أبحاث

مستقبل الدراسات الإسلامية

العدد 39

يري محمد إقبال – وهو أكثر الفلاسفة المسلمين شهرة في القرن العشرين – أن الدراسات الإسلامية لها أربعة أهداف رئيسية ، بيَّنها في خطاب له وجهه إلى أمانة سر (المؤتمر التربوى المحمدى لكل الهند ) في يونيو 1925 ، والذى كان يقوم بوضع منهج لمقرر الدراسات الإسلامية في جامعة عليكرة الإسلامية. فكتب يقول إن الغرض من الدراسات الإسلامية هو (تربية وتدريب علماء الدين من ذوى المؤهلات الطبية) و(تخريج دارسين قادرين علي أن يتتبعوا الأصول التاريخية لاستمرارية الحياة الفكرية بين الثقافة الإسلامية والمعرفة الحديثة ) و(تخريج دارسين مسلمين متمكنين فى الجوانب المختلفة للتاريخ الإسلامى والفن الإسلامى والثقافة العامة الإسلامية والحضارة الإسلامية ) و(اخراج دارسين مؤهلين لمواصلة البحوث في تراث الدراسات القانونية في الإسلام ) (1). ومن الواضح أن إقبال قد أعمل فكرة في هذا الأمر حيث يقوم بتفصيل كل هدف من هذه الأهداف.

ويحاول إقبال أن يبرهن علي أن تدريب علماء الدين من ذوى المؤهلات الطبية يعتبر ضرورياْ لإشباع الحاجات الروحانية للمجتمع (ولكن هذه الحاجات الروحانية لأى مجتمع  تتغير مع اتساع نظرة هذا المجتمع للحياة . فتغير المكانة التى يتمتع بها الفرد وتحرره الفكري والتقدم غير المحدود في العلوم الطبيعية قد غيّر بطريقة كلية المادة التى تتشكل منها الحياة العصرية . حتى أننا نجد أن نمط التمسك الشديد بتعاليم مذهب ما أو الأفكار المتعلقة بأصول الدين والتى كانت ترضي المسلم في العصور الوسطى قد لا تحوز رضاه اليوم)(2). ولذا نجد أن إقبال كان يبحث عن طريقة جديدة لتدريس الإسلام تتميز بمزيد من الابتكارية ولذا فقد استبعد محتوى المنهج الذي اقترحه المؤتمر فكتب يقول (إن إقامة مدرسة لأصول الدين الإسلامى على أسس قديمة يعتبر أمراً عديم الجدوى تماماً إلا إذا ما كان هدفكم هو ارضاء ذلك القسم من مجتمعنا الذي يتميز بأنه أكثر محافظة من غيره )(3). وحاول أن يبين أن ما نحتاجه هو نشاط فكري من خلال قنوات جديدة وتكوين رؤية جديدة لأصول الدين وعلم الكلام (4). فقد كان إقبال متقدماً علي عصره بمراحل كبيرة ولكن القوى (المحافظة) استطاعت أن تؤكد نفسها.

ومع ذلك فإن الحركة التى تهدف إلي إصلاح محتوى مقرر الدراسات الإسلامية في جامعة عليكرة الإسلامية لم تكن بدون مغزى .. بل كانت تعبيراً أكاديمياً عن الاهتمام المتزايد بين الدارسين المسلمين من الهنود بأن الدراسات الإسلامية في حاجة إلي نفحة جديدة . ويقترح إقبال في نفس الخطاب __ وجوب حث طلبة الدراسات الإسلامية علي دراسة المواد العلمية والرياضيات وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع ، كما أن الطلبة الذين يدرسون العلوم الطبيعية عليهم أن يأخذوا مقرراً مثل (العلم في العالم الإسلامى ) . وقد كان هو وبعض من مفكري عصره يتمسكون بأن الدراسات الإسلامية يجب ألا تكون مجال الدراسة الأوحد لعلماء الدين المسلمين _ كما أن الطلبة المسلمين الذين يدرسون العلوم الطبيعية والاجتماعية يجب أن ينالوا حظاً من الدراسات الإسلامية .

إن الفكرة التى تنادى بوجوب إنشاء أقسام أو معاهد أو مدارس للدراسات الإسلامية في الجامعات المسلمة الحديثة تمكن جذورها في حركة الاحياء التى جرت في الهند وفي أفكار المصلحين أمثال إقبال . وقد قامت الجامعات الهندية مثل جامعة اليجرة والجامعة العثمانية وجامعة الله أباد بإنشاء أقسام للدراسات الإسلامية والعربية تمنح درجات علمية علي مستوى الاجازة الجامعية الأولى ودراسات العليا مع بداية القرن العشرين . وهكذا فإن الدراسات الإسلامية باعتبارها فرعاً من فروع العلم كان لها _ كما يقول محمد مكين _ (تكوينها الأكاديمى كمقرر  مشترك بين الجامعات _وإن كان هذا التكوين لم يُنص علية صراحة) _ في الهند (6) . وكان لهذا التكوين تأثيره الذي لا يستهان به علي نشوء هذا الفرع من المعرفة .

الدراسات الإسلامية فى العالم الإسلامى :

شهدت الجامعات القديمة فى بعض البلاد الإسلامية فى الخمسينات من هذا القرن توسعاً ملحوظاً كما أنشئ عدد من الجامعات الجديدة وذلك عندما حصلت هذه البلاد على استقلالها واكتسبت الدراسات الإسلامية دفعة جديدة فاتسعت الأقسام وتم (تحديثها) حيث بدءوا فى تقديم مقررات جديدة مثل (الإسلام فى العالم الحديث) و (حركات الإحياء المعاصرة) بالإضافة إلى المقررات التقليدية المختصة بالتفسير والفقه واللغة العربية.. الخ . كما بدءوا يعطون تأكيداً أكثر على التفرع الثنائي (التقليدى/الحديث)، وأصبح منهج الدراسة يحتوى على موضوعات مثل تنظيم النسل و (الإسلام والعلم) والإسلام والعقائد الحديثة . وعلى هذا المنوال قامت جامعات القاهرة ، ودكا ، وكراتشي ، والبنجاب ، والجامعة الإسلامية بجاكارتا بإعطاء صورة عصرية لمقررات الدراسات الإسلامية بها – كما اقتبست جامعات الملايو وعبدان والملك سعود بالرياض – وكلها جامعات حديثة – أحدث نموذج لهذا الفرع من الدراسة .

ومع ذلك فلم يكن فى كل الجامعات أقسام منفصلة للدراسات الإسلامية ففى بعض الجامعات – مثل جامعات الاسكندرية ودمشق والرباط وبغداد –  كانت الدراسات الإسلامية مدمجة فى أقسام كليات الآداب والدراسات الإنسانية مثل أقسام الأدب واللغات والتاريخ والقانون . الخ وتقوم بتقديم مقررات مختلفة تتناول الجوانب الإسلامية . فعلى سبيل المثال يقوم قسم القانون بتدريس مقرر عن القانون الإسلامى . أما فى جامعات أخرى معينة مثل جامعات أنقرة وطهران (فنجد الدراسات الإسلامية داخلة كجزء من تركيب الجامعة تحت تصنيف أكثر تحديداً باعتبارها كليات أو أقسام لأصول الدين وقائمة على النسق الغربي لكليات اللاهوت والعلوم الدينية)(7) . كما أنشأت جامعة اسطنبول كلية تحت اسم (كلية العلوم الدينية) فى سنة 1949 هدفها (دراسة المبادئ الدينية فى ضوء مبادئ دراسية)(8) .

ولم يكن للدراسات الإسلامية وضع فريد إلا فى جامعات القاهرة . فقد كان لهذا الفرع من العلوم كلية قائمة لذاته . فقد أطلق اسم دار العلوم على معهد أقيم عام 1871 للدراسات الدينية واللغات والأدب والفلسفة وفى سنة 1946 انضم هذا المعهد للجامعة وحصل على كيانه ككلية تقوم بتقديم مجموعة كاملة من الموضوعات الإسلامية .(9)

وبينما كان علم الدراسات الإسلامية يمر بهذه التغيرات استمرت جامعات الأزهر فى القاهرة والقرويين فى فاس والزيتونة فى تونس – وهى جامعات إسلامية عتيقة ترجع أصولها إلى ما يزيد على ألف سنة من التاريخ والبحث – فى تدريس الإسلام بالطريقة التقليدية . ولم يتغير إلا الأزهر حين مرّ بتغيير جذرى سنة 1961 حين حولوه إلى (جامعة عصرية) وألحقوا به كليات الدراسات الإسلامية واللغة العربية وإدارة الأعمال والصناعة والزراعة والطب (10) ومع هذا كله كان الأزهر القديم هو النموذج الذى أقيمت على أساسه الجامعة الإسلامية فى المدينة سنة 1960 .

ولكن ظهور مقررات الدراسات الإسلامية الحديثة لم ينتج عنه تغيير جذري فى محتويات هذا الفرع من المعرفة . فقد ظلت الدراسات الإسلامية دراسات دينية فى جوهرها لها غرضها وهدفها المحددين سواء فى المعاهد التقليدية للدراسة الإسلامية مثل جامعات الأزهر وديوباند والمدينة أو فى الجامعات الحديثة. وبقى الهدف منها – كما أشار إقبال – تخريج دارسين للإسلام مدربين تدريباً جيداً، حيث نجد منهج الدراسة فى كلا النوعين من المعاهد قائماً على التراث الإسلامى القديم الذى نشأ خلال قرون من النمو والإصلاح ويشمل القرآن والحديث اللذين يشغلان موقعاً رئيسياً بينما تقوم مقررات مثل الشريعة والعلوم الدينية وقواعد اللغة العربية والبلاغة والمنطق بدور مساند (11). وقد تضيف الجامعات الحديثة بالطبع مقررات تمس القضايا والموضوعات الجدلية المعاصرة .

وهناك أسباب قوية وراء تركيز المدخل التقليدى للدراسات الإسلامية على هذا الإطار فنجد (مكين) مثلا يحاول أن يبين أن هذا الإطار (يدين بأصله وبنائه إلى الأنماط الفكرية والاجتماعية والسياسية التى سادت أيام انتشار الإسلام وفوق كل شئ، إلى التمسك العقائدى الذى يعتبر المعيار الأسمى للفكر الإسلامى والسلوك الإسلامى. ولكن هذه المجموعة من الدراسات لم تكن مختلفة كلية عن الدراسات التى يمكن أن نتبينها فى اوروبا فى العصور الوسطى حيث كانت الفنون الحرة الثلاثة النحو، والمنطق، والبلاغة، أساساً لنظام يتم فيه التصور الدائم للدراسات الانجيلية والفلسفة المسيحية وعلم اللاهوت والقانون. فكان النحو هو اللغة اللاتينية التى تعتبر اللغة العالمية للكنيسة القوية. كما كان المنطق بمثابة سلاح للحوار المقنع وطريقة مريحة للهروب إلى مجال المعرفة الواسعة. أما البلاغة فقد كانت الأساس الضروري للمجادلة والخطابة فى مجال الكلمة المنطوقة ولكن الحقيقة التى غابت عن الإدراك حتى عند المسلمين أنفسهم هى أن الفروع الرئيسية مثل علم اللاهوت القائم هما المصلحة النهائية لدافع أصيل يهدف إلى تحديد دقيق لشروط تحقيق حضارة معينة ولم يكونا فى حد ذاتهما مطلوبين باعتبارهما قيمة فكرية أو محتوى فكرى. فقد كان وراءهما قرون من التفكير المضني والتطبيق الشاق. فعلى سبيل المثال نجد علم الكلام فرغاً مستقلا من فروع العلم يقوم على المفاهيم العقلانية واستخدام الأدوات العلمية أى المنطق والفيزياء)(12).

ورغم أن ناقدي الطرق التقليدية فى تقديم الدراسات الإسلامية كانوا محقين في الاشارة إلى هذا المنهج بعيد الصلة نوعاً ما عن الواقع المعاصر فإن ما أدخلوه من إصلاحات لم تتسم بالتجديد. فرغم أن الجامعات الحديثة لا تدرس البلاغة أو المنطق فإننا نجدها تحتفظ بالتكوين الأساسي للمنهج التقليدى بل أن المقررات الجديدة التى أدخلوها لم تشكل جزءاً متكاملا فى صلب المنهج ككل وإنما ظلت كملحق إضافى للمنهج التقليدى، حتى أن (مكين) نفسه لم لديه ما يضيفه للمحتوى التقليدى، وإنما إقترح أن تتوسع الدراسات الإسلامية لتصل إلى المجالات الآتية : الدين، الفلسفة، الأخلاق، الصوفية، الموسيقى، الأدب، الفن، علم الآثار، التاريخ. ورغم أن هذه المواد قد تقدم لطلبة الدراسات الإسلامية موضوعات خارج نطاق المنهج التقليدى إلا أن الدراسات الإسلامية كفرى بذاته لم تستفيد إلا القليل. فإضافة مثل هذه الموضوعات إلى هامش الدراسات الإسلامية من الصعب أن يعطي لهذا الفرع بناءً معاصراً يتميز بالتكامل والتماسك. والنقد الذى يمكن أن يُوجّه بصفة دائمة للمنهج والمحتوى الخاص بالدراسات الإسلامية التقليدية هو خلوها من المحتوى الفلسفي والتحليلي المنسق للواقع المعاصر .

ويركز المدخل إلي الدراسات الإسلامية – سواء التقليدى أو الحديث – علي الإسلام باعتباره ديناً وثقافة وسواء دارت حول تحفيظ القراَن أو الحديث أو التمكن من آراء الفقهاء القدامى أو دراسة التاريخ الإسلامى فإن التأكيد انصب علي الحفظ الأصم وجمع الحقائق . وتحولت الدراسات الإسلامية في أساسها ألي مخزن هائل للحقائق والآراء التى يجمعها الطالب أو الطالبة خلال دراستهما . ولذا فلا عجب أن يشتهر العلماء والدارسون المعاصرون بعجزهم الواضح عن تحليل القضايا المعاصرة وعدم القدرة علي تقويمها أو إخضاعها للحوار المقنع .

الدراسات الإسلامية في الغرب :

وقد اتبعت الدراسات الإسلامية في الغرب مساراً مختلفاً نوعاً ما . فجذور الدراسات الإسلامية في الغرب تغوص بعمق في التاريخ الاستعماري . ويري مارشال هودجسن أن الدراسة الغربية للدراسات الإسلامية نشأت من خلال ثلاث منافذ ( اولها أولئك الذين درسوا الامبراطورية العثمانية التى قامت بدور رئيسى كبير في أوروبا الحديثة ، واطلعوا عليها لأول وهلة من خلال وجهة نظر التاريخ الدبلوماسي ، الأوروبي فكانوا يميلون إلي أن يروا جميع بلاد الإسلام من خلال المنظور السياسي للعاصمة العثمانية إسطنبول. وثانيها أولئك الذين دخلوا الدراسات الإسلامية وهم من البريطانيين عادة _ لكى يتقنوا اللغة الفارسية باعتبارهم موظفين مدنيين ممتازين أو أن المصالح الهندية استحوذت عليهم ومالوا إلي أن المصالح الهندية استحوذت عليهم ومالوا إلي أن يعتبروا التحول الاستعماري للعاصمة الهندية (دلهى) هو قمة التاريخ (المتأسلم.) في  نظرهم . ثالثاً أولئك الساميون الذين اهتموا قبل كل شئ بالدراسات العبرية فأخذتهم دون أن يشعروا. إلى اللغة العربية فاعتبروا مركزهم الرئيسى القاهرة التى كانت تعتبر أكثر المدن التي تتحدث العربية انتعاشاً في القرن التاسع عشر رغم أن بعضهم تحول إلى سوريا أو المغرب، وكانوا بصفة عامة من علماء فقه اللغة التاريخي أكثر منهم مؤرخين ولذا كانوا يرون الثقافة (المتأسلمة) من خلال عيون الكتًاب السوريين والمصريين السابقين والتى تدور فى غالبها حول القاهرة الشعبية)(13). ويعتبر هودجسن أن المنافذ الغربية الأخرى للدراسات الإسلامية – مثل الأسبان والفرنسيين الذين اهتموا بدراسة أسبانيا المسلمة والروس الذين انشغلوا بدراسة مسلمى الشمال – لا ترقى إلى نفس الأهمية .

ومهما كان المنفذ الذى تمت من خلاله الدراسات الإسلامية فى الغرب فإن أهدافها كانت بسيطة ومباشرة وهى فهم العقل المسلم والثقافة الإسلامية لكى تيسر عملية الاستعمار ولكى تواجه متطلبات الوظائف المدنية المتزايدة المرتبطة به. وتشير هذه الأهداف بكل تأكيد على أن الدراسات الإسلامية فى الغرب كانت فرعاً يثير المشكلات فكيف يمكن ان يجعلوا الإسلام يبدو فى مرتبة أدنى؟ وكيف يمكن أن يقنعوا المسلمين بقبول مصيرهم باعتبارهم رعايا محكومين؟ وكيف يمكن أن يجعلوا المسلمين تابعين فكرياً ومن ثم مادياً؟… الخ ذلك ما كانوا يجرون وراءه داخل إطار القيم والأنسقة الثقافية الغربية. وقد شكًل هذا الاطار المصدر اللإستشراق والمدخل والطريقة لدراسة الإسلام وهو ذاته الإطار الذى قام بتحليله بطريقة ثاقبة كثيرون من بينهم إدوارد سعيد (14). وتركزت الوظيفة الرئيسية لمراكز الدراسات الإسلامية فى جامعات كمبردج، واكسفورد، وليدن، والسوربون، وبرلين حول تخريج موظفين مدنيين فى فن الإدارة الاستعمارية وحول تجهيز بعثات التبشير المسحية بالمجالات التى تساعدهم فى عملية التنصير وحول إنتاج مجموعة من الدراسات التى تبرر السيطرة الأوروبية على أراضى المسلمين .

ويظهر التراث الاستعمارى واضحاً فى أغلب مقررات الدراسات الإسلامية الحالية فى الجامعات الغربية، ويقومون بتدَريسها بطريقة تجمع بين الخيرية الانسانية المتحمسة والاهتمام بالمصلحة الذاتية الباطنية. ولم تكن الارتباطات بينهماً وبين السياسة الخارجية أمراً مستبعداً على الاطلاق. ومع ذلك فإن الدراسات الإسلامية فى الغرب تمتاز بميزة واضحة: فحيث أن الإسلام يُدرّس باعتباره (مشكلة) – وإن كان ذلك من منظور القيم والثقافة الغربية – فإن هناك تأكيد قوى على التحليل، وكانت أفضل أعمال الدارسين المستشرقين أعمالا تحليلية: مثل كتاب هودجسون (مغامرة الإسلام) وكتاب د.م دنلوب (الحضارة العربية حتى سنة 1500 بعد الميلاد).

ومع ذلك فقد اكتسبت الدراسات الإسلامية اهتماما أكثر تعاطفاً مع التحول الجزئى فى تركيب القوة العالمية والثروة الاقتصادية التى حلت حديثاً بأقطار إسلامية معينة. وما يعينه ذلك فعلا هو أن الدراسيين المستشرقين يميلون الآن فى تحليلهم إلى معاملة القيم الإسلامية والثقافة الإسلامية داخل معاييرها الذاتية، فنجد مقررات الدراسات الإسلامية الآن تحوى أعمالا للكتاب المسلمين كما أصبح الإسلام يُدرّس باعتباره حضارة.

وربما لا نجد إنساناً بذل جهداً يفوق ما بذله هودجسن فى تقديمه الإسلام باعتباره حضارة فكتابه المعنون (مغامرة الإسلام) وهو دراسة منظمة وثاقبة للحضارة الإسلامية منذ البداية حتى القرن العشرين وتقع فى ثلاث مجلدان يستخدم الآن ككتاب مقرر فى أغلب مقررات الدراسات الإسلامية فى الجامعات الغربية . بل أن هودجسن قام بصك مصطلحات جديدة تربيط بما قام به من تحليل مثل (عالم الإسلام) و (تأسلم) الذين يعتبران اثنين من أهم هذه المصطلحات. وقد استخدم مصطلح (عالم الإسلام) مقارنة بمصطلح (عالم المسحية) لكى يصف المجتمع الذى يسود فيه المسلمون وتسود فيه عقيدتهم ولا يشير المصطلح إلى منطقة ما بهذا الإسم وإنما إلى مجموعة متشابكة من العلاقات الاجتماعية (التى يُمكننا إلى حد معقول أن نحدد لها مكاناً. وبينما لا نستخدم مصطلح عالم الإسلام لكى نصف حضارة ما أو ثقافة معينة فإن مصطلح (تأسلم)قد أستخدم فى وصف مثل هذه الحضارة التى تتميز عن عالم الإسلام من الناحية التاريخية باعتبار أن (تأسلم) تشير إلى المجتمع الذى تكون من المسلمين وغير المسلمين. وقد أراد هودجسن بهذا التمييز أن تكون دراسة الإسلام وتدريسه من منظور المؤرخين المتميزين. بمعنى تركيز الضوء على ما ينفرد به (عالم الإسلام) والنظام (المتأسلم) وإعطائه ما يستحقه من تأكيد وتحليل .

ويرى هودجسن أننا نستطيع أن نزيد من فهمنا لعالم الإسلام وأن نعطى الدراسات الإسلامية اطارا موضوعياً فقط من خلال تركيزنا على ما تتميز به منفردة  التجربة الكلية التى نسميها الإسلام. وإذا ما         استخدمنا كلمات هودجسن ذاتها (بالنسبة للمؤرخ المتميز.. فإن عالم الإسلام بإعتباره مجموعة من أنماط التراث الأخلاقية والإنسانية تتميز بالثبات والخصوصية هو الذى يشكل مجال الحركة لهذا المؤرخ. وسواء أدت هذه الأنماط إلى شئ واضح فى العصور الحديثة فإن ذلك لا يصل إلى نفس القدر من الأهمية التى تصل إليها سمة الامتياز (التى تستحقها ) بإعتيارها استجابة إنسانية حيوية ومسعى بشرياً لا يمكن لغيره أن يحل محله . ومن خلال هذا الوصف يمكن أن يتحدى (هذا العالم) احترامنا واعترافنا الإنسانى به حتى ولو كان قد قام بدور أقل بكثير مما قام به فى تبيان الرابطة الثقافية الانسانية زماناً ومكاناً وفى إخراج العالم الذى نجده الآن) . (16).

وتعتبر الفكرة التى تنادى بأن تكون دراسة الإسلام وتدريسه من منظور المؤرخ المتميز فكرة قوية فقد اهتم هودجسن بصفة أساسية بالشخصية المتميزة للمجتمع الإسلامى والثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية . ولكن ما ينفرد به الإسلام حقيقة وما يميزه خاصة ليس المجتمع الذى جاء به أو الحضارة التى أنشأها والتى وصلت إلى قمة الانجاز البشرى ثم تدهورت وإنما نظريه العالمية فهذه النظرة العالمية هى التى يجب أن تكون البؤرة الأساسية التى تتجمع حولها الدراسات الإسلامية سواء فى العالم المسلم أو فى الغرب .

الدراسات الإسلامية :منظور مستقبلى:

بالرغم من أن الدارسين المسلمين يُجمعون على أن الإسلام ليس مجرد دين (كما يشير إليه المصطلح الغربى) وإنما طريقة كاملة للحياة وثقافة رفيعة مصقولة وحضارة راقية فإن الإسلام كما رأينا لم يحظ مطلقاً بالنظرة الشمولية فى دراسته أو تدريسه. ففى الجامعات المسلمة نجد الدراسات الإسلامية نادراً ما تتخطى حدود الدين والثقافة . وفى المجامع العلمية الغربية مثلما هو الأمر فى الحضارة الغربية ذاتها تستحوذهم فكرة غير سوية فى التعامل مع (الدين) و(الفلسفة) و (العلوم) باعتبارها ثلاث مجالات مختلفة للعقل لكل منها طرقها وقوانينها وحقائقها الخاصة بها . وداخل هذا الوسط الفكرى فإن الدراسات الإسلامية سواء تمت من خلال منظور مؤرخ متميز أو بإعتبارها مجرد فرع دخيل من فروع المعرفة لن يكون لها فى الحقيقة على الإطلاق مكانة أكبر من التى حصلت عليها الدراسات الدينية . ومع ذلك فإن هناك تبصّرات واضحة يجب علينا أن نقوم بها إذا ما قرنّا الطريقة المستخدمة فى الدراسات الإسلامية فى الفلسفة و (العلوم) . ودعونا نسير مع الافتراض الساذج بأن الغرض من الدراسات الإسلامية فى المغرب هو زيادة فهم الإسلام وناسه وثقافته ومجتمعه وحضارته فى العالم المتقدم. وإذا ما استرشدنا بمقولة لإقبال من أن هدف الدراسات الإسلامية فى العالم الإسلامى هو تخريج دارسين متمكنين يمكنهم أن يعالجوا بعض المشكلات المخيفة التى تواجه المجتمعات الإسلامية وربما يضعوا لها حلول، فهل يمكننا أن نقترح مدخلا جديداً للدراسات الإسلامية يختلف كلية (عن المدخل الحالى) يستطيع أن يحتوى الحقائق السياسية والتكنولوجية المعاصرة ويخدم كلا الهدفين؟ على هذا العوامل والاتجاهات التى يجب على هذا المدخل أن يضعها فى الاعتبار؟

لقد وضعت الجامعات فى الغرب وفى العالم الإسلامى – حتى الآن – حولها سياجاً واقياً يمنعها من النسيج المتشابك المتسع من المشكلات الاجتماعية والثقافية التى يزخر بها العالم الواقعى من حولها ،ولكن لم يعد من الممكن تجاهل هذه المشكلات وذلك لأنها ببساطة قد اكتسبت قوة دافعة ذاتية وأصبحت الآن تهدد باحتواء الكوكب الأرضى كله وهذه المشكلات معرفة لنا كافة ونحن كلنا ندرك أنها متشابكة بطريقة ما ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض .وسواء كانت هذه المشكلات تدور حول الحرب النووية أو الاتجاهات الديموجرافية أو نقص الموارد أو مشكلات الطاقة أو البطاقة الكلية أو مشكلات البيئة أو مشكلات التنمية فى العالم الثالث فإنها كلها ترتبط ببعضها وتشكل سوياً ما أطلق عليه نادى روما المشكلة العالميةٌ (17). وتعتبر كل مشكلة – داخل هذا المجتمع المعقد من المشكلات – فى حد ذاتها كلاًّ معقداً. وقد يظن المرء – على سبيل المثال – أن مشكلة السكان بسيطة جداً ولكن النظرة الفاحصة عن كثب ستكشف لنا أن القضايا (المرتبطة بها) تتخطى حدود تنظيم النسل إلى التركيب العمرى للسكان ومدى سرعة نموه ومعدل التقدم المادى وتيسّر الطعام وما إلى ذلك. وكل هذه المشكلات ليست مجرد مشكلات تكنولوجية ولكنها أيضا ذات أيعاد أخلاقية هامة: وأن أقضى ما نقترحه من حلول فردية أو إجتماعية أو مجتمعية يجب أن تقوم على معايير أخلاقية .

أضف إلى ما سبق أن هذه المشكلات تتغير وتتعقد أكثر يوماً بعد يوم وأكثر من هذا أن معدل التغير ذاته بتغير . ولذا فإن المجتمع يمارس دائماً عملية التوافق وإعادة التوافق مع هذا التغير فالتقدم فى علم التكنولوجيا الدقيقة وهندسة الوراثة يهدد الآن بإدخال تغيرات أساسية فى المجتمع كما تتقدم التفوقيه والذكاء الاصطناعى يخطى ثابتة متوازنة لإدخال تغيرات أساسية أكثر فى حياتنا. وهكذا تستمر المسيرة .

وفى إطار هذه الخلفية من الرؤية المستقبلية لن تتهيأ لنا القدرة على مداومة التظاهر بأن ما نتعلمه فى الجامعة لا يصل بمحيطنا الشخصى والمجتمعى ومستقبلهما . ولا يمكننا أن نفترض بسهولة أن مشكلاتنا يمكن حلها فى إطار تتابعات منعزلة قائمة على علاقة خطية بين السبب والنتيجة . فنحن فى حاجة إلى التعامل مع العالم بطريقة أكثر عمقاً نغوص بها إلى حيث يمكن أن تكون لأعمالنا كلها تأثيرات جانبية خطيرة وتؤدى إلى مجموعة كاملة من التفاعلات والتأثيرات المتشبعة (اللاخطية). فالتفكير من خلال المنطق القديم القائم على العلاقة بين السبب والنتيجة لا يناسب على الاطلاق موقفنا الحالى. ويدرك أغلب الشباب – سواء فى الغرب أو فى العالم الإسلامى – أن ما يتعلمونه لا يُعدّهم لما ينتظرهم من قرارات معقدة يجب أن يتخذوها أو اختبارات أخلاقية عليهم أن يقوموا بها فى حياتهم اليومية. فهم يحتاجون إلى طرق جديدة للتعامل مع هذه المشكلات ولكن هذه الطرق لا تناسب أى محتوى دراسى أو منهج مقنن.

ويواجه الذين سيقومون بدراسة الإسلام فى المستقبل مسئولية ضخمة فعليهم أن يكونوا مدربين بطرق أحدث تختلف اختلافا جذرياً عن المدخل التقليدى، إذا ما كان لهم أن يقوموا بدور فعّال فى إيقاظ مشاعر هذه الأمة وفى حل بعض من مشكلاتها الأكثر إلحاحاً .

وهناك تغييرات أساسيان يعتبران خروجاً صريحاً على المدخل التقليدى للدراسات الإسلامية نحتاج أن نقوم بهما: أولهما يجب علينا أن نتخلى عن صورة الدراسات الإسلامية باعتبارها فرعاً صارماً من فروع المعرفة يندرج تحيه فروع جزئية تقع فى مربعات صغيرة واضحة تحمل عناوين (القرآن)، (الحديث)، (الشرعية الإسلامية) ،(التاريخ الإسلامى)، ..الخ واسمحوا للكاتب أن يسارع بالقول بأن ذلك لا يعنى أننا يجب أن نُسقط المحتوى التقليدى للدراسات الإسلامية بل الأحرى ألا نقوم بتدريسه كمحتوى مستقل منفصل عن الواقع. علاوة على ذلك لم يعد ضرورياً التأكيد التقليدى (على بعض الأمور) فمثلا ليس من الضرورى حفظ كل الآثار الصحيحة وآراء الفقهاء القدامى عن ظهر قلب وهى أمور كانت تستنفذ من الدارسين وقتا طويلا وطاقة كبيرة فقد أصبح بإمكان الدارسين – حتى فى أفقر البلاد الإسلامية – الحصول على هذه الأمور من الحاسبات الآلية المصغرة الخاصة بهم بلمسة زر، ومن ثم فقد أصبح التأكيد على الحفظ الأهم وتعلم الحقائق الآن أمراً عفا عليه الزمن وأصبح التأكيد الحديث على التحليل وحل المشكلات الأخلاقية والخلفية – أو باختصار التفكير داخل أطر إسلامية. ولذا فالدراسات الإسلامية يجب أن تتطرق إلى كافة المشكلات المعاصرة بغض النظر عن مدى اتصالها أو بعدها عن الإطار القديم . إن الفهم المتزايد للروابط والتفاعلات بين المجالات المختلفة للمعرفة والمداخل إلى اكتشاف المعرفة الجديدة التى اكتسبناها تفرض الحاجة إلى تبنى مدخلا ديناميا ملتزماً: وذلك يعنى إلى حد ما دعوة إلى الواقع الذى نرى فيه وحدة المعرفة كلها والذى يعتبر حجر الأساس للنظرية القديمة للتربية الإسلامية. وذلك هو ما يربطنا بالتراث .

وعلى هذا الأساس فإن الدراسات الإسلامية يجب أن تدرس ويتناولها البحث من خلال منظور متعدد الفروع ومتداخلها. فالمدخل متعدد الفروع يستخدم فروعاً مختلفة من المعرفة لكى ندرس موضوعاً خاصاً ويحاول أن يخلق صورة كاملة شاملة . فعلى سبيل المثال فإن دراسة الدولة التى أقامها النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى المدينة باستخدام نظريات علم الانسان الاجتماعى وأدواته وكذا العلوم السياسية وتاريخ التقنيات سوف يمكننا من نريد من التبصّر لا يتهيأ لنا فى كتاب تقليدى من كتب السيرة . كما أن المدخل المتداخل الفروع سيستخدم عدداً من فروع المعرفة لكى يفسّر أحداثاً معينة ومواقف خاصة ويحاول بذلك إعطاء منظور جمعى. فالهجرة مثلا يمكن أن ندرسها عن طريق فحص العمليات التاريخية للتغير الاجتماعى وعن طريق تحليل الجوانب النفسية والاجتماعية للمجتمع المكيّ والأسباب المعينة التى دفعت النبى محمد صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة إلى المدينة. مرة أخرى فإن النتيجة النهائية سوف تكون أكثر عمقاً من تلك التى يمكن أن نجدها فى أعمال الدارسين الجدد. فالدارسون الذين تلقوا تدريباً فى المدخل متعدد الفروع ومتداخلها للدراسات الإسلامية هم فقط الذين يستطيعون معالجة مشكلات المجتمعات المسلمة المعاصر منها والمستقبل والتى تتميز بالتعقيد وتعدد الأبعاد .

وإذا ما تطورت الدراسات الإسلامية فى شكل موضوع متعدد الفروع ومتداخلها فإن الإسلام  حينئذ لا يمكن أن يدرّس باعتباره دينا أو ثقافة أو حتى حضارة.. وذلك هو الخروج الثانى عن المدخل التقليدى فالإسلام يجب أن يقدّم باعتباره نظرة عالمية ومن خلال ذلك فقط يمكنه أن يحل مشكلات معتنقيه ومن خلال ذلك فقط يمكنه أن يعطينا منظوراً متميزاً فريداً للمشكلات الروحانية والثقافية والاجتماعية والتكنولوجية والعلمية والاقتصادية والسياسية التى تواجه الانسان .وعلى أساس أنه منظور عالمى فإنه سيكون معرضا للبحث باستخدام أدوات وطرق يستخدمها أى فرع من فروع المعرفة وتلك يمكن أن تزيد من فهمنا لمشكلات البشرية. وعلاوة على ذلك فإنه كمنظور عالمى يرتبط بالمسلمين مثلما يرتبط بالغرب الذى يتوق لطرق ووسائل بديلة لحل مشكلة الاغتراب التى يعانى منها .

وتعتبر المفاهيم هى المكونات الرئيسية للمنظور العالمى. فالمفاهيم هى التى تشكّل المجتمع والثقافة والحضارة .وإطار المفاهيم الذى يعتمد عليه المنظور العالمى للإسلام يمد الحضارة الإسلامية بالأعمدة التى تحملها ووسائل حل المشكلات الأخلاقية والخلفية والاجتماعية والعلمية. وهذه المفاهيم هى التى تمد المجتمع الإسلامى بالخطوط التى يسترشد بها فى سياسته وتعطى معنى لأفعاله. إن ما حققته مجتمعات إسلامية معينة من نجاح وما أصابها من فشل فى أزمان ومناطق محددة قد اعتمد على قدرتها على إعطاء الصفة الاجرائية لهذه المفاهيم وفهمها فهماً جديداً فى مواجهة الأحداث التاريخية والموافق الاجتماعية الجديدة والاكتشافات والمستحدثات، وإن هذه المفاهيم هى التى جعلت الإسلام عالمياً وخالداً .

ومن هنا يجب على دراسات الإسلامية أن تُقدم لطالبها وحدة مركزية من المفاهيم القرآنية مثل التوحيد، والرسالة، والدين، والآخرة، والعبادة، والعلم، والجهاد، والاجتهاد، والاستحسان، والشورى، والأخوة، والأمة، والمحاسبة، والحدود، والحسنة، والاصلاح، والحكمة، والحياء، والتزكية، والوقف – وتلك المفاهيم يتم دراستها من خلال منظور متعدد الفروع ومتداخلها، كما يُقدّم المنظور العالمى للإسلام على أساس أنه بلد يجب أن تُرسم له خريطة وتشكل المفاهيم القرآنية الشبكة الرئيسية لهذه الخريطة كما يشكّل القرآن والسيرة والشريعة والتاريخ الإسلامى أدوات الفهم التى تعتبر أساسية لرسم خريطة هذا البلد. وتعتبر عملية رسم خريطة لبلد ما – مثل تعلم التعامل مع المفاهيم– عملية يتحقق منها مزيد من الوعى الذاتى بالبيئة المحيطة بالمرء. فنحن قد نعيش فى البلد معين ونعرف جباله وأنهاره وطريقنا حوله ولكننا قد لا نكون على وعى به بطريقة موضوعية تلك الطريقة التى نحتاجها إذا ما أردنا رسم خريطة له. فنحن نستطيع أن نجد طريقنا من مدينة لأخرى ونعرف المناطق الخضراء والبقع الصحراوية ولكننا لا نستطيع أن نرسم لها رسماً كروكياً على الورق بأى قدر من الدقة لأننا لا نعرف البلد بهذه الطريقة بالذات. ونحن نطلب من الدارس أن يكون على وعى ذاتى بالمفاهيم التى أخذها مأخذ التسليم داخل الأطر ذات الفروع المتعددة والمتداخلة. وهو يتعلم ألا يربط بين هذه المفاهيم وبين التاريخ فحسب وإنما بينها وبين الواقع المعاصر أيضا فهو يتعلم كيف يتعامل مع المفاهيم ويفكر من خلال المنظور العالمى للإسلام. كما يبدأ فى تشكيل مناظير إسلامية لقضايا التنمية ومشكلات الطعام والتوافق التكنولوجى والمشكلات المعاصرة الأخرى .

وعلى سبيل المثال فلنبحث المفاهيم الآتية: الدين، المؤمن، الأمة، الخلفية، الشورى، الطاعة، الشريعة،الجهاد، الأموال.. وهى المفاهيم التى يجب أن تشكل أساس أى نظرية سياسية إسلامية تحوز الثقة. يكتشف الطالب أولا ما يقوله القرآن عن هذه المفاهيم وكيف قام النبى محمد صلى الله عليه وسلم بتجسيدها فى الدولة التى أقامها فى المدينة، ثم يكتشف بعد ذلك ماذا قال مفكرو الإسلام والمتمعنين فيه عن هذه المفاهيم وكيف تم وضعها فى صورة إجرائية فى المجتمعات الإسلامية الأخرى خلال التاريخ . وأخيراً يدرس كيف يمكن أن تستخدم أدوات وطرق البحث والدراسة المستخدمة فى العلوم السياسية المعاصرة وفروع المعرفة الأخرى لكى نحصل على فهم جديد لهذه المفاهيم وكيف يمكن أن تكون الأساس لنظرية معاصرة ترتبط بالإسلام. وهكذا يتعلم الطالب القرآنى بان يتعرف على مفاهيمه الأساسية ويتعلم السيرة بأن يكتشف الدور الذى قامت به هذه المفاهيم فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم كما يتعلم التاريخ الإسلامى ليس باعتباره مجموعة من الحقائق الميتة البعيدة يقدمونها له فى إطار زمنى يبدأ من الجزيرة العربية فى عصور ما قبل الإسلام إلى القرن العشرين وإنما من خلال رؤية الكيفية التى تم بها وضع هذه المفاهيم فى صورة إجرائية فى المجتمعات الإسلامية السابقة. بينما يعطيه التحليل متعدد الفروع ومتداخلها تبصرّاً الذى يحتاجه إذا ما أقدم على علاج مشكلات مجتمعه، فيشعر أن القوة الكلية للتاريخ الإسلامى واقع دينامى حى وتجبره هذه العلمية على أن يفكر ويبحث عن الحلول من داخل الرؤية العالمية للإسلام .

ومن الواضح أن مثل هذا المدخل للدراسات الإسلامية لا يمكن أن ينفصل عن البحث. فبهذا المدخل الدينامى الشمولى القائم على التحليل المفاهيمى متعدد الفروع ومتداخلها يتطلب البحث المستمر. وفى هذا الاطار لم يعد التعلم أحادى الاتجاه بين المدرسين ذوى السلطة والمكانة العلمية وبين المتعلمين، فالمدرسون يتعلمون من التلاميذ والبحث هو المعيار الوحيد للتدريس ومن ثم فإن المكان النموذجى للدراسات الإسلامية فى الجامعة هو معهد مستقل حيث يسير البحث والتدريس جنباً إلى جنب .

إن النظريات والنماذج والتحليل والتى تعتبر السمات التى تعطى كياناً حياً لأى فرع من فروع المعرفة تغيب عن الدراسات الإسلامية المعاصرة غياباً ملموساً. إن المفاهيم هى الوحدات الصغرى للنظريات والنماذج ومثلما تتحد الكلمات لتكوّن الجمل تتحد المفاهيم لتكون النظريات. ولذا فإن اكتساب مفهوم ما يعنى فى المقام الأول أن يتعلم، كما أن إحراز هذا المفهوم والتمكن منه يعنى فى المقام الأول أن نعرف وعلاوة على ذلك فإن تعلم المفهوم والتمكن منه يعنى أن نكون قادرين على عمل شئ ما – كأن نبنى نظرية أو نصمم نموذجاً أو نحل مشكلة. فى التحليل المفاهيمى – إن بإمكاننا أن نزود أولئك الذين سيضطلعون بدراسة الإسلام فى المستقبل بالأدوات العقلية الأساسية التى يحتاجونها لخدمة (الأمة)، وذلك عن طريق ترسيخ جذور الدراسات الإسلامية فى التحليل المفاهيمى متعدد الفروع ومتداخلها فإن التحديات التى تنتظرهم لا يمكننا التقليل من شأنها والتحليل المفاهيمى سوف يعطى للدراسات الإسلامية معنى ويمدها بإطار للتفكير وإلا فانها قد تضيع تحت ثقل الحقائق الميتة التى تهيم على وجهها بلا طريق مرسوم أو هدف واضح بين المستنقعات الواسعة للمجالات اللاهوتية .

المراجع الأجنبية

  • – Allama Muhammad Iqpal some thoughts on Islamic studies In Thoughts and Reflections of Iqbal edited by syed Abdul Vahid Ashraf Lahore ,1964 ,p .p 103 – 110
  • نفس المرجع السابق ص 105
  • نفس المرجع السابق ص 106
  • نفس المرجع السابق
  • – A.M Mohamed Mackeen Islamic studies as a University Discipline Islamic Review 57 13 -18(May 1969 )
  • نفس المرجع السابق ص 15 .
  • _ NuriEren ,Turkey Today and Tomorrow ,London 1963 p 201
  • نفس المرجع السابق ص 202
  • مرجع مكين سبق ذكره
  • من أجل تقرير من تاريخ الأزهر وعملية تعصيره يرجع إلى مرجع التالى :

Bayard Dodge Al Azhar A Millennium of Muslim Learning ,Middle East Institute washington 1974

  • من أجل التعرف على ما أشير إليه من تطور النظرية القديمة للتربية الإسلامية يرجع إلى :

M .Nakosteen ,History of Islamic Origins of Western Education ,University of Colorado 1974 ,A.L . Tibaur ,Islamic Education ,Lazac ,London 1972 Chapters 1-3 ,and 8 wager Ahmed Husaini ,Islamic Environmental Systems of Engineering ,Macmillan ,London 1980 Ch 3

  • – A.M Mohamed Macheen Islamic Studies as a University Discipline Part 2 Islamic Review ,57 (6) – 36 – 38 (June 1969 ) p 36
  • – Marshall G.s Hodgson The Venture of Islam ,University of Chicago Press Chicago ,1974 Volume !p39
  • Edward Said ,Orintalism
  • Longman . London 1971
  • Hodgson p 26
  • يعتبر نادى روما The Clup of Rome مسئولا عن عدد من التقارير عن المشكلة العالمية أشهرها بالطبع التقرير بعنوان The Limits of Growth (( محدادات النمو )) تأليف Medadowsetal 1972 New York ,Potamic Associates  ولذى قيل عنه أنه أهم كتاب فى القرن العشرين ولكن يمكن التعرف على عمل أكثر تنويراً وهو كتاب Mankind turning point London ,1977 Hutchinson M. Meszanic and E. pestal ويمكن الرجوع أيضاً إلى كتابين الفهما C .H Waddington   تحت عنوان Man Made Futures ,Jonthan cape ,London 1977 Tools for thought Croom Helm London 1978  وقد قام Stephen Cotgrone بتلخيص أرهاصبات المستقبل الحالية فى كتابه Calastrophe of Cornucopia ,Wiley Chichster 1982 .

ويمكن الرجوع إلى كتاب المؤلف الحالى بعنوان The Future of Muslim civilization Croom Helm ,London 1979  من أجل منظور إسلامى للمستقبل .

(19) فى كتاب بيعة النظرية السياسية الإسلامية The Nuture of Islamic Political theory  (معارف ،كراشى 1975 ) يحاول محمد عزيز أحمد بناء نظرية سياسية إسلامية قائمة على مفاهيم الدين ،المؤمن ،الملا ،الملك ،والخليفة ،والشورى ،الطاعة ،الشريعة ، الجهاد ،الأموال ،الخير ،ويفيد هذا تحليلاً مفاهيمياً عميقاً مثلما يجده المرء فى الدراسة الإسلامية المعاصرة . ومع ذلك كان من الممكن أن يستطرق أكثر بأن يضيع دراسته فى إطار منظور متداخل الفروع .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر