أبحاث

الاستثمار الإسلامي في العصر الراهن

العدد 28

معنى الاستثمار

لغة:

الثمر حمل الشجر، وأنواع المال والولد، والجمع ثمار، وثمر الشجر وأثمر أي صار فيه الثمر، وبابه طلع، والاستثمار استفعال، أي طلب الثمر.

وفي المال يقصد به الثمر من أصل المال، قياساً على طلب الثمر من الشجر.

اصطلاحاً:

يقصد بالاستثمار في مصطلح المعاملات بلغة العصر استغلال المال بقصد الحصول على ثمرة منه، أي على عائد يفيد منه صاحب المال. واللفظ عند الغربيين بالإنجليزية هو Investment ويعرفه علماء الاقتصاد المنتمون إلى المذهب الحر (الرأسمالي) بأنه زيادة المال الإنتاجي، كما يعنون به أيضاً شراء الأوراق المالية واستثمار الأرض الزراعية عندهم معناه بذل مال لزيادة إنتاجها فهو غير الاستعمار أو الاستصلاح.

والحديث عن الاستثمار في الاقتصاد المعاصر يتضمن أسعار المال في نشاط إنتاجي بقصد زيادة هذا النشاط بصرف النظر عن العائد وأن كان المفروض أن كل زيادة في رأس المال الإنتاجي يعود في غالب الأحوال بزيادة في الثمر أو العائد.

والغاية من الاستثمار هي تحقيق ربح من توظيف المال في راس مال منتج، فالاستثمار أصلاً ليس هو الربح، وإنما هو وسيلة الحصول على الربح، وأن جرى كلام العامة على إطلاق اللفظ على الأمرين معا.

ولم أجد لفظ «الاستثمار» بمعناه العلمي عند الفقهاء السابقين، فهو إذن لفظ مستحدث لدلالة خاصة اقتضتها تطورات النظم الاقتصادية الحديثة، وبالتالي اختلفت أشكاله وضوابطه باختلاف هذه النظم.

الاستثمار في الغرب

(أ) النظام الليبرالي: تتجه الدخول في النظام الاقتصادي الحر (الرأسمالي) أما إلى مجالات الاستهلاك، وأما إلى مجالات الادخار وأما إلى مجالات الاستثمار ويعتبر الاقتصاد في حاله الأمثل حين يتوجه الادخار كله إلى الاستثمار، أي حين يكون الاستثمار مساوياً للفرق بين مجموع الدخل الأصلي ومجموع الاستهلاك. ومقتضى ذلك أن ينفق هذا الفرق على زيادة القوى الإنتاجية، ويتم ذلك كله دون تدخل مباشر من الدولة، أو بأقل تدخل ممكن، مع ترك أقصى قسط من حرية التصرف للأفراد حسبما تمليه عليهم مصالحهم الخاصة.

ونظراً لما وصل إليه الإنتاج الحديث من توسع وتخصص، وتبعاً لفلسفة النظام الحر، فقد نشأت صورة جديدة تفرق بين المنتج والمستثمر فيما يتعلق بالتمويل، فالمنتج –وإن اعتبر بالضرورة مستثمراً- يقوم على عملية الإنتاج مباشرة ويرتبط بها، بينما المستثمر يقدم رأس المال الذي يجب أن يشارك به في المكافلة([1]) ويتحمل نتيجة المخاطرة مع المنتج. ويبدو هذا الفارق واضحاً في الحياة العملية حين يشترى زيد من الناس أسهما في مكافلة، يفعل ذلك آملا أن يعود عليه ربح من جراء استثماره، وللمستثمر أن يحتفظ بما اشترى من أسهم ويقبض ما تفئ المكافلة من ربح، وله أن يبيعها إذا ارتأى ذلك ليقطع صلته بالمشروع كله.

وثمة رؤوس أموال ضخمة تتجه إلى نوع غير مباشر من الاستثمار، وهو إقراض المكافلين والحكومات على أن يدفع المقترضون إلى أصحاب المال «فائدة» تحدد سلفاً بصرف النظر عما يستثمر المال فيه وعن ربح المكافلة منه. وواقع الأمر أن هذا المال يعتبر في حكم الادخار من جانب من يتملكه ولكنه يعتبر استثماراً من جانب من يستعمله إن كان المستفيد منه مكافلاً، أي إذا استخدم هذا المال –وهو الأغلب- في زيادة إنتاجية المكافلات.

(ب) النظام الاشتراكي: تملك الدولة في هذا النظام مصادر الثروات من أراضٍ زراعية مواد خام ومصانع إنتاجية، وتتولى بنفسها عمليات الإنتاج، وبالتالي يكاد جميع العاملين ينخرطون في سلك الجهاز الحكومي، وينصب إنفاقهم على أوجه الاستهلاك المتاحة. أما الدخول التي تفيض عن الاستهلاك فإنها تعود في الأغلب في صورة ودائع إلى الدولة التي تستخدمها فيما تراه من وسائل الإنفاق الحكومي، سواء كان ذلك لزيادة الإنتاج أم للتسلح أم لغير ذلك من الأمور.

ويلاحظ أن الدول الاشتراكية، المتطرفة منها والمعتدلة، كثيراً ما تلجأ إلى الاقتراض من الأفراد، كما أنها تعتبر المستثمر الوحيد في المجتمع. وهذا الوضع يؤدي بالضرورة إلى ضعف الإنتاج؛ إذ يقل الحافز على الإتقان كما يقل على الادخار.

الفائدة:

وفي النظامين المذكورين يحتفظ للمدخر بما ادخر من مال نقدي وتدفع له نظير إيداعه المال في مؤسسة مصرفية نسبة معينة نظير استعمال ماله، هي ما يطلق عليها اصطلاحاً «الفائدة». فالفائدة عندهم جزاء من يمكن غيره من ماله لأجل بصرف النظر عما يستعمل فيه هذا المال النقدي وعن نتيجة هذا الاستعمال، وإن كانوا يعرفونها بتعاريف ينتحلونها ليبرروا وجودها، وليبقوا عليها كأحد العوامل التي تحدد الدخول والمدخرات والاستثمارات. والحق أن الفائدة أصبحت جزءاً لا يتجزء من الفكر الاقتصادي الغربي إذا انسلخت عنه فقد قوامه وانبهت معناه. ويلاحظ أن الخطأ الذي يرتكبه الاقتصاديون المحدثون ناشئ عن اعتبار النقود في ذاتها سلعة كسائر السلع، وباتلالي يكون لها ثمن، وإن كان ثمنها يدفع من جنسها، وهو خلاف صميم معنى الثمن اقتصاداً ومعنى وفقها، ومنهم من يرى أنها تستحق الكراء كما تكرى العاريات، ويدفع إيجارها من مثلها، وهكذا تتنوع لديهم أحكامها بتنوع المبررات التي يتصيدونها ليثبتوا مشروعيتها.

مثال ذلك ما يقوله بول سامولسن من أن «الفائدة هي ثمن أو أجر استعمال المال»([2]) فهو هنا يسوى بين النقود والسلع.

أما باسكين فيعرف أن الفائدة أنها «إحدى صور الدخل الناشئ عن الملكية، أما الصور الأخرى فهي ما تفيئه الملكية من إيجار وأرباح ثم يستطرد في التعريف فيقول:«ولاصطلاح الفائدة مدلول أوسع يشمل جميع الدخل الناشئ من الملكية وذلك في حالة ما نتحدث عن ما يتحمله رأس المال من فائدة»، ويعني بذلك الدخل البديل الذي يمكن اكتسابه من قدر معين من رأس المال النقدي»([3]).

وهذا التعريف يعكس الرأي التقليدي في الفائدة؛ إذ يعتبرها نوعاً من الدخول التي تكسبها رؤوس الأموال المنتجة. والمغالطة الصريحة في هذا الزعم هي أن الفائدة تتحدد قبل تحقق الدخول وليس بعده، وبصرف النظر عن وجود ربح للمشروع من عدمه، دع عنك أن هذا التعريف يقصر عن الإحاطة بالقروض الاستهلاكية قصوراً كاملاً.

أما اللورد كينز فلم يَعُدْ تعريفه للفائدة التصور القديم وإن صاغه بألفاظ جديدة، فالفائدة عنده تدفع نظير تفضيل المقترض الحصول على المال السائل في الوقت الحاضر على المستقبل، ويرى أنها تتحدد بالفرق بين ثمن النقود الحال وثمنها الآجل([4])، وواضح أن ذلك كله افتراض وهمي لا سند له من الحقيقة فليس هناك من يستطيع معرفة ثمن النقود الآجل، والتفضيل في ذاته لا يمكن أن يكون مبرراً للفائدة.

والذي يهمنا في هذا المقام هو الوقوف على مدى ما وصلت إليه الفائدة في مجال الاستثمار الغربي، وإنما سقنا هذه التعاريف لنبين أن الهياكل المتعددة التي تشكل جسم الاستثمار مؤسسة على تصور النقود وكأنها سلعة كباقي السلع بغض النظر عن خصوصياتها المعروفة وأن لها ثمناً عادلاً هو الفائدة، وأن رأس المال النقدي يعدل رأس المال المنتج، وأن استحق الأول الفائدة جزاء واستحق الثاني الربح مخاطرة.

فإذا أتضح هذا تبين لنا كيف أن اقتراض رؤوس الأموال النقدية المدخرة يعتبر في عرف النظم الغربية استثماراً، أي إضافة وتقوية لرؤوس الأموال السلعة المنتجة.

ومن هنا يتبين أيضاً أننا لو أخذنا برأي الغربيين في اعتبار النقود سلعة كباقي السلع، وإذا اتبعناهم في بناء هياكلنا الاقتصادية على غرار هياكلهم، وإذا قررنا أن النقود سلعة لا تتناقص بالاختزان، ولا يكاد يكون لها تكلفة إنتاجية كما أن ليس لها بديل في السوق، إذا قبلنا كل هذه المقدمات –وقد قبلناها بالفعل للأسف الشديد- فكيف لنا أن نتجنب نتائجها، وإني لنا أن نطلب استثماراً غير الاستثمار الذي يفهم عن نظام غربي بنقوده وهياكله؟.

فقه الإسلام للاستثمار:

الاستثمار عند الغربيين الرأسماليين والاشتراكيين تابع لمثاليتهم ومن الكتلة تنشأ Mass المادية؛ إذ منشأ الحياة لديهم الكتلة الطاقة Emergy والحياة كتلة وطاقة. والغاية من الحياة البشرية تحقيق أكبر قسط ممكن من الرفاهية المادية وإشباع الرغبات الحسية، وليس للقيم المعنوية والمتطلبات الروحية من قدر إلا بمقدار ما يضمن تحقيق هذه الغاية والإسلام يخالف ذلك كله ويأباه.

الأصل أن منشأ الحياة أراد الحي القيوم، وأن الوجود هو أمره وكلمته جل شأنه للشيء أن كن فيكون.

والأصل أن الإنسان مستخلف على ملك الله سبحانه، وأن استخلافه في الأرض قصد به أن يستعمرها؛ إذ الإنسان مفطور على التسامي والاستكمال، ومقتضى ذلك الاستزادة من نعم الله تبارك وتعالى، ولا يتأتي له ذلك إلا بزيادة الإنتاج، ولا يزيد الإنتاج إلا بالاستثمار.

وإتباع الفطرة هو السعي الدائب حسب قوانين الوجود الأزلية المودعة في كل كائن بحكم كلمة الخلق ذاته، وإتباع هذه القوانين تسبيح بحمد الله، وذكر وشكر للنعمة على حد تعبير أبي حامد الغزالي.

ليست القضية هنا مجرد اختلاف في المثالية أو الشرعة التي هي العقيدة عند المسلم، ولكن القضية في جوهرها أن الوسائل تشتق من العقائد، وتوجه لتحقيق الغايات التي تتضمنها المثالية التي يعيش الإنسان في ظلها، ولا تخرج وسيلة عن نطاق أصل مقرر في العقيدة أو الشرعة إلا واختل منطوقها وفقد اتزانها وضل من أتبع سمتها.

من أجل هذا يقتضي فقه الإسلام للاستثمار أن يعمل المسلم على زيادة أداة الإنتاج في المجتمع للاستزادة من نعمة الله، واستثماراً لما استخلفه عليه من مال، وتعبداً لذاته العلية، وتسبيحاً بحمده.. وذلك كله لا يتم إلا وفق قوانين كونية اقتضتها شرعة الإسلام، وفرضتها أحكامه.

إن صح هذا –وهو صحيح بحكم النص الملزم لكل مؤمن بالإسلام. فخطأ الخطأ كله، بل خطل مسف في خطله، أن نبحث في الاستثمار كموضوع منفصل مستقل بذاته عن فلسفة الإسلام وشرعته وأحكامه. ومن المؤسف أن الكثيرين ممن يعالجون مشاكل الحياة المادية أو الاقتصادية، يحاولون النظر إليها من خلال النظم الغربية، فتتفرق بهم السبل، وإذا بهم يخرجون علينا بآراء مهلهلة متعارضة، يحاولون بها إقحام أحكام ليست من الإسلام في شيء ويموهون على أنفسهم وعلى الناس أن ذلك «تجديداً» تقتضيه المصالح المرسلة، واجتهاداً في الدين يستلزمه ما استجد في العصر من أمور.

ليس الاجتهاد «ترقيعاً» في الشريعة، والأولى والأجدر أن نجتهد في الوسائل لتحقيق أهداف الشرع وليس في تأويل الأهداف لتوافق الوسائل، وهذا يقتضي منا:

أولاً: تحديد مدلول الشرعة الإسلامية، وأعنى بذلك أن نعرف بحيث نتفق جميعاً على أصوله وحدوده وغاياته. أما أن يفسر كل منا الإسلام حسب مفهومه الخاص فذلك إتباع الهوى، وهو شتات لن يؤدي بنا إلى تجمع، والإسلام دين جماعي، لأن الفرد لا يعيش إلا في جماعة موحدة، ولا مناص من الوحدة في مفهوم الإسلام لتكون المجتمع المسلم أو الأمة، وذلك أمر مقرر في علم الاجتماع.

ثانياً: استنباط الوسائل التي تحقق غايات الشرعة على ألا تخرج هذه الوسائل عن قواعد الإسلام وأحكامه، وطبيعي أن تختلف هنا وجهات النظر وأن تتعارض الآراء، وطبيعي أن تتفاوت هذه الاجتهادات حسب الأزمان وحاجات الإنسان في مختلف البيئات، وليس في ذلك صغير، بل هو أمر مطلوب لذاته، كما هو منسق مع فطرة البشر.

البحث في تعريف الشرعة واستخراج أحكامها والاجتهاد في الوسائل المحققة لغاياتها يخرج عن نطاق هذا البحث، وإن كان لازماً له لزوم الجوهر لكل مظهر، فليس استثمار المال إلا وسيلة من وسائل تحقيق الغاية من اتباع شرعة الإسلام. من أجل هذا نسوق فيما يلي الكليات التي تقررها الشريعة السمحاء والتي لا خلاف عليها بين المسلمين، والتي نرى أنها محور لكل نشاط اقتصادي في المجتمع المسلم بما في ذلك الاستثمار.

الكليات الإسلامية للمعاملات الاقتصادية

1- الاستخلاف:

الإنسان مستخلف من الله رب العالمين في هذه الأرض: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30]

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ….) [الأنعام: 165]

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ….) [فاطر: 39]

ومقتضى هذا الاستخلاف.

‌أ-    أن أصل التملك للمال (جميع الثروات) يعود إلى الله سبحانه، وملكية الإنسان بالوكالة، فهو يملك الشيء خليفة عن صاحب كل شيء سبحانه وتعالى ليقيم فيه سنة مالكة.

‌ب-   نتيجة لهذا التأصيل، يصبح تصرف الإنسان فيما يملك مقيداً بإرادة المالك الأصلي، وبهذا لا يجوز للإنسان أن يتصرف في شيء يحوزه تصرفاً يخل بحق المالك أو يخرج عن أحكامه وشروطه المنظمة للتعامل فيه.

‌ج-   أن موضوع الخلافة أو محلها هو استعمار الأرض. يقول الحق تبارك وتعالى (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا…) [هود: 61]

وعمارة الأرض واستعمارها تقضي زيادة ما فيها من طيبات، وهو عيد الإنتاج والاستثمار الدائبين.

2- لا ضرر ولا ضرار

الضرر والضرر إيقاع الأذى بالناس وهو فساد

–       (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً…) [الأعراف: 56]

–   (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد: 25]

–       (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ) [القصص: 77]

–       (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ…) [هود: 85]

ومقتضى النهي عن الضرر والضرار:

‌أ-    أن شرعة الإسلام تعتبر النشاط الإنساني اقتصادياً؛ إذا كانت له منفعة تبادلية وحقق ربحاً شريطة أن يخلو من الضرر والضرار وأن تنتفي عنه صفة الفساد، فمنتج الخمر يقوم بعمل اقتصادي في عرف الغربيين وغير المسلمين، وهو لا يعتبر كذلك في حكم الإسلام لأن نشاطه الإنتاجي يضر ويفسد، فهو نشاط محرم.

‌ب-  أن الفرد في المجتمع الإسلامي مسئول عن واجباته قبل المجتمع، وعليه أن يؤديها في حدود المنفعة العامة، وذلك هو الإحسان، لذلك كان حبس المنفعة عن الناس محرما لأنه مضرة ومفسدة، وكل امتناع عن فعل الخير (الإنتاج) مع القدرة عليه والحاجة إليه فهو ضرر وضرار وفساد في الأرض، وهو حرام مثال ذلك من يحبس المال عن التداول والناس لا تستقيم أمورها الدنيوية دون مبادلة، ومن يترك مزرعته دون زراعة والناس محتاجة إلى غلة أرضه، ومن يغلق أبواب مصنعه والمجتمع في حاجة إلى إنتاجه. كل أولئك ومن شابههم يوقعون بالمجتمع وبأنفسهم الضرر والضرار. وكلهم مفسد وكلهم آثم، وعملهم محرم.

وبناء على ذلك، فالمعاملات الاقتصادية الإسلامية خلافا لما عليه الحال في المذهبين الرأسمالي والشيوعي –لا تخضع لحكم الأفراد وهواهم، ولا لرغبة السلطان المطلقة، ولكن الأصل في كل تصرف هو مراعاة الحقوق والواجبات، وذلك مرهون بتجنب الأضرار بالغير وبالمال ذاته وبالفرد المخاطب بهذا القانون.

3- العمل والجزاء:

واجب فرض على الإنسان أن يعمل صالحا، ولكل عمل جزاء ولا جزاء بلا عمل.

–       (وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سبأ: 11]

–       (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ….) [التوبة: 94]

–       (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ…..) [المدثر: 38]

–       (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى….) [النجم: 39]

–       (هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ….) [الرحمن: 60]

وضريب هذه الآيات في الذكر الحكيم كثير، وكلها تقرر حقيقة أقرب ما تكون إلى البديهة، فالعمل ضرورة حيوية والعمل الصالح شرط الإيمان، ومقتضى العدل الإلهي أن يكون لكل عمل جزاء، وفي شرعة الإسلام:

‌أ-  واجب على الفرد أن يعمل صالحا، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وشرط العمل الصالح أن يكون في حدود الاستخلاف، متسقاً مع قوانين الوجود الأزلية مستجيبا لها، وأن يتنكب كل ضرر أو ضرار.

‌ب-   لكل عامل الحق في جزاء عادل على عمله، بصرف النظر عن جنس العامل أو جنسيته أو دينه ومهما كان ذلك العمل.

‌ج-     باطل البطلان كله أن يحصل فرد على جزاء دون عمل.. ويلاحظ هنا أن حق الفقير والمسكين والعاجز ومن تجب هل الصدقة، هذا الحق غير حق الجزاء على العمل، وكذلك الحال في الأرث والنفقة؛ إذ المقصود بهذه الكلية أن من يقوم بنشاط اقتصادي سواء أكان هذا النشاط منصباً على إنتاج سلعة مادية أم تأدية خدمة، فلابد لهذا العامل من جزاء يتمثل أما في ربح إن كان العامل هو رب الإنتاج كله أو في أجر أن استأجر عمله غيره.

وهنا أيضاً يتميز الإسلام بسمات خاصة به، فالعمل ليس مجرد حق للفرد إن شاء عمل وإن شاء قعد، بل المسلم مأمور بالعمل، وإنما يعفى من العمل من لا يقدر عليه، وينظم الإسلام علاقة العامل بالمجتمع في صورتين متقابلتين:

الأولى: أنه يعطي العامل حقاً في العمل على مجتمعه، ومدلول ذلك أنه يتعين على الدولة أن تجد عملاً للفرد العاطل، وعليها نفقته حتى توجد له عملاً يرتزق منه.

والثانية: هي واجب الفرد نحو مجتمعه؛ إذ عليه أن يعمل ما توافر العمل، فإن أخل بواجبه أسقط حقه إزاء مجتمعه.

والنظام الإسلامي بحكم قواعده ومنطقه لا يعرف البطالة ولا (؟؟)، وهو فريد في بابه، وإنما تنعدم البطالة حين تظل عجلة الإنتاج دائرة، وحين توجه الأموال الفائضة من الاستهلاك إلى الاستثمار دون أن تعطي فرصة لأصحاب الأموال السائلة من اكتنازها أو الاستفادة منها دون عمل اقتصادي.

وهذه الميزة الأخيرة تقودنا إلى تبين حكمة الإسلام في عدم إجازة الجزاء دون عمل؛ إذ علاوة على أن ذلك هو المنطق السليم والحكم العدل في أية معاملة اقتصادية، فإن الإسلام يرى أن تتفاوت أقدار الأفراد بأعمالهم وليس بأنسابهم أو ثرواتهم (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10]

وهكذا تنحصر الدخول كلها في أمرين: جزاء العمل وجزاء الطبيعة ويسقط جزاء رأس المال وجزاء العمل الأجر أو الربح، وجزاء الطبيعة الرجع، أما جزاء رأس المال وهو الفائدة، فهو جزاء دون عمل فهو ساقط شرعاً وإن أجازه الفكر الغير الإسلامي.

4- الغنم بالغرم:

تمشياً مع كلية العمل والجزاء قرر الإسلام كلية أخرى تضمنها قول المصطفى عليه الصلاة والسلام «الغنم بالغرم».

وواضح أن هذه القاعدة تقرر العدل في المعاملات؛ إذ لا يصح أن يضمن إنسان لنفسه مغنماً ويلقى المغرم على عاتق غيره، وتتضح أهمية هذه القاعدة حين تطبيقها في واقع الحياة خصوصاً في المعاملات التي تتم في مجتمع لا يتقيد بأحكام الإسلام. ذلك أن المدخرين في النظم الغربية يمكنهم أن يعيشوا على عائد مدخراتهم دون أن يخاطروا باستثمارها ودون أن يقوموا ببذل أي مجهود. وبعبارة شرعية: يستطيعون أن ينالوا مغنما دون مغرم. أو بتعبير آخر، يمكنهم الحصول على عائد دون مكافلة (أي مخاطرة اقتصادية).

وواضح أن سبيل ذلك هو الفائدة التي تدفعها المؤسسات المالية للمقرضين والمودعين، وقد يظن البعض أن كلا من الإقراض والإيداع يتضمن نوعاً من المخاطرة؛ إذ قد يفلس المقترض أو المودع لديه (المصرف) والرد على ذلك هو أن صاحب الإدخار لا يتخلى عنه إلا إذا اطمأن الاطمئنان كله إلى ضمان استرداد رأس ماله زائدا الفائدة المرجوة منه، وغالباً ما تحصل الفائدة خصماً من أصل الدين في حالة الإقراض. ويظهر ضعف هذا الاعتراض حين نعلم أن الحكومات تعتبر أكبر المقترضين في الأسواق المالية وأنه في حالة الاقتراض غير الحكومي لا يتم إقراض دون حصول المقترض على ضمان لدينه.

وهناك وجه آخر لتبرير الفائدة، وذلك أنها نظير تمكين المكافل من تحقيق مشروعه الإنتاجي، وإنما تتحدد سعرا كما تتحدد أسعار السلع الأخرى، أي عند التقاء منحنى الطلب عليها والعرض لها، وهي وإن كانت تكليفاً على الدخل، أي تخصم منه كما تخصم الأجور والريع إلا أنها لازمة لإنشائه([5]). والمقصود بهذا هو أنه نظراً لطبيعة فلسفة النظام الرأسمالي وتمشياً مع ما توجبه وظائف النقود في ذلك النظام من نتائج، فإن المدخرات تصبح في حكم الطيبات؛ وإذ يغلب على القروض صفة الإنتاجية (أي أن غالبية المقترضين يطلبون المال لاستثماره في زيادة الإنتاج)، فإن المكافل يحصل على ما يحتاج غليه من رأس مال بثمن هو الفائدة، ويتحدد الثمن بناء على عرض القروض والطلب عليها وذاك سعر الفائدة.

ولا تهمل هذه النظرية القروض الاستهلاكية، بل تدخلها كعنصر من عناصر الطلب على القروض، سواء كان المقترض حكومة أم غير حكومة، وفي هذه الحالة يبرر صاحب هذه النظرية الفائدة بأنها نظير التفضيل الزمني، أي نظير تفضيل المقترض الحصول على مال سائل في الوقت الراهن بدلاً من الحصول عليه في زمن أجل، ويرى شومبيتر أن الفائدة هنا أمر بديهي لا يحتاج تبريره إلى دليل.!!.

وجماع الأمر، هنا فكرة الغرم بالغنم عند الغربيين لها مدلول مختلف تماماً؛ إذ لو سلمنا جدلاً بأن على المكافل أن يدفع أجر ما يستخدمه من عناصر لازمة لقيام مكافلته وتحقيق مشروعه لكان منطقياً أن نسلم أيضاً بأن رأس المال عنصر من عناصر الإنتاج، وهذا ما يرفضه شومبيتر؛ إذ رأس المال لديه ليس عنصرا من عناصر الإنتاج وليس للإنتاج سوى عنصري العمل والطبيعة وهما اللذان يستحقان من المكافلة الأجر والريع، وكليهما مقطوع في ذاته، مستقل عن عائد المكافلة سواء أكان العائد إيجابياً أي ربحاً أم سلباً أي خسارة.

ومن الخير أن نوضح هنا أنه نظراً لأن الغالبية الكبرى من المدخرات المعروضة للإقراض إنما يطلبها المكافلون لاستخدامها في أغراض إنتاجية، ونظراً لأن العمليات الإنتاجية في مجملها وعلى مر الزمن تعود بربح على المجتمع، فقد غلب الرأسماليون هذه الصفات على مجموع المدخرات المعروضة للإقراض حتى أصبحوا يتحدثون عن رؤوس الأموال Capitals، النقدية منها والعينية باعتبارها أداة إنتاجية.

وبعد هذا كله، تبقى النظرة الإسلامية إلى هذه القضية ثاقبة بصيرة، سارية نافذة، فمع التسليم بكل ما يراه الرأسماليون الأحرار من اعتبار إنتاجية رؤوس الأموال النقدية أن اقترضها المكافلون- وبغض النظر عن القروض الاستهلاكية- بافتراض هذا كله، يبقى التساؤل قائماً: ما سند حق المقرض في الفائدة؟ أو بعبارة شرعية ما هو غرم المقرض مقابل غنمه من الاقتراض؟.

لعل الجواب الوحيد لذلك هو قول اللورد كينز عميد الاقتصاد في هذا القرن: السبب في دفع الفائدة هو رغبة الناس في دفعها في سبيل الحصول على رأس المال! وكان كينز لم يقل شيئاً.

5- التناقض أو الفناء:

ما من شيء في الوجود غلا خضع لقانون الفناء

(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ** وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ) [الرحمن:26- 27] ويعبر عن هذه الظاهرة الطبيعية في الاقتصاد بسنة التناقص Depreciation وهو أمر مقرر لا محيص عنه، وقد أخذ به الغربيون بطبيعة الحال إلا أنهم ناقضوا أنفسهم حين جعلوا النقود سلعة رأسمالية ثم استثنوها من التناقص في الوقت الذي اخضعوا فيه كل السلع العينية إلى قانون التناقص الأزلي.

والإسلام يأبى ذلك الأباء كله، فإن السماح بربا النقود بذاتها أقرب ما يكون إلى الشرك الخفي، وهو مخالف لأصل عقدي عند المسلم، دع عنك أنه استثناء دون علة تبرره.

يزعم البعض أحياناً أن النقود تتناقص بحكم التضخم المالي وما يحتمه من ضعف القوى الشرائية للنقود، وهذا زعم باطل، إذ التضخم مرض عارض وليس صفة ملازمة للنقد، وقد يحدث بعكسه، أي قد تزيد القوة الشرائية للنقود ولا يمس ذلك قدرة النقد على الزيادة عن طريق اكتساب الفائدة، والقوة الشرائية ليست إلا نسبة النقود إلى السلع في مجموعها، بينما المقصود باخضاع النقود لسنة التناقص هو أن تنقص النقود فعلاً بمرور الزمن عليها، سواء زادت قوتها الشرائية أم نقصت.

وقد لاحظ اللورد كينز في كتابه المذكور آنفاً أنه لا معدى من تطبيق سنة التناقص على النقود إذا أردنا أن نوجد نظاماً اقتصادياً متوازناً، وأخذ في ذلك برأي اقتصادي مغمور وهو سلفيو جيزيل، وإن خالفه في وسيلة تحقيق التناقص.

والذي يهمنا هو أن الإسلام طبق هذا القانون الطبيعي دون استثناء، وليست فريضة الزكاة سوى مظهر هذا التطبيق، وعلى المسلمين أن يجتهدوا في إيجاد الوسائل الشرعية لتنمية المال دون أن يستثنى من هذه الكلية، فكل خروج على القانون إنما يؤدي إلى إخلال وإفساد.

الاستثمار الشرعي:

ليس لهذا المصطلح إلا مدلول واحد، هو أن يستغل المال بقصد نمائه وتحقيق ربح لصاحبه وذلك دون مقارفة لما نهى عنه بنص صريح أو ما في حكمه وحسب القواعد الكلية للشرعة الإسلامية.

واجب حتم على المسلم أن يعمل على تنمية ما أنعم الله به عليه من نعمة المال وما استخلفه فيه، حتى لو كان المال وديعة لديه تخص يتيماً؛ إذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يترك مال اليتيم بغير نماء فتأكله الزكاة. فمن امتنع عن استثمار ماله والمسلمون محتاجون إلى ثمرة ذلك المال، حتى على الحاكم أن يعهد بالمال إلى غيره، دون مصادرة لملكية المال، ودون أن يكون للمالك حظ أو نصيب في الثمرة إلا بمقدار ما يسهم به في نفقة الاستغلال.

والمعلوم بالضرورة أن الأصل في الأشياء والمعامل الحل وليس التحريم فكل وجوه الاستثمار مباحة ما لم يرد فيه نص يحرمه. ويجب أن يكون واضحاً في ذهن المسلم أن محل الاستثمار شيء ووسيلة الاستثمار شيء آخر، فالمحل هو موضوع الاستثمار، مثال ذلك سلعة محددة بقصد الاتجار فيها، أو مصنع ينتج طيبة من الطيبات، أو عقار للسكن أو أرض للفلاحة.. الخ. أما الثاني.. أي الوسيلة.. فهي إجابة كيف يتم الاستثمار، ومثالها: إيداع المال في المؤسسات المتخصصة، وعملية البيع والشراء، وعقدا المقارضة والمرابحة. الخ. وطبيعي أن يوجد ترابط وأحياناً بتلازم بين المحل والوسيلة، والذي يريد أن يستثمر في النقود وسيلته الصيرفة، والذي يريد أن يستثمر في الزرع وسيلته المزارعة والذي يريد أن يستثمر في مختلف الصناعات وسيلته البورصة وهكذا.

والذي يتوخى أحكام الشريعة في الاستثمار مضطر إلى أن يتحرى الحل في محل الاستثمار وفي الوسيلة إليه.

وإذا كان الواقع الأليم أن اقتصاديات الأمم –ولا أقول الدول- الإسلامية تسير في فلك شرائع غربية مادية تناقض شرعية الإسلام إن لم تناهضها، فقد اقتبست الكثير من الأمور التي يشوب فيها الاستثمار (محلاً ووسيلة) الكثير من الريب، ومنها ما هو ظاهر الحرمة، حتى لنجد الفرد المسلم القابض على دينه قبضه على الجمر في حيرة من أمر نفسه: كيف ينمي ماله؟ وما هي أوجه الاستثمار المحرمة وكيف له أن يتجنبها وقد تخللت كل المعاملات وأقرتها الحكومات بقوانينها الوضعية؟ ومن لي بمؤسسة تتولى عني هذا النماء دون أن تلبس الحلال بالحرام؟ وأني لي الخوض في هذا المعترك الذي يعج بتيارات تجرف المحنكين وتبهر أمهر السالكين؟.

والفرد في ذلك التساؤل محق الحق كله، فمجالات الاستثمار في البلاد التي تتوافر فيها الأموال السائلة (الدول البترولية) محدود تماماً، وحتى في البلاد التي تنفسح فيها هذه المجالات التبست على الناس دلائل الحل، وتداخلت في المعاملات شبهات الحرمة وأصبحت الريب أقوى من قرائن اليقين، وإني لأعرف صديقاً كريماً أتاه الله الملايين في فترة قصيرة، فلما أراد أن يستثمر هذا المال وأن يتحرر في معاملته متبعاً قاعدة «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» بدأ يحجم عن كثير من المعاملات التي لا غنى عنها لنجاحه، وإذا به ينهزم في معترك المنافسات التجارية، وبدأ يخسر من أصل ماله، وما زال إلى يومنا هذا في حيره من أمره، هل ينسحب من السوق ويترك التجارة لغيره من اليهود والنصارى وغير المستمسكين بدينهم من المسلمين؟ هل يحتال على الأمر ويتخذ ذريعة المصلحة المرسلة؟ هل يتعامل مع المصارف التي تزعم أنها تطبق الشريعة ويقترض منها على أن يدفع عشرة بالمائة سنوياً من قيمة القرض إلى من يقرضه (نظير خدمة الدين) بدلاً من أن يدفع فائدة؟ هل يجوز له حسم الدين أو خصمه قبل انقضاء الأجل على أن يتنازل عن شيء منه؟ ومازال صديقي في حيرته… وحسرته، فهو يخسر كل يوم شيئاً من ماله، وعزاؤه أنه يحاول ألا يجترح إثماً أو يخالف للشرع نصاً أو حكماً.. وآية العجب حقاً ألا يكون في الشرع مندوحة عن الخسارة!.

والرجل وحاله تلك غاضب ثائر، غاضب على المسلمين وعلمائهم وقادتهم وحكامهم، فالمسلون غافلون، وعلماؤهم متناقضون، هذا يحلل والآخر يحرم، بعضهم تعلم علوم الغرب ولغته، لا يكاد يتقن أصول دينه أو لسان قومه، وبعضهم فرغ نفسه لحفظ ما كتبه الأولون من فقهاء الإسلام الأجلاء، لا يكاد يعرف أصول ما يجرى في أيامنا هذه من المعاملات، وإني لأعرف من الصنف الأول من لا يرى بأساً من الإقراض والاقتراض بفائدة ثابتة، ومن إيداع النقود لدى المصارف لآدال نظير فائدة ومن خصم الأوراق التجارية وبيع الدين نظير فائدة، وأعرف من شيوخ الصنف الثاني من يحرم على المصارف الإسلامية إصدار خطابات الضمان، بل منهم من يحرم إيداع المال أصلاً في مصارف تتعامل بالفائدة، ومن يحرم شراء العملات الأجنبية إلا مثلا بمثل يدا بيد، فهو بهذا ينكر التحويلات المالية المصرفية!.

وصديقي غاضب من الحكومات في بلاد المسلمين ثائر عليها، فقد رضيت من الغنيمة بالأياب، تنفق الملايين والبلايين فيما لا يكاد يفيد، وتأخذ عن الغرب ما قد يكون ضرره أقرب من نفعه، ولا يكاد تكلف نفسها مئونة البحث عن موقف الشرع من المعاملات، ويكفيها أنها تطبق أحكام النكاح والطلاق ودفن الموتى، وتقيم شعائر العبادات ونسيت أو تناسبت أن الدين المعاملة، وأن الشرع واحد لا يتجزأ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) .

فأين وجه الحق في هذا وفي غيره، وغيره كثير؟

قبل أن أتحدث عن الناحية العملية التطبيقية في الاستثمار الإسلامي، أعود فأكرر أنه ما دمنا نطبق النظم الاقتصادية غير الإسلامية، وما دمنا نتغافل عن الأصول التي تقررها شرعة الإسلام ومثاليته، وما دمنا عاجزين عن تطبيق الإسلام كنظام حياة، فلن نستطيع قط أن نحس تلك الطمأنينة التي ينشدها المسلم في معاملاته المالية والتي توحي إليه السكينة بأنه حفظ حق الله، ولم يقرب حرماته وشبهاته.

صعوبات تعترض الحكم الشرعي:

أول صعوبة في الحكم على شرعية المعاملات عموماً والمالية على وجه أخص ناشئة كما سبق القول –عن أن معاملاتنا معشر المسلمين بنيت على أسس غير إسلامية، وحتى تتضح هذه الصعوبة أضرب مثلاً لذلك عملية شراء أسهم في شركة مساهمة أجنبية، وفي أحيان غالبة غير أجنبية، وأعنى بالأجنبي هنا في بلد غير مسلم.

شراء السهم معناه إسهام المشتري في رأس المال الشركة وقبوله مبدأ المخاطرة غنماً بغرم. فظاهر المعاملة يوحي بأنها معاملة بريئة من كل ما يحرمه الشرع الحنيف. والواقع أن غالبية فقهائنا المعاصرين يفتون غير متحرجين بأن مثل هذه المساهمة أمر مباح ولا غبار عليه.

على أن المنمنعن في الأمر يجد هناك ما يرد على شراء هذه الأسهم من شبهة التحريم، ذلك أن المساهم شريك في الشركة وأن تحددت مسئوليته المالية بقيمة السهم الذي يملكه، ثم أن الشركات الأجنبية على بكرة أبيها، وغالبية الشركات في البلاد المسلمة تتعامل بالفائدة أن أودعت أموالها لدى الغير، أو أن تربت لها ودائع أو ديون قبل الغير، وكذلك إن اقترضت أو استودعت أموالاً من الغير أو إن تأخرت في دفع مستحق عليها للغير. وكل شريك يقرأ مشروع الميزانية السنوية لشركته ويجد بند الفوائد مذكوراً فيها ذكراً صريحاً ويقر الميزانية في الجمعية العمومية كل سنة أو نصف سنة.

الشبهة تأتي أولا من كيفية الحكم على الفوائد، هل هي محرمة في كل صورها أم هي مباحة، فإن كانت مباحة في هذه الحالة على اعتبار كونها فرعية في هذه العملية التجارية القائمة في شكل مكافلة تحمل عنصر المخاطرة وتتعرض للمغنم بقدر ما تتعرض للمغرم، أو أنها (أي الفائدة) مباحة هنا على اعتبار أن الفائدة بالتعريف وحسب الواقع غير الربا القرآني وخلاف ما نص عليه الحديث، فهي ليست مقابل تأجيل السداد عند حلول الأجل، وهي ليست ذهباً ولا ورقاً ولا غير ذلك من العروض، بل هي أحياناً أجر نظير تيسير التمويل للشركة المنتجة وأحياناً هي في حكم الفرق بين قيمتي بيع آجل من بيع عاجل وأحياناً أخرى هي مقاسمة لما تحصل عليه المؤسسات المالية من جزاء نظير استعمالها لمال الشركة، وقد تكون في حكم المكافأة التي تدفعها الدولة لمن يساعدها على تمويل مشروعاتها التي تقوم بها لتحقيق المصالح العامة أو المصالح المرسلة.

إن قبل هذا كله تعليلاً لمشروعية الفائدة التي تتعامل بها الشركة المساهمة، فهل يا ترى تظل العملية مباحة حالية من الشبهات إذا كان مشترى الأسهم لا يبتغي من وراء شرائه سوى المضاربة في السوق دون التفكير في ربح العملية الإنتاجية التي تتمثل في اقتناء الأسهم؟ أعنى بذلك أنه يشتري أو يبيع إما عاجلاً أو آجلاً «قيمة» في البورصة تتمثل في السهم على أن يتخلص منها في وقت آجل بصرف النظر عن حقيقة هذه القيمة؟.

أما إذا قيل أن الفائدة بكل صورها حرام، أو باعتبار بعض الصور فيها حرام والبعض حلال، إما لأنها ربا صراحاً وإما لأنها مغنم من غير مغرم، وإما لأنها جزاء دون عمل، فهل يا ترى يعتبر شراء السهم في شركة تتعامل بالفائدة أمراً مباحاً أم محظوراً؟.

والصعوبة الثانية هي اختلاط الحلال بالحرام حتى أصبح عزل معاملة خالية من كل شبهة أو كل حرمة أمراً بالغ الصعوبة، بل قد لا يتيسر أصلاً… مثال ذلك أن جماعة إسلامية مخلصة أصدرت لأعضائها أمراً بأنه لا يجوز لأحد منهم أن يقبض مالاً أو يأخذ أجراً في شبهة ربا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك حين لعن أخذ الربا ومعطية وشاهده وكاتبه. حينئذ أصطدم موظفو الحكومة منهم بحقيقة مؤلمة هي أن حكومتهم تتعامل «بالفائدة» وتحكم محاكم الدولة على من يتأخر في دفع الدين بالسداد زائدا الفائدة، ومن تأخر عن سداد أي دين للدولة أضافت عليه الفائدة، وإن أودعت الدولة أموالها داخل البلاد أو خارجها تقاضت على ذلك فائدة، بل أن الدولة تحصل جزءاً غير قليل من إيراداتها التي تدفع منها مرتبات وأجور موظفيها من أموال قوامها الفائدة.

فهل يا ترى تعتبر أجور أعضاء هذه الجماعة حلالاً خالصاً أو مشوبة بحرمة الربا؟ أفتت الجماعة المذكورة بفتوى غاية في الغرابة؛ إذ قررت أن على الأعضاء العاملين الملتزمين أن يستقيلوا من الحكومة؛ إذ يمتنع عليهم أن يأخذوا مالاً اختلط بربا، ومال الحكومة مختلط يقينا بالفائدة، والفائدة عندهم ربا – أما الأعضاء المنتسبون ومن إليهم، فلا بأس أن يبقوا موظفين في الدولة ولا بأس من قبض أجورهم من مالها.

أليس هذا هروباً من الواقع وعجزاً عن التصدي له؟ بل أليس هذا هو المشكل الذي نتعرض له جميعاً في كل معاملاتنا اليومية؟ حين نشتري السيارة التي نركبها أو القلم الذي نكتب به أو الحبر الذي نطبع به كتاب الله الكريم… ألسنا نعلم علم اليقين أن الثمن الذي ندفعه للحصول على هذه الطيبات يتضمن فائدة يقتضيها المنتج من المستهلك؟ إن كل فائدة يدفعها المكافل هي تكليف على ربحه، وهي جزء من نفقة الإنتاج أو قيمة التكلفة، وهي متضمنة في ثمن البيع الذي يدفعه المستهلك. فهل يا ترى يعتبر شراء السلع حراما لأن ثمن السلعة يشوبه الربا، باعتبار الفائدة ربا؟.

والصعوبة الثالثة التي يعاني منها المجتمع المسلم في الوقت الحاضر هي نوع من الجمود الفكري يسود عالم الفقه التقليدي، أما مظهر هذا الجمود فهو محاولة شيوخنا الأفاضل رد كل صور المعاملات الحديثة إلى صور المعاملات القديمة، يقابلون بينها فإن صح لديهم نوه من التطابق وغلب على الصورتين التشابه، أباحوا المعاملة وإلا حرموها أو امتنعوا عن الإفتاء فيها، ولعل هذا الجمود يرجع إلى أمرين:

‌أ-   جهل من درس الفقه الإسلامي القديم بالمعاملات الحديثة والمصطلحات العلمية السائدة. وبهذا ينهدم الركن الأساسي في كل إفتاء؛ إذ كيف يفتى إنسان مهما بلغ من العلم في أمر يجهله؟ مثال ذلك:

حرم عالم جليل خطاب الضمان، أو بالأحرى عمولة البنك الذي يصدر خطاب الضمان لأن الضمان فقهاً تطوع ولا أجر على تطوع! ولست أدرى هل مر الشيخ على بنك يتطوع حتى بالسلام دع عنك كفالة المال؟.

وحرم آخر التأمين على البضاعة لأن التأمين تكهن ببطن الغيب! وكان الشيخ لم يسمع قط بنظرية الاحتمالات، وأن التأمين علم يقوم على الحساب، وأنه عقد بالتراضي ليس فيه إخلال بقاعدة أصولية واحدة.

لعمري كم من شيوخنا الأفاضل درس النقوس وتمعن في تعريفها ووظائفها وكم منهم فهم معنى الائتمان الذي تقوم عليه معظم اقتصادياتنا المعاصرة، وكم منهم تعلم عمليات البورصات، سواء منها ما اختص بالأموال أو السلع، وسواء أكانت العمليات للمراجعة أم للمضاربة قصيرها وطويلها؟.

‌ب-  ضعف الاجتهاد لصعوبة القياس، ومرجع ذلك على أن القلة القليلة ممن يقدرون على الاجتهاد ويعرفون صدر المعاملات الحديثة وعلم الأصول يصطدمون بعقبتين:

الأولى: معارضة محترفي الفقه الذين يفضلون «التحريم» لكل ما لم يعرفوا من صور التعامل منتحلين العذر في قاعدة «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وناسين حكمة الشرع في التيسير على الناس ومتغاضين عن المصلحة المرسلة.

والثانية: الخلل في أسس البناء الاقتصادي في البلاد المسلمة، وقد أوضحنا هذه العقبة فيما سبق من القول، ولهذا يجد المرء تعارضاً في الآراء مع وجاهة في التعليل. ويرى بعض المفكرين المحدثين أن ذلك مرده إلى حاجة المجتمع المعاصر إلى تطوير علم الأصول بحيث توجد أدوات جديدة للقياس الفقهي لا تتعارض مع القواعد الكلية الشرعية وابتكار أساليب منهجية حديثة methodology يتبعها الفقهاء حين النظر في الأقضية التي تتطلب حكماً أو فتياً.

يجب أن يجابه الواقع وأن نعترف بأن المصارف في بلاد المسلمين –خلا المؤسسات الإسلامية التي تكونت حديثاً، وقليل ما هي- تتعامل كلها بالفائدة، وأن حكومات بلادنا المسلمة تقرر الفائدة علانية وتتعامل بها، ويقيني أن المؤسسات التي تزعم أنها لا تتقاضى فوائد ولكنها تتقاضى عمولة نظير ما تسميه خدمة الدين، يقيني أن مثل هذه المؤسسات تهرب من الواقع، والحقيقة هي عجزها –مع افتراض حسن النية- عن إيجاد بديل لنظام الفائدة، وقد يكون لها في ذلك عذر وقد لا يكون..

إذ من الواجب أن نقرر هنا أن بعض البنوك التي تأسست أخيراً تحت اسم البنوك الإسلامية تهرب أيضاً من هذا الواقع الأليم، فمنها من يودع بعض ماله بفائدة محددة لدى بنوك أجنبية، ومنها من تغالط ضميرها فتعهد إلى مؤسسات مالية أجنبية باستثمار –بعض مالها شريطة أن يعطيها نظير ذلك «ربحا» ناشئاً عن استثمارها لهذا المال، أنها مغالطة محزنة، لأن مصارفنا الإسلامية تعلم علم اليقين أن هذه المؤسسات المالية تستمد كل أرباحها دون استثناء إما من إقراض بفائدة دون مخاطرة وذلك مغنم دون مغرم أو من خدماتها المصرفية.

وقد علمت أن البعض اشترط أن توافق المؤسسة الإسلامية سلفاً على محمل الاستثمار الذي تقوم به المؤسسة الأجنبية وعلى وسيلته، واهما أن تلك المؤسسات المالية الأجنبية ستعجز عن خداعه، فتأخذ ماله، وتقرضه بفائدة، وتحتفظ لنفسها بنصيب الأسد منها، وتعطيه ما تتفضل به عليه، على أنه حصته من الربح وليس من الفائدة! إن المؤسسات الغربية تربح وسلعتها الوحيدة هي النقود، تتعامل فيها بشتى الصور، فهل يا ترى يعتبر بحاً حلالاً لا شبهة فيه!.

هذا محزن بقدر ما هو مخز واليم، وإني أذكر هذا إنما أورده لأني أعلمه علم اليقين، ولأني حاولت جاهداً أن أثنى هذه المؤسسات عن أن تزج بنفسها في هذه الشبهات، وعن أن تتخذ لها بطانة من دون المؤمنين.. ولكن عقدة الأجنبي وغرور العقل وحب التسلط غلبت على البصائر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والآن… هل يمكن للمسلم المتحرز أن يجد مجالاً ينمي فيه ماله دون أن يقع في المحارم والشبهات؟ وحتى إذا لم توجد الدولة التي تطبق النظام الإسلامي؟

الجواب عندي بالإيجاب وإن كان في الأمر غير قليل من العنت.

أنواع الاستثمار الحلال:

أولاً: استثمار لا خلاف فيه:

وينقسم إلى أنواع ثلاثة:

أ- التجارة: شراء وبيع: ومن ذلك

1-   شراء سلعة معينة أو محددة بالوصف وبيعها قطعياً. ومعنى ذلك تسليم السلعة أو سند ملكيتها نظير تسلم الثمن في الحال.

2-        شراء السلعة وبيعها لأجل، أي دفع ثمنها آجلا.

3-        شراء سلعة معينة يحتاجها شخص معين وبيعها له إن عاجلاً أو لأجل، وهو ما يسمى بيع المرابحة.

وهذه الصور جميعاً لا غبار عليها ولا شبهة فيها، وإنما تعتريها صعوبة التطبيق بالنسبة للأفراد وأحياناً كثيرة بالنسبة للمؤسسات المالية نفسها، وسبب ذلك أن عمليات البيع والشراء لم تعد بالأمر الهين الميسر للأفراد جميعاً، بل هو أمر عسير يقتضي الكثير من المعرفة والخبرة والمال والتفرغ والبحث، أما بالنسبة للمؤسسات المالية والمصرفية فتعترضها عدة صعوبات لعل أهمها أن المؤسسة المالية إنما تستمد قوتها من إقبال عملائها عليها وثقتهم بها، وغالبية أموال هذه المؤسسة تأتي من التجار، فإن هي دخلت سوق المتاجرة دخولاً مباشراً أصبحت منافساً لعملائها، وقضت على سمعتها المالية؛ إذ يحدث تعارض في المصالح في مثل تلك الحال. وهذا أمر قد حدث بالفعل لمؤسسة مصرفية إسلامية، استوردت سلعاً باسمها وباعتها مباشرة إلى الجمهور، فخسرت بذلك ثقة فئة من التجار خسارة لا يمكن أن يعوضها عنها ما قد يكون عاد عليها من ربح تجاري.

والرأي الصحيح أن ما يمكن أن تقوم به المؤسسة المالية في هذا المجال التجاري يجب أن يقتصر على صورتين.

الأولى: بيع المرابحة.. والثانية: التعامل فيها يسمى بشهادات البضاعة، حيث تشتري البضاعة بأوصافها المحددة من السوق وتباع الشهادة بعد ذلك –والشهادة هي سند الحيازة والملكية- على أن يتم الدفع آجلاً.

ب- المقارضة أو المضاربة:

المقصود بهذه الصورة نوع من المشاركة بين صاحب مال وصاحب عمل، يتفقان على القيام بصفقة إنتاجية، تجارية كانت أم صناعية أم زراعية أم عقارية ويقدم صاحب المال ماله وصاحب العمل عمله، ويتفقان على توزيع عائد المخاطرة – ربحاً كان أم خسارة- بينهما بنسبة يتفقان عليها. ويجوز في هذه الحالة أن يقدم صاحب العمل جزءاً من المال فتزيد حصته في الربح بنسبة ما زاد في المشاركة، كما يجوز أن يسهم صاحب المال بجزء من العمل وتزيد حصته في الربح نسبة ما زاد في المقارضة.

ويلاحظ أن غالبية الفقهاء القدامى عقدو عقد القرض والمضاربة على صورة محددة، هي مشاركة صاحب مال مع صاحب عمل في تجارة، حتى إن بعضهم رأى عدم جواز المقارضة في الصناعة، ومنهم من اشترط أن يكون العقد خالياً من شرط الأجل، أعنى بهذا ألا ينص في العقد على تاريخ انتهائه… وإن أجازوا للشريك العامل حق إنهاء العقد حين يشاء. وذلك فيما أرى من الأمور الاجتهادية التي يمكن أن نستأنس بها في تطبيقنا لعقد القراض دون أن نلتزم بها؛ غذ ليست هذه القيود وما شابهها مما نص عليه في الشرع، فإن اعتبروها لازمة لمصلحة مرسلة أعلنوها في عصرهم، فلنا أن نرى غير ما رأوا أن تحققت بغيرها المصلحة المرسلة في عصرنا.

وعندنا أن القراض يمكن أن يتم في عقود أعمال تجارية وزراعية وصناعية وعقارية ومهنية، وأن يحدد أجله بتاريخ ثابت عند الدخول في التعاقد، وأن يكون للشريكين الحق في تقديم المال والعمل، لكل بمقدار ما يقدم؛ إذ ليس في ذلك كله ما يخالف أية قاعدة شرعية. ولا عبرة بمن يقول بأن القراض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتصر على صورة واحدة، وأنه لا يجوز التوسع في ذلك، فذلك قول ساقط لأن صور التعامل كلها حلال – ما عرف منها في عهد الرسالة وما لم يعرف إلا بعدها- ما لم تكن فيه مخالفة صريحة ورد بشأنها نص بالتحريم.

والمقارضة كما بيناها تعتبر في الوقت الراهن من أهم الوسائل التي تستخدمها المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة لاستثمار ما لديها من أموال. أما الصعوبة فيها فهي أنها تحتاج إلى خبرات فنية عالية وإلى كثير من الرقابة والمتابعة، خصوصاً إذا زاولتها المؤسسة على نطاق عالمي واسع.

ج- المشاركة:

هذه الصورة أقرب ما تكون إلى المقارضة المفتوحة ولكنها أعم منها؛ إذ تتضمن أي تعاقد بين المؤسسة وبين غيرها من الأشخاص الطبيعيين أو المعنويين، بقصد القيام بنشاط لتحقيق ربح، من ذلك المساهمة في الشركات الِإنتاجية شريطة أن لا تلجأ هذه الشركات الأخيرة إلى القيام بنشاط يخالف الشرع.

ومن المناسب في هذا المقام أن نقرر أنه لو تجمعت الأموال المدخرة لدى غالبية المسلمين المؤمنين ووضعت في مؤسسات مالية إسلامية يقوم عليها مسلمون لهم دراية وخبرة وعلم بالأحكام الدينية والأوضاع الاقتصادية المعاصرة فإن غالبية الشركات العاملة في بلاد المسلمين –بل في غيرها من بلاد غير المسلمين- ستؤثر أن تتعامل معها دون فائدة أو ربا.

ثانياً: استثمار فيه خلاف:

وهذا كثير ونجمله هنا في نوعين:

أ- استثمار مالي: وأهم صوره ما يأتي:

1– التعامل في الأوراق المالية: يتصور غالبية الناس أن التعامل في بورصة الأوراق المالية يكاد أن يقتصر على شراء أسهم في زمن معين وبيعها مستقبلاً بثمن أعلى، فيتحقق بذلك ربح، فإن هبط الشعر، تحققت خسارة، وبهذا يكون هذا التعامل مقبولاً شرعاً ولا شبهة فيه (هذا إذا تغاضينا عن الاعتراض المتعلق بالتعامل بالفائدة والذي سبق أن ذكرناه).

على أن هذه الصورة من التعامل ليست هي الغالبة في بورصات الأوراق المالية، بل توجد صور أخرى كثيرة معقدة نقتصر منها على ذكر عكس الصورة السابقة. فمثلاً لو توقع شخص هبوطاً في أسعار بعض الأوراق المالية (الأسهم) فإنه عادة ما يتفق مع السمسار على أن يشتري عدداً من هذه الأسهم في تاريخ آجل بالسعر الذي يتوقعه ويبيع عدداً مساوياً من نفس الأسهم بالسعر الحالي، فإن نحقق ظنه كسب الفرق بين السعرين، وإن لم يتحقق وخاب الظن فلم يهبط السعر إلى الحد الذي قدره، دفع الفرق بين ما قدر وما يكون. ويزيد الصورة تعقيداً أن الشخص الذي يقوم بهذه المضاربات في البورصة غير مضطر إلى حيازة فعلية للأسهم، وإنما تتم العملية عن طريق سمسار مرخص له بالعمل يسجل العملية فقط ويسجل نتائجها دون ضرورة لاستلام الأسهم وتسليمها ولو أن ذلك ممكن فعلاً.

الشبهة هنا تنصب على أن النية صريحة في عدم شراء السهم لذاته، بل هي متجهة إلى المضاربة في قيمته السوقية بصرف النظر عن قيمته الحقيقية.

وقريب من ذلك شراء السندات الحكومية منها والأهلية؛ إذ تطرح الحكومة سندات قرض تبيعها في الأسواق، وتطرح هذه السندات بعد تغطيتها أي الاكتتاب فيها وتتفاوت قيمتها من وقت لآخر تبعاً لظروف كثيرة، وشراء السند معناه إحلال المشتري محل البائع في دائنيته. وكثيراً ما يحدث أن تباع سندات القرض بأقل من قيمتها الأسمية، فهل يجوز شراؤها بصرف النظر عن الفائدة التي تدرها؟ وهل يجوز شراؤها من حائز (دائن) لها بسعر مساوٍ لقيمتها الأسمية وهل يستوى أن يكون المدين حكومة أو هيئة غير حكومية؟

2- الودائع الثابتة: استقر العرف في البلاد الغربية على أن يودع من أدخر بعض ماله أو من توافرت له سيولة معينة أن يستفيد من هذا المال المدخر أو المتوافر دون مخاطرة أو عمل، وذلك بأنه يودعه أحد المصارف التي تدفع عنه فائدة ثابتة.

الوديعة هنا ليست الوديعة الواردة في كتب الفقهاء القدامى، حيث يعنون بها ما نعبر عنه في الوقت الحاضر «بالأمانة» وهي ليست استقراضاً من المصرف، أي أنها ليست أمانة ترد بذاتها ولا ديناً يرده المصرف عند حلول أجله، ولكن الأمر في حقيقته هو وجود عقد إيداع بين صاحب المال والمصرف يتنازل فيه الأول عن استعمال ماله لأجل محدد ويعهد به إلى المصرف ويعطي له حق التصرف في المال في الحدود القانونية التي سنتها الدولة وهي إقراض هذا المال للغير لنفس الأجل وبالشروط التي يتفق عليها المصرف مع الطرف الثالث أي المقترض –على أن يدفع المصرف لصاحب المال نسبة محددة من أصل المال وذلك عند انتهاء الأجل.

الشبهات هنا كثيرة، حتى لو قيل أن هذا الإيداع مخالف للربا القرآني، ذلك أن أخذ فائدة من المقترض أمر غير مبرر شرعاً لأنه يخالف شرط الجزاء نظير العمل، فإن قيل أن المصرف قد عمل فعلاً وذلك بتيسير المال للمقترض الذي يحتاج على المال لاستثماره (أي في زيادة أداة الإنتاج) وأن هذا التيسير يخدم مصالح الناس، وبهذا يستحق المصرف أجرا على خدمته، إن قيل هذا فإن الرد عليه وتفنيده هو أن سعر الفائدة (أو أجر الخدمة) لا يتحدد في السوق المالية على أية قاعدة اقتصادية وقد أثبتت المعاملات النقدية في السنوات العشر الأخيرة أن سعر الفائدة لا يتحدد بناء على التقاء منحنى عرض النقود والطلب عليها، ولا على الجهد الذي يقوم المصرف به لتقديم الخدمة (المنفعة الحدية)، وإنما تحدد الفائدة على أساس اعتبارات تحكمية بحتة، فحتى إذا سلمنا جدلاً –ونحن لا نسلم بذلك- أنها أجر، فالشبهة قائمة لأنه ليس أجر المثل، وفيه ظلم، والظلم حرام.

وثمة شبهة أخرى تقوم حين يزعم البعض أن الفائدة هي نظير المخاطرة. ذلك أن المصرف أصلا لا يخاطر حين يقرض المال، بل يقتنص من المقترض من الضمانات ما يصونه من كل خطر، وحينئذ يكون اقتضاء فائدة معينة مع ضمان استرداد الأصل غنم دون غرم وهذا مخالف للشرع.

3- التجارة في العملات الأجنبية:

كثيراً ما يحدث أن تتغير أسعار العملات حين استبدال عملة بأخرى، وكثيراً ما يلجأ بعض أصحاب المال إلى حيازة عملات أجنبية عن عملتهم الأصلية، حتى إذا تغيرت نسبة مبادلة العملتين بحيث تتحقق له فائدة من ذلك، قام بهذه العملية وكسب من وراء ذلك الفرق بين نسبة التبادل الأولى ونسبة التبادل الثانية.

لقد تعمدنا أن نسوق لفظ «التبادل» هنا بدلاً من اللفظ السائد وهو شراء وبيع العملات، وذلك أنه حين استعمال المصطلح الثاني يتبادر إلى ذهن الفقهاء المعاصرين في التو تحريم شراء الذهب بالذهب وما إليه إلا وزناً بوزن مساوٍ ويداً بيد، وحينئذ تثار شبهة الحرمة لقياس النقود الورقية على النقود الذهبية والفضية.

على أن واقع الأمر أن النقود الورقية تمثل «قيمة» أو قوة شرائية معينة في بلد معين في وقت معلوم، وهي وإن اعترت مقياساً للقيمة إلا أن هذا المقياس مع الأسف الشديد يخالف جميع ما يقبله المنطق السليم من بداهة، وهو ثبات المقياس مع تغيير المقيس وهذا التذبذب في «المقياس» -أي النقود- لا يقتصر على بلد واحدة، بل قد أصبح شاملاً عاماً بحيث يوجد الخلاف كل يوم، ومن هنا ينشأ معاملات مالية تقو على المجازفة أشبه ما تكون بالرهان ولا رهان. أعنى أن المجازف يتوقع ارتفاع قيمة عملة ما بالنسبة لعملة أخرى في مستقبل قريب أو بعيد، «فيشتري» تلك العملة الأولى وينتظر زمناً ما حتى إذا ارتفعت قيمتها «باعها» في السوق وحصل على فرق «السعرين».

الشبهات هنا تدور حول أمرين:

الأول: هل يعتبر النقد الورقي بمثابة النقود الذهبية؟

والثاني: هو هل يجوز استبدال نقد ورقي بآخر أو إن شئت هل يجوز شراء وبيع الأوراق النقدية شرعاً؟

قد يرى البعض أن اعتبار النقد الورقي بمثابة النقود الذهبية لا يمنع من تبادلها؛ إذ ليس في الشريعة ما يحرم هذا التبادل، فإن قيل أن هناك شروطاً لمثل هذه المعاملة، أجيب على ذلك بأن الشرط لا يحرم المعاملة وإنما يضبطها، من أجل هذا فإذا تبادل شخص مع آخر عملة بأخرى يدا بيد «قيمة بقيمة» يكون قد حقق شرط جواز المعاملة، وصحت الحيازة من قبل الطرفين فيما تبادلاه من نقود.

ويسري هذا المنطق نفسه حين النظر في الاعتبار الثاني، وهو جواز شراء وبيع العملات الأجنبية؛ إذ أن الله أحل البيع والشراء ولم يرد نص يحرم التعامل في الأوراق النقدية كما نص مثلاً على حرمة التعامل في الخمر وسائر المحرمات؛ وإذ يتحرى كل من البائع والمشتري في حالة العملات القيمة المساوية لكل من العملتين عند إتمام الصفقة؛ وإذ يتبادلان النقود «يدا بيد» أو ما في حكم ذلك، فينتفي إذن تحريم هذا التبادل.

والشبهة التي تثار على هذه المعاملات هي أن الشرع يقتضي في الشراء أن يدفع الثمن (النقود) نظير الحصول على طيبة يستفاد منها لذاتها، فإن قيل أن الذي يشتري الدولارات بالدنانير إنما يقصد بذلك دفع ثمن سلعة يشتريها من أمريكا مثلاً، قيل أن ذلك حلال لا شبهة فيه، أما إن قيل أنه يشتري الدولارات وكأنها «سلعة» يتجر فيها، والدولارات في ذاتها ليست ذات منفعة اقتصادية، وأنه يريد بذلك أن يكسب من فروق الأسعار حين اختلاف القيم التبادلية للعملات، قلنا أن الشبهة قائمة؛ إذ هو كسب دون جهد أو جزاء بلا عمل، وغذ كان تحديد القيم أمر خارج عن إرادة المتعامل في العملات، أصبح شأنه شأن المقامر والميسر حرام.

وقد يرد على ذلك بأن العملة الأجنبية قيمة حين النظر إليها من جانب المشتري أو المقتني لها، وهي تمثل سلعاً حقيقية، وليس هناك تحريم وارد على من يشتري سلعة في الوقت الحاضر على أن يبيعها مستقبلاً، ويمكن أن يجاب على ذلك أن القياس مع الفارق؛ إذ القيمة الثمنية نسبة بين طيبتين (أو سلعتين). وليست في ذاتها طيبة أو سلعة، فقياس أحداهما على الأخرى غير صحيح على الإطلاق.

ب- استثمار تجاري: وأهم صوره

1- تمويل خطاب الاعتماد: ومقتضى ذلك أنه حيث يفتح أحد المستوردين خطاب اعتماد لأحد المصدرين لدى مصرف ما، فإنه يتعهد بالدفع حين يتحقق له (أو لدى مصرفه) أن المصدر قام فعلاً بتسليم البضاعة، والشبهة التي قد تثار تنشأ حين يطلب المستورد من مصرفه أن يتعهد المصرف بدفع كامل القيمة عند التسليم المتفق عليه وأن يفي بهذا التعهد أي يدفع بالفعل كل القيمة على أن يسددها له بعد أجل.

جرى عرف المعاملات التجارية على أن يتقاضى البنك عمولة على هاذ الاعتماد يضاف إليها فائدة على المبالغ المدفوعة تحتسب على أساس المدة بين الدفع إلى المصدر والوفاء من قبل المستورد.

والشبهة على تقاضي الفائدة ثابتة، أما العمولة فالشبهة فيها ناشئة عن الفظ؛ إذ واقع مدلوله أنه أجر، وبذلك تنتفي الشبهة فيه.

2- التأمين التجاري: يرى البعض أن التأمين على الأشياء (وهو ما سوى التأمين على الحياة) فيه شبهة، ومثله أيضاً إعادة التأمين. أما مثار الشبهة فهو عند البعض محاولة ادراء قضاء وقدر، وعند البعض ينصب المثار على أن تعويض المؤمن له يستمد من عائد استثمار الأقساط في إقراض ربوي أو إقراض بفائدة.

أما الاعتراض الأول فهو ساقط، لأن مدلول عقد التأمين اتفاق عدة أطراف على تعويض من يتعرض لخطر قضاء وقدران على أن يدفع التعويض من أقساط المستأمنين، وليس في ذلك كله شبهة. أما أن شركة التأمين تستثمر أموالها أو بعضا منها في اقراض بفائدة، فذلك أمر آخر غير التأمين ومن الممكن فعلا –وهو واقع- أن يستثمر المال في مجالات يحلها الشرع ولا شبهة فيها. ويسرى هذا الوقع على إعادة التأمين.

3- خصم الكمبيالات والسندات الأذنية: (الأوراق التجارية)

كثيراً ما يتم البيع على أن تسلم البضاعة في الحاضر ويدفع الثمن آجلاً، وفي هذه الحالة يتعهد المشتري بالدفع في الآجل المحدد. ثم أن الدائن كثيراً ما يلجأ إلى أحد المصارف ويخصم سند الدين لديه. ومعنى ذلك أن يعطي المصرف حق تحصيل الدين نظير أن يقبض مبلغاً أقل من قيمة الدين موضوع السند، وبذلك يستفيد من المال الحال.

ومعلوم بداهة أن قيمة الورقة التجارية عبارة عن ثمة البضاعة الحال رائداً قدراً من المال نظير الدفع الآجل. ومعلوم أن أهل المدينة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صحة معاملتهم قبل الإسلام في بيع السلعة بثمن آجل بسعر أعلى من سعرها الحاضر فأباحه.

الشبهة هنا تقوم عند فقهائنا المعاصرين نظراً لصعوبة تكييف الخصم هذا تكييفاً يتمشى مع صور المعاملات التي وردت في الفقه القديم. فالخصم ليس حوالة للدين، وليست شراء مقطوعاً له، وليست عملة اقتراض من قبل المستفيد من الورقة التجارية وليست وكالة بالمعنى الشرعي. وأصل الاعتراض هو: لماذا يتقاضي المصرف جزاء على خصم الورقة التجارية والحال أنه يعود على المستفيد الأصلي إذا عجز عن تحصيل الدين؟ وهذا في الحق سؤال وجيه، قد يجاب عليه بأن المستفيد إنما تقاضى أكثر من حقه نظير الأجل، أي نظير حرمانه من البضاعة ومن ثمنها حتى تاريخ الوفاء، فإن هو أعطى الثمن من قبل المصرف يوم عقد الصفقة (أي بتاريخ الورقة التجارية) فإنه يكون قد استوفى حقه من غير مظلمة أو ضرر وضرار، وإذا أوفاه المصرف حقه فما زاد عنه فهو لمن عوضه عن الانتظار. وهنا تقوم الشبهة الربوية لدى الفقهاء المعاصرين؛ إذ يعتبرون المعاملة ربوية لأن المصرف لا يتحمل خطر عدم وفاء المدين وأن الأخلق به ألا يتقاضى الفرق بين الثمن الآجل والثمن العاجل؛ إذ لا يقر الشرع أن يدفع «للوقت» ثمنا في حالة الاقتراض.

وإذ كان الخصم ليس اقتراضا، بل هو حالة خاصة مستحدثة في المعاملات التجارية، فإن في الشبهة ما يستحق إمعان النظر من جديد.

وهناك أنواع كثيرة أخرى من الاستثمارات، كالتعامل مع بورصات الذهب والفضة، وشراء المعدنين بالنقود الورقية، والتعامل على المكشوف في بورصات البضائع، وفي كل هذه الحالات وما شابهها تقوم دائماً شبهات تدور حول حقيقة النقود وحول الفائدة في أية صورة من صورها المتعددة، ويكاد المرء يصطدم بالأمرين في كل معاملة تتم في ظل النظام الاقتصادي الرأسمالي أو الحر (الليبرالي). ويطول بناء البحث لو عالجنا كل معاملة على حده، والأغلب أن تتكرر الشبهات والاعتراضات والردود قياساً على ما سبق ذكره.

وجماع القول، أن الاستثمار الإسلامي لا يمكن أن يتحقق بصورة خالية م الشبهات إلا إذا وجد النظام الاقتصادي في ظل الشرعة الإسلامية وهذا يقتضي أن يوجد الحكم الإسلامي، وإلى أن يتم ذلك فعلى المسلم أن يتحرى الحلال ما استطاع، فمن اضطر غير باغ فلا أثم، وليحترز المسلم من الضرر والضرار، أي من أن يضر غيره أو يضر بنفسه، فذلك ظلم، والله لا يرضى الظلم لعباده.

إن الإسلام في صحوة يتوثب إلى حياة جديدة وبعث جديد، وأن جهاد المسلمين طيلة القرون الماضية قد بدأ يبدو زهرة وينعقد ثمره، وواجبنا اليوم أن نواصل هذا الجهاد. وأن ندأب في السعي، وأن نعقد العزم على ألا نغفل غمضة عين عن مثلنا الإسلامي الأعلى، وألا ننخدع بحضارة غربية لسنا منها وليست منا، وأن نجهد في تنقية معاملاتنا ما وسعنا الجهد من شوائب الحرام الذي جرته علينا حضارات الغرب التي فرضت علينا قسراً.

الاستثمار الإسلامي، والحكم الإسلامي، والمجتمع الإسلامي، والقيم الإسلامية… كل أولئك ليس إلا أمراً واحداً هو: إسلام أو لا إسلام.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)

 

 

المبحث الأول

 

ثلاث مسائل أساسية

 

(1) واقع البيئة كمنطلق للتخطيط

 

عند التخطيط لمشروع المصرف اللاربوي، يجب على الباحث أن يميز بين موقفين:

 

الموقف الأول يتم فيه التخطيط لإنشاء المصرف الإسلامي مع افتراض بقاء الإطار العام الإسلامي الراهن للمجتمع على ما هو عليه، أي مع افتراض ثبات الأوضاع والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية القائمة.

 

والموقف الثاني يفترض فيه أن يتم وضع مشروع المصرف اللاربوي ضمن تخطيط عام شامل للمجتمع يتضمن وضع خطة إسلامية شاملة لحكم كافة نواحي الحياة في المجتمع. وبذلك يكون المصرف اللاربوي جزءاً من صورة إسلامية شاملة لكل المجتمع.

 

إن هذين الموقفين يختلفان اختلافا أساسياً.

 

في الموقف الأول يتم تطبيق حكم تحريم الربا على مصرف واحد. بينما تتعامل سائر المؤسسات المالية والمصرفية بنظام الفوائد الربوية، وهو ما يعني بقاء كثير من جوانب الاقتصاد الإسلامي معطلاً عن التنفيذ. وفي ظل هذا الموقف تفرض على تجربة المصرف اللاربوي الأرضية والإطار، اجتماعياً واقتصادياً وقانونياً، بصورة مسبقة. وهو ما يجعل خطة المصرف اللاربوي غير مرنة ولا حرة في اتخاذ أفضل الصيغ لها من الناحية الإسلامية. بل إنها مضطرة إلى اتخاذ صيغة صالحة للعيش في ظل هذا الإطار. وهذه التجزئة في مقام التطبيق سوف لا تسمح للتطبيق الجزئي المحدود لحكم تحريم الربا أن يؤتي كل ثماره التي يمكن أن يحققها في ظل الموقف الثاني، حيث يتم تطبيق حكم تحريم الربا ضمن تطبيق شامل لأصول ومبادئ الاقتصاد الإسلامي الأخرى، بما لا يحدث أية ضغوط على المصرف اللاربوي.

 

والواقع أن الباحث لا يستطيع إلا أن يخطط لمشروع المصرف اللاربوي بروح الموقف الأول، حيث أن صياغة الإطار الإسلامي الشامل للمجتمع، نظرياً وتطبيقياً، لم يزل أمامه شاو بعيد. ومع ذلك فإن هذا لا يشكل عذراً عن التطبيق الشرعي لأي مبدأ من مبادئ الاقتصاد الإسلامي حيث يمكن، لأن كل حكم من أحكام الإسلام واجب التطبيق على أية حال، سواء طبقت بقية الأحكام أم لا. كما أن التطبيق الجزئي لحكم إسلامي بعينه ينحو بالمجتمع نحو إمكانية التطبيق الشامل لأحكام الشرع الحنيف.

 

(2) اشتراطات أساسية في التخطيط للمصرف الإسلامي

 

وعلى العموم، فإن الخطة المقترحة للمصرف اللاربوي، إنما ينبغي عليها أن توفر المتطلبات التالية([6]):

 

أولاً: أن يكون النموذج المنشود مستمداً من التركيب الأصلي للمجتمع، ومشتقا من العادات الاجتماعية والاقتصادية والمالية السائدة بقدر الإمكان.

 

ثانياً: ألا يكون النظام المقترح لعمل المصرف مخالفاً لأحكام الشريعة الإسلامية، وخاصة لحكم تحريم الربا، مهما كان سعره.

 

ثالثاً: أن يكون النموذج المنشود على بصيرة ووضوح في أهدافه، وعلى وعي عميق في نفس الوقت بخصائص الواقع الذي يعيش فيه.

 

رابعاً: ألا تضع الصيغة الإسلامية لعمل المصرف أمامه أية تعقيدات أو تناقضات في ممارسة نشاطه اللاربوي، مع مواكبة أنشطة وكيانات المؤسسات الربوية القائمة، وهو ما أقصد به أن يكون المصرف قادراً على التحرك والنجاح في ظل الجو الربوي الفاسد حوله.

 

خامساً: أن تتيح الصيغة الإسلامية للمصرف اللاربوي فرصة النجاح، بوصفه مؤسسة تجارية تهدف إلى تحقيق الربح، وبوصفه مؤسسة مصرفية تؤدي للمجتمع نفس الدور الذي تضطلع به المصارف الربوية، من تجميع الأموال وإتاحتها للاستثمار في مختلف قطاعات الاقتصاد، وتنمية وسائل الدفع وتسوية المدفوعات، فضلاً عن دفع عجلة التنمية الاقتصادية في البلاد الآخذة في النمو. وبوصفه مؤسسة إسلامية تعكس مدى حيوية ومرونة أحكام الشريعة الإسلامية وصلاحيتها للتطبيق في العالم المعاصر والمستقبل بكل ما يأتي به الغد من تطور في التنظيمات والأساليب.

 

سادساً: أن تتوفر للمصرف اللاربوي الأدوات والوسائل التي يستطيع أن يحرك بها الواقع لصالحه ولخدمة المجتمع حوله. وهذه الأدوات والوسائل هي: القيمة العظمى التي للدين في نفوس الأفراد، والقيمة الضخمة للنقود في التأثير على تصرفاتهم.

 

(أ) فلا شك أن الدين يعتبر عاملاً حاسماً ومحدداً لسلوك الأفراد في المجتمع الإسلامي عامة. الأمر الذي يفترض تأثر المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بتعاليمه، فضلاً عن إمكانها الاعتماد على أصول الدين كقوة دافعة للنجاح بالنسبة لهذه المؤسسات، لما لهذه الأصول من مكانة كبيرة في حفز مشاعر الأفراد وتوجيه سلوكهم.

 

كثيرون هم الكتاب الغربيون الذين رأوا الأديان عامة، والإسلام خاصة، عقبة في سبيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية([7]). بينما يرى الباحث رأي غيره من المفكرين الإسلاميين الذين ينفون أي تعارض على الإطلاق، بين تعاليم الإسلام وأسس النمو الاقتصادي والاجتماعي السليم.

 

ولما كانت معظم المؤسسات الحكومية، بشكلها وتركيبها الراهن، لا تحظى بثقة الجماهير، مما يعكس انعدام المشاركة الاجتماعية منهم في أداء رسالتها، فإن هذا مما يؤكد أهمية دور المؤسسات ذات الطابع الديني، وبالذات في مجال تعبئة مدخرات الجماهير الإسلامية لتشارك، مشاركة إيجابية فعالة، في تنمية المجتمعات الإسلامية المعاصرة.

 

(ب) أما الدور الخطير، الذي تأكد للنقود في مجال تشكيل علاقات الأفراد وتصرفاتهم، فإنه غير منكور الآن. ولقد دلت نتائج البحوث النفسية أن النقود إنما تؤثر في الإدراك الحسي للفرد. صحيح أن النقود في ذاتها، ليست شيئاً على الإطلاق، ولكنها من حيث كونها حقاً على رصيد المجتمع من السلع وتيار الخدمات، قد استطاعت أن تخدع كثيرين من العامة، بحيث اعتقدوها ثروة في ذاتها. وبالتالي انصرف همهم الأكبر إلى جمع أكبر قدر منها. وهنا يظهر دور النقود كوجه حقيقي لسلوك الأفراد، ومحدد فعلي لاتجاهاتهم.

 

من المؤكد أن المصرف اللاربوي سوف يسعى إلى استغلال هذه الأهمية الكبرى للنقد في التأثير عل سلوك الأفراد واتجاهاتهم. ذلك أنه لن يرفع شعار التنازل عن الكسب مرضاة لوجه الله وتعاليم الدين، فلم يعد من المعقول أن يقبل أحد هذا الشعار اليوم، ولكنه ينزل هذا الكسب منازله المشروعة. بل أنه قد يضمن معدلاً من الكسب لأصحاب الودائع يفوق معدل الفوائد التي تستطيع المصارف الربوية منحهم إياها، وهو ما يؤدي إلى جذب حجم أكبر من الودائع. ومن ثم يتعامل الأفراد مع المصرف اللاربوي بتأثير من الدين والدنيا معا.

 

سابعاً: ولكي يستطيع المصرف اللاربوي أن يحقق الأهداف المنشودة منه، ينبغي له أن ينهض بثلاثة واجبات رئيسية هي:

 

(‌أ)    التربية الادخارية. وأقصد بها توجيه الأفراد نحو ترشيد طرق إنفاقهم بما يجعلهم يحصلون على أقصى إشباع من الإنفاق، فضلاً عن تنظيم مدخراتهم بما يعود عليهم والمجتمع بالنفع.

 

(‌ب)   التربية الائتمانية. وأقصد بها تدريب المواطنين على طلب واستخدام القروض بما يوجه المدخرات إلى مشروعات الاستثمار الأكثر إنتاجية والأوفر عائدا.

 

(‌ج)   إعداد مركز للبحث الاقتصادي يكون أحد أهدافه هو التغلب على أية صعوبات قد تعترض نشاط الاستثمار وأيضاً البحث عن أفضل فرص لتثمير ودائع المصرف في إطار الظروف الاقتصادية المختلفة.

 

(3) معالم السياسة المصرفية في الإسلام

 

في ضوء المتطلبات السابقة، يستطيع الباحث أن يحدد المعالم الرئيسية للسياسة المصرفية اللاربوية فيما يلي([8]):

 

أولاً: الاتجاه إلى إبراز دور وأهمية العمل البشري بوصفه المصدر الفعلي والحقيقي للدخل من الأعمال المصرفية، والاتجاه عكسياً إلى إلغاء دور رأس المال، كمصدر للدخل، في النشاط المصرفي.

 

ويتمثل هذا الاتجاه، من ناحية أولى، في تأكيد المصرف اللاربوي على العمولة بوصفها أجرة عمل. واهتمامه بتوسيع نطاق عمله وتنمية دخله القائم على أساس العمولات. كما يتمثل نفس الاتجاه، من ناحية أخرى، في تعفف المصرف عن فائدة القرض بوصفها أجرة لرأس المال.

 

ثانياً: الاتجاه إلى تجسيد روح الوساطة في الدور الذي يمارسه المصرف بين المودعين والمستثمرين. وهو ما يتأكد بصياغة الموقف القانوني للمصرف بما يبرز هذه الوساطة.

 

فالحق أن الطبيعة الاقتصادية البحتة للعلاقة التي يبنيها المصرف بين المودعين والمستثمرين، هي الوساطة بين رأس المال والعمل. على أن سيادة الروح الرأسمالية في أنشطة المصارف قد أوجدت تكييفاً قانونياً لأعمال المصارف يقوم على قطع الصلة بين المودعين والمستثمرين، بإقامة علاقتين قانونيتين مستقلتين:

 

إحداهما علاقة المصرف بالمودعين، بوصفه مديناً وبوصفهم دائنين، والثانية علاقة المصرف بالمستثمرين، بوصفه دائناً وبوصفهم مدينين. ومعنى هذا أن المصرف لم يعد في الصورة القانونية مجرد وسيط، بل أصبح طرفا أصيلاً في علاقتين قانونيتين. وانعدمت بحكم هذا التصوير أية علاقة مباشرة بين رأس المال والعمل، أي بين المودعين والمستثمرين ولكن علاقة كل طرف من هذين الطرفين إنما تكون مع المصرف قط لا غير. فالمصرف، بوصفه مدينا للمودعين، يدفع لهم الفوائد الدائنة. وبوصفه دائناً للمستثمرين يتقاضى منهم الفوائد المدينة التي يكون معدلها بالقطع أكبر من الأولى. والتعامل بالفوائد، سواء في الإيداع أو الاقتراض هو ضرب من الربا المحرم في الإسلام.

 

والواقع أن القضاء على النشاط الربوي للمصرف إنما يقوم على إلغاء هذا التكييف القانوني لنشاط المصرف، والعودة إلى تأكيد دور الوساطة في النشاط المصرفي بين المودعين والمستثمرين، وهو ما يؤدي إلى أن يصبح كسب المصرف من هذه العملية بمثابة عمولة وساطة، بما يبعد به عن دائرة الربا المحرم.

 

ثالثاً: استعداد المصرف اللاربوي لتحمل أعباء وصعاب التجربة الرائدة، بهدف تحقيق التجسيد الحي لأحد مبادئ الإسلام الأصيلة. وأقصد بذلك استعداد المصرف للتضحية بشيء من الربح، وتقبله للمخاطر التي لابد أن تلازم حداثة التجربة. وهو ما يعني أن تكون المصرف رسالة عقائدية. فليس عمل المصرف عملاً تجارياً فحسب، بل هو، بالإضافة إلى ذلك وقبل كل شيء، أسلوب جهاد وحمل لأعباء رسالة مقدسة لإنقاذ المجتمع من براثن الضلال.

 

رابعاً: البحث عن متنفس للمصرف اللاربوي يستطيع عن طريقه أن يمارس أسلوب الاقتراض بلا فائدة في محيط بيئة قوامها الربا، وخاصة في بداية تطبيق نظام المصرف اللاربوي، وهذا يتأتي عن طريقين:

 

الأول: هو قيام الحكومة الإسلامية بدعم المصرف. إما بالاكتتاب في رأس ماله، أو بمده بالقروض الطويلة الآجل بلا فائدة، وإما بالمساعدات، وإما بها جميعاً، كما يستطيع المصرف أن يتلقى تبرعات المسلمين العقائدين الذي يؤمنون برسالة المصرف، فضلاً عن الودائع التي تجذبها الرغبة في الربح تبعاً للنظام المتبع في المصرف.

 

والثاني هو أن يقوم المصرف بوضع أرصدته على شكل ودائع بفوائد في بنوك افراد غير مسلمين أو مصارف حكومات لا تدين بالإسلام وإذا احتج أحد بأن المصرف عند ذلك يأكل الربا، فالرد هو أن الوضع الراهن لهذه المصارف، وأصحابها غير المسلمين، هو المسئول عن الحرج والخطر الذي يحدق بالمصرف الإسلامي في ممارسته لنظام اللاربا. والتخريج الفقهي لهذا المسلك هو الرأي المجمع عليه بين أئمة المذاهب الأربعة([9])، والقائل بجواز إقراض الكافر غير الذمي بالربا، وأخذ الزيادة منه.

 

 

المبحث الثاني

 

طريقة تشغيل النموذج

 

إن منطلق التخطيط لمشروع المصرف اللاربوي، هو الارتكاز على التصنيف التقليدي للودائع المصرفية إلى ثلاثة أقسام هي: الودائع الثابتة (الودائع لآجل) ثم الودائع المتحركة (الودائع الجارية) وأخيراً ودائع التوفير. وقد سبق للباحث التمييز بين هذه الأقسام الثلاثة.

 

ويناقش النموذج كيفية إلغاء عنصر الفائدة الربوية في إطار هذه الأقسام الثلاثة للودائع على التوالي:

 

 

القسم الأول

 

الودائع الثابتة

 

المطلب الأول

 

مفهوم المضاربة في الشرع الإسلامي

 

أن عمليتي إيداع الودائع الثابتة لدى المصارف، وقيام المصارف على إقراضها، يمكن إدماجها في علاقة فقهية اصطلاحية واحدة، تعرف بعقد المضاربة أو «القراض».

 

والمضاربة عقد بين اثنين يتضمن اني دفع أحدهما للآخر مالا، ليتجر به، بجزء شائع معلوم من الربح، كالنصف أو الثلث أو نحوهما، وتعود الخسارة، إن وقعت، إلى صاحب المال بأكملها([10]).

 

واختلف الفقهاء في دليل المضاربة، فمنهم من قال بأن كل من دل على جواز البيع، وعلى جواز الإجارة، وعلى جواز الوكالة، دل عليها. ومن هؤلاء «أبو الطيب صديق حسن» الذي قال «وبيان ذلك أن المالك للنقد إذا دفعه إلى آخر، ووكله بالشراء له بنقده ما رآه ووكله أيضاً ببيعه، وجعل له أجرة على تولي البيع وتولي الشراء. وهي ما سماه له من الربح، فذلك جائز. وجواز البيع والشراء داخل تحت أدلة البيع والشراء. وجواز التوكيل بهما داخل تحت أدلة الوكالة. وجواز جعل جزء من الربح للوكيل داخل تحت أدلة الإجارة»([11]).

 

ويورد «ابن حزم» ما نصه «القراض كان في الجاهلية.. فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في الإسلام، وعمل به المسلمون عملاً مستيقناً لا خلاف فيه. وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم على قراض بمال خديجة. وتقريره صلى اله عليه وسلم أحد أركان السنة. وقد أجمع المسلمون على صحته»([12]).

 

وقال «ابن رشد»:«لا خلاف بين السملمين في جواز القراض. وأنه مما كان في الجاهلية وأقره الإسلام»([13]).

 

شروط المضاربة:

 

يرى السلف من الفقهاء أن المضاربة لا يتحقق كيانها إلا بشرطين أساسيين، هما:

 

1-  لا يجوز اشتراط ضمان المال على عامل المضاربة. فإذا تلف جزء من رأسمال المضاربة فإنه في أول الأمر يخصم من الربح، وذلك لأن الربح تبع، ورأس المال أصل، فينصر الهالك إلى التبع. فإذا جاوزت الخسارة حجم الربح، فإنها تنال من أصل مال المضاربة. ولا يتأثر بها عامل المضاربة. وبالجملة فإن الضرر والخسارة عائدان على رب المال وحده([14]) فإذا شرط تحمل عامل المضاربة لجزء من الخسارة، كان عقد المضاربة باطلاً، على أنه إذا لم تتمخض المضاربة عن ربح، فلا نصيب لعامل المضاربة.

 

2-  أن طرفي عقد المضاربة (رب المال وعامل المضاربة) يقتسمان الربح بالنسبة التي يتفقان عليها، بشرط أن تكون حصة كل منهما في الربح جزءاً شائعاً، كالنصف أو الثلث أو الربع. فإذا شرط لأحدهما مقدار معين من الربح فسدت المضاربة([15])، لاحتمال أن الربح لا يأتي زائداً على ذلك المقدار المعين، فتمتنع، بذلك، الشركة فيه، ويفوت بالتالي، الغرض من المضاربة. والقاعدة هي أن كل شرط يوجب قطع الشركة في الربح، أو يوجب الجهالة فيه، فإنه يفسد المضاربة كذلك فلا نصيب لعامل المضاربة في غير الربح. فلو شرط له نصيباً من رأس المال فسدت المضاربة.

 

ويلاحظ الباحث:

 

أولاً: أن عقد المضاربة تتعدد مراحل صفاته، فعند العقد وكالة دائمة وبعد التصرف بضاعة، أي يرجى الربح منها، وبعد الربح شركة، فإذا فسدت فاجارة، وإن خالف فغرامة، أي يضمنها([16]).

 

ثانياً: يجوز لرب المال أن يشترط على المضارب فيما يتعلق باستعمال مال المضاربة. فإذا ما كانت المضاربة مقيدة فلا يجوز للمضارب أن يخالف شروطها، وإلا صار غاصبا، وصار الربح له والخسارة عليه، كما أنه إذا تلف مال المضاربة كان له ضامناً، بحكم الغصبة من وقت المخالفة.

 

ثالثاً: أن سبب استحقاق المضارب لحصته من الربح هو عمله. كما أن رب المال يستحق نصيبه من الربح بسبب ماله. وعلى ذلك إذا فسدت المضاربة إلى الربح كله لرب المال، على أن يكون للعامل المثل، بشرط ألا يتجاوز ما كان مشروطاً له في عقد المضاربة. هذا إذا أتت المضاربة بربح، فإن لم يكن ربح فلا أجر له.

 

رابعاً: حاول كثير من الفقهاء المعاصرين أن يزللوا من شروط عقد القراض. فقد أفتى الإمام «محمد عبده» بجواز تحديد نصيب رأس المال من الربح، بحظ معين من الكسب دون رأس المال([17]) ذاته، ولا شك أن هذه الفتوى إنما تؤدي إلى فساد المضاربة، وإن كان اشتراط تعيين حظ رأس المال من الربح، لا يكفي بمفرده للزج بالمعاملة في نطاق الربا الجلي.

 

ويرى المرحوم الدكتور «عبدالوهاب خلاف» أن اشتراط عدم تحديد نصيب احد طرفي المضاربة من الربح، كمبلغ معين، هو اشتراط لا دليل عليه([18]). ويذهب الشيخ «عبدالرحمن عيسى» إلى أن تحديد نصيب رأس المال من ربح المضاربة بمبلغ معين هو أمر جائز شرعاً، متى كانت الحكومة أو إحدى مصالحها التي تضارب في هذا المال، جازمة بحصول ربح أكثر مما تعطي. ثم قرر ان اصل المضاربة لا يستند إلى دليل من الكتاب أو السنة.

 

ومن ثم فإذا كان أصل المضاربة اجتهادياً فمسائلها تكون اجتهادية([19]). واستند الشيخ في ذلك على قول «ابن حزم»:،«كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب أو السنة، حاشاً القراض، فما وجدنا فيها أصلاً البتة». والواقع أن الشيخ يكون بذلك قد نقل صدر القول الذي نسب لابن حزم، لأنه يؤيد ما ذهب غليه، وترك عجز الحديث، لأنه يؤكد ثبوت القراض بالسنة التقريرية. فقد نقل «ابن حجر» عن ابن حزم، أنه قال في مراتب الاجماع «كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب والسنة حامل لقرض، فما وجدنا لها أصلاً فيها البتة. ولكنه إجماع صحيح، والذي تقطع به إنه كان في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فعلم به وأقره، ولولا ذلك لما جاز»([20]).

 

المطلب الثاني

 

واجبات وحقوق العضوية في المصرف اللاربوي

 

إن أعضاء المضاربة المقترحة في إطار النموذج المقدم عن المصرف اللاربوي هم ثلاثة كالتالي([21]):

 

1-     المودع أو المضارب، وهو صاحب المال.

 

2-     المستثمر أو عامل المضاربة.

 

3-     المصرف، بوصفه وسيطاً بين الطرفين، ووكيلا عن صاحب المال في الاتفاق مع عامل المضاربة.

 

أولاً: واجبات العضوية

 

أعنى بها اشتراطات العضوية أو الالتزامات التي تقع على عاتق الأعضاء.

 

أ- بالنسبة للمودع

 

1-  يلتزم المودع بإبقاء وديعته لأجل لا يقل عن ستة أشهر، تحت تصرف المصرف. وتكون الوديعة خلالها غير قابلة للسحب.

 

2-      يوافق المودع على صيغة المضاربة التي يقترحها المصرف، كما يسلم بالشروط الواردة بهذه الصيغة.

 

3-  يفتح المودع حساباً جارياً بالمصرف. على أنه يمكن إلغاء هذا الشرط عند انتعاش ظروف المضاربات التي يجريها المصرف، وازدياد حاجته إلى الأموال. وفي ذلك ما يجذب مودعين جدد، خاصة أنه لا اشتراطات للمصرف فيما يتعلق بالحد الأدنى للوديعة. فالمصرف يقبل الودائع مهما كانت ضئيلة.

 

ب- بالنسبة لعامل المضاربة

 

1-  أن يكون أميناً، وأن يشهد على أمانته ووثاقته شخصان يعتمدهما المصرف. ويفضل من كان له سبق تعامل حسن مع المصرف على غيره.

 

2-  أن يكون كفؤاً وقادراً على استثمار الأموال التي سيأخذها من الصمرف، لتوظيفها في مجال قليل المخاطرة، وتكون للمستثمر خبرة ودراية سابقة به.

 

3-  أن يكون موضوع المضاربة واضحاً ومفهوماً ومحدداً بالنسبة للمصرف، حتى يستطيع أن يتوقع، على وجه التقريب، النتائج المحتملة للعملية. ويمكن للمصرف أن ينشئ كغيره من المصارف، شعبة تختص بعمل البحوث الاقتصادية، تكون مهمتها التحري عن ظروف السوق ومجاري الاستثمار المتاحة والمجزية، وعمل التنبؤات الخاصة بفرص الاستثمار المستقبلة في فروع النشاط الاقتصادي المختلفة. وهذه المعلومات سوف تعين إدارة المصرف في متابعة المضاربات القائمة، فضلاً عن فحص ودراسة المضاربات التي يتقدم بها إلى المصرف مستثمرون جدد، بما يقي المصرف مخاطر تلاعب المستثمرين.

 

4-     يوافق المستثمر على شروط المضاربة التي يفرضها المصرف، من حيث:

 

‌أ-         كيفية تقسيم الأرباح الناجمة عن المضاربة.

 

‌ب-  أن يفتح بالمصرف حساباً جارياً خاصاً بالمضاربة، يودع فيه ودائعها المتحركة، وبذلك تتم جميع الأعمال المالية الخاصة بالمضاربة بواسطة المصرف.

 

‌ج-   يلتزم المستثمر بإمساك سجلات دقيقة ومضبوطة، لبيان مسالك استثمار مال المضاربة. (ويمكن إلزامه بأن تكون سجلاته قانونية، وذلك بشهادة محاسب قانوني).

 

‌د-        يخصص المصرف ملفاً مستقلاً لكل عملية مضاربة، يرفق به كل ما يتعلق بها من مستندات ووثائق، ابتداءاً من عقد المضاربة. ويلتزم المستثمر بتزويد المصرف بصورة من كل المستندات والبيانات المتعلقة بالمضاربة وحتى انتهاء العقد. ويحدد المصرف طريقة اتصال المستثمر به لتزويده بالمعلومات سواء عن طريق البريد أو الهاتف أو استمارات خاصة يعدها المصرف لهذا الغرض.

 

ثانياً: حقوق العضوية

 

أ- بالنسبة للمودع

 

1- ضمان الوديعة: تظل كل وديعة محتفظة بملكية صاحبها لها، فلا تنتقل ملكيتها إلى المصرف، كما هو الحال في المصارف الربوية. غير أن الودائع لا تبقى في معزل عن بعضها، بل يستعمل المصرف، بإذن أصحاب الودائع، الإجراء الشرعي الذي يجعل إجمالي الودائع ملكاً مشاعاً لمجموع المودعين. حيث يكون لكل مودع من هذا الإجمالي بمقدار نسبة وديعته إلى مجموع الودائع. وبذلك يصبح صاحب المال، في أي عقد مضاربة هو المجموع الكلي للمودعين، ويمثل المصرف إرادتهم، بوصفه وكيلاً عنهم. كما أن أية وديعة ثابتة ترد على المصرف تدخل في بحر الودائع الثابتة الحاوي لمجموع هذه الودائع.

 

ويقوم المصرف بضمان الوديعة الثابتة، وذلك بالتعهد برد قيمتها للمودع عند الخسارة([22]).

 

2- العائد: يستطيع المصرف أن يضمن للمودعين في عقود المضاربة نسبة مئوية من الربح يحددها المصرف بموافقة عامل المضاربة.

 

أن هذا الحكم من شأنه أن يربط عائد المودعين بنتائج المشروعات التي يمولها المصرف عن طريق المضاربة. فإن تحل الربح كان للمودعين نصيبهم المقدر منه، وإن لم يكن فليس لهم شيء. وهذا على العكس من الفائدة الثابتة والمضمونة التي يتحصل عليها مودعوا الودائع الثابتة لدى المصارف الربوية. ومع ذلك فإن احتمال عدم الربح احتمال نظري بحت، لأن وديعة أي فرد لن تخصص بمفردها لمضاربة مستقلة، بحيث يتوقف ربح صاحبها على نتائج هذه المضاربة بذاتها، ففي امتزاج الوديعة بغيرها في بحر الودائع الثابتة ما يجعل المودع طرفا في كل المضاربات التي يعقدها المصرف، ومن ثم يكون احتمال عدم الربح منوطاً بألا تربح جميع المضاربات، وهو احتمال نظري كما سبق.

 

ويرى الباحث، بحكم الظروف الموضوعية التي تحيط بنشأة المصرف اللاربوي، ألا تقل حصيلة النسبة المئوية من الربح، والتي توزع على المودعين، عن عائد الفائدة الثابتة التي تدفعها لهم المصارف الربوية، حتى لا ينصرف المودعون إلى تلك الأخيرة. بل وينبغي أن تزيد حصة الربح بالنسبة لأية وديعة ثابتة يضارب بها في المصرف اللاربوي شيئاً ما عما تستطيع الوديعة نفسها أن تحصل عليه في صورة فوائد، بإيداعها لدى المصارف الربوية، وذلك حتى يتساوى عرض المصرف اللاربوي مع عرض المصرف الربوي في قوة الإغراء والجذب لرؤوس الأموال. ذلك أن في هذه الزيادة ما يعوض تقلب معدل الفائدة على الودائع لدى المصرف اللاربوي بمقارنة ذلك بثبات معدل الفائدة بالمصارف الربوية.

 

والاقتراح هنا أن تتحدد هذه الزيادة بدرجة احتمال انخفاض حصيلة الوديعة الثابتة من أرباح المضاربات القائم بها المصرف عما يمكن أن تحصل عليه من فوائد، بايداعها في مصرف ربوي. أن هذا الانخفاض قد يعود إلى الظروف الموضوعية المحيطة بعمليات الاستثمار أو إلى عدم مقدرة المصرف على توظيف كل الودائع الثابتة لديه، حيث يبقى بعضها معطلاً عن الاستثمار. وهذا يعني أن هناك مخاطرتين([23]): إحداهما متعلقة بالظرف العام للاستثمار. والثانية ناتجة عن عدم التوظيف الكامل للودائع الثابتة من حيث الحجم أو المدة وبأخذ هاتين المخاطرتين في الاعتبار، فلأنه ينبغي تحديد حصة المودعين من الربح، كنسبة مئوية من أصل الودائع الثابتة، على النحو التالي:

 

الفائدة الربوية الجارية + الفائدة × مخاطر عدم الحصول على ربح كاف بسبب الظرف العام للاستثمار + الفائدة × مخاطر عدم التوظيف الكامل.

 

فإذا ما كانت الفائدة الربوية السائدة بالسوق 40%، وكانت مخاطر عدم الحصول على ربح كاف بسبب الظرف العام للاستثمار في حدود 30%، ومخاطر عدم التوظيف الكامل للودائع في حدود 20%، فإن حصة المودع من الربح تقدر كالآتي:

 

0.04 + 0.04 + 0.3 + 0.04 × 0.2 = 6% من أصل مبلغ الوديعة

 

أن هذا المعدل يعرف اصطلاحاً «بأجرة رأس المال المضمون قيمة لا دخلاً».

 

لكنه ما هكذا يتم توزيع الأرباح على أصحاب الودائع الثابتة. ولبيان ذلك موضع قادم.

 

3- إمكانية سحب الوديعة: طالما أن المودع وديعة ثابتة في المصرف الربوي يستطيع سحبها في آجال معينة، فإن المصرف اللاربوي يجب أن يتيح لمودعي هذا النوع9 من الودائع لديه فرصة من هذا القبيل، بالرغم من الصعوبات الجمة التي يمكن أن تواجهه بهذا الصدد؛ بسبب كون ودائعه تتحول إلى مشروعات تجارية وصناعية، لا إلى مجرد قروض قصيرة الآجل. ومع ذلك فيمكن للمصرف أن يحدد نهاية كل ستة أشهر من بداية إيداع الوديعة، كأجل يمكن للمودع عند حلول سحب وديعته وفسخ عقد المضاربة، على أن يشترط عليه المصرف القبول بدفع قيمة وديعته نقداً، لا بشكلها المادي الذي تتحول إليه بالاستثمار.

 

إن هذا الاقتراح يستند إلى الاعتبارات التالية:

 

‌أ-     من غير المتوقع أن يحل الأجل المخول للسحب بالنسبة لجميع الودائع الثابتة في تاريخ واحد، بل في تواريخ متعددة بالنظر إلى إيداعها في مواقيت متباينة.

 

‌ب-  تدل الخبرة على أن إتاحة مثل هذا الترخيص في ظل المصارف الربوية، أنها لم تواجه حين حلول الآجال المتعاقبة للسحب، طلبات لاسترداد الودائع إلا بنسبة ضئيلة قد لا تبلغ 00.1 من المجموع الكلي لها.

 

‌ج- أن الوديعة التي سحبها صاحبها في الأجل المحدد لم تدخل كلها في مشروع استثماري واحد، لكي يكون استرداد صاحبها إياها مؤدياً إلى تضعضع هذا المشروع، وإنما ذابت كل وديعة ثابتة في بحر الودائع الثابتة الذي يصب بدوره في مشروعات عديدة. ومن ثم فهذه المشروعات كلها سوف تساهم في تحمل عبء سحب الوديعة، بما لا يؤدي على إحراج موقف هذه المشروعات.

 

‌د-    كذلك فإنه ما إن يتم سحب وديعة ثابتة حتى يتم إيداع ودائع ثابتة أخرى، تعوض الوديعة المستردة ما لم تفقها في القيمة.

 

‌ه- يستطيع المصرف اللاربوي انتهاج سياسة لتوفير درجة السيولة النقدية المتطلبة، وذلك بتقسيم المشروعات التي يضارب فيها بأمواله، بحسب استمرارية النشاط فيها على قسمين: موسمية ودائمة. وهو هنا يستطيع أن يبدأ بالمشروعات الموسمية فيشترط عليها الالتزام بدرجة محددة من السيولة النقدية في أوقات معينة من كل عام بما لا يتعارض مع الطبيعة الموسمية لنشاطها، ويلزمها بإيداع نقودها في حساب جار، لا يقل رصيده دفترياً عن المبلغ المحدد والمشترط من جانب المصرف في تلك الفترة بالذات. ويقوم المصرف  بعد ذلك بتوزيع عبء توفير السيولة على بقية المشروعات والمضاربات التي لا تتصف بالموسمية. ويقسم هذا العبء حسب الأوقات والفترات بالنظر لمدى قصور المشروعات الموسمية عن توفير السيولة المطلوبة.

 

‌و-  يستطيع المصرف اللاربوي تفادي السحب من رؤوس أموال المشروعات القائمة التي يضارب فيها بأمواله، عن طريق سداد مبلغ الوديعة المطلوب استردادها من السائل النقدي الموجودة بالخزينة، والذي يتألف من:

 

1-     الجزء من الودائع الثابتة الذي لم يتمكن المصرف من استثماره بعد.

 

2-     الودائع المتحركة، حيث يمكن للمصرف أن يحتفظ دائماً الجزء منها كاحتياطي لتغطية طلبات سحب الودائع الثابتة.

 

3-     الجزء من رأس المال الأصلي للمصرف، والذي يتم الاحتفاظ به سائلاً لكي يساهم في توقي مخاطر السيولة.

 

وفي حالة سداد قيمة الوديعة المستردة من الودائع الثابتة فإن ذلك لن يغير من أمر توزيع الأرباح شيئاً، وإنما يحدث التغيير فيما إذا كان السداد قد تم بواسطة الودائع المتحركة أو رأس المال الأصلي للمصرف، حيث يستحق المصرف بمواصلة المضاربة، الأرباح التي تستحق للمبلغ المستثمر من يوم حلوله محل المضارب المسترد لوديعته. وتعامل أموال المصرف المستثمرة في المضاربة على نفس الأساس الذي تعامل به الودائع الثابتة للعملاء.

 

ب- بالنسبة للمصرف

 

إن المصرف هو الطرف الثاني في عقد المضاربة، وإن كان ليس طرفا أصيلاً. حيث يتركز دوره في الوساطة فقط بين صاحب المال والمستثمر. ويتقاضى المصرف مكافأة على هذه الوساطة على أساس الجعالة (العمولة) التي ينبغي لها أن تغطي بندين:

 

الأول أجر ثابت على الخدمة المصرفية، يتحدد بالفارق بين سعر الفائدة المدينة والدائنة في المصارف الربوية، على أن يستنزل من هذا الفرق مقدار الزيادة في حصة المودع من الربح (في صورة نسبة مئوية من أصل مبلغ الوديعة الثابتة) على سعر الفائدة الدائنة الجاري بالمصارف الربوية.

 

فإذا كان سعر الفائدة المدينة الجاري بالسوق هو 7%، وقد سبق تجديد حصة المودع من أرباح المضاربات بنسبة 6% من أصل مبلغ الوديعة الثابتة، فإن الفرق بينهما وهو 1%، يمثل الأجر الثابت المقرر للمصرف لقاء الخدمة.

 

ونظراً للأهمية الكبرى لهذا الأجر، حيث أنه يخصص لتغطية نفقات إدارة وتشغيل المصرف، فإن الباحث يقترح أن تبدأ مهمة توزيع الأرباح باستقطاع هذا الأجر من أرباح المضاربات، وتحويله إلى المصرف، كأجراء أولى، قبل ممارسة مهام توزيع الأرباح بين المستثمرين والمودعين والمصرف.

 

على أن هذا القدر لا يكفي لضمان نجاح عمليات المصرف، وهو يتحمل عبء ضمان اصل الودائع لديه، حيث لا تتحمل به المصارف الربوية، وبالنظر إلى هذا الاعتبار كان تقرير البند الثاني للجعالة المفروضة للمصرف، وهو يتمثل في إعطاء المصرف الحق في نسبة معينة من الربح، تقدر بالفارق بين معدل الفائدة على رأس المال المخاطر به قيمة ودخلا، ومعدل الفائدة على رأس المال المضمون قيمة والمخاطر به دخلا، كما تظهر هذه المعدلات في السوقين النقدي والمالي.

 

ولإيضاح وضع البند الثاني من الجعالة المفروضة للمصرف بدرجة أكبر، يشير الباحث إلى أن هناك حدا أدنى للعائد على رأس المال المضمون قيمة ودخلا، ويتمثل هذا الحد في سعر الفائدة الدائنة الذي يحاسب المصرف الربوي مودعيه على أساسه. كما أن هناك حدا أعلى للعائد على رأس المال المضمون قيمة ودخلا، ويتمثل في سعر الفائدة المدنية التي يتقاضاها المصرف الربوي من المقترضين منه الذين يضمنون له قروضهم قيمة ودخلا.

 

وهناك رأس المال المضمون قيمة ودخلا. ومثاله الودائع الثابتة لدى المصرف اللاربوي وذلك من وجهة نظر المودعين، فودائعهم مضمونة قيمة، بالنظر إلى تعهد المصرف لهم بتدارك الخسارة متى وقعت. لكن نفس الودائع غير مضمونة الدخل؛ إذ يرتبط دخلها بربح المشروعات التي يمولها البنك على أساس المضاربة. وعائد هذه الودائع (أو رأس المال المضمون قيمة لا دخلا) يجب أن يتعادل مع معدل الفائدة الدائنة على الودائع المضمونة قيمة ودخلا، بالإضافة على نسبة زائدة تتحد بحاصل ضرب معدل الفائدة الدائنة × درجة احتمال انخفاض الربح أو عدم تحققه، كما تقدم.

 

وهناك أخيراً رأس المال المخاطر به قيمة ودخلاً. ومثاله مال المضاربة الذي يدفع به المصرف اللاربوي على عامل المضاربة (المستثمر)، وذلك من وجهة نظر هذا الأخير، حيث أنه ليس ضامناً لقيمة رأس مال المضاربة، ولا لدخل معين من المضاربة في حالة عدم ربحها([24]). والمخاطر بقيمة برأس المال هو المصرف الذي ضمن رأس المال للمودع. والمخاطر بالدخل هو المودع نفسه الذي كان بإمكانه أن يحصل على فائدة ثابتة بإيداع ماله في المصارف الربوية فأثر المخاطر بعائد راس المال، بإقامته على أساس المشاركة في الربح. فيجب أن يكلف العامل المستثمر بدفع مكافأة تتناسب مع رأس المال المخاطر به قيمة ودخلاً، ناقصاً جعل المخاطر بالجزء الذي يتقاضاه المصرف من تلك المكافأة كأجر ثابت.

 

وهذه المكافأة يقتطع منها مقدار الحد الأدنى لعائد رأس المال المضمون قيمة ودخلا، بالإضافة على جعل المخاطرة بالدخل، فيمنحان للمودع. والفائض بعد هذا من المكافأة يكون من حق المصرف اللاربوي.

 

ومن الواضح أن المكافأة التي يكلف المستثمر بدفعها إنما تقتطع من ربح المضاربة، وهي بذلك ترتبط به وتدور معه وجوداً وعدماً، زيادة ونقصاناً. فحيث لا ربح، لا يكلف المستثمر بشيء أكثر من الأجر الثابت للمصرف باعتباره جعالة على الخدمة المصرفية.

 

وغنى عن البيان أن البند الثاني من مكافأة المصرف اللاربوي، إنما هو نسبة مرنة من ربح المضاربة. وهي بهذا تختلف من مضاربة لأخرى، بحسب ظروف كل مضاربة، ودرجة مخاطرتها، ومدى حيويتها القومية.

 

ينبه الباحث في النهاية إلى إمكان قيام المصرف اللاربوي بالمضاربة ببعض رأسماله، فضلاً عن الجزء من الودائع المتحركة (الجارية) الذي يقدر المصرف، بخبرته، إمكانية إدخاله مجال المضاربة، دون الإضرار بمقتضيات توفر السيولة اللازمة لحسابات الجارية. وهنا يصبح المصرف هو المضارب، بوصفه مالكاً لرأس المال ويتمثل حقه في ربح المضاربة حينئذ، في حصة تساوي الحد الأعلى لعائد رأس المال المضمون قيمة ودخلاً، بالإضافة إلى جعل المخاطرة بأصل رأس المال ودخله. ولكن لا يتقاضى المصرف أجراً ثابتاً على إنشاء عقد المضاربة بماله.

 

ويظل واضحاً التزام المصرف أمام أصحاب الودائع الثابتة بإعطاء الأولوية في مجال الاستثمار لودائعهم، قبل أمواله الخاصة. فلا يلجأ المصرف إلى المضاربة بأمواله إلا عند قصور الودائع الثابتة عن سد حاجات المضاربة.

 

ج- بالنسبة لعامل المضاربة (المستثمر)

 

المستثمر هو الطرف الثالث في عقد المضاربة ويتفق معه المصرف بوصف الأخير وكيلا عن أصحاب الودائع الثابتة.

 

والعامل المستثمر هو صاحب الحق المطلق في ربح المضاربة بعد اقتطاع حق المصرف والمودع. تماماً كما أن المقترض من المصرف الربوي هو صاحب الحق المطلق في الربح الحاصل عن توظيف القروض، وذلك بعد اقتطاع عبء الفوائد الربوية التي يتقاضاها المصرف. وهنا يظهر أن الدافع للاقتراع في كل النوعين من المصارف واحد، ألا وهو الحصول على الربح.

 

إلا أن مقارنة عبء الإقراض بين المصرف الربوي واللاربوي، تظهر جلياً في أن هذا العبء يكون أكثر جسامة بالنسبة للمقترض، في حالة المصرف اللاربوي عنه في ظل المصرف الربوي([25]). فالفائدة التي يدفعها المقترض إلى المصرف الربوي تعادل مجموع ما يدفعه عامل المضاربة إلى المصرف اللاربوي من أجر ثابت للمصرف وعائد للمودع المضارب، إلا أن المصرف اللاربوي يحصل، بالإضافة إلى ذلك، على نسبة من الربح الذي يحققه عامل المضاربة، وذلك مقابل ما وفره له المصرف من ضمان لرأس المال وتحمل لتبعات الخسارة.

 

على أن المصرف اللاربوي في محاسبته للمستثمر، عامل المضاربة، بشأن توزيع الأرباح، سوف لا يفصل بين نصيبه في الربح ونصيب المضاربين الموكل عنهم. ومن ثم يتصور الباحث أن يبدأ المصرف المحاسبة باستقطاع أجرة المصرف الثابت من صافي ربح المضاربة ثم يتفق مع المستثمر على اقتسام ما تبقى من الربح بالنسبة المحددة سلفاً في عقد المضاربة. (ويمكن للتبسيط النظري هنا افتراض مبدأ المناصفة في الربح بين المستثمر من وجهة وكل من المصرف والمودعين من جهة أخرى).

 

 

المطلب الثالث

 

تحديد وتوزيع الأرباح

 

غنى عن البيان أن المصرف سوف لا يدرج أرباح المضاربات بالودائع الثابتة في موازنته العامة. بل يخصص لها ميزانية خاصة تتكفل بإحصاء هذه الأرباح وتقسيمها بحسب النسب المقررة.

 

(1) تحديد الأرباح

 

يعني المصرف اللاربوي بتحديد عوائد المضاربات التي تمت بواسطته خلال السنة المالية المنصرمة. ويلزم تعيين هذه العوائد عند إقفال المصرف حساباته في نهاية كل سنة مالية على أنه يتفق أن بعض المضاربات لا تقفل حساباتها في نفس التاريخ، وهو ما يعني أنه يتعذر على المصرف معرفة أرباح هذه المضاربات.

 

ويقدم الباحث بعض الحلول المقترحة لهذه المشكلات

 

فالمضاربات التي يجريها المصرف عملياً تأخذ أحد شكلين: أما معاملة تجارية مؤقتة تكون متعلقة بشراء صفقة خاصة والتصرف فيها بقصد الربح. وأما معاملة دائمة تكون متعلقة بإنشاء مشروع كامل.

 

في الحالة الأولى يكون مال المضاربة موظفاً في عملية محددة، وعادة لفترة قصيرة. وبالتالي تظهر نتائجها من خلال وقت قصير. وإذا لم تظهر هذه النتائج عند تاريخ إقفال المصرف لحساباته، فإنه يتوقع لها أن تظهر في خلال الفترة التي تمر بين إقفال الحسابات وإعلان الميزانية، وهي فترة طويلة نسبياً، يمكن فيها الإطلاع على نتائج العمليات التي قام بها المصرف قبيل ختام سنته المالية. وحتى إذا لم تظهر هذه النتائج في الفترة بين إقفال الحسابات وإعلان الميزانية، فإنه يمكن للمصرف تحديد هذه العمليات تقديرياً بالنظر إلى خبرته السابقة عن أمثال هذه العمليات ودرايته بالظرف العام للاستثمار.

 

أما في الحالة الثانية فيمكن للمصرف أن يفرض على المشروع القائم على أساس المضاربة توحيد السنة المالية لكل منهما، وذلك في حالة إنشاء المشروع ابتداء عن طريق المضاربة، أو في حالة تقدم مشروع قائم فعلاً للمصرف بطلب المساهمة في رأس ماله على شكل دائم عن طريق المضاربة وكان بإمكانه تغيير سنته المالية وجعلها متفقة مع السنة المالية للمصرف.

 

ومع ذلك فتوجد حالات يتعذر فيها إحداث هذا التوافق الزمني في إقفال الحسابات، كما في حالة المشروعات ذات الأنشطة الموسمية، حيث يكون المشروع متخصصاً في صنع أو بيع مادة شديدة الموسمية، فإذا كان ختام السنة المالية للمصرف يتفق مع ذروة النشاط الموسمي للمشروع، فإنه يستحيل على المشروع إنهاء سنته المالية وإقفال حساباته وإعلان نتائج عملياته في نفس الوقت الذي يفعل فيه المصرف هذه المهام.

 

وعلاج أمثال هذه الحالات هو أن الأرباح التي ستظهر في ميزانيات هذه المشروعات ستحسب ضمن أرباح المصرف عن السنة المالية التي تعلن فيها الميزانيات. فأرقام الأرباح التي تتضمنها ميزانيات المشروعات المعلنة خلال السنة المالية للمصرف سوف تشكل في مجموعها رقم الربح بالنسبة للمصرف في نهاية السنة المالية. وهذا الأمر لن يسبب سوءاً في التوزيع إلا في السنة الأولى التي يتم فيها تأسيس المشروع. وحيث لن يظهر في ميزانية المصرف، في نهاية هذه السنة، أي ربح عن الأموال المضارب بها في المشروع. أما عن بقية السنين فسوف تتعادل بصورة تقريبية، الأرباح التي ستحتسب خلال السنة القادمة، وهي تعود للسنة الحالية، مع الأرباح التي احتسبت ضمن أرباح السنة الحالية، وتعود للسنة الماضية.

 

وعند الأخذ بالعلاج المقترح فإن المودع (المضارب) يستطيع أن يختار بين موقفين في تحصيل حظه من الربح:

 

فهو يمكنه الانتظار إلى السنة القادمة، وخلالها ستعرف أرباح المشروعات عن السنة الحالية، فيأخذ نصيبه منها بنفس الطريقة والنسب التي وزعت الأرباح بمقتضاها في السنة السابقة، وبذلك تستكمل كل وديعة حصتها من الربح.

 

وهو يمكنه أن يتصالح مع المصرف على مبلغ معين كمقابل للربح عن السنة الحالية، والمحتمل ظهوره في السنة القادمة ضمن ميزانيات المشروعات القائمة على مضاربات المصرف. ويقتضي المودع المبلغ المتصالح عليه من الأموال الخاصة بالمصرف على أني حصل المصرف على كل أرباح الودائع المتصالح عليها.

 

ويمكن للمصرف أن يحدد، منذ البداية، القيمة التي يدفعها في مصالحات من هذا القبيل، تفادياً للمشكلات التي تنجم عن ترك تحديد هذه القيمة للاتفاق الشخصي في كل حالة على حدة([26]).

 

والواقع أن مشكلات من هذا القبيل لن تشكل عقبات وبيلة بالنسبة للمصرف اللاربوي بالنظر إلى الدراسات الأولية، التفصيلية والدقيقة، التي تجريها إدارة البحوث بالمصرف بصدد أية مضاربة مقترحة يتقدم بها المستثمرون للمصرف. فهذه الدراسات سوف تتيح للمصرف، ابتداءاً تحديد فكرة تقريبية مقدمة عن نسبة الربح إلى رأس المال المستثمرة وفقاً لظروف كل مضاربة على حدة.

 

وللمصرف أن يقرر، ضمن سياساته، أنه سوف لا يدخل في مضاربات تقل نسبة الربح فيها إلى رأس المال المستثمر عن حد معين (باستثناء المضاربات ذات الحيوية القومية طبعاً، وإن لزم الإقلال من مضاربات لها هذا الطابع في السنوات الأولى لنشاط المصرف حيث يستولى تكوين «احتياطي توقي مخاطر المضاربات» على الشطر الأعظم من أرباح المصرف عن المضاربات القائمة).

 

أن نسبة 40% كنسبة سنوية للربح إلى رأس المال المضارب به، تعتبر في رأي الباحث نسبة معقولة ومقبولة لنمط الاستثمار الذي يقدم البنك على توزيع مضارباته بداخله. ويعتقد الباحث أن المصرف اللاربوي لا يستطيع، في بداية نشاطه، قبول أي نمط استثماري تقل ربحيته عن هذه النسبة، وبالذات إذا ما اعتمد المصرف مبدأ المناصفة في الأرباح بينه وبين المستثمر.

 

(2) توزيع الأرباح

 

تثور بهذا الصدد بعض المشكلات المتعلقة بمسألتين جوهريتين، هما تحديد حصة كل وديعة على حدة، ثم كيفية تقسيمه بين المودع والمصرف بحسب الشروط المقررة في عقد المضاربة.

 

وبصدد المسألة الأولى، ألا وهي تحديد حصة كل وديعة ثابتة من أرباح المضاربات التي عقدها المصرف، فالواقع العملي يسجل أن المصرف لا يتلقى كل الودائع الثابتة في تاريخ موحد. كما أنه لا يستطيع أن يستثمرها جميعها في وقت واحد. ولو أمكن حدوث الأمرين السابقين فرضاً لتوحدت بالنسبة لكل هذه الودائع مدة الاستثمار، ولكان توزيع الأرباح أمراً ميسوراً، حيث يصير تحديد نصيب كل وديعة من الربح بناء على اعتبار واحد، وهو نسبة مبلغها إلى مجموعة الودائع الثابتة المستثمرة.

 

وطالما أن الواقع العملي يسجل أن المصرف لا يتلقى ولا يستثمر الودائع الثابتة جميعها في وقت واحد، لزم أن يدخل عامل الزمن (مدة الاستثمار) في الاعتبار عند توزيع أرباح المضاربات. على إن إدخال عنصر الزمن ضمن اعتبارات الربحية، في ظل المصرف اللاربوي على أساس من المضاربة الإسلامية، يستلزم ملاحظة أمرين:

 

الأول: يتعلق بحقيقة أن المصرف لا يتسنى له في الغالب استثمار الوديعة الثابتة في نفس تاريخ إيداعها لديه، حيث قد لا توجد فرصة فورية مواتية لاستثمارها بحسب الشروط التي يعينها المصرف، وهو ما يعني مرور بعض الوقت بين تاريخ الإيداع وتاريخ الاستثمار تظل فيه الوديعة معطلة بالخزينة دون أن تدر عائداً. ولذلك يقترح الباحث أن يقيم المصرف حساباته على أساس افتراض أن كل وديعة ثابتة تدخل خزائنه سوف لا يبدأ استثمارها فعلاً إلا بعد شهرين من تاريخ الإيداع (والمدة هنا مرنة، تتأثر بظروف العمل التجاري والمصرفي، وأيضاً درجة الإقبال العام على استثمار الأموال)، وهذا يعني أن أية وديعة ثابتة لا تستحق الربح إلا ابتداء من نهاية الشهر الثاني للإيداع، وذلك لإعطاء المصرف فرصة معقولة لاستثمار الودائع على أساس المضاربة.

 

أن هذا التصرف من المصرف جائز شرعاً، باعتبار أن المودعين قد تنازلوا للمصرف عما يزيد في حصتهم الحقيقية عن الحصة التي تقرر لهم([27]). بمعنى أن أي مودع تستثمر وديعته قبل مضي فترة السماح (شهرين) يقوم بالتنازل للمصرف عن ربح الاستثمار المتحقق خلال فترة السماح.

 

والثاني خاص بالوحدة الزمنية المعيارية (Standard Unit of Time) التي نقيس بها المدة الفعالة Effectiv Period عند حساب ربحية الوديعة الثابتة. ويقترح الباحث اختيار وحدة زمنية ممتدة، يرجح فيها إمكان توفر فرصة الاستثمار المجزي، بما يغلب احتمال تحقيق الربح. فيحسن أن تكون هذه الوحدة شهراً أو نصف شهر أو أسبوعاً  على الأقل، دون اليوم، وبحيث لا يدخل كسر الوحدة المعيارية المختارة عند حساب الربح.

 

وبملاحظة هذين الأمرين يمكن حل المسألة الأولى الخاصة بتحديد حصة كل وديعة من أرباح المضاربات، باستخدام طريقة النمو المعهودة في كتب الرياضة المالية([28]). ويمكن للباحث أن يقدم مثالاً تطبيقياً.

 

وللتبسيط يمكن افتراض أن المصرف يضارب بثلاث ودائع ثابتة فقط قيمتها بآلاف الجنيهات هي 100، 200، 300، على التوالي. وفي نهاية السنة المالية للمصرف، وعند توزيع أرباح المضاربات، وجد أن مدة الإيداع لهذه الودائع هي 345، 308، 274 يوماً على التوالي. كذلك يفترض أن الأرباح التي حققتها هذه المضاربات الثلاث، عن السنة، كانت 206 ألف جنيه.

 

بديهي أن يبدأ المصرف باستقطاع أجره الثابت من هذه الأرباح. وقد سبق القول بأن هذا الأجر الثابت يتحدد بالفرق بين أجرة رأس المال المضمون قيمة لا دخلاً (وهي تعادل أجرة رأس المال المضمون قيمة ودخلاً، بالإضافة إلى التعويضات المقابلة لمخاطر تقلب الأرباح أو انعدامها بسبب الظرف العام للاستثمار واحتمالات عدم التوظيف الكامل) وسعر الفائدة المدينة الجاري، (الذي هو الحد الأعلى للفائدة على رأس المال المضمون قيمة لا دخلاً). وقد سبق تحديد الأجر الثابت بنسبة 1% من أصل الودائع الثابتة المضارب بها، أي 6 آلاف جنيه. ومن ثم يتبقى من الأرباح مائتا ألف جنيه يتم شطرها وفقاً لمبدأ المناصفة بين المستثمر من جهة، والمصرف والمودعين من جهة أخرى، إلى شطرين، فيكون نصيب المصرف ومودعيه المضاربين هو مائة ألف جنيه لا غير.

 

وبعد تحديد الارباح الواجبة التوزيع بين المصرف والمودعين، يأخذ المصرف في حساب المدد الفعالة التي تؤخذ في الاعتبار عند تحديد ربح كل وديعة، وذلك باستنزال فترة السماح (وهي شهران) من المدة الفعلية للوديعة. فتصير المدد الفعالة للودائع الثلاث هي 285، 248، 214 يوماً على التوالي. وإذا اصطلحت إدارة المصرف على اعتبار الوحدة المعيارية التي تستخدم في حساب الربح أسبوعاً مثلاً، فإنه يتم تقسيم المدد الفعالة السابقة على سبعة، للحصول على المدد الفعالة المعدلة بالوحدة المعيارية للزمن. ومن ثم تكون المدد المعدلة هي

 

5

40،

3

35

4

30

7

7

7

 

أسبوعاً على التوالي. وحيث يتم إهمال كسر الوحدة الزمنية المعيارية، فإن المدد المعدلة تصبح 40، 35، 30 أسبوعاً على التوالي.

 

واستخراج النمر يتم بضرب مبلغ كل وديعة في المدة المعدلة لاستثمارها. ومن ثم نصير نمر الودائع الثلاث هي 4، 7، 9 مليون نمرة على التوالي، وإجمالها هو 20 مليون نمرة.

 

ويتم حساب حصة كل وديعة من الربح بضرب إجمالي أرباح المضاربات المحققة أثناء العام × نمرة كل وديعة. والقسمة على الرصيد الإجمالي لنمر كل الودائع. ومن ثم يصير ربح الودائع الثلاث هو 20، 35، 45 ألف جنيه على التوالي، وإجماليها هو مائة ألف جنيه.

 

وينبه الباحث إلى أن اعتماد طريقة النمر في توزيع الودائع، ورغم اتباعها في المصارف الربوية، لا يثير أدنى شبهة للربا تلحق بالمصرف الإسلامي المقترح. فهذه الطريقة لا تعني تحويل ربح الوديعة إلى مفهوم الفائدة الربوية. فنظام النمر ليس سوى طريقة مقترحة لتوزيع الأرباح على الودائع، وهو لا يمس أبدا صيغة الاتفاق بين رأس المال والمستثمر المتمثلة في المضاربة التي هي سند استحقاق المودعين لحصتهم في الربح. ولا شك أنها سند يختلف تماماً عن الحق الربوي في الفائدة.

 

بقيت المسألة الثانية الخاصة بكيفية تقسيم الربح بين المودع (المضارب) والمصارف.

 

سبق إيراد أمرين:

 

الأول: هو حساب أجرة رأس المال المضمون قيمة والمخاطر به دخلاً، وذلك بأخذ سعر الفائدة الربوية الدائنة المستعمل في السوق بالإضافة إلى مخاطر تقلب الأرباح بسبب الظرف العام للاستثمار، ومخاطر عدم التوظيف الكامل للودائع الثابتة في الاعتبار، في الصيغة التالية:

 

0.04 + 0.04 × 0.30 + 0.04 × 0.20 = 6% من أصل مبلغ الودائع الثابتة المضارب بها.

 

والثاني هو القول بأن نسبة 40% كنسبة سنوية للربح على رأس المال المضارب به تعتبر، في رأي الباحث، نسبة مقبولة لنمط الاستثمار الذي يقبله المصرف، وبالذات إذا ما اتبع المصرف مبدأ المناصفة في الأرباح بينه وبين المستثمر.

 

وخلاصة مبدأ المناصفة في الأرباح أن يتحدد ربح المصرف وعلمائه أصحاب الودائع الثابتة بنسبة 20% من أصل الودائع المضارب بها. ويلزم الآن تقسيم هذه النسبة من الربح بين المصرف وأصحاب الودائع المضاربين. ويمكن تحديد نصيب الأخيرين من الربح بقسمة أجرة رأس المال المضمون قيمة والمخاطر به دخلاً (كنسبة مئوية من اصل الودائع المضارب بها) على حظ المصرف وأصحاب الودائع الثابتة معا من أرباح المضاربات (وأيضاً كنسبة مئوية من أصل الودائع المضارب بها)، كالآتي: 0.06 ÷ 0.20 = 30% وهذا يعني أن يحصل المودعون المضاربون على 30% من الأرباح التي تؤول في جملتها إلى المصرف وإليهم، بينما يستحوذ المصرف على نسبته السبعين بالمائة الباقية. وعلى هذا الأساس يكون الربح خاصة الودائع الثلاث السابقة هو بآلاف الجنيهات 6، 10.5، 13.5 على التوالي، ومجموعها 30 ألف جنيه، ويستولى المصرف بذلك على ربح مقداره 70 ألف جنيه.

 

ولإبراز أثر المصرف اللاربوي في زيادة حصة مودعيه المضاربين من الربح عما كان ليتأتى لهم لو أنهم قاموا بوضع أموالهم في المصارف الربوية في مقابل تحصيل الفوائد الربوية الدائنة، قام الباحث بحساب الفوائد المستحقة للودائع الثلاث السابقة بغرض إيداعها في المصارف الربوية، باستخدام طريقة الفائدة الدقيقة ونظام النمر، مع افتراض أن معدل سعر الفائدة الدائنة الذي تمنحه المصارف الربوية لموجعيها هو 4% صافياً، أي بدون أية استقطاعات، وهو فرض مبالغ في السخاء.

 

وكذلك باحتساب المدد الفعلية الكاملة للودائع الثلاث وهي 345، 308، 274 يوماً على التوالي. وقد تمخض الحساب عن أن فائدة الوديعة الأولى 3781 جنيه والثانية 6751 جنيه والثالثة 9008جنيه. وإجمالي فوائد الودائع الثلاث 19540 جنيه (أي أقل من 20 ألف جنيه)، بينما كان حظ هذه الودائع من الربح، في ظل المصرف اللاربوي، هو 30 ألف جنيه. وهو ما يعني أن الإيداع في المصرف اللاربوي سوف يكون أكثر نفعاً أوفر عائداً للمودعين.

 

وغنى عن البيان أن المصرف اللاربوي، باستمراره في ممارسة عملياته، يكتسب خبرة أكبر ويدخل بالتالي في مضاربات أكثر أمناً وأوفر ربحاً، وهو ما يعني أن المصرف الإسلامي المقترح سوف يستطيع أن يعطي مودعيه مستقبلاً أكثر مما يعطيهم في الحاضر، ذلك أنه إذا ما استمر المصرف في مزاولة عملياته، عاماً بعد عام، تراكمت أرباحه، وتضخمت بالتالي احتياطياته التي يخصصها لتوقي المخاطر، بما يجعله قادراً على تمويل نفقات الإدارة والتشغيل الخاصة به تمويلاً ذاتياً، وهذا يعني أن يقدم المصرف خدمته حسبة للمسلمين، على أن يمنح الأجر المصرفي الثابت إلى المودعين أنفسهم، بما يزيد من أرباحهم ويعمل كحافز لجذب مزيد من الأموال للمصرف بما يدعم كيانه أكثر.

 

 

القسم الثاني

 

الودائع المتحركة

 

تشكل الودائع المتحركة عادة ما يعرف بالحساب الجاري للعملاء. وبالنظر إلى الحركة المستمرة لهذا النوع من الودائع، فإنه يصعب على المصرف المضاربة بها بقدر وافر من الحرية.

 

والمعالجة النموذجية لهذه الودائع تتمثل في اعتبارها بمثابة قرض من المودع للمصرف وهي بذلك تدخل في نطاق ذمة المصرف في مقابل التزامه برد قيمتها، متى طالب المودع المصرف بالوفاء. ولا يدفع المصرف أي ربح عن هذا الفرض، وذلك مثل المصارف الربوية التي لا تدفع فائدة عن الودائع المتحركة.

 

ويمكن للمصرف تبني سياسة محددة مرسومة بالنسبة لهذا النوع من الودائع. مثل تقسيم هذه الودائع إلى ثلاثة أقسام([29]):

 

القسم الأول يحتفظ به المصرف كنقد سائل لضمان قدرته على تلبية احتياجاته حركة الحسابات الجارية من ناحية، والمساهمة في تمكينه من تلبية طلبات الاسترداد من جانب المضاربين بالودائع الثابتة، في الآجال المحددة لسحبها، من ناحية أخرى. والمصرف هو الذي يقدر، بحسب الخبرة العملية، المبلغ الواجب الاحتفاظ به في هذا القسم، ونسبته إلى مجموع الودائع المتحركة.

 

والقسم الثاني يوظفه المصرف بأسلوب المضاربة التي يمثل فيها المصرف دور المضارب ولا يكون مجرد وسيط. والمصرف بهذا يستأثر بحصة المودع والمصرف معا من الأرباح في المضاربات الأخرى.

 

والقسم الثالث يستخدمه المصرف في إقراض عملائه. ويجب أن يرسم المصرف سياسته في هذا الصدد، على أساس أن تقديم التسهيلات بإتاحة القروض للعملاء لا ينبغي أن يكون أسلوباً متبعاً إلا إذا تعذر إقامة التسهيل على أساس المضاربة والمشاركة في الأرباح، لأن هذا هو الأصل في توظيف أموال المصرف. بل وأحد أهداف المصرف هو إحلال المضاربة محل الإقراض في علاقة المصرف بعملائه المستثمرين، بحيث قصير المضاربة أمراً معتاداً، مقبولاً ومفهوماً، في محيط رجال الأعمال.

 

إلا أنه يلزم المصرف أن يحرص تماماً على ألا يؤدي دأبه على إحلال تسهيلات المضاربة محل التسهيلات القرضية إلى انصراف العملاء عنه. ومن ثم في الحالات التي يتاح للمصرف فيها توظيف أمواله على أساس المضاربة، لكون الغرض الذي يقصده المستثمر من طلب التسهيل المصرفي غير مناسب تحقيقه عن طريق المضاربة، يقوم المصرف بمنح التسهيل بالإقراض، كما إذا كان الغرض من التسهيل الوفاء بقيمة كمبيالة أو دفع غرامة.

 

وحفاظاً على أموال المصرف، فإنه يشترط فيمن يفرضه الأمور التالية:

 

1-    الأمانة وحسن السلوك على ضوء معاملات العميل طالب القرض مع المصرف ومع سائر المصارف وفي السوق. وقد تلزم شهادة تاجرين بأمانة المقترض.

 

2-    القدرة المالية على الوفاء، وهذه يقدرها المصرف على أساس دراسة المركز المالي والتجاري لطالب القرض، ونوع النشاط الذي يمارسه.

 

3-          وضع يد المصرف على رهن مناسب يقابل قيمة القرض، كضمان للوفاء على أية حالة.

 

4-          ألا تزيد مدة القرض على ثلاثة شهور.

 

5-          ألا يزيد مبلغ القرض عن حد أعلى يحدده المصرف وفقاً لسياسته في تقديم القروض.

 

والغرض من الشرطين الأخيرين هو إمكان تحويل المعاملة الخاصة بالقرض إلى عملية مضاربة، حالة ما إذا كان المبلغ أكبر، والأجل المقصود أطول.

 

 

القسم الثالث

 

ودائع التوفير

 

يمكن للمصرف اللاربوي إدخال ودائع التوفير إلى مجال المضاربة. ويقف المصرف منها موقفه من الودائع الثابتة، من حيث الشروط والحقوق المترتبة على المضاربة كما سبق، باستثناء أمرين([30]):

 

الأول: هو أن المصرف لن يلزم الموفر بإبقاء وديعته مدة معينة (كستة أشهر، كما هو الحال بالنسبة للودائع الثابتة) بل يتمتع الموفرون بالحق في سحب ودائع توفيره متى أرادوا. وبهذا تشبه ودائع التوفير، من هذه الناحية، الودائع المتحركة (الحساب الجاري).

 

ولكي يضمن المصرف قدرته على مواجهة طلبات سحب الموفرين لودائعهم، فإنه يتقرر الأمر الثاني، وهو أن المصرف يستطيع بالنظر إلى اعتبارات الخبرة العملية أن يقدر نسبة المبالغ التي تسحب فعلاً إلى مجموع ودائع التوفير. وبفرض أن هذه النسبة لا تتجاوز 10% فإن المصرف يعتبر أن 10/1 ودائع التوفير لديه هي عملا ودائع متحركة لا يدفع عنها أي ربح، بل يحتفظ بها كقرض لا ربوي في حالة كاملة السيولة، لمواجهة طلبات السحب من الموفرين وهذا يعني أن اية وديعة توفير سوف لن تستثمر بكاملة، بل يوظف المصرف 90% فقط من مبلغها في مضارباته. ولا تستحق وديعة التوفير ربحاً إلا عن الجزء الموظف منها فقط.

 

وهكذا بمقارنة الموفرين بأصحاب الودائع الثابتة يتمتع الموفرون بميزة ويتحملون بالعبء المقابل لها. أما الميزة فهي تمتعهم بحق سحب مدخراتهم عند الطلب. وأما العبء المقابل لها فهو أن وديعة التوفير لا تدخل بكامل قيمتها مجال الاستثمار.

 

ويلاحظ أن الموفر الساحب إنما يسترد مبلغ وديعته فقط، حيث يتسلم أرباحها عند إعداد الحسابات الخاصة بحصر الأرباح وتوزيعها.

 

وكل وديعة توفير يطلب صاحبها سحبها يقوم المصرف بدفع مبلغها من الجزء الاحتياطي المحتجز من هذا النوع من الودائع، والذي لم ينسب إلى تيار الاستثمار باعتباره قرضاً لا ربوياً يحتفظ به المصرف سائلاً، وهنا يحل المصرف محل الموفرين المستردين لودائعهم في المضاربات القائمة.

 

ملاحظتان ختاميتان

 

بقيت بعد ذلك ضرورة تأكيد ملاحظتين أساسيتين:

 

الملاحظة الأولى: حجم تأكيد ملاحظتين أساسيتين:

 

أن المصرف اللاربوي لابد له من أن يتمتع برأسمال أضخم نسبياً من رؤوس الأموال اللازمة للمصارف الربوية عادة، لأن رأس مال المصرف اللاربوي هو الذي يتحمل، بصورة رئيسية أعباء الخسائر التي يمنى بها، ويسنده في مواجهتها وتلافيها تدريجياً دون أن تنعكس على المودعين أو المستثمرين. وبهذا يبقى المصرف محتفظاً بثقة الجميع ويواصل عمله في إدارة أعمال الصرافة الإسلامية على أتم وجه.

 

على أن زيادة رأس المال لها حد عملي يفرضه غرض الربح الذي يتوخاه المصرف في أعماله. لأن رأس المال قد يزيد إلى درجة يصبح معها من مصلحة المصرف الربحية أن يستبدل عمله المصرفي بعمل آخر يستثمر به رأسماله بنفسه مباشرة ليحصل على كل أرباحه.

 

والواقع أن الترتيب الخاص بموارد المصرف من رأسمال وودائع ثابتة، هو الذي سوف يحدد ربحية العمل المصرفي ويؤكد مداها، وبالتالي هو الذي سوف يحدد أي الأعمال أربح للمصرف: أن يواصل عمله المصرفي بالتوسط بين المودعين والمستثمرين على أساس المضاربة، أو أن يستبدل دور الوساطة بالدخول إلى ميدان الاستثمار برأسماله مباشرة. ولكي يعرف المصرف أيهما أربح، يجب أن يقارن بين الربح الكلي الذي يمكن أني حققه لو دخل ميدان الاستثمار مباشرة بتوظيف رأسماله الأصلي، والحصيلة التي توقع حصوله عليها كعائد لعمليات الوساطة بين المودعين والمستثمرين. وبقدر ما يزيد عائد الوساطة عن ربح الاستثمار المباشر لرأسمال المصرف. تتأكد ربحية العمل المصرفي. ومن ثم يجب أن تكون زيادة رأس المال في الحدود التي تحفظ الفارق بين الحصيلتين بدرجة معقولة.

 

ويلاحظ أنه عند تقدير عائد عمل الوساطة للمصرف، لابد من الاعتبار للايرادات الأخرى التي يحصلها المصرف في صورة عمولات أو عوائد أخرى من عمله المصرفي وهو إيراد لا يحصل عليه لو اقتصر المصرف على استثمار رأسماله مباشرة. دون ممارسة عملياته الصيرفية. وكذلك فلابد من تقدير الأرباح التي يجنبها المصرف متأتية من مضاربته. كمصرف إسلامي، بجزء من رأسماله أو من الودائع المتحركة.

 

ومن ناحية أخرى تجب ملاحظة الامكانيات الفنية والخبرات الاقتصادية المتوفرة للمصرف، وهي كلها أمور تحدد مدى مقدرته على الدخول إلى ميدان الاستثمار.

 

الملاحظة الثانية: التنظيم الإداري للمصرف

 

كقاعدة عامة لا توجد فوارق أساسية بين المصرف اللاربوي والمصارف الربوية من حيث تشكيل مجلس الإدارة، وكذلك تنظيم الإدارات المختلفة بداخل الهيكل الإداري للمصرف، كإدارة الشئون المالية وإدارة شئون الأفراد وإدارة القروض وإدارة البحوث والإحصاء، إلى غيرها من الإدارات.

 

ومع ذلك فتجب أمور أربعة جوهرية.

 

‌أ-   ضرورة إنشاء إدارة للمضاربات تختص بأعمال الوساطة بين المودعين والمستثمرين على أساس إسلامي. وسوف تكون أضخم وأهم إدارة في المصرف. ولذلك يقترح الباحث أن يديرها أو يشرف عليها مدير عام المصرف.

 

‌ب-  أن المصرف اللاربوي، بحكم ارتباط مصيره بأرباح مشروعات المضاربة التي يتعاقد معها، يجب أن تتوفر في جهازه الإداري، وبالذات في المستويات الإدارية العليا والمتوسطة كفاءات متخصصة من النوع الذي تتطلبه أعمال الوساطة ولابد من النظر بعين الاعتبار إلى نظام الأجور والحوافز الخاص بالمصرف اللاربوي، حيث يرى الباحث ضرورة رفع مستويات الأجور وغيرها من الحوافز المختلفة بالمصرف اللاربوي عن المستويات السائدة بالمصارف الربوية القائمة، حتى يستطيع المصرف اللاربوي جذب خبرات مصرفية رفيعة. خاصة وأن مثل هذه الخبرات ترى أن ترك موقعها في المصارف الربوية المستقرة، للعمل بالمصرف اللاربوي (ومستقبل هذا المصرف في نظر الكثير غير مضمون الاستمرار) يعتبر بمثابة مقامرة غير مأمونة العواقب. وهو ما يقتضي ضرورة وضع حوافز كافية لتغطية مخاطر هذه المقامرة.

 

ولابد أن يكون المدير العام للمصرف غير بعيد عن السوق التجارية وأعرافها. وواسع العلاقات مع رجال الأعمال ومختلف صنوف المستثمرين.

 

‌ج-   لابد من تأكيد مدى وعورة المهام الملقاة على عاتق إدارة البحوث الاقتصادية والإحصاء بالمصرف اللاربوي. حيث يناط بها عمل الدراسات والتوقعات الخاصة بالحالة الاقتصادية العامة حاضراً ومستقبلاً. وكذلك تقدير ربحية أنماط الاستثمار الممكنة.

 

‌د-   من الأفضل بقدر الإمكان أن يضم الجهاز الإداري للمصرف أفراداً متدينين ومنفتحين عاطفياً على فكرة البنك اللاربوي، ومدركين للمغزى الإسلامي للمصرف، لكي يعيشوا الدوافع الرفيعة الكامنة في رسالة المصرف، الأمر الذي يؤثر على سير العمل ويجود الأداء، حيث أن إيمان الموظف برسالة المصرف، وحرصه على نجاحه، أمران يدفعانه إلى الإصرار على كسب رضا العميل، ومعاملته بلطف وبروح طيبة وسيرة مهذبة. وهذه كلها أمور لها أثر كبير في جذب ثقة العملاء في المصرف، وتوسيع نطاق أعماله، وتدعيم كيانه.

 

 


 

([1]) تعريب للفظ Enterprise وهو المشروع الإنتاجي الذي يتعرض لاحتمالي الكسب والخسارة والمكافل ترجمة للفظ Entrepreveur وهو القائم على المكافلة يتحمل أخطارها ويضمن للعامل أجره كما يتحمل نفقات المشروع. والأصل أن الكافل هو القائم بالأمر، ومنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّاب كافل – أي زوج أم اليتيم قائم بأمره (اللسان)، وهو أيضاً الضامن والمكافل المعاهد والمحالف والمجاور.

 

([2]) P. Samelsen, Economico (4 th. Edidtion 1958) me Croin Hill, New York, p. 5 f.

 

([3]) Don Palinik, Study in Moneary Econmics (Harper & Row, New York 1972) p. 168 & Seq.

 

([4]) H. Keynes, the General Theory of Employment, Interest & Money. (Mcmillan 1973). P. 212.

 

([5]) Cf. Joseph. A.Sehumpeter, the theory of Economic development (Cambridge-Harrow Univ. Press. 1934), pp. 175-202.

 

([6]) World Muslim Congress: Some Economic Aspects of Islam. Umma Publishing, Karachi, 1974. p. 13 et. S.

 

([7]) يرى الأستاذ (سوير) هذا الرأي، ويرجعه إلى فريق كبير من أساطين الاقتصاد أمثال ماركس ولاسال وهاريس.

 

Sawyer, (I.): Social Sturucture and Economic Progress. London. 1951 Vol. 4. P. 321-324.

 

([8]) Shaikh Mahmud Ahmud: Economics of Islam. Ashraf, Lahore. 1967. P. 126 et. S.

 

([9]) الفقه على المذاهب الأربعة، ج3، ص57.

 

([10]) أبو الطيب صديق حسن: الروضة الندية، سبق ذكره، ج2، ص142.

 

([11]) شرف الدين الحسين بن أحمد بن الحسين: الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير، مطبعة دار السعادة، القاهرة، 1937، طبعة أولى، ج3، ص348.

 

([12]) ابن حزم: المحلى، سبق ذكره، ج2، ص247.

 

([13]) ابن رشد: بداية المجتهد، سبق ذكره، ج2، ص197.

 

([14]) البيهقي: السنن الكبرى، ج6، ص111.

 

([15]) البيهقي: السنن الكبرى، ج6، ص111.

 

([16]) أحمد بن يحيى المرتضى: البحر الزخار، سبق ذكره، ج4، ص79.

 

([17]) محمد أبو زهرة: مقال بمجلة لواء الإسلام، رجب 1370، ص25. أثبته: فتحي عثمان: الفكر الإسلامي والتطور. سبق ذكره، ص362-363.

 

([18]) مقال بمجلة لواء الإسلام: السنة الرابعة العدد11، رجب 1370، ص823.

 

([19]) مصطفى عبدالله الهمشري: الأعمال المصرفية والإسلام، سبق ذكره، ص90.

 

([20]) مصطفى عبدالله الهمشري: الأعمال المصرفية والإسلام، سبق ذكره، ص90.

 

([21]) Dr. Muhammed Muslehuddin: Banking and Islamic Law Last Publ, Lahore, 1974. p.73-75.

 

([22]) لا يستطيع المصرف قرض الضمان على المستثمر، لأنه عامل مضاربة، ولا ضمان شرعياً عليه. ولكن ليس هناك مانع شرعي يحول دون ضمان المصرف للوديعة. فالمصرف بصفته وسيطاً بين طرفي المضاربة الأصليين، إنما يعتبر جهة ثالثة يمكنها أن تتبرع لصاحب المال بضمان ماله.

 

محمد باقر الصدر: البنك اللاربوي في الإسلام، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973، ص32-33.

 

([23]) محمد باقر الصدر: البنك اللاربوي، مرجع سبق ذكره، ص35.

 

([24]) باستثناء الأجر الثابت الذي يتقاضاه المصرف مقابل الخدمة المصرفية على أية حال.

 

([25]) مصطفى عبدالله الهمشري: الأعمال المصرفية والإسلام، سبق ذكره، ص104.

 

([26]) محمد باقر الصدر: البنك اللاربوي، سبق ذكره، ص56.

 

([27]) محمد باقر الصدر: البنك اللاربوي، سبق ذكره، ص58.

 

([28]) Sayers: Modern Banking. Op. cit. p. 98.

 

([29])

 

([30]) Dr. Muhammad Muslehuddin: Op. cit. p 99.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر