تقاريرمقالات الرأي

تعليق على بحث – نحو نظرية عامة في الزمن الفقهي

العدد 168

المطالع للورقة البحثية يجد أن وراءها فكرًا تجديديًّا جامعًا رصينًا انطلق منه الأستاذ الدكتور/ محمد كمال الدين إمام رحمه الله تعالى ليرسم إطارًا عامًّا لنظرية الزمن الفقهي، وهي مساهمة جادَّة لتحويل النظرة إلى الزمن من فكرة مجردة أو ممارسة فردية لآحاد المجتهدين إلى نظرية مكتملة الأركان مشيدة المباني واضحة الإجراءات توسع من دائرة الانتفاع به، وتُبيِّن أن نظرة الفقهاء إلى الزمن ليست مباحث نظرية بحتة، بل يمكن أن يكون لها من التطبيقات التراثية أو المعاصرة ما يخدم مسيرة التجديد ونهضة الأمة، ويعينها على مسايرة متغيرات العصر.

فقد انطلق المؤلف من تحديد المصادر وضبط المصطلحات حتى ظهرت نظرية الزمن الفقهي منظومةً طيبة ذات طبيعة خاصة جدًّا، فيها تقسيمات متميزة: مشكلة الزمن من حيث الفكرة والمفهوم والتعريف بصورة عامة، ثم ماهية الزمن الفقهي وبيان خصائصه ومنحى الفقهاء في استثماره في الأحكام الفقهية، والتي ظهر من خلاله نظرتهم العملية إلى الأثر المترتب على الزمن لا حقيقة الزمن في نفسه، وإظهار ذلك عبر استعراض نموذجين تطبيقيين: الأول التغير العرفي كمثال لتناول الفقه السني، والشرط المتأخر كمثال لتناول الفقه الإمامي.

وبعد هذا المدخل تبقى لنا عدة ملاحظات، وهي كالتالي:

‏* هناك بعض الأفكار لم يكتمل طرحها بطريقة واضحة ومعمقة:

(1) مفهوم الزمن الفقهي تمت معالجته بطريقة مقتصرة على تعريفات الفلاسفة والمتكلمين للزمن دون الفقهاء، وإذا أورد بعضهم كابن عرفة المالكي ناقشه – ينظر ص 3- دون بيان مدى موافقة كلامه – أي ابن عرفة- لبقية الفقهاء والأصوليين من عدمه.

(2) تعريف المؤلف المختار الوارد في قوله: “الزمن الفقهي – في تعريفنا-: (الفعل الممكن في الزمن المعين)” هو تعريف غير جامع وغير مانع؛ فضلاً عن كون مؤداه اختصار أهمية الزمن ومحدودية مجالاته وآثاره الفقهية المتنوعة؛ لأنه يقتصر على بعض المجالات التي يُطلب أداؤها في زمن محدد له طرفان، وهو مفهوم محدود لا يتسع إلا للواجب المضيق فقط! (وسيأتي الكلام حول ذلك لاحقًا).

(3) تم إيراد أن مفهوم الزمن هو مناط اجتهاد الفقه الكنسي لتحريم الربا (ص 3) دون بيان لمناسبة إيراده في هذا السياق؛ فضلا عن اتساع مفهوم الربا عند فقهاء المسلمين حيث يشمل هذا المعنى ما يعرف بربا النسيئة، وربا الفضل.

‏* ظاهر كلامه في (ص 2) عن أهمية عنصري الزمن “المدة والأمر” في وحدة المصطلح يحمل في طياته موقفًا سلبيًّا من نظرة الفقهاء إلى أثر الزمن العملي لا حقيقته الفلسفية في الأحكام؛ حيث أرجعها إلى أنها تسبب توزيع الأحكام وتناثرها فضلا عن كونها من أسباب اختلاف الفقهاء! وهذا يسبب -بحسب رأيه- إلى “فقد الزمن وحدته الجامعة”!

ونناقش ذلك من خلال نقطتين:

النقطة الأولى: أن هذه التقريرات كثر فيها إطلاق الأحكام دون بيان لواقعها أو مدى ملائمتها لحقيقة نظر الشرع الشريف إليها والتي يراعي فيها التكليف فقط دون النظر إلى ماهية الزمن وآثاره الكونية التي يرصدها الفلاسفة وأهل التأمل في السنن الكونية الجارية وأهل الاختصاص من الفلكيين ونحوهم.

والنقطة الثانية: انطلاقه في هذا التقرير من نظرة محصورة في التصورات الفلسفية والكلامية للزمن، التي من مقتضياتها المباشرة: خروج الفقهاء عن طبيعة اختصاصهم حيث عاب الفقهاء أنه لم يهتموا بتحديد مفهوم للزمن، وأنهم لم يحاولوا تجريده من معانيه الفلسفية والكلامية!

وهذا أمر بعيد ومشتت للمطلوب من الفقهاء؛ لأن طبيعة اختصاصهم تنحصر في بيان الأحكام العملية واستنباطها من الأدلة الكلية فيما يخص واقعات الناس وأحوال العصر، وهي أمور عملية ناتجة كأثر من آثار الزمن الذي هو ناتج عن دورة الفلك، وتعاقب الليل والنهار بعيدًا عن معانيه الفلسفية والكلامية.

وهذا ما فعله المؤلف في المقالة الثانية من هذه الورقة تحت عنوان “خصائص الزمن الفقهي”، وفيه أظهر بعض الخصائص الفارقة بين “الزمن الفلسفي”، و”الزمن الفقهي”.

كما أن المتأمل في نظرة الفقهاء والأصوليين إلى الزمن يجدها أولى وأعمق وأنفع؛ لاتسامها بالشمولية والتكاملية، وأورد بعض الأدلة على ذلك بطريقة موجزة:

* النظر إلى الزمن من خلال ارتباط المطلوبات الشرعيَّة به من حيثية أقسامه كالساعة واليوم والأسبوع والشهر والسنة بناء على ورود الأوامر الشرعيَّة بأدائها باعتبار ذلك، وعلى ذلك نتج عن هذا تقسيم هذه المطلوبات إلى: مطلقة ومؤقتة؛ فالمطلقة هي التي لم يقيد أداؤها بزمن محدد له طرفان، وأما المقيدة فهي ما حدد زمانا معينا لأدائها بحيث لا يجب الأداء قبله ولا يصح، ويأثم بالتأخير من غير عذرٍ إن كان المطلوب واجبًا، وذلك كالصلوات الخمس وصوم رمضان مثلاً.

* النظر إلى زمن الأداء من حيثية اتساعه للمطلوبات فيه؛ حيث قسموه من هذه الحيثية إلى:

(أ) موسع: وهو ما كان الزمان فيه يتسع لأداء الفعل وأداء غيره من جنسه، كوقت الصبح مثلا فإنه يسع أداء صلاة الصبح التي هي ركعتين وأداء صلوات أخرى.

(ب) مضيق: وهو ما كان الزمان فيه يسع الفعل وحده ولا يسع غيره معه، ومثال ذلك شهر رمضان – وهو الشهر التاسع في السنة الهجرية- فإن زمانه لا يتسع لأداء صوم آخر فيه.

* ضم نظرة زائدة اعتبارية إلى نظرتهم السابقة يراعى فيها:

(أ) سياقات الأحكام وأزمنة تشريعاتها، ويدل على ذلك كلامهم على تعارض العام والخاص هل يؤخذ بالخاص مطلقا سواء علم تأخيره عن العام أو تقديمه أو لم يعلم شيء منهما؟ أو لا بد من تحقق تقدم العام، وفي الكلام على النسخ، وكذلك كلامهم على حكم تأخير البيان عن وقت الحاجة وإلى وقت الحاجة، وفي استقرار الإجماع بانقراض العصر، وتغير الفتوى بتغير جهة الزمان، وغيرها من مسائل الأصول، وأما في مسائل الفروع: فيصعب حصره؛ ككلامهم على طهارة المستحيل، والماء المتغير بطول مكث، والصيام، والحول في الزكاة.. إلخ.

(ب) كما يراعى أيضًا أحوال المكلفين أو بعضهم، كزمن الطهر وزمن الحيض بالنسبة للنساء، وزمن الإحرام وزمن الحل بالنسبة للحاج والمعتمر. وأحكام المسافر والعِدَد للنساء المعتدات، وأقصى مدة الحمل وغير ذلك.

ويشارك الصوفية الفقهاء هذه النظرة، كما فعل الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله تعالى في تقسيم أوقات العبد من حيثية اعتبار أفعال الله تعالى وتجلياته عليه وما ينبغي على العبد من الآداب تجاهها.

وهو تقسيم أورده المؤلف وعقَّب عليه (ص 3) بما يفيد أنه لا يدخل تحت “الزمن الفقهي” بحسب مفهومه، حيث أشار أنه يتكون من عنصرين: الأول: المدة وهي سيرة العمل، والثاني: الأمر وهو قيمة العمل.

وبتأمل كلام سيدي أبي العباس المرسي رضي الله عنه نجد أنه جارٍ وفق كلام أهل التحقيق: “الصوفي ابن وقته”، وهو لم يخرج عن عنصري الزمن اللذين أوردهما المؤلف فهو يقتضيهما معًا، بل يزيد على ذلك أنه يبين قيمة الزمن التي تستوجب أن يكونَ العبد مشتغلًا بما هو أولى به في الحال واغتنام لحظات العمر في تحصيل رضا الله تعالى.

* كذلك تعطي نظرة الفقهاء والأصوليين للزمن في أبواب المعاملات والحقوق بعدًا اقتصاديًّا، حيث نجد بوضوح أن هناك قيمة اقتصادية للزمن بمختلف أقسامه كالساعة واليوم والأسبوع والشهر والسنة.

‏* فهذه المعاني تبرز مدى اعتناء الفقهاء والأصوليين ببحث الزمن في الأصول والفروع في أبواب متعددة وفروع كثيرة من عدة حيثيات متكاملة، فهو ذو قيمة اقتصادية في المعاملات والحقوق المالية، وتعتبر آثاره في مسائل أصولية وفروع جزئية كثيرة خاصة في جانب العبادات، كما يعتبر فيه أحوال المكلفين ومناسبات التشريعات ومظاهر القضاء والقدر وجريان السنن الإلهية.

والخلاصة أن الرؤية الطيبة لنظرية “الزمن الفقهي” التي أوردها أستاذنا المرحوم أ. د/ محمد كمال إمام خلال هذه الورقة البحثية -على عمقها- تُعَدُّ أفكارًا أولية وعصف ذهني يحتاج إلى دراسة أكثر عمقًا وأدق تحريرًا لكنه لم يسعفه الوقت لعمل ذلك.

وختاما..

فنحيي في المؤلف مشاركاته العلمية الرصينة ورؤاه الفكرية النافذة التي قصد منها القيام بواجب الوقت ودفع مسيرة الأمة نحو التقدم والحضارة من خلال إبراز الأفكار والمداخل التي تساعد في رسم الإطار العام لنظرية الزمن الفقهي وبيان أهمية الزمن ومكانة الوقت لدى أهل الإسلام، ولا يزال هذ التراث العلمي الخالد الذي خلفه أستاذنا أ. د/ محمد كمال إمام وأضرابه من العلماء كالبحر الواسع المترامي الأطراف، يحتاج من طلاب العلم وشيوخه سبر أغواره‏ وتحصيل كنوزه ونشر فوائده.

ونحن في حاجة إلى مثل هذه الرؤى التجديدية والبحوث الفكرية والدراسات العميقة التي تساهم في قضية تجديد الخطاب الديني وتبين الحقائق الإسلامية النقية وتصحح الصورة المغلوطة عن المسلمين، وتُظهر قيمة التراث الفقهي خاصة والإسلامي عامة وعطائه المستمر كرافد من روافد الحضارة ومنهل عذب للعلوم الاجتماعية والإنسانية..

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* * *

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر