أبحاث

حاجة الأدب العربي إلى الأخذ بالتصور الإسلامي

العدد 89

يرى المتتبعون لمسيرة الأدب الإسلامي أن هذا التيار المتدفق قد تخطى مرحلة التأصيل إلى مرحلة الإبداع الجاد والإسهام الفعال في تقويم المسار الإبداعي داخل المنظومة الاجتماعية والسياسية للشعوب المستضعفة.

لقد استطاع هذا الاتجاه أن يحدد منذ البدء منهجه المستقل في معالجته الأحداث ، وكذا في رسمه الأهداف السامية التي نذر نفسه من أجلها ، كل ذلك انطلاقاً من نظرة الإسلام الشمولية لمناهج الحياة وكذا الوعي بمتطلبات المرحلة الراهنة ، فالتيار العذب إذن قد اشتد ساعده ، ولم يعد بالتالي ذلك الطفل الغض المتعثر في مشيته ؛ ولعل هذا ما حدا بالأستاذ محمد حسن بريغش أن يعلن من غير تحفظ في كتابه ((في الأدب الإسلامي المعاصر)) فيقول:((أكاد أجزم أن الأدب الإسلامي قد ولد ونما وترعرع ، والتيار العذب بدأ يشتد ويقوى ، وأضحى يشق مجراه ويحط في الأرض سبل اليقين))[1].

إن المتتبع لمخاضات الإبداع الثقافي عموماً ، والأدبي على الخصوص يدرك وبوضوح مدى التأثير الذي أحدثته التيارات والأيديولوجيات الوافدة على مستوى البنية الثقافية لدى الشعوب العربية ، حتى أصبحنا نجد لكل تيار صدىً مماثلاً داخل الرقعة العربية ، وأصبح من بين مبدعينا من ي[1]حمل لواء هذه المدرسة أو تلك ، مدافعاً عن اطروحاتها ومبادئها ؛ ومن ثم أصبح الكثير من أعمال الأدب العربي المعاصر صدىً للتيار العقدي والفلسفي للتيارات الوافدة.

وإذا التقينا نظرة فاحصة على هذا الزخم الهائل من ((المعلبات الفكرية)) ، التي أثرت في أدبنا العربي أيما تأثير يمكن أن نخرج بثلاثة تصنيفات أساسية ، وكل تصنيف يندرج تحت عباءته الكثير من التسميات الثانوية:

v   التصنيف الأول ؛ التيار الليبرالي

ويضم تحته الكثر من التفريعات التي إن اختلفت في الشكل فإنها تنطلق من نفس المضمون ، وهو التعبير عن مجتمع المنافسة الحرة بكل سلبياته وإيجابياته ، بالإضافة إلى رصد صورة الإنسان العربي المتحضر بطريقة أو بأخرى.

v   التصنيف الثاني ؛ التيار الاشتراكي:

ويضم هو الآخر تحت ردائه الكثير من التسميات المتشابكة التي اتخذت من المنظور الاشتراكي منهجاً وهدفاً يُحتذى ، ولكن رغم اختلاف هذه التسميات تبقى مجرد أسماء شخصية لأفراد عائلة واحدة.

v   التصنيف الثالث ؛ التيار العبثي:

وهو تيار بدون ملامح ، وإن كان نما هو الآخر في ظل النظام الليبرالي ، ولم يسلم التيار الاشتراكي من بعض شطحاته (فوضوية برتولد بريشت مثلاً) ، فهذا التيار أشبه ما يكون بالزئبق ؛ بحيث لا يكاد المرء يضع يده على حقيقة مضامينه حتى ينزلق من بين أصابعه ، وينطبق عليه جيداً وصف الشاعر:

كالقابض على الماء خانته فروج الأصابع.

1)   وقفة لابد منها:

إنه لمن الإجحاف أن يتعامل المثقف العربي مع أي مذهب من هذه المذاهب من غير أن يأخذ بعين الاعتبار ظروف نشأته بكل ملابساتها الزمكانية ؛ إذ لابد من وضعه ضمن إطاره الجغرافي وسياقه التاريخي ، ومن دون البحث في هذه العلة سيقع في خلط منهجي فظيع ، ويكون بالتالي قد جنى – من حيث يدري أو لا يدري – على الأدب العربي بتجريده من مواصفاته الخصوصية وتحميله وزر وضع حضاري لم يترعرع فيه ؛ ومن ثم يكون التعامل في ظل هذه الظروف مجرد إسقاطات مجانية تكرس حالة الانبهار الحضاري الذي ترزح تحت نيره العقول العربية والإسلامية منذ أمد بعيد ، من هنا صار لزاماً على العقل المسلم أن يبحث المسألة في جذورها ، مروراً بكل الظروف والملابسات التي صحبتها طيلة الفترة الممتدة ما بين لحظة الميلاد ، ولحظة بناء الذات.

2)   قراءة عابرة في ظروف النشأة:

 ‌أ-         نشأة التيار الليبرالي وتطوره:

نشأ هذا التيار وترعرع في صخب الآلة وضجيجها ، ووضعت أولى لبناته على أنقاض النظام الفيودالي مع بداية عصر التصنيع بأوربا.

وقد أسهمت الكشوفات الجغرافية (وكانت ذات طابع امبريالي محض) في إعطائه ذلك الامتداد الأفقي ؛ نظراً لانفتاح أوربا على عوالم لم يسبق لها أن عرفتها ، فشاع ما اصطلح عليه بأدب الرحلات ، والذي غالباً ما كان أصحابه مبعوثين من قبل حكوماتهم للقيام بدراسات تمهيدية لعقلية الشعوب التي تسعى للهيمنة عليها ، غير أن هذا التيار بدأت تتضح ملامحه بشكل سافر في أعمال أدباء وفناني عصر النهضة ، ويمكن اعتبار لوحة الموناليزا للرسام الإيطالي ليوناردو دفنشي شاهد إثبات عن هذه الفترة المهمة في تاريخ الفكر الغربي. وقد عرفت هذه الفترة نوعاً من النكوص الذي اعتبره مفكرو تلك المرحلة عودة نحو تأصيل الذات الأوربية ، معتمدين في ذلك على الفكر الإغريقي والفكر المسيحي كقاعدة للانطلاق بالفكر الغربي نحو آفاق أرحب ، فظهرت بعض الأعمال كالكوميديا الإلهية لدانتي ، ولوحة العشاء الأخير التي تصور المسيح وحوارييه في الليلة التي وشى به أحدهم ، للفنان مايكيلا إنجلو ، وأصبح الاهتمام بكتابات أرسطو وتقليد قدماء الإغريق سمة من سمات هذا العصر ، وحتى في العصر الذي أطلق عليه – تجاوزاً – عصر التنوير ما هو في الأصل إلا عودة إلى رفات الفكر الإغريقي ، وقد سماه الدكتور نبيل راغب في كتابه ((المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية)) بعصر الكلاسيكية المتحذلقة ؛ حيث نشأت طبقة من المفكرين هدفها الوحيد تقليد القدامى وعلى رأسهم أرسطو[2] ، وما يعنينا من هذا السرد التاريخي هو ربط الفكر الليبرالي المعاصر بلحظة الميلاد التي لا زالت تطبع الكثير من نتاجات هذا العصر.

من هنا كان لابد أن يخضع التعامل مع هذا الفكر لمقاييس معرفية دقيقة نابعة من هويتنا الحضارية ، لا باعتباره شرّاً مطلقاً – كما يزعم بعض المتحفظين من أبناء جلدتنا – بل لكونه ينطلق من معطيات حضارية وعقيدية غير معطياتنا ، وكما لا يمكن لعاقل أن ينكر تلك النقلة النوعية التي أحدثها هذا التيار على المستويين الاجتماعي والسياسي من جهة والمستوى الإبداعي – الثقافي من جهة أخرى ، فلا يمكن أيضاً أن نتجاهل خصوصيات الدين والتراث الذي ظل يمتاح من هذا التيار أسس نهضته ورموز مقوماته ، ففاعلية أي إبداع لا تكمن في تبنيه من طرف هذه المدرسة أو تلك أو تقليد هذا الاتجاه أو ذاك بقدر ما تكمن في الصيغة الحضارية وكذا الرؤية الموضوعية التي يتميز بها عن غيره في إطار قيم المجتمع الذي يعبر المبدع عن قيمه ومعاناته ، ومن هنا كان للمدرسة اللاتينية – الأمريكية طعمها الخاص ونكهتها الأمازونية المتميزة ، رغم كونها أخذت عن الغرب أبرز مقوماتها ألا وهي اللغة والدين المسيحي.

‌ب-       ملامح التيار الاشتراكي وخصوصياته:

إذا كان أصحاب هذا الاتجاه ينعون على المبدع الإسلامي تعامله الساذج مع التراث – وهذا كلام فيه نظر – فإنهم نسوا أو تناسوا أنهم تعاملوا أيضاً بقدر من السذاجة لا يمكن إغفاله ليس مع التراث فحسب ؛ بل مع المذهب الاشتراكي نفسه ، إذغالباً ما يتجاوز الطرح الماركسي ظروف النشأة وخصوصياتها إلى خطاب الإقناع المباشر ، وهذا ناتجعلى كون دراسة عامل النشأة – رغم أهميته – لم يحظ بنفس القدر من العناية التي حظي بها المنهج الدياليكتيكي وفائض القيمة وغيرها من مقومات المذهب الاشتراكي ؛ ومن ثم كانت الإسقاطات المجانبة للصوابتنثال على واقعنا الإسلامي بالمجان من غير أن يكلف أصحابها أنفسهم عناء التمييز بين العقيدة المسيحية والعقيدة الإسلامية ، فكان أن نقل الصراع الكنيسي معلباً ليسقط على الواقع الإسلامي ، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على سرعة الأحكام الجاهزة ، وفي غمرة الاستقطابات الواسعة لفئة المثقفين في الوطن العربي وتفشي موضة التقدمية فيما بين الفترة التي شهدت سقوط فلسطين بأيدي الصهاينة وبعد هزيمة 1967م ؛ حيث أصبح الخطاب الماركسي هو المهيمن على الساحة العربية ، وفي غمرة هذا نسي المتحمسون لهذا التيار أن قضية العقيدة لا يمكن تجاوزها بهذه السهولة ؛ لا سيما لدى الفئات البروليتارية التي نصبوا أنفسهم أوصياء على مصالحها ، ويبدو أن الذين ركبوا الموجة في بداية عنفوانها لم يكلفوا أنفسهم – في غمرة التحولات السريعة التي شهدتها المنطقة (سقوط الخلافة العثمانية ، الاحتلال الصهيوني ، تنامي المد القومي ، انقلابات عربية سياسية بالجملة ….إلخ) – مشقة التمييز بين حقيقة الدين المسيحي الذي شهد طيلة قرون أبشع أنواع التحريف ، والدين الإسلامي الذي حافظ الله على صبغته ، وأن ما نتج من انحسار وتشويه له إنما نتج عن انحراف في الفهم والتصور والسلوك لدى الإنسان المسلم نفسه ، وهكذا بدا لهؤلاء الراكبين أن حتمية التاريخ تسير سيرها الطبيعي وفق جدلية الصراع القائم بين الفكر العلمي المتنور والفكر الديني المتحجر ؛ لذا أصبحت كل هزيمة عسكرية أو حضارية تعزى إلى الإسلام ، وتم تغييب الخطاب الإسلامي من على المنابر الفكرية والجامعية خاصة في البلدان التي تحكم فيها المد القومي العلماني ، وبعد ما كان الإسلام – وحتى وقت قريب – المحرك الأول لملايين البشر ضد قوى الاستكبار والإمبريالية أصبح في هذا الظرف العصيب أفيوناً للشعوب ، وأصبحت المقولة الماركسية: ((اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)) تعني بشكل أو بآخر المقولة القائلة: ((اشنقوا آخر رمز للطغيان بأمعاء آخر رجل دين إسلامي)) ، وحتى مع بداية انحسار المد الاشتراكي داخل الرقعة العربية والإسلامية عقب هزيمة حزيران الأسود ، وبعد فشل كل الأطروحات القومية في تضميد جراح الأمة ، بدت لعبة امتصاص النقمة أو ما يسمى في الأدبيات الماركسية بالتراجع الاستراتيجي ؛ إذ نجد أصحاب هذا التيار تعاملوا بنوع من الانتهازية مع التطلعات الإسلامية لدى شعوب المنطقة ، فطفت على الساحة كتابات تخطب ود الإسلام وتتمسح بمسوحه ، وبدأ نوع من المرونة في التعامل مع الدين بشكل عام في انتظار اللحظة الحاسمة لتحقيق (القفزة التاريخية) ، في هذه الفترة ظهرت الكثير من الدراسات التي تقارن بين كفاح الإسلام ونضال الماركسية ، وأن كليهما جاء لتحرير الفئات المستضعفة من الفئات المتعفنة ، نذكر على سبيل المثال تلك النشرات التي راجت في بعض الأقطار العربية في الستينيات على صعيد الجامعات والمنتديات الفكرية والقائلة بأن الإسلام كان منذ البعثة اشتراكي النزعة ، وأن اشتراكيته تمثلت في عهد أبي بكر رضي الله عنه وتجلت في أقصى صورها في عهد الفاروق عمر رضي الله عنه[3] ، كما أصبح الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه المؤسس الأول للاشتراكية في التاريخ العربي ، إلى غير ذلك من التعتيمات التي لا تخفى على أحد.

إن الظروف والملابسات التي أحاطت بهذا التيار في بداية نشأته – والتي آثرت تأخير الحديث عنها – لا تخفى على الكثير من الدارسين وغير الدارسين ، ابتداء من مثالية سان سيمون ، وطوباوية هيجل إلى علمية ماركس وإنجلز ، ولا يمكن أن ننسى دور العنجهية الدينية المتمثلة في الكنيسة في بلورة هذا النمط الذي اتخذ فيما بعد أبعاده الفلسفية والاقتصادية وأسهم في إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للعالم المعاصر ؛ لهذا – وقبل أن نفتح باب التعامل مع هذا التيار- وجب الأخذ بعين الاعتبار ظروف هذه النشأة وتطورها ، وللإشارة يمكن التوضيح بأن هناك تيارات أخرى ترعرعت في حضن هذا المذهب نذكر منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر: الوجودية ، التي لا تختلف في شيء من حيث العقيدة والتفسير المادي مع الماركسية.

‌ج-       العبثية وانعدام الرؤية المضمونية من وراء السلوك الإنساني:

إنه لمن المؤسف حقّاً أن نجد بين المثقفين العرب من يتبنى هذا الطرح من غير أن يجشم نفسه عناء التنقيب في خصائص المرحلة التي نشأ فيها هذا التيار الذي أدى إلى انعدام السلوك من وراء أي فعل إنساني.

ونكتفي هنا بما أورده الدكتور نبيل راغب في المذاهب الأدبية فهو كاف لدحض أوهام هذه الفئة ، يقول الدكتور نبيل: ((ولا شك أن كل اتجاه أدبي هو عبارة عن نتاج المرحلة الحضارية التي يمر بها أيُّ مجتمع ، وقد مر المجتمع الأوربي بمرحلة عصيبة في أعقاب الحرب العالمية الثانية تحطم فيها كثير من الأصنام ، وانهار فيها العديد من التقاليد التي كانت تعد من المقدسات التي لا تمس ، منها مثلاً أن الإنسان مخلوق منطقي معقول لا يصدر عنه إلا كل منطقي ومعقول ، بينما أثبتت الحرب العالمية الثانية أن كل شيء بناه الإنسان من حضارة وتراث يمكن أن ينهار في لحظات بفعل إنسان آخر مثل هتلر ….))[4] ، ومن ثم أصبح فكر الإنسان يتأرجح بين النقيضين ، بين المنطق والعبث ، بين المعقولية والوحشية ؛ مما أدى إلى انعدام معنى الجزء الأكبر من فكره وسلوكه[5].

وحتى نكون موضوعيين يمكن القول بأن التيار العبثي عبر تعبيراً وافياً عن المرحلة العصيبة التي مر بها المجتمع الأوربي وبالتالي الإنسان الأوربي ، وقد ((عبَّر الاتجاه العبثي في الأدب تعبيراً وافياً عن انعدام المعنى وراء سلوك الإنساني في العالم المعاصر الذي فقد كل وحدة تمنح الإحساس بالانسجام والتوافق ، وقدنسب إلى أرثر ميللر أنه قال وهو يتحدث عن المسرحية الأمريكية المعاصرة: (أعتقد أننا بلغنا في أمريكا نهاية مرحلة من مراحل التطور لأننا نكرر أنفسنا سنة بعد سنة وفقدت المضامين كل معنى لها ، ولا يبدو أن هناك من يلاحظ ذلك ..))[6] ، فماذا بقي لدعاة العبث والامعقول من ذرارينا من حجة في تقليد هذا المنحنى؟ وهل يعقل لأمة تواجه أكبر التحديات ، من احتلال صهيوني لجزء من أراضيها ، وإحباط حضاري ، وهزائم على كل المستويات أن تتبنى العبث في أغلى شيء تملكه ألا وهو فكرها وثقافتها.

3)   ضرورة العودة إلى الجذور:

نحن لسنا هنا بصدد إيجاد تأشيرة مرور لهذا النوع من الإبداع ، أو احتجاز مقعد له بين المقاعد المحتجزة من قِبَلْ المذاهب والمدارس الأخرى ، وذلك لسبب واحد فقط: هو أن الأدب الإسلامي ليس وليد اللحظة الراهنة ، وأن قصة العقل المسلم مع الإبداع بشكل عام ليست فكرة لقيطة رمت بها صيرورة الأحداث إلى الواجهة كحالة رد فعل عكسي تجاه الممارسات والاستفزازات اللاإنسانية التي ووجه بها المثقف المسلم طيلة الحقب المنصرمة ، بل هو على العكس وليد شرعي لأزيد من ثلاثة عشر قرناً من المخاض والكفاح والعطاء الإنساني المتدفق في شتى ميادين المعرفة ومن بينها الأدب ، بدءاً بحسان بن ثابت وكعب بن زهير رضي الله عنهما ، حينما حررا القصيدة العربية من رجس المعصية والهراش العشائري إلى صراع من أجل إثبات الحق وإبراز المثل السامية التي جاء بها الدين الجديد متجاوزين بذلك حاجز القبيلة والآصرة واللون إلى وشيجة أقوى هي وشيجة العقيدة ، ولم يعد الشاعر العربي في ظل الإسلام ترجمان قبيلته كما كان الشأن في فترة الجاهلية ، بل أصبح صاحب رسالة تبشر الكون بنهاية عهد الجور والطغيان ، يقول الأستاذ محمد إقبال عروي مبرزاً هذه النقلة الفذة في تاريخ الشعر العربي: ((كان الشعر يلج سوق عكاظ ، ومع تلك الحضارة الجديدة أصبح يلج بيوت الله ، وبعد ما كان يحتضن بالمال والشهرة والقبلية صار يحتضن ببردة النبي صلى الله عليه وسلم …))[7].

ومجمل القول أن كل ما نرويه من خلال هذا البحث المتواضع هو إيجاد الصيغة الحضارية التي يمكن أن يتبناها الأديب العربي في مواجهته لأعداء أمته ، هذه الصيغة التي لا يمكن أن تقوم إلا بعد إيجاد المحور العقيدي الذي تدور حوله ؛ ولأن الأدب الذي لا يتسلح بعقيدة محكوم عليه بالموت إن آجلاً أم عاجلاً ، ومن المفروض أن تكون هذه العقيدة نابعة من صميم الشعب الذي سيكون إبداع الأديب منصبّاً حول مشاكله ، وقبل أن نعلنها دعوة مفتوحة للعاملين بحقل الإبداع – والإبداع الأدبي خصوصاً – أن يفتحوا صفحة جديدة مع هذا اللون المتميز بعيداً عن أسلوب المداهنة وعمل الأوراش ، لابد من الرد قدر المستطاع على تلك الشبهات التي تحوم حول الأدب الإسلامي المعاصر محاولة النيل منه وتشويه صورته للأنظار.

4)   الأدب الإسلامي وإشكالية التعامل مع الواقع:

يتهم بعضهم الأديب المسلم بهروبه وجنوحه عن الواقع ، ويستدل على ذلك بلجوء الأديب المسلم إلى تراث الأمة واستنجاده برموزها ، وتقديسه لهذا التراث تقديساً يكبله عن الانطلاق إلى آفاق أرحب ، وقبل أن نرد على هذه الشبهة نود أن نشير أولاً إلى أنه لا قدسية للتراث في مفهوم المسلم عموماً إلا إذا كان هؤلاء يعتبرون أن القرآن والسنة جزء من التراث. ويرون أن كلام الله ووحيه المتمثل في كتابه وسنة رسوله تشكل جزءاً من التراث ، فهنا أقول لهم: إن الوحي هو شيء غير التراث ؛ لأن التراث هو ما أنتجه العقل المسلم تحت راية الإسلام ، أما الوحي فهو شيء خارج الزمان وخارج المكان ، يقول الشاعر محمد بن عمارة في هذا الموضوع في استجواب أجرته معه جريدة (المسلمون) في عددها الثاني من فبراير سنة 1985م: ((بقى أن نعرف حقيقة كبرى في الإجابة عن هذا السؤال ، وتتعلق بالقرآن الكريم والسنة المطهرة ، فهما معاً لا يمكن اعتبارهما موروثاً ؛ وذلك أن الموروث نعني به كل إنتاج أنتجته الذهنية الإسلامية ، أما القرآن والسنة فيمثلان الوحي الإلهي الذي لا يحصره زمان ولا مكان)).

ولقد كان الأديب المسلم شجاعاً في تعامله مع تراث الأمة جرحاً وتعديلاً شأنه في ذلك شأن من فهم دينه فهماً عميقاً ، ولننصت إلى هذا الموقف الرائع من التراث عند أحد أبرز أدباء ومفكري الإسلام في عصرنا ، وهو الدكتور عماد الدين خليل في كتابه (في التاريخ الإسلامي) ، ((إن التشبث بالتراث إذا ما تجاوز حده المنطقي الهادئ ، تحول إلى سلاح خطير نشهره ضد أنفسنا في حلبة الصراع الرهيب ضد أعدائنا ومهاجمينا ، ومن أجل ألا يحتوينا هذا الموقف الخاطئ إزاء التعامل مع التراث علينا أن نتحول إلى موقع أكثر علمية وإيجابية وانفتاحاً ، موقع نتحمل فيه مسئولية الرؤية الشاملة لمواضع الخطأ والصواب ، والنقد البعيد للحدود الفاصلة بين الأسود والأبيض ….))[8].

انطلاقاً من بعض النماذج القليلة التي سنسوقها ضمن هذا البحث المتواضع ، سوف نقف – وبكل بساطة – على حجم ومتانة الارتباط والتماسك بين الأديب المسلم وواقعه ، ونكشف بالتالي مقدار الفرية التي تلوكها بعض الأفواه لحاجة في نفس يعقوب ، والتي تتهم المبدع الإسلامي بالإغراق في الماضوية والسكونية وما إلى ذلك من التعابير التي باتت جد مستهلكة في سوق العملات الثقافية ؛ فالأديب المسلم قبل أن يكون مبدعاً ، هو إنسان صاحب مبدأ وعقيدة من أهم مميزاتها مواجهة الظلم والغش والانحراف ، والوقوف إلى جانب الحق والدفاع عنه سواء بالكلمة أو بوهج السلاح ؛ ومن ثم كان الوقوف إلى جانب المستضعفين سمة من سمات عقيدة هذا الإنسان المسلم.

إذن فنصرة الحق ليست بدعة في حياة الأديب المسلم ولا شعارات جوفاء يلوكها قلمه من أجل المزايدات على كسب مودة الخلق ، أو خطابات حماسية يلهب بها حماس الجماهير المستنزفة ، ورجوعه لاستلهام العبرة من تاريخ الأمة الحافل بسجلات الكفاح ليس بكاء على الأطلال كما يتوهمه ذوو النظر القاصر بقدر ما هو حافز لإثارة الهمم الراكدة التي ألفت حياة الدعة والخمول من أجل استشراف آفاق غد أفضل ، فهذه الادعاءات التي أثيرت ولا زالت تثار في وجه كل إبداع يتسم بميسم الإسلامية لا ترتكز على طابع الحكم الموضوعي والنقاش المرتكز على أسس علمية ، علماً بأن الأديب المسلم ليس أول من وظف التراث توظيفاً فنيّاً من أجل تصويب أخطاء المرحلة ؛ بل هناك من وظف حتى الأساطير اليونانية واستنجد بآلهة الإغريق وآلهة البابليين ، ومن يقرأ لأدونيس واستنجاده بعشتار ، وأمل دنقل واستنجاده بزرقاء اليمامة يحس مقدار التشويه الذي يمس الإبداع الإسلامي دون غيره …

وقد رد الأستاذ محمد إقبال عروي في كتابه القيم: ((جمالية الأدب الإسلامي)) في فصل (مواقف متباينة من الأدب الإسلامي) ردّاً كافياً نسُوق منه بعض المقاطع .. يقول الأستاذ عروي: ((لست أدري ما هو المنهج الذي يقتفيه أصحاب هذه الدعوة من أجل الوصول إلى تلك الحقيقة ، وإن كنت أشك بأنه منهج معكوس يسبق الأحكام على الدراسة المتأنية ، ولو تأمل هؤلاء أشعار وقصص الأدباء المسلمين وقاربوها مقاربة فعالة ، لأدركوا أن الرؤية الإسلامية فرضت عليهم الانغماس في واقع الشعوب وإدانة الفئات المتعفنة التي تلعب بمصائر الأبرياء …))[9]

((… ونتذكر هنا قصة أيوب مع بدر شاكر السياب ، ومريم العذراء مع أدونيس ، ومع ذلك لم يطلع علينا من يسم هذه الادعاءات بميسم التراثية أو السلفية أو السكونية ، الأمر الذي يضاعف من التأكيد على أن الاتهام مشروط بالرؤية وليس بالتوظيف ، وفي هذا التناقض نكشف عن عتمة جديدة من عتمات اللغو الذي يتخذ طابع النقاش العلمي والحكم الموضوعي ، ولكن شتان … شتان!!)[10].

وحتى لا تكون جعجعة بلا طحين ، أحيل القارئ الكريم إلى هذا المقطع من قصيدة ((أحلام حفيد صاحب الرأس)) للدكتور حسن الأمراني ، وهي غيض من فيض ، وأترك للقارئ حرية التعليق عليها:

أصداء أغنية من المذياع ، تجلد حلمنا المكره

(شعب يغني والقلوب تصفق)

والمسجد الأقصى جراح تفهق

وصلاة شيخ يستجير

وصوت والهة مضت تستصرخ العربا

ودم ، وقربان على أعتاب من يمشي

على أشلائنا طربا

ما ضر لو ركضت على جدثي

جياد المترفين ، وحولت أيامنا عبرة

من بعد ماسرقت كنوزي ، واسترقت

قبة الصخرة

أصداء ثانية

وسابعة ، ،

وينطلق المغني

(هذي دموع الشعب من فرط الهوى)

عجباً أمن فرط الهوى كان البكا؟

أم كان من فرط الطوى؟

وتجوع ، ثم تجوع ، يهتف برلماني قديم ،

كلما وهبوه عمراً ثانياً

في مجلس النواب: يحيا الشعب

يحيا الشعب ، ، ،

وكأن شعبك أيها الموهوب عمرا

يا أيها الموهوب جمرا

ربٌّ صنعناه من الحلوى ونأكله إذا جعنا

فيا جمر الغضا ، يا خنجراً يسعى على

جسدي

يغوص من الوريد إلى نياط القلب

لن تستقر بارضنا الأوثان

الآن تعوي الريح ، ثم تنحر للأذقان[11]

5)   الانتماء والالتزام في الأدب الإسلامي المعاصر:

لا يخفى على كل متتبع أن الالتزام في أي فن يعبر عن مدى اهتمام الفنان بقضايا مجتمعه الذي منحه تربة العيش وفاكهة التحدي ، وأن النظرية التي تحمل شعار ((الفن للفن)) تبقى بعيدة عن قضية الفن نفسه ؛ لأنه ليست من طبيعة الفنان أن يمارس قيمه الجمالية وهو يغتصب الأخلاق ويئد التفاعلات الاجتماعية بجرة قلم أو ضرة قرشاة ، وإلى هذا يشير المفكر الأمريكي إيمرسون بقوله: ((إن العمل الأدبي لابد وأن يحتوي على أفكار إنسانية بناءة ؛ لأن الأدب عامة مثالي وأخلاقي بطبيعته ، أما العمل (الأدبي) المحكم البناء والمحتوي على أفكار هدامة فمثله مثل الجريمة الكاملة التي تدل على براعة مرتكبها وحنكته ولكنها تدل في نفس الوقت على إجرامه وحيوانيته ، والبراعة هنا ليست من الإنسانية في شيء))[12].

فالأدب الإسلامي لا يبخس أي جانب حقه ، وقد أدرك الأديب المسلم بطبيعة تصوره ورؤيته الشمولية للكون أن الأدب لا يمكنه أن يفي بالغرض إلا من خلال هذه الرؤية المزدوجة – أي الجمالية والالتزام – فإذا كان الجانب الفني يعطي للإبداع مفهوم الهوية التي تميزه وتشكله عن بقية العناصر الإبداعية الأخرى ، فانتفاؤه أيضاً يجعله – أي الإبداع – كالشخص الذي فقد بطاقة هويته ومن ثم عجز عن إثبات نسبه واسمه ، ويأتي الالتزام بعد ذلك ليعطي لهذا العنصر صفة المواطن الصالح ؛ إذ لا يمكن أن تمارس طقوس الإبداع في فوضى أخلاقية لا تلتزم بقيم المجتمع ؛ لأن الفن يصبح في هذه الحالة نشازاً لا يطاق.

إن الالتزام في نطاق الحرية الإسلامية كما يذهب إلى ذلك نجيب الكيلاني ((لا يضع قيداً على فكر ولا يعطل مسيرة أي جهد علمي ، ولا يصادر إبداعاً فنيّاً ، إنه تحرير للطاقات الإنسانية ، فإذا كان التفاعل الكيماوي بلغة العلم له اشتراطاته وضوابطه حتى يتم ويتجلى عن مركب جديد ، فإن الحرية إن صح التعبير تحوطها اشتراطات وضوابط تجعلها تفعل فعلها على النحو الأمثل ، فيتشكل الإنسان على هيئة كيان معبر عن قيم الحضارة الإسلامية ، وبذلك يؤدي دوره الأمثل في الحياة ، ويوصل الرسالة الخالدة بالصورة الحقيقية دون تحريف أو تبديل ، ومن ثم يقوم مجتمع متآخ متناغم ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) أو كما قال صلى الله عليه وسلم))[13].

وتبقى علاقة الأديب المسلم بالمجتمع علاقة واقعية إلى أبعد الحدود لا تكفي بنقل تفاعلاته بطريقة ميكانيكية ؛ لأنه ليس من شأن الأديب أن يستجيب لواقع المجتمع كيفما كان هذا الواقع متفسخاً ((إن دور الأديب في هذه الحالة يبدو سلبيّاً ، وقد يبقى الأمر في هذا المجتمع على ما هو عليه من فساد ، وهنا تنعدم (المسئولية الأدبية) أو (الرسالة) ويصير الالتزام ضرباً من الجمود على ما هو قائم ، وتمجيداً لما هو راسخ ؛ ومن ثم تزمن العلل الاجتماعية ، وتنطمس معالم التغيير الإيجابي والتطوير))[14].

6)   مفهوم الجنس في الأدب الإسلامي:

إن مفهوم الجنس في الأدب الإسلامي اتخذ شكلاً واضحاً دون غموض أو التواء بعيداً عن الاستغلال المشين لهذه الفطرة الغريزية التي جعلها الله عز وجل أداة استمرار لنسل آدم عليه السلام وغيره من المخلوقات ، وقد دأب بعض شذاذ الآفاق إلى توظيف هذه النعمة توظيفاً منحطّاً لا يخضع لأية معايير فنية أو أخلاقية ، والقارئ لما يسمى بالأدب المكشوف يلاحظ مدى التكلف في تعامل هذا النوع مع موضوع الجنس ؛ بحيث نجده يُقحم بسبب أو غير سبب من غير أن تراعى فيه أية ضرورة فنية أو أخلاقية ، ((إن تصورنا لموضوع الجنس يجب أن يكون واضحاً دون تعقيد أو غموض ؛ لأن القرآن الكريم – كتابنا المقدس – عرضها في قصة طويلة ؛حيث تحتدم الشهوة في جسد امرأة جريئة ، تتحدى القيم والمواصفات الاجتماعية ، وتلهث وراء نبي الله يوسف عليه السلام ، لتطفيء شهوتها وهياجها))[15].

أما إذا كان الجنس مجرد إثارة للغرائز وتصوير مهين لعلاقة الرجل بالمرأة ، فالأولى أن نسمي ذلك (بورنو) وما أجمل تلك العبارة التي رد بها الأديب الإسلامي الراحل ، عبد الحميد جودة السحار – رحمه الله – عن موضوع الجنس ؛ إذ قال فيما معناه: ((إن الأديب حينما يستغل موضوع الجنس من أجل اكتناه الحالة النفسية والاجتماعية لأبطاله ومعالجتها ، يكون في هذه الحالة كالطبيب الذي يحلل براز المريض من أجل الكشف عن حقيقة الداء ، أما إذا كان هذا الاستغلال والتوظيف من أجل إثارة الغرائز الكامنة لدى القارئ وإشعالها فإنه يصبح في هذه الحالة كالطفل الذي يعبث بالبراز ، وهي صورة تتقزز منها النفوس))[16].

إذن فمفهوم الجنس في الأدب الإسلامي هو مفهومه في الإسلام ككل ، وكلنا يعرف موقف الإسلام من صورة الجنس المنحرف ، كالزنا واللواط والشذوذ بمختلف أشكاله ، وهذا لا يعني أن نغفل هذا الشذوذ ؛ لأن إغفاله لا يزيد المشكلة إلا تفاقماً ، يقول الدكتور الكيلاني: ((وإذا كان الزنا – صورة الجنس المنحرف الحرام – وباءً خطيراً ، أفلا يمكن تناوله بما يستحقه من تقبيح وتنفير ، وما يصاحبه من مقدمات وإغراءات السقوط؟))[17].

وهكذا نجد أن الإسلام يتبنى الجنس النظيف ، في إطار علاقة شرعية قائمة على آصرة المحبة والتفاهم وتقسيم المسئوليات ، ويستنكر أن يتحول إلى سلعة معروضة على الرصيف. وقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض آداب الجنس من غير حياء ولا التواء ؛ لأن المسألة – لخطورتها – لا ينبغي أن تترك لعبث السفهاء ، والأحاديث كثيرة في هذا الباب ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله صلى الله عليه وسلم: (حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطَّيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقعن أحدكم على زوجته كالبهيمة ، فليجعل بينها وبينه رسول ، قيل: وما الرسول يا رسول الله؟ قال: القبلة أو الكلمة)) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. هذا هو رأي الإسلام في الجنس ، رأي يحفظ اختلاط الأنساب وتحويل المجتمع إلى بؤرة من بؤر الفساد وتفريخ أولاد الزنا.

7)   الأدب الإسلامي ومفهوم العالمية:

قد يقول قائل: إن الأخذ بالتصور الإسلامي في الإبداع قد يسقطنا في فخ الإقليمية ، ويفوت علينا الاستفادة من كثير من المذاهب الأدبية المعاصرة ، وقد يقيد عملية الإبداع من ناحية الشكل نظراً للقيود التي يفرضها على المبدع.

وللرد على هذه التساؤلات ، أقول: إن أصحابه لم يتفهموا بعد طبيعة الإسلام السمحة ، التي استطاع بواسطتها أن يتفاعل مع شعوب عديدة ، ويرسخ معتقداته في تربتها ، كما أن العملية الإبداعية لم يمسها أي تغيير من ناحية الشكل في ظل الإسلام ؛ لأن الإسلام لم يفرض شكلاً معيناً بل ترك الأمر للأديب المسلم الذي يدرك بطبيعة ثقافته الإسلامية حدود الالتزام والانتماء ، ولهذا نجد أن المقدمة الطللية بقيت ملازمة للقصيدة العربية في صدر الإسلام ؛ بل ونجد الرسول صلى الله عليه وسلم ينصت لكعب بن زهير وهو ينشد بردته في مدحه صلى الله عليه وسلم مبتدئاً بـ: بانت سعاد.

إن تبني الهموم الإقليمية لا يعني تقوقع الإبداع على ذاته ، وإلا أين يمكن أن نضعأعمال أدباء مرموقين كغارسيا ماركينز ، ونيرودا ، وبورخيس؟ وكلها أعمال تدور في بيئة محدودة ، وهي البيئة الأمريكية اللاتينية ، ورغم ذلك اكتسب إبداع هؤلاء سمع عالمية طيبة ، ربما يقول البعض: إن عالمية هؤلاء تمثلت في اللغة الأسبانية التي يكتب بها هؤلاء والتي مكنت إبداعهم من هذا الامتداد الأفقي الواسع؟ وحتى لو سلمنا بهذا التعليل ، ألا يرى أصحاب هذا الاتجاه أن اللغة العربية قادرة على استيعاب الهموم الإقليمية والدولية ، وبالتالي فانتشارها عبر القارات الخمس ممكن ؛ لاسيما وأن الكثير من الدول الإسلامية وغير الإسلامية أصبحت اللغة العربية تدرس في جامعاتها ، بل وحتى بعض الدول الإسلامية والتي ليست بها جامعات كجزر القمر وجزر المالديف أصبحت اللغة العربية مادة إجبارية في الثانويات.

أما المسألة الثانية وهي مسألة التفاعل مع باقي المذاهب الأدبية الأخرى ، فالرد لا يحتاج إلى عناء كبير ، فالمبدع الإسلامي لم ينغلق يوماً ضمن حدوده ؛ بل تفاعل وبذكاء مع كل التيارات الوافدة فأفاد واستفاد ، وحتى في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية نجد أن العقل المسلم لم يتقيد بعقدة التفوق ؛ بل تفاعل بوعي عميق مع الفكر اليوناني ترجمة ودراسة وفهماً ، وقوَّم الكثير من عيوبه. فالفن الإسلامي عموماً لم يتقيد بتعبيرات القرآن والسُّنة ؛ بل استفاد من كل ما حوله في الإطار العام للمفاهيم الإسلامية ، يقول الأستاذ محمد قطب:

((والفن الإسلامي – مع ذلك – ليس مقيداً بطرائق التعبير ولا موضوعات القرآن ، فله أن يختار من الموضوعات والطرائق ما يشاء ، ولكنه مقيد بقيد واحد. أن ينبثق عن التصور الإسلامي للوجود الكبير ، أو على الأقل ألا يصطدم بالمفاهيم الإسلامية عن الكون والوجود))[18].

وحتى لا نطيل في هذا الموضوع أحيل القارئ المهتم وكل من له الرغبة في تتبع المسألة إلى إبداعات الأدباء الإسلاميين كالدكتور نجيب الكيلاني والشعراء حسن الأمراني ومحمود مفلح وحكمت صالح وغيرهم ممن يضيق بهم المجال في هذه العجالة.

إذا تصفحنا أعمال هؤلاء نجد أن الرؤية الإنسانية تأخذ أبعاداً متميزة ، وجرد سريع لروايات الكيلاني تربطنا بالعديد من القضايا العالمية الكبرى ، فقد حط قطار الإبداع عند هذا المبدع الفذ بعدة محطات ، نذكر منها أندونيسيا في روايته عذراء جاكرتا في فترة سقوط نجم سوكارنو أواسط الستينيات ، ونيجيريا في عمالقة الشمال في فترة الحرب الانفصالية ، وأثيوبيا في الظل الأسود ، وتركستان في ليالي تركستان ، إلى غير ذلك مما يضيق به المجال ، ولم يكتف الكيلاني خلال رحلاته الاستكشافية بسرد الأحداث بهذه البلدان ؛ بل أبدع من ناحية الشكل أيما إبداع ، وقد انضاف إلى العنصر الفني الرائع الأمانة التاريخية ، وبدت الاستفادة الفنية من علم النفس الحديث جلية في بعض رواياته كرحلة إلى الله ، وعذراء جاكرتا ، وقاتل حمزة ، فكانت بحق تحفة إبداعية رائعة تستحق البحث والدراسة ، فالكيلاني لا يكتب عن منطقة إلا بعد أن يلم بكل مميزاتها بدءاً من تضاريسها ومروراً بطبيعة شعبها ومميزاته إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية بها ، وهذا ما دفع أحد النيجيريين أن يؤكد بعد اطلاعه على رواية عمالقة الشمال أن هناك كاتباً عربيّاً واحداً يعرف جيداً وطنه نيجيريا هو نجيب الكيلاني ، وقد أصيب هذا الشخص بالدهشة عندما علم أن صاحب عمالقة الشمال لم يسبق له أن زار نيجيريا[19].

ونعطي مثالاً آخر في الشعر عن الرؤية الإنسانية للأدب الإسلامي ، وهذه المرة مع الشاعر العراقي حكمت صالح في ديوانه (على عتبات الجنة السمراء) حيث يشكل الديوان إدانة صارخة للمارسات العنصرية تجاه الإنسان الإفريقي ، والذي شاد الإنسان الأبيض حضارته على أنقاض حضارته. يقول حكمت صالح في إحدى قصائد هذا الديوان:

((من أبشع مفهوم للوحشية

من كهف الكواليس البشرية

تنطلق الأسهم عبر مهب الريح

ينطلق الأوربي الملاح

يتجشم بحر الظلمات

في عهد الرق

ليستعبد آلاف الأطفال الإفريقيين

*********

الأوربي الأمريكي … الأبيض

والوسطاء المأجورون

يقتنصون بكلب الصيد المشدود إلى العربان

طفلاً .. شاباً .. رجلاً مفتول العضلات

عادوا بالأسرى إلى الشاطئ

والشمس تلف على الأفق

خيوط الحسرات))

فحتى الشمس هنا تسكب حزنها على هذا الإنسان المعذب ، ولعمري فهذه الالتفاتة الذكية تبعث في النفس الحساسة مشاعر الحزن والأسى ؛ حيث تمتزج حمرة الأفق المتوهج بهموم الإنسان الإفريقي لتشكل نسيجاً من الحسرات في لوحة فنية رائعة ألوانها الأسى والألم ، فمنظر الغروب وما يبعثه من رهبة في النفس ، وسفينة الغزاة وهي تبتعد بالرجل المقتَنَص (بفتح النون) ، تاركة وراءه الأهل والأبناء والوطن ، نحو مصير يجهل عنه كل شيء ، تبعث ولا شك في النفس كوامن الشجن ، وتوالى الضربات الفنية في الديوان لتعبر عن عمق المأساة ؛ حيث ينسجم جرس الكلام مع معناه ليشكل معزوفة حقيقية نتنسم منها عرق الرجال السود وتربة إفريقيا العذراء:

((الأيدي المشدودة بالعصب الصلب

تنجب مولود حضارات الغرب

وعلى أنقاض شواطئ سيراليون

وعلى الأكتاف الزنجية

شمخت ناطحة السحب الأوربية

ومحطات فضاء أمريكية ..))

وفي قصيدة (وَجْهٌ وَعَيْنَانِ) من نفس الديوان يقول الشاعر:

((.. تأفرقت عينان صارتا هنا

لافتة زرقاء

يقرؤها الصباح والمساء

(يسمح للبيض ، وللبيض فقط

تنسم الهواء ..) ..))

ويُذكرني هذا المقطع بكتاب صدر في مطلع الثمانينات لأحد الكتاب الزنوج بالولايات المتحدة الأمريكية ، وهو عبارة عن قاموس يفسر كلمة واحدة هي كلمة أسود ، والكتاب هو رد على قاموس صدر لأحد الكتاب البيض الذي فسر فيه كلمة أسود بقاتم ، منعدم اللون .. الخ ، وبالطبع لم يَرُقْ هذا التفسير للكاتب الزنجي وهو الذي يعرف جيداً ما تعنيه كلمة أسود في حياة الإنسان الأمريكي (المتحضر) ، فجاء هذا الكتاب ليضع النقاط على الحروف ، واسمه (أسود في قاموس الأمريكان) ، ومما علق في ذهني منه هذا التفسير: أسود تعني أن تكون (وهو هنا يتحدث مع ابن جلدته) ، في صحراء قاحلة ، وقد اشتد بك العطش ، فتصبح قاب قوسين أو أدنى من الهلاك ، وبينما أنت كذلك إذ تلوح لك عن بعد نافورة ماء ، فتحث الخطى جاهداً ، وما إن تصل إلى مكانها حتى تفاجئك لافتة كُتب عليها بالخط العريض: للبيض فقط ، وإلى جانب هذا التفسير يُوجد رسم يبين أحد الزنوج ملقى من الجهد قرب نافورة مياه تحمل لافتة كُتب عليها بالإنجليزية For Whites Only.

8)   كلمة أخيرة:

وأخيراً إن الأدب العربي كما يقول الدكتور أحمد مطلوب: ((مدعو في هذه الفترة التي تمر بها الأمة في نضالها ضد أعداء الإنسانية إلى الأخذ بالتصور الإسلامي في معالجة القضايا ؛ ليحقق الإنسان أهدافه في الحياة الكريمة ويصل إلى أرفع ما يصبو إليه ، ويحقق الرسالة الخالدة ، وهي تقوم على الحق والعدل والجمال ، والأدب الذي يخدم هذه الأهداف هو الأدب الذي ينبثق عن التصور الإسلامي الذي يشمل الكون والحياة والإنسان ، وهو تصور يعتمد أول ما يعتمد على إعلاء شأن الإنسان ورفعه من الهوة التي تردى فيها حينما فقد الإيمان))[20].

فهل يكون هذا المقال المتواضع فاتحة عهد جديد لتعامل جاد مع أصالة الأمة وتراثها ، وبالتالي التخلي عن كل مظاهر التشنج الفكري والأحكام الجاهزة ؛ لا سيما وقد تبين أن التيارات الوافدة لا يمكن أن نعول عليها في إخراج جيل الضياع العربي من الهوة السحيقة التي تردى فيها.

إننا نعيش في هذه الآونة الأخيرة صحوة إسلامية عالمية مباركة ، تتمثل في هذا الرجوع المكثف إلى الإسلام منهاجاً وعقيدة وفهماً ؛ ومن ثم أصبح لزاماً على الأدب العربي والفكر العربي عموماً ، أن ينظر إلى المسألة بعين المتبصر الحليم ، لا بالعدسة الغربية التي تحلل الظاهرة وفق هواها وتبعاً لمصلحتها في الأرض العربية ، إننا لا ندعو إلى تبني هذا التصور ؛ لأنه ليس لقيطاً حتى نبحث عمن يتبناه ، ولكنا دعوة مفتوحة للتعامل الناضج والمسئول مع جذور ثقافتنا الإسلامية الخصبة ، فهل من مدكر .. ؟؟!! ..

الهوامش



[1]في الأدب الإسلامي المعاصر، محمد حسن بريغش، مكتبة الحرمين – الرياض – طبعة أولى.

[2]المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، الدكتور نبيل راغب، سلسلة المكتبة الثقافية – الهيئة المصرية العامة للكتاب.

[3]لعبة اليمين واليسار، د. عماد الدين خليل ود. عبدالحليم عويس.

[4]المذاهب الأدبية، ص 239.

[5]المصدر السابق.

[6]المصدر السابق، ص 240.

[7]جمالية الأدب الإسلامي، محمد إقبال عروي، المكتبة السلفية، الدار البيضاء، 1986، طبعة أولى.

[8][8]عماد الدين خليل، في التاريخ الإسلامي، ص 55 – 56، المكتب العربي.

[9]جمالية الأدب الإسلامي، ص 84.

[10]المصدر السابق، الصفحة نفسها.

[11]القصائد السبع، حسن الأمراني، الطبعة الثانية، المطبعة المركزية وجدة 1404هـ – 1984م، ص 28 – 30.

[12]المذاهب الأدبية، د. نبيل راغب.

[13]مدخل إلى الأدب الإسلامي، د. نجيب الكيلاني، كتاب الأمة.

[14]المصدر السابق نفسه.

[15]المصدر نفسه.

[16]انظر مقدمة المجموعة القصصية (سلة الرمان) لإبراهيم عاصي.

[17]مدخل إلى الأدب الإسلامي، د. نجيب الكيلاني.

[18]منهج الفن الإسلامي، محمد قطب، دار الشروق.

[19]انظر: رحلتي مع الأدب الإسلامي، نجيب الكيلاني، مؤسسة الرسالة.

[20]من موضوع: أدب إسلامي .. كيف؟ للدكتور أحمد مطلوب، مجلة العربي، العدد 261، ص 50 – 51.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر