أبحاث

خواطر حول أزمة الخلق المسلم المعاصر

العدد 1/2

المقدمة:الحاسة الخلقية أمر فطري جبل عليه الإنسان منذ خلق “ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها” فهي تعني إدراك للخير
وللشر وانفعال أيضا بالخير والشر ثم نزوع لفعل الخير والشر. وهي نبتة ضعيفة بحاجة للرعاية لتنمو وتسمو، ولذا بعث الله النبيين يركزون في النفوس مكارم الأخلاق ويثبتون في الأرض معالم الخير.

وهكذا ما ختمت الرسالات السماوية حتى كانت شجرة الأخلاق باسقة. وصدق رسول الله “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. وقد لقيت تلك الحاسة الرعاية الإلهية بطريقين يتمم أحدهما الآخر؛ طريق التعلم والتوضيح مع الحض والتشجيع وطريق الحساب والجزاء وهكذا كانت الأخلاق عندنا مع أساسها الفطري بإلزام وجاء كأكمل ما يكون الإلزام والجزاء، إلزام ذاتي وخارجي وجزاء معنوي ومادي.

والعقيدة تنمي الأخلاق بالحب قبل الخوف، بحب الله والتقرب إليه بما يجب والله يحب السمو. إذن فليحب الإنسان الكمال وفعل المكرمات. أي أن العقيدة تنمي النزعة إلى السمو وهي نزعة لها أصل فطري. وبعد هذا الحشد من القوى الذاتية الداخلية التي تنمي الأخلاق يأتي جانب الجزاء من ثواب وعقاب.

ثم إن العبادة تنمي العقيدة وتنمي الأخلاق معا. إنها تفتح الآفاق الرحيبة أمام النفس، إنها تذكر الإنسان بمعالي الأمور وتحض عليها. إنها تحبب إليه السمو وتكره إليه الهبوط والإخلاد إلى الأرض. إنها تضع الإنسان في محراب الإيمان فينهل من النبع الخالد. إنها المصنع الدائم للإنسان حيث يشحن العقل والقلب بالنور. إنها مدرسة العبودية الخالصة لله يتخرج منها عباد الله لا يعرفون الخضوع لغير الله فيعمرون الدنيا بالحق والخير.

أخلاق الفكر:

وهذه في مرتبة عالية من النظام الخلقي حيث يقوم الفكر بدور كبير في حياة الإنسان، فإذا استقام الفكر ساعد ذلك على استقامة حياة الإنسان. وإذا كانت قوة الفكر “أي الذكاء” أمرا فطريا فإن تحرر الفكر وحب الحقيقة أمر فطري ومكتسب.. وتحري الحق عبارة عن مزيج من التحرر الفكري “…قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون” ومن حب الحقيقة “..إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا”.

ومن التحرر الفكري ومن حب الحقيقة معا يتكون للفكر خلقه الأول والأساسي. فالتحرر يكفل للفكر أن يعمل بكامل قواه التي أودعها الله فيه دون أي ضغوط. وحب الحقيقة يدفع الفكر للسعي الحثيث كي يدرك الأمور كل الأمور على حقيقتها. أمور الغيب وأمور الهدى وأمور الواقع لا يقعده خمول أو رضا مهين عن السعي الحثيث والبحث المتصل. وصدق القائل: إن الفكر في جانب من جوانبه خلق أي أن قوى الفكر عندما تكون أمينة لوظيفتها –وهذا شرطها الأساسي- تغدو خلقا، وإن الخلق هو في جانب من جوانبه فكر إذ يقوم على أساس من الإدراك الصحيح للقيم الدينية، وهذا الإدراك الصحيح من عمل الفكر.

والتوحيد وهو أول وأسمى درجات العقيدة لا سبيل أن يدركه غير العقل المتحرر اليقظ المتأمل.

وتحري الحق –كخلق أول للفكر- هو الأساس الذي تقوم عليه أخلاق فكرية أخرى مثل:

حسن الحوار: “…وجادلهم بالتي هي أحسن…”.

التسامح الفكري: “…ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم…”.

التسامح الديني: “لا إكراه في الدين”.

الأخلاق المركبة:

قد تعجب أحيانا من صدور نوعين من السلوك من شخصين نراهما متماثلين في خلق من الأخلاق. ولكن هذا العجب يزول إذا أدركنا أن بعض الأخلاق أو بعض أنماط السلوك إنما يتشكل من خلقين أو أكثر. ولكي يصدر سلوك واحد من شخصين يستلزم تماثلهما في جميع الأخلاق المكونة لهذا السلوك، ولا يكفي التماثل في خلق واحد.

ومن أمثلة الأخلاق المركبة:

التقوى + إيجابية = ثورة على المنكر.

التقوى + سلبية = صمت عن المنكر.

الورع + تحرر فكري = اجتهاد محكم.

الورع + تقديس للسلف = تقليد وجمود.

الإخلاص لله + تسامح = تعاون.

الإخلاص لله + تعصب = طائفية.

العفة + إيجابية = نشاط محتشم.

العفة + سلبية = عزلة خاملة.

المحبة + يقظة = تعاون.

المحبة + بلادة = مجرد عاطفة أو ادعاء.

وحدة البناء الخلقي:

في أية مؤسسة أو في أي مجال ينبغي أن تتكامل وتتساند مجموعة من الأخلاق، حتى تنهض المؤسسة كلها (أو المجال كله) في وحدة متسقة، وإلا صلحت جوانب وفسدت جوانب أخرى، وربما اختلت جميع الجوانب.

فمثلا في مؤسسة كالجامعة:

حب العلم وتقديره..خلق.

والجد في التحصيل..خلق.

ونبل الهدف من التعليم..خلق.

واختيار التخصص حسب القدرة..خلق.

واختيار التخصص حسب تلبيته لحاجة المجتمع..خلق.

والاهتمام برسالة الجامعة العلمية والاجتماعية..خلق.

والاهتمام برسالة الجامعة الوطنية..خلق.

والأمانة في الأبحاث والامتحانات..خلق.

والحوار المهذب مع المخالفين..خلق.

وتدعيم الروح الجامعية بصفة عامة..خلق.

والاحتشام في الزي..خلق.

والاختلاط الجاد الهادف..خلق.

فلم يرفع الإسلاميون –عادة- لواء خلق واحد ويصرخون به بالليل والنهار ويدعون بقية الأخلاق دون تقدير أو دون ممارسة أو دون دعوة لها أو دون حرب في سبيل تدعيمها إن كان لا بد من حرب؟

إن حرصنا على وحدة البناء الخلقي يعني الوعي الكامل للمجال الذي نعمل فيه أو للمشكلة التي نعالجها. كما يعني صحة الاتجاه نحو الإصلاح الجذري لا الشكلي أو الترقيعي.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

(حديث صحيح ورد تحت رقم 45 في سلسلة الأحاديث الصحيحة جـ 1 للشيخ ناصر الدين الألباني).

الاتجاهات الفكرية وأثرها في الأخلاق:

أولا: أثر العقلية العلمية:

هناك عدة مظاهر للسلوك (أو الخلق) البدائي ونقصد هنا سلوك من لا يملك عقلية علمية ولو حمل أعلى الشهادات. ومن هذه المظاهر:

(أ)- الحذر المفرط.

(ب)- التردد بين الثقة المفرطة بالنفس وبين الشعور بالعجز المقعد.

(ج)- رفض الشعور بالعجز رغم صدمة الخيبة وإلقاء المسئولية على الغير.

(د)- التردد بين الثقة المفرطة بالغير وبين سرعة سحب الثقة به بل والحقد عليه أيضا.

فإذا تأملنا وجدنا كل هذه الصور السلبية ناتجة من عدم (أو ضعف) الوعي بقوانين المادة وقوانين الاجتماع، والجهل بأن هذه القوانين وتلك تحكم المادة والإنسان على السواء.

أما السلوك المنهجي السوي ونقصد هنا سلوك من يملك عقلية علمية ولو كان بدويا أو فلاحا يعيش في أعماق الريف، فيتسم بمظاهر تباين تلك تمام المباينة: ذلك أن الفرد في هذه الحالة يدرك أن قضايا المجتمع تخضع لقوانين كما تخضع المادة.

فمثلا في قضية الإصلاح وتغيير الواقع الفاسد يعلم أن هناك قانونا أو مجموعة قوانين تحكم تغيير الواقع إلى ما هو أفضل. والآية الكريمة “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” تشير إلى قانون أساسي في هذه القضية ومن هنا نجد أن العقلية العلمية توفر لصاحبها مميزات خلقية طيبة مثل الثقة المعتدلة بالنفس وبالغير حيث يعرف حقيقة قدراته وقدرات الغير في إطار تلك القوانين الاجتماعية، ومثل الصدق مع النفس ومع الغير حيث الفرد هنا لا يفاجأ بالعجز (كما في حال السلوك البدائي) إنما هو يدرك ضعفه ويسعى بجد لاستكمال ما ينقصه دونما حاجة إلى إلقاء المسئولية على الغير.

ثم إنه بمنأى عن الحذر المفرط فإدراكه أن لله في خلقه سننا (قوانين) تجله يتعامل مع معلوم أو قابل لأن يكون معلوما. فلا داعي إذن للحذر المفرط. إنما إحسان التقدير في حال الأمر المعلوم ومزيد من النظر والبحث في حال الأمر المجهول.

ثانيا: أثر الغيب الخرافي:

والغيب الخرافي هو كل تصور للغيب منحرف عن الغيب الإلهي العلمي، الإلهي ما كان مصدره الله جل وعلا، والعلمي ما كان قطعي الورود قطعي الدلالة.

وهذه بعض الأمثلة لأثر الغيب الخرافي:

(أ) إن تصور القدرة الإلهية والإرادة الإلهية تصورا منحرفا يشل قدرة الإنسان على تغيير نفسه رغم صريح قوله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. إن نزع سلطان التغيير من يد الإنسان وتصور أن هذا السلطان لله وحده. افتئات على الله حيث هو سبحانه الذي منح هذا السلطان للإنسان. ولكن الغيبيين الخرافيين يحسبون أن عملهم ذلك من كمال الإيمان بالله وقدرة الله. والحقيقة أنهم يسيئون الظن بالله ولا يحسنون. وهل ننتظر من أصحاب هذا التصور الخرافي إلا أن يصابوا بالعجز والكسل والجبن والتواكل. إن هذه الصفات من خصائص المؤمنين الخرافيين أما المؤمنون العلميون –حيث يدركون العلاقة بين قدرة الله وقدرة الإنسان-…فهم ذوو مضاء وعزم وإقدام.

(ب) إن تصور اليوم الآخر (أي معنى الحساب) في حالة اكتمال رسوخه وعلى الوجه الشرعي الصحيح يؤدي إلى الشجاعة والاستقامة والتعمير الجاد للحياة. وإذا رسخ على وجه غير صحيح فيمكن أن يؤدي إلى اعتزال الدنيا وتفرغ للعبادة.

(ج) فكرة “الرزق واحد” ومقدر منذ الأزل في حال رسوخا على وجه صحيح تؤدي إلى الإجمال في الطلب وعدم الإسفاف هذا من ناحية كما تؤدي إلى البذل بسخاء في وجوه الخير. وإذا رسخت على وجه غير صحيح تؤدي إلى الكسل والتواكل.

خطورة الانحراف الخلقي الفكري:

إذا قارنا بين الانحراف الخلقي الفكري (أي الانحراف عن الهوى ولو مع حسن النية) وبين الوقوع في معصية عابرة (أي الضعف عن تطبيق الهوى) نجد أن نهج الرسول صلى الله عليه وسلم التشديد في الأمر الأول والترفق في الأمر الثاني.

ومن أمثلة التشديد في الأمر الأول:

(أ)- قوله صلى الله عليه وسلم “أفتان أنت يا معاذ”!! حين أطال على الناس في صلاة العشاء، وقوله صلى الله عليه وسلم “يا أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أمَّ بالناس فليوجز”.. قال الراوي فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ (رواها الشيخان) وهذا يعني ضرورة الرفق بالناس.

(ب)- قوله صلى الله عليه وسلم “من ترك سنتي فليس مني” (رواه الشيخان) يوم جابه الثلاثة الذين غالوا في العبادة. وهذا يعني ضرورة الاعتدال وممارسة الحياة الطبيعية.

(ج)- وقوله صلى الله عليه وسلم “يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله” قلت كان متعوذا فما زال يكررها حتى تمنيت إني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. (رواه الشيخان) وزاد مسلم قوله صلى الله عليه وسلم “أفلا شققت عن قلبه!!”..وهذا يعني ضرورة التحري والتبين خاصة في الدماء، وإجراء أحكام الناس على الظاهر.

(د)- قوله صلى الله عليه وسلم “لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا” رواه الشيخان، انظر قصة الأمير الذي أمر صاحبيه أن يرميا أنفسهما في النار، وهذا يعني ضرورة الوعي واليقظة وأن الطاعة في المعروف.

ومن أمثلة الرفق في الأمر الثاني:

(أ)- قوله صلى الله عليه وسلم “أليس قد صليت معنا” انظر قصة الرجل الذي قارف معصية دون الزنا وجاء مثقلا بوطأة الشعور بالذنب (رواه الشيخان).

(ب)- قوله صلى الله عليه وسلم “رأيت شابا وشابة فخشيت الشيطان عليهما” انظر قصة إبعاد نظر الفضل بن العباس وكان ينظر إلى امرأة جميلة في موسم الحج (القصة رواها الشيخان وجملة رأيت شابا وشابة.. من رواية حسنة صحيحة عند الترمذي حسب تحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني في كتاب حجاب المرأة المسلمة).

(ج)- وأخيرا قوله صلى الله عليه وسلم “وإن زنى وإن سرق.. وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر” انظر الحديث “ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة” رواه الشيخان.

إن الانحراف الخلقي الفكري أمر خطير لأنه قد يثمر نهجا عاما يطبع حياة الفرد أو حياة الجماعة. ولأنه عادة لا يلفت الانتباه حيث يتلبس بمسحة دينية نتيجة النية الحسنة. بينما انحراف السلوك الشخصي أقل خطرا لأن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. ولأن الخطايا المعروفة تعلن عن نفسها فينكرها الفرد ويتوب منها، وإن لم ينكرها هو أنكرها الناس.

بين أخلاق النهوض وأخلاق الجمود:

قد يتساءل البعض كيف قامت الحضارة الحديثة وتفوقت وسادت، مع وجود الانحرافات الخلقية مثل تلك المتصلة بالجنس وتناول الخمر والقمار.. لكن إذا تأملنا الأخلاق وجدناها عبارة عن مجموعة متكاملة من القيم تغطي جوانب الحياة كلها فكرية- سلوكية- شخصية- اجتماعية. والذي يحدث عادة في الأمم أن تبرز بعض القيم وتسود وتضعف قيم أخرى. والأمة تنهض وتتقدم بغلبة تأثير مجموعة معينة من القيم مثل الثقة بالنفس والطموح والجد والإتقان واليقظة والنظام والبسالة والاستهانة بالموت فإذا برزت هذه القيم وسادت امتد دورها إلى التخفيف من ظهور أثر بعض الانحرافات الخلقية كالزنا والخمر والقمار. ولكن مع مضي الزمن ومع تدخل بعض العوامل الخارجية كظروف حرب أو ترف أو فقر شديد أو فراغ روحي، قد يقع عند ذلك إسراف في (الخمر والميسر والزنا) مما يحطم من أخلاق النهوض ويهدد تماسك المجتمع ويضعف من قوته.

إن أخلاق القوة كالعزم والشجاعة والمغامرة والطموح والنظام والصبر والغيرية يقابلها أخلاق الضعف كالسلبية والجبن والخوف والتواكل والرضا بالدون والأنانية، وإن أخلاق الحق والخير مثل الإخلاص لله والتعفف عن المحرمات من زنا وخمر وميسر.. والتوبة والتواضع والإحياء والعدل مع الصديق والعدو يقابلها أخلاق الباطل والشر كالتبذل وشرب الخمر ولعب الميسر والزنا والتهالك على الدنيا والظلم لغير الصديق.

وفي مجال نهوض الأمم وتقدمها المادي أو ضعفها وانحلالها لا يضير مع أخلاق القوة وجود بعض أخلاق الباطل والشر كما أنه في مجال انحلال الأمة وسقوطها لا يفيد مع أخلاق الضعف وجود أخلاق الحق والخير ليكون نهوض وتقدم.

إن أخلاق الحق والخير تضاف إلى القوة فتزينها. كما أن أخلاق الباطل والشر تضاف إلى القوة فتقبحها، ولكن أخلاق الحق والخير إذا أضيفت إلى الضعف تميع ويضيع أثرها وتصبح باهتة أي أنها تخفق في جبر الضعف بينما ينجح الضعف في تمييع الحق والخير بل ومحقهما أحيانا.

وقد تعرض الأستاذ أبو الأعلى المودودي لهذا الموضوع في كتابه القيم “الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية” ونحن ننقل هنا مع الاختصار فقرات من ص 20-21: “…إن هناك أخلاقا أساسية إنسانية لا يمكن أن ينجح الإنسان في هذا العالم –سواء أكان مؤمنا أو كافرا أو صالحا أو طالحا- إلا إذا تحلى بها مثل قوة الإرادة والصبر والثبات والهمة والشدة والبأس والولوع بالغاية والاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيلها والحزم والحيطة وإدراك العواقب وحب النظام والإحساس بالمسئولية والامتلاك للعواطف والرغبات النفسية…” “…على أن هذه الثروة لا تنقلب إلى قوة جماعية عظيمة محكمة فعالة في الأمر الواقع إلا إذا ساعدتها جملة من الصفات الخلقية مثل الاتفاق على غاية مشتركة كانت أحب إليهم من أغراضهم الشخصية وكان زعماؤهم عندهم الإخلاص وحسن التدبير….”.

ثم ذكر أن الإسلام مع تقديره تلك الأخلاق الأساسية حض على مجموعة من الأخلاق أطلق عليها الأستاذ الفاضل “الأخلاق الإسلامية” وقد بين أن لهذه المجموعة دورا خاصا وهو:

1-توجيه الأخلاق الأساسية الإنسانية وجهة الخير [والاستعمار الغربي الحديث مثال جيد يوضح كيف يمكن توجيه الأخلاق الأساسية وجهة الشر].

2-توطيد الأخلاق الأساسية وتوسيع مجال تطبيقها.

3-الأخلاق الأساسية هي الطبقة الأولى من البناء ثم يشيد الإسلام عليها طبقة ثانية من الأخلاق الفاضلة حتى ليرتقي بها الإنسان إلى درجات الشرف والكمال… والإسلام هنا –أي في مجال الأخلاق الإسلامية- يطهر قلب الإنسان من الأثرة والظلم والوقاحة والخلاعة وينمي في نفسه تقوى الله ويجعله جوادا ودودا ناصحا أمينا عادلا صادقا لخلائق الله جميعا في كل حال كما يجعله فوق ذلك مفتاحا للخير مغلاقا للشر في أرض الله كافة..”.

ونكتفي بهذا القدر من كلام الأستاذ المودودي –وهو كلام نفيس- لنقول:

كأن المسلمين اليوم لا يدركون من معنى الأخلاق إلا بعض تلك التي أطلق عليها “الأخلاق الإسلامية” وقد نسوا أنه إذا انعدمت الأخلاق الأساسية الإنسانية أو اضمحلت اضمحلالا كبيرا فما الذي ستوجهه الأخلاق الإسلامية وجهة الخير؟!.

أو ماذا يفيد أن توجه قوة هزيلة وجهة الخير؟ ثم كيف توسع الأخلاق الإسلامية مجال تطبيق الأخلاق الأساسية وهذه الأخيرة غير موجود أصلا!!.

ثم كيف نبني الطبقة الثانية من البناء دون توفر الطبقة الأولى الأساسية؟ إلا إذا كنا نبني في الهواء أو على الرمال!.

تشويه “المثالية” للأخلاق:

كما يكون تشويه الخلقة بعد أن سواها الله في أحسن تقويم ويزعم المشوهون أنهم إنما يقصدون التجميل والتحسين كذلك يقع التشويه لمكارم الأخلاق بعد أن أتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعم المشوهون أنهم يقصدون السمو والكمال.

إن تشويه المثالية ليس بعدم التطبيق فعدم التطبيق عجز إنما التشويه هنا يعني تحريف الخلق عن أصله الحياتي الواقعي “وهو الأصل الشرعي” والتهويم به في صورة خيالية “مثالية” ترمي به بعيدا عن أرض الواقع وعن حياة الناس المادية الفاضلة مع الزعم أن المقصود بهذا الإبعاد هو بلوغ أقصى درجات السمو وأقصى درجات الكمال.

ومن الأمثلة على ذلك:

أولا: العفة الإنسانية (في مجال الجنس) تعني ممارسة الجنس أكمل ممارسة وأحلاها عن طريق طيب مشروع.

أما العفة الثانية فتعني احتقار الجنس أو التقليل من شأنه والتضييق عليه.

والأمر المؤسف أننا نجد بعض الكتاب حين يعرضون لأمر الزواج في الإسلام، يلحون على أن القصد منه هو النسل وحفظ النوع، أما أن يكون للاستمتاع فهو أمر شبه منكر أو غريب على خلق المسلم. وينسون حديث جابر بن عبد الله قال: تزوجت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تزوجت؟ فقلت: تزوجت ثيبا فقال: ما لك وللعذارى ولعابها. وفي رواية أخرى: هلا جارية تلاعبها وتلاعبك. (رواه الشيخان).

كذلك نرى أن كثيرا من الكتاب حين يعرضون لزوجات الرسول يلحون على الدواعي السياسية والاجتماعية والتشريعية ويكادون يستبعدون قصد الاستمتاع وكأن لا وجود له، بل كأنه أمر مشين لا يليق بالرسول الكريم رغم الدلائل الكثيرة التي تشير إلى حب الرسول للنساء مثل:

قوله تعالى “لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن”.

*حديث عمرو بن العاص قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إليك؟ فقال: عائشة. فقلت: من الرجال قال: أبوها قلت ثم من قال: عمر بن الخطاب…(رواه الشيخان).

*وفي حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الوحدة وله يومئذ تسع نسوة. (رواه الشيخان) وزاد مسلم: بغُسْلٍ واحد.

*وحديث عائشة: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول أنها تهب المرأة نفسها؟.

فلما أنزل الله تعالى “ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك” قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك (رواه الشيخان).

خلاصة الأمر إن شئنا خلاص خلق العفة من تشويه “المثالية” فعلينا تكريم الجنس للاستمتاع بالحياة ولحفظ الحياة وصيانة الجنس من الانحسار ومن الابتذال سواء. وأنعم بها من آداب الشريعة السمحاء.

ثانيا: الزهد الإنساني يعني عدم الطمع والأخذ من الدنيا حسب الحاجة حاجة الفرد وحاجة الجماعة وحاجة تعمير الدنيا والاستخلاف في الأرض.

أما الزهد المثالي فيعني احتقار الحياة واجتناب متعها.

والله سبحانه وتعالى يقول “قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق…” والرسول صلى الله عليه وسلم يقول “….إن هذا المال حلوة من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو…” (رواه الشيخان).

ولنلق نظرة على آثار كل من الزهدين:

الزهد الإنساني:

-السعي للكسب مع الجد في السعي يتبعه بذل في سبيل الله.

“لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على ملكته في الحق..”.

-الإجمال في الطلب مع الاحتفاظ بالسخاء في البذل.

“…فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه”.

-الرضا بما قسم الله بعد السعي الجاد مع ضرورة البذل.

“على كل مسلم صدقة”. قالوا فإن لم يجد قال: “فليعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق”.

قال ابن مسعود: لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل (أي يحمل بعضنا لبعض الأجرة) والأحاديث جميعها رواها الشيخان.

الزهد المثالي:

-عدم السعي للكسب أو عدم الجد في السعي يتبعه عجز عن البذل في سبيل الله.

-الإهمال في الطلب والعجز عن البذل.

-الرضا بالعدم دون سعي والعجز عن البذل.

ثالثا: التعبد الإنساني يعني لحظات من التعبد بالشعائر مع دوام التعبد بممارسة الحياة ممارسة جادة خيرة تبتغي رضاء الله.

أما التعبد المثالي فيعني التفرغ الكامل –أو شبه الكامل- للشعائر. وانظر قول الرسول للثلاثة الذين تقالوا عبادته: إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وقد أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني (رواه الشيخان).

وأحسب أنه يمكننا أن نضيف من باب المماثلة:

“وأقود الجيوش وأسوس الدولة واقضي بين الناس و ….و …..و ….”.

الأسر التاريخي للأخلاق:

ونعرض هنا لمثالين اثنين يوضحان مدى تأثير الصور التطبيقية التاريخية على القيم الخلقية الرفيعة، حتى لتكبلها بأغلال ثقيلة تعوقها عن توجيه الحياة (المتطورة) وجهة الخير دائما:

المثال الأول:

التسامح مع أهل الذمة: في ظل ظروف الفتوح وما تلاها كان خلق التسامح يأخذ صورا محدودة، مثل عدم الإكراه على الدين الجديد ومثل عدم العدوان على ممتلكاتهم وأعراضهم. وهذه الصور لم تمنع:

*التمايز في الزي والسكن.

*عدم استعمالهم في وظائف الدولة.

*الحذر والشك وما يتبعهما من بعض إجراءات التضييق.

كل هذا كان له مسوغاته التاريخية حيث كانت العلاقة الأساسية هي علاقة بين غازٍ ومغزو.

وعند زوال الظروف الموجبة بدأ الحكام يخفون هذه الضغوط ويستعملونهم في الوظائف الكبيرة، ويأمنون لهم ولكن ظل فريق من الناس ينكر الصور المستحدثة ويتمسك بالصور التطبيقية القديمة على أنها الوضع الأمثل، الوضع الشرعي الصحيح وأن المستحدث إنما هو ابتداع وخضوع للأهواء.

فإذا بلغنا عصرنا الحاضر وجدنا التسامح قد اكتسب صورا جديدة: مشاركة في التعليم، مشاركة في الجيش، مشاركة في المجالس النيابية، مشاركة في الضرائب، ويظل فريق من المسلمين لا يرى في هذه الصور تسامحا دينيا أصيلا ويحسب أن كل ذلك لمخالفته لتعاليم الدين وانهزامية أمام المفاهيم الأوربية الغازية. لماذا؟. هل لأن هذه الصور تتنافى مع أخلاق الإسلام الداعية إلى التسامح بل إلى البر والأقساط لقوله تعالى “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين”. أم لأن هذه الصور تغاير تلك الصور التي طبقها السلف في العهود الأولى؟.

المثال الثاني:

العفة: ارتبطت العفة قديما بقرار المرأة في بيتها فلا تغادره إلا للضرورة القصوى..حتى قيل في وصف المرأة الصالحة أن لها ثلاث خرجات في حياتها كلها مرة من رحم أمها إلى الدنيا ومرة من بيت أبيها إلى بيت زوجها والثالثة من بيت زوجها إلى القبر. إذا أحصينا احتياجات المرأة خارج بيتها نجدها تتصل بالمجالات الآتية: الصلاة- التعليم- التطيب- زيارة الأقارب والأصدقاء- الترويح والنزهة- شراء الحاجيات من السوق.

-فالصلاة منعت منها المرأة بصورة قاطعة بحجة أمن الفتنة (حتى صلاة العيدين حيث عزم رسول الله على النساء جميعا بالخروج).

-والتعليم اقتصر على الرجال دون النساء وذلك بتأثير حرمانها من غشيان المسجد وهو مكان التعليم فضلا عن النظر إلى التعليم كأمر خاص بالرجال حيث هم الذين يخوضون مجالات الحياة المختلفة وأما القدر الضئيل جدا الذي تحتاجه المرأة من أمور دنيها فتتعلمه من أبيها أو ممن يتولى أمرها من الرجال. ولا ننس أنه شاع الحديث الموضوع:

“لا تعلموهن الكتابة”..

-أما التطبيب الذي يمارسه رجل متخصص فكان محدودا جدا حيث الغالب الأعم هو استعمال الوصفات الشعبية وعند الضرورة يأتي الطبيب إلى البيت.

-وأما الزيارات فكانت محدودة أيضا نتيجة سكن العائلة الكبيرة في بيت واحد أو في حي واحد..فضلا عن صعوبة المواصلات لزيارة من يسكن بعيدا عن الحي.

-وكذلك الترويح والنزهة كانت محدودة جدا وتنحصر تقريبا في النزهات الخلوية التي كانت تحدث مرة أو مرتين في العام..مع استمرار إنكار العلماء ما في النزهات من تبرج وخلع برقع الحياء مما كان يدعو الصالحين إلى اجتناب النزهات كلية.

-وأخيرا شراء الحاجيات من السوق وهذه كان يقوم بها عادة الرجال من الأقارب أو العبيد (والإماء أحيانا). وكان يتحرج الرجل من أن يظهر في الطريق العام يسير بجوار امرأة سواء كانت زوجته أو ابنته أو أخته فكن يسبقها بخطوات حتى لا يحس أحد بأن تلك المرأة تسير في صحبته. وربما فرض العرف أن تخرج النساء في غبش الليل حتى يكون أستر لهن.

خلاصة الأمر أن عفة المرأة ارتبطت قديما بقرارها في بيتها…فظلت هذه الصورة عالقة في ذهن المسلم المعاصر رغم أن ظروف الحياة المعاصرة اقتضت تعليم المرأة كما اقتضت أن تعمل المرأة في بعض مجالات الحياة خاصة التطبيب والتمريض والتعليم فضلا عن حاجتها للعلاج والتردد على عيادات الأطباء أو المتشفيات وحاجتها إلى الزيارات وإلى الترويح النظيف وشراء الحاجيات من السوق كل هذا يؤدي إلى كثرة خروج المرأة المسلمة من بيتها..

إلا أن المسلم المعاصر نتيجة ارتباط خلق العفة بالصورة التطبيقية التاريخية نراه لا يزال ينظر بارتياح إلى خروج المرأة ويعتبر ذلك جارحا لعفتها ويتمنى لو تعود الحياة سيرتها القديمة حتى تقر المرأة في بيتها. كما نراه يعتبر ركوب المرأة دراجة أو قيادتها سيارة وإن تزيت بزي سابغ جارحا لعفتها. ذلك أننا ورثنا فيما ورثنا ركوب المرأة في هودج. ولم يشفع في كسرها هذا الإرث –مع الأسف- ما كان عليه النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ركوب الجمال والخيل والحمير إلى جانب الهودج (أي مواصلات ذلك العصر). وكان رسول الله يردف أحيانا زوجه خلفه (من حديث الشيخان). بل أكثر من ذلك أناخ يوما راحلته ودعا أسماء بنت أبي بكر زوج الزبير ليحملها خلفه حين رآها تسير مرهقة في الطريق. (من حديث رواه الشيخان).

أزمات خلقية موروثة:

وسنقتصر هنا على عرض ظاهرتين بارزتين توضحان أثر عصور الانحطاط الطويلة:

الظاهرة الأولى: هي تلك النظرة الشوهاء إلى “الصلاح” فالمرء الصالح هو من لا يزني ولا يسرق ولا يشرب الخمر ولا يقامر…وأصبحنا كأننا في غفلة كاملة عن أخلاق الحياة الفاضلة الراقية.. وكأن الفضيلة والرقي هو مجرد اجتناب تلك المحرمات. وكأن ما وراء تلك المحرمات من أخلاق كالجد واليقظة والنظام والتعاون، لا تساوي شيئا! لماذا؟ لأنها أمور يمارسها المؤمن والكافر والطائع والفاسق إذن ليست هي الأخلاق التي تميز المؤمن والتي ينبغي أن نحرص عليها ونقيس الرجال بها. وإلا تساوى الرجال مؤمنهم وكافرهم طائعهم وفاسقهم. بل ربما تقدم الكافرون والفاسقون لإتقانهم ممارسة تلك الأخلاق الدنيوية المادية وقد نردد “يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون”. ونعزي أنفسنا قائلين: إذا كان لهم الدنيا فلنا الآخرة.

إذا رأينا الكفار والفساق قد صلحت دنياهم وتقدموا وفسدت دنيانا وتخلفنا قلنا: إنما تخلفنا وتأخرنا لأننا وقعنا في المعاصي وارتكبنا المحرمات ولا سبيل للنهوض والتقدم بغير الرجوع إلى الله وحظيرة الدين أي بتجنب المحرمات. السبيل القويم هو إغلاق الحانات ودور السينما والملاهي والقمار ومنع الرقص والغناء عندها سوق ينصرنا الله لأننا نصرنا دنيه وأتممنا شرعه! وكأن دين الله هو هذه الكبائر الثلاث الزنا والخمر والقمار وكأن شرع الله هو تحريم الثلاث الموبقات فحسب وهكذا نظل نفرح بتلك الأخلاق السلبية بل نتلهى بها ونحسب أنفسنا نقاوم الشيطان الوسواس الخناس. وأكثر من ذلك أننا نرفع أقدار الرجال بل نضعهم في رتبة تشبه التقديس، إذا هم زهدوا في هذه الدنيا واعتزلوا الحياة وحفظوا بطونهم وفروجهم من الحرام.

ونزيدهم رفعة إذا نقلوا عنهم أنهم لم يكتفوا بتجنب المحرمات بل ترفعوا عن تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام. وهكذا اختلت موازين الأخلاق عندنا فرجحت كفة السلبيات وشالت كفة الإيجابيات.

وقد يقول قائل: أنت تهون من أمر هذه المحرمات وأرد عليه: إنما أشنع من أمر الغفلة عن دين الله وأفضح من يكاد يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ودين الله كل لا يتجزأ. فالله الذي أنزل في كتابه: “إنما الخمر والميسر”…..هو الذي أنزل

“وقل اعملوا”….

“المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف”.

“إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا…”.

“وأمرهم شورى بينهم”.

“لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى”.

ورسول الله الذي قال في سنته: العين تزني….الخمر أم الكبائر هو الذي قال: لا يكن أحدكم إمعة…إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه.. سيد الشهداء حمزة..

إن الالتفات إلى النواهي دون الأوامر قد يسوغه أن النواهي محرمات وعقوبتها شديدة والعذاب يرد دائما للعاصين والمفهوم المتبادر للمعصية هو ارتكاب المحرمات. كما يسوغه النظرة الشائعة للدين على أنه مجموعة قيود ومجموعة محرمات. أي أن مهمة الدين هي التحريم ليكف الناس عن الانطلاق والانفلات والتجاوز.

القرآن يقرر “قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم…” والحديث النبوي الشريف “ألا إن لكل ملك حمى وإن حمى الله في أرضه محارمه…” رواه البخاري، فكأنما جاء الدين ليحمي هذا الحمى أي ليقرر ويرسخ خطر هذه المحارم كما يقرر أن من ترك المحارم فقد نجا.

وهذه النظرة الشائعة هي نظرة ساذجة للمحارم وهي أيضا نظرة منحرفة. فالنظرة الصحيحة العميقة تكف أن كل أمر أمرنا به وقصرنا فيه أو تخلينا عنه سنحاسب عليه، أي يصبح التقصير أو التخلي التام عن هذا الفعل الصالح من المحرمات. على أن الدين حين يقرر ويرسخ هذه المحارم “الزنا والخمر والميسر” إنما يقرر الحد الأدنى من الاستقامة الفردية كما يقرر ضوابط أولية لاستقامة الحياة. وطبعا بناء الأمم له وسائل غير مجرد استقامة الأفراد على الحد الأدنى كما أن عامل بناء الأمم غير مجرد الضوابط الأولية.

وإذا تأملنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا نهيتكم عن أمر فانتهوا- أي أمر قاطعا هو الامتناع والكل تقريبا يستطيع الامتناع. ثم إذا تأملنا قوله “وإذا أمرتكم بأمر فأتوا به ما استطعتم” أي حسب القدرة والقدرات تتفاوت من أقصى درجات القوة إلى أقصى درجات الضعف.

هنا مجال الخيار ومجال الترقي. وحديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” يعذر الإنسان الضعيف إذا ركن إلى الضعف ويصفه بضعف الإيمان. لكن أن يصبح الضعف سمتا عاما للأمة، أي أن تعيش على أضعف الإيمان فهذا يعني أضعف الأمم، أي في حالة من الجمود والتأخر والانحطاط.

وهكذا نرى كيف يحدث الانحراف في الدين وفي غير الدين نتيجة عدم شمول النظرة ورؤية الصورة من جميع جوانبها. إنه ينبغي أن نأخذ الدين ككل بجميع جوانبه وجميع أوامره ونواهيه أما أخذ النواهي دون الأوامر فيؤدي إلى اختلال في كيان الإنسان فضلا عن اختلال كيان الأمة.

الظاهرة الثانية في الأخلاق الموروثة عن عصور الانحطاط هي شيوع خلق السلبية والفردية. ذلك أن التصوف المنحرف (ونعني به الإغراق في جانب من العبادة –تصورا وكيفا وكما- بعيدا عن النهج الإسلامي الأصيل الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه) قد نشأ وترعرع بتأثير رد الفعل لمجتمع مترف كثرت فيه صور الفساد من ناحية، وبتأثير الاحتكاك بفلسفات متطرفة غريبة عن الإسلام من ناحية ثانية. هذا التصوف المنحرف كون مدرسة متميزة بخصائص شتى. وقد أسرفت هذه المدرسة في الحض على الالتفات إلى النفس والعبادة والذكر والزهد في الدنيا، كما أسرفت في تصوير الاستبداد والظلم والاستغلال على أنه مجرد بلاء من الله جزاء فساد الجماهير وبعدها عن الدين. وأن العلاج الناجح هو تزكية النفس والعودة على الله. وقد أفرزت هذه المدرسة ثلاث فئات في المجتمع المسلم:

(أ)- فئة قليلة طلقت الدنيا كلها وهربت من الدنيا كلها ودخلت جحورا ضيقة أسموها خوانق وربط وتكايا. وكان وراء هذا الهروب إما زهد أخرق زينه التصور الخاطئ والوهم الباطل، وإما زهد كاذب فرضه العجز لا العزم، وإما زهد منافق طامع في الباطن وزاهد في الظاهر. وقد حملت هذه الفئة القليلة خصائص المدرسة الخلقية والعقلية في أوضح صورها وأشدها حدة سواء في تحكيم الهوى أو الوجد أو الذوق مع أقل قدر من العقل أو بدون عقل أو في هوس الكشف (أي كشف حجاب الغيب) والإتيان بالكرامات (أي الخارقة لسنن الله وما اعتاده الناس) أو في الانصياع والاستسلام الكامل للشيخ حيث المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي مغسله.

(ب)- فئة كبيرة شملت معظم الناس اعتقدت أن الزهد هو الكمال وهو المثل الأعلى. إنها اعتقدت في الزهد وعجزت عن ممارسته فظلت تشعر بالنقيصة لعجزها عن بلوغ الكمال، لم تطلق الدنيا ولم تهرب إلى التكايا ولكنها مارست الحياة وهي تحمل لا شعوريا احتقارا للحياة. أي أنها لم تمارس الحياة كأكمل ما تكون الحياة وأجمل ما تكون الحياة. ممارسة تعبير شامل وإبداع كامل، كما أراد الله حيث قال: “واستعمركم فيها”.. مارست الحياة على استحياء، والاستحياء لم ينف الطمع ولكنه نفى الإبداع في جميع المجالات.

ثم هربت هذه الفئة من جهاد المجتمع إلى شيء قليل من جهاد النفس، وشيء كبير من الانكفاء على الحياة الخاصة من أهل وأولاد ومال، وتعايشت مع أوضاع المجتمع بما فيه من استبداد واستغلال وفساد، دونما كلمة اعتراض أو إنكار، ودونما جهد جاد في الإصلاح.

وإذا كانت الفئة الأولى قد حملت خصائص تلك المدرسة المنحرفة في أوضح صورها وأشدها حدة، فلم تعدم الفئة الثانية من رشحات تلك الخصائص سواء في الرفع من شأن القلب مقابل التهوين من شأن العقل (والمؤمن دليله قلبه لا عقله) أو في الاعتقاد بالكرامات بصورة مسرفة أو في اللجوء إلى الأولياء سواء في حياتهم أو بعد مماتهم مع الاستعداد العام لتقبل الخرافات عن دور الجن والعفاريت والخضوع للمشعوذين والدجالين.

(ج)- فئة خدعت نفسها أو خدعت الناس ببعض أوراد الذكر وصحبة الشيخ. ومآلات أصحاب السلطان والمستبدين الظالمين المستغلين. وكانت أبواق دعاية لهم بين تسويغ لأعمالهم الفاضحة وبين ترويج وتضخيم لأعمال جزئية ظاهرها صالح خير كبناء مسجد.

وهكذا تركت الصوفية المنحرفة بصماتها واضحة على عامة الناس وكل الطبقات تقريبا ومن لم يتتلمذ فقد صاحب تلاميذهم (في الأسرة أو في العمل أو في الجوار…) وكان تلاميذهم من جميع الطبقات: العلماء، وطلبة العلم، والحكام، وحاشية الحكام، والتجار، والصناع والفلاحون…وكان السمت العام الذي حمله الناس هو السلبية إزاء الحياة بدرجات متفاوتة، والسلبية الكاملة إزاء ما يدور في المجتمع ولا بأس بأقدار من النفاق إذا لم تكف السلبية في توفير السلامة والعافية.

قد يقال إن الإنسان في عامة الأحوال ضعيف وقابل للخضوع بحاجاته والعيش في حدود أسرته، ولا يحتاج إلى معلم في هذا المجال. قد يكون هذا صحيحا ولكن الأمر الخطر هنا هو إضفاء صبغة دينية على هذا الضعف، أي تسويغه بمفاهيم الدين بدلا من أن يكون الدين عاملا في السمو بالإنسان فيحمل لواء التغيير والإصلاح للمجتمع، وليقول “لا” بكل فيه، ويموت شهيدا في سبيل الله. كان ذلك دور الصوفية المنحرفة حتى كاد يموت ضمير الإنسان الاجتماعي بل ضمير الأمة كلها. كادت الأمة تعيش عيش السائمة لا يهمها غير المرعى ولو كان أحط مرعى.

ويقول مالك بن نبي في كتابه وجهة العالم الإسلامي ص32:

“….حين يصبح الإيمان إيمانا جذبيا دون إشعاع، أعني نزعة فردية، فإن رسالته التاريخية تنتهي على الأرض، إذ يصبح عاجزا عن دفع الحضارة وتحريكها، إنه يصبح إيمان رهبان يقطعون صلاتهم بالحياة ويتخلون عن واجباتهم ومسئولياتهم كأولئك الذين لجئوا إلى صوامع المرابطين منذ عهد ابن خلدون.

وهكذا غلبت السلبية على الإنسان المسلم المعاصر مشفوعة بأقدار من النفاق تزيد وتنقص. فإذا كان محيط المسلم المعاصر متزمتا متشددا مغلقا سايره دونما اقتناع أحيانا، وربما لم يكتف بالمسايرة بل دافع ونافق. وإذا كان محيط المسلم المعاصر قد قطع شوطا في التقليد الأعمى للغرب سايره أيضا دونما اقتناع أحيانا، وربما لم يكتف بالمسايرة بل دافع ونافق. يغلب على المسلم المسايرة وعدم الاعتراض حتى لو رأى ما يستحق الاعتراض وذلك نتيجة للتحذير الموروث للإيجابية النشطة. وليست السلبية قاصرة على مجال السلوك بل تمتد إلى التفكير والنظر والبحث. فقليلا ما يعمل الفرد عقله ويكد ذهنه في دراسته مشكلة ما وتتبع قضية من القضايا.

إذن هناك إرث طويل المدى في مجال الزهد والاحتقار (الخفي) للحياة وفي مجال ضعف اليقظة العقلية وفي مجال ضعف المروءة والشجاعة الأدبية، إرث يحمل المسحة الدينية (ظلما وبغيا على الدين).

التجمعات الإسلامية المعاصرة وأزماتها الخلقية:

كلمة تمهيدية:

تردد الأمر طويلا بيني وبين السيد رئيس التحرير عندما عرضت عليه هذا الموضوع، ذلك أن هناك دوافع تلح عليّ تدعوني للكتابة وأخرى تصد عنها. يدعوني للكتاب أني واحد ممن عاش عمره منذ عقل متنقلا بين أحضان بعض تلك الجماعات، وعلى درجات متفاوتة من الصلة ببعضها الآخر، وله أصدقاء حميمون ممن ينتسبون إليها. فواجب الوفاء والصدق مع رفاق الجهاد الطويل يقتضي أن أنصح لهم قبل النصح لغيرهم… فضلا عن ذلك هو نوع من ممارسة النقد الذاتي لأني عشت هذه التجارب بين صفوف تلك الجماعات ووقعت في بعض الأخطاء منها الكبير ومنها الصغير.. لذلك كله أراني مدعوا لنصرتها تلك النصرة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال “أنصر أخاك ظالما أو مظلوما قيل يا رسول الله كيف ننصره إن كان ظالما قال أن ترده عن الظلم فذلك نصره”.

إن النصح عادة مر المذاق ولكن هو الداء لا بد من تناوله رغم مرارته. إنما قد يخفف من ذلك أن الذي يقدمه صديق يريد الخير كل الخير لجماعات نذرت نفسها للإصلاح.

ومما يدعوني أيضا للكتابة ذاك الدور العظيم الذي تقوم به تلك الجماعات في المجتمعات المسلمة المعاصرة فهي –رغم نقاط الضعف التي أسوقها في هذا المقال- تقوم بحمل لواء عزيز على كل مسلم غيور، لواء الإصلاح والتغيير على أساس من الإسلام الحنيف.

أما ما يصد عن الكتابة في هذا الموضوع فهي عدة مخاوف. أولها أن يحمل البعض محمل التشهير والتجريح لتلك الجماعات. ثانيها أن يستغلها بعض الخصوم في النيل والكيد لتلك الجماعات. ثالثها أن بعض الجماعات الإسلامية تلقى العنت والتضييق في كثير من الأقطار وقد تجد في مثل هذه الكتابة نوعا من الطعن من صديق وهي في محنتها تنتظر منه المواساة والعون.

وخلال مناقشة تلك المخاوف أوضحت الأتي:

إن مخافة أن يحمل الكلام محمل التشهير أرجو أن تتلاشى إذا استحضر رفاق الجهاد أن النصح واجب شرعي وأن لا سبيل إلى هذا النصح بغير الكتابة لأن الجماعات الإسلامية القائمة تمتد عبر العالم العربي كله. فضلا عن أن أمتنا تمتد من المحيط إلى المحيط وفي كل يوم تنبعث جماعة من المسلمين راغبة في الإصلاح بصورة من الصور…وقد تتبع جماعة في ماليزيا نهج أو بعض نهج جماعة في سوريا مثلا.

أما أن يستغل الخصوم ما أكتب للنيل والكيد، فهذا بعيد أيضا إذ أنا لم أكشف أمرا دفينا في أعماق تلك الجماعات، إنما هي مظاهر عامة يمكن أن يلحظها كثيرون بل إن بعضها ليعلو على السطح لدرجة صارخة.

بقي موضوع العنت والاضطهاد الذي تلاقيه بعض الجماعات وهي تنتظر المواساة لا الطعن من صديق، والحقيقة أننا يجب أن ننتبه لمعنى دقيق في هذا الموضوع وهو أن الجماعات الإسلامية وقد تصدت للعمل العام وأصبح لها تلك الشخصية المعنوية لم يعد أمر مواساتها يعني السكوت عن النقد الذاتي. فالنقد الذاتي حياة للجماعات وتجديد للحياة. خاصة وقد أطال أمد التضييق والاضطهاد ولم يعد فترة محدودة يمكن أن يعمل لها حساب خاص وأن تراعى رعاية خاصة.

ثم ينبغي التفريق بين أسلوب مواساة الأفراد المضطهدين وبين أسلوب مواساة الجماعات حاملة اللواء. فالجماعات حاملة اللواء يمكن أن يكون من مواساتها التعرض لها بالنقد وتوجيه النصح مع تقرير الدور الخطير الذي تقوم به، لأن ذلك يعني أنها لا تزال أمرا ذا شأن من الطبيعي أن يكون موضع اهتمام وحديث وحوار على صفحات المجلات.

وأخيرا ورد تساؤل: أما كان الأحرى إن كان ولا بد من النقد أن تذكر الإيجابيات كما تذكر السلبيات؟ وكان الجواب أن هذا صحيح تماما لولا أن الموضوع الأساسي للمقال هو أزمة الخلق المسلم المعاصر أي هو محاولة استعراض بعض صور خلقية سلبية أملا في الخلاص والعافية. ومن هنا يستحيل الحديث عن إيجابيات الجماعات أو غير الجماعات فلهذا مجال آخر. كما يستحيل تجنب الحديث عن الأزمات الخلقية عند الجماعات وهي عنصر أساسي في إطار أزمة الخلق المسلم المعاصر.

والآن ندخل في الموضوع:

نعرض هنا بعض أمراض خلقية ظهرت مع ظهور التجمعات الإسلامية المعاصرة وهذا لا ينفي أن لهذه التجمعات الإسلامية المعاصرة وهذا لا ينفي أن لهذه التجمعات فضائل كثيرة وأن لها آثارا صالحة في المجتمع. ونحن إذا أردنا أن نقيم تلك الجماعات –في إنصاف- فينبغي أن يكون هذا التقييم أولا بمنظور الفترة التي نعيشها اليوم. ولكن لما كنا الآن بصدد استعراض بعض ظواهر مرضية تبدو على سطح تلك الجماعات في أيامنا هذه فنكتفي بالتأكيد على أن الجماعات الإسلامية قد حلمت لواء الإصلاح في ظروف صعبة بل وسط (بحيرة آسنة تماما) واجتهدت كل جماعة في إصلاح جانب معين نذرت نفسها له معتقدة أنه مدخل الإصلاح العام.

وإني إذ أعي ذاك الدور الخطير الذي حملته تلك الجماعات –أيام نشأتها بصفة خاصة- أكن لها كل تقدير وإعزاز وانطلاقا من هذا التقدير والإعزاز أقدم لها النصح خالصا آملا في مزيد من الرشد والسداد وتجنب العثرات وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. ومن يعمل مجتهدا يخطئ ويصيب وقد يثاب في الحالين. ومن لا يعمل مخطئ غير مصيب وقد يأثم أبدا.

هذا والعمل الجماعي على أية حال من واجبات الدين حيث يأمر بالتعاون على البر والتقوى، ومن أساليب العصر حيث امتدت الجماعية إلى كل مجالات الحياة العلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية..

وينبغي ملاحظة أن الأعراض المرضية التي سنتناولها قد تظهر في جماعة دون أخرى وقد تتفاوت درجة ظهورها. كما أن بعض هذه الأمراض قد ينتشر بين فريق من الأعضاء وتنكره القيادة لكنه قائم على كل حال. أي أننا هنا لنعالج ظواهر عامة أما الدراسة التي تتناول بالتحليل والنقد جماعة بذاتها فلها مجال آخر.
أولا: الغلو والتطرف: وله عدة مظاهر:

(أ)- تضخيم جانب من جوانب الإسلام حتى يصبح محور كل شيء، قد يكون هذا الجانب هو تصحيح العقيدة (حول الذات والصفات) أو العبادة أو بعض جوانب السلوك أو هو المفاهيم أو هو السياسة أو اللامذهبية أو المذهبية.

(ب)- مفاهيم الجماعة قد تصبح آلة حادة قاطعة وقوالب صارمة يقاس بها الناس كل الناس والأحداث كل الأحداث، بدلا من أن تكون مؤشرات، ووسائل تعين على الفهم، وبدلا من أن تكون اجتهادات قابلة للمناقشة قابلة لإعادة النظر والتنقيح والتطوير لتواجه الواقع المتغير. ثم إن الفرد يحسب أن مفاهيم الجماعة قد استوعبت كل شيء، وبهضمه تلك المفاهيم أصبح في غنى كامل عن كل ما عداها، وكأن الجماعة وحدها اكتشفت أسرار الماضي والحاضر والمستقبل. وهي وحدها تملك “وصفات مدهشة” تستطيع بفضلها حل جميع مشكلات العالم. وهذه “الوصفات” لا تقبل المناقشة. ومن هذا المنطلق يضفي الفرد العصمة أو ما يشبه العصمة على قيادة الجماعة كما يضفي الكمال أو ما يشبه الكمال على تصرفات الجماعة ومواقف الجماعة، ثم مزيدا من العصمة والتقديس للقادة إذا تعرضوا لنوع من الاضطهاد والتعذيب.

(ج)- وأحيانا يكون التطرف بتقسيم العالم إلى معسكرين اثنين لا ثالث لهما. معسكر المؤمنين ويعني الجماعة التي ينضوي الفرد تحت لوائها. ومعسكر الضالين أو الجاهليين ويعني بقية العالم. وقد يترتب على هذا التطرف في تقسيم العالم انخلاع أفراد الجماعة المتطرفين عن العالم الجاهلي، عالم اليوم بواقعه وقضاياه ومشكلاته، والتحليق بهم في عالم الأحلام، في الوهم الكبير، المجتمع المنتظر. ومن ثم يصبح الأفراد في عزلة أو شبه عزلة عن الناس والأحداث.

كما قد يترتب على هذا التقسيم ما يمكن أن نسميه “التطبيق الحزبي للأخلاق” ونقصد به تقليص ميدان عمل الأخلاق الإسلامية مثل “أذلة على المؤمنين” “رحماء بينهم” “وبالوالدين إحسانا” “واخفض جناحك للمؤمنين” “من فرج عن مؤمن كربة” “مازال جبريل يوصيني بالجار”. كل هذه الأخلاق التي أمر بها الإسلام كدستور حياة بين المسلمين كل المسلمين (وجل هذه الفضائل يشمل الناس عامة) قد تصبح لدى بعض أفراد التجمعات المعاصرة قاصرة على محيط الجماعة الخاصة أو التجمع المحدود. أما عامة المسلمين فكأنهم قد أصبحوا خارج دائرة الإسلام وأخوة الإسلام، فحجبت عنهم أخلاق الأخوة والمحبة والتعاون والنصرة. بل وربما حجبت عنهم أيضا أخلاق الصدق والأمانة والوفاء وبهذا قد يسقط بعض الأفراد دون شعور في أخلاق اليهود حيث قالوا “ليس علينا في الأميين سبيل”.

وكما أنه يقع أحيانا تطبيق حزبي للأخلاق فقد يقع أحيانا أخرى نوع من “التقدير الحزبي للأخلاق”..فلا قيمة لخلق حسن ولا تقدير لعمل كريم ما لم يحمل لافتة “الإسلام” أو “الإسلامي” ولا قيمة لرجل فاضل ولا تقدير لإنسان كريم ما لم يحمل شارة التجمع الإسلامي العتيد، أي أنه لا يوزن الناس ولا توزن الأعمال بمقدار ما تحققه من خير، وإنما بمقدار ارتباطها بالحزب أو بشعارات الحزب.

(د)- وأخيرا يرد تساؤل خطير!؟ فبعد استعراض هذه الصور من الغلو والتطرف التي تصيب بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة أو بعض أفرادها، هل يمكن أن يذكرنا ذلك بالخوارج؟ كان عند الخوارج محامد من الأخلاق كالشجاعة الأدبية والحربية والصبر والثبات والصدق. ولكن غياب بعض الأخلاق ذهب بالأخضر واليابس وأهلك الحرث والنسل كما يقولون. بل إن فقدان خلق واحد وهو ما يكن أن نسميه “الرفق في أخذ الأمور” أو “الورع في أمر الدماء”، أو “الاعتدال في الحكم على الناس”، إن فقدان هذا الخلق الواحد جر مفاسد ملأت الأرض يوما. وقد ساعد على انحراف الخوارج ما كانوا عليه من اجتهاد في العبادة من صلاة وصيام وقيام، فاغتروا وتصوروا أنفسهم سيف الله المسلط على الشر والفساد في هذه الدنيا. وقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية…آيتهم رجل أسود…قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي الذي نعته”. (رواه الشيخان).

كما جاء في حديث علي بن أبي طالب: إذا حدثتكم عن رسول الله فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم…(رواه الشيخان).

ولكي يتضح جدوى التساؤل الخطير ينبغي التنبه على أن الذي انحرف بالخوارج –ذاك الانحراف المحزن أيام خلافة علي بن أبي طالب– هو حملهم السيف، بينما بعض الجماعات المعاصرة –أو بعض عناصرها على وجه الدقة- والتي تحمل شيئا من فكر الخوارج وشيئا من أخلاقهم لم تحمل السيف بعد. لم تحمله بالفعل –اللهم في حالات نادرة أو شاذة أو فردية- لكنها تحمله “بالقوة” كما يقول المناطقة أي عندها الاستعداد والرغبة ولكنها تنتظر الفرصة.

ثانيا: بين المظهر والجوهر:

يحدث أحيانا عند بعض الجماعات أن توجه العناية للمظهر أكثر من الجوهر ومع تقديرنا لأهمية كثير من المظاهر ولضرورة العناية بها ومع إيماننا بالتفاعل والتكامل بين المظهر والجوهر إلا أنه ينبغي أن يظل الجوهر في محله الأرفع ويظل تبعا لذلك موضع الاهتمام الأول. ولنضرب لذلك بعض الأمثلة.

جماعة تعني بالعبادة فتراها تولي كثيرا من اهتمامها لمظاهر العبادة من طول الركوع والسجود وبساطة المسجد فضلا عن بعض مظاهر أخرى مثل اللحية..لذا نجد بعض أفراد تلك الجماعة يحافظون على تلك المظاهر ويدور معظم حديثهم حولها ويفاصلون الناس عليها..بينما جوهر العبادة من خشوع لله وما يثمره هذا الخشوع من تقوى لله في السر و العلن، تقوى تجعل سلوك الفرد مثال الصدق والأمانة والرفق والأناة والمروءة والإحسان، هذا الجوهر وآثاره الطيبة لماذا لا يكون هو المميز الأساسي في شخصية هؤلاء الأفراد؟.

جماعة أخرى تعني بالعقيدة فتراها تركز معظم جهودها حول تصحيح التصورات النظرية والتعابير الدارجة على ألسنة الناس مع اهتمام أقل بتوجيه الأفراد إلى جوهر العقيدة ولب التوحيد وهو الإيمان الذي يعمر القلب فيكسبه السكينة مع التقوى ويثمر عمل الصالحات في كل المجالات. لذلك لا يمكن أن تميز بعض أفراد تلك الجماعات حين تخالطهم بوضوح هذا الجوهر وثمراته الصالحة. إنما نميزهم بدقة التعبير وضبط التصورات.

جماعة ثالثة تعنى بالمرأة. فبماذا تعنى؟ لا شيء تقريبا غير الزي والاختلاط (وهي تغلو في تصور الاختلاط المحظور بعيدا عن هدي الشارع الحكيم). ويشاركها في هذا جماعات أخرى تدعو إلى الإصلاح في جميع المجالات لكنها إذا دعت إلى الإصلاح في مجال المرأة وقفت عند حدود الزي والاختلاط لا تكاد تتعداهما إلى جوهر العفة وإلى جوهر واجبات المرأة وحقوقها كشخصية لها دورها في المجتمع. إن جوهر العفة هو ضبط الاستمتاع الجنسي في حدود الزواج أي التعفف قدر الطاقة عن النظرة الحرام واللمسة الحرام والخاطر الحرام. ولا شك أن الحرص على الزي السابغ وتجنب الاختلاط العابث من المعينات على تحقيق العفة وبدونهما تجرح العفة، وقد أوجبهما الشارع الحكيم، ولكن السبيل لأن تأخذ هذه المظاهر الصالحة طريقها إلى عقول وقلوب الرجال والنساء ليس هو مجرد التنديد بالاختلاط والابتذال والتفسخ والعري. إنما هو توجيه الجهود إلى الأفكار والنظريات التي تثمر هذه المظاهر الفاضحة…نفندها ونقدم البديل عنها أي نقدم فكرة مقابل فكرة وعقيدة مقابل عقيدة فإذا استقامت عقيدتهم (رجالا ونساء) استقام سلوكهم، وإذا خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم أذعنوا لأوامر الله وصلوا وصاموا خاشعين له وكفوا عن الاختلاط المشين والزي الفاضح.

جماعة رابعة تعني بنشر الوعي الإسلامي والمفاهيم الإسلامية لكنها تركز جهودها على نشر مفاهيم نظرية وتمكين أفرادها من الجدال الحاد حول تلك المفاهيم. أما سلوك أفرادها من عبادة وأخلاق فهذا تتركه لجهودهم الشخصية، حتى لينتج عن ذلك أن تجد بعض أفرادها يقضون الساعات الطويلة في بث الوعي بين مجموعة من الشباب أو في جدال عنيف حول المفاهيم، وقد يفوته خلال ذلك فرض صلاة أو فرضين دون مبالاة وذلك نتيجة للاعتناء الشديد بالمظهر مظهر الوعي دون جوهره فالوعي الصحيح بالإسلام يقتضي مع الفهم الممارسة الحياتية.

ثالثا: بين الاستقلالية الإيجابية وبين “الإمعية”:

ونقصد “بالإمعية” ما عبر عنه الحديث الشريف “لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا”. (رواه الترمذي وقال حسن غريب).

إن بعض التجمعات تقع أحيانا في خطأ جسيم إذ تنزع الفرد من المجتمع الكبير حيث يسود خلق “الإمعية” أو حيث يسود “الإمعات” لا لتحرره تحريرا كاملا من هذا الخلق المشين وتجعل منه إنسانا مستقل الإرادة له شخصيته المبدعة. إنما هي تحرره تحريرا جزئيا فحسب.

إن الجماعة تنجح في إثارة الفرد على الأوضاع الفاسدة في المجتمع الكبير وتجعله متمردا عليها آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر داعية إلى الخير. وفي نفس الوقت تضييق على حريته وإرادته وشخصيته داخل الجماعة، وكأنه لا حق له في النقد الذاتي أي لا يمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل الجماعة كما يمارسها خارجها. وقد تساعد صور التنظيم والتربية على أن يكون الفرد مستسلما سهل الانقياد فيما يتعلق بأمور الجماعة. وهكذا يكاد يصبح الفرد مع “الإمعات” داخل الجماعة ومع المتمردين خارجها. وهكذا لا تخرج الجماعة في هذه الحالة دعاة مؤمنين إنما تخرج حزبيين نشيطين. لا تخرج لنا الشخصية التي تملك إيجابية ذاتية إنما إيجابية موجهة من الخارج موجهة بقوة ديناميكية الحركة ونشاطها وقيادتها..فإذا تعرضت هذه القوة للضعف أو للزوال –لأي سبب عارض- ضعفت تباعا لذلك أو زالت إيجابية الفرد وعاد سلبيا، معنى ذلك أن إيجابية الفرد الحزبي إيجابية موجهة مكانا (أو مجالا) إلى خارج الجماعة أو الحزب وموجهة زمانا بفترة ارتباط الفرد بالحزب وموجهة من حيث الدرجة بمستوى نشاط الحزب.

وإذا حدث (وهو أمر نادر الحدوث نتيجة التربية والممارسة الطويلة) أن توقف النظر يعيد النظر في أمر من أمور الجماعة إما بسبب توقد ذهن أو نفس أبية أو إثارة خارجية قوية. إذا حدث ذلك سرعان ما يشعر الفرد بسطوة الجماعة (أو الحزب) التي تفرض الاستسلام المطلق. ولا تقبل بحال مجرد الجدال حول مفهوم من مفاهيم الحزب أو حول أحد قادة الحزب لأن ذلك يعني الإنكار (للحقائق الثابتة) أو الاعتراض على “المسلمات الراسخة” ومن تجرأ على ذلك فهو الانشقاق والخروج والعصيان. وما أقسى الشعور بالخروج والعصيان. وإذا تغلب العقل بمنطقه والنفس بكرامتها وواصل الفرد النظر والبحث المستقل وأعلن اعتراضه.. كان مصيره الطرد من جنة الحزب، والعزلة عن أصدقائه ورفاقه الحميمين. والأدهى من ذلك هو دمغ خلاف الرأي بأبشع الصفات النفسية وعدم الاكتفاء بوضعه في إطار “الخلاف الفكري” إنما هو انهزامية وجبن، وتردد وضعف عن مواصلة الجهاد، ورغبة في السيطرة، وقد تصل التهم أحيانا إلى العمالة والخيانة.

ملاحظتان:

الملاحظة الأولى:

ينبغي أن نسجل في نهاية هذا العرض حرص جماعة إسلامية كبيرة في باكستان على النجاة من ظاهرتين خطيرتين أولاهما ظاهرة “الإمعية” حيث لا يكتفي بأن يكون النقد الذاتي روحا سارية في الجماعة بل يوضع له من النظم ويخصص له من الوقت ما يجعله من صلب النظام العام فهناك اجتماع شهري إجباري للأركان (أي الأعضاء الأساسيين)، خاص للنقد الذاتي. هذا فضلا عن ممارسة الشورى على نطاق واسع. الظاهرة الثانية هي ظاهرة حمل السلاح (سواء بالقوة أو بالفعل) ولذلك نقلوا عن زعمائها قولهم “لقد وجهت إلى الجماعة طائفة كبيرة من الاتهامات إلا أنه لم يوجه إليها تهمة إحراز الأسلحة أو استخدام القوة لقلب نظام الحكم. وذلك لأن الجماعة تجنبت تجنبا كليا ما يتصل بالسلاح والعنف على مدى تاريخها الطويل.

الملاحظة الثانية:

إن هناك أمرا يثير الانتباه في موضوع الجماعات وهو أن معظم الأمراض التي تعرضنا لها يمكن أن نلمحها –وبوضوح شديد- عند الأحزاب العقائدية غير الإسلامية، وهذا مما يقتضي الاستعانة بدراسات علم الاجتماع في هذا المجال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر