقائق صالحة لكل زمان ومكان، وأنها الكفيلة بانتشال الأمة من حالة الانحطاط و التردي، وتدفع بها إلى النهوض والتقدم.

وهكذا أصبحت مشكلة العرب والمسلمين في القرن التاسع عشر والتي شكلت قضية التجديد الأساسية هي رد الاعتبار للدين والتراث، حتى تعود للمسلمين حريتهم، ويتم استرجاع مجدهم الضائع.

وبذلك اضطلع أصحاب هذا التيار بأدوار في غاية الأهمية تمثلت أساسا فيما يلي:

نجاحهم في دعوة المسلمين -حتى وإن اقتصر على التنظير- إلى الاتحاد ضمن إطار الجامعة الإسلامية التي يمكن أن تضم المسلمين من كل القوميات، ونبذ التعصب الديني والمذهبي مما خفف حدة التوتر بين المذاهب الإسلامية حول المسائل الفقهية والدينية.

بالرغم من أن الدعوة للاتحاد لم ترق إلى مستوى الممارسة التنظيمية الفعالة بسبب غياب مشروع إستراتيجي يجسدها على أرض الواقع، لكن دورها كان فعالا في شحذ الهمم وجمع الطاقات للتصدي للاستعمار.

يرى الأستاذ طارق البشري أن الدعوة الإسلامية ظهرت في أواخر العشرينات كدعوة لاسترداد الأرض المفقودة أو الأرض المغزوة بالمعنى العقائدي الحضاري السياسي، ولذلك ظهرت كدعوة لمطلق الإسلام(4)، لقد اتسم الفكر الإسلامي المعاصر، بشكل عام، بسمة العداء الشديد للاستعمار والدعوة إلى محاربته بكل السبل المتاحة، فالخطاب السياسي المعادي للاستعمار لـه حضور بارز ضمن نسيج هذا الفكر.

ارتبط هذا الخطاب أصلا بواقع المسلمين الذين يعانون تخلفا وتشويها على المستوى الديني وتسلطا غربيا استعماريًّا على المستوى السياسي، فكان لهذا الخطاب مبرراته الزمانية والمكانية.

لنا أن نتساءل: لماذا بقي هذا الخطاب وموقفه المتشدد من الآخر مهيمنا على الأطروحات الإسلامية؟ وهل الآخر كله استعمار؟ وهل بإمكان الخطاب الإسلامي أن يتجاوز أدبياته المتشددة حول الآخر خاصة بعد خروج الاستعمار من البلاد الإسلامية؟

إن الانتصار لهذا الخطاب واستحضاره في واقعنا الحالي لا يمكن أن يتعدى مستوى التقييم والاستفادة من الأخطاء، وللإنصاف أن هذا الاتجاه استنفد جهوده لأنه ارتبط بظروف زمانية خاصة ولم يستطع أن يواكب التحديات المتراكمة والمتغيرات المتسارعة، وتحول في أغلبه إلى نزعة خطابية مثالية، هدفها تمجيد الماضي وتجاهل الحاضر.

– التيار الفكري الحداثي: مثله المفتنون والمنبهرون بالفكر الغربي الجديد، لما حققه من إنجازات بفضل المناهج الحديثة مقارنة بأوضاع التردي والتخلف التي تطبع الفكر التراثي المرتبط بالدين وقضاياه.

يسود هذا الاتجاه الدراسات الاستشراقية وما تمخض عنها من دراسات تعزى إلى تلامذة المستشرقين، خاصة أولئك الذين انبهروا بالفكر الغربي وما حققه من إنجازات، فقد هال رهطا من المسلمين حالة الانحطاط والفوضى التي ألمت بالمسلمين، مقارنين بين حالة التقدم التي عليها أهل الغرب، فرأوا بأن نجاة الأمة وخلاصها ينحصر في ذلك المنهج الذي أخذ به الفكر الغربي، فراحوا يستنسخون هذا المنهج ويقحمونه في الدراسات الإسلامية.

وكان من شأن هذا الانبهار أن برزت أزمة منهجية حادة في الدراسات الإسلامية يعتريها شعور دفين بالمغلوبية الحضارية إزاء الفكر الغربي، مما أعاق هذا الشعور العقول عن أن تعي بموضوعية مختلف المعطيات، سواء التي أنتجها الفكر الإسلامي الأصيل، أم الفكر الغربي الوافد، لتقارن بين الجانبين وتأخذ ما ينفعها وتدع ما يضرها.

التحدي الأكبر الذي واجهه الفكر الإسلامي المعاصر يتمثل في الإجابة عن التحديات الفكرية والحضارية الغربية في مختلف المجالات، وإذا كانت اتجاهات الفكر الإسلامي الأصولي قد هونت من شأن مواجهة هذه التحديات من خلال التصدي لها ومعاداتها واعتبار -كما ينقل الأستاذ محمد مبارك عنها-، كل ما أوتى من الغرب مرفوضا(5)، فإن هذه الاتجاهات لم تعد قادرة اليوم على اتخاذ الموقف نفسه، ليس بسبب أن الغرب فرض نفسه كحضارة عالمية فحسب لا يمكن تجاوزها، ولكنه عكف على دراسة الحضارة الإسلامية بمناهجه المتحيزة هما كان له أثره الخطير على الفكر الإسلامي.

أمام هذا الوضع غير الناضج في التعامل مع الآخر الذي يكرس قصورا منهجيا، أصبحت مشكلات المجتمع الإسلامي بحاجة إلى مفكرين مسلمين من طينة الفلاسفة، وهؤلاء بإمكانهم أن ينفذوا بنظرتهم العميقة والشاملة إلى جوهر المشكلة وأن يتتبعوا بوعي نقاط نشأتها وخطوط تطورها.

إن المشكلة الحضارية برزت في السؤال الذي طرحه زعماء الإصلاح وشعورهم بمدى تخلفهم خلال قرون متعددة كانوا فيها في سبات عميق دون أن يأخذوا خلالها بوسائل التقدم المادي ولا حتى بأسباب التطور الفكري والثقافي.

برزت نخبة من العلماء والمفكرين المسلمين المعاصرين استشعروا ووعوا منذ البداية جدية التحديات الآتية من الغرب ونموذجه الحضاري وخطورتها، وانكبوا على معايشتها وإدراكها من أجل استيعابها لبلورة موقف واعي وبناء، ويأتي في طليعة هؤلاء محمد إقبال ومالك بن نبي والفاروقي وشريعتي وجارودي وعبد الوهاب المسيري، وهكذا بدأ يتشكل تيار جديد في الفكر الإسلامي المعاصر راح يستشف جوهر الأزمة وليس أعراضها.

ثانيا: مدرسة التجديد الحضاري

بدا في الفكر الإسلامي المعاصر خطاب جديد يتجاوز غربة الزمان التي طبعت أدبيات الفكر الأصولي، الذي لم يفلح في تجاوزها حين استحضر آليات اجتهاد القرون السالفة ومناهج تفكيرها وتفسيرها، ويتجاوز غربة المكان التي ميزت الفكر الحداثي حين استحضر آليات الحداثة الغربية مع خصوصيتها ومحاولة إقحامها في بيئة مغايرة.

تيار شامل له حضوره المميز في الفكر الإسلامي المعاصر، لا يقتصر على خطاب اجتهادي يخص قضية فقهية مع أهميتها، أو دعوة سياسية لمقاومة الاستعمار والتبعية للغرب مع ضرورتها. إنه خطاب تجديدي غير مجزأ ينطلق من اعتبار الإسلام مشروعا حضاريا متكاملا لا يخص بيئة مكانية ولا ظرفا زمنيا ولا جنسا بعينه.

تميز هذا الخطاب بتبنيه أدبيات الدين الأساسية إلى جانب عدم تجاوز المعارف الإنسانية القيمية، هذا ما نصطلح على تسميته تيار التجديد الحضاري.

يمكن تأريخ بداية بروز هذا اللون من التجديد إبان تردي الحضارة الإسلامية والتي تعاصر ظهور ابن خلدون، فألهم ذلك ابن خلدون إلى أن يضع أول نظرية في فلسفة الحضارة. إن انهيار حضارة أمة تعد كارثة شاملة لكل المجالات لا تختص بجانب واحد لأنها تتبعها كوارث على كل المستويات، لذلك مع انهيار الحضارة الإسلامية ظهرت بدع في الدين وجمود في الفقه وشلل عقلي وتمزق سياسي مهد للاستعمار. لذلك فإن دعوة ابن خلدون التجديدية تتحدث بلغة جديدة تغوص في فهم الظاهرة لتقدم علاجا مناسبا، ومع عصر ابن خلدون بدأ العد التنازلي في تدهور الحضارة الإسلامية على المستوى السياسي بتمزق الدولة والاستبداد بالحكم والتخلف الاقتصادي بسبب الفساد والترف وتراجع الإنتاج العلمي، وأصيب العقل بالعقم عن النقد والإبداع، سواء في الفلسفة أو الفكر أو الأدب، أما الفقه فقد جمد الاجتهاد فيه بحجة الانتصار إلى أثار السلف، وعجز علم الكلام عن تشخيص مشكلة المجتمع الإسلامي في العصر الحديث ومعالجتها.

أسهم هذا الوضع المتأزم للمجتمع الإسلامي في فتح الباب على مصراعيه لدخول الاستعمار الذي أحدث شرخا عميقا وخطرا شاملا. ومع أن الخطاب الإسلامي شكل رصيدا هاما في مقاومة الاستعمار فانبثقت ثورات التحرير من أحشائه، إلا أن ما يؤاخذ على هذا الخطاب بشكل عام أنه بدا متعدد الجوانب مشتت الجهود، فاقتصر كل فريق على جانب معين في التجديد وأهمل الجوانب الأخرى، كمن جعل التجديد في الفقه أو في علم الكلام أو في السياسة ونحوها، وفات هؤلاء أن المشكلة عامة مست كل شيء.

لذلك انفرد التجديد الحضاري في أفكاره النهضوية عن باقي المصلحين الكبار، سواء على مستوى منهج التحليل أو على مستوى المعالجة وتقديم البدائل وذلك من خلال:

– الانتماء إلى المدارس الإصلاحية السابقة مع تقييمها للاستفادة من عثراتها، وفي المقابل الإطلاع على الفكر الغربي العلمي منه.

– أهمية المشكلات التي يتصدى لحلها وسعة الآفاق لجمع شتاتها حتى تبدو نمطا مركبا، هذا ما عبر عنه الأستاذ مالك بن نبي في قوله إن روح عصر ما بعد الموحدين، المصابة بالذريةAtomisme  لا تسلك سبيل التكامل بانتهاج التركيب المتآلف synthese(6).

أما الدكتور عبد الوهاب المسيري فشدد على وجوب الابتعاد عن النماذج الاختزالية التي ترى الظواهر في إطار ثنائيات صلبة بسيطة، فالنماذج المركبة هي التي تنظر للظواهر في كليتها الحية(7)، وبهذا يستطيع المفكر أن يسهم في تنوير مجتمعه حول أهم القضايا التي تشغله، وتحديد الأهداف الكبرى التي يسعى إلى بلوغه. فالدين عند إقبال ليس أمرا جزئيا: ليس فكرا مجردا فحسب، ولا شعورا مجردا، ولا عملا مجردا، بل هو تعبير عن الإنسان كله(8). يبرز هذا المعنى أكثر وضوحا عند الأستاذ مالك بن نبي في اعتقاده الراسخ على أن (مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبنى الحضارات أو نهدمها)(9)، من هذا المنطلق الواعي بحقيقة الأزمة وأنها حضارية، يدعو مالك بن نبي إلى ضرورة فقه الحضارة الإسلامية منذ بزوغها إلى أفولها. ومن هنا يمكن تعريف الحضارة (بأنها مجموعة العوامل المعنوية والمادية التي تسمح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد فيه جملة الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره، فالفرد يحقق ذاته بفضل إرادة وقدرة ليستا نابعتين منه، بل ولا تستطيعان ذلك، وإنما تنبعان من المجتمع الذي هو جزء منه)(10).

يتضح مما سبق أن مفهوم الحضارة وثيق الصلة بحركة المجتمع وفاعلية أفراده، سواء في إقلاعه في أجواء الرقي والازدهار، أو في هبوطه وتراجعه، ومن أجل ذلك ينبغي أن يتوفر فهم واعي وفقه حضاري لكل من يتطلع إلى إعادة للأمة مجدها الحضاري، ويحقق لها ازدهارها المنشود.

ثالثا: معالم مدرسة التجديد الحضاري

درج أغلب الباحثين على اعتبار مالك بن نبي بمثابة ابن خلدون العصر الحديث، وأبرز مفكر أولى عناية فائقة بالفكر الحضاري الإسلامي منذ ابن خلدون، فهو من أرسى قواعد مدرسة التجديد الحضاري في الفكر الإسلامي المعاصر حيث انفرد عن أقرانه من المصلحين بأنه درس مشكلات الأمة الإسلامية انطلاقا من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة، فقد انصبت جهوده لبناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسته المتميزة للمشكلات الحضارية عموما. يقول جودت سعيد: (وكان بذلك أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ)(11).

إذا كان للأستاذ مالك بن نبي هذا الدور في لفت انتباه الأمة إلى مشكلتها الجوهرية بلغة عصرية لم تعهدها في السابق، فإن الدكتور عبد الوهاب المسيري فتح عهدا جديدا للأمة لكي تعي موقعها الحضاري، فعكف على دراسة الحضارة الغربية المهيمنة، هذا فضلا عن تتبع الظاهرة الصهيونية طوال عشرين سنة في عمق وخصوبة وموضوعية، وهو من حيث غزارة مادته العلمية المتخصصة لا يكاد يناظره مفكر مسلم آخر في العصر الحديث، وأسطع مثال موسوعته الشهيرة التي تضاهي ما صنفه علماء الإسلام قديما إبان ازدهار الحضارة الإسلامية.

ينبغي التذكير على أننا لا نأمل في تقديم دراسة وافية ومستفيضة على ما اصطلحنا على تسميته بمدرسة التجديد الحضاري -وإن كان يحدونا الأمل في الكتابة فيه بشكل مفصل لاحقا- فذلك يستدعي عدة عوامل موضوعية في طليعتها المسح الشامل لكتابات المسيري، وغاية ما نرنو إليه في هذه المداخلة هو بيان أحد أنماط التجديد ورصد معالم هذا التيار في الفكر الإسلامي المعاصر.

تبدو ملامح هذه المدرسة التجديدية في الفكر الإسلامي المعاصر أكثر بروزا عند مالك بن نبي وعبد الوهاب المسيري، فيما يلي:

1- النـزعة التقويمية للحضارة الغربية

ليس من شك أن قصورا بارزا ظل يطبع آراء حركات الإصلاح الدينية المعاصرة في فهم الحضارة الغربية فهما عميقا، حيث تمركزت نظرتهم حول النـزعة العدائية التي راحت الحضارة الغربية تبثها ضد الشعوب والأجناس الأخرى، لذلك أولى المفكرون الإصلاحيون عناية فائقة بآراء المفكرين الغربيين الذين يتناولون بالنقد النظامين الرأسمالي والاشتراكي دون سواهما، أو يبرزون الوجه المظلم للحضارة الغربية مثل تفشي حالات الانتحار، أو الإدمان على المخدرات أو الجرائم، أو تفشي حالات الأمراض النفسية والعصبية، ناهيك عن نزوع الغرب نحو التسلح بامتلاك القنابل الكيميائية والنووية وما يتهدد العالم من حرب مدمرة.

إن من أهم مصائبنا اليوم نابعة عن قصور في فهمنا لحقيقة هذه الحضارة وما تملكه، وقد لاحظ كل من مالك بن نبي والمسيري هذا القصور في فهم الحضارة الغربية وحذرا من عواقبه، فالغرب ليس مفهوما مطلقا بل هو مسألة نسبية،كما يقول مالك بن نبي، فإذا أدرك الفكر الإسلامي المعاصر هذا فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيه، كما سيتعرف على عظمته الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات والمبادلات مع هذا العالم الغربي أعظم خصبا، بحيث تظفر الصفوة المسلمة إلى حد بعيد بمنوال تنسج عليه فكرها ونشاطها(12).

ونجد صدى هذا الكلام يتردد عند الدكتور المسيري في قوله إننا إذا اكتشفنا أن الغرب نسبـي وليس مطلقا، فستكون علاقتنا به مستريحة؛ يمكن أن نأخذ منه ما نريد ونرفض ما نريد. وليست المسألة كما قال بعضهم أن نأخذه بحلوه ومره. لذلك كان لابد على الخطاب الإسلامي المعاصر أن يدرك أن الغرب ليس غربا مسيحيا، وإنما هو غرب وثني وعلماني وهذه مسألة أساسية، ولا يزال الخطاب الإسلامي يدور في إطار أن الغرب نصراني.

نعني بالنـزعة التقويمية للحضارة الغربية ذلك الإدراك الواعي بحقيقة الحضارة الغربية من خلال إفرازاتها الحضارية المتعددة الأبعاد في العصر الحديث ومدى انعكاساتها على ذلك العصر.

إن معرفة على هذا المستوى تتطلب معايشة هذه الحضارة لفهم تركيبتها وأنماطها، وقد كان لكل من بن نبي والمسيري حظ وافر في معايشة هذه الحضارة، والفكر الإسلامي المعاصر في أمس الحاجة للاستفادة من هذه التجارب الحية بعيدة عن الأحكام المسبقة والمتشنجة.

– معايشة الحضارة الغربية

ينطلق مالك بن نبي في تحليله للحضارة الغربية من معايشته لها، وإن كتابه “مذكرات شاهد القرن” لهو في حقيقته شاهد على هذه الحضارة بكل سلبياتها وإيجابياتها، صاغ من خلاله الأستاذ تجربته بأسلوب شيق أخاذ بطريق تنم عن دراية شاملة وعميقة لهذه الحضارة.

بدأت رحلة مالك بن نبي مع الحضارة الغربية منذ نعومة أظفاره، التحق بالمدرسة الفرنسية الابتدائية وتأثر بأستاذه مارتان martin الذي نقش في نفسه الذوق الرفيع وفن الكتابة، فانكب على دراسة الباحثين الغربيين أمثال بيار لوتي pierre loti وكلود فاريا  claude fareولا سيما بيار بورجي pierre borjier الذي كان له عظيم الأثر في أن يصقل مواهبه وهو فتى يافعا ليتخلى عن بعض أوهامه وسذاجته.

ولقد كان لهذا الاتجاه أن يأخذ به حسب رأيه إلى أبعد الحدود لولا دروس الشيخ مولود بن موهوب في التوحيد والسيرة وتلك التي للشيخ بن العابد في الفقه والتي كانت تصحح له من حين إلى آخر بعض المفاهيم والتصورات، فضلا عن دروس الشيخ عبد المجيد الذي كان يحلل فيها بعض وجهات نظره في انحراف المجتمع وتجاوزات الإدارة الفرنسية، وقد عزز ذلك كما يقول في نفوسنا تأييدا وحماسة.

كما أن من الكتب الهامة التي اطلع عليها في هذه الفترة، واعتبرها من الينابيع البعيدة المؤثرة والمحددة لاتجاهه الفكري، كتاب الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق لأحمد رضا ورسالة التوحيد لمحمد عبده فقد أمده بغنى الفكر الإسلامي عبر العصور.

لقد أسهم هذان الكتابان في تصحيح بعض التصورات التي كانت لديه سواء فيما يتعلق بالمجتمع الإسلامي أو المجتمع الغربي، وحالا دون انسياقه في الرومانطيقية التي كانت شائعة آنذاك في صفوف ذلك الجيل من المثقفين الجزائريين(13).

سافر بن نبي إلى باريس في شهر سبتمبر من العام 1930، وبعد وصوله قام مباشرة بتسجيل اسمه في قائمة الطلبة المعنيين بالمشاركة في امتحانات القبول بمعهد الدراسات الشرقية، ولظروف سياسية مُنع من الالتحاق بالمعهد. وفي هذه المدينة الفرنسية بدأ يتعرف، شيئا فشيئا هذه المرة وبصورة عملية، على جوانب من حياة الأوروبيين وخاصة المجتمع الفرنسي، فهو يقول (لقد صفا الجو لاهتماماتي الاستطلاعية وتجولاتي الاكتشافية التي ساقتني ذات يوم إلى متحف الفنون والصناعات بقرب باب سان دونيس حيث وقفت تلك العشية أفكر لأول مرة في الجوانب التكنولوجية للحضارة وأنا أشاهد بين روائع المتحف القاطرة الأولى التي تحركت بالطاقة البخارية والطائرة التي عبر عليها بلير بحر المانش(14)).

ولم يكن الأستاذ منطويا على نفسه بل عمد إلى التواصل مع بعض الأسر الفرنسية البورجوازية فيقول أنها كانت تكشف لي عن الحياة الأوروبية من الداخل في نطاق عائلي بينما لم أكن في الجزائر أعرفها إلا من الخارج.

وفي باريس تعرف صدفة على الوحدة المسيحية للشبان الباريسيين التي تدار وتنظم شؤونها طبقا لضرورات شباب يدرس أو يعمل بعيدا عن مكان إقامة الأهل. وهكذا أصبح بن نبي عضوا مسلما يدعو إلى دينه بكل وضوح في هذه المنظمة، وقد ساهم ذلك في نظره كثيرا في تبادل الآراء وإثرائها وذلك انطلاقا من قناعات ومواقف فكرية مختلفة.

أخفق بن نبي في الالتحاق بمعهد الدراسات الشرقية لأن الدخول إلى هذا المعهد كان يخضع في نظره، خاصة بالنسبة لمسلم جزائري مثله، إلى مقياس غير علمي، يذكر ذلك بقوله: “لم تبد لي أية صعوبة في الاختبارات ولكن كانت خيبة أمل: لم أنجح وليس هذا كل ما في الأمر بل لقد طلبني مدير المعهد، وفي هدوء مكتبه الوقور شرع يشعرني بعدم الجدوى من الإصرار على الدخول إلى معهده، فكان الموقف يجلى لنظري بكل وضوح هذه الحقيقة: إن الدخول لمعهد الدراسات الشرقية لا يخضع بالنسبة إلى مسلم جزائري لمقياس علمي وإنما إلى مقياس سياسي”.

التحق بعد ذلك بمدرسة اللاسلكي لدراسة هندسة الكهرباء، وهناك أدرك بأنه قد دخل هذه المرة إلى الحضارة الغربية من باب آخر بعد أن دخلها من باب وحدة الشبان المسيحيين الباريسيين، فالساعات التي كان يقضيها في الورشة لم تكن كما يقول: “مجرد لعب بل كانت ممتلئة بشعور الوارد على دين جديد تجاوزا يقوم بطقوسه في معبد هذه الحضارة الآلية التقنية ولم تكن أيضا تخلو من ملاحظات وبواكير لتفكير اجتماعي بدأت تخامر عقلي فبينما تلك الأدوار البسيطة في يدي أشعر بأنها ليست لمجرد اللعب، بل هي دلائل على مقدار تطور المجتمع لأن المجتمع البدائي آلته اليد والإصبع”.

لقد أثار ذلك فيه شغف البحث أكثر عن سبل تطوير مجتمعه والتحاقه بالركب الحضاري، وأثناء الفترة الدراسية انكب على تبادل الرأي مع زملائه الطلبة في الحي اللاتيني حول آراء عدد من المفكرين العالميين أمثال نيتشه وسبينوزا، تخرج سنة 1935م مهندسا كهربائيا.

كما عكف على مطالعة كتب بلزاك التي أمدته بمعلومات نفيسة عن حياة المجتمع الفرنسي عندما بدأت بعد العهد النابليوني انطلقاته في العهد الصناعي، لقد كانت هذه المطالعات وهذه الملاحظات وهذه الموازنات كلها كما يقول حقلا خصبا لأفكاري الاجتماعية الناشئة.

تزوج في عام (1350هـ/1931م) من امرأة فرنسية أسلمت على يديه، وساهمت زوجته في تنمية ذوقه وحسه الجمالي، واستطاع أن يوسع شبكة علاقاته الفكرية والثقافية في باريس، فالتقى هناك بشكيب أرسلان وغاندي.

لبث ابن نبي في أوروبا أكثر من ثلاثين سنة أعانته في إظهار ذاتيته وإيقاظ الشعور في نفسه وفكره وتحرره من قبضة الثقافة الغربية(15).

إذا كان هذا شأن الأستاذ مالك بن نبي في معايشة الحضارة الغربية، فكيف كان الحال بالنسبة للدكتور المسيري ؟

سافر المسيري إلى أوروبا طلبا للعلم عام 1963 وعمره خمسة وعشرين عاما بعد حصوله على منحة للدراسة التحق بجامعة كولومبيا، وهي كما يذكر المسيري جامعة عتيدة كانت تضم بعض أهم أساتذة الأدب الإنجليزي في العالم، وبعد مرور سنتين من دراسته في تلك الجامعة تحصل على شهادة الماجستير،ثم التحق بجامعة جامعة رتجرز في مدينة نيوبرونزويك بولاية نيوجرسي وذلك للحصول على درجة الدكتوراه.

أكمل المسيري رسالته للدكتوراه في 9 يونيو 1967 بعنوان الأعمال النقدية لوليام وردزوت ووولت ويتمان دراسة في الوجدان التاريخي والوجدان المعادي للتاريخ تحت إشراف الدكتور ديفيد وايمر.

من ألمع أساتذة المسيري الذين درس عليهم في أمريكا الدكتور ديفيد وايمر وليام فليبس أستاذ النقد الأدبي وهو من كبار المثقفين الأمريكيين اليهود والبروفسور وليام كيلوج أستاذ أدب العصور الوسطى.

ومن أهم المؤلفات التي ساعدت المسيري على بلورة مرجعيته ومنهجه التحليلي كتابات كارل ماركس الإنسانية، وكتابات جورج لوكاتش وروجيه جارودي وماركس فيبر وعلي عزت بيجوفيتش.

وأثناء إقامته في أمريكا تعرف هناك إلى نخبة من المفكرين والأدباء نذكر منهم الحاخام يوسف بيخر وهو حاخام أرثوذكسيا كان معاديا للصهيونية من منظور ديني، وكانت له مناظرات عديدة مع أقطاب الصهيونية مع حاييم هرتزوج رئيس دولة إسرائيل السابق حينما كان رئيس وفد بلاده لهيئة الأمم المتحدة كما جادل الباحث البروفسور بن هاليرن عميد كلية الحقوق بجامعة تل أبيب عام 1977م.

التقى في أمريكا بكافين رايلي المؤرخ الأمريكي المشهور.

وقد مكث المسيري فترة طويلة مع الفكر الماركسي دامت قرابة ثلث قرن تقريبا 1954-1984م تعمق من خلالها معرفة على أحد أهم النماذج المادية المهيمنة على العالم في ذلك الوقت من الداخل تجسدت في رصد موطن القصور والضعف في هذا النموذج.

وتجدر الإشارة إلى أن الدراسة الأدبية أتاحت للباحث دراسة تاريخ الفكر الغربي والمؤسسات الحضارية الغربية المختلفة، فكل مجتمع وكل أمة لها أدبها الذي يحمل فلسفتها وعاداتها وتقاليدها، كما يحمل في داخله الانسجام أو التوتر في علاقة الأديب بهذه التصورات والعادات، مما أفاده ذلك في دراسة الجماعات اليهودية واكتشافه كثير من السمات التي تتميز بها باعتبارها سمات غربية تماما ولا تدل على الخصوصية اليهودية، كذلك يسرت له معرفة اللغة الإنجليزية – لغة الغالبية الساحقة من يهود العالم – قراءة المراجع الأساسية عن اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل والتنقل بين مكتباتها المختلفة، مكتبة الكونجرس ومكتبة مدرسة اللاهوت اليهودية التابعة لجامعة كولومبيا(16).

يتضح مما سبق ذكره أن معايشة بن نبي والمسيري للحضارة الغربية كانت عميقة ومتجذرة، لم تتجاوز المعرفة السطحية والشكلية للغرب فحسب ولكنها تجاوزت حدود الافتتان والانبهار.

تميزت هذه المعايشة للحضارة الغربية من خلال ما يلي:

الدراسة العلمية والأكاديمية في المدارس والجامعات الغربية بلغاتها، فإذا كان عالم الأفكار عند مالك بن نبي لبس لبوس التفكير العلمي والرياضي، فإن المنظومة الفكرية للمسيري كستها النـزعة الفلسفية العميقة، وهذا من شأنه أن يثري الخطاب الإسلامي ويغنيه.

الانفتاح والتواصل مع الآخر سواء كان من عامة الناس أو الخاصة من علماء وحكام.

خلفت هذه المعايشة عن قرب للحضارة الغربية موقفا معرفيا واضحا حول الحضارة الغربية بتحليل القيم الأوروبية، ينتقد مالك الإصلاحيين الدينيين في عدم قدرتهم على فهم الظاهرة الغربية لأنه كان يحمل تصورا واحدا فالكفر ملة واحدة (هذه فترة من تاريخ أوروبا وقد أصابها الانفصال في أوضاعها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، وهي الفترة المعاصرة لجبروت العصر الاستعماري، ولبوادر النهضة الإسلامية الأولى، وبهذه الدفعة المادية المزدوجة، دفعة البرجوازية، ودفعة البروليتاريا، تجلت أوروبا للعالم الإسلامي فأدرك نفوذها في تطوره الفكري والسياسي فهو لم يكتشف في أوروبا حضارة بل اكتشف فوضى، كانت تتعاظم داخلها الانفصاليات طبقا لعاملين كان لهما في هذا الشأن وزن كبير هما: سرعة النمو العلمي و التوسع الاستعماري)(17).

إن النظام الذي خلق الفوضى كما يذكر بن نبي في أوروبا ذو صبغتين فهو علمي واستعماري في آن، فإذا ما كان في أوروبا فكر بمنطق العلم، فهو إذا انساخ في العالم فانه يفكر بعقلية الاستعمار.

ونفس الاتجاه يذهب إليه المسيري حين كانت الظاهرة الغربية الحديثة تؤكد أنها حضارة إنسانية جعلت من الإنسان مركز الكون، وكانت المجتمعات الغربية مجتمعات لا تزال متماسكة من الناحية الاجتماعية والأسرية، ولم يكن كثير من الظواهر السلبية التي نلاحظها بأنفسنا ونقرأ عنها في صحفهم ومجلاتهم والتي أصبحت نمطا ثابتا وظاهرة محددة قد تأصلت بل كانت مجرد حوادث متفرقة لا ظواهر دالة ومن ثم كان من السهل تهميشها، ومن هنا كان دعاة الإصلاح كلهم ينادون بضرورة اللحاق بالغرب ولم يكن هناك أي أصوات تعارض الحداثة أو تنتقدها بل كان الجميع يُسبِّح بحمدها، والمسيري يعذر أصحاب هذا الاتجاه فيعتبرهم محقين إلى حد كبير في هذا، فشكل الحداثة الذي أدركوه له سحر أخاذ.

ولكن مع مرور الوقت كما يؤكد المسيري ينكشف الوجه العدواني عندما أمطرتنا الحداثة الغربية بجيوشها الاستعمارية لتحول بلادنا إلى دمار شامل، ومصدر للمواد الخام والعمالة الرخيصة وسوق مفتوحة بشكل دائم للسلع الغربية، أما أولئك المنبهرون الذين حلوا بالعواصم الغربية لم يروا سوى النور والاستنارة في الوقت الذي كانت المدافع الغربية تدك بلادنا دكا، أما هؤلاء الذين بقوا في بلادهم في آسيا وأفريقيا فقد عرفوا ألسنة النيران الملتهبة، وسمعوا دوي القنابل وشموا رائحة البارود(18).

وبهذا تنكشف الملامح الحقيقية للحضارة الغربية عند مالك بن نبي وعبد الوهاب المسيري فيما يلي:

– النـزعة العدوانية

أظهر تيار التجديد الحضاري مهارة فائقة في تشخيص النفسية الأوروبية وفهم أغوارها، يتفق مالك بن نبي وعبد الوهاب المسيري على أن نزعة عدوانية تسري في عروق الحضارة الغربية تجاه الآخرين وهي نتاج ترسبات لأحداث تاريخية. يشير إلى هذا المعنى الأستاذ مالك بن نبي في قوله: “أما فيما يتصل بأوروبا فان ما ألصقته القرون بعاداتها وصبغت به حياتها يشق على الاتجاه الجديد أن يعدل حرفه”، ويرجع مالك ذلك إلى النفسية المركبة للأوروبي من التراكمات التاريخية لعلاقة الأمم، وهنا فهو يرسي دعائم علم جديد في فلسفة التاريخ علم نفس المجتمعات. يتحدث فيه عن ظاهرة تخلف الضمير وعدم مواكبته لتقدم العلم. تخلف الضمير في نموه عن العلم وعن حركة الفكر. فما الضمير إلا تلخيص نفسي للتاريخ، وخلاصة لأحداث الماضي منعكسة على ذات الإنسان، فهو بلورة للعادات والاستعدادات والأذواق.

وهنا يتحدث مالك عن الغرب الاستعماري وأن العدوان والعنصرية متأصلة فيه، ومن ناحية أخرى لا بد أن نبين للناس – أيضا- أن المنظومة الحداثية مرتبطة بالاستهلاكية والتوجه نحو اللذة. وقد تمكن الإنسان الغربي أن يحقق معدلات عالية من الاستهلاك واللذة، مرة أخرى، عن طريق النهب الاستعماري، تلكم مأساة الحضارة الحديثة في عمقها كما يذكر بن نبي فان الضمير الحديث لم يتمثل بعد أغلب ما حققه العلم من مخترعات كما أكد مالك بن نبي أن خطر هذه النـزعة يلحق أضرارا بالغة للحضارة.

إن هذا الاتجاه لا يحصر خطر هذه النزعة على الإنسان المسلم فحسب وإنما خطرها يمس الإنسان من حيث هو إنسان، حتى الإنسان الغربي يلاحقه خطرها، هذا ما أقره الأستاذ بن نبي، فالاستعمار إذا كان قد ألحق ضررا بليغا بالبلدان المستعمرة فانه قد أضر كذلك بالحياة الأوروبية ذاتها، لأن الاستعمار الذي يهلك المستعمرين ماديا، يهلك أصحابه أخلاقيا.

وهنا يدق مالك بن نبي ناقوس خطر الحضارة الغربية على العالم إذا استفزت أفكارها وأساطيرها لأن أثره عالمي، كما يؤكد مالك أن التهور الأوروبي تهور ذو دوي وضجيج، بل أن الأساطير الأوروبية نتائجها وخيمة ومهلكة، لأن المادة في قبضتها تتصرف فيها كما تشاء، ومادام الأمر كذلك فيوشك أن تهدم كل شيء بطريقة علمية، فتنسف بقنابلها الذرية البلاد والعباد(19)، وخير دليل على هذا الكلام العربدة الأمريكية على العراق وما خلفته من دمار شامل، لذلك فنزوة عاطفية مهما علت ليس بإمكانها مواجهة حضارة بهذا الزخم العلمي والترسانة العسكرية الهائلة.

والدكتور عبد الوهاب المسيري كشف النقاب عن هذه النـزعة العدوانية التي لم تنته بمجرد خروج الاستعمار من البلاد الإسلامية بل إنها صفة متأصلة فيه، وما للعربدة الأمريكية ضد العراق سوى تعبير عن إدراك المؤسسة الحاكمة الأمريكية لهذه الحقيقة، فهي ترغب في بسط هيمنتها على مصادر الموارد الطبيعية في عالم تتناقص فيه هذه الموارد حتى يمكنها الاحتفاظ للإنسان الأمريكي بمعدلاته الاستهلاكية العالية(20).

– النـزعة العلمية

رغم النـزعة العدوانية التي طبعت الحضارة الغربية في تعاملها مع المجتمع الإسلامي إلا أنه لا يمكن لهذا المجتمع أن يغض الطرف عن ما تميزت به هذه الحضارة من نزعة علمية، يقول مالك بن نبي فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن صدق الظواهر الأوربية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها،كما سيتعرف على عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات والمبادلات مع هذا العالم الغربي أعظم خصبا، بحيث تظفر الصفوة المسلمة إلى حد بعيد بنموذج تنسج عليه فكرها ونشاطها.

ومالك بن نبي يدعو إلى تفكيك أنساق هذه الحضارة ليتيح لنا أن نقف أمام نظام أوروبا كإنسان لا كمستعمر وبذلك تنشأ حالة من التقدير المتبادل، والتعاون المثمر، بدلا من تلك العلاقة المادية الجافة التي تنبعث من علاقة أوروبا المستعمرة بالعالم الإسلامي القابل للاستعمار(21).

هكذا ظل يدعو إلى ضرورة الاطلاع على الفكر الغربي العقلاني منه(22).

يكمن الرصيد الحضاري للغرب وتفوقه في ثلاث كلمات: العلم والتقدم والحضارة، خطت منها أفكارا مقدسة سمحت لها أن ترسي داخل حدودها قواعد حضارة القرن العشرين وأن تبسط خارج حدودها سلطتها على العالم، زودتها بالفعالية(23). بالإجمال فإن أوروبا ركبت في مضمون ثقافتها مزيجا من الأشياء والأشكال التقنية والجمالية(24).

إلى جانب دعوة مالك بن نبي إلى الاستفادة بالتقنية الغربية كذلك يهيب بالأمة أن تأخذ بالجانب الجمالي الذي يميز هذه الحضارة، فهو لا يجد حرجا في الاعتراف بفضل زوجته الفرنسية التي أيقظت في نفسه الحس الجمالي والذوق الرفيع. ويبدو هذا متشابها عند الدكتور المسيري عندما لاحظ أحد الصحافيين أثناء حواره للمسيري طريقة تصميم المنـزل حيث أن غرفة الطعام كانت على الطراز الإنجليزي لكي يشير إلى أن في الغرب حضارة إنسانية أيضا.

إن العالم الإسلامي لا يمكنه أن يعيش في عزلة وانطواء، فليس الهدف أن يقطع علاقته بحضارة تمثل وتشكل إحدى التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن ينظم هذه العلاقات معها.

ويشيد المسيري بإنجازات الحضارة الغربية ويقف عند بعضها:

الإدارة الرشيدة في تسيير مجتمع عن طريق مؤسسات اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية قادرة على حل المشاكل العويصة وتسوية النـزاعات والتصدي للأزمات دون الرجوع إلى العنف، وعلى وضع المخططات التي تضمن رفاهية المجتمع واستمراره.

نجاحه في حل مشكلة التداول على السلطة بدون عنف أو سفك الدماء.

احترام حقوق الإنسان السياسية وتأكيد حرية الفرد.

تكوين دولة الرفاه التي تضمن للإنسان الحد الأدنى من احتياجاته الضرورية في شكل نظام صحي ونظام تعليمي.

تفعيل دور المرأة وتأكيد حيزها المستقل.

بناء العقلية النقدية التي أثمرت قدرات إبداعية خلاقة.

تطوير مناهج البحث بما يستجيب لمتطلبات المجتمع المتسارعة.

إنشاء المؤسسات الكبرى من خلال اندماج مختلف الشركات، وكذا اتحاد الدول المختلفة في تكتلات سياسية أو اقتصادية رغم اختلاف مذاهبها الدينية ولهجاتها.

كما يؤكد المسيري أنه يجب عدم التقليل من قيمة الإبداع الفردي الغربي فهي إبداعات مهمة وإسهامات حقيقية للتراث الإنساني، والمسيري يهيب بالأمة أن لا تقتصر على استلهام هذه التجربة فقط بل ينبغي أن تستفيد من بلدان أخرى كالصين(25).

2 – تجلية البعد الحضاري للفكر الإسلامي المعاصر

أدت الدراسة التقييمية للحضارة الغربية إلى فتح مدرسة التجديد الحضاري عهدا جديدا لبيان البدائل التي يمكن للفكر الإسلامي المعاصر أن يسديها على المستوى الحضاري.

يؤكد محمد إقبال أن صحوة الإسلام حضاريا ينطلق من تمحيص بروح مستقلة لنتائج الفكر الأوروبي وكشف عن المدى الذي تستطيع به النتائج التي وصلت إليها أوروبا أن تعيننا في إعادة النظر في التفكير الديني في الإسلام وعلى بنائه من جديد إذا لزم الأمر.

لذلك ينطلق أقطاب هذا الاتجاه من نقد الحضارة الغربية ليفتحوا المجال لإرساء فكر إسلامي خالص، فمع هيمنة المفاهيم الغربية لا يمكن اكتشاف أصالة الفكر الإسلامي، لذا نجد مشروع الفيلسوف إقبال يتمثل في فهم مبادئ الحضارة الغربية باعتبارها المهيمنة ثم إزاحة مفاهيمها الذاتية ليفسح المجال لانبعاث الفكر الإسلامي الأصيل وبنائه من جديد إذ لزم الأمر(26).

يستشهد إقبال بموقف علماء المسلمين الذين تصدوا للفلسفة الإغريقية ورفضوا منطق أرسطو، فلدى هؤلاء من أمثال ابن تيمية والغزالي يمكن البحث عن عناصر التفكير الإسلامي الأصيل، حيث كانوا على دراية بالفلسفة المهيمنة في ذلك العصر ومن خلال تقييمها خلفوا بديلا إسلاميا. يقول إقبال: (إن الفلسفة اليونانية على ما نعرف جميعا كانت قوة ثقافية عظيمة في تاريخ الإسلام، ولكن التدقيق في درس القرآن الكريم، وفي تمحيص مقالات المتكلمين على اختلاف مدارسهم التي نشأت ملهمة بالفكر اليوناني، يكشفان عن حقيقة بارزة هي أن الفلسفة اليونانية، مع أنها وسعت آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام، غشت على أبصارهم في فهم القرآن)(27).

إن محمد إقبال يعترف بأثر الفلسفة الإغريقية على المسلمين بل ويعلي من شأنها لكنه يصف هذا الأثر بالسلبية، ويجعله سببا في تحويل أنظارهم عن الطريق الصحيح الذي رسمه القرآن.

وفي هذا الاتجاه يلوح في الأفق مشروعا ضخما يُعنَى بتمحيص الفكر الغربي أطلق عليه مصطلح التحيز. ونعتقد أن هذا المشروع الذي يتبناه المسيري، إن قدر له النجاح، سيكون فاتحة عهد لبناء فكر إسلامي أصيل ومعاصر.

مشروع التحيز: يمثل التحيز رافدا هاما من روافد مدرسة التجديد الحضاري الإسلامي، والذي يُعرَّف بأنه وجود مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النماذج المعرفية والوسائل والمناهج البحثية التي توجه الباحث دون أن يشعر بها، وإن فطن لها وجدها لصيقة بالمنهج يتعذر التخلص منها. والمشروع في ظاهره يقوم بكشف النقاب عن تيار لنمط فكري مهيمن أزاح كل الأنماط الفكرية المغايرة. أما في باطنه فهو يضطلع بمهمة بناء وبعث نمط فكري خاص نابع من تربة إسلامية خالصة.

ومما يضفي شرعية على مشروع التحيز أنه صادر من مفكر موسوعي استثمر معايشته الطويلة للحضارة الغربية واختبر مصادرها المعرفية.

تتجلى أهمية مشروع الدكتور المسيري في تجاوزه للردود الانفعالية في سياق الحديث عن الهوية والخصوصية والتي افتقرت إلى الطريقة المنهجية في دراسة قضية التحيز في العلوم و بناء علوم جديدة تتفاعل مع الإشكاليات الخاصة بالحضارة الإسلامية.

يستهل الدكتور عبد الوهاب المسيري في مقدمته لكتاب التحيز في العلوم الطبيعية قائلا: (وتحاول بحوث هذا المحور أن تكشف عن مظاهر وبواطن التحيز في ميادين علومها كما نرى في البحوث ذاتها بمطاردة هذه التحيزات في معاقلها الحصينة المموهة: في النماذج الفكرية المعقدة، في النماذج الرياضية المعلبة الجاهزة الاستخدام، في اللغة الرمزية المغتربة، في الكهانات المبهرة للأرقام والمنحنيات، في الأجهزة والماكينات والحاسبات، في سياسات الكبح والدعم، في التسميات والتأريخ والصياغات، في أجهزة التشخيص ووصفات العلاج، في التقنيات المستوردة والتنمية المشوهة. وكل هذا النقد والفضح والكشف شرط ضروري للإنعتاق من أغلال التحيز لكنه غير كاف، فالوعي بالباطل يتطلب أن يتلوه اجتنابه والسعي نحو البديل)(28).

إن هذا المبدأ يتوافق مع عدم نهي القرآن الكريم المسلمين عن الاستماع إلى مختلف الآراء والأفكار وإنما أكد على ضرورة تمحيصها ثم اختيار الأحسن. قال تعالى: ﴿فَبَشِر عِبَادِ الّذينَ يَسْتَمِعونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ (الزمر: 18).

3- الإنسان المتوازن في الحضارة الإسلامية

دأبت مدرسة التجديد الحضاري المعاصر منذ إقبال على تمسكها برؤية شاملة في عرضها لأزمة المسلم باعتبارها أزمة إنسانية عامة في جوهرها. يقول محمد إقبال (لقد آن الأوان للنظر في مبادئ الإسلام وأصوله، وإني لأعتزم في هذه المحاضرات أن أناقش مناقشة فلسفية بعض الأفكار الأساسية في الإسلام، على أمل أن يتيح لنا ذلك، على أقل تقدير فهم معنى الإسلام فهما صحيحا بوصفه رسالة للإنسانية كافة).

على أنه مما يثير العجب كما يذكر إقبال أن وحدة الشعور الإنساني وهي مركز الشخصية الإنسانية لم تكن قط موضع اهتمام جدي في تاريخ الفكر الإسلامي، وفلاسفة الإسلام استلهموا آراءهم فيها من الفكر اليوناني(29).

ثم يعمد إقبال إلى استلهام ذلك من القرآن الكريم مباشرة الذي يؤكد للنفس الإنسانية بأسلوبه البسيط حريتها وخلودها المفعم بالقوة، شخصية الإنسان وفرديته له استقلاله ومسئوليته يستحيل معها أن تزر وازرة وزر أخرى بل يقتضي أن كل امرئ بما كسب رهين، وهو الذي أدى إلى رفض القرآن لفكرة الفداء والخلاص عند المسيحية. ثم ذكر إقبال ما أقره القرآن للإنسان من مكانة تميزه عن باقي المخلوقات تتمثل فيما يلي:

– أن الإنسان قد اصطفاه الله ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ (طه: 122).

– أن الإنسان بالرغم من أخطائه جميعا، أريد به أن يكون خليفة الله في أرضه ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30)، ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ (الأنعام: 165).

أن الإنسان أمين على شخصية حرة أخذ تبعتها على عاتقه ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (الأحزاب: 72)(30).

لذلك ينتقد إقبال حركة الإصلاح الديني ويخص بالذكر جمال الدين الأفغاني بقوله ولو أن نشاطه الموزع والمكثف اقتصر كله على الإسلام بوصفه نظاما لعقيدة الإنسان وخلقه ومسلكه في الحياة لو أنه اقتصر على ذلك لكان العالم الإسلامي أقوى أساسا من الناحية العقلية مما هو عليه اليوم ولم يبق أمامنا من سبيل سوى أن نتناول المعرفة العصرية بنـزعة من الإجلال وفي روح من الاستقلال والبعد عن الهوى وأن نقدر تعاليم الإسلام في ضوء هذه المعرفة ولو أدى ذلك على مخالفة المتقدمين وهذا الذي اعتزم فعله(31).

والإنسان في فكر مالك بن نبي ليس الكم الذي تجري عليه الإحصائية والوزن، أي الشيء الذي تجري عليه المخبر وعمليات المصنع وحاجات الجيش وإنما هو الصفة التي قرنها الله بالتكريم في سلالة آدم.

هذا التكريم الذي حباه الله للإنسان ليس خاصا بالعربي المسلم بل يشمل ذرية آدم، التي تتبوأ مكانة راقية تفوق كل طبيعة كمية، وهنا يختلف الفكر الإسلامي عن الفكر اليهودي الذي ينتصر إلى نزعة الاختيار والتي أفضت إلى مقولة شعب الله المختار.

يستند مالك بن نبي في نظرته إلى القرآن الكريم الذي أفصح عن تكريم الإنسان وتفضيله على سائر المخلوقات، يقول مالك بن نبي: ( إن الإسلام يأتينا بهذا الضوء السماوي الذي يحوط الإنسان ويجعله محترما في عيني أخيه الإنسان، إنه يأتي بهذا السبب السامي الذي يفرض احترامه مهما كان لونه وجنسه وقوميته واعتقاده، وهو يضع لفلسفة الإنسان هذا الأساس الميتافيزيقي ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ فهذه الآية القرآنية تعطي للإنسان كل عظمته وكل بروزه وكل حجمه في الضمير الإسلامي، وإنما ينتج حجمه من هذا التكريم الأساسي، الذي لم يعد معه الإنسان نقطة صغيرة من المادة الحية نقطة صغيرة تافهة إذا قيست بمقاييس المادة تلك التي تعد الكرة الأرضية ذاتها نقطة في الفضاء).

وتبعا لما أولاه الإسلام من تكريم للإنسان وحديث القرآن عن سجود الملائكة لآدم، وإخراج إبليس من الجنة بسبب امتناعه عن السجود، واستنادا إلى ذلك دعا مالك بن نبي إلى بناء ثقافة إنسانية عالمية مستلهمة ذلك من مبادئ الإسلام السمحة.

يذكر مالك بن نبي بأن الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي كانت كريمة، حين تتلمذ عليها الفكر الإنساني دون ما قيد أو شرط كان العلم أمرا مباحا للراهب جربرت، وللكاهن ميمون على السواء، أما الحضارة الأوروبية الحديثة وجدناها تدل بعلمها على البلدان المتخلفة أو على الأصح البلدان التي صيرتها متخلفة بحيث لا يمكن أن ننسى فداحة الثمن الذي تكبده بعض مثقفينا المسلمين من الأشغال الشاقة والسجن المؤبد.

ويخلص مالك بن نبي إلى نتيجة حتمية أن الحديث عن إنسانية أوروبا لا يمثل إلا حديثا عن نزعة إنسانية صورية دون مضمون، إنسانية أوروبية في الداخل وإنسانية استعمارية في الخارج، وهذه الأخيرة قائمة على أقبح المعادلات السياسية وأشنعها، فالإنسان في عرفها مضروبا في المعامل الاستعماري يساوي مستعمرَا. وما على العالم الإسلامي إلا أن يبحث عن إلهام فلسفته الإنسانية فيما وراء حضارته العريقة(32).

ويذهب الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى نفس الرأي في النزوع الغربي نحو النظرة المادية في دراسة الإنسان التي تستبعد الإنسان المركب الرباني، وتستبعد أيضا مقدرته على تجاوز ذاته الطبيعية والطبيعة المادة، ليحل محله الإنسان الطبيعي المادي ذو البعد الواحد. ويدلل الأستاذ المسيري على أن هذه الفكرة المادية كان لها عظيم الأثر في الفلسفة الأوروبية ومتجسدة في الواقع وأسطع مثال على من جسدها على الواقع، هتلر حينما قال: (يجب أن نكون مثل الطبيعة والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة)، وهو قد تبع في ذلك كلا من داروين ونيتشه، وانطلق من واحد من أهم التقاليد الأساسية في الفلسفة الغربية(33).

إن الإنسان جوهر طبيعي مادي، فهولا يختلف، بشكل جوهري، عن الكائنات الطبيعية الأخرى، قد يكون سلوك الإنسان أكثر تركيبا من سلوك الكائنات الطبيعية الأخرى، ولكن الاختلاف بينه وبينها هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع، ولذا فالإنسان في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، هو وأفكاره وتاريخه وأشواقه وأحزانه، مجرد جزء من بناء فوقي وهمي يرد، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، إلى البناء المادي التحتي الحقيقي، الطبيعة والمادة وقوانينها(34).

ويستنتج هنا المسيري بأن الإنسان في الفكر الغربي لا يشكل مركز الثقل في الكون، فما هو إلا جزء عرضي فيه، و عليه أن يخضع لقوانينها وعدم الإفلات منها.

وبناء على ذلك فعقل الإنسان ليس له دور أو فعالية، فوجوده ليس ضروريا لحركة الكون بل إن العقل والخيال ومقدرة الإنسان على التجاوز والترميز والتجريد تشكل عوائق تقف في طريق محاولة الإنسان الركون للطبيعة والتجاوب معها والخضوع لحتميتها.

والعلوم الإنسانية في الغرب، كما يذكر المسيري، تدور معظمها حول مفهوم الإنسان الطبيعي، ولذا فهي تنظر إلى الإنسان باعتباره مجموعة من الوظائف البيولوجية والحقائق المادية، فالإنسان مجرد نظام طبيعي كغيره من النظم الطبيعية ويخضع بدوره للقواعد الحتمية الصلبة للطبيعة(35).

وبعد نقده اللاذع للنـزعة المادية يتحدث المسيري عن مُركَّب آخر لإنسان آخر غير طبيعي يحوي داخله عناصر ربانية غير مألوفة في الطبيعة المادية، وهذه العناصر تشكل جوهر الإنسان وعلامة على إنسانيته وتضعه في مكان أرقى من بقية الكائنات وتميزه كإنسان، فالإنسان غير الطبيعي، هو الإنسان الحق، أما الإنسان الطبيعي فهو الإنسان الذي لا يحوي جوهرا إنسانيا(36).

يخلص عبد الوهاب المسيري إلى نتيجة يفك بها هذا النـزاع في تكوين الإنسان، أن الإنسان تعتريه نزعتان: النـزعة الربانية الإنسانية والنـزعة الجينية، أما النـزعة الربانية الإنسانية فهي حين يرى الإنسان أنه يعيش في الطبيعة ولكن لا يرد في كليته لها ولا يمكن تفسيره في كليته من خلال مقولات مادية محضة أي أنه عكس الإنسان الطبيعي المادي فهو إنسان لا يذعن لحدود المادة رغم وجوده داخلها يتحرك في إطار المرجعية المتجاوزة، لسقف المادة وحدودها، ولذا توجد مسافة بينه وبين الطبيعة، فهو يعيش في عالم من الثنائيات التي لا يمكن تصفيتها، ولكنها ثنائيات فضفاضة فهو يتفاعل مع الخالق ومع الطبيعة، والإنسان الرباني أو الإنسان رباني لأنه يحوي داخله القبس الإلهي، فهو مستخلف من الإله الذي خلقه على صورته، وهو ما يجعله قادرا على تجاوز الطبيعة المادة وعلى تجاوز الجانب الطبيعي المادي في ذاته. وبسبب مقدرته على التجاوز ومقدرته على التفاعل يصبح الإنسان الرباني إنسانا متعدد الأبعاد حرا قادرا على اتخاذ قرارات أخلاقية. والإنسان الرباني له هوية محددة يكتسبها من خلال الحدود المفروضة عليها، ولكنه لا يتمركز حول ذاته، ففي إطار المرجعية المتجاوزة يمكنه تأكيد إنسانيته لا بالعودة إلى ذاته الضيقة الطبيعية وإنما بالإشارة إلى النقطة المرجعية المتجاوزة(37).

أما النـزعة الجينية فهي الرغبة في التخلص من الهوية والتركيبية والتعددية والخصوصية والإنسانية المشتركة والقيم الإنسانية والأخلاقية العالمية والحدود والزمان والمكان والمقدرة على التجاوز حتى يعود الإنسان إلى عالم الطفولة الساذجة الأولى والإنسان الطبيعي، بل إلى ما قبل الطفولة الأولى حينما كان جنينا، عالم سائل بسيط لا يملك حاجة للتجاوز إذ لا أبعاد له ولا توجد فيه كليات أو مطلقات أو ثوابت أنه عالم مادي خال من القداسة لا يعيد الإنسان فيه شيئا ولا حتى نفسه أي أنه عالم خال من الكليات الميتافيزقية والمادية ومن النزعات الدينية والإنسانية(38).

وهذا ما عبر عنه الأستاذ مالك بن نبي، فالمرحلة الأولى لنشأة الإنسان يكون الإنساني الطبيعي أو الفطري فإذا ما اعتنق الإنسان فكرة دينية فعالة أذعنت غرائز الإنسان الطبيعية إلى عملية شرطية Conditionnement.

وبرأي مالك بن نبي أن هذه العملية الشرطية ليس من مهمتها تعطيل الغرائز الفطرية ولكنها تتولى تنظيمها في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة الدينية. في هذه المرحلة يتحرر الإنسان جزئيا من هيمنة الطبيعة وقانونها المفطور في جسده، ويستجيب إلى المقتضيات الروحية التي طبعتها الفكرة الدينية في نفسه، ويستدل مالك بن نبي بنموذج لهذه الحالة التي يبلغ فيها الإنسان هذه المرحلة الروحية ممثلة في بلال بن رباح، فعند تعرضه لأنكل التعذيب كان يردد “أَحَد”، إن هذه العبارة لا تمثل نداء الغريزة فصوت الغريزة قد صمت ولكنه لا يمكن أن يكون قد ألغي بواسطة التعذيب، إنه نداء الروح التي تخلصت من قبضة الغريزة(39).

وبهذا يبدو الخطاب الإسلامي متكاملا يمس مجالات الإنسان الروحية والمادية ولا يقتصر على الحديث عن جانب وإلغاء جوانب أخرى، وقد كان لهذا الخطاب أثره البارز في إظهار أهمية الإسلام ومكانته.

نستخلص مما سبق أن خطابا إسلاميا متكاملا يمتاز بمنهجية عصرية بدأ يشق طريقه نحو مستقبل منشود يحمل معه صحوة حضارية، وإننا لضيق الوقت لم نستطع أن نحيط بكل جوانبه وحسبنا أننا عرجنا على أهم معالمه كما حفزنا للخوض في أغواره فيه لاحقا. وأخيرا يمكننا رصد بعض معالم باقتضاب ونعتقد أنها ميزت هذا الاتجاه وهي في حاجة إلى تسليط الضوء عليها في الدراسات القادمة بحول الله.

– مشكلة المجتمع الإسلامي مشكلة حضارية مست شتى الجوانب الدينية والسياسية والاقتصادية ونحوها.

– مشكلة المجتمع الإسلامي الحضارية مع جسامتها لكنها ليست مستعصية على الحل، وهي فقط في أمس الحاجة إلى مفكرين على مستوى الفلاسفة الموسوعيين أصحاب المشاريع بنظرتهم العميقة إلى جوهر المشكلة، فالمرض استشرى واستفحل، هؤلاء المفكرون المسلمون ينبغي أن يكونوا من صنف الفلاسفة فهم الذين بإمكانهم أن ينظروا لمشكلات المجتمع الإسلامي في إطار الواقع العالمي الذي يحيط بمجتمعهم، كذلك فإنهم هم الذين يستطيعون أن ينظروا إلى المشكلة في إطارها العام والشامل، وتفصيلاتها الفرعية، ويحددوا بدقة منبعها الأصلي.

– ينبغي التأكيد على أن هذا الاتجاه الحضاري في الفكر الإسلامي المعاصر ليس من شأنه أن يلغي جهود حركات النهضة في العالم الإسلامي فهو يقف إلى جانبهم في خندق واحد، ولكن عملية النقد هي انتصار لقضية الإسلام مصداقا لما ورد في الأثر: “من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد”. لذلك لا ينبغي أن ننتظر من هؤلاء المفكرين أو الفلاسفة مفاتيح سحرية يفكون بها المغلقات، فحسبهم أن يكشفوا أصل الداء ويشخصوا أعراضه، ويحذروا من مخاطره على المدى القريب والبعيد، وهنا يبرز دور العلماء المتخصصين لكي يدلي كل منهم بدلوه في الجانب الذي هو متخصص فيه.

– ضرورة تحديد مشكلاتنا الحضارية وأنها وليدة البيئة التي نحيا فيها لذلك لا ينبغي استيراد مشاكل غيرنا ثم نتبناها.

– البديل الإسلامي الذي تتطلع إليه مدرسة التجديد الحضاري ليس مجرد شعارات براقة خالية من أي مضمون وإنما فكر عميق، ومن الطريف كما يذكر المسيري في بعض لقاءاته إن الحداثة بالنسبة للبعض هي الحداثة الغربية بعد أن تكتب عليها “بسم الله الرحمن الرحيم”. وكأن المسألة بالنسبة لهؤلاء تقتصر في فصل بين الجنسين وحجاب المرأة. وبعد ذلك لا مانع أن تدخل الحداثة الغربية بكل إمكانياتها.

وفي الأخير ينبغي التأكيد أن التجديد الحضاري في الفكر الإسلامي المعاصر يتولى مسئولية في غاية الأهمية يتمثل في انتشال الأمة من وضعها المتأزم إلى الشهود الحضاري في عالم أضحت التقسيمات الجغرافية مبنية على أساس ديني وحضاري.

 

الهوامش

(1) محمد خروبات، الفكر الإسلامي المعاصر، دراسة في التدافع الحضاري (مراكش، ط2، 1998م) ص14 .

(2) محمد الغزالي، ليس من الإسلام (القاهرة: مكتبة وهبة، ط6، 1993) ص137.

(3) أبو الأعلى المودودي، موجز تاريخ تحرير الدين وإحيائه وواقع المسلمين وسبيل النهوض بهم، (الجزائر: باتنة، دار الشهاب)، ص16 .

(4) منير شفيق، الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات، (دار القلم، الكويت، ط2، 1993) ص35، 36 .

(5) محمد مبارك، المجتمع الإسلامي المعاصر، (دار الفكر بيروت، لبنان) ص106.

(6) مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، (ترجمة: عمر كامل مسقاوي، دمشق: دار الفكر للطباعة، ط1، 1988) ص128.

(7) عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، (مكتبة الشروق الدولية، يناير 2006، ط1)، ص 413.

(8) محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، تعريب: عباس محمود، (ط1985، آسيا بيروت)، ص7 .

(9) مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عبد الصبور شاهين دمشق: دار الفكر 1985 ص19-20.

(10) مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ص128.

(11) جودت سعيد، مذهب ابن آدم الأول، ص14،15.

(12) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص138.

(13) موس لحرش، مالك بن نبي: حياته ونتاجه الفكري (مجلة مالك بن نبي، جامعة الأمير عبد القادر قسنطينة الجزائر، جويلية، 2006) ص16- 40.

(14) مالك بن نبي، مذكرات شاهد القرن بيروت: ط1،1970 ص 12.

(15) المرجع نفسه ص12- 109.

(16) عبد القادر بوحلوفة، منهج المسيري في نقد اليهودية ج 5 من الموسوعة رسالة ماجستير، 2005 جامعة الأمير، نقلا عن رحلتي الفكرية للمسيري ص105- 390 .

(17) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص141.

(18) المسيري، دراسات معرفية، ص35 .

(19) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص141.

(20) المسيري، دراسات معرفية، ص35 .

(21) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، 137.

(22) المرجع نفسه، ص147.

(23) مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص102.

(24) المرجع نفسه، ص18.

(25) دراسات معرفية، ص 86.-87.

(26) تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص 14.

(27) المرجع نفسه ص 147.

(28) إشكالية التحيز، العلوم الطبيعية مقدمة المسيري، ج9، المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1998، ص9.

(29) تجديد التفكير الديني في الإسلام ص 109.

(30) المرجع نفسه، ص109.

(31) المرجع نفسه، ص 111، 112.

(32) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص137.

(33) المسيري، دراسات معرفية، ص 17.

(34) المرجع نفسه، ص 18.

(35) المرجع نفسه، ص 19- 20.

(36) المرجع نفسه، ص 22.

(37) المرجع نفسه، ص 22.

(38) المرجع نفسه، ص 23.

(39) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 67- 68.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر