أبحاث

عبقرية الرافعي – العقل والفن والإسلام

العدد 42

ولد مصطفي صادق الرافعي في غير العصر الذي كان من الممكن أن يتقّبله أو يقتدي أبناؤه به ، ولو أردنا أن ننميه لعصر من العصور الأدبية – مع احترازنا على مبدأ تقسيم الأدب إلى عصور- لأعجزنا ذلك،
فكيف لنا أن نجد عصراً يجمع لنا القديم القديم والحديث الحديث معاً ، وكيف لنا أن نجد مدرسة أو مذهباً أدبيا يمكن أن يجمع هذا الجمع أيضاً ؟ إن حاجزاً أو حائلا ما لم يقف دونه فحول الكتابة في أدبنا القديم ، ولربما أخذنا مكانه بين الأوائل من أصحاب القلم الفني في أدبنا العربّي عامة ، كما يأخذه بين الأوائل ممن حقّق في أدبنا الحديث تجديداً في طرائف التفكير والتصوير والتعبير لم يصل إليه الآخرون ،فهو أوّل بين الأقدمين من أوّل بين المحدثين ، فأنى لنا أن نضعه في المكان أو الزمان الجديرين به ضمن أعلام آدابنا؟

إن الزعم بأولية الرافعي ، وبإمساكه بطرق المعادلة بين القديم والحديث ، يحتاج منا ،قبل أن نخوض في إبداعه الأدبي ، إلى تعريف لكل التقليد والأصالة والحداثة والمعاصرة ، والتفريق بين هذه المصطلحات التي كثيراً ما تتداخل حدودها عند الدارسين ، فيقع الخلط بين التقليد والأصالة والحداثة ،والحداثة والمعاصرة ، كما يقع خلط آخر بين القاعدة والعادة ، وبين التطوير والتغير، والخلط الثاني من أهم مسّوغات وجود الخلط الأول .

وبدايةّ نحدّ كلاَّ من المعاصرة والحداثة، فليس كلّ معاصرٍ حديثاً والعكس صحيح. إن حدّ المعاصرة زمني وحدّ الحداثة فنّي ،ونحن لا نقيم للزمن تعتباراً حين نبحث عن الجدّة ، فالوعاء الزمني الواحد يتسع للجديد وللقديم معاً، والمقليد والمجدد يتعايشان في الداء،لواحد ، فالأول مجرد معاصر فتح عينيه على الحياة ليجد أنه ينتمي إلى هذا العصر ، والثاني هو الذي، يتفوّقه وأراداته في التغيير، يمارس الحداثة الفنية التي لم يحققها تعاقب السنين ، وإنما حققها تمثّل الموهوبين لحقيقة هذا التعاقب ، وانصهارهم فيها ،ثم تعبيرهم عنها بصدقٍ وأصالة مبدعين .

وبدهي أن يكرس هذا التعاقب حقائق فني ،قد تبدأ في صورة اقتراحٍ عملي صاغه شاعر أو أديب أو فنان فيما يبدعه من فن ،ثم ما تلبث أن تنقلب إلى قواعد تتبلور من خلالها حقيقة الفن، فيأخذ بعد ذلك اسمه الذي يعرف به. ثم ما يزال التعاقب يضيف إلى هذه القواعد جديداً يوماً بعد يوم ، ولكن هذا الجديد لن يكون قادراً بعد أن تبلور الفن وعُرف باسم محدد له ، على أن يتسرب إلى القواعد ليحلّ محلّها ، بحيث يكون بنفسه القواعد الجديدة ، وكل ما يستطيعه هو أن يصل إلى درجة (( العرف )) وهو دون القواعد رسوخاً وثباتاً ، فيغدو الفن قائماً على((قواعد)) لا يمكن تغيرها، وعلى (( أعراف ))  يمكن أن تتغير، وأن يضاف إليها وإلى القواعد كل يوم جديد ، من غير أن يحلّ هذا الجديد محلّ القاعدة القديمة

فإذا ما تجرأ التغيير وتطاول على القاعدة ، فاستبدل بها قاعدة جديدة ، تحول الفن عن اسمه ، وغدا فناً جديداً لا علاقة له بالأول. ولا يستحق من ثمَّ أيحمل إسمه نفسه ومن حق الفنان تجاه القاعدة أن يطور فيها فحسب ،أو أن يضيف إليها ، أو أن يحيي مواتها مما غفل عنه الفنانون الآخرون ، أو أن يمارسها في سياق جديد وظروف مختلفة ، نشعر معها وكأن القاعده لم تعد هي القاعدة القديمة داخل الفنّ نفسه هو إلغاء لهذا الفن .

أما ((الأعراف )) فالوظيفة الطبيعية لكل فنّان أن يبدعها ، وأن يضيف إلى الفن منها ، وأن يغّير قديمها ليستبدل بها الجديد الذي أبداعه أمّا كيف يغدو هذا الجديد عرفاً وهو وليد اللحظة أو العصر الراهن ، فهذا يتعلق بمدى تملّك الشاعر لزمام فنه ،بحيث يكون قادراً على إعطاء ، إبداعه مخايل الاستمرار منذ ولادة هذا الإبداع ، فليس كل جديدٍ قادراً على الاستمرار، ولاسيما إذا فقد هذا الجديد علاقته بالجذور من ناحية ، وبالواقع من ناحية ثانية ، أي إذا فقد آصالته التي تمنحه – على جدته – شروط الاستمرار والتحوّل مع الزمن إلى عرف.

والإنطلاق من الجذور لا يعني التقليد ، والإنطلاق من الواقع لا يعني الذوبان في الواقع ، بل الانطلاق منه، وتجاوزه ، ومحاولة تغييره والتغلّب على تياّراته السلبية. فالتأثير((فاعل )) للفن في الواقع لا يمكن أن يتحقق عن طريق موازاته لهذا الواقع لا يمكن أن يتحقق عن طريق موازاته لهذا الواقع وتمثيله له ، بل عن طريق الاشتباك معه والتقاطع مع اتجاهاته ، إن الموازاة ستقتل فاعلية الفن وتأثيره في الطرف الآخر (( الموازَي ))  أما التقاطع فهو الذي يجعله قادراً على التغيير، وتحريك ما يتقاطع معه من مقومات الواقع (( إن الإبداع والتفوق لا يتحققان في أن ينسج الإنسان على منوال عصره فيكون صورة عن الداء ، بل أن يكون صورة معكوسة أو مناقضة له. ليست المهارة في أن نسبح بالاتجاه المعاكس لنصل إلى الأرض التي نختارها نحن لا التيار(1). وهذه الحقيقة وحدها تجبنّنا السقوط في التقليد والسير على خطا الماضي دون أدنى محاولة لتطويره وتبعدنا عن خطر الذوبان في الواقع وإلغاء دورنا الفاعل فيه.

فالحداثة من هذا المنظار هي إنطلاق المبدع من الواقع وتجاوزه له لوضع قواعد جديدة لا تلغي القديمة بل تضيف إليها، أو لتطوير تلك القواعد القديمة -ولا نقول تغيرها- أو لتغيير الأعراف القديمة تغييراً لا يمسّ القاعدة .

ومن الواضح في هذا التعريف أن المبدع إذ يتجاوز الواقع لابدّ أن يكون مرتبطاً بالماضي ،لأن الواقع ليس هو اللحظة الراهنة منفصلةً عن ذلك الماضي ، بل هو كلاهما معا: الواقع هو الحاضر مرتبطاً بالماضي ، وكل لحظة زمنية لا يمكن ان تنفصل عن اللحظة التي سبقتها، ولو قبلنا بمبدأ الفصل بين اللحظات التي يتكون منها الزمن لكان هذا يعني وجود زمن مستقل بين اللحظة وسابقتها أو تاليتها، وهذا علمياً مثير للسخرية ، وإذن فقولنا إن الحاضر منفصل عن الماضي قول يدعو إلى مثل تلك السخرية.

وهنا نقف أمام مفترق يجدر بنا أن نتبصر الطريق قبل تجاوزه ،وهو التمييز بين الحداثة فما تكون الأصالة ،وهل هي اكتفاء بالنظر إلى الماضي والتشبث به ،واتباع طرائفه دون أدنى تغيير؟

إن الأصالة هنا لا تنفصل عن الحداثة، لأننا لا نقول (( التقليد )) بل (( الأصالة )). وربما أخذ التقليد أشكالاً عديدة مزيفة، كثيراً ما تظهر لنا في مظهر التجديد، فتقليدنا للغرب مثلاً ليس أكثر من تقليد، ولكن الفرق بينه وبين تقليدنا للقدماء فارق شكلي. ففي كلا التقليدين فاصل يفصل المقلَّد عن المقلَّد، وهو في الأول مكاني أو جغرافي ، وفي الثاني زماني أو تاريخي ،ولا تقلّ المسافة الزمانية هنا أو تزيد عن المسافة المكانية هناك، وكلتا المسافتين لها التأثير السلبي نفسه على المقلد – بكسر اللام – حين يتجاهل أنها ليست في حقيقتها إلا (( مسافة )) مهما تبرّجت له أو خادعته بوسائل إغرائها. أما الأصالة فهي مرتبطة بالحداثة من خلال إرتباط الحداثة بالواقع، الذي يرتبط هو بدوره بالماضي ،من غير أن يعني إرتباط هذا ذوبانه فيه، بل في حقيقته تمثُّل للجذور القديمة التي آتت هذا الواقع ، واستيعاب لها إستيعابا (( نفسياً )) نبني عليه جديدنا عن طريق تطوير القاعدة وتغيير العرف كما أسلفنا. فالقاعدة والعرف هنا يمثلان القديم، وعندما نقف عندهما فلا تتجاوزهما نسقط دون الأصالة ونقع في التقليد. أما التطوير والتغيير فيمثّلان الحداثة، وعندما يرتبطان بالقاعدة والعرف – من غير أن نخلط بين العلاقات هنا، إذ لابد أن نخص التطوير بالقاعدة والتغيير بالعرف- فإنهما يعبّران بالتأكد عن حقيقة الأصالة. وإذن فالأصالة على ضوء هذا التوضيح هي الحداثة الحقيقية، أي هي البناء الذي يقوم على جناحين: الماضي المتصل بالحاضر والحاضر المتمثل بالواقع.

ونحن مدفوعون هنا للتمييز بين الخلود والحداثة. إن كثيراً أو قليلاً من الفنون الأدبية يخلد على مرّ العصور من غير أن يكون قادراً على تجاوز العصور كلها، لأنه لا يملك القدرة على التكيف مع متغيرات فما يلبث أن ينتهي عند العصر الذي يتحدّى وجوده من خلال تناقض واقعه مع المقومات الأساسية لهذا الفن. فالمقومات الأسطورية للملحمة مثلا أوقفت استمرارها بانتهاء عصر الأساطير، وكل الأدباء الذين حاولوا أن يضيفوا من الفن الملحمي جديداً من بعد عجزوا عن إبداع نماذج قادرة على أن تكون استمراراً حقيقياً للنماذج الأولى ، وعلى مستوى تلك النماذج فنية وإبداعاً، وذلك لأنهم لم يستطيعوا أن يوقفوا بين المقومات الأساسية لها وما يفرضه الواقع الجديد من التخلّي عن هذه المقومات، وهذا التخلي وحده كافٍ لوضع حد لاستمرارها، وإن استمرت النماذج القديمة منها خالدة ً في نفوس الأجيال ،على أنها تمثّل الملامح الفنية لجيل متقدّم غابر، لا على أنها يمكن أن تمثّل أيضاً واقع الأجيال الجديدة. إن خلودها في صدق تعبيرها عن الجبل الذي تمثله وارتباطها به ارتباطاً عضوّياً. وخلود هذه النماذج لا يعطيها صفة الحداثة، وإن تقبّلها المحدثون وتذوّقوها، فتقبّلهم لها مرتبط بملاحقتهم لعصرها ملاحقة ً فكرية ً وفنيةً وتاريخية، وتمثّلهم لذلك العصر بشكل يستطيعون معه تمثل ما أبداعه من فن أيضاً، وإنهم يتذوّقون هذه النماذج الخالدة إذن عن طريق التاريخ أو الذاكرة وليس عن طريق الواقع، إن التاريخ هو الذي يربطنا بالنماذج الغابرة الخالدة بينما يقوم الواقع بهذه المهمة تجاه النماذج المعاصرة التي نجحت في أن تكون حديثة أيضاً.

***

هذه الحدود تمنحنا قاعدة ننطلق منها لدراسة فن الرافعي وتحديد موقعه في حركة الفن الأدبيّ لهذا القرن ، ونتوصل منها إلى مقياس نسبر به غوره، ونتحقق من طبيعة التجديد عنده ، ومدى نجاحه في تحقيق التوازن بين طرفي المعادلة : الجذور والواقع، الماضي والحاضر.

وانطلاقتنا هذه يمكن أن تبدأ من أدب الرافعي عامّةً فنسمح الظواهر الفنية التي تسعي إلى اكتشافها فيه، وهو نهج يتيح الفرصة لأهواء الدارس كي تتغلب على موضوعّيته ، فيعتمد، ربما عن غير قصد إلى اختيار الشواهد التي تقف دون ما يريد، فأدب الرافعي واسع، وفرص الاختيار منه واسعة كذلك، ويكفي هذا إغراءً للباحث. ولنا – في نهج آخر- أن نبدأ من النص، النص المفرد، وهو لا يستطيع أن ينبئ بصدق كل عن حقيقة فنّ الرافعي كما تفعل الدراسة الشاملة لأدبه، ولكنه يجنبنا المنزلق الخطير للنهج السابق،فلا تستطيع أهواؤنا أن تمارس سلطتها على النص المفرد، بالقدر نفسه الذي تمارسه على النصوص مجتمعةً، لأن فرص اختيارها أمام النص الواحد أقل بكثير منها هناك. ولكننا نستطيع أن نفيد من النهجين معا، فنطرح من إيجابية الأوّل على الثاني، ومن إيجابية الثاني على الأول، ونضرب بسلبية الآخر، فننطلق بداية ً من النص المفرد، ولكن من غير أن نغفل عن الإلمام التامّ بمقومات الأدب الرافعيّ كما تظهر لنا من مجموع نتاجه ، ويكون عملنا بهذا يكون محاولة لتحقيق اللقاء بين المقّومات كما تظهر في النص الواحد، وبينها كما عرفناها في مجموع أدبه، فلا نسمح لأنفسنا تستسلم لإغراء الاختبار غير الموضوعي من النصوص مجتمعة من ناحية ، ولا نسقط في محدودية النص الواحد القاصر عن أن يكون قادراً بنفسه على تمثيل مقومات أدب الرجل كله ، من ناحية أخرى.

وعلى هذا سيكون منطلقنا في هذه الدراسة النص الواحد، ولكن في إطار النصوص الأخرى مجتمعةً. ولتكن انطلاقتنا الآن من (( أيها القمر )) النص الذي يفتتح به أحد كتبه الوجدانية المعدودة ((حديث القمر))  وسنثبت هنا بضع فقرات منه تقتضي الدراسة إثباتها، لأن توقفنا سيكون عندنا غالباً، من غير أن نغفل عن السياق وعن الفقرات التي تتخللها في أصل النص ، وقد جاء اختيارناً لهذه الفقرات مراعياً وحدة النص العامة، والبناء الأساسي لمحوره ،هذا البناء الذي سيكون له أهميته الكبيرة في دراستنا كما سيتبين . (( أيها القمر ))

1- الآن قد أظلم الليل، وبدأت النجوم تنضج وجه الطبيعة التي أعيتْ من طولِ ما انبعث في النهار، بُرشاش من النور النديّ يتحدر قطرات دقيقة منتشرةً منتشرة كأنها أنفاس تتثاءب بها الأمواجُ المستيقظة في بحر النسيان الذي تجرى فيه السفُن الكبيرة من قلوب عشّاق مهجورين برّحت بهم الآلام، والزوارقُ الصغيرة من قلوب أطفالٍ مساكينَ تنتزعها منهم الأحلام، تلك تحمل إلى الغيبُ كسجل أسماء الموتى، تختلف فيه الألقاب، تتباين الاحساب والأنساب، وتتنافر معاني الشيب من معاني الشباب، وهو يعجب من الذين يسمونه بغير اسمه.

2- الآن وقد بدأت الطبيعة تتنهّد كأنّها تنفث بعض أكدارها، أوهي تملي في الكتاب الأسود أخبار نهارها، وبدأ قلبي يتنفّس معها كأنه ليس منها قطعةً صغرى، بل طبيعة أخرى، ولله ما أكبر قلباً يسع الحبَّ من قبلة اللقاء إلى ذكراها، ومن حياة الصبي الأولى إلى ما يكون من الجنّة أو النار في أخراها، إن هذا لهو القلب الذي ترى فيه الطبيعة كتاب دينها المقدس، فإذا لحق العاشق الذي يحمله برّبه تناولته وهي جاثية كأنها في صلاة الحزن، ثم قلّبته متلهّفةً، ثم قبّلته متلهّفةً، ثم قبّلته متخشّعة، ثم أودعته في مكتبة الأبد، لأنه تاريخ قلبٍ آخر، بل جزء من الموسوعات الكبرى التي يدوّن فيها الدهر تاريخ النفس الإنسانية على ترتيبٍ بعينه تَعلّم الناس منه أن يبدأوا لغاتِهم جميعاً بحرف الألف، لا لأنه من أقصي الحلق، بل لأنه من أقصى القلب، بل لأنه من أقصي التاريخ، بل لأنه من أقصي التاريخ، بل لأنه أوّل اسم (آدم ) ذلك العلم الأوّل في تاريخ الحب.

3- والآن وقد رقّت صفحة السماء رقّةَ المنديل، أبْلَتْه قُبَلُ العاشقين في بعادٍ طويل، أو هجرٍ غير جميل، وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفتي الحسناء البخيلة حيرة القطرةِ من الندى إذ تلمع في نور الضحى بين ورقتين من الورد، وأقبل الفضاء يشرق من أحد جوانبه كالقلب الحزين حين ينبع فيه الأمل، ومرت النسمات بليلةً كأنها قطع رقيقة تناثرت في الهواء من غمامةٍ ممزّقة، وأقبلت كلّ نفس أخرى، كأن الآمال بينهما أحلام اليقظة، ونظر الحزين في نفسه، والعاشق في قلبه، ونام قوم قد خلت جنوبهم فليس لهم نفوس ولا قلوب، ولبس الكون تاجه العظيم فأشرق عليه القمر.

4- والآن وقد طلعت أيها القمر لتملأ الدنيا أحلاماً وتشرف على الأرض كأنك روح النهار الميت ما ينفك يتلمّس جوانب السماء حتى يجد منها منفذاً فيغيب، فهلم أبثَّك نجواي أيها الروح المعذب، وأطرحْ من أشعّسك على قلبي، لعلّي أتبّين منبع الدمعة التي فيه فأنزفها، إن روحي لا تزال في مذهب الحسّ كأنها تجهش للبكاء مادامت هذه الدمعة فيه تجبيش وتبتدر، ولكن إذا أنا سفحتها وتعلّقتْ بأشعّتك الطويلة المسترسلة كأنها معنًى غزلُّي يحمله النظر الفاتر، فلا تُلقِها على الأرض أيها القمر، فإن الأرض لا تقدّس البكاء، وكل دموع الناس لا تبلّ ظمأ النسيان ولو انحدرات كالسيل يدفع بعضه بعضا.

5- أرأيت أيها القمر هذا النهر الصافي الذي يجري كأنه دموع السِحر في أجفان هاروت وماروت، ويطّرد بحملته كأنه قطعة من السماء هاربة في الأرض، وهل تبصر في شاطئه تلك الشجرة الناضرة الممتلئة بالأوراق كأنها مكتبة يتصفحها الهواء؟ هذه هي مثال الفلسفة الطبيعية، فكل حكيمٍ لا ينبت على شاطئ الدموع الشريفة فهو فيلسوف جافّ كأنه مصنوع من جلود الكتب، وما دمعتي إلا النهر الذي نبتُّ في شاطئه، وهي أطهر شيء ؟  وأصفاه، لأنها مخلوقة من ثلاثة عناصر تقابل العناصر السماوية، من الحب الذي يقابل عنصر الهواء ، ومن البكاء الذي يقابل عنصر الماء .

6- ومازالت حائراً في أمر مشتبٍه لا أصيب الوجه فيه، فلا أدري إذا كانت هذه الدموع المتساقطة تُنفض من بناء الحياة لينهدّ، أو هي تضاف إليه ليشتدّ..فإني أرى أقواماً يحيون بالدموع وآخرين يموتون بها، ولعل عين الإنسان ملئت بالدموع من أصل الفطرة لتكون منها خنادقُ مستفيضة حول الروح، فلا يقتحمها الفكر، ولا يرى أبداً إلا ظاهرها، ولولا ذلك ما بقيت الروح من أمر الله.

7- مالي ولك أيها القمر، لا أحبّ أن أفيض عليك دمعتي ،فقد ترى فيها أشعّة كثيرة من ألوان الأسرار المختلفة، بل أنا أراها في قلبي وقد أشتمل بها الخيال الحزين، خيال هذا الأمل الذي يسمّيه الناس (( الحب )) وتسمّيه الطبيعة (( الحية المعذبة )) لأن الناس قد مضوا على أن لا يعرفوا من أوصافها إلا ما يتعرف إليهم من ظاهرها الجميل ، أماّ باطن الحقيقة الذي يحتوي السرّ المحزن فهذا يعرفه من يفهم لغة الطبيعة ، وما لغتها إلا أفعالها.

8- وأنت إذا أردت أن تدرس علم البلاغة من هذه اللغة الطبيعية فادرس المصائب والآلام والأحزان، إنها هي أقانيم البلاغة الثلاثة : المعاني – البيان – البديع ، وإنك إذا درستها وتدبّرت شواهدها الصحيحة التي لم يصنعها رواتها ولم يجبيئوا فيها بمنكر القول وزوره ،أصبحت أفصح من ينطق عنها في هؤلاء البُكم الذين الذين يقرأ أحدهم صفحة الزهر بعينين في أنفه، ولا يستحي الغبّي أن يقول لك إنّ في الزهرة معنىً جميلاً، كأنّ في أنفه عقلاً من العقول العشرة .

9- فمن أحبّ ورأى حبيبه من فرط إجلاله إيّاها كأنّها خيال مَلَكٍ يتمثل له في حلمٍ من أحلام الجنة، ورأى في عينيها صفاء الشريعة السماوية، الشريفة وفي خدّيها توقّد الفكر الإلهي العظيم، وعلى شفتيها احمرار الشفق الذي يُخيل للعاشق دائماً أنّ شمس روحه تكاد تُسمي، ورآها في جملة الجمال تمثاَل الفن الإلهيّ الخالد الذي يُدرسَ بالفكر والتأمّل لا بالحسّ وبالتلمّس، فأطاعها كأنّها إرادته، واستند إليها كأنّها قوّته، وعاش بها كأنّها روحه، فذلك هو الذي يشعر بحقيقة الحبّ،ويفهم معناه السماويّ، وهو الذي يقول لك صادقاً مصدوقاً إن كلّ لفظةٍ من لغة الطبيعة في تفسير معنى الحبّ أنّها صلصلة المَلَك الذي يفجأ الأنبياءَ بالوحي في أوّل العهد بالرسالة .

10- بلى ولقد يخّيل إلي أيها القمر حين أكتب عمن أهواها أنك لفظ في ألفاظ تطلع من المداد، فإذا قلت (( وجهها )) فهل تظنّ هذا اللفظ الذي هو جملة الجمال إلا قمراً في الكلام ؟ وإذا قلت: (( ابتسامتها )) فهل ترى هذه الخروف التي تتنفس على القلب إلا أشعّة الفجر النديّ ؟ وإذا قلت ((هي )) فهل ترى إلا (( ضمير)) الطبيعة التي تأخذ عليها الإنسانية دينها ؟ أه لو تعلم أيها القمر من (( هي )) ؟

***

عرف عن الرافعي انه كاتب مقال بالدرجة الأولى، ومع هذا نحن أمام نصًّ يصعب أن ندرجه في المقالة، فالمقالة، فكريةً كانت أو سياسيةً أو أدبيةً أو علمية، تتجاوز عادة هذا الهيكل البسيط الذي بني عليه الرافعي نصّه، وتتجاوز هذه اللغة الحالمة، والخيال الجامح، والفكر الرومانسي المثالي فإن قلنا إنه (( مناجاة )) ذهبنا إلى مالم يدخل حتى الآن في باب الفنون الأدبية، فليست المناجاة فنّا أدبياً، بل أسلوب في التعبير يمكن أن تتخذه الفنون الأدبية على اختلافها دون أن ينحرف هذا بشخصيتها، وإذن لن نجد ما ندرج تحته هذا النص إلا فن الخاطرة، وهي عادة محدودة الحجم ضيّقة الفكرة ،لأنها تضعنا أمام علاقة أو معادلة أو مشكلة فكرية، قد تكون عميقةً، ولكنها تكتفي بمسها مساً سريعاً ورقيقاً، مستخدمةً في ذلك اللغةَ الرشيقة والخيال الشعري المركّز، وتُفّرع الفكرة الأساسية تفريعاً حذراً حتى لا تتحول إلى مقالة. وهذه الأخيرة لا تكفي بالوقوف عند الحدود القريبة من الفكرة الأساسية أو المحور الذي بنيت عليه، بل تفرع هذا المحور وتفصله بأفكار تكاد تكون أساسية هي أيضا، مما يؤدي بالمحور الأصلي إلى التوسّع والتضخم نتيجة لتراكم هذه الأفكار الأساسية الطارئة عليه.                              أما الخاطرة فالحدود فيها أمام الكاتب ضيقة، ولا ينبغي له أن يدفع إلى الساحة بأفكار أساسيٍة قد تنافس المحور الأصلي أو توسعًه وتضخّمه على الأقل. ومن هذا المنطلق نقول: إن خاطرة الرافعي هذه، رغم اسماعها وتجاوزها لحجمها المعروف، يظل المحور الأساسي فيها هو تفسير علاقة الحبّ بالحياة. ونلاحظ تغلّب فكرة الألم على هذا التفسير من خلال تفريغ الكاتب للمحور الأساسي والألم هنا ليس ألم الحبّ وحده، بل ألم الحياة التي تبدع ما تبدعه من خلال هذا الألم.

وإذا كان لنا أن نتهاون في أمر التحديد القاسي لأِطُرها الفن الأدبي الواحد، فبإمكاننا أن نذهب إلى أن الرافعي داخَلَ هنا بين فنّي المقالة والخاطرة، مثلما كان يداخل في كتاباته بين فني المقالة والرسالة حينا،وبين فّني المقالة والقصة حينا آخر. والحقيقة أن الرافعي كان ابن عصره في هذه الناحية، إذ حاول نفر من الكتّاب في ذلك الوقت مثل هذه المحاولات في المداخلة بين الفنون، كالزيّات والمازني وأحمد أمين، وهي مداخلة منطقيّة كانت التقاليد الكلاسّية، بل الرومانسية أحياناً، ترفض مثلها، وتحرص على الشخصية المدرسية لكل فن. وتزاوج الفنون بعضها ببعض يؤدي إلى نتائج مخصبة تستطيع أن تضع بين أيدينا فنوناً جديدة أكثر مرونة، ومن ثم أكثر اتصالاً بالحياة المعاصرة وقدرة على التعبير عنها، شرط أن يراعي هذا التزاوج شروط الأجناس، فلا تزاوج بين فنين ينتميان لجنسين مختلفين من الفنون بحيث يمكن أن يفقد أحدهما شخصيته أو هويته أمام الآخر، كما يحصل لو أردنا المزاوجة بين الشعر والنثر، وهي مزاوجة غير طبيعية وشاذّة ولا يمكن أن تكون مخصبة.

ولا نشك في أن الرافعي لو حرص على المقالة كما رسمها مشرّعها بمقوماتها الأساسية، ولو حرص على القصة وعلى الخاطرة وعلى الرسالة الحرص نفسه، لكان أقلّ إثارةً وتأثيراً في نفوس متذوقيه، لأن خروجه على تلك الحدود المرسومة بين هذه الفنون يمنحه مرونة تمكّنه من استيعاب ذوق العصر، والتعبير عن هذا الذوق تعبيراً أخّاذاً يتسم بالجدَّة، وعلى الرغم من أن الاتجاه إلى هذا التداخل بين الفنون كان واضحاً لدى الجبل الأدبي للرافعي فإنه لم يكن بمثل وضوحه عند هذا الأديب، حتى ليكاد يعرف هذا التداخل به، ويكون الرافعي رأس مدرسته، رغم أنه ليس كذلك في الحساب الزمني، فكأنما غلب التلميذ الأساتذة على المدرسة، فعرفت به ولم تعرف بهم.

ونفرَّق هنا بين التداخل الأصيل وبين ما يجري الآن على ساحة الأدب والشعر خاصة، من ادعوا أنها تلغي كل ما سبقها من شعر، أي لم يعترفوا بأنهم يضيفون إلى الفنون القولية فنّا جديداً – إن كانوا قد فعلوا ذلك حقاً- بل أصروا على أنه الفن الذي لا شيء قبله، وربما لا شيء بعده.

***

استطاع الرافعي إذن أن يفرض علينا فرضاً منطقياً مقبولاً هذا الوضع الجديد للمقوَّمات الفنية للخاطرة، وأن يقنعنا بإمكان الربط بين ماضي تلك المقومات وما يمكن أن يتبعه حاضراً من مقوَّمات جديدة تضيف إلى القديمة وتطوّرها بما لا يمسّ شخصية الفن. ولم يكن اقتناعنا بهذا مستنداً إلى مجرد التأثر العام بخاطرته،                                                                    بل لنا أن نستند فيه إلى أصولٍ علمية لا يعفينا منها النقد الموضوعي. ولو أردنا أن نتلمّس طبيعة هذه الأصول فجدير بنا أن نبحث عنها في البناء العام للنص فإن كان هذا البناء متماسكاً تماسكاً منطقياً وفنّياً صحّت لدينا تلك المقوّمات،وصح قبولنا لوضعها الجديد في فن الخاطرة، وإلا كانت مجرد دعاوات هشة لا تستطيع الثبات أمام التحقّق العلمي بوصفها مقوّماتٍ حقيقيةً لفنًّ جدير باسمه.

لقد بدأ الرافعي خاطرته بنداء (أيها القمر) ثم أتبع هذا النداء مناجاةً يرفعها إليه محاولاً أن يقيم جسوراً بينهما. ونراه هو يُسقط عواطفه على القمر، أو بالأحرى على الطبيعة التي تحضنه، فينطق بمشاعره من خلالها، ويظل يحادثها وهو يقف على الضفة الأخرى التي تقابل ضفتها، أي يظل يشعرنا أنه في جانب من الحوار وأنها في الجانب الآخر، وإذن فهو والقمر ما يزالان حتى بداية الفقرة الرابعة طرفين منفصلين، ولكنه بعد هذه البداية يصل بنا إلى ذروة الإلتحام مع القمر، رمزِ الطبيعة من حوله، فيتحقق التواصل بينهما كما لم يتحقق من قبل                        (فهلم أبثَّك نجواي أيها الروح المعذب وأطرحْ من أشعتك على قلبي). وهذا التداخل الذي وقع بين الطرفين تجاوز كلّ لقاءٍ سابق بينهما في الفقرات الثلاث، وهو لذلك يمثل الذروة الفكرية والعاطفية التي سيلتقي عندها خطّا الطرفين الرئيسيين في الخاطرة : الكاتب والطبيعة. ويبدأ الأنحدار من تلك الذروة بعد ذلك في الفقرة السادسة حين نراه يتجاهل الحديث فيها عن القمر، وقد ضمّن مثل هذا الحديث فيها عن القمر، وقد ضّمن مثل هذا الحديث كل الفقر السابقة. ويلي هذا التجاهل ذكر صريح للقمر في مطلع الفقرة السابعة، ولكنه ذكر صريح للقمر في مطلع الفقرة السابعة، ولكنه ذكر أتى ليعلن الانفصال بين الشاعر والقمر ( مالي ولك أيها القمر ) ثم يفاجئنا في الفقرة الثامنة بالتوجه إلينا نحن دون قمره، الذي يحافظ على تجاهله له حتى ختام الخاطرة في مطلع الفقرة الثامنة بالتوجه إلينا نحن دون قمره، الذي يحافظ على تجاهله له حتى ختام الخاطرة في مطلع الفقرة العاشرة (ولقد يخيل إلي أيها القمر الجميل) وكأنما أراد أن يضع لهذا البناء، الذي أسسه على القمر بندائه له في البداية، سقفاً من طبيعة ذلك الأساس، وهو القمر نفسه، فأشعرنا بهذا أنه ما يزال مع المعادل العاطفي الذي بنى عليه أفكار خاطرته، وان المحور الفكري الذي كان قطبه الأول القمر كان قطبه الآخر القمر أيضاً.

ولكي ندعم هذا البرهان على تماسك البناء الهيكلي للخاطرة في الجانبين العاطفي والفكري ، نتفحص هيكلها اللغوي، فنجد الكاتب وقد بدأ حديثه إلى القمر بظَرفٍ (الآن) ما فتيء يردده في مطلع كلّ فقرةٍ من الفقر الأربع الأولى، ولكننا لا نعثر على متعلق هذا الطرف إلا حيث نجد أنفسنا عند ذروة اللقاء العاطفي بينه وبين الطبيعة، بل أن الخط اللغوي له يبلغ الذروة تماماّ في النقطة التي يبلغ فيها الخطّان السابقان ذروتهما، حيث تم اللقاء بين الطرفين المذكورين الكاتب والطبيعة، فجملة اللقاء التي استشهدنا بها ( هلم أبثّك..) افتتحت باسم فعل الأمر هذا الذي علقنا به الظرف (الآن) وبعثورنا على متعلَّق الظرف نشعر أننا قد بلغنا العقدة اللغوية التي أقام الكاتب عليها خاطرته. ثم لا تلبث هذه العقدة أن تتحلل وتتراخى كما تحللت الرابطة الفكرية والعاطفية بينه وبين القمر، فلا يعود إلى افتتاح الفِقَر الأخرى التالية بهذا الظرف، ولا نحس من بعدُ بأية رابطٍة نحوية ترابط هذه الذروة بالخاتمة، فكأنما استخدام كل الطاقة اللغوية التي يملكها ليدفع بخطَّيْ خاطرته، الفكري والعاطفي،إلى القمة، فإذا ما تأكّد من أن تلك الطاقة قد أدّت دور الدفع هذا، ووصلت بفكرة وعاطفته إلى حيث أراد، انصرف عنها، إذ لم يعد في حاجة إليها وهو يهبط عن الذروة إلى النهاية من الجانب الآخر.

هذا البناء الفكري العاطفي اللغوي المتماسك يقنعنا بأننا أمام فنّ ذي شخصيةٍ أصلية متماسكة ومتطّورة، لم يحاول الكاتب فيه أن يحقق التجديد عن أية طريق، بل حرص على أن يربط نفسه بقواعد هيكلية لغوية وفكرية متينة تشدّه إلى القديم بقدر ما تسمح له بالتجديد، إنها خُطاً لم يفرضها عليه نقد قديم أو حديث، بل اختطّها هو لنفسه، انسجاماً مع روح ذلك النقد بجانبيه، لأنه يبحث دائماً عن مثل هذا التماسك المنطقي الواعي بين أجزاء الفن الأدبي من ناحية، ولأنه لم يشأ لنفسه أن يقف عند الحدود التقليدية لهذا الفن، فطور فيها ذلك التطور الذي لا يخرج بالفن عن روحه الأدبية والنقدية، ولا يفقده شخصيته التي استقرّات بقواعدها الأساسية وخطوطها العامة، تحت هذا الأسم، من ناحية ثانية .

***

ونغبط الرافعي حقاً وقد استطاع أن ينجو بأفكاره من هذا المأزق الشديد الذي وضع نفسه فيه، فأن يتحدّث رجل، على مثل ورعه ورصانته ونقاه، في الحب، فيشكو لوعته ومرارته، ويخوض في أحواله، مفسّراً الحياة والمعرفة والحكمة من خلاله، ومن خلال ما يسببه من الآم، وما يثيره من انفعالات إنسانية، وأن يتجرأ على هذا في مجتمع أفلت فيه زمام العواطف، وماعت علاقات الحب، أمر يشقّ على من لم يخض تجربةً أو أكثر من تجارب الحب، من ناحية ثم لم يملك ناصية الإبداع فكرياً وفنياً خير امتلاك، من ناحية ثانية، إنه يضع نفسه بين سندان الاتجاه الديني القوي الذي يتحرّج أصحابه عادة – وهو أحدهم – من خوض مثل هذه الموضوعات الحسّاسة، ومطرقة من يلقبون آنفسهم (( بالمتحررين )) الذين يقفون في الطرف الآخر مترصّدين لكل من يحاول أن يوقف اندفاع صخرة الأخلاق إلى وادي الضياع النهائي. فهل استطاع الرافعي أن يخطو بسلام بين الفريقين عبر أفكار خاطرته، وإلى أي مدى يستطيع أن يُرضي كّلا منهما؟

لقد كان العقل دائماً ديدن الرافعي فيما يكتب، وهو يتجه إلى عقل القاريء الموضوعي حتى في مثل هذه الخواطر السريعة التي كثيراً ما تنطلق من الذرات غير آبهٍة بشرائط الموضوعية، ولأن الرافعي ينطلق من الإسلام في كلّ ما يكتب نجده غير حذر في لجوئه إلى العقل، لأنه، ككلّ كاتبٍ مسلم اعتنق الفكر الأسلامي مذهباً في حياته العملية  والعلمية، لا يخشي ، إذا اختطّ لنفسه طريق العقلّ، أن تتضارب النتائج العقلية التي يتوصل إليها مع فكره الإسلامي، لأنه يؤمن أن الإسلام والعقل متكاملان متوافقان، وأنَّ تقدّم العلم وتطّور الفكر البشري لا يمكن أن يتناقضا مع جوهر الدين الإسلامي، بل على العكس، نجدهما يقدّمان التفسير تلو التفسير والتأكيد تلو التأكيد، لما غمض من نصوص هذا الدين ،أو ما اجتاح ،في حركة الظمأ البشري الحديث وتطلّه نحو البحث والاستكشاف، إلى مزيد من التأكيد والكشف. وهكذا يكفي أن يعلن الرافعي وقوفه مع العقل ليطمئن إلى أنه ضَمنِ موافقة الجانب الإسلامي الواعي، وهذه الوقفة نفسها هي التي يُفترض أيضا أن تضمن له موافقة الجانب (( المتحّرر )) عندما يكون العقل رائده، وإن كنا ندرك أن الأغراء الحضاري يطغي عند هذا الأخير في معظم الأحيان فتشغله ألوان الحضارة وأضواؤها وبهارجها عن حقيقتها المنحرفة وربما القاتلة.

قد نتوقف مترددّين عند بعض أفكار الرافعي وهو يحاول أن يبرز لنا العاشق المثالي، واللغة الفعلية للحياة، واليأس الفاتك في الحب، ولكننا في النهاية ندرك أن الحدة التي طبعت هذه الأفكار، والمثالية التي خالطتها، والخيال الذي يغلب عليها أحياناً، والمبالغة التي رسف بعض أفكاره فيها، لم تكن إلا نتيجة للتأثيرات الفنية وليس الفكرية، للمذهب الرومانسي الذي كان قد غطّى الساحة الأدبية لجبل الرافعي.

وإذا جّردنا فكره من هذه الأثواب الرومانسية، فحذفنا منه مشاعر القلق العارض، واليأس المرحلي، والحزن الشكلي ، والمبالغة الفنية، والجموع في الخيال، والتوقد في العواطف ، وهي ليست أكثر من أثواب حقاً،توصّلنا إلي جوهر أفكاره التي يكون الحكم في النهاية، وليس على  تلك الأثواب الرومانسية.

وهنا لا بد من التوقف عند هذا المفترق الصعب الذي يجدر بنا أن نفّرق فيه بين الرومانسية فكراً وبينها فنّاً. فأن ينطلق الكاتب أساساً من نقطة اليأس الذي يسيطر عليه روحا وشكلاً، من غير أن يستطيع الخلاص منه، أمر لا نستطيع فصله عن الفكر الرومانسي، أمّا أن يكون هذا اليأس عارضاً مؤقتاً وليس مرضاً أساسياً في الجذور الإجتماعية والفكرية للأديب، فهذا لون من ألوان الحياة يمكن أن يلون كل أديب به أدبه في بعض المواقف، ونحن لم نعهد الرافعي على مثل هذا اليأس المريض، بل عهدناه يبحث دائما في الفضاء المظلم عن كوّة أمل ينفذ منها مهما ادلهمّ سواد هذا الفضاء. والرافعي في كل ما يكتب يغلّب الأمل على اليأس، والتفاؤل على التشاؤم، ولكنه في هذه الخاطرة، ونؤكّد هنا على أنها ليست أكثر من خاطرة، غلّب اليأس على الأمل، فلم نجد الرافعي فيها كما عرفناه في معظم ما كتب. ومع ذلك يأبى إلا أن يزرع تلك الكوة المضيئة في سقف الظلمة التي غطّت فضاء خاطرته، فوجدنا بارقة الأمل البسيطة في الفقرة الثالثة ( وأقبل الفضاء يشرق من أحد جوانبه كالقلب الحزين حين ينبع فيه الأمل ) وكان إشراق قمره من خلال ظلمة ليلها لدامس هو البارقة الطارئة أو الأمل المنبثق فجأة في متاهات الحياة.

ليست رومانسية الرافعي إذن جوهّرية أساسية، بل عرضية طارئة، تلون أفكاره وفنه تلويناً سطحياً، من غير أن تتحكم بالأسس الفكرية لديه، فيمكن أن نقول مثلاً : إن الحديث عن الحب، والتوحّد بالطبيعة، ومحاولة ترويض الشباب واخضاعهم للحب الروحيّ بدلاً من الجسدي، لم تكن من الجذور الرومانسية الفكرية، وإنما كانت بمثابة متّكات فنيٍة لحقائق أكبر منها كان الرومانسيون يسعون إليها : التمّرد، التسامي عن الواقع، اليأس المرضي، الإنطواء والإنصراف عن الحياة، التخلص من قيود العقل، الثورة على القواعد في الفن والحياة..الخ.

لقد كانت هذه المتَّكات عند الرافعي وسائل فنية ينتهجها للوصول إلى غايات أبعد منها،إنها إذن – على صبغتها الفكرية – الفن الذي يعبر به إلى الفكر. فالتوحّد بالطبيعة وسيلة لإظهار أسرار النفس وإبراز آلامها صادقةً مؤثّرة، والحديث عن الألم غايته إظهار أبعاد التجربة الإنسانية واصطدامها بعناصر الحياة، والحديث عن الحب ما هو إلإ وسيلة للوصول إلى حقيقة الحياة، فلم يكن الحبّ عند الرافعي، على اشتهاره به، إلا أداةً للحديث عن خُلق المراة وعن خُلق الرجل وعن أخلاقية العلاقة بين الِإثنين، وهذا كله في رأينا يشكل نصف الحياة إن لم نقل كلها، وبهذا الأسلوب الذكي استطاع الرافعي أن يروض موضوعي الحبّ والتجربة الإنسانية ليكونا وسيلةً لا غاية، وهكذا يستطيع الباحثون عن أدب الحب أن يجدوا بغيتهم في أدب الحب أن يجدوا بغيتهم الباحثون عن أدب الحياة أن يجدوا بغيتهم لديه أيضاً.

ولا يتناقص أدب الحبّ عند الرافعي مع أدب الحياة، فدعوته إلى الحب الروحي لا تتناقض مع الواقع السليم، وإن كانت تتناقص مع الواقع المريض، وواقع الوطن العربي- الذي كتبت الخاطرة له وبلغته- واقع ضاعت فيه المقاييس بمقاييس الغرب المادية، حتى أصبح الحديث عن الحب الروحي- في نظر هذه المقاييس المهجّنة- يستدعي السخرية وربما الاستهجان والمحاربة بشراسة، وإذا تلّطف الساخرون أو المستهجنون سمّوا ذلك (( مثالّية )) ما أبعد الواقع منها، وهذا كله يبدو لنا طبيعياً في ظل مجتمعٍ ذابت شخصّية في شخصية الغرب حتى لم يعد يعرف له شخصيّة قائمة بنفسها، وهذه هي الخطورة الكبيرة التي يعرّض الرافعي صدره لها حين يخوض، بمثل هذه الأفكار، مثلَ هذا المجتمع المهجّن.

ولكن الرافعي حين ينطلق في فكره من الإسلام لم يكن في يومٍ من الأيّام (( مثالياً )) بالمعني الفلسفيّ لهذه الكلمة، الذي يجعل منها انفصالاً عن الواقع والحقيقة، ولكنه دين الواقع كما لم يكن من قبله أو من بعده أيّ دين الواقع كما لم يكن من قبله أو بعده أيّ دين أو مذهبٍ فكريّ أو إجتماعي، لقد فقدنا، نحن المسلمين أولاً، إحساسنا بواقعيّة الإسلام، وغدونا ننظر إلى قصص الصحابة الرائعة على أنها (( مثال )) لا يمكن الوصول إليه، إننا نتهم الواقع بالابتعاد عنا، ولكننا لا نجرؤ على اتهام أنفسنا بالابتعاد عن الواقع إن (( الواقع – المثال )) فوق ونحن أسفل، ليس (( الواقع- المثال )) هو الذي ابتعد عنا وارتفع فوقنا، بل نحن الذين هبطوا عنه وانحطوا ألي درْك ذوبان الشخصية والهجنة والبعد عن الأساس الذي بنينا عليه تاريخنا المجيد، حتى بتنا نرى فيه (( المثال )) دون (( الواقع )).

وبدهي أنّ حديث الرافعي عن الحب لا يتناول الرابطة التي تربط بين الزوجين، فالحبّ- مصطلحاً- هو تلك العاطفة الإنسانية الجارفة التي تدفع بالذكر والأنثى أحدهما إلى الأخر، ليرتبطا ارتباطاً قلبياً يدفع بهما إلى تتويج علاقتهما العاطفية هذه بأنضج ثمار الحب: الزواج فإذا ما تحقق الزواج انتهت مرحلة ((الحب )) تبعاً للمعنى الذي يحمله المصطلح- وبدأت مرحلة من نوع آخر تربط فيها بين الزوجين علاقات المحبّة- ولا نقول الحب، حتى لا نخلط بين المصطلحات- وكذلك التفاهم والوئام والعطف والاهتمام والتواصل الجسدي المثمر- وإذن فالحب قبل الزواج هو وحده الذي ينبغي أن يتخذ الطريق الروحي الذي رسمه له الرافعي وليس في هذا أية مثالية، بل هي واقعية بريئة من المرض، واقعية إسلامية مشرقة، أما الطريق الروحي بعد الزواج ليكون من التحام الطريقين العلاقة الزوجية البنّاءة المثمرة.

هذا كله يتوافق مع المنطلق العقلي الذي تحدثنا عنه عند الكاتب ويتوافق مع الحظ الهادف الملتزم الذي أخذ نفسه به. وهو خط يتنافى كل التنافي مع الاتجاه الأساسي للفكرية الرومانسية التي اختارات في معظم خطوطها اتجاهاً أقرب إلى السلب منه إلى الإيجاب، بينما كان الرافعي، حتى من خلال يأسهِ العَرِضيّ، يهدف إلي بناء الحياة وتدعيمها وجلاء غامضها،لا إلى هدمها أو تزيفيها أو الانسحاب منها.

***

ولكن هل استطاع الرافعي أن يوفّق بين واقعيتّه الفكرية والجانب الفني من كتاباته؟ أي هل استطاع، برومانسيته الفتية، أن يقدم لنا لغةً وخيالاً ينسجمان مع الواقعية الفكرية والموضوعية التي انبثق عنها؟

لابد أن نذكر أولاً أنّ الرافعي، خلافاً لكثيرين من أبناء جيله والجبل اللاحق، لم يتنازل عن درجةٍ من درجتي الفكر والفن، وساوى بينهما في أدبه، فكان مفكّراً بالقدر نفسه الذي كان به فناناً، ولم يكن الفن هدفه الفكر، ولا العكس، وإذن فلن نتوقع ونحن بإزاء مفكّر عميق، يتّجه تلك الوجهة العقلّية في فكره، مصبوغةً بالمسحة الرومانسية التي تكوّن هذا الفكر، لن نتوقع منه الإهتمام الشديد بالفن، لغةً وخيالاً، فإذا كان دور الرومانسية في الفكر الموضوعي محدداً فدورها في اللغة والخيال أكثر بروزاً.

لقد حطم الرافعي الحواجز اللغوية القديمة التي اعتاد كتّابنا أن بقفوا دونها، ليحقق وراء هذه الحواجز أرقاماً قياسيةً لغويةً جديدة، وكان على من أراد أن يجعل من نفسه رائداً من روّاد الأدب في هذا العصر أن يجد لنفسه ثغراتٍ ينفذ منها لتحقيق فعله الرياديّ عن طريق تلك الثغرات، فيخرج عبرها إلى فضاءاتٍ الغويةٍ جديدة، ويُوجِد فيما بين عباراته علاقاتٍ مختلفةً عن العلاقات اللغويّة القديمة.

ولو أجرينا مقارنةً بين العلاقات اللغوّية الجديدة عند الرافعي وبينهما عند أصحاب حركة الشعر الحديث، أو ما دعي بالقصيدة الحديثة، لوجدنا بعض التشابه من حيث المبدأ اللغوي الذي انطلق منه الطرفان، ولوجدنا اختلافاً بينهما في التطبيق أولاً، وفي الهَدَف، ومن ثمّ النتيجة التي حققها كل منهما، ثانياً.

أما المنطلق فيكاد لا يخرج عن حالات لغوية أو نحوية لا تخالف القواعد الأساسيّة المعروفة، فأن نعلّق شبه الجملة بفعلٍ، أو حدثٍ متأخرٍ عنه تأخّراً متطّرفاً أو مسرفاً، أمر لا يخالف قواعد النحو العربي، ولكنه يخالف تقاليد هذا النحو التي أصبحت بمثابة العرف، فهو إذن مخالفة لأعراف النحو وتقاليده وليس لقواعده. والرافعي في مقطوعته هذه يبدأ خطابه للقمر بشبه الجملة (الآن) ويتكرر هذا الظرف في مطلع كل فقرة من فِقره الطويلة، وما نزال نبحث عن مأوىً يستند إليه هذا الظرف أو متعلَّقٍ يتعلق به، حتى نعثر عليه في الفقرة الرابعة (فهلّم أبثّك نجواي..) ونفهم أن المقصود ( فهلّم الآن ).

ولقد عرفت اللغة العربية أساليب مختلفة وصوراً شتي للجملة، فمنها القصير ومنها الطويل ومنها الأطول، ولكنّ أحداً من كتّابها لم يكن ليغامر بإطالة الجملة ذلك الطول الذي نجده في بعض جمل الرافعي. إن الجملة لتستطيل عنده حتى لتعجز أنفاسها عن الاسترسال معها، ونجد أنفسنا متسائلين مراراً: أين النهاية فنتوقف؟ وقد تنتهي الجملة نحوياً من غير أن تنتهي معنوياً، فقوله في مطلع الفقرة الخامسة ( أرأيت أيها القمر هذا النهر الصافي ) جملة مكتملة نحوياً، ولكنّ لواحقها- التي هي بمثابة تتّمٍة فكّريٍة لها لا يكتمل المعني إلّا بها- ستستمرّ عدة سطور أخرى، ممّا لا يسمح لنا باسترداد أنفاسنا قبل أن نأتي عليها جميعاً.

إن الفقرة التاسعة توضّح هذا الأمر توضيحاً نحوياً- والنحو هو الذي يستطيع أن يفصل في مثل هذه الأمور أكثر من غيره- فهذه الفقرة تبدأ باسم الشرط (فمن) ثم تطول الجملة وتطول حتي يأتي الجواب بعد ستة أسطر أو سبعة ( فذلك هو الذي ) على الرغم من أن جملاً عدّة قد تخللت هذه الجملة الشرطية الطويلة.

هذه المخارج التي أوجدها الرافعي لنفسه توازي في حداثتها محاولات أصحاب القصيدة الحديثة، فهؤلاء كثيراً ما يحققون تجديدهم بمثل هذه الحيل اللغوية، ولكنّهم في حالاتٍ عديدة تجاوزوا حدود التقاليد، فخالفوا القواعد نفسها وتمّردوا عليها، وهذا نوع من التجديد لا تقبله اللغة أصلاً، لأنه لا يمت إليها بصلة أو نسب، ولم تتصل حركته بقاعدتها الراسخة الصلبة، حتى تكون تلك الحركة فاعلةً وأصيلةً وثابتةً، مما يمنحها القدرة على الاستمرار بعد ذلك. وما انحرف بهم إلى هذا الاتجاه الخاطئ أنهم لم يكونوا في معظمهم يقصدون إلى التجديد، بل إلى التحطيم، تحطيم كلّ جانب من تراثنا، بحيث يترك تحطيمه شرخاً في جدران نفوسنا يقتل مالا يزال حياً منها من مُثُلٍ ومقدّسات وعقائد (1).

وجدير بنا أن نتساءل هنا: ما الذي أوحى للرافعي أو دفعه إلى هذا الأسلوب، وهل كان أسلوباً مخطَّطاً له، أم هو وليد الشخصيّة الفنيّة للرافعي وحدها؟

لقد كان الرافعي بعيداً عن الثقافات الغربيّة التي كانت قد كانت قد بدأت تغزو الأرض العربية في الشرق، ولم يكن يعرف أو يتقن أيّاً من لغات تلك الثقافات الوافدة، وتكاد ثقافته تنحصر في اتجاهٍ واحدٍ يتحدّر شاقوليّاً ليستغرق التراث العربي بأكمله، مع قدرٍ من الثقافة الفلسفية والفكرية والتاريخية الحديثة.هذه الثقافة الشاقولية العربية أعطتنا فيما بعد تاريخه الكبير(تاريخ آداب العرب ) الذي لا نعرف كتابا محدثاً في تاريخ الأدب العربي يساويه في صدقه وشموله وعمق نظرنه، من أجل هذا كله نستعيد أن تكون الثقافة الحديثة هي وحدها التي أوحت للرافعي بهذا الأسلوب، ولكن هذا الأسلوب لا يعني عدم إدراك الرافعي لحقيقة التجديد الذي يمارسه، إدراكا واعياً منّظماً، مما يصرفنا إلى التفكير في علاقة البيئة الشخصية للرافعي بهذه اللغة الجديدة.

لقد بدأ الرافعي حياته الأدبية شاعراً، وشهد بعد ذلك معارك النقد التي شبت على أرض مصر بين القديم والجديد، والتي أشعلها وأضرم نيرانها المازني والعقاد وعبد الرحمن شكري خاصة، وكانت هذه المعارك تستمدّ مقاييسها النقدية من رافدين : عربّي مشرييّ، يغذّي أصحاب الاتجاه السلفي، وغربيّ ذي  شعبيتين، فرنسية وإنكليزية، يستمد منه أصحاب الإتجاهات الحديثة، الذين كانت تمثّلهم، أو مثّلهم فيما بعد، وبلورت مبادئهم، مدرسة الديوان.

وكان الرافعي يعيش أحداث هذه المعارك، ويتأثر بهذا أو ذاك من فرسانها، فيحاول أن يتدارك في شعره ما أحسّه فيها من جديد يمكن أن يطعّم به شعره، فيكون رائداً في الشعر كما أراد لنفسه في البداية، ولكن الرافعي،كما يظهر، لم يخلق ليكون شاعراً يستطيع ترويض معاينه الجامحة الممتدة، وصورة العميقة المتطاولة، ليسمعها بيت شعري محدود الأطراف، مما يحدّ أيضا من عنفوان فكر الرافعي وخياله، وكأن أنفاسه توشك أن تختنق وهي تتطلّع إلى ذروة الفكرة أو الصورة، لتأتي القافية فجأةً وتَحول دونها والنهاية التي ما تزال قصبة. من أجل هذا نجد الرافعي وقد انصرف عن الشعر- وفي نفسه شيء منه – إلى النثر وهو ما يزال مثقَلاً بأحلام الشاعر، فيحاول أن يزرع في هذه الأرض الجديدة، أرض النثر، تلك البزور الشعرية التي عجز عن اكتشاف الأرض الملائمة لها في نفسه، وهو لذلك بريد أن يحقق جديداً ما في لغته النثرية، من غير أن يلغي التاريخ الشعري والنقدي والثقافي الذي عاشه من قبل، فانطلق في تجديده اللغوي، أصيلاً أصالة التراث الذي فهمه تمام الفهم وتمثّله خير تمثّل، مجدّدا جدّة تلك المقاييس النقدية التي عاش معركة تصادمها في مصر، وجدّة النفس الشاعرة التي كان يطمح إلى أن يحققها من خلال القصيد، والشاعر أبداً يمثل الرائد الكشّاف في آفاق قومه الأدبية، فإذا كان للشاعر أن ينماز عن أصحاب القلم الآخرين فبهذه الريادة والكشف،وإذن، لنا أن نذهب إلى أنّ كلا من الثقافة الوافدة، والبيئة المحلية بطرفيها القديم والجديد، قد أسهمتا، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر،في تكوين هذه اللغة الجديدة لدي الرافعي.

ومن السهل ملاحظة اهتمام الرافعي بالألفاظ الموحية المركّزة المشحونة بالعاطفة والتي تستطيع أن توحي بذاتها قبل المعنى الذي تحمله، فهذا شأن أي أديب مبدع، شاعراً كان أم ناثراً، ولكنّ كاتبنا لا يقف عند هذا الجانب من اللغّوية الرومانسية، بل يحاول تحديثه على طريقته، فيأتي بالعبارة الجديدة التي يفجأنا ترابط ألفاظها، وتدهشنا في الوقت نفسه صياغتها المتينة المتّفردة التي لم يأبه فيها الكاتب للعلاقات اللغوية التقليدية، وإنما التّفرد هو الحَكَم في هذه العلاقات عنده. لقد اعتدنا مثلاّ أن يتعدّى الفعل (هرب) بحرف الجر (إلى) ولكن الرافعي يفاجئنا بعبارته (( هاربة في الأرض )) معدّياً الفعلَ بالحرف (في) وهو تطوير في علاقة هذا الفعل بما جاوره، من غير أن يخالف في ذلك قواعد علم المعاني، بل إنه يضيف إلى هذه القواعد إضافاتٍ بل إنه يضيف إلى هذه القواعد إضافات جديدةً متّفردة. فالهروب هنا ليس (إلى الأرض ) بل (في الأرض)، وأداة الجّر التي نابت عن أداة أخرى لتستطيع تأديتهما، فالعبارة تتجه هنا إلى تصوير حركة هذه القطعة السماوية التي هي النهر، وهي تنزلق بسرعة من مساربها السماوية إلى مسالكها في الأرض، وما نتصورها هكذا إلا كأفعىً تتلوي طريقها متجهة بسرعة نحو الهدف، وهذه الحركة لم تكن لنشعر بها أبداً لو استعمل حرف الجر (إلى) و(في) هنا كالفرق بين النقطة والخطّ في علم الهندسة، فالنقطة معنًى ثابت ولا يمكن أن تكون مرتسماً لحركةٍ، والخطّ معنًى متّحول يرمز إلى الأنتقال والحركة التي تبدأ من نقطة بدايته للتوقف عند نقطة نهايته. وهكذا يعطي الرافعي حرف الجّر(في) خاصّيةً حّركيةً (دراميّة) لم تكن له أصلاً في علم معاني الأدوات، وكاتبنا يدرك تماماً سرّ التفرّد القرآنّي في استعمال أدوات الجر أو غيرها، هذا التفرّد الذي خفي في معظم الأحيان حتى على اللغويين والبلاغيين، فلم يدركوا كنهه وطبيعته، وكثيراً ما سموه شذوذاً، وشتان ما بين الشذوذ والتفرد.

ومن هذا الباب أيضاً قوله عن الطبيعة في الفقرة الأولى إنها ( أعيت من طول ما انبعثت في النهار) فكلمة (انبعثت) تركيز وتكثيف مدهشان لمعنى كبير تعجز عنه الألفاظ المجّردة عادةً، إنه لم يحتجْ إلى أن يصف لنا الطبيعة وقد تبّرجت للناظرين، وجهدت في إبراز كلّ مفاتنها ومحاسنها على مدى النهار، بل استطاع أن يفعل هذا من خلال كلمٍة واحدةٍ وضعها في سياق لغوي وخياليًّ معّين، فحمّلها بهذا ما حمّلها من معانٍ وأطيافٍ وظلال. وهذا، فضلاً عن أنه يدخل في باب التجديد اللغوي،تجديد خيالي في الوقت نفسه، لأن اللفظة حين تتخذ هذا المنهج الحديث في التعبير تختلط بالصورة الحديثة، مما يمكن أن يدعوه بمبدأ (التصوير بالكلمة).

***

ولا نستطيع فصل عنصر الخيال عند الرافعي عن عنصر اللغة، ومن قبله عنصر الفكرة أيضاً، ولعل بعض ما مّر بنا من أمثلٍة مصداق لذلك. فليست الأفكار وحدها تتوالد هناك، بل الصور كانت كذلك أيضاً، وهي صورة لم تحققها الإبداعات الأدبية العربية قديماً أو حديثاً، وإن توالد الصورة عند الرافعي يواكب توالد الفكرة ثم بديعاً بين المقومات الرئيسة الثلاثة لأي إبداعٍ أدبي، وكأنّ هذا الإبداع عربة تجرّها ثلاثة أحصنة، فإذا قصّر أحدها عن الأخرين أو جمع بالعربة دونهما اختلّ توازنها وسقطت وتحطمت. ولقد تمكّن الرافعي من قيادة أحصنة عربيه قيادةً حكيمة على الأغلب- وإن كانت هذه النقطة ستحتاج منا إلى بعض النقاش- فكان يمسك بأزّمة أحصنتها الثلاثة بحيث لا يشذّ أحدها أو يكبو بين يديه، مما يؤكد فكرة التماسك العضوي التي بدأنا دراستنا هذه بالبحث عنها.

لقد اعتمد الرافعي في المشهد الأول علي صورة بلاغية كانت محدودةً في البداية (تشبيه النجوم بإنسان ينضج )، ولو توقّف عند هذا لكانت الصورة مجّرد صورة جديدة سبق الرافعيّ إليها، ولكن الصورة لا تنتهي هنا، لأن الجملة لم تنتهي هي أيضا، وكذلك الفكرة كما وجدنا. وإذن لابدّ أن تتواكب العناصر الثلاثة طولاً وعمقاً، أي أفقيّاً وعمودياً، وإذن لابدّ من البحث عن اطّراد الصورة في العمق، كما بحثنا عن اطّراد الفكرة من قبل. والنجوم ليست مجرد إنسان ينضج فحسب، بل هي أمام إنسان آخر هو الطبيعة تنضج وجهه، وإذن فنحن أمام صورتين بلاغيتين متقابلتين : النجوم الإنسانة، والطبيعة والإنسانة، وتتميز إنسانية الأولى بعملية النضج، وتتميز إنسانية الثانية بخاصّية الوجه، ولكن الرافعي ما يفتأ يلاحق عناصر الإنسانية في الطبيعة، فيجعل من هذه الطبيعة عروساً قد أجهدت نفسها في التبّرج أثناء النهار، ثم نجده وقد وضع بين يدي النجوم التي بدأ بها مشهده مَرَشّاً ضوئّياّ تَرشَ به وجه الطبيعة تلك. ومثلما توالدت الفكرة هناك ما تفتأ الصورة تتوالد هنا، فُرشاش النور (ندًي) وهو كقطرات الماء الدقيقة، وهذه القطرات تشبه الأنفاس المتثائبة، وهذه الأمواج ليست في بحرٍ من النسيان، أما السفن التي تعبر هذا البحر فهي قلوب العشّاق المهجورين، أو قلوب الأطفال المساكين.. وهكذا تتناسل الصورة حتى يلد الجزء منها أخاه ثم لا يكون أخوه في درجته، بل أبعد عمقاً وأشد غوصاً في آفاق الخيال التي نحسّها لا متناهيةً عند الرافعي.

ونلمح في هذا المشهد المتوالد أثراً لسمةٍ خياليّةٍ أخري للرافعي، هي هذا الربط ضمن الصورة الواحدة، لطرفين ينتميان لدائرتين حسّيتين مختلفتين، وذلك في قوله ( النور النديّ ) فالنور يتبع حاسة البصر بينما يتبع الندى حاسة اللمس، فلا نستطيع ان نربط ربطاً مباشراً بين الطرفين- ونستعير هنا مصطلحات البلاغيين من غير أن يعني هذا انطباقها على الصورة الحديثة- ولا بّد من وسيطٍ بينهما يقيم جسر العلاقة الخالية التي لابدّ منها في الصورة، فليس النور هو الذي يشبه الندى، بل تأثير الأول في أنفسنا يشبه تأثير الآخر، وهكذا يكون الأثير النفسي هو الوساطة القائمة بين الطرفين لتحقيق العلاقة التشبيهية المطلوبة.

ولا ندّعي هنا أن الرافعي هنا قد أخذ بالمذهب الرمزي – وهو يلغي العلاقات الحسّية المباشرة بين الأطراف، على ما ذهب إليه بودلير- من غير أن يلتفت إلى الجذور، على طريقة بعض الرمزيين العرب المحدثين، فليس الرافعي هو الذي يتخلى للمذاهب الغربية عن الأصالة الآخذة بطرفي الماضي والحاضر، فهو إذ يصف النور بالنديّ يأبى إلا أن يخفّف من وطأة هذه العلاقة الغربية بين المتباعدين في المجال الحسي، فيُلحق الصورةَ جملةَ الحال (( يتحدّر قطراتٍ دقيقةً )) مفسّراً هذه العلاقة بين النور والندى، فالنور عنده يسقط سقوط الندى، وليس كما يمكن أن نذهب إليه على الطريقة الرمزية – وقد ذهبنا حقاً- أي من غير أن يضطرنا في تفسير الصورة إلى مثل تلك الوساطة بين الطرفين.

وعلى هذه الطريقة أيضاً، وانطلاقاً من الأصالة نفسها، الآخذة بطرفي الماضي والحاضر، يتمرّد الرافعي على الشكل التقليدي للصورة العربية القديمة، حين لا يكتفي بالوقوف في حدودها عند طرفين قصيرين عاديين، بل يتجاوز حتى ذلك الطول الذي عهدناه في التشبيه التمثيلي عند العرب، كما وجدنا في الصورة الأولى للنص، وكما وجدنا في الفقرة الثالثة، حين شبه الإبتسامة الحيرى على شفتي الحسناء البخيلة بقطرة الندى التي تلتمع تحت ضوء الضحى تشبه حيرة الثانية، وهذا التفصيل الذي شفع به كلا من الحيرتين لا نعهده كما قلنا في صورتنا القديمة، ووجه الشبه الذي يربط التعقيد قد لا تكفي جملة واحدة ولا جملتان للقيام به، حتى نكاد نظّن أن الرافعي خرج بهذا حقّاً عن القواعد البلاغية القديمة، وأوجد لنفسه قواعد أخرى تضاف إليها.                                                                  وهكذا في صورته الطويلة الأخرى ( وعلى شفتيها احمرار شمس روحه تكاد تمر ) فهنا تشبيه يقوم على علاقةٍ حسّيٍة بين صورتين منفصلتين في الاصل :(على شفتيها احمرار الشفق) و(شمس روحه تمسي ) وقد ربط العربية، فهو أحساس في الصورة الأولى (( يؤدّي )) – ولا نقول يشبه – إلى إحساس في الصورة الثانية ، والعلاقة بين الطرفين إذن ليست تشبيهيّةً من ناحية، وليست مباشرة من ناحية ثانية.

فإذا اكتفى الرافعي بتلك القواعد التقليدية، ووقف عند طرفين قصيرين، حاول أن يتمرد عليه من جانب آخر. فنحن نعرف أن للتشبيه البليغ حالاتٍ نحوّيةً محدّدة تربط بين طرفيه لا يكون في غيرها. ولكن الرافعي يخرج عن هذه الحالات جميعاً، حتى لا نجد أيّاً منها يصلح لتفسير العلاقة بين طرفي أو أطراف هذه الصورة لعالم الليل وهو يتتوج بالقمر بعد أن أستقّر على عرش الكون حالّا محل الملك الآخر: النهار ( ولبس الكون تاجه العظيم فأشرف عليه القمر ) وهكذا في التشبيه الآخر عند قوله في الفقرة التاسعة  ( فأعطاها كأنها إرادته )، والمشبّه هنا منتزَع من الفعل (أطاع ) أما المشبه به فيكون في صورةٍ كاملٍة تقوم هي بدورها على الطرفين: مشبّه (الإطاعة ) والمشبّه به ( كأنّها إرادته ) غربية على قواعد البلاغة،إنّها علاقة تضيف إلى هذه القاعدة جديداً من غير أن تلغيها.

وإذِ استطاع الرافعي أن يثبت إبداعه الخيالي عن طريق تطوير قواعد الصورة العربية وتغيير أعرافها، أو فهذا لا يشغلنا عن تسجيل مقدرة الكاتب على إبداع صورٍ قد تسجيل مقدرة الكاتب على إبداع صورٍ قد تكون منسجمةً مع القواعد البلاغية القديمة ولكنّ عمقها وجدّتها الكلّيين يضعانها في مرتبة لا تقلّ أصالةً عن مراتب الجوانب التجديدية الأخرى للصورة عنده، فصورة (الشجرة الممتلئة بالأوراق كأنها مكتبة بتصفحها الهواء ) فيها من الجدة والحياة والحركة، والتفاعل بين الطبيعة المختلفة، تفاعلاً إنسانياً مذهلاً، ما يجعلها صورة فريدة، ويجعل مثلها من الصور، الكثيرة عند الرافعي، في هذه المرتبة، كما في صورة الطبيعة التي (تُملى في الكتاب الأسود – الليل – أخبار نهارها – بخطوط النجوم ) وصورة القمر الذي يشبه ( روح النهار الميت، ما ينفكّ يتلمّس جوانب السماء حتى يجد منها منفذاً فيغيب ). من المرجّح أن يكون للمدرسة الرومانسية الغربية أثرها الإيجابّي في حثّ الرافعّي على هذا التفاعل بينه وبين الطبيعة من جهة، ثم بين عناصر الطبيعة وعناصر أخرى من جهة ثانية. ويظهر هذا الأثر أيضاً في انشغاله أحياناً بالصورة دون الفكرة حتى لتستوطن الأولى أرض العبارة فلا تسمح للفكرة بالظهور. ولا نعرف سابقةً لهذا الاستيطان في تاريخ الشعر أو النثر العربيين. وللدلالة على ذلك نتوقّف عند الأجزاء الأولى من صورة الرافعي الكبيرة التي افتتح بها خاطرته، فالصورة منذ بدايتها (بدأت النجوم تنضح..) حتى الحلقة الخامسة تقريباً من سلسلتها الطويلة، أي إلى قوله (تتثاءب بها الأمواج المستيقظة ) لا تحمل وراءها أيّ فكرة مباشرة، إنّها مجّرد ثوبٍ مزركش من الخيال لا يعطّي جسماً ما، ثوبٍ خيالي من غير مضمونٍ فكريًّ، وكأننا بالرافعي يمارس – مع بداية العملية الإبداعيّة التي استغرقت بعد ذلك الخاطرة – نوعاً من الرياضة الخيالية التي تمنحه القوة بعد ذلك للإنطلاق إلى الفكر العميق والخيال البعيد اللذين يجوب آفاقهما في بقية خاطرته.

***

فهل نجح الرافعي حقّاٍ – كما سبق أن زعمنا – وقد درسنا الآن نسيج لغته وأبعاد خياله، في أن يواكب بين عنصري اللغة والخيال، أم اتجه كل منهما عنده في مسار مختلف مما قد يسبب تمزّقاً خطيراً في تماسك البناء الأدبي؟ إن الانفصال بين اللغة والخيال ليس أسوأ من الانفصال بين اللغة والفكر،لأن مؤدَّى الانفصالين واحد.

حين ندرس خيال الرافعي، وطبيعة هذا الخيال الغريب، يفيدنا أن نتفحّص حواسه الخمس أولاً لتبّين ما يمكن أن تدركه تلك الحواس من الواقع المحيط بها، هذا الواقع الذي يتخذه الشعراء أرضاً ينطلقون منها في رحاب الخيال إلى وهم، وشتّان ما الخياُل والواهم.

إن هذا الفحص الذي سنجريه للكاتب سوف يتعّثر بحاسّة السمع، تلك التي فقدها تماماً وهو في العقد الثالث من عمره، فلم يعد يملك ما يصله بصوت الحياة – في مادتها – إلا صوت وصورة، فأين يذهب خيال الرافعي به وقد فقد البعد الآخر للحياة ؟ إن أمامه الآن بعداً واحداً يستطيع أن يغوص في أعماقه غوصاً يمكن أن يعّوضه النقص الذي خسره في مجال البعد الآخر، وقد رأيناه لذلك يسترسل في هذا الاتجاه، وأحسسنا به وهو يغوص في أعماق نفسه شيئاً فشيئاً وكأنّه يحفر في أرض بعيدة الغور مسافًة إثر أخرى، حتى يصل إلى أبعادٍ لم يكن الآخرون قادرين على أن يصلوا إليها بفكرهم أو خيالهم .

هذا الغور العميق الذي بغوص إليه الرافعي وهو يقدم لنا بنات خياله سوف يؤدّي به بدهيّاً إلى الغموض، وربّما أدي في بعض الصور المتطّرفة إلى الإبهام والاستغلاق، نتيجةً لجموح الخيال عنده، جموحاً قد تعجز اللغة، على تفوّقها عند الرافعيّ عن ملاحقته، فيتمزق النص بين جموح الأوّل وتقصير الثانية. إنّ حصان اللغة عنده أصيل أصالةّ نادرة، ولكننا نحسّ وكأنه يتحرك في غير الاتجاه الذي كان يندفع فيه حصان الخيال، ذلك لأن الأوّل يظل لاهثاً خلف هذا الثاني الذي يجمح باندفاعٍ يشبه الجنون، فيختلّ توازن العربة، وتترنح بالرافعي وهو يحاول أن يتقدم إلى الأمام.

إن العنصر الصوتّي: اللغة، عنصر زئبقي يفلت من بين يدَي الكاتب كلما همّ بالامساك به، مادام عاجزاً عن جعله يواكب مسيرة العنصر الخيالي، وأنَّى له ذلك وقد فقد الحاسّة التي يتلقى بها ذلك العنصر. إنّ بإمكان الرافعي أن يفكّر جيداً، وبإمكانه أن يتخّيل جيداً، ولكن لم يكن بإمكانه أن يهتف أو ينشد أو يسمعنا موسيقى نفسه بالقوّة نفسها التي كان يملكها في عمليتي التفكير والتخيّل، ولذلك شذّ العنصر الصوتي عن العنصر الخيالي في صوره، فلم تخدم موسيقاه اللغوية بالقدر الذي كان يُرجي منها، وظلّت هذه الموسيقى متخلّفة دوماً عن الصورة، ولاشكّ أن كلا من الصورة والموسيقا يصدران عن موقعٍ واحد في النفس هو العاطفة، ليصبّا، من بعدُ، في الموقعٍ واحدٍ في النفس هو العاطفة، ليصبّا، من بعدٌ، في مواقعٍ أيضا من نفس هو المتذوق هو العاطفة مرةً أخرى. ولكن هذين  العنصرين لا يسيران عند الرافعيّ مسيرة تؤكّد تلاحم الصورة والموسيقا يؤدّي بالكاتب أو الشاعر إلى ما يسميه ( حويلي ) SONE ويترجمه الدكتور عزّ الدين اسماعيل إلى ( توقيعة )(2). فالصورة ليست هي المشبه والمشبه به،  أى لا تقتصر على العناصر المكانية أو الحسية، بل تتجاوزها إلى العناصر الزمانية، وهي العلاقات اللغوية في الصورة، والموسيقا الناشئة عن طبيعة هذه العلاقات، وهي عناصر زمنية لأن وجودها متوقّف على الأصوات والإيحاءات المؤقتة التي يحدثها التلفّظ بها أو إنشادها.

هذا التلاحم الضروري في بناء (التوقيعة ) هو الذي نفتقده عند الرافعي، فالفواصل الموسيقية التي تعيش في داخله، لتتدفق من بعد على لسانه، مبهمة إلى حد ما، من ناحية، لعجزٍ في حاسته السمعية، وهي أيضا، وللسبب نفسه، تتطاول بشكل مسرف، فتطول معها صورته، في عمليّة محاولة تحقيق التواكب بين هذين العنصرين، ولذلك وجدنا الصورة تتوازي وتتساوي طولاً مع الفاصلة الموسيقية فيقع السوء بذلك على كلا العنصرين.

إنّ الإبداع عند الرافعي لا يرتبط مباشرةً بحاسّة السمع، وهذا الارتباط يمكن للكاتب أن يتخيّله دون أن يعيشه، وهو إن فعل استطاع أن يتجنب مثل ذلك الانفصال بين الصوت والصورة.

ولكن هل هناك حقاً ذلك الانفصال الخطير بين الصوت والصورة عند الرافعي. بل لنقل: هل كان هناك انفصال خطير بين الفكرة وكل من الصورة والصوت – ولنقصد بالصوت هنا اللغة ؟

هذا السؤال يضعنا أمام تسويغٍ نخفّف به الأذى عن الكاتب. إن الرافعي لم يكن يقتصر في إطالة عبارته على الجانب الصوتيّ، ومن المعروف أن الشكل ليس إلا صورةً للمضمون. وإذن، عندما نحاسب الرافعي على إطالة العبارة يجدر بنا أن نحاسبه على إطالة الفكرة وربما الصورة، وكل مرتبط بالآخر. فكيف نسّوغ له إطالة الفكرة والصورة، وهل إطالتهما مما يعاقب عليه قانون الإبداع الأدبّي أو ممّا يكافئ عليه هذا القانون؟

إن الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى علاجٍ من أكثر من جانب، فقد تطول الفكرة من غير أن يستدعي الفنّ الإبداعي ذلك، أي من غير أن يكون الكاتب مضطرّاً إلى تمديدها وإطالتها، وبحسبه أن ينصرف إلى تركيزها ليكون منها فكرة مكثفّة لها بعدان قصيران أفقيّ وعموديّ، بحيث لا يقلّ البعد الأفقي طولاً عن البعد العمودي، أي لا يقلّ عمقاً عن اتساعها، فإذا وُفق الكاتب إلى هذا عددنا له ذلك في التفوق الفكري ثم التعبيري. ولكن قد تكون الفكري ثم التعبيري. ولكن قد تكون الفكرة سطحية وطويلة معاً بحيث تفتقد البعد الآخر، وهنا يجمل بنا أن نحاسب صاحبها حساباً عسيراً، ولاسيما إذا جَعَلَنا نلهث وراء عبارته الطويلة المجسَّدة لهذه الفكرة.

فأين موضع الرافعي من كل ذلك ؟

إن قراءتنا السريعة له تظهر لنا من غير تردّد أنه لا ينتمي إلى أيًّ من الصنفين، هذا سر آخر من أسرار تفرّده، ومن ثمّ تجديدُه. فلو توقفنا عند الفقرة الأولى من النص، حيث يصوّر الليل والنجوم وإشعاعات هذه النجوم التي توحي له بكثيرٍ من أسرار الحياة، نجد الفكرة تتناسل وتتوالد، وكلّ نسلٍ يتفوّق على سلفه، حتى لنظنّ الكاتب يقبل في النهاية على الخروج من حدود العقل إلى مالا يسعه العقل البشري من معنى. وهو ما يفتأ يؤكّد صلة النسب هذه بين المتوالدات، ويقع هذا التوالد على مساحة كل من الفكر واللغة والخيال معاً، فبعد أن قال ( بدأت النجوم تنضج وجه الطبيعة ) ظّننا أنه انتهى من فكرته، وسيبتدئ بفكرة جديدة، ومن ثم صورة جديدة، وعبارة أو جملة نحوّية جديدة، ولكنه وضعنا فجأةَ أمام الإسم الموصول (التي ) ليربط بين السابق واللاحق، أي ليوجد علاقة النسب والتناسل هذه (الطبيعة التي أعيت من طول ما انبعث في النهار ) ومن حقنا هنا أن نظن أن الرافعي قد اكتفى بهذا النَفَس الطويل نسبيّاّ، ومن حقّنا أن نظنّ أنه أقبل على الانتقال بنا إلى فكرة جديدة منفصلة عن الأولى، ولكنه يفاجئنا هنا أيضا يشبه جملة مرتبط بالفعل الذي تضمنته العبارة السابقة، فيعلّق الجار والمجرور (برشاش )

الذي بدأ به الحلقة الجديدة (برشاش من النور الندي ) بالفعل (تنضج)، ثم يسترسل في الإطالة عن طريق إيجاد جملةٍ حاليٍّة تابعٍة لهذا النور(يتحدّر قطراتٍ دقيقة )، ثم يصلها بحلقٍة أخرى فيضيف إلى هذه القطرات صفاتٍ جديدة، فيقول إنها (منتشرة كأنها أنفاس )، ثم يغوص أكثر فأكثر، فيضع هذه الأمواج المستيقظة (في بحر النسيان) معلقاً شبهَ الجملة ( في بحر ) بالصفة الأخرى (المستيقظة ) ثم يربط هذا البحر بجملة أخرى عن طريق اسمٍ موصول، فهو البحر( الذي تجري فيه السفن الكبيرة )، ويزداد غوصاً وعمقاً حين يميز هذه السفن الكبيرة فيجعلها من ( قلوب عشاق مهجورين ).. وهكذا نجده كلّما انتقل إلى جزء صوتي من أجزاء عبارته الطويلة تحقّق له عمق أبعد من سلفه، فمثلما تلهث أنفاسنا وراء أصواته يلهث خيالنا وراء خياله، ويلهث عقلنا وراء أفكاره، فليست الأصوات المتتابعة المترابطة عنده مجرد أصوات لا تتصل بأبعاد رأسية توافق أبعادها السطحية، وإنما نحس الرافعي مِرجلاً يغلي بالأفكار والصور، ونكاد نظن أنّ المرجل الذي أحاط بمثل هذه الأفكار والصور أضيق من أن يتّسع لها حقاً، فنحسّ وكأن الكاتب موشك على الإنفجار، وأننا لو أصررنا على متابعة فكرته والعبارات التي صيغت بها من غير توقٍّف، لحكمنا على أنفسنا أيضاً بالتفجير وانقطاع الأنفاس. ولقد يخيل إلينا، وافكار الرافعي تطّرد عمقاً مثلما تطّرد اتساعاً، أنه من غير البشر، فهذا الطول الغريب، والعمق الذي يواكبه، الاطّراد في هذا العمق، خيالاً وفكراً، شيء لم نعهده عند الآخرين قديماً أو حديثاً، ولم نعهد أنفسنا وأنفاسَنا قادرةً على التكّيف معه وتقيّله. ولئن كانت أنفاسنا تتقطع ونفوسنا تكبو، كلما حاولت اللحاق بهذا الفارس، فإن هذا لا يشير إلى ضعفنا بقدر ما يشير إلى عظمته، ولا يشير إلى إخفاقه بقدر ما يشير إلى العجز الذي يتجسّد فينا ونحن نقف أمام مرآة العباقرة، وهو عجز لم نكن قادرين على رؤيته فينا حين كنا نقف أمام الكتّاب والمبدعين العاديين، وإذن فمن حقّنا هنا، ومن حق الرافعي علينا، أن نجعله في مرتبة لا تصل إليها مرتبة كاتبٍ آخر. لقد عودنا العباقرة دائماً على أن يُتعبونا ونحت نجري وراء إدراك أسرارهم، وتذوّق إبداعهم، حتى إذا وصلنا إليها أدركنا كم كان ما عانيناه من سفر إليهم رخيصاً هيناً بإزاء ما تحقق لنا في النهاية من متعة فهمهم وتذوّقهم.

ليس الرافعي ذلك الرومانسيّ السلبي ولا الرومانسّي المقلّد للمذهب الغربي تقليداً يُفقده شخصيته وأصالته، سواء من الناحية الخيالية أو اللغوية أو الفكرية، إنه الكاتب الأصيل الذي مُنح إلى هذه الأصالة مَلَكة إبداعيةً متفوّقةً، مكّنته من التمسّك بقواعد الأصالة، من ناحية تمسّكاً ميسوراً عليه، صعباً على الآخرين، ومكّنته من أن يحقق تفرّدا ملحوظاً وحداثةً حقيقيّة غير مزيّفة، من ناحية أخرى. ولو استطاع الرافعي تحقيق الموازاة كاملة بين الحصانين اللذين يتقدمان عربة الإبداع الأدبي، فتنطلق لغته لتلبية حاجات خياله الظاميء إلى الأعماق فتلين له، وتستجيب لطموحه، وتغذّي عنفوانه، لكان بيانه السحر إن لم يكن كذلك حقّاً.

الهوامش

1-  هذا ما يشرعه وينص عليه راشدهم (( أدونيس )) في أكثر من كتاب من كتبه، ولاسيما (( الثابت والمتحول )) و (( مقدمة للعشر العربي )) .

2-    في كتابه ( الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره) .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر