أبحاث

الحرية والمسئولية في الفقه الإسلامي

العدد 37

سوف يتسع مفهومنا للفقه الإسلامي في هذا البحث ليستوعب مواقف الفقهاء وآراء الأصوليين وأحكام المذاهب الفقهية، على أن ينحصر جهدنا في المواقف والآراء والأحكام التي تتعلق بفكرة الحرية وأساس المسئولية.

ولا ينبغي اعتقاد أن الفقهاء كانوا بعيدين عن الجدل الدائر في عصرهم حول حرية الإرادة، “فالأوزاعي” فقيه الشام هو الذي أفتى بقتل “غيلان الدمشقي”، وكان “غيلان” يقول بالقدر ثم أمسك في عصر “عمر بن عبد العزيز” ثم عاد إلى القول به مرة أخرى على عهد “هشام” وقطعت يده ثم قتل (الشاطبي- الاعتصام 1/64).

والإمام “أبو حنيفة” يدخل فيما ثار في عصره من جدل حول إثبات وجود الله والنبوات والإرادة، ويعرض الخوارزمي “في مفيد العلوم” لموقف الإمام “أبي حنيفة” عندما جاءه رجل يسأل: ما الدليل على الصانع؟ وتأتي الإجابة مفصحة عما بلغه الإمام الأعظم من علم بأحوال عصره وما طرحت فيه من أفكار مستجلبة أو محلية.

وإلى مثل ذلك ينحو “الشافعي” عندما دخل في حوار مع عدد من الزنادقة في طريق غزة انتهى بإيمان من حاورهم الشافعي (فرغل 39، 40)، و”ابن حنبل” الفقيه المتشدد في البعد عن التأويل له أيضا موقفه، فهناك آيات اشتبهت على الجهمية واحتجوا بها على “أحمد بن حنبل” بأنهن من المتشابه ففسر الإمام أحمد هذه الآيات بما أزال الاشتباه عنها (الجليند 59). فالفقهاء إذن تبادلوا التأثير والتأثر مع عصرهم وكان رأيهم في هذه المواقف الدقيقة وتلك اللحظات الحرجة في التاريخ الإسلامي يكاد يمثل العواصم من القواصم، ولم تكن مواقفهم مجرد حوار عقلي تجريدي بل كان له أثره في آرائهم الأصولية ودوره فيما قالوا به من أحكام فقهية، ونحن حين ندرس المواقف والآراء والأحكام لدى هؤلاء الأعلام دون أن نفصل بينها، إنما نهدف إلى التصوير الأمين لموقف الفقهاء من مسألتي الحرية والمسئولية وسوف نعالج موضوعنا في مبحثين:

المبحث الأول: مواقف الفقهاء من حرية الإرادة.

المبحث الثاني: أحكام المذاهب وأساس المسئولية.

المبحث الأول

مواقف الفقهاء من حرية الإرادة

المطلب الأول

الإمام أبو حنيفة ومشكلة الحرية

لا شك أن القضية كانت مثارة في عصر “أبي حنيفة” وخاصة أن ابن النديم نسب له كتاب “الرد على القدرية”. ويرى “البغدادي” في “أصول الدين” و”بروكلمان” في “تاريخ الأدب العربي” أن الرد على القدرية هو نفسه كتاب “الفقه الأكبر” “لأبي حنيفة النعمان”، ولا يعنينا كثيرا عرض الخلاف الذي دار بين الباحثين حول صحة نسب عدد من المؤلفات الكلامية إلى أبي حنيفة (فرغل 230- 233) و(النشار 1/275- 259) و(أبو زهرة: أبو حنيفة 166- 168). والإمام الأعظم كان يسعى لأن يلتزم موقفا في هذه القضية فقد “حكى” “ابن بطال” في شرح البخاري عن “أبي حنيفة” أنه قال لقيت “عطاء بن رباح” بمكة فسألته عن شيء فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة قال: من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا؟ قلت نعم، قال: من أي الأصناف أنت؟ قلت: ممن يؤمن بالقدر ولا يسب السلف ولا يكفر أحدا بذنب، فقال “عطاء” عرفت فالزم (الشاطبي: الاعتصام 1/ 60).

وقد أحس الإمام الأعظم بخطورة المسألة ولكم تمنى ألا يخوض الناس فيها فقال: “هذه مسألة استصعبت على الناس فأنى يطيقونها! هذه مسألة مقفلة قد ضل مفتاحها فإن وجد مفتاحها علم ما فيها. ولم يفتح إلا بمخبر من الله يأتي بما عنده ويأتي ببينة وبرهان” (النشار 268).

وقد أرغم القدريون الإمام الأعظم على الدخول في هذه المسألة ولقد قال لقوم جاءوا يناقشونه في القدر: “أما علمتم أن الناظر في القدر كالناظر في شعاع الشمس، كلما ازداد نظرا ازداد حيرة، ولكنهم لا يقفون معه عند هذا الحد بل يحملونه على أن يتكلم في التوفيق بين القضاء والعدل كيف يقضي الله الأمور كلها، ويجري على مقتضى قدره وقضائه، ويحاسب الناس على ما يجيء على أيديهم من عمل، فيقولون له: هل يسع أحدا من المخلوقين أن يجري في ملك الله ما لم يقض؟ قال لا، إلا أن القضاء على وجهين، منه أمر، والآخر قدرة، فأما القدرة فإنه لا يقضي عليهم ويقدر لهم الكفر ولم يأمر به، بل نهى عنه. والأمر أمران أمر الكينونة، إذا أمر شيئا كان، وهو على غير أمر “الوحي”.

وهذا -كما يقول فضيلة الشيخ “أبو زهرة”- تقسيم حسن محكم من أبي حنيفة فهو يفصل القضاء عن القدر فيجعل القضاء ما حكم الله به مما جاء في الوحي الإلهي، والقدر ما تجري به قدرته، وقدر على الخلق من أمور في الأزل. ويقسم الأمر إلى قسمين أمر تكون وإيجاد، وأمر تكليف وإيجاب. والأول تسير الأعمال على مقتضاه والثاني يسير الجزاء في الآخرة على أساسه.

ولكن هنا مسألة، وهي: أتقع الطاعة والعصيان بمشيئة العبد؟ فهل أراده الرب، وهل تتخالف الإرادة والأمر. هذه هي المعضلة؟ ليجيب أبو حنيفة عن هذه المسألة إجابة مشتقة من طاقة المعرفة الإنسانية المشاهدة ومن أوصاف الجلال والكمال التي تليق بذات الله. وكمال قدرته وشمول علمه. فيقول: “وإني أقول قولا متوسطا، لا جبر ولا تفويض ولا تسليط، والله تعالى لا يكلف العباد بما لا يطيقون. ولا أراد منهم ما لا يعلمون ولا رضي لهم بالخوض فيما ليس لهم به علم، والله يعلم بما نحن فيه” (أبو زهرة: أبو حنيفة 178) هذا ما يقوله الإمام الأعظم في هذه المعضلة في حديث له مع “يوسف بن خالد السمتي” عندما أقبل عليه من البصرة يسأله في القدر وهو موقف يكشف رأي الإمام من حرية الإرادة فهو يعطي للإرادة الإنسانية حريتها لأنه هو الأمر المحسوس وغيره ليس بملموس. وهو يعطي الله ما يليق به (أو زهرة: أبو حنيفة 178) ولكن هل معنى ذلك أن الإمام الأعظم ينتمي إلى رأي الأشعري ويقول بالكسب؟ هكذا يرى الدكتور علي سامي النشار وهذا ما نخالفه فيه تماما.

فالأشعري يثبت للإنسان قدرة غير حقيقية أو هي مجازية لأنها قدرة غير مؤثرة “والإمام أبو حنيفة” يثبت للعبد قدرة على الفعل حقيقية كما يثبت له اختيارا وما فهمناه من مقالة الإمام الأعظم وموقفه من القدرة شرحه الإمام الغزالي حيث قال: “إن أبا حنيفة وأصحابه قال إحداث الاستطاعة في العبد فعل الله واستعمال الاستطاعة المحدثة فعل العبد حقيقة لا مجازا” (الغزالي: الأربعين 8).

ويقول أبو حنيفة: “إن الاستطاعة التي يعمل بها العبد المعصية هي بعينها تصلح لأن يعمل بها الطاعة وهو معاقب في صرف الاستطاعة التي أحدثها الله فيه وأمره أن يستعملها في الطاعة دون المعصية وعلق الشيخ الكوثري على ذلك قائلا: “وصدق الاستطاعة هو مدار التكليف وقد جعله الله بيد العبد المكلف فلا جبر عنده”.

ومع ذلك فإن الإمام الأعظم -في رأينا- يقترب من رأي الأشعري في زمان القدرة أو الاستطاعة فهي عنده كما عند “الأشعري” تكون مع الفعل لا قبله ولا بعده.

وعلى الرغم من هذا الموقف الواضح للإمام أبي حنيفة فقد قيل عنه إنه جبري حيث يذهب الدكتور يحيى هاشم فرغل بعد تحليل آراء أبي حنيفة في مشكلة أفعال العباد إلى أنه لا يقدم تفسيرا به من الجبر (فرغل 244).

ونحن نرى أن القول بجبرية أبي حنيفة لا يجد ما يسنده من فكر الإمام وفقهه بل كلاهما يبعد الإمام الأعظم عن الجبر ودعوى جبرية الإمام الأعظم قديمة بل قيل أيضا إنه جهمي ولم يكن أبو حنيفة جهميا يؤمن بالجبر كما حاولت المصادر الشيعية المختلفة أن تثبته. ولقد وقع “الخطيب البغدادي” في هذا الخطأ حين أورد أخبارا كاذبة عن أبي حنيفة تحاول وصمه بالجهمية.

والحق أن الإمام الأعظم انتهى إلى أن للإنسان قدرة واستطاعة هما أساس المسئولية يقول “أبو الليث السمرقندي”: إن أبا حنيفة توسط بين القدرية والجبرية إذ جعل الخلق فعل الله وهو إحداث الاستطاعة في العبد، واستعمال الطاعة المحدثة فعل العبد حقيقة لا مجازا. وموقف الإمام أبي حنيفة من أفعال العباد ليس ذهنيا فحسب بل لقد انعكس على أصوله الفقهية -كما سنرى بعد قليل- وعلى أحكامه الفقهية كما سنبين عند عرضنا لمواقع المسئولية الجنائية في الفقه الإسلامي. والذين قالوا بجبرية الإمام الأعظم أو أنه يأخذ بنظرية الكسب عند “الأشعري” لم يربطوا فكر الرجل بأصول الفقه عنده ولا بما انتهى إليه مذهبه من أحكام فقهية.

الصدى الأصولي لموقف الإمام أبي حنيفة:

عندما عرضنا لموقف الإمام أبي حنيفة من مشكلة أفعال العباد وقلنا إنه يثبت استطاعة حقيقية للإنسان يستطيع بها الطاعة والمعصية وهي أساس المسئولية، عندما قلنا ذلك وخالفنا بعض الباحثين كنا نعتمد على فكر الرجل وأصول الفقه عنده، والذي يضيء لنا الطريق للتصوير الأمين لموقف أبي حنيفة ليس فقط ما أثبتناه له من أقوال صريحة في التدليل على أنه من أنصار الاستطاعة، بل وأيضا عرض موقف أصول الفقه عند الحنفية من مسألة التكليف بما لا يطاق. وهي مسألة يرتبط النظر فيها بالموقف من مشكلة الجبر والاختيار ويرتبط أيضا بقضية التحسين والتقبيح.

ويفرق ابن نجيم ومعه عدد من الأصوليين في المذاهب المختلفة -بين نوعين من المستحيل.

1-    المستحيل أو الممتنع لذاته ويحكي ابن نجيم أن الاجماع منعقد على عدم وقوع التكليف بالممتنع لذاته ومثاله الجمع بين المتضادات كالجمع بين الأبيض والأسود.

2-    المستحيل لغيره وهو الممكن في نفسه الممتنع بغيره لانتفاء شرط أو وجود مانع وهذا محل الخلاف. قال الأحناف لا يجوز التكليف به وجوزه الأشعري (ابن نجيم: التيسير 137 والفتح 59 وما بعدها) وإذا كان الأحناف قد اقتربوا من المعتزلة في نفي التكليف بما لا يطاق إلا أنهم اختلفوا في التعليل. يقول ابن نجيم:

“والحاصل أن الحنفية والمعتزلة اتفقوا على استحالة تكليف ما لا يطاق ولكن المعتزلة بنوه على أن الأصلح واجب على الله تعالى، والحنفية بنوه على أنه لا يليق بحكمته وفضله لا على أن الأصلح واجب” (ابن نجيم: الفتح 59) ولكن ما هي القدرة التي اشترطها الأحناف للتكليف؟

هناك رأيان: الرأي الأول يرى أن القدرة التي هي شرط التكليف هي القدرة الظاهرية وهي سلامة الآلات والأسباب فقط لا القدرة الحقيقية المقارنة للفعل. هذا ما يراه “ابن نجيم” وأمير باشاده ويريان أنه الراجح في فقه المذهب.

الرأي الثاني يرى أن القدرة التي هي شرط التكليف هي القدرة الحقيقية (ابن نجيم: الفتح 61).

والحق أن الخلاف القائم أساسه زمان القدرة هل هي مقارنة للفعل فقط أو أنها توجد قبل الفعل ومعه وبعده وهو موضوع كلامي لا داعي للخوض فيه هنا.

والخلاف بين الفقهاء في أصولهم حول التكليف بما لا يطاق انعكس على موقفهم من مواقع المسئولية وخاصة مسئولية السكران.

وفي النهاية نستطيع القول: إن “أبا حنيفة” كان صاحب موقف فكري واتجاه أصولي في حرية الإرادة يتجه نحو التوفيق والوسط وقد ترك أكبر التأثير في الإمام “أبي منصور الماتريدي” كما أثر في “أبي جعفر الطحاوي” أحد كبار المجتهدين في المذهب الحنفي (النشار 1/272) ومذهبه الأصولي يقيم الجزاء على الاختيار. يقول السرخسي: “وإنما ينال العبد الجزاء على ما له من اختيار” (السرخسي 2/ 335).

المطلب الثاني

مالك بن أنس وحرية الإرادة

شهد الإمام مالك عصرا كثرت فيه الانحرافات الفكرية واضطربت فيه الاتجاهات السياسية، ولم يكن -وهو الحريص على الالتزام بالكتاب والسنة- بمستطيع على البعد كلية عن كل هذه التيارات، فبعضها أصابه في نفسه فكانت محنته التي يرويها المؤرخون، وبعضها فرض عليه الخوض في مشكلات وآراء لم يكن راغبا الدخول فيها.

وكما يقول الأستاذ أمين الخولي بحق: “فإننا نستطيع الاطمئنان إلى أن “مالكا” لم يتمرس بشيء يذكر من المعرفة الفلسفية بالمعنى الخاص (الخولي 310) لكننا لا نمتنع مع ذلك عن تتبع رأيه في مسألة أفعال العباد”.

لقد نُسبت إلى الإمام مالك مؤلفات كلامية متعددة. والحديث في علم الكلام يتصل مباشرة بالمسئولية وخلق الأفعال. فقد ذكروا أن “لمالك” رسالة إلى ابن وهب أحد أصحابه في القدر والرد على القدرية وهي رسالة مفقودة كمخطوط ولم يعرض لمحتوياتها أحد (الخولي 400، 410) وهذه الرسالة أيا كان الشأن في صحة نسبتها إلى الإمام مالك فهي تشير إلى أن له موقفا من القدرية القائلين بحرية الإنسان مطلقا ويلاحظ على موقف الإمام مالك ما يلي:

1-    غضبه على القائلين بالقدر لأنه يفتح بابا للخلاف في الأمة ينبغي سده وقد روي عنه أنه قال: “ابن سيرين” أفضل عندنا من “الحسن” -يقصد الحسن البصري- فقيل له يا عبد الله بأي شيء؟ فقال: إن الحسن زيفه القدر (الخولي 293) بل هو يقول برد شهادة القدرية وأهل الأهواء (البغدادي: الفرق 156).

2-    إن الإمام “مالكا” كان شديد التمسك بالقرآن والسنة يوصد باب الرأي الذي يؤدي إلى الجدل ويعتبره بدعة. فعندما طُلب منه الرأي في مسألة الاستواء وقد اختلف حولها المشبهة والمعتزلة قال “الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة” (النشار 273).

فالإمام مالك كان يتخذ الواقع العملي دليله إلى الفقه فلا فروض ولا جدل وهي نزعة عملية توشك أن تجعل “مالكا” من أصحاب فلسفة الذرائع أو “البراجماتيزم” كما يقول الأستاذ أمين الخولي (الخولي 315) و(النشار 273) وإن كان قوله ليس صحيحا بإطلاق، “وقد كان مالك يؤمن بالقدر خيره وشره ويؤمن بأن الإنسان حر مختار وهو مسئول عما يفعل إن خيرا وإن شرا ويكتفي بذلك من غير أن يتعرض لكون أفعال الإنسان مخلوقة له بقدرة أودعها الله أو غير مقدرة له. وقد قال في ذلك: “ما رأيت أحدا من أهل القدر إلا كان أهل سخافة وطيش وضعة”.

ويستشهد بكلام لعمر بن عبد العزيز وهو قوله “لو أراد الله ألا يُعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطايا) (أبو زهرة: المحاضرات 227) وهكذا سار الإمام مالك على السنة في دراسته للعقيدة كما سار عليها في دراسته للفقه، فكان يدعو الناس إلى أخذ العقيدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من حكم العقل المجرد. وإن لم يكن في الشرع، لا في أصوله ولا في فروعه شيء يخالف العقل. ويرى الأستاذ الدكتور النشار أن الإمام “مالكا” بمذهبه قد مهد لظهور “أبي الحسن الأشعري” وقد اعتنق المالكية فيما بعد المذهب الأشعري ودافعوا عنه أشد دفاع.

ونحن نرى أن الموقف المالكي وإن مهد للاشعري إلا أنه لا يمكن وصف المالكية بأنهم أشاعرة. فهناك خلافات متعددة على الرغم من اتفاق موقف المالكية الأصولي من التكليف بما لا يطاق مع الأشاعرة.

المالكية والتكليف بما لا يطاق:

كما قلنا فإن التكليف بما لا يطاق كموضوع أصولي يتعلق بالجبر والاختيار والتحسين والتقبيح كمسائل أساسية في علم الكلام.

يفرق المالكية -ومعهم أيضا جمهور الفقهاء- بين نوعين من الخطاب:

1-    خطاب التكليف: واشترطوا فيه القدرة والعلم، القدرة لقوله تعالى “لا يكلف الله نفسسا إلا وسعها” والعلم لقوله تعالى “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا” فالتكليف مع عدم القدرة تكليف بمحال. والتكليف مع عدم العلم تكليف بغير الوسع. ولإجماع الأمة على أن من وطئ امراة يظنها زوجته أو شرب خمرا يظنه خلا لا يأثم لعدم العلم وكذلك العاجز غير مكلف إطلاقا” (القرافي 79).

2-    خطاب الوضع: وهو لم يأمر الله به ولا أناط به أفعال العباد فلا يشترط العلم والقدرة في أكثر خطاب الوضع ومثال ذلك أن الإنسان إذا مات له قريب دخلت التركة في ملكه وإن لم يعلم ولا ذلك بقدرته (القرافي 80).

وفي مسألة التكليف بما لا يطاق يميل المالكية إلى اختيار الرأي العلمي فهم لا يدخلون في جدل حول المستحيل بذاته أو المستحيل بغيره وإنما يقولون إن شرط التكليف القدرة على المكلف به. فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا (الشاطبي: الموافقات 2/107) خلافا للحنفية والمعتزلة القائلين بالمنع عقلا أيضا.

ويقول “الشاطبي”: إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد، فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه فقول الله تعالى “ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون” وقوله في الحديث “كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل” وقوله “ولا تمت وأنت ظالم” وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة وهو الإسلام وترك الظلم والكف عن القتل والتسليم لأمر الله وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل (الشاطبي: الموافقات 2/ 108).

وهذا الموقف المالكي ليس فكريا محضا، ووفقا للقول بالتكليف بما لا يطاق نفيا أو إثباتا اختلف الأصوليون في مسئولية السكران والمجنون.

المطلب الثالث

الشافعي وحرية الإرادة

ليس من شك في أن المدرسة الشافعية هي أكثر المدارس الفقهية اشتغالا بالفكر الفلسفي، وكان من أعلامها فقهاء وفلاسفة في آن واحد ويكفي أن نذكر الشافعي نفسه فإن “الرسالة” التي ألفها في أصول الفقه ليست مجرد شهادة ميلاد لهذا العلم فحسب، ولكنها كشف عن مستوى العقلية الفلسفية التي بلغها الإمام “الشافعي” وليس هذا بغريب خاصة إذا علمنا أن أصول الفقه هي إحدى شعب الفلسفة الإسلامية التي اتسع مفهومها ليشمل الفلسفة المشائية وعلم الكلام والتصوف وأصول الفقه (عبد الرازق 27) ولا شك أن “الشافعي” قد وجه الدراسات الفقهية وجهة جديدة.

ولقد كان “الشافعي” على دراية كبيرة بعلم الكلام وله فيه مناظرات مشهورة مع القدرية والمجبرة وغيرهم. وقد وقف الشافعي بالمرصاد “لبشر المريس” وهو فقيه مشهور وناظره مناظرة عنيفة عندما أعلن له أنه قدري (النشار 277).

وربما كان هذا هو السبب الذي جعل أصحاب الإمام الأعظم يرمونه بالاعتزال، على الرغم من أن “الشافعي” كان ينفر من المعتزلة ومناهجهم في التفكير والبحث بل هو كما يقول “البغدادي” في “الفرق بين الفرق” يرفض قبول شهادة المعتزلة باعتبارهم من أهل الأهواء والبدع. بل هو يفرض عقوبة على من يخوض مثل خوضهم ويتكلم في العقائد على طريقهم.

وليس معنى ذلك أن “الشافعي” ليس له رأي فيما خاض فيه المتكلمون من مسائل كرؤية الله يوم القيامة ومسألة القدر، ومسألة الصفات بل كان للشافعي رأي يتفق مع منهاجه في الفقه وهو الأخذ بكل ما جاء به القرآن وما جاءت به ألسنة غير باحث في الأدلة التي يسوقها المتكلمون إلا بالمقدار الذي يؤيد النصوص. فكان مثلا يعتقد أن الإيمان يزيد وينقص لظواهر نصوص القرآن والأحاديث النبوية (أبو زهرة: المحاضرات 271).

وموقف الإمام “الشافعي” أقرب إلى موقف الإمام مالك فهو يثبت للإنسان حرية واستطاعة في الواقع العملي هما دعامتا المسئولية والعقاب ولا يُعنى “الشافعي” نفسه كثيرا بتحليل هذا الاختيار أو هذه الحرية. فيكفيه دليل الشعور بالفرق بين الفعل الاضطراري والفعل الاختياري وحسبه الشرع الذي يقرر مسئولية الإنسان عن فعله وقدرته عليه.

وقد عالج فلاسفة المذهب الشافعي قضية الحرية على نحو يؤكد ارتباطهم الشديد بالفكر “الأشعري” ودفاعهم عنه إلا في القليل من المسائل، فإمام الحرمين “أبو المعالي الجويني” يدافع عن الأشاعرة وخاصة عن نظرية الكسب التي قال بها “الأشعري” إلا أنه يرى أن القدرة غير المؤثرة عاجزة ويؤكد بعد ذلك أن العبد مكتسب لأفعاله -أي قادر على فعلها- وإن لم تكن قدرته مؤثرة في المقدور (الجويني: اللمع 107) وهذا يعني أن الجويني يدافع عن نظرية الكسب بكل أركانها.

وحجة الإسلام “الغزالي” وهو شافعي في الفقه الإسلامي، أشعري في العقيدة، نجد الحرية عنده تمثل علاقة بين الإنسان وغيره من الأشياء وليست قدرة حقيقية على الفعل مُنحها الإنسان، فهو يفسر الحرية في إطار فهمه الخاص لمبدأ السببية وعلى أنها اطراد وليست ضرورة، متفقا في ذلك مع رأي “دافيد هيوم” في السببية.

أما “سيف الدين الآمدي” فإنه في كتابه “غاية المرام في علم الكلام” (ط القاهرة 1971 ص 214 – 223) يصرح بأن خلق الأفعال موضع غمرة ومحل إشكال. ويصرح أيضا بسلامة الموقف الأشعري العام ويناقش المعتزلة في كل آرائهم حول خلق الأفعال والإرادة وينتهي إلى تعريف للكسب يوحي بأن الآمدي يجد حرجا في القول بالقدرة غير المؤثرة ويرى أنها تحول دون فهم حقيقي للتكاليف ومسئولية الإنسان.

الشافعية والتكليف بما لا يطاق:

إذا كان موقف فلاسفة المذهب الشافعي من حرية الإرادة غير واضح في تعارضه مع المذهب الأشعري -على الأقل في بعض تفصيلاته- فهم في أصول الفقه في مسألة التكليف بما لا يطاق صرحوا بمخالفة مذهبهم الفقهي للفلسفة الأشعرية:

موقف الجويني: موقف الجويني من التكليف بما لا يطاق يخالف المذهب الأشعري تماما، فهو يقول “لقد نقل الرواة عن الشيخ أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه أنه كان يجوز تكليف ما لا يطاق ثم نقلوا عنه اختلافا في وقوع ما جوزه من ذلك وهذا سوء معرفة بمذهب الرجل فإن مقتضى مذهبه أن التكاليف كلها واقعة على خلاف الاستطاعة وهذا يتقرر من وجهين:-

أحدهما: أن الاستطاعة عنده لا تتقدم على الفعل والأمر بالفعل يتوجه على المكلف قبل وقوعه وهو إذ ذاك غير مستطيع ولا يدفع، ذلك قول القائل إن الأمر بالفعل نهي عن أضداده، والمأمور بالفعل قبل الفعل وإن لم يكن قادرا على الفعل فهو قادر على ضد من أضداده أو ملابس له فإننا سنوضح أن الأمر بالشيء لا يكون نهيا عن أضداده وأيضا فإن القدرة إن قارنت الضد لم تقارن الأمر بالفعل. والفعل مقصود مأمور به وقد تحقق طلبه قبل القدرة عليه. فهذا أحد الوجهين. والثاني: أن فعل العبد عنده واقع بقدرة الله تعالى والعبد مطالب بما هو فعل ربه.. فإذا قيل فما الصحيح عندكم في التكليف بما لا يطاق قلنا إن أريد بالتكليف طلب الفعل فهو فيما لا يطاق محال من العالم باستحالة وقوع الطلب وإن أريد به ورود الصيغة وليس المراد به طلبا كقوله تعالى “كونوا قردة خاسئين” فهذا غير ممتنع (الجويني: البرهان 1/ 102) ويرد الجويني على الذين يرون أن التكليف بما علم الله تعالى أنه لا يكون تكليف بمحال ومع ذلك فإن التكليف بخلاف المعلوم جائز فكأنه تكليف بمحال، يقول إنما يسوغ ذلك لأن خلاف المعلوم مقدور عليه في نفسه وليس امتناعه للعلم بأنه لا يقع، ولكن كان لا يقع مع إمكانه في نفسه فالعلم يتعلق به على ما هو عليه وتعلق العلم بالمعلوم لا يغيره ولا يوجبه بل يتبعه النفي والإثبات ولو كان العلم يؤثر في المعلوم لما تعلق العلم بالقديم سبحانه وتعالى. هذا موقف إمام الحرمين من التكليف بما لا يطاق في كتابه “البرهان”.

موقف الإمام الغزالي: يقول الغزالي “ذهب شيخنا أبو الحسن رحمه الله إلى جواز التكليف بما لا يطاق مستدلا بقوله تعالى “ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به” ولا وجه للابتهال لو لم يتصور ذلك في البال.

واستدل: بأن “أبا جهل” كلف تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أتى على لسان الرسول أنه لا يصدق في أصل تكليفه فحاصل تكليفه أن يصدقه في أنه لا يصدقه وهذا مذهب شيخنا أبي الحسن… والمختار عندنا استحالة تكليف ما لا يطاق. نعم ترد صيغة الأمر للتعجيز كقوله تعالى “كونوا قردة خاسئين” والأنباء والقدرة كقوله تعالى “كن فيكون” ولم ترد للخطاب والطلب وهذا كقوله تعالى “حتى يلج الجمل في سم الخياط” معناه: الإبعاد لا ما يفهم من صيغة التعليق فإنه يستحيل أن يطلب من المكلف ما لا يطاق.

والدليل على استحالته: أن الأمر يتعلق بمطلوب كالعلم يتعلق بمعلوم والجمع بين القيام والقعود غير معقول فلا يكون مطلوبا ويستحيل طلبه إذ لا يعقل في نفسه (الغزالي: المنخول 23 و24) فالغزالي في هذا الرأي يفرق بين المستحيل لذاته والمستحيل لغيره ويرى أن المستحيل لذاته لا يجوز التكليف به.

أما المستحيل لغيره فإنه يجوز، وهو في هذا يوافق ما انتهى إليه معتزلة بغداد ويخالف “الأشعري” ومن تبعه من أمثال “الرازي” و”ابن السبكي” وغيره. ويقرر “الغزالي” على نحو ما رأينا عند “الجويني” أن المقدور في ذاته جائز الوقوع لا تتغير حقيقته بالعلم (الغزالي: المتحول 28) والحق أن “الغزالي” في موقفه من التكليف بما لا يطاق يفصح عن رأيه من حرية الإرادة فهو يقول: “إن للقدرة الحادثة تعلقا بالمقدور والاستطاعة وإن قارنت الفعل. فلم يكلف في الشرع إلا ما يتمكن منه قطعا وذلك بين في مصادر الشرع وموارده ووعده ووعيده. إذ لا معنى لتخصيص فعل فاعل عن آخر بعقاب أو ثواب مع تساوي الكل في العجز عنه وهذا مستحيل (الغزالي: المتحول 26- 27).

و”الغزالي” يعني بذلك أنه إذا كانت القدرة الحادثة عند العبد لا تأثير لها أبدا يكون العباد جميعا متساوين في العجز في كل الأفعال فلا معنى حينئذ لوصف فعل بأنه طاعة وآخر بأنه معصية إذ لا يوصف بذلك إلا إذا كان مقدورا للعبد بقدرة أثرت فيه.

والغزالي هنا يخالف الأشعري في قوله: إن القدرة الحادثة لا تأثير لها في المقدور أبدا.

ويستند الغزالي على أصله في عدم جواز التكليف بما لا يطاق للقول بأن السكران لا يكلف لأن شرط الخطاب فهمه وهو مضمن به والسكران لا يفهم فإن قيل له افهم كان تكليف ما لا يطاق.. وكذا الناسي الذاهل حكمه حكم السكران في التكاليف (الغزالي: المتحول 28، 29).

موقف سيف الدولة الآمدي: موقف الآمدي هو موقف الغزالي في عدم وقوع التكليف بما لا يطاق فالقدرة عنده شرط التكليف. لهذا فالصبي والمجنون خارج التكليف وإن قيل كيف وجبت عليهما الزكاة والنفقات والضمانات قال إن هذه الواجبات ليست متعلقة بفعل المجنون أو الصبي بماله أو ذمته وليس من من باب التكليف في شيء. وقد رتب على موقفه هذا أعدادا من الأحكام بخصوص المكره والمجنون والصبي (الآمدي 1/114- 118).

المطلب الرابع

أحمد بن حنبل وحرية الإرادة

لقد تعرض الإمام “أحمد بن حنبل” لمحنة شديدة إثر موقفه من بعض القضايا الكلامية في عصره ونظريته الكلامية بكل ما يراه فيها من آراء، وما أثبته المؤرخون له من مواقف ينبغي أن تعرض باعتبارها رد فعل فقيه متمسك بالكتاب والسنة إزاء الانحرافات السياسية والفكرية التي سادت في عصره.

وقد بين لنا الإمام “أحمد” عقيدته الكلامية في رسالته “الرد على الزنادقة والجهمية” فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله، وقد عرض الباحثون في الفلسفة (النشار 278- 294) والدارسون للفقه (أبو زهرة: محاضرات 343- 349) آراء الإمام أحمد الكلامية وما يعنينا منها هو موقفه من حرية الإرادة.

ولم يصرح الإمام أحمد بموقفه في حرية الإرادة حتى قيل إنه يرى في سبق القضاء التفسير الوحيد لأفعال البشر وللأحداث التي تلم بهم (باتون 261) وهو قول يقترب من نسبة الجبر إلى الإمام أحمد. ولا شك أن ابن حنبل يؤثر بوضوح النقل على العقل ويقاطع من يخوضون في أمور لم تعرف لدى السلف. وله في هذا الشأن مواقف مشهورة مع “المحاسبي” الذي ردد شيئا مما قال به المعتزلة. كان يؤمن بالقدر خيره وشره وأن ما يفعله الإنسان بقدرة الله وإرادته فلا يقع في ملكه إلا ما يريد ولا يصدر عن العبد شيء لم يهيئه الله له لذلك كان حربا على القدرية ولا يقر الصلاة معهم (مدكور 126).

ونحن لا نعتقد أن ذلك هو الموقف الفقهي للإمام “أحمد” فهو مع تقريره وجوب الإيمان بالقضاء والقدر لا ينفي التكليف والاختيار في الطاعة كما يقول الشيخ أبو زهرة (أبو زهرة: محاضرات 345) إلا أن موقف الإمام من المعتزلة والقدرية ينبغي أن يفهم في إطاره الزمني وظروفه التاريخية. ونحن نستطيع أن نفهم الموقف الحنبلي بدقة أكثر لو تأملنا موقف الإمام “ابن تيمية” وتلميذه “ابن قيم الجوزية” في قضية حرية الإرادة.

رأي ابن تيمية: لقد كان أمام “ابن تيمية” مذاهب ثلاثة: الجبرية والمعتزلة والأشاعرة ورأى أنهم جميعا محل نقد فانتهى إلى رأي يوفق فيه بين خلق الله لكل شيء وبين الإرادة الفاعلة للإنسان والتي هي أساس الثواب والعقاب والمسئولية والجزاء.

يقول ابن تيمية: “ومما ينبغي أن يعلم أن مذهب سلف الأمة مع قوله تعالى “الله خالق كل شيء” وقوله “إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا” ونحو ذلك. فمذهبهم أن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة (ابن تيمية: المسائل 142) وهو مع إثباته قدرة للإنسان يؤكد أن الله خالق كل شيء ومن بين ما خلق قدرة العبد واختياره. فهو هنا يثبت للعبد قدرة على الفعل والترك فلا يبطل التكليف كما فعل الجبرية، وهو يثبت شمول الخلق الإلهي حتى لا يقال إنه يحدث في ملك الله ما لا يريده على نحو ما ينتهي إليه رأي المعتزلة.

رأي ابن القيم: أما “ابن القيم” فإنه بعد أن يعرض للآراء المختلفة في خلق الأفعال يقول: “والصواب أن يقال: تقع الحركة بقدرة العبد التي جعلها الله فيه. فالله سبحانه إذا أراد فعل العبد خلق القدرة والداعي إلى فعل فيضاف الفعل إلى قدرة العبد إضافة السبب إلى سببه ويضاف إلى قدرة الخالق إضافة المخلوق إلى الخالق (ابن القيم: شفاء 146) ويوضح ابن القيم رأيه فيقول: “اعلم أن الرب سبحانه فاعل غير منفعل والعبد فاعل منفعل. وهو في فاعليته منفعل للفاعل الذي لا ينفعل بوجه، فالجبرية شهدت كونه منفعلا يجري عليه الحكم بمنزلة الآلة والمحل. وجعلوا حركته بمنزلة حركات الأشجار ولم يجعلوه فاعلا إلا على سبيل المجاز فقام وقعد عندهم بمنزلة مرض ومات ونحو ذلك مما هو فيه منفعل محض، والقدرية شهدت كونه فاعلا غير منفعل في فعله. وكل من الطائفتين نظر بعين عوراء، وأهل العلم والاعتدال أعطوا كلا المقامين حقه ومهدوا وقوع الثواب والعقاب على من هو أولى به فأثبتوا نطق العبد حقيقة وإنطاق الله له حقيقة وأثبتوا ضحك العبد وبكاءه وإضحاك الله وإبكاءه “وأنه أضحك وأبكى”.. ومتعلق الأمر والثواب الفعل لا الأفعال (ابن القيم: شفاء 134، 135 والفرقان 151، 152).

ولسنا نبغي الدراسة الانتقادية لموقف الفقيهين وإنما نقرر أن موقف “ابن تيمية” وهو شيخ الحنابلة في القرن الثامن الهجري وموقف تلميذه “ابن القيم” يكشفان أهمية حرية الإرادة وضرورة إثباتها بل إن “ابن تيمية” يتفق مع المعتزلة في أن الاستطاعة سابقة على الفعل وليست مقارنة له كما يقول الأشعري وهي مناط التكليف ومن لا قدرة له لا تكليف عليه وهي أيضا مصاحبة للفعل وبها يتم التنفيذ فالاستطاعة عنده أمر ذاتي وعليها يقوم الاختيار وحرية الإرادة (ابن تيمية: التعارض 2/60، 61 ومدكور 127).

الحنابلة والتكليف بما لا يطاق: ظاهر القول أن الحنابلة يجوزون التكليف بما لا يطاق، يفهم ذلك من قول “أبي يعلى الفراء” يجوز الأمر من الله تعالى بما في معلومه أن المكلف لا يمكنه منه ويحال بينه مع شرط بلوغه حال التمكن وهذا بناء على أصلنا في تكليف ما لا يطاق وتكليف الكفار بالعبادات وهو مذهب الأشعري ومن وافقه من أصحاب الشافعي وهو اختيار أبي بكر الرازي والجرجاني وذهب المعتزلة إلى أنه لا يجوز ذلك” (الفراء 2/392- 393).

“فأبو يعلى” يصرح بجواز التكليف بما لا يطاق عند الحنابلة ويقصد به المستحيل لذاته فهو يشير إلى أنه مذهب الأشعري ومن تبعه من الشافعية وقد ذهب الأشعري إلى جواز التكليف بالمحال مطلقا وتبعه “ابن السبكي” من الشافعية.

إن المثال الذي يقدمه أبو يعلى الفراء يتعلق بجواز التكليف بما يعلم الله أن المأمور لا يفعله وهو رأي جمهور المذاهب كلها عدا المعتزلة. إن “ابن بدران الدمشقي” يصرح بمنع التكليف بما لا يطاق في المحال بذاته يقول “وأما أن يكون وقت الوجوب أقل من قدر فعله كإيجاب عشرين ركعة في زمن لا يسع أكثر من ركعتين وهذا فرد من أفراد التكليف بالمحال المسمى بتكليف ما لا يطاق وفي جوازه بين العلماء خلاف والصحيح منعه” (ابن بدران 60).

فما هو وجه الحقيقة في موقف الحنابلة؟. إن ابن الجوزي -وهو عمدة في المذهب الحنبلي- يقول في تفسير قوله تعالى “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” الوسع هو الطاقة قال ابن عباس وقتادة ومعناه لا يكلف ما لا قدرة لها عليه لاستحالته كتكليف الزمن السعي والأعمى النظر فأما ما يستحيل من المكلف لا لفقد الآلات فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن فالآية محمولة على القول الأول ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى “ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به” فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعا كان السؤال عبثا (ابن الجوزي 346).

ويفسر ابن قدامة الحنبلي قوله تعالى “ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به” أي ما يشق ويثقل، فالآية عنده ليست دليلا على جواز التكليف بما لا يطاق (ابن قدامة 26، 27، 29).

ولتحديد موقف الحنابلة نتأمل بعض فروعهم في هذه المسألة وهي تكليف السكران والمكره والمغمى عليه فالحنابلة يرون أن السكران مكلف وكذلك المكره والمغمى عليه، وقد سئل الإمام أحمد عن المجنون يفيق: يقضي ما فاته من صوم. فقال المجنون غير المغمى عليه فقيل له لأن المجنون رفع عنه القلم قال نعم قال القاضي فأسقط القضاء عن المجنون وجعل العلة رفع القلم فاقتضى أنه غير مرفوع عن المغمى عليه (آل تيمية 35، 37 وقارن ابن اللحام 39) فعلة عدم تكليف المجنون والصبي عند الحنابلة هي النص على رفع القلم أي المسئولية عنهم وليس عدم جواز التكليف بما لا يطاق. خاصة أن المذاهب التي لا ترى تكليف السكران تبنيه على أنه لا يفهم فإن قيل له افهم كان تكليف ما لا يطاق (الغزالي: المتحول 28).

والذي نراه -بعد تأمل كتب الأصول والقواعد عند الحنابلة- أنهم لا يقولون بجواز التكليف بالمحال مطلقا ولكنهم جوزوا المستحيل لغيره، وهم بذلك يبتعدون عن “الأشعري” على خلاف ما ذكره أبو يعلى الفراء.

المطلب الخامس

مواقف بعض الفقهاء الآخرين

أولا: موقف ابن حزم الظاهري:

أبو عبد الله علي بن أحمد بن سعيد بن حزم فقيه ظاهري مذهبه في دراسة النصوص واستخراج ما يؤخذ منها هو ظاهر ألفاظها، فلا يحاول تأويلها ولا يحاول تعليلها بتعرف العلة التي قام عليها الحكم والقياس عليه، ويطبق الأخذ بظواهر الألفاظ في كل الموضوعات الإسلامية التي وردت في نصوص (أبو زهرة: محاضرات 412).

وقد تكلم ابن حزم في خلق أفعال العباد محاولا فهم الموضوع على ضوء الكتاب والسنة فحسب.

فابن حزم يتعرض لدراسة رأي القائلين بالجبر ويرفضه لرأي المعتزلة ويدحضه مؤكدا أن شهادة الحس وضرورة العقل يؤيدان القول بالحرية (ابن حزم 23- 30) فإن من المعلوم أن ثمة اختلافا كبيرا بين الفعل الاضطراري والفعل الاختياري، وهو يقرر أن الإنسان له استطاعة وهي استطاعة أو قدرة تسبق الفعل -على خلاف الأشعري- ويقرر ابن حزم أن الحس يشهد أن للعبد أفعالا يقوم بها بمحض ارادته يقول تعالى “جزاء بما كانوا يعملون” والحس يشهد بأن عملنا يقوم به من استطاع ويعجز عنه غير المستطيع ولا يمكن أن يوصف المجبر بأنه مختار أو مستطيع لأن المجبر في اللغة هو الذي يقع منه الفعل بخلاف اختياره وقصده فاما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبرا (ابن حزم 23).

والاستطاعة عنده هي “صحة الجوارح مع ارتفاع الموانع” (ابن حزم 29) ذلك لأن الصحيح الجوارح يفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختارا لها دون مانع (ابن حزم 23).

وابن حزم يرى أن ألفاظ الطاقة والاستطاعة والقدرة والقوة في اللغة العربية ألفاظ مترادفة تدل جميعها على معنى واحد فهي تشير إلى صفة من يصدر عنه الفعل باختيار أو من يمكنه تركه باختيار (إبراهيم 1971) والاستطاعة عند ابن حزم هي شرط التكليف والمسئولية استنادا إلى قوله تعالى “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا”.

“وهذه القوة لا شك مستمدة من الله ولكنها تصبح وصفا لمن منحها، وبواسطتها يتم ما يصنع من أعمال لم يعقها عائق، فهي سابقة على الفعل ومصاحبة له فيقترب ابن حزم من المعتدلة في مشكلة خلق الأفعال بقدر ما يبتعد عنهم في مشكلة الصفات” (مدكور 126).

بيد أن الدكتور “زكريا إبراهيم” بعد تحليله لمعنى الاستطاعة “عند ابن حزم” يرى أنه أقرب إلى الجبر بل هو يرى في فكر ابن حزم قولا بجبرية نفسانية تجعل من الفرد أسيرا لطبيعته (إبراهيم 177).

والذي نراه هو أن “ابن حزم” كان ملتزما بمنهجه الظاهري في تفسير النصوص فهو:

أولا: يوافق المعتزلة في إثباتهم اختيار الإنسان وقدرته الحقيقية للفعل ولكنه يخالفهم في قولهم بأن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى.

ثانيا: هو يخالف الأشاعرة في إثباتهم قدرة غير مؤثرة للعبد ويخالفهم أيضا في قوله بأن القدرة سابقة على الفعل وهي عند “الأشعري” مقارنة فقط (إبراهيم 178 حيث يقرر عكس ما نراه).

ثالثا: هو يخالف الجبرية في قولهم بأن “الله خالق كل شيء” تتضمن نفي قدرة العبد على الفعل.

وخلاصة رأيه أن الله فوق كل شيء وخالق كل شيء وأن الإنسان قادر على الفعل فهو يستطيع أن يفعل ويختار ما يفعل لأن سلب حرية الاختيار من الإنسان يؤدي إلى سقوط التكليف الثابت بالشرع (قارن أبو زهرة: محاضرات 143).

ثانيا: موقف الشيعة:

يرى الشيعة أن ملكة الاختيار وصفته -عند الإنسان- كنفس وجوده من الله سبحانه فهو خلق العبد وأوجده مختارا، فكلا صفة الاختيار من الله والاختيار الجزئي في الوقائع الشخصية للعبد ومن العبد والله جل شأنه لم يجبر على فعل ولا ترك بل العبد اختار ما شاء منهما مستقلا ولذا يصح عند العقل والعقلاء ملامته وعقوبته على فعل الشر ومدحه مثوبته على فعل الخير وإلا لبطل الثواب والعقاب وانزال الكتاب والوعد والوعيد”
(آل كاشف الغطاء 143).

وسند الشيعة في موقفهم قول الإمام علي رضي الله عنه بأنه “لا جبر ولا تفويض” وقد أورد الشريف الرضي في نهج البلاغة للإمام على ما يلي: ومن كلامه عليه السلام للسائل الشامي لما سأله أكان سيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر؟ من كلام طويل هذا مختاره يقول -أي الإمام علي- ويحك لعلك ظننت قضاء واجبا وقدرا حتما لو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب، فالشيعة يرون أنه لا جبر ولا تفويض (مغنية 19) هذا هو موقف الشيعة المختار في الاختيار الإنساني وعليه أهم مذاهبهم الفقهية فالإمام زيد بعد أن نظر في فكر الجبرية رأى أنه يسقط التكليف إذ لا تكليف إلا مع الاختيار، ونظر في مذهب المعتزلة فرأى أنه ينفي تقدير الله الأزلي وانتهى الإمام زيد بعد ذلك إلى رأي وسط “لا يهدم التكليف ولا يعطل صفات الذات العلية. فقرر وجوب الإيمان بالقضاء والقدر، واعتبر الإنسان حرا مختارا في طاعته وعصيانه وأن المعصية ليست قهرا عن الله فهو يريدها وإن كان لا يحبها ولا يرضاها وبذلك فصل بين الإرادة والمحبة والرضا فالمعصية تقع من العباد في دائرة قدرة الله وارادته ولكن لا يحبها من عبده ولا يرضاها. فإن الله لا يرضى لعباده الكفر.

والإنسان فيما يفعل يكون فعله بقوة أودعها الله تعالى وبارادته، ولكنه لا يحبها من عبده، التي بها يعمل مريدا مختارا طائعا أو عاصيا (أبو زهرة: محاضرات 527) والجعفرية الإمامية يرون أيضا هذا الرأي ومجمل القول عندهم في مسألة خلق الأفعال: “وسط بين الرأي القائل بأن الله هو الفاعل لكل شيء والإنسان آلة لا يملك من أمره شيئا، كما يدعي المجبرة وبين الرأي القائل بأن الإنسان هو كل شيء وليس لله رأي في شيء من أفعاله وبذلك تصح عقوبة المجرمين ولا يلزم منها ما يتنافى مع العدل والحكمة كما هو لازم كل من القولين السابقين -المجبرة والمعتزلة- لأن المسئولية تقع عليهم وحدهم من حيث قدرتهم على الأفعال وتركها.

ولا يتنافى ذلك مع علم الله سبحانه بأفعال العباد الذي يستحيل تخلفه عن الواقع. ذلك لأن علم الله بما يفعله الإنسان من خير أو شر يتعلق بما يصدر عن الإنسان بارادته واختياره وليس سببا في صدورها حتى يكون مجبورا عليها” (الحسيني 30).

موقف الشيعة من التكليف بما لا يطاق:

يشترط الشيعة في الفعل الذي وقع التكليف به أن يكون ممكنا فلا يجوز التكليف بالمستحيل أو بما لا يطاق وذلك على التفصيل الآتي:

1-             المستحيل لذاته: لا يجوز التكليف به عند الشيعة.

2-    المستحيل لغيره: لا يجوز التكليف به أيضا عند الشيعة حيث يقول الشوكاني أنه لا يجوز التكليف بالمستحيل سواء كان مستحيلا بالنظر إلى ذاته أو بالنظر إلى امتناع تعلق قدرة المكلف به” (الشوكاني 9).

3-    التكليف بما علم الله أنه لا يقع يجوز عند الشيعة ويحكي الشوكاني أن الاجماع منعقد على صحته ووقوعه (الشوكاني 10).

ويرى الشوكاني أن قبح التكليف بما لا يطاق معلوم بالضرورة وأن الخلاف على جوازه عند من يرون ذلك لا أهمية له من الناحية العملية فقد وافق كثير من القائلين بالجواز على امتناع الوقوع فقالوا يجوز التكليف بما لا يطاق مع كونه ممتنع الوقوع.

تعقيب:

في ختام جولتنا مع الفقهاء في آرائهم حول حرية الإرادة ومواقفهم الأصولية من التكليف بما لا يطاق يهمنا التأكيد على ما يلي:

أولا: أن جميع الفقهاء أثبتوا للإنسان حرية واختيارا هما أساس المسئولية وأساس العقاب وأنهم خاضوا غمار المسألة الشائكة بصورة أو بأخرى.

ثانيا: جميع الفقهاء قالوا بعدم وقوع التكليف بما لا يطاق شرعا وإن قال بعضهم بجوازه عقلا أو عقلا وشرعا.

ثالثا: أن الذي يعنينا من مواقف الفقهاء والأصوليين وآراء الفكر الإسلامي عامة هو تأكيدهم على ضرورة جزء من حرية الاختيار للإنسان حتى يمكن بناء المسئولية والعقاب على أساس مقبول عقلا وشرعا.

ولسنا هنا في ميدان دراسة انتقادية لسلامة أدلتهم أو تقويم براهينهم صحة أو فسادا، فهذا بحث فلسفي يخرج عن غايتنا في هذه الدراسة.

وإذا كان بعض الباحثين قد رأوا أن أدلة بعض الفقهاء تقترب بهم من الجبر فيكفينا من هؤلاء الفقهاء جهد المحاولة للكشف عن موقفهم في حرية الإرادة أيا كان مدى توفيقهم في هذه المحاولة.

رابعا: إن فقهاء الأصول وفقهاء الفروع على السواء كانوا يقيمون فروعهم الفقهية على أساس الثابت من النص أولا ثم ما يهدي إليه العقل ثانيا وخلافاتهم في الفروع أساسها توثيق النصوص التي قد تثبت عند هذا الفقيه ولا تثبت عند غيره وأساسها أيضا اختلاف زوايا الرؤية وتباين وجهات النظر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر