أبحاث

التغيير: الفلسفة والمنهج

العدد 88

(1)

المنهج في اللغة العربية هو الطريق والسبيل الموصل إلى المقصود، وفي الاصطلاح الشائع : فلسفة ينبثق عنها إجراءات تهدف إلى الوصول لغرض معين ، وإذا أردنا أن نتكلم عن مناهج الغيير فلابد من الكلام عن تلك الفلسفة وهذه الاجراءات التى تمكننا من علية التغيير ، وهذه الاجراءات قد تتعدد وتختلف اختلافا كبيراً تبعاً  لاحتلاف المجال الذي نريد تغييره ، والوسائل التى يمكن استعمالها فى هذا التغيير مما جعلنا نختار صيغة الجمع (مناهج) على صيغة المفرد (منهج) لأن التغيير ليس له منهج واحد، بل هى  مناهج متعددة يخدم بعضها بعضًا، وتتضافر جميعًا للوصول إلى المقصود.

(2)

وكلمة تغيير أيضًا تعني : التبديل عن قصد ، بخلاف كلمة تغير التى تعني التبدل حتى مع غير قصد ، فعلينا إذا أن نحدد الفلسفة ، والاجراءات وأهداف الغيير ، وليكون هذا البحث بمثابة المعيار الضابط والمحور الذي تقوم به الكتابات في هذا المجال ونأمل أن يساهم  في تحقيق ذلك.

ونحن نعى بالفلسفة هنا: الرؤية الكلية لمباحث الوجود والمعرفة والقيم وهى المجالات التى كانت ومازالت عند كثير من مدارس الفلسفة أساسًا لدراستها ، حتى إن الوضع لرأي أو رؤية تشمل على تلك المباحث كلها يكون قد وضع مذهبًا فلسفيًا ، بخلاف من وضع رأيًا أو رؤية جزئية تعالج إحدى هذه الجوانب ، فإن ذلك يمثل اتجاهًا فلسفيًا وليس مذهبًا فلسفيًا.

والفلسفة التى نتبناها كمسلمين ناشئة في ظل إطار مرجعي يعد أساسًا ومنطلقًا للعقيدة الإسلامية ، التى ينشأ عنها بدورها تصور مبدئي للإجابة عما يسمي بــ ( الأسئلة الكلية الكبرى) ، والأسئلة الكلية الكبرى هي السؤال عن : الماضي والحاضر والمستقبل ، هو سؤال الإنسان : من أين أنا ؟ وماذا افعل في هذه الحياة الدنيا؟ وماذا سيكون مصيرى بعد ذلك ..  بعد الموت ؟ وهذه الأسئلة كانت بداية للتفكير الفلسفي  والتعرض إلى مسألة الخالق والكون والإنسان ، وما بعد الحياة، وقضايا الالتزام والأخلاق، وقضايا المعرفة والمنطق . إن الإجابة على هذه الاسئلة الكبرى تختلف باختلاف الفلسفة التى تجيب عليها، وتمثل الإجابة عنها الإطار المرجعي للمسلم ، فالمسلم يعتقد، ويرى ، ويؤمن: أن هناك خالقًا لهذا الكون، وأنه متصف بصفات الجمال والجلال والكمال ، وأنه واحد أحد ليس كمثله شئ وهو لم يخلق الدنيا عبثًا بل خلقها لأمرين : الأول : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } والثاني : العمران {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } ، وأنه لم يترك الناس سدى بل أرسل إليهم الرسل وأيدهم بالمعجزات التى تبين صدقهم ، وجعلهم يأمرون وينهون على وفق الفطرة السليمة وعلى وفق العقول الراجحة وعل وفق النفوس الذكية ، وأنه سبحانه شرع للناس حدودًا مطلقة يجب عليهم أن يلتزموا بها لتحقيق مراده من خلقه وهو العبادة والعمران، وأن مقصد الشرع حفظ النفس والعقل والدين وكرامة الإنسان ومسلكه، وأن ذلك هو النظام العام الذي لا يمكن الخروج عليه أو الانحراف عنه، وجعل سبحانه هذا هو القدر المشترك بين كل الشرائع التى أنزلها ، وجعل ما يخالف ذلك مستهجنًا ومرفوضًا من جماهير البشر وعموم الناس ، ويرى المسلم في إطاره المجعي هذا أنه ملتزم فى حياته الدنيا بذلك ، لا يمكنه التفلت منه وأنه ينبغي له أن يدرك الواقع وأن يضع القوانين ويسن الاجراءات التى تختلف باختلاف الأشخاص والزمان والمكان والأحوال بحيث تحقق تلك المقاصد من ناحية وتلتزم بمجمل الشرع وحدوده من ناحية أخرى.

ويرى المسلم أن هناك يومًا آخر سنعود فيه إلى الله بعد الموت ، للحساب العقاب أو الثواب ، ويرى المسلم أيضًا حرمة للأشياء فيقدس الكعبة والمصحف والنبي ، ويرى أن الأمور منها مطلق ومنها نسبي ، ويرى أن المعرفة مصدرها الوحي والوجود معًا وليس الوحى فقط ، ولا الوجود فقط ، فكلا من الوحي والوجود من عند الله ، هذا بالمر وهذا بالخلق ، فالوحي كتاب الله  المسطور والكون كتاب الله المنظور ، وهما – ولأن المصدر واحد – متطابقان فلا يمكن أن يختلفا في شئ ، وإن بدا وظهر ثمة خلاف فلابد من التأويل للوصول إلى التطابق بين الكتابين.

وفي ظل هذا الإطار المرجعي نشأت العقيدة الإسلامية بإجاباتها جميعًا عن كل الأسئلة الفرعية التى تعرض لها علم الكلام.

فالإطار المرجعي للمسلمين يمكن أن نطلق عليه (جدلية الوحي – الوجود)  وهى تلك الجدلية التيَ بين المعرفة الربانية التى مصدرها الوحي سواء أكان ذلك في صورة نصوص ( كتاب وسنة) أو فهم للنصوص (قطعي أو ظني) ذلك من ناحية ، وبين الواقع المعاش من ناحية أخرى.

إن الفارق الموجود دائمًا بين الوحي بأوامره ونواهيه (المنصوصة و المستنبطة) وبين الواقع المعاش المتغير بطبعه يسبب جدلية تدفع المسلم إلى الفهم  والتعامل مع الوحي بمصادره لتحويله إلى إجراءات قابلة للتطبيق في ذلك الواقع وإلى دراسة الواقع لتهيئته ؛ ليكون صالحًا لإيقاع الأوامر والنواهي الربانية عليه، وفي ظل هذه الجدلية تتم عملية المعرفة من جانب وعملية السلوك من جانب آخر.

الإطار المرجعي

(الوحي الكتاب المسطور –الوجود)

المعيار

-1-

العفيدة

الجمع الكتاب المنظور بين القراءتين

الوجود

-2-

التصور المبدئي

( الإجابة على الأسئلة الكلية)

  

النص وفهم النص

1-      فهم: لعمل اجراءات قابلة للتطبيق

2-      دراسة : لتهيئته لتطبيق الأوامر و النواهي

(3)

في ظل ذلك الإطار المرجعي ، ومع استحضارنا للعقيدة الإسلامية يمكن تكوين مجموعة ن التصورات الأساسية ، والتى تميز المسلم في عالمنا عن غيره، التى يتمثل فيها ايضا الفارق الكبير بين الإسلام وغيره من الاديان والمذاهب الفلسفية والاخلاقية ، والتى ينبني عليها خطط الغيير واجراءاته ، والتى يكون بها التقويم والقبول والرفض ، من ذلك : أن الإنسان سيد في الكون وليس سيدًا للكون.

وأنه مكرَم قد سخر له الكون وليس هو جزء من الكون يجرى عليه ما يجرى على محض المادة، وأن هذا الكون وراءه حكمة بالغة وهو مبني على الاتساق وزوجيه التكامل والعلاقة بين الإنسان والكون علاقة التعامل والتكامل وليست الصراع وثنائية التضاد، وأن الحق واحد وليس تعددًا فمن أصاب الحق فهو على الحق ، وإن كان من أمور الاجتهاد فله أجران ومن أخطأ الحق فهو على الخطأ ، وإن كان من أمور الاجتهاد فله أجر واحد حيث بذل ما في وسعه لتحصيل الحق وإن لم يحصله ، وأن الحقيقة لها درجات لا يناقض بعضها بعضا ، ويرى الثابت والتغير ، ويرى القطعي والظني إلى غير ذلك من مكونات المنظومة التي تمثل تصورًا شاملًا حاكما على سلوك الإنسان وأحكامه الصادرة منه على الأشياء والأفعال والإنسان والأفكار ، وهذه الأربعة يمكن أن تكون مجالات التغيير من خلال أربعة مداخل أخرى وهى الزمان والمكان والأشخاص .

(4)

أما الإجراءات فإنها تشمل تحديد المصادر والطرق وشروط القائم بالتغيير، فالإجراءات تشمل عادة هذه الجوانب الثلاثة (1).

فما هى المصادر التي سيرجع إليها القائم بالتغيير ، ولنطلق عليه حتى يغير ، إن هذا مرتبط بمجال الغيير الذي سنتكلم عليه في الفقرة التالية ، والمصدر هنا للإطار المرجعي .. ينبغي أن يكون الوحي والوجود معًا.

أما طرق التغيير فينبغي أن تتم من خلال :

فهم النص بصورة تحوله إلى خطوات عملية متتالية للتطبيق في الواقع.

دراسة الواقع بغرض تهيئته لتطبيق النص عليه.

ونحن نفهم النص عن طريق مجموعة من علوم أصول الفقة والحديث واللغة، على أنه ينبغي فهمه أيضًا من خلال التزاوج بين قراءة كتاب الله المنظور ( الكون) وكتاب الله المسطور ( القرآن) حيث يحدد هنا التزواج والتكامل كثيرًا من اختيارنا لما يحتمله النص من معان.

إن الفهم للنص والدراسة للواقع يمثلان الأدوات التي يمكن بها سلوك طرق التغيير .

أما شروط المغير فهي تختلف باختلاف المستويات والأقسام التي سنعرض لها في الفقرة التالية .

(5)

إن  التغيير المطلوب ينبغي أن يتم في ذلك الإطار المرجعي وعلى مستوياته المختلفة:

فهناك تغيير على مستوى الفرد، والجماعة، والدولة، والأمة، وهذا المدخل يحدد المسئوليات، ويزيل الإحباط الذي قد ينشأ عند أي مستوى يحاول أن يقوم بدور المستوى الآخر أو وظائفه في التغيير ، فعلى الفرد أن يغير نفسه، وليس مسئولاً عن المستويات الأخرى  إلا بقدر كونه عضوًا فيها، فحيث لم يكن بيده سلطة اتخاذ القرار أو التنفيذ فلا يطالب بما لا طاقة له به { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}،  >>ابدأ بنفسك ثم بمن تعول <<، { ولا تزر وازرة وزر أخرى>>كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته<<، فمن الوجي تبين أن المسئولية شخصية سواء على المستوى الفردي أو غيره، ومن الواقع ويتبع سنن الله في الأنفس والآفاق تبين ما ذكروه في علم الإدارة أن السلطة والمسئولية وجهان لعملة واحدة، فلا مسئولية بدون سلطة ولا سلطة بدون مسئولية.

وما يقال في جانب الفرد يقال في جانب الجماعة والدولة والأمة، إلا أن كل مستوى منها له آلياته وطبيعته التي تحكمه.

وسنفصل قريبًا تلك الآليات على المستويات المختلفة.

وهناك تغيير من الجانب السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي ومجموع ذلك يمثل جانب الأستقرار، ومن جانب القانوني والقضائي ويمثلان جانب العدل ومن جانب التربية والتعليم والصحة ويمثل  جانب عمارة الإنسان ، وكل ناحية من هذه النواحي لها إجراءاتها الخاصة بها والتي تتواءم مع طبيعة ومقتضيات ذلك الجانب من ناحية ومع متغيرات الزمان من ناحية أخرى.

ومن أجل أن التغيير يشمل كل هذه الجوانب والمستويات ولتميز الإجراءات التي تخص كل مستوى وكل جانب جاز لنا التعبير بالجمع في قولنا (مناهج التغيير) ولم نستعمل المفرد ( منهج التغيير) ؛ وذلك لتعدد الإجراءات في التعامل مع كل قسم.

(6)

إن الفرق بين التغير والتغيير هو الاختيار ، فيمكن أن نطلق على الغير اللاإرادي أو القهري كلمة ( التغير) سواء أكان ذلك في الزمان – أو الحال – أو الأشخاص.

أما ما كان عن اختيار فهو تغيير، سواء أكان في المكان أو الحال أو الأشخاص أيضًا .

مجموع ما يقع من خلاله التغيير والتغير أربعة:

الزمان – المكان – الحال – الأشخاص  فالزمان عرض غير قار، ولا سلطان لنا عليه، ويمكن أيضًا أن نطلقه على سبيل المجاز على مجموعة العلاقات والآثار المتشابكة التي لا سلطان للبشر عليها، والتي تنشأ من منظومة غاية في التعقيد مكونة من :

الأشياء – الأشخاص- الأحداث- الأفكار- والنظم .

وعلى سبيل المثال فإن الإنسان كان يعيش أمسه في يومه قبل الفترة من 1830 م حتى 1930 م وهي الي اكتشف واخترع فيها الإنسان مجموعة من المكتشفات والمخترعات التى  اختلف بها البرامج اليومي له؛ فتغيرت المواصلات والاتصالات والتقنيات، وهذا أثر في حياة الإنسان من ناحية وجعل الأرض كقرية واحدة تؤثر فيها أفكار مكان ما في أفكار وسلوك مكان آخر وبسرعة أكبر من سرعة التفكير ، فنشأت بذلك ازمة العصر من أن العمل سبق الفكر، والنشاط سبق التأمل، فأثر هذا مثلًا على فلسفة أمثال نيتشه الذي يدعو إلى الغريزة قبل العقل وغلى النسبية دون المطلق … وهكذا(2).

والمكان يختلف في نفسه حيث يمكن أن ينتقل الإنسان من مكانه إلى آخر على سبيل الهجرة، ويختلف مفهومه حيث تلعب المفاهيم السياسية مثلا دورًا في تحديد  معنى الوطن والمواطنة أو الدولة الإقليمية وحدودها أو تلعب المفاهيم العقائدية دورًا فى تحديد معانٍ أخرى لنفس المصطلحات، فيمكن تغيير المكان اختيارًا في ذاته أو في مفهومه ، ويؤثر هذا على عملية التغيير وعلى تبني الإجراءات الازمة له.

أما الحال فهو يشمل  الصفات التي يتصف بها أي جانب من الجوانب الخمسة السابق ذكرها، ونعني بالصفات هنا معناها الواسع فالأشياء تتغير وتأخذ صفات جديدة تؤثر على حياة الإنسان وعلى صحته وعلاقاته وطريقة  تنفيذه لما الزمه به ربه سبحانه وتعالى، فوسائل المواصلات وهى من باب الأشياء تحولت من الخيل والإبل إلى آلة البخار إلى قطار الكهرباء ثم الطائرة ، فأخذت هذا مع ثورة الاتصالات من هاتف وإذاعة وتليفزيون وغيرها مع ثورة التقنيات الحديثة والمعلوماتية، أحدث ثقلًا على حياة الإنسان ، فلو تصورنا شحصًا ينتقل من بلده يصل رحمه ببلد آخر على بعد مائة ميل فإنه كان ينتقل في ثلاثة أيام ويجلس عند رحمه يوين أو ثلاثة يستأنس كل واحد منهما بالآخر وتنشأ من ذلك علاقات حميمة وعوائد للضيافة وود في الصلة ثم يعود مرة أخرى في أيام ثلاثة إلى بلده لتمثل هذه الرحلة نحو عشرة أيام مثلاً، كل هذا يتم الآن في ست ساعات ويعود الزائر إلى بلده ليقوم بعدة أعمال أخرى، فكأن يوم الإنسان اليوم يتم به ما كان يتم في ثلاثين أو أربعين يوماً وهذا الإثقال شتت الذهن وجعل العمل يسبق التفكر، والنشاط يسبق التأمل كما ذكرنا، فدراسة تغير الأشياء أمر ضروري لفهم الواقع.

أما الأشخاص الطبيعيون أو المنسوبون أفرادًا أو جماعات أو مجتمعات ( دولًا) أو أممًا فيمكن إطلاقهم بمعنيين:

الأول: وجودهم في ذاته، وهذا قهري باعتبار الأشخاص الطبيعيين  ؛ حيث الخلق من عند الله أو باعتبار الأشخاص المعنوية حيث تتكون بعض الجماعات أو المجتمعات أو الأمم من غير فعل الإنسان.

أما المؤسسات والهيئات والجماعات التوليدية فإنها من فعل الغنسان يمكن إلغاؤها أو الإبقاء عليها.

والمعنى الثاني : الأفعال الصادرة منهم وهذا فيه اختيار من الإنسان، ولذلك كُلّف وحُوسب على تكليفه بناء على تمتعه باختيار واع يستطيع به التمييز والفعل وعدمه، وصدور الفعل من الشخص الطبيعي أو المعنوي هو محل التغيير هو ما سنتكلم على شيء من ضوابطه ومفهومه بعد قليل.

ومن هذا العرض يتبين المساحة التي يمكن فيها التغيير والتي هي من فعل الإنسان واختياره ، وتلك التي لا يمكن فيها التغيير ؛ لأنها خارج فعله، فلابد من التعامل معها على ما هي عليه.

(7)

إن مجال  الاستقرار والعدل وعمارة الإنسان لابد أن يكون في ظل :

1-    مقاصد الشريعة.

2-    منظومة القيم.

3-    السنن الإلهية: المشتملة على السنن الكونية والسنن التاريخية.

علمًا بأن أغلب آيات الكتاب وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) تدور حول هذا الإطارأكثر من وصفها للأفعال البشرية بالأحكام الشرعية ” افعل ولا تفعل”(3).

الأوامر والنواهي   في ظل   المقاصد الشرعية    التي تشمل على    القيم     المتسقة مع     السنن الإلهية / تاريخية كونية.

(8)

ولابد أ ندرك ان تغيير السلوك ( العمل ) . يقتضي تغيير الإدراك (العلم) ومراتب هذا الإدراك ثلاث :

مستوى الفكرة، ومستوى المفهوم ومستوى العقيدة، وهى مستويات ثلاثة متتالية في الجزم والثبات، وعليه فإن ارتباط السلوك بالإدراك قد يكون على أحد هذه المستويات الثلاثة، ويحتاج في تغييره إلى أساليب وإجراءات تتناسب معه، فالسلوك المرتبط بالفكرة يمكن تغييره بتغيير هذه الفكرة، وهو يتم بأسلوب أكثر سهولة ويسرًا من ذلك المرتبط بالمفهوم، حيث يحتاج إلى مجهود وطرق أشد، أما المرتبط بالعقيدة فغنه يحتاج إلى أسلوب أكثر عمقًا وقد يكون من أساليب التعامل معه تركه.

       { لكم دينكم ولى دين}.

هذا كله ينبغي أن يكون ويحصل من خلال تذكرنا واستحضار للإطار المرجعي في جدلية الوحي (الوجود) الذي يفترض أن الواقع دائما سيكون منحرفًا عن المعيار، وليس من المأمول تطابق الواقع معه ، بل هذا هو دافع الحياة والاستمرار فيها،محاولة دائمة للوصول إلى المعيار بغض النظر عن النجاح والفشل أو الخطأ والصواب.

فالسلوك دائمًا يُبنى على المفاهيم،والمفاهيم ثلاث مراتب: (1) إدراك على مستوى الفكرة. (2) وإدراك على مستوى المفهوم. (3) إدراك على مستوى العقيدة. وتغيير العقيدة يحتاج إلى وقت طويل، وإلى مقررات متتالية حتى يكون في ذهن الإنسان ذلك الشعور الراسخ، وقد يحتاج إلى أمرين…. فقد تكون – مثلا – المسائل متعلقة بالجينات الوراثية، بعدما حملت بمعان ومفاهيم، فالشخص الذي ولد مسلمًا من آباء مسلمين نجد عنده هذه المفاهيم من المسلمات التي لا تحتاج إلى جدال ، ولا يستطع أن يخرج منها؛ لأنها قد صارت عنده في شعور الأعماق، ليس على مستوى المفهوم فقط أو على مستوى الفكرة فقط.

وهذه الإدراكات المتتالية يمكن أن تزيلها ن أمامك طبقًا لدرجاتها، فإن كان عندك فكرة أن فلانًا قد ذهب إلى الكلية أمس، ثم نجد فلانًا هذا يبلغك بأنه لم يذهب فتصدقه، وتزول الفكرة، أما أن يقنعك شخص بأن تترك عملك بالكلية… فستجد أن فكرة وجودك كباحث في الكلية قد وصلت عندك إلى درجة المفهوم التي يصعب معها أن تزيله منك إلا بإقناعات قوية تكون على مستوى قوة رسوخ المفهوم في ذهنك، لكن قد يكون من الأصعب  – بصورة عنيفة- أن أقنعك بأن تتخلى عن فكرة الملابس، وبأنه ينبغي عليك أن تسير من غيرها !! لماذا؟ لأن الملابس أصبحت عند الإنسان في شعور الأعماق…

ولذلك من الصعب جدًا أن تقنع طائفة كبيرة من الناس بالتخلي عن ملابسهم كلية… وإن لم يكن هذا مستحيلًا. ومن هنا تستطيع بمثل هذه المعلومات أن تربط بين السلوك الصادر عن الإنسان وبين المفهوم القائم في الذهن ، وأيضًا تستطيع أن تستغل هذه المعلومة في التغيير؛ لأنك إذا أردت أن تغير سلوك إنسان معين، فعليك أن تبحث وتكتشف ما هو المفهوم المتحكم في هذا السلوك، وأي درجة هو فيه، حتى تبذل الجهد الناسب، والطريقة المناسبة لإزالة هذا الإدراك من ذهنه وتغييره، فإذا كان هذا الإدراك على مستوى الفكرة، بذلن مجهودًا قليلًا، وغن كان على مستوى المفهوم فيجب  عليك عند التغيير أن تبذل مجهودًا أكبر، لكنه إذا كان على مستوى العقيدة فينبغي عليك أن تصبر وأن تضيف العامل الزمني والتكرار في قضية الإقناع  وقوته.

(9)

إن أساس التغيير في مستوياته المختلفة ينبغي أن يكون هو السعي إلى الأفضل، والأفضل هو ما يمكن أن نسميه بالقوة المذكورة في قول النبي ( صلى الله عليه وسلم) : ” المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير” ، والقوة هي أساس الحضارات ، ولها عناصرها التي ينبغي تحصيلها، وبشئ من التأمل نجد أن :

المحافظة على الأوقات المأمور بها في البعد عن اللغو {والذين هم عن اللغو معرضون}، ومراعاة العمر ” لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل أربع : عن عره فيما أفناه…. الحديث ” من عناصر القوة.

وكذلك الدقة وإتقان العمل المأمور به في قوله ( صلى الله عليه وسلم) : ” إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه” ، والديمومة على العمل ” احب الأعمال إلى الله أدوامها وإن قل ” ، والعمل بروح الفريق المأمور بها في الشريعة كلها، بدءًا من صلاة الجماعة وانتهاءً بالحج والجهاد، والتناصح ” الدين النصيحة” والاتساق مع السنن الكونية حيث نهينا عن تغيير خلق الله { ولامرنهم فليغيرن خلق الله} …. ( النساء : الآية 199).

إن هذه العاصر لابد من مراعاتها على مستوى الفرد، والجماعات والدول والأمة كلها، وأن تضع خطط التغيير نظريًا وعلميًا بناءً على السعي نحو القوة بعناصرها المختلفة، فهي التي ينبت عليها الحضارات ، سواء الضالة منها أو المهدية، وكأن القوة بهذا المفهوم مرتبطة بالتمكين في الأرض كسنة إلهية لا تتبدل.

وإذا كانت مسئولية الفرد شخصية بحيث يطالب يتغيير نفسه ، فإن العلماء مكلفون بالبيان والتبليغ عن الله ورسوله أمام جماعة المسلمين، والحكام مكلفون بالتغيير على مستوى الدول، حيث يمتلكون إصدار ذلك القرار مباشرة، والمفكرون هم المختصون بالتغيير على مستوى الأمة.

وكل المسلمين مطالبون بإحداث رأي عام يدعو إلى التغيير إلى الأفضل وتحصيل القوة على المستويات المختلفة بمفهومها المبين هنا.

إن هذا التغيير بهذه الصورة سيلزم منه تغيير نمط المعيشة على المستويات المختلفة، وليس بالضرورة رفع مستوى العيشة الذي يرتبط برفاهة استهلاكية، إن تلك الرفاهة ينبغي الا تكون هي المطلب الأصلي ، بل يأتي – إن أتت – تبعًا لتحقيق الهدف الرئيسي من التغيير وهو نمط المعيشة.

إن عقيدة المسلم وإيمانه بالله واليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب مبني على الألتزام وإيمانه بأن الوجود من ورائه رسالة أكثر منه أي شيء آخر من متعة أو نفع شخصي. إن تلك الحالة للمسلم تجعل مفاهيمه ومواقفه عند مسائل التغيير والتنمية الشاملة جد مختلفة عن أية رؤية أخرى.

ويبدو من طلبنا هذا ان دراسة العلوم الاجتماعية- وخاصة في مقامنا هذا علم الإدارة وعلم السياسة وعلم الأقتصاد- من أهم الأمور التي تمكننا من فهم الواقع والتعامل معه.

وسائل التغيير:

وأرى أن وسائل التغيير هي : التربية ، والتعليم، والتدريب.

فالتربية ينبغي ان تأخذ الجانب السلوكي (العمل).

والتدريب يقوم بجانب المهارات (الملكة).

فإن صحت هذه الجهات الثلاث على المستويات المختلفة من المداخل المتعددة المذكورة لحدث تغيير، وأي تغيير.

(10)

وينبغي  على هذا أن توضع إجراءات للتغيير تشل على:

أ‌-        وضع الخطط والبرامج تم تنفيذها ث مراقبتها.

ب‌-    مراجعة وتقويم تلك الخطط.

ت‌-    تغير الخطط وبنائها على قواعد وآليات تغير السرعة اللازمة للتعامل مع المتغييرات من خلال الثوابت.

ث‌-    الاستفادة من السابق، ونعني بها تراكم الخبرات وآثار العمل والعلم والتواصل والاستمرار مع الماضي.

 إن قراءة متأنية في التراث تحاول تجريد ما بُثّ فيه من كنوز وجواهر تمكننا من إحداث الاستفادة من التراكم العلمي عبر القرون وتمكننا من الوصل بين الماضي والحاضر.

ومثال ذلك – ونحن في مقام الكتابة عن مناهج التغيير – تصور السابقين للإنسان وكيفية تغييره بالتربية ، فلقد تصور المسلمون الإنسان بناء على النصوص الواردة من ناحية وتجربتهم العلية الواقعية من ناحية أخرى تصوروه كأئنًا من روح وجسد ، وأن لكل من الجانبين خصائص، وأن هناك ا يصل بينهما وهو القلب، والقلب له بابان :

باب يطل على اللك (عالم الشهاد أو الخلق) وباب يطل على الملكوت، (عالم الغيب أو الحق) ويمكن أن يكون الإنسان في إحدى حالات ثلاث أن يفتح باب الملك دون الملكوت او باب الملكوت دون الملك أو هما معًا، وإن الكمال فيمن جمع بين الأمرين وفتح البابين، وإن كل حالة أو مرحلة من هذه المراحل لها خصائصها وشروطها وكيفية الانتقال من حال إلى حال ، وهكذا رسموا تصورًا يمكن الاطلاع عليه والاستفادة منه، ومما كتب فيه من آلاف الكتب وربطها بمعلوماتنا الحالية والزيادة عليها أو تعديلها بما يناسب مع واقعنا.

وعندما نقول  : إن تعامل الأفراد مع الأشياء على مستوىات : منها التعامل الظاهري الذي ينظر إلى الظاهر فقط، كأن ينظر إلى ورقة الشجر في خضارها وانسيابها، والنظر المجهري الذي ينظر إلى ما وراء ذلك مما غيب عن حواسنا فأدركناه بالمجهر ، والنظر الإياني الذي يربط ما يرى بقضية الكون وبخلق الله ووحدانيته ؛ مما يجعلنا نلتزم بالقيم التي بثها في مقاصد شرعيته من خلال أوامره ونواهيه ، إن هذا التصور يمكن أن يربط بحالات القلب وينشأ منه تصور يحدد كيفية التغيير ومراحله وأسلوبه مستفادًا ومتسقًا مع ما تحت أيدينا من تراث وفكر.

(11)

وعلينا في كلمة أخيرة أن نفرق بين التأثير والتغيير وأن برامج متعددة تؤدي إلى التأثير دون التغيير، وهى لابد منها: والمعادلة التي يمكن أن تضبط ذلك هي أن:

التأثير + الزمن والديمومة   يؤدي إلى  =  التغيير

والله الموفق

هوامش البحث:

1-    أي مصادر البحث وطرق البحث (الأدوات والكيفية) وشروط الباحث، ومن الملاحظ ان ذلك بصورة لا فتة للنظر مع تعريف أصول الفقه عند المسلمين ن حيث تعرف مدرسة الرازي ومنهم البيضاوي بقولها : أصول الفقه معرفة دلائل الفقه إجمالًا ن وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد، ثم أصبحت هذه هي أركان البحث العلمي عند روجر بيكون.

2-    ففي البورصات العالمية تتم عقود للتعامل التجاري، يحار فيها أهل القانون وفقهه، تولدت تلك العقود أو التطبيقات من السعي وراء تحصيل المصحة والمنفعة دون انبثاق ذلك من أساس منطقي أو تكييف قانوني، فاخترع رجال الأعمال فكرة شخصية الحسابات الجارية، وهي مسألة معقدة حيرت القضاه في الحكم عليها وجعات الحساب الجاري يخرج عن تعريفه في القانون مما ادى إلى كثير من المشكلات، على أنه في النهاية يحقق المصالح لكثير من الناس، وكل هذا من عدم المركز والنسبية المطلقة التي أصبحت سمة العصر، وكل هذا أيضًا يجعلنا نختار أساليب للتغيير وإجراءات تتوافق مع هذا الخضم الهائل من التغير.

3-    آيات الأحكام 500 آية وأحاديث الأحكام نحو 2000 حديث.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر