أبحاث

حاجاتنا إلى علوم المستقبل

العدد 61

(1)

مدخل

 

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون }

(سورة الحشر : 18 – 20)

في علوم الإدارة والتخطيط, هناك عدة أنماط للتدبير والتسيير, (1) أبرزها نمطان :

  • الإدارة بالأهداف.
  • والإدارة بالكوارث.

والذين درسوا فنون الإدارة المتقدمة أو الإدارة العليا, يعرفون ما يعنيه نظرياً وعملياً مفهوما هذين النمطين. إلا أنه يمكن تلخيص الشرح فيما يلي :

  • الإدارة بالأهداف تحتاج إلى كمال التنظيم, وإلى تحديد ماهية العمل الذي ستقوم به مرافق التنظيم على ضوء الأهداف المحددة التي من أجلها تم إنشاء وإرساء التنظيم نفسه, والأهداف هي الأساس الذي يقوم عليه التخطيط, أما التنفيذ فيتم وَفق برامج تستخلص من التخطيط, وتقارن نتائجها حين الإنجاز بتحقيق الأهداف المنشودة والمحددة.

فاختصاراً, الإدارة بالأهداف هي أسلوب التدبير الذي يمكن من وضع, مخطط واضح المعالم, متجانس مع الواقع, يسعى إلى بلوغ أهداف محددة, تتفرع منه برامج يتم تنفيذها على ضوء الأهداف والوسائل المادية والبشرية المتاحة, وتتم مراقبة إنجازها حسب معايير المخطَّط وبعدها أو قربها من الأهداف التي يصبو التنظيم إلى التوصل إليها. ويسمى هذا الأسلوب حين تستنفر له الوسائل ويحدد له الحد الأدنى المفروض الوصول إليه في إنجازه بالاستراتيجية, وينبعث حين يشمل القطاعات الفاعلة في المجتمع بأجمعها بالتخطيط الشامل (2).

  • النمط الثاني من أنماط الإدارة والتدبير هو الإدارة بالكوارث, وهو نمط ينطبق على تنظيم مختل النظام, منعدم التخطيط, أو تمت صياغة التخطيط فيه دون بلورة الأهداف, أو بعيداً عن الإمكانيات والوسائل المتاحة, أو لم ترصد له ميزانية, أو صبغت ميزانيته على ضوء أهداف غير قارة تتغير حسب الزمان ومزاج السلطان, سواء كان سلطان المال في الإدارة أو سلطان القرار. وتنظيم كهذا ينشغل بالجزئيات وتغيب عنه الكليات, يتقوقع في تفاصيل التخطيط وتغيب عنه الأهداف التي ألزم نفسه بتحقيقها, مجتراً معه في كل أمر مشاكل الماضي, غير مبال بمتطلبات الحاضر, وغير مكترث لما قد يحمله المستقبل, فلا يستيقظ من سباته أو يكاد إلا بالكارثة, فإذا حلت به استنفر جميع قواه وبدد جميع طاقاته, وأخل بجميع واجباته في سبيل تطويق الكارثة, فإذا ما خلص منها أو كاد, ترتبت على آثارها مشاكل أخرى يجترها من جديد ويضخمها دون تحليل لدوافعها, إلى أن ينسيه عن التفكير فيها كارثةٌ أو كوارث أخرى, وهكذا دواليك.

والمهم عندنا في هذا البحث هو الإدارة بالأهداف, ذلك التنظيم السليم الذي يحدد مساره ويستشرف مستقبله بتحدي الأهداف العملية التي يسعى لتحقيقها, وبلورة التخطيط متعدد السنوات المصاغ لبلوغها, ويعمل على ترجمة التخطيط إلى برامج زمنية يتم إنجازها حسب الإمكانيات المتوفرة والميزانيات المرصدة.

وبلورة الأهداف وصياغة التخطيط وتحديد المسار اللازم نهجه لإنجاز ذلك التخطيط وبلوغ تلك الأهداف هو ما يسمى في قاموس العلوم المعاصرة ” سياسة ” وبالتالي فإن مفهوم الإدارة بالأهداف يشمل جميع الميادين سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو العلمية أو الثقافية أو التربية أو السياسية أو غيرها, ولا يقتصر تطبيقه على المؤسسات أو الإدارات, بل يشمل جميع النظم من دولة وحكومات وهيئات ومنظمات إقليمية كانت أو دولية.

وإذا تكلمنا على صعيد الأمة أو على صعيد الدولة, فإننا حين نرسم الأهداف ونمضي في إنجاز التخطيط, فإننا في عمليتنا هذه إنما نبني حضارة أو نشارك في بناء حضارة, والحضارة عبارة عن انتاج مادي متعدد الجبهات سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتربوياً (3), وهي في كل مراحلها مسبوقة بفكر. فإن كان فكراً ناضجاً ومذدهراً كانت حضارة زاهرة ومشرقة, وإن كان فكر متقوقعاً ومنكمشاً كانت حضارة منزوية ومنكمشة.

والفكر مسرح (4) تتجلى فيه كل أشكال المعرفة, يسمو بسمو مصدره ونبل مقاصده. وعندنا نحن أهل الإسلام, يُبعث الفكر الإسلامي عندما يكون مصدراه الوحي والكون, ويكون مقصداه وهدفاه العلم والعدل, فالوحي يجلي ما لا يستطيع إدراكه الإنسان بملكات عقله دون تبليغ من لدن خالقه ومدير شؤونه, والكون كتاب مفتوح يخضع لسنن قدرها الخلاق, وجعل اكتشافها في مستطاع المخلوق.

والعدل قوام الحياة وبه ترقى الحضارات وبزواله تزول, والعلم لبه وروحه, فإن غاب غابت القراءة المستنيرة في المصدرين الأساسين : كتاب الوحي وكتاب الكون, واستحال الوصول للمقصد الأسني – بعد عبادة الله, وللتمكن من عبادته – وهو العدل, وبهذا المفهوم يكون الفكر السليم – وهو الفكر الإسلامي – عبارة عن مسرح تتجلى فيه أشكال المعرفة, المنطلقة والمستوحاة من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مستنيرة بنوامس الكون وسنن الخلق, الهادفة إلى تحرير الإنسان من عبودية الإنسان وداعية إلى عبادة الواحد الديان بنشر العلم وإقامة العدل.

وأشكال المعرفة حين تتجلى في مسرح الفكر لا تجعل منه فكراً إلا عندما تمتاز بحركتها وإشعاع طاقاتها, أما إذا كانت جامدة محنطة فهي لا تشكل فكراً بقدر ما تشكل تركيباً لتعابير وكلمات تسعى لكي تصبح جزءاً من تراث. وحركتها نابعة من توالد وصناعة الأفكار فيها, ثم ثقلها حسب المكان والزمان, بالمفهوم الفلسفي لهذين المصطلحين, ثم إن ذلك لا يتأتى إلا بالحرية والنقد, فإن غاب أحدهما خَفَت نبض الفكر وسكت قلبه.

والفكر شبه كائن حي يتأثر بما حوله فيرد هجومات ويقتبس إيجابيات, فإن ضعف بضعف في النقد أو انعدام في الحرية تمكن الفكر المهاجم من التسرب إليه, واختلت موازين صناعة الأفكار وكثر الاجترار والتكرار.

والترويض على صناعة الأفكار والتدريب على الغوص في بحور المعرفة, والعمل على تمثل هذه المعرفة على صعيد الأخلاق والسلوك والمعاملة, بغية نشر العلم وتحقيق العدل, هو ما يسمى تربية. فالتربية تأهيل لصناعة الأفكار, وتنمية للإبداع, قوامها استلهام المعارف, وترسيخ القيم, وتطوير العلوم, وبلورة المفاهيم, بهدف نفع وخدمة الإنسان, واكتشاف محيط الإنسان, لعبادة رب الإنسان.

وصناعة الأفكار كما قلنا لا تمون اجتراراً ولا تكون تكراراً, بل تكون صناعة حينما يكون المناخ مناخ حرية, وحينما يكون الجو جو نقد بناء, جو نقد مفيد, نقد يثري الأفكار, ويطور العلوم, ويسعى إلى تحقيق الهدفين الأساسيين اللذين هما نشر العلم وإقامة العدل.

ونستخلص من هذا المدخل أو هنالك ترابطاً بين هذه التعاريف بين الإدارة بالأهداف والحضارة المتقدمة, والفكر السليم والتربية الراسخة, وبين الإدارة بالكوارث وانعدام الحضارة, والفكر العقيم والتربية المجترة, أو المتكررة, أو المنقولة, أو المتخلفة, وهذا يجرنا في آخر المدخل إلى الكلام عن المتخلف والمتقدم.

فالمتقدم يمتاز بصناعة الأفكار وهو في صناعتها لديه المادة الخام, ولديه الآليات, ولديه السوق التي ينشر فيها البضاعة التي هي الفكر والحضارة. ولديه تصور لتطور ذلك الفكر, وإدراك لبواعث تلك الحضارة, تصور للعقبات, وإدراك للمتطلبات, وعلم بالتحديات التي يملي مواجهتها ذلك الفكر, ويشترطها ازدهار تلك الحضارة, فإذاً لديه المعلومات عن ماضيه, ولديه المعلومات عن الواقع الذي يعيشه, ولديه المعلومات عن المستقبل الذي يصبو إليه.

والمتخلف بطبعه يركن دوماً إلى تقليد نموذج جاهز, فهو غارق في التقليد لانعدام تبلور الأفكار لديه, لا يستطيع أن يمارس غير عملية النقل, فيركن إما إلى نموذجٍ سَلَفَ, يحتمي به ويفر إليه من واقعه, وإما يسرق من أسياده الأفكار, ويخضع لقوتهم وسلطتهم, فيصبح بذلك متقوقع الفكر, مسلوب القدرة, منعدم الشهود الحضاري, لا يستطيع تفهُّم الماضي, ولا تفهُّم حركة التاريخ, لا يستطيع الغوص في قضايا الواقع, ولا حتى مجرد التخمين فيما يمكن أن يكون عليه المستقبل, مستقبله ومستقبل مجتمعه ومستقبل أمته.

وننوي في حديثنا هذا التطرق لعلوم المستقبل للتعريف بها, وحث العاملين في الحقل الإسلامي على بلورتها والعمل على ضوئها, وصياغة الاستراتيجيات والخطط استنارة بنتائجها, بل صياغة نموذج مستقبلي, يخضع لخاصيات المجتمع الإسلامي ويستجيب لحاجياته, لا ندَّعي الآن أن بإمكاننا بلورته, بل نحث المهتمين من علماء ورياضيين واقتصاديين على الانكباب على الابتكار في هذا المجال, وأن لا نترك الآخر يفسر لنا الماضي, ويحدد لنا الواقع, ويشكل لنا بدائل المستقبل !

الهوامش

 

  • الأساليب والأنماط الإدارية المشهورة في ميدان التدبير والتسيير هي :
  • الأنماط الإيجابية :
  • الإدارة بالأهداف ( نمط مشهور تحت لفظ : Management By Objectives : MBO ) .
  • الإدارة بالأهداف والنتائج ( نمط مشهور تحت لفظ : Management By Objectives And Results : MBOR ).
  • الإدارة بالاستثناء ( نمط مشهور تحت لفظ : Management By Exception : MBE ) .
  • الإدارة بالتفويض ( نمط مشهور تحت لفظ : Management By Delegation : MBD ) .
  • الأنماط السلبية :

** الإدارة بالكوارث ( نمط مشهور تحت لفظ : Management By Catastrophes : MBC ).

الإدارة برد الفعل ( نمط مشهور تحت لفظ Management By Reactions : MBR وهذا النمط الأخير من الإدارة يختلف عن إدارة الأزمات التي تُعنى بعملية اتخاذ قرارات سريعة في مواجهة موقف طارئ تحت ثلاثة ضغوط حادة وهي : ضيق الوقت, التهديد باستخدام القوة والعنف, عدم توفر المعلومات الكافية للتوصل إلى حل أو تسوية, وهو مفهوم من الإدارة معمول به خاصة في ميدان العلاقات الدولية ( انظر د. السيد عليوة : إدارة الصراعات الدولية, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1988  ص403 – 425 ).

ولقد انشغلت المؤسسات العامة الأمريكية بفلسفة الإدارة بالأهداف في الثلاثينات من هذا القرن, إلا أن التعبير لم يعد شائعاً إلا بعد نشر بيتر دراكار Pter Drucker  لكتابه المعروف ” الأداء الإداري Pratice of Management  ” في سنة 1954, لكن الفضل يرجع لجورج أوديون G. Odione , وجون همبل John Humble  المستشار البريطاني في بلورة هذا النمط وتنوير الأمريكيين بنتائجه وأبحاثه.

وفي منتصف السبعينات, أصبحت فلسفة الإدارة بالأهداف محط أنظار مجموعة من المديرين خريجي جامعة هافارد لاعتقادهم أن من شأنها أن تبلور استراتيجيات أفضل, وتساعد على الوصول إلى قرارات أحسن, وتقلل من الروتين, وتزيد من الدوافع, وتضاعف قدرة الإداري على إحكام الرقابة في التنظيم ( انظر في هذا الصدد ” الإدارة بالأهداف والنتائج ” الإدارة بالأهداف والنتائج ” للدكتور فيصل فخري مرار – المنظمة العربية الإدارية, عمان – الأردن 1981, ص 23- 24 ) وكذا ” الإدارة بالأهداف والنتائج” للدكتور سيد الهواري, القاهرة, مكتبة عين شمس, الطبعة الأولى 1976, وخاصة كتاب ( Management By Objectives in action للأستاذ جون هامبل John Humble ” 1971, وكذلك عديداً من أعداد مجلة العلوم الإدارية التي تصدرها المنظمة العربية للعلوم الإدارية.

والتعريف الذي قدمناه هو تعريف عام. وقد تجنبنا فيه العرض الأكاديمي للمفهوم المتداول لنمط الإدارة بالأهداف والخوض في مركباته الخمس :

تحديد الأهداف, الخطط, التوجيه, الرقابة, التغذية العائدة.

ويرجع لذلك في مظانه لمن أراد مزيداً.

  • كلمة ” استراتيجية ” ليست عربية, وإنما هي اللفظ المعرب لكلمة stategie الفرنسية أو stategy الإنجليزية. وأصلها في هاتين اللغتين من الكلمة اللاتينية strategos من stratus  وهو الجيش, وفعل agein  بمعنى قادة, وبهذا تكون كلمة straegos  هي قائد الجيش, و strategia هي فن قيادة الجيش, أو فن قيادة الحروب, ثم اتسع المصطلح خارج الإطار العسكري ليصبح دالاً على البراعة في التخطيط أو التدبير في جميع المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والإعلامية.

أما مفهوم التخطيط الشامل  والذي أضحى موازياً للمفهوم المتسع الذي أصبح يحتله مصطلح الاستراتيجية فهو يعني التخطيط لكل الموارد الاقتصادية والبشرية لتحقيق أهداف الدولة العليا إلا أن الاستراتيجية تمتاز بكونها ليست برنامجاً ولا خطة بل أسلوب عمل, ومنهجاً وسياسة.

  • الحضارة لغة تقابل البداوة, ولها عند كل قوم طابع يميزها وروح يسري فيها, ناتج عن تصورهم للوجود والكون والحياة والقيم, ولعل أهم من أبدع في دراسة مفهومها ومشاكلها المعاصرة المفكر الإسلامي مالك بن نبي رحمه الله (انظر سلسلة مشكلات الحضارة – ندوة مالك بن نبي رحمه الله ( انظر سلسلة مشكلات الحضارة – ندوة مالك بن نبي الصادرة عن دار الفكر ( ميلاد المجتمع, شروط النهضة, مشكلة الثقافة, الصراع الفكري, تأملات, وجهة العالم الإسلامي, المسلم في عالم الاقتصاد, بين الرشاد والتيه, الظاهرة القرآنية, مشكلة الأفكار, حديث في البناء الجديد في مهب المعركة, مستقبل الإسلام … ) واستمرت مدرسته الحضارية في الإنتاج واتسعت, وما زالت تتسع, بشكل ساهم في إخصاب الفكر الإسلامي المعاصر إخصاباً ثرياً ( انظر مثلاً ” ثغرة في الطريق المسدود : دراسة في البحث الحضاري ” للدكتور سيد دسوقي حسن والدكتور محمود محمد سفر, سلسلة آفاق الغد, القاهرة, الطبعة الأولى 1981, و” مقدمات في البعث الحضاري ” للدكتور سيد دسوقي حسن, دار القلم, الكويت, الطبعة الأولى 1987, والحضارة تحد ” للدكتور محمود محمد سفر, جدة, تهامة 1400 ه, و ” دراسة في البناء الحضاري : محنة المسلم مع حضارة عصره “, سلسلة كتاب الأمة عدد 1, الدوحة, الطبعة الأولى : رجب 1409 ه, و ” المسلمون والبديل الحضاري ” للدكتور طه جابر فياض العلواني, رابطة الشباب المسلم العربي, سلسلة البحوث والدراسات الطبعة الأولى 1988 ). وللتوسع في موضوع الحضارة, يمكن مراجعة الكتاب الافتتاحي لسلسلة ” عالم المعرفة ” الكويتية, للدكتور حسين مؤنس بعنوان “الحضارة”, يناير 1978.

ولقد أشرنا إلى هذه العناوين لتوجيه الراغب في المزيد من الدراسة والتنقيب عن أبحاث ودراسات لها وزنها وقيمتها في المجال العلمي.

  • كلمة مسرح هنا ليست مستعملة بمعنى منصة أو تقديم لفن التمثيل المعاصر, بل بمفهومها العربي القديم أي مرعى المسرح, وهو الموضع الذي تسرح إليه الماشية للغداة بالرعي (انظر “لسان العرب, لابن منظور دار صادر, بيروت, المجلد 2 ص478 ), وبهذا التحديد يكون الفكر غير وعاء المعرفة, بل هو الأرض الخصبة والبِنَى التحتية التي منها وبها تنتج المعرفة وتنضج ثمارها. وينطبق ذلك مع ما ذهبنا إليه من ضرورة النهل من المصدرين الأساسين : الوحي والكون, فهما الغيث والسمد لهذا المسرح كي تثمر فيه الأفكار وتزهر فيه ألوان المعرفة, وتحصل فيه ومن خلاله عمليات التدبر والتذكر المطالب بها الإنسان العاقل, والمتأمل لما جاء في صيغ فعل فكر في القرآن الكريم, يجد أنه استعمل بصيغة الماضي حيناً, والمضارع حينا آخر, تنبيهاً للوظيفة العملية للفكر, ودعوة إلهية مستوحاة للابتعاد عن الخوض في متاهات الفكر المجرد.

 

(2)

حديث حول المفهوم

     لقد تعددت المصطلحات حديثاً عند الخبراء العرب للدلالة على فن دراسة المستقبل, شأنه شأن العديد من الفنون والعلوم الوافدة من الغرب أو المنقولة عنه, أو تلك التي كان لنا فيها باع, قبل جفاف فكرنا دهراً طويلاً, ولم ننتبه لها إلا بعد اهتمام غيرنا بها ثم بلورته وتطويره لها .. طَبْعُ المتخلف الذي ذكرناه أنفاً, وهوايته لممارسة التقليد, فراراً من مواجهة معضلات الواقع بمسؤلية واعية صبورة صلبة, إدباراً جهة الماضي الحنين, أو استلاماً لزحف الغواة الوافدين, وأصبحت فنون الإعداد للغد تنعت بأسماء عدة : استشراف المستقبل, التنبؤ بالمستقبل, صور المستقبل البديلة ” التخطيط المستقبلي, عالم الغد, وهلم جرا .. إلا أن تزايد الدراسات والبحوث عربياً – ولو ببطء – في هذا الميدان, جعل المصطلحات الثلاثة : استشراف المستقبل, المستقبلية, وعلوم المستقبل, أكثر انتشاراً واستعمالاً من غيرها. وإن كان المصطلح الأول يكاد يكون سائداً اليوم في مختلف الأدبيات والأبحاث والدراسات التي تناولت بالدراسة والتحليل آفاق المستقبل في العالم العربي.

وجاء هذا التعدد في التسمية لتنوع الألفاظ الأجنبية الدالة على هذا العلم عند أهله فالناطقون بالإنجليزية يستعملون المصطلحات التالية : (Futurology) وترجم بالمستقبلية أو علم المستقبل, ( Discipline of studying the future )  وترجم بعلم دراسة المستقبل و (futurism)  وهو مصطلح استعمله العالم الأمريكي ألفين توفلر (Alvin Toffler)  (1) في كتابه الشهير ” صدمة المستقبل ” (2) إلا أن هذا المصطلح يختلف مدلوله المتداول عن مدلول مصطلح (Futurology)  لأن الأخير يرمز إلى علم المستقبل بيد أن الأول في الاصطلاح الجمالي, يدل على حركة فنية واتجاه فني مفرط في معاداته لكل ما هو تقليدي مألوف, يؤمن بالمادة ويرى فيها طاقة الحياة, يُعتبر عند أهل الاختصاص اتجاهاً نقيضاً للتعبيرية في الأدب والفن, وعدواً للمدرسة الطبيعية, ظهر في بداية القرن الحالي على يد الإيطالي مارينتي Marinetti (1944 – 1876)  في مدينة ميلانو, واندمج لنزعته الانقلابية مع الفاشية التي كان يقودها في ايطاليا موسوليني, حيث أصبح هذا الاتجاه الفني عام 1920 جزءا من الإيديولوجيا الرسمية لإيطاليا الفاشية, واعتبره نقاد الفن بأنه تعبير عن أزمة القيم التي تميزت بها المدرسة الرمزية. وفي اللغة العربية ترجم المصطلحان المشار إليهما بلفظ ومصطلح واحد : “المستقبلية” مع أن الاتجاه الفني الذي يرمز المصطلح إليه يرفض المستقبل, ويعبد السرعة والآلة, ويمجد الروح الوطنية ونزعة الحرب. (3).

أما الناطقون بالفرنسية فيستعملون مصطلح (Futurologie)  (4) وهو قليل التداول عند المهتمين بالدراسات المستقبلية ويقابل مصطلح (Futurololgy)  عند الإنجليز, وترجم كما قلنا بعلم المستقبل أو المستقبلية ومصطلح (Prospective)  الذي ابتدعه رائد علم المستقبل بفرنسا غاستون برجر (Gaston Berger)  وهو المصطلح الشائع في اللغة الفرنسية, مشتق من فعل (Prospecter) أي نقب وفحص بتدقيق وانتظام وفاعله (Prospecteur)  أي منقب ومكتشف ومن هنا كان مصطلح “الاستشراف” العربي أقرب إلى التعبير الفرنسي, لأن العرب تقول “استشرف الشاه أي تفقدها ليأخذها سالمة من العيوب “(5) وتلك هي خلاصة عملية التنقيب والاستكشاف.

ونحن نميل إلى الذين عبروا عن هذا الفن بمفهوم ” استشراف المستقبل ” لما تحمله لفظه الاستشراق من دلالة عريقة في لغة العرب, تعبر كما سنرى في الفقرة التالية أحسن تعبير عن المراد فعلاً من اكتشاف آفاق المستقبل, والتطلع لسبر أغواره.

وحتى نجلي بوضوح دلالة مفهوم ” استشراف المستقبل ” نورد التوضيح اللغوي والاصطلاحي التالي :

الاستشراف في لغة العرب تحديد النظر إلى الشئ بشكل يجعل الناظر أقوى على إدراكه واستبيانه, كأن يبسط الكف فوق الحاجب كالمستظل من الشمس, أو ينظر إليه من شرفه أو مكان مرتفع, أو يمد عنقه ويسدد بصره نحوه, كل ذلك يفعله للإحاطة بشكل الشئ والتدقيق في ماهيته.

يقول صاحب ” اللسان ” : ” وتشرف الشئ واستشرفه : وضع يده على حاجبه كالذي يستظل من الشمس حتى يبصره ويستبينه, ومنه قول ابن مطير : (6).

فيا عجبا للناس يستشرفونني      كأن لم يروا بعدي محباً ولا قبلي

     وفي حديث أبي طلحة رضي الله عنه : أنه كان حسن الرمي. فكان إذا رمى اشتشرفه النبي صلى الله عليه وسلم, لينظر مواقع نبله, أي يحقق نظره ويطلع عليه, والاستشراف أن تضع يدك على حاجبك وتنظر, وأصله من الشرف العلو, كأنه ينظر إليه من موضع مرتفع فيكون أكثر لإدراكه “. (7).

وذكر صاحب ” المحيط ” : ” واستشرف الشئ ” رفع بصره إليه وبسط كفه فوق حاجبه كالمستظل من الشمس ” (8).

ونضيف أنه قد رفع بصره إليه لينظر إليه نظرة متفحصة حتى يحيط به ويستبينه, وبسط كفه فوق حاجبه ليتجنب أي شعاع ضوئي يشوش على رؤيته حتى يكون نظره حديداً وصورة ما ينظر إليه أوضح له.

ومن هنا كان استشراف المستقبل, هو النظر إلى الزمن القادم ببصر حديد ونظر ثاقب, بغية تصور الواقع المقبل, انطلاقاً من شرفة الواقع الحاضر, واستيعاباً لعبر الواقع الراحل.

ورغم أننا نميل إلى الاستمساك باسم لعلوم المستقبل تضرب جذوره اللغوية في لغة العرب الأوائل, فإننا لا نسعى إلى نهج أسلوب إسقاط التعابير المعاصرة على مفردات تراثنا اللغوي, ولن نحاول عبثاً تحميل التاريخ ما لا يتحمل, وندخل على التراث ما ليس فيه, فنتصنع أصولاً إسلامية أو تراثية لعلوم المستقبل الحديثة, أو نختذل نصوصاً للبرهنة على سبق العرب والمسلمين في ميدان الاهتمام بالمستقبل فذلك أمر إن كان يؤيده كوننا أمة مأمورة وحياً بالإعداد والتقديم للغد, وهو أمر صريح للاهتمام بالمستقبل, فإن غفلتنا المزمنة عن هذا الإعداد ترمي إلى الدلالة على العكس.

فكون الآيات القرآنية والأحاديث النبوية نصت وطلبت من المسلمين العمل على الاهتمام بمستقبلهم الدنيوي لكسب مستقبل أخرون, وحثهم على إحكام العدة, وإتقان التطلع, فإن ذلك لا يكفي للدلالة على سبق المسلمين في ميدان العلوم المستقبلية, علماً بأن الأمم السابقة من أهل الكتاب, أمرت بنفس الإعداد والاستعداد.

ولا يعني قولنا هذا أن المسلمين الأوائل كانوا فاقدي الحس المستقبلي, أو منعدمي التخطيط البعيد المدى ! بل على العكس, كان إيمانهم الساطع ويقينهم التام في مستقبلهم بين يدي الله عز وجل خير حافز لهم لتخطي العقبات, ومواجهة التحديات, والعمل لصالح قومهم, والأجيال المقبلة, حتى أنهم لم يروا المستقبل في أنفسهم بل رأوه في أبنائهم وأبناء من يدخلون دين الله أفواجاً, أبناء التواقين للحرية والانعتاق من جبروت الطغاة, فهجروا ديارهم وضحوا بدنياهم, في سبيل دينهم, لكي يعيش الخلف في رغد من العيش, وحرية في الدين, تضمن حياته ومستقبله ومستقبل دينه.

ثم إن الاهتمام بالمستقبل منذ القدم أمر لا تنفرد به الشعوب المسلمة, فنحن لن نطيل الحديث للتدليل على أن العناية بالمستقبل ليست بالشئ الجديد ولا الغريب على الإنسان, أي إنسان, في أي وقت وفي أي زمان, لأننا لا نستطيع سلخ هذا الإنسان عن الزمن فحياته خارج إطار الزمن لا معنى لها, وبدون تداول الليل والنهار وتقلب الفترات لن يجد هذا الإنسان طعماً للحياة, ولن يستطيع بدون إحساسه بعجلة الزمن أن يستسيغ العيش أو أن يحس برغبة في العمل!

وإذا كانت حياة الإنسان عبارة عن حركة مستمرة قُدماً نحو الأمام على درب الزمن, فإن اللحظة التي يعيشها, والواقع الذي يحياه؛ إنما هو نقطة عابرة على ذلك الدرب تمتاز عن سابقاتها بوجود رجليه فوقها في اللحظة التي تناسبها من ذلك الزمن! لحظة يمتطيها الإنسان في الحاضر مستخرجاً لها من منجم المستقبل, ومُودعاً إياها في خزائن الماضي بشكل إجباري, سواء أحس بذلك الاستخراج, وتلك المطية, وذلك التخزين, أم لم يحس بأي من هذه العمليات أو جميعها.

فالمستقبل واقع مقبل, وتاريخ مقبل أيضاً, ولهذا ما زال الجدل قائماً بين الخبراء في علوم المستقبل حول تصنيفه؛ هل يصنف ضمن علوم الاجتماع, أم ضمن علوم الاجتماع التاريخي؟ وليس المهم عندنا تصنيف هذا الفن في هذا الميدان من العلوم أو ذاك, فهو أميل إلى أن يكون فرعا من علوم الاجتماع أكثر منه إلى علوم الاجتماع التاريخي, لكون هذا الأخير ” يؤكد التنبؤات الظنية بالنسبة للماضي ” مع أن ” علم المستقبل يقتصر على التطورات المستقبلية الفعلية, ويستهدف تعيين مدى الاحتمال الرياضي لوقوعها أو قابليتها للتصديق ” (9) وما نستطيع الجزم به الآن هو أن علم المستقبل ليس من العلوم البحتة التي تعتمد تحليلاً يوصل إلى نتائج نهائية.

كما أن المهم عندنا ليس المستقبل كزمن مجرد, فإنما هو في ذلك التجريد حركة دائمة لها مفعول الاستمرار, مستقلة تمام الاستقلال عن الإنسان وإرادته, فسواء أحس الإنسان بالوقت أم لم يحس به, أو أدرك تداول الليل والنهار أم لم يدركه, فإن الوقت يجري ويمضي لا مستقر له. ولكن المهم الوعي بالمستقبل كواقع قادم, بغية استكشاف كنهه, بل والتحكم في شكله.

فالطفل الصغير لا يدرك بعدأً للزمن, ولا يحس بمرور الوقت, لا يعي ماضيا ولا يكترث بمستقبل, رغم مشاركته طوعاً أو كرهاً بني جنسه في رحلتهم الزمنية عبر دروب المستقبل لكن بمجرد أن يبدأ هذا الطفل وهو في حركته الدائمة تلك يعي مجراه الحياتي, منتبهاً إلى كونه ترك وراء ظهره ماضياً يحتاج إلى استيعاب, وقد فتح صدره لمستقبل يحتاج إلى تطلع واستشراف, وإن عينيه الآن على واقع يحتاج إلى استقراء واكتشاف فإن مخيلاته تبدأ في التطلع لرسم أشكال لذلك الماضي, وذلك الحاضر, وذلك المستقبل, ينبغي أن تحلل وتصقل وتوظف لتحسين الحاضر, سواء الحاضر الآن أو الحاضر غداً, وتلك ملكة فطرية أودعها الخالق المنان, كل عاقل من بني الانسان لا يمتاز بها جنس دون آخر, ولا نرى فائدة لموضوعنا من إطالة الحديث حولها, بعد أن خلصنا وتبين لنا أن الغاية من المستقبل في ميادين الدراسات المستقبلية والدافع للاهتمام به, هو الرغبة في تحديد شكله والتحكم في زمامه.

واستشراف المستقبل ليس تنبؤاً بالغيب, وليس كما يقول العوام ضرباً على الكف أو قراءة في الفنجان, بل هو علم من العلوم له مقومات وله فنون.

والمستقبل لا ينشأ من فراغ, وإنما تتحدد معالمه وتتبلور أشكاله من خلال تطور قضايا الواقع, ومن خلال بزوغ أشياء كانت الجنينات لها موجودة في أرض الواقع, واستشراف المستقبل ليس رجماً بالغيب ولا اعتداء على حرمات الدين, ويبدو للمسلم المتأثر بعصور التراجع الحضاري والكسوف الفكري والمصاب بداء التواكل – الذي انتشر لسوء الفهم المتواصل لمفهوم التوكل الذي نص عليه الإسلام, وسوء استخدامه له هروباً أو عجزاً أو توارثاً – أن الخوض فيما سيكون عليه المستقبل لا يجوز للعبد الخوض فيه, ومفهوم التواكل المنتشر هذا جعل عديداً من جمهور المسلمين لا يملكون ملكة التخطيط, ولا يحسنون ترتيب وتحديد الأولويات ولا يربطون النتائج بالمقدمات.

فنحن في ديننا الحنيف مطالبون بالعمل الدنيوي لكسب مستقبل أخروي, ونعرف أن من سنن الحياة التي وضعها الله لهذا الكون { ولن تجد لسنة الله تبديلاً } ( الأحزاب : 82 ) أن التطوير المستقبلي مرهون بتغير الواقع, { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } (الرعد : 11 ) كما أننا مطالبون بالجهاد والإعداد له في جميع المجالات سواء كان ذلك في المجال العسكري أو في المجال الاقتصادي أو في المجال الاجتماعي أو في المجال الثقافي أو في المجال التربوي, { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } ( الأنفال : 60 ) والإعداد قدر المستطاع في الميدان الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والثقافي والعسكري يقتضي معرفة القدرات والإمكانيات المستطاعة, وتقدير القوة اللازمة, واحتمالات التفاعل والمواجهة, وكل ذلك أمر يتعلق بدراسة بدائل المستقبل, واستشراف شكله وأبعاده وتحديد المسارات التي تؤدي إلى أحسن تجلياته.

والدول المتقدمة اجتناباً منها لما قد يحمله المستقبل من مفاجآت, وتحسباً لكل ما يعوق تقدمها واستمرار قياداتها الحضارية. تعتمد أسلوب الإدارة بالأهداف, وتضع التخطيط المحكم المبني على الاستيعاب الواعي للماضي, والاستقراء الشامل للواقع, والاستشراف الدقيق للمستقبل.

ولا نعدم في عالمنا المعاصر الجزء الإسلامي منه على الخصوص, من يسير السير العشوائي يخوض في مجالات الحياة بشكل تلقائي, ملتزماً أسلوب الإدارة بالكوارث ناقلاً عن غيره مفتخراً بماضيه معرضا عن واقعه, متفائلاً بحسن مستقبله, لا يستيقظ من سباته إلا بالكوارث, بل حتى الكوارث لا تكاد تؤثر في غيبوبته الفكرية واستقالته الحضارية, فهو قد اعتاد أن يقلب الهزيمة نصراً والكارثه خيرا, فإن أتت على هلاك 99% مما لديه فإنه يعتبر نفسه في حل من كل محاسبة ويستشعر الراحة التامة لأن المصيبة لم تكن مائة بالمائة !!

وحتى لا نمضي بعيداً لنأخذ ميداناً نحن فيه أشد فقراً وأكثر غياباً : ميدان البحث العلمي والذي ما زلنا نعيش قرونه العجاف, فكم أستاذاً كان عليه أن يكون منشطاً لهذا الميدان فاعلاً فيه, لا يتحرك ليستشرف مستقبله ويغير واقعه, كي يكون البحث العلمي متميزاً لديه, متفوقاً فيه على غيره مشاركاً في إجلاء سنن الكون ورفع معالم الحضارة مساهماً في نضج الفكر, فإن قيل له تحفيزاً إن المركز الفلاني أو العالم الفلاني اكتشف سنة الله في كذا اجتهد اجتهاداً ضئيلاً ليقول أن ذلك الشئ المكتشف هو موجود في القرآن منذ أربعة عشر قرناً, وكتب في ذلك الكتب ليثبت أن هذا الشئ هو موجود فعلاً في القرآن منذ قرون من الزمان, ونسي أنه بفعله ذلك إنما أشهد الله على نفسه وأشهد الناس أنه ظل نائماً منغمساً في نومه قرابة أربعة عشر قرناً , (10)

وكم مرة سمعنا المثل المشهور ” الوقاية خير من العلاج ” دون أن ندرك البعد الاستراتيجي والبعد المستقبلي لتلك الوقاية, وتلك الحماية, لكل ما من شأنه أن يعطل القوى ويضر بالجسم, جسم الفرد, أو جسم التنظيم أو الدولة, أو الهيئة, أو الأمة.

فالتحكم في المستقبل اشتشرافاً وتخطيطاً أسلم للإنسان والإنسانية من ولوج المستقبل صداماً وكارثة, ومن هنا كان الاهتمام عند علماء المستقبل شديداً بالمشكلة السكانية, ومشكلات التلوث وإهدار الطاقات وغيرها من المشاكل التي تُرعب حين التفكير في مستقبلها على افتراض استمرار تطورها الحالي.

ولهذا كان اهتمام الدول المتقدمة بالمستقبل شديداً ومكثفاً, تعقد له الندوات وتقام من أجل إنجازه المؤسسات وترصد له اللوازم والحاجيات, ويحتل في خطط الإنجاز أعلى سلم الأولويات.

والتفكير في المستقبل يكون بعيداً عن الأحلام وأضغاثها؛ لأنه قراءة للواقع من خلال المستقبل وليس اهتماماً بالمستقبل من أجل الاكتفاء بالتخمين فيه والتنبؤ بأحداثه ! فما منفعة هذا التخمين وذلك التنبؤ إذا لم ينعكس على الواقع فيغيره نحو الوجهة المثلى ؟

وما الواقع إلا محصلة تطور تاريخي طويل,  تفهم تجلياته من خلال حقب التاريخ السابقة له, والتي كانت تحمل الدور الجنينية التي أفرزته, وبالتالي فإن شكل الواقع يوحي بشكل المستقبل ومن سعى له تغيير حاضره نحو مستقبل زاهر ومشرف فإنه يعد لذلك العدة, ويرسم له الخطة, ويرصد له الإمكانيات, ويقوم بالتنفيذ حسب ما حدده من أولويات, أما من كان في حاضره أعمى, فهو في مستقبله أعمى وأضل سبيلا !

 

الهوامش

  • رئيس التحرير المساعد لمجلة ” فورتشن ” وقت نشره لكتاب ” صدمة المستقبل ” كان أستاذاً زائراً بجامعة كورنيل, وعالماً زائراً في مؤسسة راسل سيدج. نشرت له كتب كثيرة من بينها ” مستهلكو الثقافة ” و ” المدرسة في المدينة ” وعديد من المقالات العلمية في كبريات المجلات العلمية المتخصصة وتعتبر دراسته حول ” صدمة المستقبل ” الأولى من نوعها في مجال ” سوسيولوجيا المستقبل ” .
  • Alvin Tofflet, future shock, Random House, New York, 1970.

وقد ترجم إلى العربية من طرف محمد على ناصف, وتقديم الدكتور أحمد كمال أبو المجد وقت كان وزير الإعلام بالحكومة المصرية, تحت عنوان ” صدمة المستقبل ” دار نهضة مصر للطباعة والنشر, القاهرة يوليوز 1984.

  • للمزيد من المعلومات حول مصطلح ” المستقبلية ” للتعبير عن الاتجاه الفني المتطرف الذي ذكرناه راجع
  • ” سوسيولوجيا المستقبل بين المستقبلية وعلم المستقبل ” خلدون الشمعة, الفكر العربي السنة الأولى عدد 10 مارس أبريل 1979 ص ص : 210- 215.
  • ” من معالم الإبداع المستقبلية كظاهرة فنية جمالية ” , د. ميشال سليمان الفكر العربي المعاصر العدد 13 يونيو – يوليوز 1981 ص ص : 23- 29.
  • راجع حول مفهوم هذا المصطلح العدد الخاص من ” رسالة اليونسكو ” بالفرنسية (ecourrler) إبريل 1971 والذي كان موضوعه ” هل للمستقبلية من مستقبل ؟ ” وخاصة موضوع روبير جنك (Robert Jungk) لقد بدأ المستقبل ص ص : 9 – 17.
  • ” المنجد في اللغة والأعلام ” دار الشروق ببيروت الطبعة 26, 1975 ص 183.
  • يقصد ابن منظور الشاعر الحسين بن مطير الأسدي ( توفى سنة 169 ه) شاعر متقدم في القصيد من مخضرمي الدولتين الأمومية والعباسية, وله أماديح في رجالهما (انظر موسوعة ” الأعلام ” لخير الدين الزركلي, المجلد 2, ص 260, دار العلم للملايين, الطبعة الرابعة 1970 ).
  • ” لسان العرب ” لابن منظور دارصادر, بيروت المجلد 9, ص 171- 172.
  • ” القاموس المحيط ” للفيروز آبادي مؤسسة الرسالة, الطبعة الأولى 1976 ( في مجلد واحد ) ص 1065.
  • ” علم المستقبل في وقتنا الحاضر ” د. محمود زايد, الفكر العربي, السنة الأولى عدد 10, مارس- إبريل 1979, ص 26.
  • لا نريد هنا أن نستنقص من جهود علمائنا في مجال التفسير, أو غيرها من المجالات التي تبرز دور الإسلام في دفع عجلة العلم والمعرفة والابتكار والإبداع طوال التاريخ العريق للحضارة الإسلامية ولكننا نستغرب من المستغربين لأولئك الذين يريدون تعسفاً تحميل الآيات القرآنية ما لم تنزل من أجله, ويجعلون للقرآن تفاسير غامضة تتلقف كل اختراع جديد ثبتت نظريته لمقارعة سنن الكون مع مر الزمان أم لم تثبت ! .

 

(3)

عودة إلى المفهوم

” إن المتخصصين في الدراسات المستقبلية لا يوفقون دائما في استعمال خطاب في متناول الفهم, إذ غالباً ما يستترون وراء منهجيات تفضي صعوبة تقنياتها إلى حجب الغايات في نهاية المطاف, كما أنهم باستخدامهم مفاهيم مغلقة وعبارات غريبة يُنَفِّرون المنقبين عن المستقبليات ” (1).

الدكتور المهدي المنجرة

أستاذ بجامعة محمد الخامس

ورئيس الجمعية الدولية للمستقبلية

تطرقنا في المبحث السابق إلى توضيح مفهوم ” الاستشراف ” لغة واصطلاحاً, وما نريد أن ننبه إليه قبل التركيز على حاجتنا إلى بلورة هذا الفن, هو أننا خلال تحديدنا لذلك المفهوم, ركزنا على تعاريف وشروح هي من صميم استيعابنا للدراسات المتعلقة بهذا الفن واستخلاصنا لسنوات من الدراسة في ميدان علوم المستقبل لا نبوح بذلك استعراضاً للمخيلات الذهنية أو مرحاً في الساحة العلمية, وإنما لنوضح أن المفاهيم قد تحمل أكثر من معنى والكلمة قد تخضع لأكثر من تفسير, ويجدر بنا في هذه الحلقة أن نعود بمزيد من الشرح والتفسير لمفهوم استشراف المستقبل أو علوم المستقبل أو المستقبلية حتى تكتمل الصورة ويتضح المعنى لدى القارئ ويتحدد بيانه لديه.

وكنا قد انتهينا في شرحنا وتحديدنا لمفهوم ” استشراف المستقبل ” إلى التعريف التالي: ” استشراف المستقبل هو النظر إلى الزمن القادم ببصر حديد, ونظر ثاقب, بغية تصور الواقع المقبل, انطلاقا من شرفة الواقع الحاضر, واستيعاباً لعبر الواقع الراحل “.

والمتمعن في تعريفنا هذا يلاحظ أننا استعملنا كلمة “ الواقع ” في مراحل الزمن الثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل, حتى نعكس الغاية المرجوة من دراسة المستقبل والمتمثلة في تغيير مجرى نهر الواقع الدافق نحو الأفضل وتوجيه وجهته ومصبه نحو الأمثل ففي كل من المراحل الثلاث, يُهْتَم بالواقع ليس لذاته, وإنما لدفع عجلته نحو السبيل الأقوم والصراط المستقيم فالماضي يدرس ويستوعب ليس حبا في الاحتماء به أو اللجوء إليه, وإنما لتوظيفه في عمليات التغيير للحاضر والتوجيه له, والحاضر لا يهتم به لتسجيل الشكل وتأييد الصورة وإنما يستكشف لإعمال الوعي فيه نحو إزالة المعوقات ومواجهة التحديات, والمستقبل يهتم به ليس للحلم والتمني وإنما لتمطي جواد كسب المعارف وتحسين الواقع بتحليل ودراسة صور متأزمة له محتملة الوقوع.

والوعي إدراكاً وتحليلاً لازم في كل ذلك, ومن ثَم كان للنظر إلى الزمن القادم البصر الحديد والنظر الثاقب حظه داخل التعريف, وكان فيه لكلمات التصور والانطلاق والاستيعاب مكانتها الواضحة والهامة.

ورغم حاجتنا إلى توضيح الترابط العضوي بين مراحل الزمن الثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل كي نبرز أهمية دراسة المستقبل في تغيير شكل وسير الواقع, فإننا ننبه القارئ إلى عدم الميل إلى الاعتقاد بالتطور الخطي للزمن. فلقد لاحظنا أن عديداً من الدراسات توحي نصوصها حول المستقبل بأن كل مرحلة من المراحل المذكورة تحتل خانة مستقلة مشدودة مع أختها حسب الترتيب الزمني, كما يكتفي أحسنها عرضاً بإبراز وجود علاقة عضوية بين الخانات الثلاث مع تأثير تصاعدي في اتجاه الزمن, بحيث يؤثر الماضي في الحاضر والحاضر في المستقبل !! .

ولإن كان هذا التأثير موجودا بالفعل فالخطأ في القول السابق حصر وجوده في الاتجاه التصاعدي للزمن فقط بيد أن التأثير متبادل بين المراحل الثلاث, بل ليس هناك في الحياة الدنيا بالنسبة للإنسان إلا خانة الحاضر, أي خانة الواقع, والتي من شرفتيها الخلفية والأمامية, وعبر ذاتها ومكوناتها ينظر إلى كل من الماضي والمستقبل.

فلو شبهنا الزمن بقطار يسير قُدماً نحو الأمام, قاطرته الحاضر, وهدفه المستقبل, وعرباته حِقَبِ التاريخ المشكِّلة للماضي –

من وجهة نظر الباحث المستقبلي أن نشبه القطار المذكور بقاطرة واحدة دون عربات, وسكة دون محطات, سكة تنشأ مع الحاضر, غير ممتدة سلفاً نحو المستقبل ولا مسقَطة عليه, والقاطرة تتغير سرعتها ويتحدد سيرها حسب التغلب على المعوقات, ومواجهة التحديات وتجنب العقبات, يساعد على ذلك مجموعة من الصور تأخذها العدسات الموضوعة في ظهر ومقدمة القاطرة, الأولى تجلي صور للماضي والثانية تمد بمشاهد محتملة للمستقبل.

والأهم في مثالنا هذا أن العدسات وآلات التصوير تتغير وتتطور حسب المعرفة المكتسبة لأصحاب القاطرة حول محيطهم وحركة سيرهم, وتتسع حسب إحاطتهم بوضوح نهجهم ووجهة سبيلهم.

فالماضي لم يعد زمناً تركوه وراء ظهورهم, بل هو صور لتقلبات حقب التاريخ الراحلة تتجدد أنباء أحداثها وتتغير

والمستقبل مراحل زمنية مقبلة, يختصر مشاهد ليس لرسم شكل نهائي لسير القاطرة, أو لوضع سكة ثابتة لها ممتدة مع الزمن لا تحيد عنها, وإنما لتصور العقبات المحتملة والمواجهات الصعبة التي قد تحول دون ذلك السير أما الطريق, فدون العقبات والمعوقات الفسحة في اختيار الوجهات المتعددة ولهذا حين يتكلم عن المستقبل يتكلم عن بدائل للمستقبل, ويهتم بتمحيص أزمات المستقبل المحتملة, بعيداً عن الغوص في أحلام رغد العيش المرجوة ! وهذا لوحده كاف للدلالة الواضحة على التطور الديناميكي للزمن عند دارس المستقبل.

فعثورنا مثلاً على مخطوط لكتاب ” المغني ” للقاضي عبد الجبار. (2) مكننا من تحسين وتطوير معرفتنا للمعتزلة. واكتشاف الآيات الكونية في السماء والأرض, مكننا من ترسيخ إيماننا بعظمة الخالق سبحانه, وزاد من معارفنا لسنن الكون وتوظيفها في تطوير فهمنا لآيات الوحي والكشوفات الأثرية والأركيولوجية في أهرام الفراعنة أوالمدن والقرى الغابرة أو الأثار التاريخية مكننا من إخلاء معالم الحضارات القديمة, والعلوم الاجتماعية والسلوكية المعاصرة, مكننا حين إعمال الوعي فيها من فهم العديد من القضايا النفسية والاجتماعية والإنسانية والسلوكية, سواء بالنسبة لعصرنا أو العصور الماضية, أي بعبارة أخرى أن تطور المعارف والعلوم غيَّر من صورة الماضي لدينا وجعل له حركة ديناميكية, هي غير الحركة الخطية أو الكونية التي يوحي بها دخول اللحظة من المستقبل إلى الماضي عبر بوابة الحاضر.

نفس الشئ يقال عن المستقبل وعلاقته بالماضي والحاضر, ولا نرى ضرورة في مزيد من الشرح, فلقد عمدنا إلى المثل دون البيان لنجنب أنفسنا الإطالة, ونحجب عن القارئ عواصف الكلمات وغبار المفردات.

إبراز هذه الديناميكية لمراحل الزمن بين الماضي والمستقبل مروراً بالحاضر هو ما أملى علينا التركيز على كلمة الواقع في التعريف الذي ذكرناه لمفهوم ” الاستشراف ” وكان الهدف من ذلك التركيز علاوة على إبراز الدينامكية, تنبيه الراغب في تحسين الواقع وتجنب أزمات مستقبله إلى العدول عن القرار جهة الماضي احتماء وإدباراً عن مواجهة الواقع, ودعوته إلى اجتناب الميل المطلق جهة المستقبل تمنياً وحلماً ونصحه بالحذر من رفع العين عن الواقع أماناً واطمئناناً.

وليعذرنا القارئ في تكرار بعض المقولات, إننا نهدف أساساً من نشرنا لهذه الدراسة إلى جعل الفرد المسلم المعاصر – الذي أثبت تاريخه من خلال جهاده وكفاحه, ومن خلال عدم جنيه مراراً لثمار ذلك الجهاد والكفاح, أنه إن كان يتقن ويتحمل عملية الفداء, فإنه لا يحسن ولا يطيق عملية البناء ! – نهدف إلى أن نشده لواقعه بغية دفعة إلى تغييره والعمل على تطويره, وليس بتجريمه أهله, أو الهجرة من دياره, أو سبه لزمانه أو الاستقالة من مسؤولياته.

هدفنا الأساسي تجنيب الفرد المسلم المعاصر ثلاث عمليات قاتله في تعامله مع الواقع الذي يعيشه ويحياه :

  • الأولى : أن يولى الدبر نحو الماضي فينتحل شكلاً من آثار السلف في العيش والحياة لا يجانس عصره, يجد فيه لذته ومأواه, ناعتاً لمخالفيه بالضلال ومقصياً عمل من هم على غير نهجه من دائرة الحلال !
  • الثانية : أن يختلس كرسياً في مجالس غير مجتمعه, يتصنع لسانهم وينتحل عقيدتهم يستظل بقوتهم, ويدعو – لضمان الانتماء – إلى نصرتهم, ظانا انه قد حل مشاكل واقعه بمجرد التنكر له أو التبرء منه, ولو على حساب أصله ودينه ومجتمعه !

الثالثة : أن يفر كراً نحو المستقبل, يتمنى على الله الأماني, ضارباً أخماساً في أسداس, بين تفاؤل مغرق في الكسل, ونبرة عالية في التمني مقعدة عن العمل !

     بل نريده ممتطياً على بصيرةٍ صهوةَ جواد الواقع الحاضر, مشدوداً إليه بثقة وحزم, مستنيراً بتعاليم الوحي, مستلهماً لسنن الكون, مقلباً صفحات الماضي يستوعبه, وملقباً للضوء على كثبان المستقبل يستكشفه ويسائله.

من أجل ذلك كان كلامنا موجهاً أولاً للمُرَبِّين, ولأصحاب القرار الفاعلين, وللوعاظ والمرشدين, ثم بعدهم عامة المسلمين, والشباب منهم خاصة أبناء المستقبل ورجاله.

والتزاما منا بالمنهج العلمي, والعرض المنهجي, كان اهتمامنا أولاً بتحديد المفهوم, وتوضيح تعاريفه خاصة عندما نعلم أن أهل الاختصاص في ميدان دراسة المستقبل, لا يتوفقون- كما قال الدكتور المهدي المنجرة في الفقرة التي صدرنا بها هذه الحلقة من الدراسة – في استعمال خطاب في متناول الفهم, بل غالباً ما يكون ميلهم إلى استعمال المفاهيم المغلقة والعبارات الغريبة منفراً للقراء والراغبين في الاطلاع على دراسات المستقبل, وهذا ما نريد تجنبه والحيد عنه, حتى نبلغ الأهداف التي وضحناها فوقه, ونصل إلى جمهور واسع من المتتبعين والمهتمين.

وعودتنا إلى المفهوم في هذا المبحث تمليها الرغبة في ترسيخ فهم واضح قاطع لدراسة المستقبل, في وقت أصبحت فيه الحاجة إلى علم المستقبل ملحة وضرورية من جهة, وأضحت إزالة الغموض الذي علق بالمفهوم بفعل سيادة الفهم السكوني للزمن من العمليات اللازمة للدفع أماماً بهذا الفن. العلم نحو الانتشار والتطور داخل الساحة الفكرية الإسلامية.

والغموض الذي نتحدث عنه نشأ وقت مخاض العلوم الاجتماعية لإفراز علوم المستقبل الحديثة بعيداً عن مدرجات الجامعة ومختبرات مكاتب الدراسة, ذلك أن هذه العلوم صهرت وترعرعت بين أحضان رجال القرار ومساعديهم من خبراء ومحللين ومبرمجين ومخططين ودارسي مشاريع وواضعي استراتيجيات واقتصاديين وغيرهم, ولهذا جاءت الدلالات على التطلع للمستقبل متعددة يرمز إليها بمصطلحات كثيرة مثل, تنبؤ, وتخمين, وتكهن, وحدس, وتوقع, وتقدير, وإسقاط, وتخطيط, وتصميم, ورجم, ومستقبلية, واستكشاف, وتبصر, وترقب, وتطلع, وتحسب, واحتراس, وغيرها من المصطلحات التي يجمع بينها رغم التعدد خيط رابط واحد هو مجال موضوعها : المستقبل وطبعاً سادت عند العامة منذ القدم مصطلحات أخرى مثل كشف الطالع, وقراءة البخت, والإخبار بالغيب, وغير ذلك من المسميات التي تتعلق بمحاولات شتى لرصد المستقبل, تحمل في طياتها رواسب أسطورية من عصور الجاهلية والانحطاط للاعتقاد بإمكانية الإحاطة بالغيب, والتأثير على مجريات المقادير بشطحات أو بخور أو قراءة طلاسم مبهمة !

ونحن لا نستغرب هذا التعدد في المصطلحات, فلقد سبق القول منا في المبحث السابق من هذه الدراسة أن تعدد المصطلحات العربية الدالة على فن دراسة المستقبل نابع من تعددها عند أهلها بالغرب.

وإن كنا نسلم بأصل هذا التعدد لدى الغربيين فاستنادا منا إلى ما يلاحظه كل قارئ لكتب الاقتصاد والتخطيط والاستراتيجية واستشراف المستقبل في العالم العربي, حيث يجد أن أغلب التعابير والمسميات لمختلف دروب المعارف في التخصصات موضوع تلك الكتب هي في الواقع ترجمات لمثيلاتها في اللغات الغربية صاحبة الأصل في الإبدع والابتكار في ذلك التخصص أو ذاك.

ففي اللغة الفرنسية, سادت عند المخططين وواضعي الاستراتيجيات والاقتصاديين ودارسي المستقبل مصطلحات ثلاثة : Prospective و Prevision و Planification  قد تعني نفس الدلالة عند ناطق اللغة الفرنسية العادي, إلا أنها عند صاحب الاختصاص تختلف اختلافاً واسعاً من مصطلح لآخر.

وإذا رجعنا إلى المعاجم المتداولة وجدنا المقابلات التالية :

أ – معجم ” المنهل ” (3)

  • Prospective : استقبالية ( علم يدرس الأسباب العلمية والاقتصادية والاجتماعية التي تدفع تطور العلم العصري والتنبؤ بالأوضاع التي يمكن أن تنجم عن تأثير هذه الأسباب ).
  • Prevision : تنبؤ, تكهن, تبصر, ترقب, تقدير, حدس, تخمين.
  • Planification : تخطيط, تصميم.

ب – معجم ” المنجد ” (4) .

  • Prospective : تخطيط للمستقبل.
  • Prevision : تنبؤ, تبصر, توقع, تخمين, تقدير, احتياط, تحسب, احتراس.
  • Planification : تخطيط.

ولو أتينا على مختلف المعاجم نبسطها على أنظار القارئ لوجدنا أن هنالك إجماعاً على مقابلة مصطلح ” مستقبلية ” لكلمة (prospective)  وعلى مقابلة مصطلح ” تخطيط ” لكلمة (planification)  ولكن هناك وفرة من المصطلحات في مقابل كلمة (prevision)  ومن هنا جاء التعدد في المصطلحات.

ثم إن الأزمة التي عمت فن وأساليب التوقع (prevision)   حين فشل معظم الاقتصاديين في توقعاتهم وتقديراتهم للأزمات والتقلبات الاقتصادية المعاصرة, كانت من أهم العناصر التي دفعت بالمستقبلية إلى الأمام, وجعلتها سائدة كمنهج سليم للتوقع والترقب, باسط لمستقبلات شتى وصور للزمن القادم متعددة حسب المعطيات والاختيارات.

وفي اللغة الإنجليزية, كان تعدد المصطلحات لدى الخبراء في ميدان الدراسات المستقبلية مثيلاً لما عند أصحاب اللغة الفرنسية وقد كفتنا مجلة (futurist)  التي تصدرها ” الجمعية الدولية للمستقبل ” بواشنطن ترتيب هذه المصطلحات حسب استعمالها وتداولها من خلال استطلاع أجرته سنة 1976. ونشرت نتائجه في عددها لشهر فبراير 1977, حيث جاءت كالآتي : (5)

 

المصطلح المؤيدون المعارضون المحايدون
Future studies

Future researches

Futuristics

Futurology

Futures ansiysis

Futurics

Forecasting

Prognostics

futuribles

29%

25%

21%

14%

12%

7%

6%

4%

2%

6%

11%

36%

44%

15%

53%

26%

46%

60%

65%

64%

43%

42%

73%

40%

68%

50%

38%

 

ولا نستبعد أن ينكر علينا بعض الأفاضل استعمالنا لكلمة ” صور المستقبل ” أو “المستقبلات ” مذكراً إيانا بأن المستقبل والحاضر والماضي كلمات كان عاماً عند أهل اللغة العربية استعمالها بالمفرد لاستحالة وجود تعدد حقيقي لها. ومنبهاً إيانا أن الماضي واحد, والحاضر واحد, والمستقبل واحد كذلك, كل منهم سُطّرَ وقُدِّرَ من طرف الله عز وجل فلماذا استعمال الجمع ؟ وجوابنا أن المستقبل الآتي الذي لا يعلم كنهه وشكله إلا الله واحد لا تعدد له, والصور التي يشكلها الإنسان في ذهنه, تحميساً لذاته وتحفيزاً لها, واحتياطاً وترقباً وإعداداً لهذا المستقبل, هي متعددة.

وحتى لا نظهر أنفسنا في مظهر التناقض نقول : مصيرك أخي القارئ في الدار الآخرة يوم الحساب واحد, إما الجنة نحن وإياك إن شاء الله, وإما النار أعاذنا الله وإياك لكن عملك كي تكون من أهل الجنة يدفعك إلى الإيمان بأنك قد تدخل الجنة, وقد تدخل النار, وبهذا فأنت ترى لمصيرك يوم القيامة مستقبلين : مستقبل في الجنة ترجوه, يدعوك للتزود بما يوصلك لها, ومستقبل في النار تستعيذ منه, يحثك على الابتعاد عن كل ما يساهم في احتمال وقوعه, وإيمانك بهذين المستقبلين لا يؤثر على وحدانية المستقبل الذي سيحصل بالفعل, ولا يلغي إيمانك بها بقد ما يحفزك للعمل على الإمساك بسبيل أزهى وأطيب صورتيه المحتملتين.

هذا عن الآخرة التي لا صورة ثالثة فيها للمستقبل ففريق في الجنة وفريق في السعير. أما الحياة الدنيا, فالتصورات متعددة حسب أشكال الترقب والتوقع, ولهذا كان استعمال دارسي المستقبل كثيراً لصيغة الجمع, وهم على صواب في ذلك.

 

الهوامش

 

  • من أجل استعمال ملائم للدراسات المستقبلية الدكتور المهدي المنجرة عالم الفكر المجلد 18 العدد 4 يناير – مارس 1988. ص 5.
  • هو كتاب المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار الهمداني الأسد آبادي (توفي سنة 415 ه) كان شيخ المعتزلة في عصره ولقب بقاضي القضاة, ولي القضاء في الري ومات فيها, له تصانيف كثيرة أشهرها ” المغني ” المذكور, وشرح الأصول الخمسة, ” وتنزيه القرآن عن المطاعن ” , و ” فرق وطبقات المعتزلة ” و ” تثبيت دلائل النبوة ” انظر ترجمته في موسوعة ” الأعلام ” لخير الدين الزركلي, جزء 3, ص 273و 274, دار العلم للملايين, بيروت 1979. وكتاب ” المغني ” لم يظهر للوجود بعد نمو التيار المعتزلى إلا بعد أواسط القرن الحالي حيث عثرت بعثة مصرية أوفدت إلى اليمن على بعض الأجزاء, طبعت في القاهرة ما بين 1960 و 1965.
  • ” المنهل ” للدكتور جبور عبد النور والدكتور سهيل إدريس دار العلم للملايين ودار الأداب, بيروت, الطبعة التاسعة, شتنبر 1986.
  • ” المنجد ” دار المشرق بيروت, الطبعة الثالثة, غشت 1984.
  • ” المستقبلية والمجتمع المصري ” هاني عبد المنعم خلاف, كتاب الهلال, العدد 414, أبريل 1986, ص15.

 

(4)

تعاريف الخبراء  

لقد عرفنا في المبحثين السابقين بالمفهوم المتعلق باستشراف المستقبل مصطلحاً زمضموناً. وقبل التطرق للمبحث حول حاجتنا إلى علوم المستقبل قصد بلورة هذا الفن وغرس جذوره في حقل الثقافة الإسلامية حتى تكون ثماره مادة لبلورة المخططات, وزاداً لصياغة الاستراتيجيات, وتكون شجرته الممتدة إلى الأعلى ظلالا يستظل في فيئها الاجتهاد المعاصر من شمس الواقع المحرقة, ولهيب قضايا العصر المتشعبة, تقدم في هذا المبحث مجموعة من التعاريف لفريق من خبراء المستقبلية المشهورين حتى نكون قد وفينا المفهوم حقه من التعريف.

ونقدم التعاريف المقتبسة حسب الترتيبات التالية :

  • تعاريف الخبراء العرب :

1,1- تعريف لرئيس الجمعية الدولية للمستقبلية, وعميد الخبراء المستقبليين العرب, الدكتور المهدي المنجرة, مقتبس من نص سلمنا إياه ومحاضرة شهيرة له, نشرت غير ما مرة, تحت عنوان ” المغرب العربي سنة 2000  ” (1).

2,1     – تعريف مقتبس من أول كتاب جامع حول دراسات المستقبل بالعربية, أصدره “منتدى العالم الثالث : مكتب الشرق الأوسط ” في إطار دراسته لصالح ” جامعة الأمم المتحدة ” والمتعلقة ب ” مشروع المستقبلات العربية البديلة ” (2).

3,1     – تعريف مقتبس من أوسع دراسة استشراف شهدها العالم العربي, وهي الدراسة المنجزة من طرف ” مركز دراسات الوَحدة العربية ” تحت عنوان ” مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي ” (3).

  • تعريف للخبراء الأمريكيين :

تعريف مقتبس من مجلة futurist  الأمريكية التي تصدرها ” الجمعية الدولية للمستقبل” بواشنطن. (4).

  • تعريف للخبراء الفرنسيين :

تعريف مقتبس من مجلة futuribles  الفرنسية التي تصدرها ” الجمعية الدولية للمستقبلية ” بباريس. (5).

وإليك عزيزي القارئ هذه التعاريف :

  • تعريف الدكتور المهدي المنجرة :

ما هي المستقبلية (Prospective) ؟

  • أصل المصطلح في الفرنسية من كلمة “prospect” أي كيفية النظر إلى الشئ, وبذلك. فالمستقبلية هي مجموعة من الأبحاث حول التطور المستقبلي للإنسانية تمكن من استخلاص عناصر التوقع.

ولا يتعلق الأمر بتقمص نبوة زائفة, أو إصادر تكهنات أو أحلام حول المصير المقبل للإنسانية. كما لا يتعلق الأمر كذلك بعلم حقيقي, ومن هنا جاء الرفض لمصطلح (futurologie )  فالمستقبلية منهج يسمح بدراسة التطورات المختلفة المحتملة لوضع معين في وقت محدد وتطويق نتائج هذا القرار أو ذاك على هذه التطورات.

ودراسة المستقبل تسلك دوما سبيلا مفتوحا يعتمد التفكير فيه على دراسة خيارات وبدائل, كما أنها شاملة ومنهجها متعدد التخصص.

أما الكلمة المفتاح فيها فهي ” الإشكالية ” تلك التي تنتج عن الروابط بين مختلف أنواع المشاكل فمثلا, من السهل تصور العلاقة الموجودة بين المشاكل مثل مشكل السكان, أو الصحة, أو التربية, أو الغذاء, أو الطاقة, أو التلوث, وهكذا, هذه العلاقة تبرز بشكل أكثر ديناميكية عندما تقوم بإسقاطها ودراسة توقعاتها على مدى العشرين أو الثلاثين سنة المقبلة.

ومهمة الدراسات المستقبلية هي قبل كل شئ مهمة بيداغوجية لتحميس الجمهور والمسئولين لموضوع اختيارات المستقبل, ويتعلق الأمر أولا بدراسة المشاكل البارزة حينما نكون عاجزين عن مواجهة التغيير والتأقلم مع عالم الغد.

وتخطيط مندفع في مرحلة زمنية محدودة ( من ثلاث إلى خمس سنوات ) دون تبصر بالاتجاهات التطورية الكبيرة والخيارات المستقبلية – يوشك أن يزيف تحليل المشاكل ولهذا وجب أن يرتكز التخطيط على توقعات طويلة المدى ( من 15 إلى 30 سنة ).

وللمجتمع الإنساني نظام لدق ناقوس الخطر, يندلع كلما باشر الخوض في منعطف صعب, لكن قلما ينتبه لتحذيراته.

  • لماذا دراسات المستقبل ؟

الاهتمام بالمستقبل طبيعة إنسانية, وهي ما يميزه عن الحيوان وهذا الاهتمام موجود في جميع ديانات وثقافات الإنسانية, أما الجديد فهو :

  • سرعة حركة التاريخ واشتداد وتيرة التغيير.
  • انفجار المعارف.
  • تعقد تطور المشاكل التي تزداد تداخلا بينها شيئا فشيئا.
  • تقلص الزمان والمكان.

ثم إن دور المستقبلية لا يكمن في إصدار نبوءات, إذ يتجلى هدفها في تحديد الاتجاهات وتخيل مستقبل مرغوب فيه, واقتراح استراتيجيات لتحويله إلى مستقبل ممكن. وهكذا فإن الأمر يتعلق بتسليط الأضواء على الاختيارات قصد مساعدة صانعي القرارات للتوجه نحو الأهداف الطويلة المدى, مع إطلاعهم على التدابير الواجب اتخاذها في الحين قصد الوصول إليها.

والمستقبلية لا تدعي عصمة في توقعاتها ونجاحها, بل على العكس من ذلك الشئ الوحيد المؤكد هو أن أيا من هذه التوقعات لا يبدو صحيحاً على الإطلاق.

والنظرة المستقبلية متعددة بطبيعة الحال. إذ بالإمكان تصور عدة أوجه ممكنة للمستقبل, وذلك لكون الإنسان البشري يتوفر على وسائل لصنع مستقبله.

ثم إن المستقبلية لا تبرز من العدم الظرفي, بل إن مقارنتها مع التاريخ أمر حيوي جدا, فكثيراً ما اتجهت بلدان العالم الثالث إلى جعل التاريخ غاية في حد ذاته أو الرجوع إليه لتبرير الجمود وخيبات الحاضر بدل أن تواكبه وتتوقع مآله.

( ولطالما أشرت ) بكيفية ملحة إلى أهمية البعد الثقافي وأنظمة القيم في التنمية, وبديهي أن الإسلام كقوة للتغيير والإبداع سيلعب دوراً طليعياً في هذا التطور, إذ هناك عودة إلى الروحانيات خاصة عند الشباب الذي أصابه اليأس من جراء سلوك من هم أكبر منه سناً والذين لم يكونوا في مستوى إعطاء نموذج أو على الأقل قدوة ملائمة في السلوك منسجمة ومحترمة, وطبيعي أن يرجع الشباب إلى الينابيع للعثور على الأنماط التي تقود خطواته.

إن المستقبل الممكن والمنشود ( للعالم العربي والإسلامي ) يرتكز أساساً على تجديد الإسلام – إسلام الاجتهاد وليس إسلام التقليد – الذي كان وراء سقوط حضارة ابتعدت تدريجياً عن مهمة الخلق والإبداع الذين واصلهما المسلمون إلى يوم أعلم فيه بعض الفقهاء جزافاً إغلاق باب الاجتهاد. إن الإسلام دين متفتح يترك للفرد مبادرة كبرى وحرية في التكييف والتغيير وتوقع التحولات. فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لم يتوقعوا المستقبلية في فجر الإسلام, ما كان هناك اليوم مليار من المسلمين.

2,1 – تعريف خبراء ” مشروع المستقبلات العربية البديلة ” :

نحاول هنا فتح باب المناقشة حول العناصر الواجب الاتفاق عليها عند استشراف المستقبل ونحتاج في البدء إلى مزيد من مناقشة مفهوم ” الاستشراف ” في حد ذاته.

  • الاستشراف العلمي للمستقبل يقوم على فهم الماضي والحاضر, أي فهم تأثير العوامل التي شكلت معالم الماضي والحاضر معاً. وجودة هذا الاستشراف هي رهن بحالة أدوات المعرفة العلمية المتوافرة وبالتالي فإن عملية ” الاستشراف ” يجب أن تكون عملية مستمرة عبر الزمن, إذ أن تفاصيل وأبعاد المستقبل سوف تتأثر بتراكم معرفتنا العلمية للواقع.
  • والاستشراف العلمي لأبعاد المستقبل لا يقدم نبوءات ولا تفاصيل مؤكدة, من كان يتنبأ في بدء القرن العشرين بكل أحداثه الجسام ؟ فمن يستطيع اليوم الادعاء بتقديم صورة لأحوال قطر, أو أحوال العالم في غضون الخمسين سنة المقبلة, خصوصاً في ارتباطها بالأحداث والتصرفات والرغبات البشرية, أي أنه يفيد في العمل على الاقتراب من البديل الأفضل للمستقبل.

ج- وأدوات الاستشراف تبدأ أولاً بالبحث عن نظرية تحليلية نشتقها من فهمنا للماضي والحاضر, وأي أدوات أخرى ما هي إلا صيغة أدق لهذه النظرة – ليست بديلاً لها – وتساعد على الحديث عن توقعات المستقبل بالأرقام فقط, فالمنظور الأيديولوجي الواضح هو ضمان للنظرة الشاملة واهتمام بدرجة وعي الإنسان لديناميكيات التقدم إلى الأمام. وقد تساعد الأدوات الكمية المكملة في مزيد من الفهم للنظرية وعملها في الواقع, ولكن مرة أخرى فإنها لا تكفي في حد ذاتها لكي تنهض عليها نظرية.

د- ولذا فهناك فائدة حقيقية تعود للمجتمعات من عمليات الاستشراف العلمي, فالاستشراف العلمي يضاف إلى إذكاء الوعي حول المستقبل, وهذا الوعي يضاف بدوره إلى التشكيل الواعي للمستقبل لتزداد مقدرتنا على استشرافه, وهكذا؛ لذلك يجب تفهُّم الاستشراف العلمي في حدود ما يمكن أن يقدمه, وضمن هذه الحدود فقط.

ه- ولاستشراف أبعاد المستقبل, أهمية فائقة بالنسبة لدول العالم الثالث, فقد أصبح هناك اعترافاً متزايدا بأن التنمية هي عملية تغيير اجتماعي – اقتصادي – هيكلي – عميق, وهي بذلك يمكن أن تستغرق مدى زمنياً أطول من المدى الطويل المتعارف عليه في التخطيط الاقتصادي كذلك يركز استشراف أبعاد المستقبل على تفاعل الجوانب المختلفة للنسق الاجتماعي – الاقتصادي في إطار فلسفة الأنساق الكلية لذلك التفاعل الذي يكثر الحديث عنه في فلسفة التنمية ولكنه سرعان ما يختفي.

و- ومن الأسباب المؤكدة لأهمية استشراف أبعاد المستقبل كون الأحداث والتطورات الاجتماعية – الاقتصادية مترتبة على بعضها البعض زمنياً, بحيث إن التأخير في اتخاذ القرارات الملائمة لتحقيق الغايات النهائية المنشودة لا يعني تأخيراً متماثلاً من الناحية الزمنية في تحقيق النتائج, وإنما قد يعني تأخيرها لفترة أطول, أو عدم إمكان التوصل إليها على الإطلاق.

3-1- تعريف خبراء ” مشروع استشراف مستقبل العلم العربي ” :

يعني الاستشراف التبصر في الشؤون المستقبلية لمجتمع معين, من حيث موقعه من المجتمع الدولي, وبالتالي ما يؤول إليه حال البشر في ذلك المجتمع ..

وإذا كان هذا المجتمع هو عضو من ذلك العالم المتغير, فإن مستقبله لن يكون ناتجاً حتمياً لما تمليه مسيرة التغيرات العالمية المستقبلة مثل هذا القول مرفوض أساساً من منطلقين :

  • الأول, هو أن المستقبل لن يكون تجسيداً لتنبؤ يجتهد بعض الباحثين في إجرائه حول مستقبل البشرية, على النحو الذي ذهبت إليه بعض دراسات المستقبل التي أجريت في الدول الغربية. إن مثل هذا التنبؤ يهمل ضمنا الطبيعة الإنسانية وخياراتها وقدراتها الإبداعية وحتى في الظروف التي تتسم بالاستقرار وتتصف بتواصل العلاقات التي تحكم حركة المتغيرات, يسعى الإنسان إلى رسم تصورات بديلة لما يمكن أن تكون عليه الأوضاع المستقبلية, ليتخير في ضوئها أدوات لإحداث نوع من التغيير يتفق مع طموحاته وآماله في مستقبل أفضل.
  • الثاني: هو أن التسليم بمثل هذا المنطق يعني افتراض انعدام الإرادة العربية, ونفى إمكان قيامها بدور مؤثر – إيجابياً وسلبياً – في رسم معالم مستقبل العالم في مجموعه, وفي اختيار مسار لمستقبل الوطن العربي على وجه الخصوص على أن تلك الإرادة وذلك الدور سوف يتشكلان وَفق وزن الفعل وطبيعة كل منهما, وهذه بدورها تتوقف إلى حد كبير على مقدار الإعداد المسبق لكل منهما, وهو ما يتأثر بمدى التعرف سلفاً على المواقف المستقبلية الممكنة أي بما يجريه العرب من استطلاع لاحتمالات المستقبل واستشراف له.

فالاستشراف إذاً ليس مجرد رسم تخيلات مستقبلية يضيفها الإنسان العربي إلى معارفه ويرضي بها النزعة البشرية التواقة إلى كشف ستر الغيب, وهو لا يقف عند حد إعمال الفكر والخيال واستخدام الحساب والقياس لبرامج المستقبل وآفاقه كافة وبلورة نقاط الالتقاء التي تميز بين الأساسي والثانوي, والتي تنتشل ما هو علمي مما هو دون ذلك, والتي تغلب نظرات تتسم بالشمول والإحاطة على تلك التي تتصف بالجزئية ويشوبها القصور .. إن الاستشراف يتجاوز ذلك إلى تناول مشاهد المستقبل وتوقعاته المطروحة في أذهاننا و إلى إعادة قراءة الواقع العربي بكل جوانبه الحضارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية, بالقدر الذي يخدم إمكانية التعرف على ما يقدر أنه وضع مرغوب في أوائل القرن المقبل, وعلى آليات الوصول إلى ذلك. إنه الحاجة إلى إتاحة القاعدة المعرفية التي تمكن المواطن ” المنتظر ” من المشاركة في صياغة “المشروع الحضاري للنهضة العربية ” .. نهضة تضعنا على خريطة العالم وتكفل لنا أن ننضم إلى القوى الفاعلة في تاريخ البشرية, وتهيئ لنا القدرة على تحقيق الأمن والاستقلال والتنمية لوطننا.

2- من تعاريف الخبراء الأمريكيين :

ليس للبحث حول المستقبل في حالته المعاصرة إلا عشرون سنة من العمر, وهي مدة غير كافية لإصدار حكم نهائي على هذا النشاط لكن عشرون سنة كافية على كل حال للقيام بحصيلة لهذا البحث, وتقويم منظومته ومنجزاته. وعند الاقتضاء تحديد توجيه جديد له.

  • تعريف صعب التحديد :

ليس للبحث حول المستقبل تعريف مقبول لدى الجميع, ذلك أننا نصطدم في هذا الأمر بالعديد من التفسيرات الممكنة التي تتأكد مع الزمن, هل على البحث العلمي أن يفسر في الاتجاه الواسع لكلمة ” مستقبل ” أم بالتركيز أكثر فأكثر على كلمة ” بحث ” ؟ إذا اخترنا الحل الأول, فإنه يصبح من المستحيل الإحاطة بهذا الاختصاص, فتشكيلة أنشطته جد ضخمة, أما حين القبول بالثاني فإنه يمكننا تحديد تعريف أكثر حصراً؛ لأن الجانب التحليلي فيه هو الغالب.

وفي كلا الأمرين, وكاتب هذه الكلمات ميال إلى التعريف الأكثر تقييداً, فإن البحث حول المستقبل أثر تأثيراً قليلاً ما في المجتمعات. وهذه ثلاث نقط توضح الدور الحالي لهذا البحث :

  • في القطاع العام يلعب البحث حول المستقبل دوراً أصغر, حتى في الحالات القليلة التي يعترف فيها لهذا البحث بأنه نشاط كامل ( مثل التوقع, أو التقدير التكنولوجي).
  • في كل ميادين القطاع العام تقريبا, يفقد لبحث حول المستقبل سرعته في ميدان التوقع والتخطيط, خاصة عند المقاولات.
  • بغض النظر عن استثناءات نادرة, فإن هذا الاختصاص ليس مادة تدرس, إلا أن يكون الأب التعيس لبعض الكليات كمدارس التدبير.

وبالفعل, إذا كان البحث حول المستقبل يجتاز مرحلة الركود؛ فلأنه لم يحدد دوراً فريداً أو لم يعط صورة واضحة عن نشاطاته, ويبدو أن الضعف الكبير آت من الرغبة في الشمولية, بحيث إنه يتوخى الاهتمام بكل ما يتعلق بالمستقبل, ولذا فإن حياة هذا البحث يمكن أن تكون مشتبهة, حتى وإن كان دوره في التوقع والتخطيط لا يقبل الجدل كما سنرى فيما بعد.

  • المنجزات :

خلال العشرين سنة الماضية, استطاع البحث حول المستقبل أن :

  • ينبه المجتمع إلى التحولات البنيوية ( أو الانقطاعات الكبرى ) لإطار الحياة ( التزود بالطاقة, بنية التشغيل, الأخطار التي تهدد البيئة, التقدم التقني ).
  • يشكل ويضبط مناهج التقدير الكيفي لتشخيص التحولات الكبرى البنيوية والبيئية.
  • يصف الشك الملازم لكل تقدير أو افتراض للمستقبل بدل إلغائة.
  • يشجع على إعادة التقدير للخيارات والأهداف المفروضة من طرف نطاق الحياة.

وبالتالي فإن أهم إنجاز لهذا البحث هو بوضوح الدور الخلاق الذي لعبه في تشجيع إعادة النظر في الأهداف المجتمعية والتنظيمية وولادة مساعي جديدة لإبراز المشاكل والفرص.

     ج- تحديد الميادين :

     يمكن استعمال البحث البحث المستقبلي بذكاء في عديد من الميادين, وخاصة في القطاع العام. وبالفعل, فإننا نلاحظ أن التقدم التقني قد ساهم في تحولات بنوية قياسية : ندرة الموارد, التبعية الاقتصادية المتبادلة, عدم الاستقرار السياسي.

ويمكن أن تكون ميادين العمل كالآتي في القطاع العام :

  • التغيرات في بنية التشغيل والناتجة عن التكيفات المسببة من طرف التكنولوجيات الحديثة ومن طرف منافسة دولية حامية أكثر فأكثر.
  • مناهج جديدة لتحديث التعليم حتى يمكن ضمان المرونة اللازمة لليد العاملة.
  • معاهد جديدة لضمان مصالح للصحة فعالة وبتكاليف قليلة.
  • توجهات جديدة تهدف إلى مواجهة أحسن لنقص الماء, ولتآكل الأرض والأمطار الحامضة.
  • اتحادات اقتصادية بين الدول المصنعة والدول النامية, والتي ستحسن الموارد الطبيعية والتكاملات الجغرافية.

وفي القطاع الخاص, يتعلق الأمر بتمليص نتائج التحولات الاقتصادية – الجمعية للبيئة أكثر من وصف هذه التحولات. وفي غضون العشر سنوات المقبلة والتي ستتميز بسرعة التطورات التكنولوجية وبالمنافسة المتزايدة, سيكون لازماً تحديد منافذ جديدة للمنتجات, وخاصة المتولدة عن التحولات البنيوية للمجتمع.

ولذلك ينبغي الأخذ بعين الاعتبار للتغيرات الحاصلة في التطور الاقتصادي ولنسب الفائدة والصرف, وللتغيرات الديموغرافية ولأثرها على الطلب لبعض المنتجات, وعلى الأسعار وعلى خصوصيات المنافسة, وعلى التنظيم والبنية العامة للأسواق.

وبديهي أن تحليل التحولات الاقتصادية – الجمعية مع الاعتبار بخصوصيات السوق ونوافذه تتطلب إيضاح التقنيات الجديدة المستعملة بإسهاب لآراء الخبراء وبناء السيناريوهات (المشاهد ) والنمذجة البنيوية.

ولا شك أن البحث حول المستقبل يجتاز مرحلة حرجة, لكن مع ذلك, فإن حظوظه في البقاء كاختصاص متكامل يمكن أن تتزايد شريطة اتباع التوجهات التالية :

  • ضرورة التحديد الواضح لدوره ومهمته مع الاعتراف بأنه ليس إلا مجرد عنصر, وإن كان فريداً من نوعه – للتوقع والتخطيط.
  • واهتماماً بالمنهج, على البحث حول المستقبل أن يلعب دوراً هاماً في الصياغة والتركيب للعوامل الكبرى لعلم محتمل لدراسة التعقيد والتغيير.
  • إن منجزات هذا البحث التي أشرنا إليها فوقه, ينبغي أن تستعمل كواسطة لتوطيد وتوسيع دوره.
  • ودون أن ننقص من مجهودات هذا البحث حول المستقبل في القطاع الخاص, فإنه ينبغي التركيز في العشر سنوات المقبلة على القطاع العام حيث الحاجة جد ملحة, وحيث المواضيع جد معقدة وإمكانيات التدخل غير مشغلة كما يجب.
  • على البحث حول المستقبل أن يسهر على إبقاء قدر واضح قدر الإمكان بين مهمته التحليلية, وفي حالة مخالفة ذلك, فإن معناه سيحجب, وإن مصداقيته وفعاليته وقابليته للحياة على المدى البعيد ستكون مشبوهة.

3 – من تعاريف الخبراء الفرنسيين :

Prospective       ( المستقبلية ), prevision  ( التوقع ), planification  ( التخطيط) مصطلحات ثلاثة تشير عند غير الملم بعلم المستقبل إلى نفس المعنى والمتعلق بابتسار تاريخ مستقبلنا (6). إلا أنها عند صاحب الاختصاص, تشير بالعكس إلى ممارسات مختلفة قدمت أحياناً على أنها متنافسة.

  • فمصطلح (prevision)  نشأ وترعرع في الميادين الاقتصادية والتكنولوجية. التي حصرت تحليله في المسائل القابلة للوصف, وتطور من خلال أدوات أكثر علمية.

من هنا كان وضع المتوقعين ( أو المقدرين ) لنماذج اقتصادية ورياضية شديد السفسطة والمغالطة, وكان لومهم موجها للمستقبليين على رغبتهم احتواء كل شئ, وبالتالي فقدان الصرامة .. لكن هيهات, فمبالغة في تقييد التحليل, وجد المتوقعون أنفسهم غالبا في تكذيب اكتفاء بالإشارة فقط إلى إغفالهم للقطعيات الجيوسياسية أو الاجتماعية أو الثقافية.

  • أما التخطيط الاستراتيجي فقد عانى من ضعف ناتج عن مبالغة في قيمة الأهداف والمشاريع التي يمكن أن تتبناها دولة أو شركة دون تقدير عادل لتطور محيطها البيئي, وللضغوط الجديدة والفرص التي يمكن أن يوفرها لها ذلك التطور, ودون إعطاء العوامل الداخلية للإمساك أو الدفع الاهتمام اللازم.

أمام هذا الفشل للتوقع كحدس حول المستقبل, مدرك كتمديد سهل لبعض الاتجاهات الماضية, وأمام ذلك الضعف لدى التخطيط المتجاوز بشدة للحولات الداخلية والخارجية للمقاولة, فإن المستقبلية لا تقدم حلاً.

إنها تذكر بأن المستقبل لم يصنع بعد, وبالتالي لا يمكن معرفته, وأنه سينتج ليس عن اتجاهات متعددة ومشاهدة نوعاً ما وقابلة للوصف, ولكن عن تصرفات ومشاريع فاعليات اجتماعية فقط.

انطلاقا من هذه الحالة, فإن المستقبلي والمتوقع والمخطط يجدون أنفسهم في مواجهة نفس التحدي, ألا وهو السبق أو الابتسار ( Anticipation)  من أجل العمل, ولو أدى ذلك إلى تخلي البعض عن جزء من قوته ونشدانه العلمي والفلسفي من أجل التفكير جميعاً في الاستعمال المتكامل لأدواتهم.

لهذا نرى وباستمرار تطور خلايا للتفكير داخل الإدارات أو المقاولات مهما تعددت نعوتها الرسمية وتطبيقاتها تتلاقى في تخوم الطرائق الثلاث, البديهية التكامل.

وكل تخطيط استراتيجي محدد لأهدافه ووسائل عمله الضرورية يفترض – بادئ ذي بدء – حد أدنى من التأمل المستقبلي الاستكشافي حول بدائل المستقبل الممكنة المحتملة والمرجوة.

ومن ناحية أخرى, لا قيمة لنموذج موصوف للمستقبلية إلا بفرضياته, وتحديداً فإن مشاهد المستقبلية لها الفضل في تجلية مجموعة الفرضيات المتماسكة والمحتملة في الإطار الذي يمكننا من تشغيل النماذج فيه كما ينبغي.

وعلى نفس الشاكلة, فإن المشهد الموصوف لا نفع له إذا لم يترجم في وقت أو آخر إلى عينة من النتائج الملموسة ( استمارات, عقود, نتائج مالية, فرص للشغل … )

وللتقليص من غياب التأكد السائد في مختلف الميادين الجيوسياسية والتكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية, ينبغي تعزيز التكاملات والتوافقات بين العائلات الثلاث : المستقبلية والتوقع والتخطيط الاستراتيجي, والعمل على إنهاء الصراعات بين الكتل المتبقية هنا وهناك.

فالسفينة المنطلقة في بحر هائج, تحت ضباب كثيف وعاصفة عارمة, هي في أمس الحاجة في نفس الوقت إلى الراصد (vigie)  والدفة (gouvernail) . هذه الجدلية بين الابتسار والفعل هي من الأهمية بحيث إننا لسنا فقط لا نخشى بفضلها الضلال, ولكن نتمكن من خلالها الوصول إلى هدف محدد, بيد أن قائمة الإمكانيات ما زالت مفتوحة بكفاية لتمكن من اختيار المستحبات.

 

الهوامش

  • الجزء الأول مقتبس من بحث غير منشور بالفرنسية تسلمناه شخصيا من الباحث, هو عبارة عن موجز لمحاضرة ألقيت سنة 1977, وقمنا بترجمته إلى العربية, والثاني من محاضرة موضوعها ” المغرب العربي سنة 2000 ” ألقيت بتونس وصفاقس يومي 11و12 يونيو 1982 تحت إشراف الجمعية المغربية للقاءات المغربية ونشرت بنصها الفرنسي وترجمتها العربية في إصدار مشترك بين الجمعية المغربية للمستقبلية وجمعية اللقاءات المغربية سنة 1982, ونشرت في غير واحدة من المجلات العربية, منها مجلة ” المستقبل العربي ” عدد 53, يوليوز 1983, ص ص 4 – 17.
  • ” صور المستقبل العربي ” د. إبراهيم سعد الدين, ود. إسماعيل صبري عبد الملك, و د. علي نصار, ود. محمود عبد الفضيل, نشر مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, الطبعة الثانية, يناير 1985, ص 24 و 25.
  • ” مستقبل الأمة العربية ” التحديات, والخيارات, التقرير النهائي ل” مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي ” د. خير الدين حسيب, ود. سعد الدين إبراهيم, ود. علي نصار, ود. علي الدين هلال, مركز دراسات الوَحدة العربية, ببيروت الطبعة الأولى, أكتوبر 1988, ص 40 و 41.
  • وهو تعريف للأستاذ روي أمارا (Roy Amara) مقتبس عن ترجمة لمقال له إلى الفرنسية منشورة في مجلة (futuribles) العدد 96, فبراير 1986, ص ص 87 -91.
  • (Futuribles) عدد 71 نوفمبر1983. والتعريف لخبيرين كبيرين من خبراء المستقبلية الفرنسيين وهما هوك دوجوفنيل ( Hugues de jouvenel) مدير مجلة (Futuribles)  وميشيل غودي (Michel Godet)  أستاذ مشارك بالمعهد الوطني للفنون والمهن بباريس, ومستشار علمي لدى مركز المستقبلية والتقدير (centre de prospective et d,Evaluation)  للصناعة والبحث بفرنسا, ومستشار أوروبي لمعهد “غاما ” بمونرييال بكندا, ولكل من الخبيرين كتب وأبحاث هامة في ميدان دراسة المستقبل.
  • الابتسار كلمة عربية أصيلة تعني القيام بالشئ قبل أوانه, وهو المراد بكلمة (anticipation) الفرنسية, ولقد كان ميلنا إلى كلمة ” الابتسار ” بدل كلمات “تقديم” و ” تسبيق ” و “سبق ” و ” توقع ” التي تقترحها المعاجم لأنها أقرب إلى الدلالة على المراد بالكلمة المرادفة لها بالفرنسية, جاء في ” لسان العرب ” لابن منظور : ” والبَسْر: الإعجال ” وبسرت الدمل إذا عصرته قبل أن يتقيح ( وهذا هو الهدف من ابتسار الزمن القادم, أي التفكير في أزمانه المحتملة قبل أن تقع, والمبادرة بعلاج أسبابها قبل أن تستفحل ) وبسر حاجته يبسرها بسراً وبسارا, وابتسرها وتبسرها: طلبها في غير أوانها ( والمراد فعلا في علوم المستقبل والإعداد للغد – التفكير في مشاكل للمستقبل محتملة الوقوع قبل وقوعها بالفعل ) وتبسر طلب النبات أي حفر عنه قبل أن يخرج, وبسر النخلة لقحها قبل أوان التلقيح ” ومما يزيد من تمسكنا بهذه المقابلة للكلمة الغربية (anticipation) أن علوم المستقبل تريد نورا في ظلمات الزمن القادم, وتبحث عن ضمانات ارتواء وسبل ذلك في أودية الغد المحتملة الجفاف, والابتسار يترجم تلك الإرادة وذلك البحث, يضيف ابن منظور : ” وبسر النهر إذا حفر فيه بئرا وهو جاف, وأبسر إذا حفر في أرض مظلومة, وابتسر الشئ أخذه غضا طريا, وفي الحديث عن أنس قال: ” لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قط إلا قال حين ينهض من جلوسه : أهتم به, وما أنت أعلم به مني وزودني باتقوى واغفر لي ذنب ووجهني للخير أين توجهت ” , ( انظر ” لسان العرب ” لابن منظور, دار صادر, ببيروت المجلد 4, ص ص : 57 – 59 ) وبما أن البسر والبسار والابتسار والتبسر كلمات مترادفة, وبما أن من معاني البسر معنى آخر مخالف للابتسار, وهو النظر بكراهة شديدة, فإننا نفضل استعمال كلمة ” ابتسار ” لكونها علاوة على ما تقدم, توحي بمجيئها على وزن ” افتعال ” بإرادة ذاتية مقصودة للفعل من طرف الفاعل, والابتسار في البعد الزماني إرادي ومقصود كذلك.

 

(5)

حاجتنا إلى علوم المستقبل

     إن المتفحص لما يصدر في الغرب من دراسات وبحوث عن المستقبل في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد والعلاقات الدولية والبيئة والديموغرافية وغيرها يلاحظ أن هناك تقدماً ملحوظاً في الكم والكيف انطلاقاً من القرن الحالي مع ازدهار متنام منذ الخمسينات, وإنتاج مكثف ومتعدد في العشرين سنة الأخيرة.

والمتتبع لما صدر في العالم العربي في هذا الباب, يجد أن دراسات المستقبل ما زالت في المهد, وأنها لم تر النور في أغلبها إلا في العشر سنوات الأخيرة, كان الغرب وراء انطلاق عديد منها, خاصة بعد أن هزت مضاجعه الصحوة الإسلامية, وصدمه قبلها إدراك الدول العربية قيمة الثروة البترولية, وحيرته مختلف المفاجآت التي كان العالم العربي والإسلامي مسرحاً لها.

وإن التقلبات التي عاشها العالم شرقاً وغرباً في الثمانينات, ومن أبرزها تراجع الشيوعية كمذهب ونظرية, وانعكاسات هذه التقلبات, وخاصة تقلبات أوروبا وآسيا الشرقية, لتنبئ باهتزازات ضخمة وموجات قعر مهولة في أواخر هذا القرن, ستهز عديداً من الدول التي تئن شعوبها تحت وطأة الديكتاتورية الحزبية أو الفردية, والتي تصدعت عراها بفعل التخلف التربوي والاقتصادي والاجتماعي والإداري والمالي وتفشي مختلف أنواع الاستبداد والارتجال؛ لغياب العلم والعدل, وانعدام الحريات, واستحالة تطور النقد.

ومما يزيد في حاجتنا الملحة إلى الدراسات المستقبلية ونحن على مشارف الألف الثالثة من الميلاد, هو أن العلاقة العضوية بين التوقعات والقرارات والأعمال لم تعد سهلة.

ففي زمن كانت فيه عوامل الفعل قليلة العدد سهلة التحديد, كانت الاستراتيجيات واضحة, والأهداف بينة, والنتائج المرجوة خالية الغموض أو قريباً من ذلك, وكانت العلاقات مباشرة بين التوقع والفعل مساهمة في تقليص دور العوامل المحتملة, (1) ولنا خير المثل في بعض وقائع الحروب القديمة ومجرياتها الموصوفة في كتب التاريخ.

لكن مع تعدد المتدخلين والفاعلين في ساحة الواقع, وتداخل العوامل المؤثرة في حركة أو سكون هذا الواقع, ومع سرعة التقلبات وغليان التطورات الذي أحدثته الاكتشافات العلمية والتغيرات البيئية, والتدافع الاستراتيجي, والجدال السياسي, وثقل النمو الديموغرافي وتصدع موازينه بين القارات, كل ذلك وغيره جعل العلاقات بين المتوقعات والفعل في غاية من التعقيد, ومجال الاحتمالات من اتساع إلى مزيد.

فمن كان منا يتنبأ بما وقع بأروبا الشرقية سنة 1989؟ من كان يمكنه التنبؤ بسقوط الديكتاتور تشاوسيسكو مثلاً, والذي صادق الحزب الشيوعي على تجديد انتخابه على رأس الحزب والدولة بالإجماع في شهر نوفمبر, وقاده الشعب من الرئاسة إلى الإعدام في ديسمبر التالي ؟.

بل وقعت كارثة دبلوماسية في إحدى الدول الإسلامية لاستقبالها للديكتاتور ساعات قبل الإطاحة به – ثورة لا انقلاباً – وهي صاحبة الثورة المدوية قبل عقد من الزمن؛ هل كان سياسيوها غافلون عن الأحداث؟ ( وإن كان من تشفى من الأقطار في هذا التصرف في موقفه من الأمر غير بعيد ) فلا عذر لهم في عدم توقع المفاجآت بتحليل المعطيات ! لكن من كان يستطيع الجزم بالحدث أو التنبؤ بسرعة التقلبات؟ .. وحدهم الدارسون للوضع, والمالكون للمعلومات, والمنفذون للاستراتيجيات, كانوا يحسنون وقتها اتخاذ القرارات, في مناصرة المظاهرات وتقديم المعونات, ورصد التطورات !…

سيقول بسطاء الفكر من الناس ما حاجتنا إلى بذل الجهد, وتصديع الدماغ بالخوض في مجال قدره الله وحدده ؟ ونحن الضعفاء أمام قدرته لا نملك حولا للتأثير فيما سبق به القلم, ولا جهدا لتغيير ما خطه القدر ؟ وجوابنا أن القول بالضعف أمام قوة الله وقدرته قول حق أريد به فرار من المسؤولية وتملص من الواجب ! فلو سألنا أمثلهم طريقة لم نشاطك اليومي وسعيك الذاتي للحصول على القوت, سدا للرمق وكسباً للرزق, وأنت تعلم أن رزقك محدود سلفاً, وقوتك مقدر مسبقاً ؟ .. لعجز عن الجواب, ولأسرع إلى تدليل حركته وسعيه بالتمسك بالأسباب ؟

نقول ذلك ليس حباً في إدخال القارئ لدهاليز جدل الجبرية والمعتزلة, ولا إحياء لشطحات بعض الفرق الإسلامية, ولكن تذكيراً منا بأنه أمر من السنة والكتاب : بالكد والجد والأخذ بالأسباب !

ونحن نعلم أن القضاء والقدر من المواضيع الخطيرة التي لا يحسن فهمها إلا ذوو البصيرة من الناس, وكم خاض فيها من السابقين واللاحقين, ممن تعسفوا على نصوص الآيات وأحكام الأحاديث, وتأولوا فيها بغير علم ولا منهج. (2) ونرى أن الجدال بين الفرق الإسلامية من معتزلة وجبرية وغيرها غير خال من الخلفيات السياسية والمضاربات الحزبية, وحسبنا في هذه الدراسة, دعوة القارئ المتبصر إلى فهم ما يراد من التوكل, وعدم خلطه بين التوكل والتواكل. (3)

ولو عكفنا نقلب صفحات التاريخ ونسائل أحداثه, لاكتشفنا أنه بزغ بين صفوف المسلمين الجدل, حين القعود عن العمل. فمنذ ذلك الحين والأزمة الفكرية في استفحال؛ ومن يومها والعمل والعلم والعدل في إدبار, والجهل والاستبداد والتعسف في إقبال, حتى وصل الأمر إلى تمزيق الأمة وشل حركتها وانقطاعها عن قيادة الركب الحضاري, فعجزها مع تراكم الصدع وتفشي الجهل والظلم عن مواصلة السير فيه, ثم وقوفها بعد الغفوة حائرة منقسمة أمام السبل الممكنة للحاق به.

وليس الخلف عن خطى السلف بحائد في هذاالباب, فلو حللت شكل واقعنا المعطوب وتناولت بالدراسة والتحليل حركته المتأرجحة, لصفعتك الدلالة الساطعة على غياب الحس المستقبلي والحدس الإعدادي لمواجهة كوارث الطبيعة, وأزمات الأوضاع, وتقلبات الزمن, مع تناقض بارز بين القول والفعل, وغفلة عن الإنجاز طيلة زمنه المبرمج, ثم استنفار للطاقات وجمع للقوات في أواخر اللحظات !! .. يدل على ذلك الارتجال الملاحظ حين عقد المؤتمرات, أو أرتفاع نشاط الأوراش حين قرب موعد التدشينات, أو التعجيل بدراسة تتطلب شهوراً في أواخر الأوقات, وهكذا دواليك .. وأحسن ما نراه معبراً عن هذا التناقض, المثلُ الفرنسي الذي معناه : ” أحرص الناس على السرعة, أضيعهم للوقت” (4) وأفصح ما نراه ساخراً من هذا الصنف من الناس, المثل المغربي الذي فحواه : “وقت ما استيقظت, فذلك تبكيرك ! ” (5).

ولو انكببنا على الخطاب الإعلامي المعاصر في العالم المتخلف نحلله, لوجدنا من خلال تشريح خطابات الأماني للمستقبل الراغد, وأحلام التقدم ” الآتي ” الذي لا يأتي, والازدهار ” القادم ” المتولي, أن أغلب من يلوك كلمة الديمقراطية أفقدهم لها, وأكثر من يتكلم عن إحراز التقدم السائرون في غير ركبه, ولهذا فإننا لن نعدم في هذا العالم المتناقض من يجادل في منفعة المستقبلية محتجا مثلا بأن ما تصور المستقبليون وقوعه في الثمانينات لم يقع برمته, ناسياً أو متناسياً أن نِتاج المستقبلية ليس تنبؤات لأحداث حتمية الوقوع, بل هو تصور لأزمات محتملة الوقوع, تتجنب باتخاذ التدابير اللازمة والقرارات الحكيمة, ومن السذاجة مواجهتها بالموقف السلبي إلى حين الاصطدام معها حيث لا ينفع الإيمان بها حينذاك في موضوع المستقبلية في شئ, كما لا يلغي عدم وقوعها ضرورة الرصد والإعداد الذي أملته الدراسات المستقبلية.

وبالتالي فمن الغفلة الاعتقاد بأن فس مستطاع المستقبلي التنبؤ بدقة وضبط محكم بجميع التوقعات المقبلة, ومن الشطط مطالبته بالقيام بجرد شامل مضبوط زمنيا لمختلف مصائر تطورات الأوضاع الحالية, بل من البله انتظار إصداره لكتاب مسطور لتاريخ المستقبل !!

والمجتمع الذي تقع فيه الأزمات على نفس الوتيرة التي ترصدها المستقبلي, وتصدق عليه التوقعات التي ظن من خلال دراسته للواقع وتطور آلياته الفاعلة احتمال وقوعها, مجتمع أليق بالمستقبلي أن يغادره ويرحل عنه !

فالمستقبلي ليس عرافا يدعي علم الغيب, يكسب من خلال توافق تكهناته مع سير الأحداث مزيدا من زبناء مصيدته, ولا ” وليا معاصراً مدعيا للتمتع بالكرامات يسعى لضمان مشيخته, بل هو للمجتمع كالطبيب للمريض, يصف له بعد الفحص ما يلزمه تجنبه وما عليه أن يعمله أو يتبعه لشفائه أو الحيلوله دون  استفحال مرضه وتعرضه للهلاك ”

أما مريض لا يمتثل أوامر الطبيب ولا يعمل بنصيحته, ويهلك بما توقعه له في حال مخالفته لما طببه له,  فلا حاجة في أن يقال لطبيبه صدقت في تطبيبك, فقد هلك فلان بما حذرته منه, ولو عمل بما وصفت ونصحت لظل سليما معافى؛ لأن ذلك لن يزيده إلا هماً ونكداً, ولن يضيف لمكانته كطبيب أو علمه بالطب فتيلا ..

بل ما أفرحه لو قيل له أخطأت في تشخيصك للمرض, وفلان رغم عمله بوصاياك ما زال يتمتع بكامل الصحة ووافر العافية, إذن لأسعده أن تكون ذات مريضة مخالفة لسنن الطب, ولما نقصت سلامة الطبيب شيئا من قيمة الطب ولا من علم الطبيب ! ولهذا كثيرا ما ترددت على ألسنة المستقبليين ” القاعدة المستقبلية ” القائلة : ” الشئ الوحيد الذي لا ريب فيه في الدراسات المستقبلية, هو حومان الريب حول توقعاتها جميعا “.

فحملك مثلاً لمظلتك حين خروجك من المنزل والسماء غائمة, والجو محتمل أن يكون ممطراً لا يدل على أنك ستستعمل مظلتك لا محالة, لكن كفاه طمأنتك على عدم الخوف من البلل حين المطر ! كما أن عدم حملك لها – في نفس الظروف وفي غيرها – لا ينقص من منفعة حملها في شئ .. !! فالمنفعة حاصلة منها ولا شك حين سقوط المطر, علماً بأن المثل الذي قدمناه لا يجلي أهمية الإعداد والاستعداد بشكل شامل؛ لأن استعدادك بحملك المظلة غير مانع للمطر من السقوط, فما بالك لو أن استعدادك كان موانعه !!

ولقد أضحى من البديهي الكلام عن تطور العلوم والتكنولوجيا في الزمن الحاضر, أو الإعلان بأن عجلة التاريخ في هذا الميدان تعرف حركة سير متزايدة السرعة أو التصريح بأن انفجار المعارف والأفكار قد عم عديداً من القطاعات محدثا فيها تغييرا مدوياً, وناقلاً إياها من حال إلى حال أشد قطيعة مع الأحوال السالفة من حيث الأداة والأسلوب والمنهج.

فحتى الذين أبوا الانخراط في ركب التقدم العلمي صفعتهم الاكتشافات وزعزعت كيانهم أنباء العلوم والمعارف, وغزت ديارهم التقنيات المتقدمة وتطبيقاتها في شتى الميادين, فأضحت حياتهم اليومية تتطلب مزيدا من الحاجة إلى استعمال منتجات التكنولوجيا الحديثة, بشكل زلزل عديداً من الأفكار لديهم ولدى جماعاتهم.

انظر مثلا للذين لا يزالون متمسكين بتحريم الصور كيف ما كان نوعها, تُراهم كيف يتعاملون مع الناس في تجارتهم وقضاء مأربهم ؟ هل يرفضون النقود وحيازة الأوراق البنكية البنكية لوجود الصور عليها ؟ وإذا استطاعوا أن يجدوا حلاً محلياً فكيف بهم وهم خارج البلد, وفي البلدان الغربية خاصة ؟

طبعاً, لا نعدم في هذا الركب الحثيث نحو الكشوفات المصارعة للطبيعة والمنقبة في غياهب الكون المفتوح, من يركن إلى نكران وصول البشر إلى القمر, أو غيره من الكشوفات العلمية, والدراسات المستقبلية منزهة عن مخاطبة مثل هؤلاء ! فهي منهج فكر, وأسلوب تحليل قبل أن تكون منظومة من البحوث والمعلومات, لا يستوعبها إلا العالمون !

إن دراسة بدائل المستقبل من خلال مشاهد أو تحاليل لأزمات أو توقعات محتملة انطلاقاً من دراسة تطورات الأوضاع الحاضرة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية والديموغرافية والبيئية تمكن من إجلاء الفعل اللازم والحركة الواجبة استعداداً لمواجهة هذا القابل المتأزم أو المتفجر, وبالتالي تجنب الصدام معه, أو احتوائه وحسن استخدامه, أو التخفيف من حدثه ووقعه لتغيير حاصل في شكل وتطور تلك الأوضاع الحاضرة بفضل التأهب والاستعداد في الأزمنة والظروف المناسبة.

ودراسة المستقبل لا تنوب ولا تغني عن التخطيط, فالدراسات المستقبلية لا تضع نفسها عوضاً ولا بديلاً عن المسطرات التقنية والمناهج الفنية للتخطيط, بل على العكس, تعتبر أداة متممة ومكملة لها, مضيفة لها قيمة علمية وفنية لا يستهان بها من خلال التساؤل الذي تفجره حول الغايات والأهداف المرجوة من التخطيط, في شكل أسئلة بديهة : لماذا ؟ ومتى؟ وكيف ؟

فالدراسات المستقبلية إذن ليست مصيدة جديدة ولا لعبة مستوردة بل, هي علم يحتاج إلى مجهود واع ومتزن لتحرير المستقبل أو استرداد المستقبل, ذلك أن المستقبل ببلداننا ما زال كابحاً تحت نير الاستعمار, (6) يخططه ويحدده, يجلي صوره المحتملة, ويملي على عملائه من خلال قنواته ومؤسساته الحلول التي يراها مناسبة لمصالحه, ويقدم الاقتراحات من خلال مراكز وأندية إعلامه, لضمان سير بلداننا نحو الوجهة التي يرتضيها, والتقدم نحو الجهة التي أعدها وأشرف على تحديدها, لهذا فنحن نحتاج إلى الاستعداد لمواجهة كفاح لا نملك له بعد القدر الكافي من الزاد والعدة, بشرياً ومادياً, لكسب المعارك فيه, خاصة وأن الساحة قد تغيرت معالمها عنا بعد هجرنا لها دهراً طويلاً.

ولقد عمدنا إلى أن نتكلم في صدر المقال السابق عن مصدري الفكر الإسلامي : كتاب الوحي وكتاب الكون, وأن نسطر ضرورة وجود مناخ من الحرية والنقد في المجتمع الإسلامي الذي يتطور فيه ذلك الفكر؛ لأن الدراسات المستقبلية لا تبيض تحت نير الاستعمار, ولا تفرخ في مجتمع منغلق على نفسه, كابت للحريات, مستبد بالسلطة, محتكر للقرارات, بل إن ازدهارها مشروط بوجود جو من الحرية والنقد, مع توفر معاهد للتحليل ومراكز للاجتهاد في مختلف الميادين.

نقول توفير مراكز للاجتهاد لأننا نعتقد أن من شروط الاجتهاد المعاصر – امتلاكَ الحس المستقبلي, والإدراك بفعاليات الأحوال الراهنة وتقلباتها المقبلة انطلاقاً من عوامل التغيير التي يمليها الإصلاح في وجه إفرازات المجتمع المتعددة الشكل والاتجاه, وإحاطة المجتهد بنظرية المقاصد وعلم الأصول تجعل منه حتماً مستقبلياً لعدة أسباب نذكر منها :

  • تحرره من التقليد وهو الجرثومة القاتلة للإبداع والابتكار.
  • إحاطته بعلم الأصول, وهي الضمان للاستيعاب الواعي للماضي وفهم حركة الواقع.
  • معرفته بمقاصد الشرع, وهي التأمين من مخاطر الانزلاق في ضلالات الفكر المعاصر وإيديولوجياته.
  • استيعابه لقضايا الواقع ومشاكل المجتمع الذي يعيش فيه, وهي المحرك للبحث عن صور التغيير المحتملة وتقديم الحلول المقترحة لعلاج القضايا والأزمات التي أفرزها المجتمع سعياً إلى تحقيق المصلحة العامة لأفراده على ضوء الأصول والمقاصد.
  • إدراكه للقيم الثقافية المحركة للمجتمع.
  • علمه بالتفاعلات الاجتماعية وتدافع الفئات التي تكون المجتمع فيما بينها من جهة, وفيما بينها وبين المجتمعات الأخرى من جهة ثانية.
  • إحاطته ببواعث الأزمات وانعكاساتها على حياة الأفراد وسلوكهم, والحلول المقترحة من مختلف الهيئات والفئات السياسية لحلها أو التخفيف من حدتها.

ولو كان لنا أن نصوغ برامج التعليم, لجعلنا مادة علم الأصول ونظرية المقاصد ضمن المواد الإجبارية في مختلف مراحل التمدرس وفي جميع الشُّعَب والتخصصات شأنها شأن الرياضيات؛ لأن الرياضيات مادة تمكن الذهن من التدرب على سبل التفكير لإيجاد الحل انطلاقاً من معطيات محددة, تماشياً مع قوانين أو مسلمات معروفة سلفاً.

وعلى نفس الدرب تسير الأصول والمقاصد, إلا أنها تنسلخ من الفكر المجرد لتفرع جذورها في معالجة الواقع انطلاقاً من الأصول الثابتة للإسلام ومقاصد شريعته السمحة.

ثم إن المتفحص لما وصلت إليه الرياضيات أو الفيزياء اليوم, يدرك أنها أصبحت تخوض في دروب تعتَمد على تحرير كبير في الأذهان من حيث تصوُّر المادة وشكلها, ضاربة عرض الحائط بالإيمان بالمادة كعامل فريد لتفسير الكون, واعية بأن هنالك عوامل متعددة غير مادية, روحية وميتافيزيقية, تلعب دورها في صيرورة عديد من سنن الكون وظواهره.

وغريب لدى أمة طولبت بالتدبر أن تغيب عنها العبرة من التاريخ. إن علينا أن نعي أن الأمة التي تكون في قمة الحضارة, تكون هي قاطرة الركب, قائدة لا مقودة, وبالتالي فهي في أمس الحاجة إلى التطلع لما تشقه من طريق, وأرغب ما تكون لإدراك ما قد يعتري سبيلها من العقبات والمعوقات, تجنبا لكل عثرة تفقدها زمام الركب, أو خلل بالصف وراءها فيفوتها انصياع أطرافه.

وكان طبيعيا, نتيجة لما بيناه, أن يكون للمسلمين نشاط ما غير ضعيف في ميدان الاهتمام بالمستقبل والتنظير لاستشرافه وقت كانوا متقدمين على غيرهم في جميع مجالات الحياة وأصناف العلوم والفنون, قائدين للركب الحضاري بدون منازع, ورائدين في مجال البحث العلمي بدون منافس.

فقد كان لهم حتماً اهتمام بالمستقبل, .. وأكيد أن لديهم باعا في التنظير زمانئذ لآفاق الأيام المتداولة.

والمتفحص الدارس لتاريخ الحضارة الإسلامية ينتهي إلى العثور غلى تجليات ذلك الاهتمام في العناية بالمقاصد, وفي الأخذ بالمصالح, وفي صياغة فن لم يسبق إليه, اصطلح مبتكروه على نعته ب ” اعتبار المآل أو المآلات ” ..

قاعدة هذا الفن, أن البت في الحال, يقتضي الإحاطة بالمآل .. فلا يفتي المفتي إلا وهو محيط بما ستؤول إليه فتواه, ولا يؤخذ القرار من أي سلطة كانت إلا وهي مدركة لما سيترتب عن قرارها مستقبلا ومآلاً من المستجدات والمحدثات. حتى صار اعتبار المآل شرطا من شروط العمل بالفتوى والبت في قضايا الناس والقيام بمصالحهم.

لكن لما خاض في العلم غير أهله, وانتزع السلطان سفيه قومه, عمت أبصار الدهن وعيون الفكر عن النظر للمآلات, إلا مآل التمكين للسلطان وإقصاء منافسيه, وفتح باب سد الذرائع على مصراعيه ذريعة لعدم الالتفات لمصائر القضايا ومآلاتها, وركن الناس إلى التقليد, فنتج عن ذلك أمر خطير, مازلنا نذوق مرارته لليوم : تلاشى الأخذ باعتبار المآل, والتعصب لتقليد ما ورث من عمل سالف الرجال.

وطالت لائحة شروط المجتهد, واستمرت في الطول, حتى استصغر المجتهدون الفطاحل أنفسهم عن تبوء مركز المجتهد, ورأوا في القول باستيفاء الشروط أو عدم إنكارهم حيازتها نوعا من الرياء والتعالي, وانعدام للعفة والتواضع, فأغلق من جراء ذلك باب الاجتهاد, لغياب المجتهد واطمئنانه إلى التقليد, بل حثه الناس على التقليد لأن السابقين قد بتوا في جميع القضايا, ولم يتركوا شيئا للخلف إلا ما يقاس فيه على نظرهم واجتهادهم !

والتقليد إن كان مفيدا لبسطاء الفكر والفقه, فهو قاتل للإبداع والابتكار لدى اللبيب النابغة, وبالتالي فإثمه أكبر من نفعه, وزواله أفيد من بقائه, ولكم جنى على أمة الإسلام الركون إلى التقليد, فعطلت قنوات ضخ الدم في جسد الأمة, ولكم فجر فيها من الأزمات فكرا وثقافة وتربية وسياسة, فاستفحل داء التعصب للمذهب, والتطرف لرأي إمامه.

وطبيعي حين العزوف عن البت في قضايا الناس باعتبار حالها المستجد ومآلها المرتقب, أن يسرع الناس إلى التمسك بالفتاوي السالفة, وأقوال المذهب ولو في ظروف مخالفة, وأن يعمد المتفيقهون للحيلولة دون تفاقم تراكم الأمور المستجدة إلى قطع الطريق أمامها بفتح ما سماه الفقهاء والأصوليون ” سد الذرائع ” وهو من الأبواب الهامة التي أسئ استعمالها, وتسرب الغلو إلى تطبيقاتها.

وسوء استعمال سد الذرائع, وأقول سوء استعمال, فسح المجال للجهلة من تولي مناصب القيادة, ومكن صبيان السلطة والوجاهة من كبت الحريات وإلزام الناس بالقرارات, كما أطمئن إليه منظرو الحكم وأعوانه على صعيد الإيديولوجية والفكر, حيث وجدوا فيه راحتهم لإقصاء ما يطرأ من المشكلات والنوازل, وحجة لإلجام كل مجتهد أو دارس للمحدثات, ووصفه بمختلف النعوت المنفرة للناس من حوله, فلم يبق إلا التقليد والعمل به, بل والحرص عليه, كضمان لمواجهة هزات المستقبل المزلزلة, وحسب الأمة هماً من جراء ذلك تعطيل أمر الشورى وعزوف رجال القرار عن المشورة.

وأمة كبلت بهذا الشكل لا مناص من أن تكون مقودة لا قائدة؛ ذلك أن قيادة الركب الحضاري والفكري بعد النظر إلى الأفق بغية الإحاطة بشكل الطريق وأبعاده معوقات وتعدد فروعه, ثم إن النظر في المآلات, والتفكير في بدائل وأشكال الأفق القادم أمر لا يطيقه إلا ذوو البعد الفكري والتمكن المعرفي, .. أما المتنطعون من مقاولي الفكر والثقافة فيسرعون إلى ذريعة اللجوء إلى التفكير في تلك البدائل باختلاف بديل لا مبرر موضوعي له, عاملين بالقول الشائع : كم قضية قضيناها بتركها.

وهكذا تركوا التفكير في بدائل الحلول لما يستجد من القضايا فاختمرت تلكم القضايا وتعفنت, وأضحت بدائل البارحة غير صالحة اليوم, وتأزمت الحلول, وتصدعت عرى المجتمع من جراء التوالد الديناميكي لكل قضية, وحوصر الفكر وشلت حركته لسكون مراكز صناعته فانصاع الناس للأهواء والبدع, ودخلت الأمة في غفوة عارمة, ونأمل اليوم بما نراه من صحوة تكبر مع العثرات, أن تخرج سالمة من قاعة الإنعاش !

ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى التفكير فيما عسى أن نؤول إليه إذا بادرنا بالإصلاح أو عزمنا أو حيل دوننا ودونه, ولعلنا لم ندرك بعد خطورة هذه الغفلة عن إيجاد منهج لدراسة بدائل الأزمنة القادمة, فلقد سرى فينا الاطمئنان إلى الغد بتغذية مشحونة بالآمال, وستفشي في عامة الناس داء الفرار من المسؤولية, والنفور من النظر في المآلات, تشهد على ذلك الأمثلة التي يتداولونها, والعبر التي يرددونها, ظانين أنها من الحِكَم, نذكر منها تجنبا للإطالة مثالين شائعين يبرزان الأثر السلبي للفرار من معالجة الواقع بذريعة استفحال الفساد, وتصور عدم الفائدة مسبقاً من أي عمل للإصلاح !

  • المثال الأول : لا تفعل حسنة, لا ترى بأساً, وهو مثال مشهور في منطقة المغرب العربي, وله أشباه في بقية بلدان العالم الإسلامي, والنغمة الإبليسية واضحة في المثل, خاطئة من أصلها؛ لأن البأس كله هو في ترك العمل بالحسنة !
  • المثال الثاني : ” لن تغير صاحبك إلا بمن هو أفلس منه ” وهو كذلك مشهور بمنطقة المغرب العربي, وله صيغ أخرى في بقية البلدان الإسلامية, والمثال دعوى باطلة لإبقاء ما كان على ما كان, وعدم الإقدام على تغيير المفسدة بحجة الخوف من الوقوع في مفسدة أكبر, والصواب خلاف ذلك, فالغرق عمق أربعة أمتار أو أربع مائة في حق الغرق سيان, فلا يقال غرقه في أربعة أنجى له من الغرق عمق أربع مائة, بل الإسراع في إنقاذه هو عين الصواب, وليس تركه على حاله خشية زيادة عمق غرقه.

ولو كان الاطمئنان إلى الوضع القائم, ورفض الإقدام على الإصلاح بذريعة استفحال الفساد حجة, لكان بعثُ الله الرسل أمراً لا طائل من ورائه, فلقد كان الناس أمة واحدة, مجتمعين متحدين, فإذا هم بعدها منقسمون متفرقون بين أهل صلاح وأهل طلاح.

ثم لو عكفنا على القرآن نتدبره, لوجدنا أن العديد من الآيات تسفه هذا النوع من التصرف, سواء في مجادلة الكافرين, أو في رد الملائكة على أهل النار.

ولقد أضحى من الضروري أن نبلور علماً جديداً مجانساً لعلم المقاصد وموازيا لعلم الأصول, يحتوي على نظرية المقاصد كما حددها الشاطبي رحمه الله, أو من سبقه أو عاصره أو تلاه من الأصوليين, ضاماً إليها علوم المستقبل الحديثة بشكل يخدم النظرية ويهدف إلى بلوغ المقاصد الشرعية, واضعاً أركانه على علم الأصول, مفصلاً لبرامج بحث واجتهاد في مختلف الفروع, وموجهاً لأبحاث ودراسات تسعى إلى رفع عجلة المعرفة نحو الأمام على درب الابتكار والإبداع الهادف والنافع للإنسان والإنسانية جمعاء.

ونحن بشهادتنا هذه لم نصغ جديداً ولا أتينا ببدع في القول : فمعلوم عند دارسي الأصول أن علم أصول الفقه هو علم الأدلة, وعلم الاستدلال, أي أنه علم التحليل والبرهان, ذلك أن تحديد الأدلة وتثبيت الحجة يشترط تشريح الشئ المدروس وفك تركيبه لفهم آلياته ونظام حركته وشكل تطوره, ووضع الأدلة حيث ينبغي أن توضع مع تمييز جلي للمظنون والقطعي أمر يحتاج إلى إدراك شامل لشكل ومضمون الموضوع الخاضع للدرس والتحليل, ومعرفة دقيقة بالجنينات السابقة التي أفرزته والدوافع الكامنة التي أبرزته, أما علم المقاصد فيمكن من تحليل مقاصده وغاياته, ومدى تجانسها أو تنافرها مع مقاصد الشرع ونظام الفطرة الإنسانية.

ثم إن علم أصول الفقه لا يقف عند الأدلة السمعية الاستدلال النقلي كما يتبادر للذهن, ولا هو أمر خاص باستنباط الشريعة وتفصيل أمور الفقه, بل هو صالح للتطبيق في جميع الميادين الفقهية والسياسية والاجتماعية وغيرها, فقواعد القبول والرد في مجال الأخبار صالحة للتطبيق على جميع الأخبار, والقياس الذي يقوم على بديهيات عقلية كقولهم : ما ثبت للشئ ثبت لمثله, والتماثل يوجب الاشتراك في الحكم, وقولهم لا يفرق بين المتماثلات, ولا يجمع بين المختلفات, وقولهم لا قياس مع الفارق, هذا القياس صالح للاستخدام في أي مجال من مجالات الحياة اليومية “. (7).

ولعل أشد أبواب أصول الفقه ومقاصد الشرع ارتباطاً بالدراسات المستقبلية, باب التعارض والترجيح, وهو باب يمكن الاستفادة منه في الحياة العملية بأكثر مما يفيد في الحياة العلمية والنظرية؛ لأن الاعتماد على الترجيح مقبول عمليا أكثر مما هو مقبول علمياً, والإنسان في حياته – العلمية أو العملية, قد يجد نفسه أمام اختيارين أو أكثر. وقد يجد لكل واحد من الاختيارين دليلا وسندا ووجها من الصواب يدعو إليه. وقد يطول التفكير – أو لا يطول – فلا يظهر له أن أحد الاختيارين صواب, وأن الآخر خطأ, فلا يبقى أمامه – والحالة هذه – إلا أن ينظر في رجحان الأمرين على الآخر فيأخذ بالراجح, ويترك المرجوح.

وها هنا تضل أفهام, وتزل أقدام, ويلتبس الحق بالباطل, والصواب بالخطأ, فعلى أي أساس يقع الأخذ والترك ؟ وبأي مقياس يكون الاعتبار والإهمال ؟ وبأي موجب يتم التقديم والتأخير ؟ والترجيح وما يصلح مرجحا هنا لا يلزم أن يكون مرجحا هناك .. ” (8).

هذا الباب إن كان ألصق الأبواب بالدراسات المستقبلية خاصة في مجال اتخاذ القرارات كما سنبين ذلك إن شاء الله في دراسة قادمة, فإنه أخصب أبواب أصول الفقه وأشدها مطالبة بتثبيت القواعد وإمعاناً في توضيح المقاصد, وإضافة العمل بمناهج المستقبلية لهذا الباب ستمكن حين تعارض التحليل وترجيح البدائل من المزيد من توضيح الخيارات والمساعدة على اتخاذ القرارات, ضمانا لسلامة الاجتهاد وحرصا على رفاهية الإنسان وخدمة الإنسانية جمعاء.

وتجانس علم المستقبل مع علم الأصول ونظرية المقاصد واضح وجلي لا غبار عليه, والمقارنة بين منهج الدراسات المستقبلية, ومناهج علم المقاصد على بساط قواعد الأصول تدعم هذا الرأي, بل تنتهي إليه ونكتفي للدلالة على ذلك بضرب مثال واحد, وإلا ففي جعبتنا في هذا الباب أكثر من مثال :

من القواعد المسلمة عند الأصوليين, القاعدة الذهبية القائلة : ” درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ” هذه القاعدة توضح البرنامج الذي على الفرد أن يلتزم به في حياته ويضعه صوب عينيه لصياغة مستقبله, وهو اهتمامه بالأمور التي يلزمه اجتنابها أكثر من اهتمامه بالأمور التي عليه أن يفعلها أي أنه مطالب بالبحث عن السلبيات لاجتنابها ودوافع الأزمات لكبتها والتخلص منها أكثر من بحثه عن الإيجابيات ووصف أشكالها. ذلك أن التخلص من السلبيات, هو تلقائياً عمل بالإيجابيات.

وإذا طبقنا هذه القاعدة على ميادين معاصرة, أمكننا من خلالها القول في الاقتصاد مثلاً بأن ” تجنب الأزمات مقدم على التوسع في التجارات ” وفي التربية ” محو الأمية مقدم على تعلم اللغة الأجنبية ” وفي الهندسة ” رفاهية الإنسان مقدمة على التفنن في البنيان ” وفي مجال السياسة والقضاء ” ضمان الحريات مقدم على إجراء التحريات ” وهكذا يصاغ سلم الأولويات, على مثل هذه القواعد يبنى المستقبل وإلا فالفوضى بمفهومها العام والمطلق, حاضرا ومستقبلاً.

 

الهوامش

  • لمزيد من التفصيل في هذه النقطة, راجع المستقبلية, ( la prospective ) لأندري كليمون ديكوفلي ( Andre – Clement Decoufle) سلسلة ماذا أعرف ؟ (Que sais – je)  المطابع الجامعية لفرنسا (PUF)  الطبعة الثانية. 1980. وخاصة الفصل الرابع : المستقبلية والقرار, ص ص : 102 – 118.
  • أصدر الدكتور فاروق أحمد الدسوقي دراسة هامة في ثلاثة أجزاء بعنوان ” القضاء والقدر في الإسلام, أحرزت جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية لعام 1985, المكتب الإسلامي ببيروت ومكتبة الخافي بالرياض, الطبعة الثانية 1406 ه 1986 م نعتبرها من أشمل ما كتب في هذا الباب.
  • أدعو القارئ لمراجعة دراسة قيمة لأستاذنا محيي الدين عطية, قدمت لندوة ( من أجل استراتيجية ثقافية إسلامية ) المنظمة من طرف الايسيسكو في الرباط ما بين 18 و 20 ذي الحجة 1408 ه ( 2-4 غشت 1988 ) ونشرت في مجلة ” الهدى ” العدد 21 جمادي الأولى 1410 / دجنبر 1989, بعنوان ” نحو إصلاح ثقافي شامل ” , ص ص 46-49 .
  • نص المثل الفرنسي هو :

( ce sont toujouts ceux qui n,ont rien a foutre qui sont les plus presses )

والترجمة القريبة من النص هي : ” الذين لا شغل لهم, هم المستعجلون ” ولكن الترجمة الأقرب للمعنى هي التي ذكرناه.

  • نص المثل الغربي يقول : ” وقت ما ففتي, ها ذاك هو بكري ديالك “.
  • حول موضوع تحرير المستقبل ندعو القارئ لمراجعة الكتاب القيم الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية, تحت عنوان ” استرجاع المستقبل ” بإنجاز كبار المؤسسات المستقبلية الدولية وهي : الفيدرالية العالمية لدراسات المستقبل, والجمعية الدولية للمستقبلية والجمعية العالمية للمستقبلية الاجتماعية, وقد صدر باللغتين الإنجليزية والفرنسية, ولا زال ينتظر من يترجمه إلى العربية, خاصة وأنه أنجز من طرف “البرنامج ” ليكون دليلا للمخططين الأفارقة, في مجال الدراسات المستقبلية, وبالتالي فهو دليل لمجموع العالم الثالث في هذا الباب.

( Reconquetit le future ) manuel d’etudes prospective a l’usage des planificateurs africains. PNUD. 1987. )

  • ” حاجتنا إلى علم أصول الفقه ” الأستاذ أحمد الريسوني ” ” الهدى ” العدد 18, رجب 1408 / فبراير 1988.
  • نفس المرجع, ص 29.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر