أبحاث

حول مؤسسات الائتمان والأعمال المصرفية في الشرق الأدنى الإسلامي في القرون الوسطى

العدد 34

أدى الائتمان عديدا من الأدوار الهامة في التجارة في القرون الوسطى. فقد قام بتمويل التجارة عن طريق تزويد رأس المال أو السلع بالنسبة لهؤلاء الذين لم تكن لديهم الوسائل المتاحة للقيام بالتجارة سواء بشكل مؤقت أو غير ذلك, وكان الأمر يتم في صورة قرض, وقد أدى ذلك إلى إضافة سوق لتصريف فائض رأس المال حتى يتم إستغلاله بأسلوب منتج ومثمر, وساهم ذلك في توسع التجارة عن طريق ظهور تجار لديهم الوسائل التي تمكنهم من القيام بالأنشطة التجارية في عصر لم يكن فيه تكثير العملة يتم بشكل ملائم دائما . وبالنسبة للتجارة الدولية أو التجارة التي تتم عبر مسافات بعيدة , فقد أدى الإئتمان إلى تخفيف حدة مشكلة نقل مبالغ كبيرة من المال عبر طريق محفوفة بالمخاطر, وبالمشاركة مع أساليب أخرى, كان أيضا وسيلة للمشاركة في مخاطر المشاريع التجارية.

لقد كان مدى حجم العمليات الأجلة في مفهوم الحياة الإقتصادية في القرون الوسطى موضع جدال من ناحية المؤرخين الإقتصاديين في الماضي, وفي الوقت الحالي فإن من المقبول بصفة عامة أن العمليات الآجلة ومؤسسات الإئتمان قد أدت دورا رئيسيا في التجارة والحياة الإقتصادية في أوروبا المسيحية في القرون الوسطى مثلما أدته أيضا في الشرق الأدنى في القرون الوسطى (1). وفي أوروبا في العصور الوسطى نستطيع أن نتابع الأهمية المتزايدة لمؤسسات الإئتمان والأعمال المصرفية منذ بدايتها في جنوب أوروبا في القرن الثاني عشر وفي تطويرها لتلك المؤسسات المصرفية التجارية العظيمة في القرن الرابع عشر وإلى القرن السادس عشر, وكذا الأعمال المصرفية العامة والخاصة بالإبداع في ما قبل العصور الحديثة, وحتى أساليب ومؤسسات الإئتمان المتطورة للغاية في العصور الحديثة. وبالرغم من أنها كانت خاضعة لظرف الزمان , فإن مسيرة التطور في الغرب تتقدم إلى الإمام منذ العصور الوسطى المبكرة حتى العصور الحديثة (2).

أما في الشرق الأدنى الإسلامي , فالنمط مختلف تماما. أولا, وجود وإنتشار إستخدام أنواع بالغة التعقيد من الإئتمان في الحياة الإقتصادية للعالم الإسلامي يعد شيئا معترفا به منذ حوالي ثلاثة أو أربعة قرون على الأقل قبل حدوث أي شيء يمكن مقارنته بذلك في أوروبا في القرون الوسطى. وعند منتصف القرن الثامن تقريبا تم بالفعل تطوير عدد من مؤسسات الإئتمان.

وذلك موضوع دارت حوله مناقشات تفصيلية واعية في المراجع القانونية . ونجد إشارة دائمة إلى ذلك في ورق البردي العربي وغير ذلك من الأدب في القرون الأربعة الهجرية الأولى (3)… وفي حين أن دور ومهمة الإئتمان في التجارة وغير ذلك من نواحي الحياة الأقتصادية كان مفهومها ومفصلا غاية التفصيل في المراجع العربية المبكرة , فإن الإمكانيات المتضمنه في عدد من ممارسات الإئتمان – خاصة تلك المتعلقة بنشاطات الأعمال المصرفية – لم يتم إداركها على حقيقتها أبدا – وقد عملت بشكل ناحج بالنسبة لمعظم فترة العصور الوسطى في الشرق الأدنى. ولكن يبدو أنها قد ظلت متحجرة وظل تطورها متوفقا. ولقد ظلت أشكال ومجالات نشاطات الإئتمان التي نجدها في الشرق الأدنى في القرن الثامن دون تغيير حتى مجيء القرن الخامس عشر والسادس عشر. وبالاختلاف عن الغرب, فإنها لم تتطور إلى نوع الإئتمان والمؤسسات المصرفية التي كانت مشتملة على بذور التطور الإقتصادي لأوروبا. ولذلك يكون لدينا الحق في التساؤل لماذا لم تستطع النشاطات الإقتصادية المزدهرة في الشرق الأدنى الإسلامي في القرون الوسطى أن تؤدي إلى ظهور نوع أكثر فعالية وإتقانا من مؤسسات الإئتمان والأعمال المصرفية, في حين أنها كانت لديهما ميزة السبق بثلاثة أو أربعة قرون بالمقارنة مع أوروبا؟

والإجابة – كما أعتقد – يجب البحث عنها على الأقل جزئيا في المناخ الإجتماعي للحياة الإقتصادية في الشرق الأدنى في القرون الوسطى. وقبل أن نقوم بإقتراح حل جزئي أو حتى تجريبي لتلك العبارة الموهمة للتناقض, فإنني أقترح تقديم الخلفية عن طريق مسح مختصر للمؤسسات الإسلامية الرئيسية للإئتمان في القرون الوسطى على مستويين متتابعين ومرتبين زمنيا – مستويين يعدان ايضا منفردين طبقا للنوع أو الكيف. وعلى المستوى الأول, فمنذ بداية الإسلام حتى القرن الحادي عشر , فإننا نستقي كل معلوماتنا تقريبا من مصادر غير وثائقية – وبصفة رئيسية مصادر نظرية قانونية مع إشارات مبعثرة في الصحف, والأعمال الجغرافية والأدبية المحصنة, وذلك يمكننا من تكوين رأي عام حول وسائل وأساليب الإئتمان خلال القرون الثلاثة والنصف الأولى للإسلام. ويزودنا بأساس لبعض التأمل المثقف بالنسبة للأوجه الكيفية لتطبيقها في التجارة. وعلى المستوى الثاني , فإن تلك الحقائق ” النظرية ” تستكمل بواسطة المعلومات المتضمنة في وثائق جنيزا بالقاهرة. ونجد فيها سجلات شاملة للنشاطات التجارية الواقعية التي نشأت بصفة رئيسية منذ القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر, مع بعض الحقائق للقرون التالية أيضا, وتتضمن كذلك معلومات وافرة بالنسبة لجميع أوجه عمليات الإئتمان. ونتيجة لذلك, فإن تلك الوثائق تزودنا بأساس راسخ لإصدار أحكام دقيقة – كيفية وأيضا كمية – بالنسبة لاستخدام وفائدة الإئتمان في التجارة المحلية والدولية , وتعد ذات قيمة – بصفة خاصة – في تزويدنا بالتلمحيات ونفاذ البصيرة التي نستطيع بمقتضاها تقييم نقاط القوة والضعف للأساليب العديدة المطروحة.

إن أساليب الائتمان التي تستطيع أن تقوم بكل من تسهيل التجارة وتزويدنا بالإطار لاستخدام الإئتمان كوسيلة للإستثمار في التجارة توجد بالفعل في شكل متطور في بعض الأعمال القانونية الإسلامية المبكرة. فالبيع والشراء على أساس الإئتمان كان ممارسة تجارية منتشرة ومقبولة , سواء كان التاجر يقوم بالتجارة برأس ماله الخاص أو برأس المال الذي أودع عندهة بواسطة شريك وفي ” كتاب المساركة ” المتضمن في كتاب الأصل للشيباني, الذي يعد واحدا من مجموعة القوانين الإسلامية الأولى ( في أواخر القرن الثامن, أو أوائل القرن التاسع ) , ثمة تأكيدات منتظمة على النصوص التي تخول كلا من طرفي الشركة حق الشراء والبيع على أساس الإئتمان كما لو كان شيئا بديهيا (4).

ولقد إستمر ورود الإشارات إلى إنتشار إستخدام القروض في الأعمال الأدبية القانونية الإسلامية التالية. وإن العالم القانوني السرخسي في القرن الحادي عشر قد أعلن أن ” البيع على أساس الإئتمان يعد سمة مطلة من سمات التجارة ” (5), بعد حوالي قرن من ذلك الوقت ذكر الكاشانئ عند إشارته إلى التجار ” أن من عادتهم البيع نقدا وعن طريق الإئتمان” (6).

إن البيع عن طريق , الإئتمان , في شكل مدفوعات مؤجلة للبضائع التي تم شراؤها ( البيع بالتأخير) أو المدفوعات المقدمة من أجل التسليم في المستقبل ( سلم ) كانا يعتبران أشكالا قانونية تماما للسلوك التجاري(7). ولقد إعتبر كثير من الكتاب الإسلاميين القانونين , سواء بشكل ضمني أو صريح , أن المعاملات الخاضعة للإئتمان كانت لا يمكن الإستغناء عنها بالنسبة للتجارة الناجحة والمثمرة.

وفي مناقشة حقوق العميل أو الشريك القائم بالإدارة طبقا للعقد, قال العالم القانوني السرخسي :

” إننا نعتبر أن البيع عن طريق الإئتمان يعد بمثابة جزء من ممارسة التجارة وأنه بمثابة أكثر الوسائل إثمارا بالنسبة لتحقيق هدف المستثمر الذي يتمثل في الربح, وفي معظم الحالات. يكون من الممكن تحقيق الربح فقط عن طريق البيع بالإئتمان وليس البيع نقدا ” (8).

لقد كان المقصود أن يتسم تطبيق تلك العبارة على جميع أشكال التجارة, ولكنها كانت ملائمة بصفة خاصة للتجارة الدولية, كما قال لنا نفس الكتاب إستكمالا للنص السابق.

” …. ممكن أن تكون التجارة أيضا عبر مسافات بعيدة, وإن ذلك النوع الأخير من التجارة لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق البيع بالإئتمان” (9).

ولم تكن التجارة الدولية مستحيلة دون إستخدام فحسب, بل إن المبيعات بالإئتمان كانت أكثر الوسائل نجاحا في تحقيق الربح, إن لم تكن دائما أسرع الوسائل أيضا. ولقد تم شرح السبب في ذلك بواسطة نفس الكاتب (السرخسي) في مقالة أخري حين قال:

” إن الشيء يباع بالإئتمان لقاء مبلغ أكبر عما كان يباع به نقدا ” (10).

إن تلك العبارة لا توضح فقط السبب في أنه كان ثمة ربح أكبر يمكن الحصول عليه من المعاملات التجارية الخاصة بالإئتمان, بل إنها توضح أيضا كيف كان من الممكن للتجارة أن يمدوا الائتمان في بعض الأحيان لفترات طويلة من الزمن دون توتر أو شل حركة مواردهم. وفارق السعر بين العمليات التجارية بالإئتمان والنقد يساعد أيضا في شرح السبب لماذا لم يؤد تحريم الربا, إلى المدى الذي تمت مراعاته ( ومن المرجح أنه مدى كبير) إلى عدم ممارسة أي تقييد خطير أو حتى محدود بالنسبة لسير التجارة. فإنه , في حين أن الإختلاف في السعر الذي يبيع يه نقدا لا يعد فائدة على المستوى الرسمي أو القانوني , فإنه في رأي بعض القانونيين المبكرين يؤدي , من ناحية وظيفته الإقتصادية , نفس الدور الذي تقوم به الفائدة عن طريق إضافة عائد للدائن مقابل المخاطرات المتضمنة في العملية التجارية, ويعوضه عن عدم وجود رأس مال له. وفي هذا الصدد, يجب أن نلاحظ , أيضا, أنه منذ القرون المبكرة للسيطرة الإسلامية على الشرق الأدنى, قد وجدت وبأهمية كبيرة صور متعددة لأشكال المشاركة وبخاصة تلك الأنواع المتطورة القابلة للتكييف , والتي تفي بشكل ملائم ومرن ومشروع من وجهة نظر كل من المستثمر والتاجر بالوظيفة الإقتصادية للقرض الذي تؤخده عليه الفائدة . وإن أي مناقشة شاملة للإئتمان في الشرق الأدنى في القرون الوسطى يجب أن تتضمن إعتباراكبيرا لتلك العقود , ولكنه في المفهوم الحالي يكفي أن نلمح إليها ونذكرها فقط بقدر ما ترتبط بشكل مباشر مع مؤسسات الإئتمان الصريحة.

ولاتمام الفائدة يجب ان أذكر أيضا نوعي القروض المتحررة من الفائدة التي تمت مناقشتها في النصوص الإسلامية القانونية المبكرة – القرض والعارية – أي القروض للإستخدام والقروض للإستهلاك. ولكن جميع الدلائل تشير أن تلك الأنواع من القروض كانت تقريبا غير جديرة بالإعتبار في التجارة الإسلامية في القرون الوسطى (11).

والقانون التجاري الإسلامي لا يلخص لنا فقط أساليب المعاملات بالإئتمان, بل أنه يضع النصوص أيضا من أجل مثل تلك المعاملات. وأساليب الإئتمان , مثل الحوالة والسوفتاجا (Suftaja) تعد أمثلة رئيسية لذلك النوع من الإئتمان. ولقد كانت الحوالة هي دفع الدين من خلال تحويل حق المطالبة , أما السوفتاجا فكانت تعادل خطاب الإعتماد أو الكبيالة (12).

وممارسة كل من هذين الأسلوبين للإئتمان حتى القرن الحادي عشر مسجلة في أوراق البردي العربي من مصر في تاريخ القرن التاسع والعاشر: وفي التجارة الخاصة نجد أن السوفتاجا مقابل المبالغ الضخمة مثل 42000 دينار تعد مقرا بها في التجارة عبر الصحاري, ومقابل مبالغ أكبر في العراق تتضمن التحويلات المادية للإيرادات المحلية إلى الحكومة المركزية بواسطة الملتزمين بالضرائب (13). ولقد كانت كل من الحوالة والسوفتاجا تتم دائما في شكل إلتزام كتابي, ومن ثم كانتا أول وأهم أشكال أوراق الإئتمان التجاري في الشرق الأدنى في القرون الوسطى. ولقد تم إستكمالها بعدد من مستندات الإئتمان الأخرى مثل الرقعة والصك التي كانت بمثابة تعليمات بالنسبة لدفع, أو تحويل أو إيداع الأموال لدى أصحاب المصارف والصرافين.

إن تطور الأعمال المصرفية أو شبه المصرفية في القرن العاشر في العراق – التي كتب عنها الكثير – كان في الحقيقة مثيرا للإعجاب. ولكنه ليس من الواضح إذا ما كانت تلك البنوك قد قامت بمهمة أبعد من كونها هيئات للدفع وأساليب لتحويل الأموال من موقع جغرافي لآخر, ومستودعات للحفاظ على مكاسب موظفي الدولة العديدين بطريقة آمنة, وليس من الواضح كذلك إذا ما كانت تلك الأعمال المصرفية تتضمن أي شيء يضاهي الأعمال المصرفية المتعلقة بالإستثمار. ويمكنني أن أضيف هنا – كما سوف نرى – انه ثمة صلاحية مماثلة تنطبق على الأعمال المصرفية الأكثر تدعيما والمذكورة في وثائق جنيزا.

ومن أكثر أساليب الإئتمان أصالة وأهمية – إبتداء من العصر الإسلامي المبكر توجد أشكال معينة من الإتحادات التجارية تقوم أساسا على الإئتمان وليس على أساس النقد أو السلع . ويعد هذا على سبيل المثال, شكلا منفردا من الشركات التجارية المعممة لتكون أشبة ” بشركة إئتمان” وغيرها من الأشكال التي يقوم فيها الإستثمار على أساس الديون أو الشراء على أساس الإئتمان.

ومما يعد ذا أهمية خاصة شركة الإئتمان وفي المذهب الحنفي, الذي يعد واحدا من المدارس الرئيسية الأولى للقانون الإسلامي المبكر, تعد شركة الإئتمان نوعا متميزا من التضامن التجاري. وهي تصميم يتكون فيه رأس مال الأطراف ليس من النقد أو السلع, بل يتكون كلية من الإئتمان. ولقد قابلنا شركات الإئتمان من قبل بشكل متطور تماما في أواخر القرن الثامن, وإن وصفها وتفصيلها يزودنا ببعض المعلومات الموثوقة بالنسبة لوظيفتها الإقتصادية . وفي هذا الصدد قال السرخسي:

” بالنسبة لشركة الإئتمان , فإنها أيضا تسمى بشركة المعدمين ( شركة المفلسين) .

وهي تقوم عندما يكون الناس متضامنين بدون أي رأس مال من أجل الشراء بالإئتمان ثم البيع. ويطلق عليها إسم تضامن السمعة الحسنة, لأن رأس مال الشركاء يتكون من مركزهم وسمعتهم الطيبة, فإن الإئتمان لا يمنح إلا للشخص ذي السمعة الطيبة” (14).

وأهمية هذين الوصفين لشركة الإئتمان .. ” شركة المفلسين ” و ” شركة ذوي المراكز والسمعة الحسنة ” تمكن في حقيقة أنها تعكس إثنين من الوظائف الرئيسية للإنتماء في التجارة . فالأول يعكس موقفا ينشد فيه التجار الذين ليس لديهم موارد كافية خاصة بهم التمويل , وذلك موقف يستأجر  فيه التجار رأس المال التاجر.

إن دور الإئتمان باعتباره إستثمارا في التجارة ووسيلة لتمويل قد تم تفصيله بطريقة متطورة للغاية بواسطة الكاساني في مقالة شنت هجوما عنيفا على آراء لرأى الشافعي تعتبر الوظيفة والهدف الرئيسي لشركة التضامن هي نماء المال.

وذلك يمكن تحقيقة , – طبقا لرأية – فقط من خلال إستثمار حقيقي مثل النقد, وليس الجهد أو الإئتمان: ولهذا السبب , من بين أسباب أخرى , يرفض الشافعي شرعية كل من شركة الإئتمان وشركة المجهود, وتعد الأخيرة إتحادا يتمثل فيه الإستثمار الرئيسي في إختلاق مهارات للأطراف المتضمنة. وقد الكاساني إعتراض الشافعي بالنقاش, فإن الناس كانوا يشغلون بهذين النوعين من الشركات على مدى قرون دون تعنيف من أي شخص, ومن المؤكد , كما قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن أمته لن توافق بالإجماع على خطأ. وفوق ذلك , فإن عنصر الوكالة يعد فعالا في تلك الأنواع من الشركة , ومن ثم فهي تعد شرعية.

وقد قال الكاساني ما يلي:

إن قوله ( أي الشافعي) أن شركة التضامن كانت تعتبر مسموحا بها من أجل تسهيل نماء المال يتضمن وجود بعض رأس المال الأصلي حتي يتم نماؤه. ونحن نقر أن شركة التضامن النقدية كانت في الحقيقة مسموحا بها من أجل تسهيل نماء المال, ولكن بالنسبة لشركات التضامن بالجهد وبالإئتمان , فإنها لم تعتبر مسموح بها من أجل تسهيل نماء المال, ولكن من أجل غرض خلق رأس المال ذاته. إن الحاجة إلى خلق رأس المال تحوز على الأسبقية على الحاجه إلى إنمائه (15).

ومن ثم فشركات الإئتمان لها ما يبررها على أساس إستخدام المبدأ القانوني, وبمقتضى الوظيفة الإقتصادية العامة لشركات التضامن التي لخصها الكاساني بأنها ” أسلوب لإنماء أو خلق رأس المال “(16).

وعندما ننتقل من المجال النظري للمناقشات في الكتابات الإسلامية القانونية التي تتناول نظام الإئتمان في الثلاثة قرون والنصف الإسلامية حتى نصل إلى مجال الممارسة التجارية المقر بها من القرن الحادي عشر حتى القرن الثالث عشر كما تم تصويره في أوراق جنيزا, فإننا نجد جميع هذه الأساليب وقد تم تحويلها إلى ممارسة عملية , ولقد كان ذلك ينطبق على شركات الإئتمان التي تحدثنا عنها, والتي نجد العديد من الأمثلة بالنسبة لها , وهي تبين كيف يتم إستخدامها للربط بين الإئتمان والتجارة وبين الإئتمان والصناعة والإنتاج (17), كما ينطبق الأمر أيضا بالنسبة للنواحي الأخرى للإئتمان.

وبالنسبة للآلاف من خطابات الأعمال التجارية , والعقود والوثائق التجارية المتنوعة من جينزا, فإننا نجد مقدارا كبيرا يحتوي على إشارة لنوع أو آخر من المعاملات التجارية الخاصة بالإئتمان. وعلى المستوى التجاري الأساسي , فإن المبيعات, ( البيع بالجملة والبيع بالقطاعي) كانت تقوم في المعتاد على أساس الدفع المؤجل لفترة معينة . وتوضح الوثائق أن المشتري قد دفع علاوة على الثمن العادي من أجل تأجيل الدفع. ولقد كان يتم التعبير عن ذلك إما عن طريق منح الخصم من الثمن المذكور مقابل دفعه نقدا مباشرا ( ولقد كان الخصم يتراوح بين 2% و4%) أو عن طريق وضع تسعيرتين: إحداهما للمعاملات التجارية النقدية , والثانية أعلى قليلا من أجل المعاملات التجارية بالإئتمان. وبالرغم من أن معظم التجار الذين تم ذكرهم في تلك الوثائق كانوا يهودا, فمن الجدير بالذكر أن تلك الممارسة كان مقرا بها على الأقل لدى واحدة من مدارس القانون الإسلامية المبكرة, ولم تكن تعبير ربا …. ولقد تمت البرهنة على إنتشار تلك الممارسة بشكل مؤكد في إجابة مامونيذذ, الفيلسوف والعالم القانوني اليهودي في القرن الثاني عشر, الذي قال:

” أن تلك هي العادة المألوفة بين الناس في التجارة , وبدونها تتوقف التجارة توقفا تاما ” (18).

وبالأضافة إلى إنتشار المبيعات التجارية بالإئتمان , كان أيضا تنفيذ الكثير من المعاملات التجارية الثانوية التي تعني بالإحتياجات المنزلية اليومية على أساس الإئتمان . ولهذا الغرض, كان يتم إرسال الطلبات الكتابية إلى التجار وأصحاب البقالة وغيرهم من الموردين , وبعد أن يتم تراكم عدد معين منها كان يتم تجميعها , وبيانها وإتمام الدفع.

وبالنظر إلى تلك الغزارة في المعاملات التجارية بالإئتمان , فليس من الغريب أن نجد في القرن الحادي عشر في مصر وشمال أفريقيا نظاما مفصلا ومتشبعا للبنوك البدائية والمقايضة بالعملة للتوفق بين تلك الإحتياجات والظروف.

ويمكننا أن نقوم بتقسيم المؤسسات التي نشأت إستجابة لتلك الحاجات إلى قسمين رئيسيين بغرض التحليل: هما : الصرافون , والتجار أصحاب المصارف . ولقد كانت مهمامها متداخلة.

ولقد كانت العمليات التي يقوم بها الصرافون أقل تعقيدا مما يقوم به التجار أصحاب المصارف , حيث كانت مهمتهم تعد أكثر تخصصا نسبيا. إن التداول المستمر في القرون الوسطى في العالم الإسلامي لنوعية واسعة لنوعية واسعة من عملات الذهب والفضة التي كانت قيمتها خاضعة للتقلبات الدائمة قد تطلب أشخاصا من ذوي المعرفة والخبرة لتسهيل تبادلها , وإن طلب التجار الدوليين لسك عملات خاصة من أجل تمويل عملياتهم المندفعة بقوة عبر مسافات بعيدة تطلب وجود مورد معد للحصول عليها, وقد كانت مؤكده لحقيقة أن العملة لم تكن مجرد وسيلة للتبادل, بل إنها كانت أيضا هدفا للتجارة يتطلب فحصا وتقيما. وجميع تلك المهام كانت تتم بواسطة الصرافين. فهم متوافرون في كل مكان, وفي المراكز التجارية الرئيسية مثل الإسكندرية والفسطاط كان ثمة مناطق وأسواق خاصة يشكلها الصرافون الذين كانوا المحور العصبي للمقايضة المالية, وكان حجم العمليات التي يقومون بها يختلف, وكان هناك صرافون يتعاملون بالمبالغ الصغيرة والأوجه المحدودة فقط مع هؤلاء الذين كانوا ذوي مراكز شبة رسمية وكانوا يشرفون على مقايضات تبلغ آلاف الدولارات . أما الأرباح من تلك العمليات فكانت لا تنتج عن المضاربة الماهرة بالعملة التي تقوم على أساس معرفتهم الوثيقة باحتياجات سوق المال فحسب , ولكن أيضا – ولعل ذلك بصفة رئيسية – من عمولة ثابتة تفرض على كل عملية مقايضة يتم القيام بها. وبالرغم من أنه ليس لدينا معلومات كافية من أجل تقييم ثابت, فإن العمولة كانت حوالى 1% بالنسبة لمبالغ حوالى 100 دينار, وأكبر كثيرا للمبالغ الأصغر.

وعمليات الصرف هذه لم تكن مقصورة على الصرافين , فقد كان جميع التجار تقريبا يشتغلون بها, وكانت تعد بالنسبة للكثيرين جزاء كبير من نشاطاتهم, خاصة هؤلاء الذين كانوا يشتغلون إلى مدى كبير بالتجارة الدولية. وبالإضافة إلى الصرف, فإن الكثير من التجار المتوسطين والكبار كانوا يشتغلون بنشاطات متنوعة من الأعمال المصرفية البدائية.

وعلى أساس المعلومات المنشورة في جنيزا, أو التي تمت دراستها حتى الآن, فليس ثمة ذكر لشخص نجد أن وظيفته كانت تقتصر على الأعمال المصرفية. وأينما كان مدى إمتداد الأعمال المصرفية لأي تاجر منفرد, فإنها تتم مواجتها بالإضافة إلى التجارة الفعالة المتمثلة في السلع.

وهكذا , فإنه يمكن وصفهم باعتبارهم تجارا أصحاب مصارف حتى أكثر مما كان الأمر في القرون الوسطى في الغرب, مع التأكيد على العنصر الأول من تلك المهنة المركبة, أي , أن نشاطاتهم المصرفية كانت مرتبطة بشكل وثيق مع أعمالهم التجارية الخاصة.

ومن بين مهامهم المصرفية الرئيسية كان تبادل وتحويل النقود, ولقد كان الهدف بالطبع هو تسهيل الدفع في كل من التجارة الداخلية والدولية. وأما الأسلوب الذي كان يتم ذلك بمقتضاه فكان يتمثل في توزيع العملات في أكياس مختومة تذكر عليها قيمتها المالية بدقة من الخارج. ولقد كانت الأختام على الأكياس خاصغة لأعمال البورصة الحكومية أو الشبة رسمية, أو تلك الخاصة بالتجار المنفردين…. ومن المراسلات التجارية . وسجلات دفاتر الحسابات نستطيع أن نستنتج أنه كان ثمة حقيقتان منفصلتان تتم ملاحظتهما على خارج الأكياس المختومة: (أ) عدد العملات (ب) وزنها وقيمتها. وعلى سبيل المثال, يمكننا أن نقرأ عن أكياس تحتوي على 308, – من العملات الذهبية قيمتها 300دينار, أو 122 من العملات الذهبية قيمتها 199 دينار, ولنا في حاجة لتأكيد أن تلك الأكياس المرزومة [ المربوطة] المصنفة قد قامت بتسوية الحسابات بأسلوب أكثر ملاءمة متحاشية ضرورة الوزن, وفحص وتقييم العملة بالنسبة لكل معاملة تجارية منفردة. ولقد كانت معظم المدفوعات وتحويلات النقود تتم عن طريق التحويل الواقعي لتلك الأكياس . أما عن نقل السجلات فقد كان شيئا نادرا, حتى إذا كانت تتضمن حسابات عميلين لنفس التاجر صاحب المصرف, وإن إستخدام الأساليب الكتابية للإئتمان بالرغم من شيوعها لم تكن له نفس الأهمية مثل تحويل الأكياس المختومة.

وقد كانت الأساليب الكتابية للإئتمان ذات أنواع عديدة – بعضها قد تم توقفه بالفعل في الأعمال القانونية النظرية السابقة , بالرغم من ان ذلك في بعض الأحيان كان في أسلوب معدل, وكان البعض الأخر بمثابة إبتداعات . لقد كانت الحوالة , أو تحويل الدين, تعمل بنفس الأسلوب الذي تم تلخيصه في كتب الفقه , وكثيرا ما نجد ذكرها في وثائق جينزا بإعتبارها بديلا للدفع نقدا. أما السوفتاجا , أو الكمبيالة التي كانت في الغرب تتطلب دفع نوع من العملة مقابل دفع نوع آخر من العملة في منطقة أخرى قد تم ذكرها في جنيزا بأنها تتضمن إعادة دفع نفس نوع النقود التي تدفع لصاحب المصرف المصدر. ولقد كان يتم إصدار السوفتاجا وسحبها على أصحاب المصارف المعروفين, وكان يتم فرض رسوم عالية على إصدارها. ولقد كانت ذات قيمة مثلها مثل النقود, فقد كان حاملها يمكنه إسترداد قيمتها نقدا في الحال عند وصوله إلى وجهته نظرا لأنه كان ثمة عقوبة يومية لأي تأخير في الدفع. وتظهر المعلومات من سجلات جنيزا أنه كثيرا ما كان يتم نشدان السوفتاجا وأحيانا كان يتم تفصيلها على النقد. ولكنها كانت ميسورة للحصول عليها, نظرا لأن التجار أصحاب البنوك كانوا غالبا غير راغبين في إصدارها.

أما أسباب عدم الرغبة تلك فلم تذكر بوضوح, ولكن من الممكن إستنتاجها من هذا الإطار: إذ القابلية المطلقة تقريبا لتحويل السوفتاجا إلى النقد عند تقديمها والعقوبات بالنسبة لأي تأخير في الدفع كانت تعني أن أي تاجر صاحب مصرف يصدرها يجب أن يكون واثقا تماما من عملية, أو شريكه أو زميله – أي , في الموقع الذي سوف تسترد فيه قيمة السوفتاجا. ولقد كان ثمة قليل من التجار أصحاب المصارف الذين لديهم تلك الثقة التامة. أما أسباب الإفتقار لتلك الثقة فأمر معقد تماما, ومن الأسباب الهامة في هذا الصدد حقيقة أن النشاطات التجارية والأعمال المصرفية كانت تقوم على أساس شبكة من العلاقات الشخصية الإجتماعية, وتلك في حد ذاتها ليست أساسا راسخا يمكن بناء المؤسسات الإقتصادية عليه, مما يمكنها أن تقوم بالعمل بشكل مستقل عن تلك الشبكة الإجتماعية.

وليس ثمة علامة تدل على أن السوفتاجا كانت قابلة للتحويل أو التفاوض. فإن الشخص الذي كان يستطيع سحب قيمتها كان فقط هو الشخص الذي تم إصدارها له, وكان ذلك يتم فقط في المكان الذي تم تعيينه.

وبالإضافة إلى الحوالة والسوفتاجا, فإن هناك نوعية واسعة من أوراق الإئتمان المستعملة والتي تعرف باسم الرقعة.

وكانت تستخدم غالبا في التجارة المحلية أو التجارة عبر المسافات القصيرة. وكانت تؤدي عديدا من المهام : فكانت بمثابة طلبات للمدفوعات الثانوية, مثل طلبات التسليم وأيضا كانت تعد سندات إذنية  – فكانت أحيانا مقابل مبالغ كبيرة. أما قوة تلك السندات الإذنية فتشتق من حقيقة أنه كان يتم إصدارها بواسطة تجار معروفين جيدا. وكانت لها قوة النقد, ليس فقط في التجارة, بل يمكن أيضا إستخدامها حتى من أجل الدفع لجامعي العوائد الحكومية.

وهنا, لم تكن القيمة للرقعة في حد ذاتها, بل كان المركز الشخصي وسمعة المصدر هي التي تمنحها قيمتها.

وبالنسبة لشكلها ووظيفتها , فقد كانت تقترب كثيرا من الشيك الحديث. وجميع الشيكات أو طلبات الدفع التي نجدها في وثائق جنيزا كانت بالنسبة لمبالغ صغيرة نسبيا – من واحد إلى عشر دينارات – بالرغم من أننا أحيانا نقرأ عن مبالغ أكبر, تبلغ مائة دينار, وأما أنها كانت غالبا تتضمن مبالغ صغيرة فهذا يشير – مثلما يشير غيره من العوامل – إلى أن مهمة تلك الناحية من الأعمال المصرفية تتمثل بشكل رئيسي في دفع الديون الصغيرة, وكان ذلك يتماثل  إلى حد كبير مع مهمة مراجعة الحسابات في العصر الحديث. إن تلك الرقعة المماثلة للشيك كان يتم إستخدامها من أجل تسديد عديد من الفواتير الصغيرة أو المتوسطة التي كان يستهدف لها التاجر بأسلوب لا يمكن تفادية في إطار نشاطاته المتنوعة, بمقتضى وجود الممارسة المنتشرة للحصول على المشتريات عن طريق الإئتمان.

ذلك الإنطباع يمكن أن يتم إثباته بقوة عن طريق فحص ناحية الإبداع للأعمال المصرفية التجارية. وفي حين أنه كان من المألوف للتجار وغيرهم أن يحتفظوا على الأقل بنسبة من نقودهم مودعه لدى أصحاب المصارف – التجار, وفي حين أن التجار أصحاب المصارف ذاتهم كانوا يحتفظون بودائع مختلفة في أحجامها لدى تجار أصحاب مصارف آخرين, فليس ثمة دليل على الإطلاق أنه كان يتم دفع أي فائدة, أو إعطاء أي نوع من المكافأت للمودعين. وكما أوضح جويتين , فإن مهمة التجار أصحاب المصارف كانت مهمة غرفة المقاصة في البنوك للمدفوعات. وفي الحقيقة أن تلك الخدمة ذاتها لعلها كانت تشكل المكافأة بالنسبة للوادئع, نظرا لأنه أيضا ليس لدينا أي دليل على أن التجار أصحاب المصارف كانوا يفرضون أي رسوم بالنسبة لتلك الخدمة الخاصة بالصرف, وذلك نشاط, كما تبدى لنا أوراق جنيزا – كان يتطلب إستثمار الوقت والحفاظ على دفاتر حسابات واعية.

إن الفوائد التي تتجمع لدى التاجر صاحب المصرف من تلك الابداعات كانت ذات أنواع عديدة: توفر عديدا من أنواع العملة التي كانت ذات فائدة عظيمة في نشاطات تحويل العملة, فقد كان يستطيع إستخدام الأموال التي في حوزته لإصدار السوفتاجا التي كان يحصل مقابلها على رسوم كبيرة, وكان يسطيع إستخدامها لمنح القروض التي كان يتم مقابلها تحصيل فائدة مقنعه, وكان يستطيع إستخدامها للإستثمارات الخاصة به في شركات التضامن , أو لتغطية نفقاته الحالية حتى يتم تحصيل العائد من إستثماراته الأخرى – التي كانت دائما تتضمن تخلفا في الوقت.

لقد كان التقييم السابق أشبه بملخص ضروري وكان إنتقائيا لتلك الأوجة من الإئتمان والأعمال المصرفية التي تمدنا بأفضل صورة واعية لسمة ودور الأعمال المصرفية في الشرق الأدنى الإسلامي حتى القرن الثالث عشر, بل حتى بعد ذلك.

إن النقطة الأولى التي يجيب أن تؤكدها هي أنه لم يكن ثمة تخصص لقد سارت الأعمال المصرفية جنبا إلى جنب مع العمليات التجارية المنظمة, وكانت تعد ثانوية بالنسبة لجهود التاجر في الأوجه التقليدية للتجارة مثل الشراء , والبيع, والتصدير , والإستيراد, إلخ . وفي الحقيقة, فإني أعتقد أن لدينا مسوغا في تأكيد أن الأعمال المصرفية للتاجر كانت إمتدادا لعملياته التجارية وكانت مجرد خدمة ومهارة أبعد. من بين مهارات أخرى, كان من المتوقع أن يمتلكها أي تاجر يقوم بمشروع. وفي عبارة أخرى, فإن معظم التجار إلى حد ما كانوا يؤدون مهمة تتماثل في الواقع مع مهمة أصحاب المصارف, وكل وجه من أعمالهم الخاصة بالإئتمان وأعمالهم المصرفية – مثل صرف النقود , وإصدار الكمبيالات , وقبول الودائع , والعمل كغرف مقاصة من أجل دفع كل من المبالغ الكبيرة والصغيرة – من الممكن ربطه بشكل مباشر أو غير مباشر بسعيهم التجاري.

ويجب أيضا أن نضع في أذهاننا أنه بالرغم من أنه كان ثمة مجموعة متنوعة من أساليب الإئتمان كانت تعد معروفة وتتم ممارستها في العالم الإسلامي منذ العصر المبكر للقرون الوسطى – أساليب تتشابه مع تلك التي بدأت في الظهور بأوروبا فقط في القرن الثالث عشر – فإن توسعها في الحياة الإقتصادية كان مقصورا بصفة رئيسية على صرف النقود وغيره من العمليات المماثلة, من أجل تسهيل دفع الديون , وإلى مدى أقل, على تداول أساليب الإئتمان الكتابية القابلة للتحويل. ونعود الآن للسؤال الذي طرحناه في البداية.

لماذا لم يستطع العالم الإسلامي في القرون الوسطى أن يؤدي إلى ظهور مؤسسات إئتمان مستقلة ومستقرة ومنظمة في حين كان لدية ذلك السبق الزمني البارز؟

من أجل ذلك السؤال بشكل قاطع سوف يتحتم علينا دراسة الكثير من المشاكل مثل تأثير مفهوم الإبداع من وجهة النظر الخاصة بالشرق الأدنى. وفي القانون ( الفقه) الإسلامي , لا يتضمن عقد الإبداع دفع أي رسوم أو أي نوع من التعويض سواء للمودع أو للمودع لديه.

فإن مهمته في القانون الإسلامي, مثله مثل العرف القانوني المبكر في الشرق الأدنى, كانت تقتصر على ما يتضمنه إسمه, فإن إيداع الأموال أو السلع والحفاظ عليها كان يخدم مصلحه ممتلكها. أما إستغلال المودع لدية للملكية المودعة فكان محددا بصرامة.

ولعله بسبب ذلك النص القانوني كان عقد الإبداع يقوم بمهامه المختلفة في العالم الإسلامي بالمقارنة مع الغرب في العصور الوسط. ولكن الغرب, كان المودع لدية لا يحتفظ بالسلع فحسب, بل انه أيضا كان لدية الحق في إستخدامها في عديد من الأغراض التجارية. وبالنظر لتلك الميزة , كانت الوديعة تعاد إلى مالكها مع علاوة , وتطورت الودائع إلى نوع من الأعمال المصرفية البدائية. وبالرغم من أن القيود على إستغلال الودائع في قانون الشرق الدنى  – لعلها لم تراع دائما – , فإن من المحتمل كثيرا أن ذلك المفهوم المعين للودائع كان له تأثير كابح شديد على تطور أي نوع من بنوك الإبداع في العالم الإسلامي وساهم في الحفاظ على الإئتمان والأعمال المصرفية في حدود ضيقة.

ولكنني أعتقد أن أيا كان من مفهوم الشرق الأدنى للودائع , أو أي عوامل مماثلة لا تقدم لنا تفسيرا شاملا كافيا لجمود الأعمال المصرفية ومؤسسات الإئتمان في العصور الوسطى الإسلامية. واعتقد أنه يجب أن ننشد ذلك. ويمكننا أن نجده في الإطار الإجتماعي للحياة الإقتصادية في الشرق الأدنى في العصور الوسطى. فدراسة مؤسسات الإئتمان والأعمال المصرفية من وجهة النظر تلك – ولعلنا قد نجازف بتضمين كثير غير ذلك من المؤسسات التجارية – تبين لنا الأهمية المغالي فيها للمركز وللعلاقات الشخصية كعناصر لقيامها بالعمل الفعال. وإن أكثر أنواع شركات الإئتمان شيوعا التي ذكرناها من قبل هي شركة الوجود – أي شركة هؤلاء ذوي المراكز والسمعة الحسنة – وذلك يتضمن أن منح الإئتمان كان يفترض مسبقا وجود مركز إجتماعي مميز أو علاقة واتجاه مفهوم بين الأطراف في تلك المعاملة التجارية. وإن موضوع المركز والعلاقة الإجتماعية هذا لا يزال يذكر في الحقائق ( في جنيزا) المتعلقة بالإئتمان والأعمال المصرفية. مثلا, فعده الرغبة في إستخدام السوفتاجا (أي الكمبيالات) , وقبول السندات الإذنية بدلا من الدفع نقدا, وفرط السحب الذي كثيرا ما كان يسمح به التجار أصحاب البنوك لعملائهم الممتازين, كانت جميعها تقوم على أساس مركز الأطراف المعينة , والشبكة الفعالة للعلاقات الإجتماعية – الشخصية المعممة بطريقة غير رسمية.

ومن النادر – إذا حدث –أن نجد إئتمانا فعليا موثقا ونشاطات مصرفية تجارية خارج هذا الإطار. ومن ثم نجد أمامنا إستنتاجا متناقصا ظاهريا يفرض نفسه:

إن تلك العوامل – أي المركز والعلاقات الشخصية – الإجتماعية – التي أمنت السير السلس الناجح للإئتمان والنشاطات المصرفية التجارية في دول البحر الأبيض المتوسط الإسلامية خلال معظم عصر القرون الوسطى , كانت هي نفس العناصر التي حدت من نموها وتوسعها وتطورها إلى تنظيمات مستقلة ومستقرة. ونظرا لبطء وعدم التنبؤ بالنسبة للإتصالات بين المواقع البعيدة جغرافيا, نظرا لوجود القيود البدنية والسيكلوجية بالنسبة لعلاقات الفرد الإجتماعية, فإن مجال النشاطات الإقتصادية كان مقيدا بالضرورة في حدود دوائر وثيقة وصغيرة عديدة. وإن إمكان إدماجها في بنيان أكبر وأكثر تماسكا كان معوقا بسبب الأساس الإجتماعي الضيق نسبيا الذي كانت تسير الحياة الإقتصادية على أساسه.

 

 

الهوامش:

  1. بالنسبة لأرووبا في القرون الوسطى, قارن م.م يوستان, الإئتمان في تجارة القرون الوسطى, مراجعة التاريخ الاقتصادي , الجزء 1 (1927 – 28 ) ص 234 – 261, حيث برهن يوستان بشكل مقنع أنه, من ناحية التجارة, لم تكن العصور الوسطى في أوروبا بمثابة ” عصر ما قبل الإئتمان “

وليس ثمة دراسة يمكن مقارنتها بالنسبة للتركيز على العالم الإسلامي في القرون الوسطى , ومع ذلك , بالنسبة للحصول على حقائق لتأييد ذلك المضمون , قارن س. د. جوتين, مجتمع البحر الأبيض المتوسط,  والمجتمعات, اليهودية في العالم العربي طبقا لتصويرها في الوثائق في جينيزا القاهرة, الجزء 1/ , والأسس الإقتصادية , كاليفورنا, 1967, ص229 – 262, وأ. ل. أوردوفيتش, المشاركة والربح في العصور الوسطى في الإسلام , برنيستون, 1970, ص 77 – 86, وس . لبيب,

“Geld und kredit, studied surالجزء wirtschafts geschichte

Aegyptens im و 2(1959) ص 225, 246

وبالنسبة للفترة التالية Mittelalter, JESHO

لذلك, قارن رونالد س. جينينجز , ” القروض والإئتمان في أوائل القرن 17 بالسجلات القضائية العثمانية “, JESHO, الجزء 16 (1973) , ص 168 – 216.

  1. بالنسبة لتاريخ الإئتمان ومؤسسات الأعمال المصرفية في أوروبا , قارن بين المراجع في نهاية المقالة الرائعة من تأليف الفقيد ريمونددي روفر , ” تفسيرات جديدة لتاريخ الأعمال المصرفية ” , صحيفة تاريخ العالم, الجزء 2, (1954) ص 38 – 76.
  2. بقدر معرفتي , لم يقم أي شخص حتى الأن بعملية تجميع وتحليل منظم للإشارات والأشكال العديدة للإئتمان المبعثرة في كتب التاريخ وغير ذلك من المصادر التاريخية التي تبتديء من القرون الثلاثة أوالأربعة الأولى للعصر الإسلامي , والنموذج الوحيد للمعالجة الجزئية من ذلك النوع, والذي يحتاج إلى مراجعة , هو و.ج. فيشل , اليهود في الحياة الإقتصادية والسياسية في العصور الوسطى في الإسلام, لندن , 1937, حين جمع فيشل كثيرا من المعلومات عن ” أصحاب المصارف ” اليهود – Jahabidha – في بغداد خلال العقود المبكرة للقرن العاشر , قارن ص 1 – 44.
  3. على سبيل المثال, في الصيغة المقترحة للعقود المكتوبة للأشكال العديدة للمشاركة , فإننا كثيرا ما نواجه عبارة : ” ويبيع بالنقد والناصية ” ( أي الشريك ) يمكنه الشراء والبيع نقدأ أو عن طريق الإئتمان . الشيباني, كتاب الأصل , كتاب الشركة , دار الكتب المصرية. فقه حنفي 34, صفحة 57 ب, و61ب.
  4. السرخسي , المبسوط , 30 جزء, القاهرة 1324 – 1331, الجزء 22 , ص 38 : ” البيع بالناصية تجارة مطلقة “
  5. الكاشاني , بائع الصنائع في ترتيب الشرائع, 7 أجزاء , القاهرة , 1328, الجزء 6, ص 68 : ” ومن عادتهم البيع نقدا وناصية “.
  6. قارن ج. شاخت , مقدمة في القانون الإسلامي , أكسفورد , 1964 , ص 153 وما يليها
  7. السرخسي المبسوط , الجزء 22 , ص 38
  8. نفس المصدر ص 38
  9. لنفس العمل, الجزء 22, ص 45 : ” فالشيء يشتري بالناصية بأكثر مما يشتري به النقد”.
  10. قارن شاخت, مقدمة في القانون الإسلامي , ص 157.
  11. نفس العمل , ص 148 – 149 .
  12. قارن أ. ميز, نهضة الإسلام , الترجمة الإنجليزية بواسطة س. خودا باكشا, ود. س . مارجوليوت , باتنا , 1937, ص, 476, ( باقتباس إبن حوقل ) وو. ج فيشل, اليهود في الحياة الإقتصادية والسياسية في القرون الوسطى في الإسلام , ص 19.
  13. السرخسي, المبسوط, الجزء 2, ص152 . والتعبير الذي يطلق على تضامن ذوي السمعة الطيبة, هو شركة ” الوجود” …
  14. الكاشاني : بدائع , الجزء 6, ص 58.
  15. ” طريق إستنماء المال أو تحصيله “
  16. أ. أدوفيتش, ” النظرية والممارسة في القانون الإسلامي : بعض الأدلة من جينزا ” , الدراسات الإسلامية , 32, ص 292 – 294
  17. مامونيذز , الإجابة , طبعة ج. بلاو , 3 أجزاء , القدس , 1957 – 59 , الجزء ا, ص 88 – 89. إن كثيرا من المعلومات التي تقوم على أساسها تلك المناقشة توجد في س.

د. جوتين, مجتمع البحر الأبيض المتوسط, الجزءا , ص 229 – 250 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر