أبحاث

البيروني ومنهجه في التأليف

العدد 117

مقــدمـة :

يحتــل أبــو الـريحــان, محمـد بـن أحمـد البيـرونـي مكـانـة متفـردة في تــاريـخ العلــم العـربي, فقــد كــان مـن أغــزر العلمــاء العـرب إنتـاجًـا وابتكــاراً لمعطيــات وآراء علميــة غـير مســبوقــة في شتـى العـلوم التي كـانت ســائـدة في عصــره, ومـن الغـريب في الأمــر ألا يظفــر هـذا العـالـم الفــذ رغــم كثــرة مـؤلفـاتـه فى شتـى ضــروب العــلـم؛ بغيـر تـرجمـات قليلــة للغـايـة, ولعـل التـرجمـة التي يعــول عليهــا في هـذا المجـال, مـا جـاءت في «معجــم الأدبـاء» ليـاقـوت الحمـوي, وفيمــا يلي عــرض وجيـز لمـا قــالــه يــاقــوت عـن البيـرونـي :

«محمـد ابـن أحمـد أبـو الـريحــان البيـرونـي, ويعــرف أحيــانًـا بالخــوارزمـي لأن مقـامــه بخــوارزم كــان قـليلاً, ولــه في الـريـاضيــات الســبق الـذي لـم يشــق المحضــرون غبـاره, وبلغنـي أنـه لمـا صنـف «القــانـون المســعـودي» أجــازه الســلطــان بحمــل فيــل مـن نقــده الفضـي فـرده إلى الخـزانـة بعــذر الاستغنــاء عنـه.

وكــان مكبًّــا على تحصيــل العلـوم منصبًّــا إلى تصنيف الكتـب يفتــح أبـوابهــا, ولا يكــاد يفــارق يــده القــلم زهينــه النظـر وقلبــه الفكــر إلا في يــومـي النيـروز والمهــرجـان مـن الســنـة لإعــداد مـا تمــس إليــه الحـاجـة في المعـاش مـن بلغـة الطعـام, ثــم في ســائـر الأيـام مـن السنـة علــم يسـفر عـن وجهـه قنـاع الإشــكـال ويحســر عـن ذراعيــة كمــام الإغــلاق.

حــدث القـاضـي كثـير بـن يعقــوب عـن الفقيــه علـي بن عيســى قــال : دخـلت على أبي الـريحـان وهـو يجــود بنفســه قـد حشــرج نفســه وضــاق بــه صــدره فقــال لي في تـلك الحــال : كــيف قلـت لي يـومًــا حســاب الجــدات الفــاســدة ــ يقصـد مســألـة مـن مســائـل حسـاب المـواريث ــ ؟ فقلـت لــه إشفــاقًــا عليـه : أفي هــذه الحـالـة ؟ قـال لي : يـا هـذا أودع الـدنيــا وأنـا عــالــم بهـذه المســألـة, ألا يكـون خيـرًا مـن أن أخليهــا وأنـا جــاهـل بهـا. فـأعـدت ذلـك عليــه وحفـظ وعلمنـى مــا وعــد وخـرجـت مـن عنـده وأنــا في الطـريق فسـمعت الصــراخ.

وكــان الســلطـان مســعـود مقبـلاً على علـم النجـوم ومحبًّــا لحقــائق العـلـوم ففـاوضــه يـومًــا في بعـض مسـائـل الفلـك وفي سـبب اختــلاف مقـاديـر الليــل والنهـار في الأرض, وأحب أن يتضــح لـه بـرهــان ذلـك, فصنـف لـه عنـد ذلـك كتـابًــا في اعتبــار مقـدار الليـل والنهــار بطــريق تبعــد عـن مـواضعــات المنجميـن وألقـابهــم, وكـذلـك صنف كتـابـه في لــوازم الحــركتــين بــأمـره وهــو كتــاب جليــل لا مـزيـد عليــه, مقتبس أكثــر كلمــاتـه عـن آيـات مـن كتـاب الله عـز وجـل.

وكتــابــه المتــرجـم بـــ «القــانـون المســعـودي», يعفـي على أثـر كـل كتـاب صنف في تنجيــم أو حســاب, وكتـابـه الآخـر المعنـون بــ «الـدســتور» الـذي صنفــه بـاســم شهــاب الـدولـة أبي الفتـح مـودود ابـن الســلطـان مســعـود مســتوف أحــاسـن المحـاسـن. وأمــا سـائـر كتبـه في علـوم النجـوم والهيئــة والمنطـق والحكمــة فـإنهــا تفــوق الحصــر رأيت فهــرســتهـا في وقـف الجـامـع بمـرور في نحـو السـتين ورقـة بخـط مكـتنـز.

وكـان السـبب في مصيـره إلى غـزنـة أن السـلطـان محمــودًا لمـا اسـتولى على خــوارزم قبـض عليــه وهـم بقتلــه فقيــل لــه : إنــه إمــام وقتـــه في علــم النجـوم وأن المـلـوك لا يستغنــون عـن مثــلـه فـأخــذه معــه ودخــل بـلاد الهنــد وأقـام بينهــم وتعلـم لغتهــم واقتبس علـومهــم ثـم قـال بغــزنــة حتـى تـوفي بهــا في حـدود ســنة ثـلاثيـن وأربعمــائـة عـن ســن عـاليـة»(1).

وذلــك مـا أورده يــاقـوت الحمـوى في شـــيء مـن التفصيـل غــير أن كـلاً مـن البيهقـي وابـن أبـي أصيبعــة قـد ذكــره كـلاهمــا في تـرجمــة قصيـرة لا تتنـاسـب مـع مكــانتـــه كـواحــد مـن أكــابر علمــاء المسلميـن.

أمــا دائـرة : المعــارف الإســلاميـة فقـد أفــردت ســيرة مختصـرة لحيـاتـه جــاء فيهـا : «البيــرونــي أبـو الـريحـان محمـد بـن أحمـد, مـؤلف عـربي مـن أصــل فـارســي ولـد في ذي الحجــة عـام 362هــ بضـاحيــة مـن ضــواحــي خــوارزم ودرس الـريـاضيــات والفـلك والطب والتقــاويــم والتــاريخ وكـانت بينــه وبين ابـن ســينـا مـراســلـة, وأثمـرت هـذه الـدراســات المتعـددة, فـألف البيـرونـي أول كتبـه الكبيـرة «الآثـار البـاقيـة عـن القــرون الخـاليــة», وقـد نشــره إدوارد سخــاو Sachauسنـة 1878م. وذهـب البيــرونـي في حـداثـتـه إلى الهنـد, وكــانت قـد دخــلت في الإســلام وقتــذاك بفضــل الحمـلات المظفــرة التي قـامـت بهـا جيـوش محمـود الغـونــوي ودرس هنــاك العلـوم اليـونـانيــة وأخـذ يستقـي مـن منـاهـل الثقـافـة الهنـديــة, وضمـن خــلاصــة كتـابـه الثــاني الكبيــر «تـاريـخ الهنـد» نشــره أيضًـا سخـاو سنـة 1887م ولمـا عـاد مـن الهنـد استقـر في البـلاط الغـزنـوي وأهــدى إلى السـلطــات مسـعـود بن محمـود عـام 421هـ رسـالـة في علـم الفلـك وصنف في العـام نفســه رسـالـة قصــيرة في الهنـدســة والحســاب والتنجيــم عنـوانهــا «التفهيــم لأوائــل صنـاعـة التنجيـم» وتــوفـي البيـرونـي عــام 444هـ ولـه إلى جـانب الكتب التي ذكــرنـاهــا كتـاب في المـادة الطبيـة عنـوانـه «كتـاب الصيـدلـة» (الصيـدنـــة) وصنـف كـذلـك كتـابًــا في الجـواهـر عنــوانــه «الجمــاهـر في معــرفـة الجـواهـر»(2).

مـؤلفــات البيـرونـي :

اشــتهـر العلمـاء العـرب بصفــة عـامـة بموســوعيـة التــأليف ووفــرة التصــانيف وتنــوع الإسهــام في ضــروب العلــم والمعـرفـة, وعلى هـذا فلــم يكـن البــيرونـي بـدعًـا بــين أقـرانـه مـن العلمـاء, إلا أنـه قـد فـاقهــم جميعًــا في غـزارة مـؤلفـاتــه ومبــلغ ريـادتــه, بل مـن الصعـب على أي بـاحث في البيـرونـي يحـدد علمًــا بـذاتــه قـد اشتهـر بـه البيـرونـي, فهــو في الفلـك من الطبقـة الأولى بين الفلكـيين, وفي الـريـاضيــات تـوصــل إلى الشـيء الكثيـر مـن النظـريـات الـريـاضيـة غيـر المســبوقـة, وفي الجغــرافيـا فهـو جغـرافـي ممتـاز, وقـد أتـاحت لــه الظـروف أن يســافـر إلى أقطــار عـديــدة تحــدث عنهــا بـإفـاضــة كمــؤرخ وكجغــرافي لا يشــق لـه غبـار, أمـا في المعــادن فقـد كــان كتـابـه «الجمــاهـر» جـديـداً كــل الجـدة في بـابــه, وأثبت الكثـير مـن الحقـائق العلميـة الـتي أيدهــا العـلم الحـديث.

وصفــوة القــول أن البيــرونـي لـم يـدع بابًـا مـن أبـوتب العلـم إلا وطـرقـه, ويكفــي للـدلالــة على مـدى شــغفـه بالعلـم وحب البحث حتى وهـو في سكــرات المـوت, مــا ســـبق أن ذكــرنـاه في تـرجمــة يــاقـوت الحمـوي.

وعلى هـذا الأســاس كـانت كثــرة مـؤلفـات البيـرونـي كثــرة غــير مـألوفــة إلى درجــة أنـه لم يعــرف على وجـه التحـديـد عـدد مـؤلفـاتـه. فقـد أثبت بنفســه أنـه قـد ألف مـائـة وثـلاثـة كتـابًـا وذلـك في رســالتـه التي أسمـاهـا «رســالـة في فهــرس كتب محمـد بـن زكــريــا الــرازي» غــير أن بـعض المصــادر تشـير إلى أنـه ألف مـائـة وثمـانيـن كتـابًـا(3).

ويــرجــح البعـض أن عــدد الكتب المنســوبـة إلى البيـرونـي مـائـة وستـة وأربعيـن كتـابًـا, غيـر أن هـذا الإحصــاء غيــر أكيــد, لأنــه مـن هــذه الكتب مــا يكـون قـد عـد غــير مـرة, لكـن باســم آخــر, كمــا أنـه مـن الممكـن أن تكشـف لــه كتب أخـرى في المســتقبـل(4). ويختلف حجــم كتب البيـرونـي اختـلافًـا كبيــراً, فبعضهــا لا يـزيـد على عشــر ورقــات, في حيـن أن ثـلاثـة كتب مفقــودة ألفهــا في علــم الفـلك يبـلغ عـدد أوراق أولهــا 360 ورقــة, والثـاني 550ورقــة, والثـالث 600ورقــة, على أن أكبــر كتبــه «تــاريخ الهنـد» في 700 صفحـة. وقـد تبيـن أن الحجــم المتـوســط لتسعــة وســبعيـن مـن كتبـه العـروفــة نحـو 90 ورقــة, فـإذا افتــرض أن هــذت تاـرقــك المتـوسـط يصـدق على مـؤلفــات لبــيرونـي المـائــة والســتة الأربعيـن فمجمــوع مـا ألفــه في حــدود 13000ورقـة, يتــألف جلهـا مـن حقـائق فنيــة وجــداول عــديـدة عـى نتيجـة حســابـات وتحليـلات لقضــايـا علميـة مختلفــة, وذلـك ــ والحـق يقـال ــ إنجــاز جســيم يتعـذر أن يجــاريــة فيــه إنســان, فضـلاً عـن أن جــداول حســاب المثلثــات مـن الجيــوب والظـلال وغيـرهــا تحتــاج إلى حـاســبات اليكتـرونيــة يقــوم بهــا جمـع غفـــير مـن الحـاســبين والـريـاضييـن لا أن يقـوم بهـا فــرد واحـد بطــرق بـدائيـة مــألوفــة(5)

وعلى الـرغــم مـن هــذا الكـم الكبيــر مـن المـؤلفـات فقـد عــدت على معظمـه عـوادي الـزمـن فضــاع أو فقـد ولـم يصـل إلينــا إلا أقــل القليــل بـدليــل أن كـارل بـروكلمـن C. Brockelmanالـــذي تــوفــر علـى تســجيـل نخطـوطــات الــتراث العـربي والإســلامـي لـم يسـجـل مـن كتب البيـرونـي ســوى 25 كتـابًـا(6).

وفيمــا يلى عــرض لأهــم آثـــاره المعـروفــة :

1 ـــ القــانـون المســعـودى في الهيئــة والنجــوم

وهـو مـن أهــم مـؤلفـات البيـرونـي, فهــو عبـارة عـن دائـرة معــارف علميــة تشمــل علــوم الفلـك والجغــرافيــا والهنـدســـة والـريـاضيـات. ويصف المسـتشرق الإيطــالي كــارلـو نــالينــو C.Nallinoهـذا الكتــاب بقــولــه في كتــابـه الشــهير «علــم الفلـك .. تـاريخــة عنـد العــرب» : «إنـه مـن الكتـب المطـولـة المســتقصـى فيهــا العلــم, المثبتــة لجميــع مـا جــاء فيهـا بالـبراهـن الهنـدسيـة المتضمنــة أيضًــا كـافـة الجـداول العـدديـة التي لا غنـى عنهــا في الأعمــال الفلكيــة. وقـد خــرج مـن علــم الهيئــة عنـد العـرب علـم الميكـانيكــا الفلكيــة وعلــم طبيعــة الأجــرام الســمـاويـة, وأكثــر علـم الهيئـة النظـري, حيث إنـه يبحث عـن حقيقـة حـركـات الكـواكـب, وواضــح ذلــك كلـــه مـن مضمــون كتــاب «القــانـون المســعـودي» للعـالــم العـلامـة أبي الـريحـان البيـرونـي .. فـإن مـادة هـذا الكتـاب النفيس الذي لا نظير لـه تـدور على : مبــادئ علـم الهيئــة وحسـاب المثلثـات الكـرويــة ودوائـر الكـرة السمــاويـة والإحــداثيــات النـاشئــة عنهــا .. الخ(7).

2ــ تحقيـق مـا للهنـد مـن مقــولـة مقبـولـة في العقــل أو مـرذولـة :

وتكمــن أهميـــة هــذا الكتــاب في الإحـاطـة بطبيعــة الثقـافـة الهنـديـة القـديمـة بمـا احتـواه مـن علـم وفلسفــة وأدب وتـاريـخ وجغــرافيــا وفلـك, وقـد شمــل هـذا الكتـاب على معلـومـات ذات أهميــة بالغــة عـن الهنـد.

وقـد آثــار هــذا الكتــاب اهتمـامــاً كبيـراً لــدى المســتشـرقيـن وفي ذلـك يقــول المسـتشـرق الإيطـالي ألـدوميـلي Aldo Mielliفي وصـف الكتــاب : «كمــا استطــاع البيـرونـي أن يكتب بسهــولـة كتـابًـا جـديـرًا بالإعجـاب وهــو كتــاب تــاريخ الهنـد. وقـد أصبــح هـذا الكتـاب مـرجعًــا أسـاسـيًّـا, ســواء بـالنظــر إلى التعـرف على العلـم العـربي أم علـى علـم الهنــود. كمــا هــو مــرجـع أســاسـي في التـاريخ والجغـرافيـا وكـل مـا يتصــل بحيـاة الشعب الهنـدي(8).

وقــد تـولى تحقيق هـذا السـفـر النفيس المســتشــرق الألمــاني إدوارد ســخـاو Sachauونشــره سنــة 1887م, ثـم تـولى تـرجمتـه إلى الإنجليـزيـة مـع تعليقـات وشــروح ونشــره في لنـدن سنــة 1888م في مجلـديـن كمــا ظهــرت الطبعــة الثـانيـة لـه سنــة 1910م(9), وقـد تـوالت طبعـات هـذا الكتـاب في أكثـر مـن بلـد.

3 ــ الآثـار البـاقيــة مـن القـرون الخـاليـة :

يعــد هــذا الكتــاب مـن أشهــر كتب البيــرونـي وأغـزرهــا مـادة, فهـو يبحـث في الشهـر واليـوم والسنـة عنـد مختـلف الأمـم القـديمــة وكـذلـك في التقــاويـم, ومـا أصـاب ذلـك مـن التعـديـل والتغييـر ةفيــه جـداول تفصيليــة للأشــهـر الفــارسيــة والعبـريــة والـروميــة والهنـديـة والتـركيــة وأوضــح فيـه كيفيــة اســتخـراج التــواريـخ بعضهـا مـن بعـض .. الخ.

وقـد حـقق «إدوارد ســـخـاو» هـذا المخطــوط عـام 1868م, كمــا تـرجــم إلى الإنجليـزيـة وطبــع في لنـدن عـــام 1789(10).

5 ــ الصيـدنــة في الطـب :

وقــد ألفــه البيــرونـي في أواخــر حيـاتـه, يقــول عنــه ابـن أصيبعــة «اســتقصـى فيــه معــرفــة مـاهيـات الأدويــة, ومعــرفــة أسمـائهــا, واختــلاف آراء المتقـدميـن فيهــا, ومـا تكـلـم كـل واحـد مـن الأطبـاء وغــيرهــم فيــه وقـد رتبـه على حـروف المعجــم»(11). والكتــاب هـو بحث في المـادة الطبيـة, على نسـق يشبـه إلى حـد مــا بحـث الطبيـب الـرومــانـي «ديـوسـقـوريـدس» والـذي عـاش في القـرن الأول بعــد الميــلاد, وســجـل 600 نبــات طبي. ولكـن البـيرونـي قـام بتسجيـل خمســة أضعــاف مــا سجــلـه «ديـوسـقـوريـدس» مـن النبـاتـات الطبيـة. وقـد تـولى نشــر هـذا الكتــاب المســتشــرق الألمــاني مــاكس مـايرهـوف M. Meyrhofفي برلــين سنــة 1932م(12).

6ــ الجمــاهـر في معــرفـة الجـواهـر :

وهـو مـن أهــم الكتـب الـتي ألفت في علــم المعــادن ومــا يتعـلق بهـذا العلـم مـن علــوم مثــل البــلورات والجيـوكيميــاء؛ وقـد ألف البيـرونـي هـذا الكتـاب في أواخـر أيـامـه وحققــه المسـتشــرق الألمــاني «ســالـم الكــرنكــوي» Krenkow. والكتــاب زاخـر بــالآراء العلميــة غــير المســبوقــة والســديـدة عـن المعــادن وأنـواعهــا وخصــائصهــا وأنمـاطهــا وأوزانهــا ممـا يجعــل البيـرونـي ــ بحـق ــ رائـدًا في علـوم المعـادن.

تلــك هـي أهــم الكتب المـألـوفــــة والمشـهـورة للبيـرونـي والتي اسـترعت انتبــاه المســتشـرقيـن ومـؤرخــي العلــم, أردنــا بذكــرهــا مجــرد التمـثيــل على غـزارة وتنـوع مجــالات التــاليف لـديــه في جميــع ضـروب العلـم التي كـانت سـائـدة في عصـره.

منهــج البيـرونـي في التـأليـف :

إن البـاحث في مـؤلفــات البيـرونـي التي وصلت إلينــا ســوف تتضـح لــه مـلامــح المنهــج الـذي اســتنـه البيــرونـي في كـل مـؤلفـاتـه على اختــلاف أنمــاط هــذه المـؤلفــات وتنــوع مـوضـوعـاتهــا, وأغلب الظـن أن هـذا المنهـج قـد استمـد مقـومـاتـه مـن شـخصيـة البيـرونـي نفســه, فقـد كــان متـواضعًــا شــأنـه في ذلـك شــأن العـالـم الحـق, أمينًــا فيمــا ينقــل عـن الغـتير حتـى وإن احتلف معهـم, زاهــدًا في المــال إلى أبعــد الحــدود, محبًّــا للعلــم حتــى وهـو في اللحظـات الأخيــرة مـن حيـاتـه, منكبًّـا على التـأليف فيمــا ينفـع النـاس, مجـربًـا بنفســه كـل مـا يحتــاج إلى التجـربــة كــدليــل مــادي ملمــوس لمـا ينــادي بــه ويقـول, وكـل هـذا على الـرغــم من الاضطــرابــات والقــلاقـل السيـاسيـة والحـروب التي ســادت في عصـره.

وعلى هـذا الأســاس فـإنـه يمكننـا حصــر المـلامـح الأسـاسيـة في خصـائص هـذا المنهـج في النقـاط الآتيـة :

أولاً : الاستـقلال الفكـري :

لعــل البــاحث في «القــانـون المسعــودي» وهـو ــ كمــا ســبق أن ذكــرنـا ــ دائـرة معــارف علميــة تشمــل عـلومًــا شتـى كــافلـك والجغـرافيــا والهنـدســـة والـريـاضيــات, ســوف يجـد أن صفـات العـالـم الحق تتجـلى في شــخص البيـرونـي, فهــو لـم يـأخـذ بـآراء مـن سبقـوة أخـذ المســلـم بتلـك الآراء, بـل كــان العــالـم النـاقـد لهـا, المـؤيـد صحتهــا إذا كــانت صحيحــة, والمضيف إليهــا مـن عنـده إذا كــانت بحـاجــة لاســتكمــال صحتهــا, أو الـرفض لهــا إذا رأى ذلــك, وفي جميــع الأحــوال فهــو يتحـلى في كتـابـاتـه بفضيلــة مـن أخص فضــائـل العـالـم, وهـو التـواضــع الجـم وعـدم إنكــار جهـد مـن سبقــوه, بل لقـد وصــل في تـواضعــه إلى درجــة عاليــة بحيث دعــا إلى نقــد آرائــه هـو, وتصحيـح مــا وقــع فيــه مـن خطــأ أو سهــو.

يقــول البيـرونـي في مقـدمــة الكتــاب : «ولـم أســلك فيــه مـن تقـدمنـي مـن أفـاضـل المجتهـديـن علـى مطـايـا الـترديـد إلى قضــايـا التقليـد, باقتصــارهـم علـى الأوضــاع الـزيجيــة, وتعميتهــم خـير مــا زاولــوه مـن عمــا, وطيهــم عنهــم كيفيــة مـا أصــلوه مـن أصــل, حتـى أحـوجــوا المتــأخـر عنهــم في بعضهــا إلى اسـتئنــاف التعليـل, وفي بعضهــا إلى تكلف الانتقــاد والتضـليــب, إذ كــان خـلـد فيهــا كـل سهــور بـدر منهـم لسـبب انســلاخـه عـن الحجـة, وقلــة اهتــداء مسـتعمليهــا بعـدهــم إلى المحجــة, وإنمـا فعلت مـا هـو واجب على كـل إنســان أن يعلمــه في صنـاعتـه مـن تقبـل اجتهـاد مـن تقـدمـه بالمنـة, وتصحـيح خـلل إن عثــر عليــه بـلا حشــمـة, وخـاصـة فيمـا يمتنـع إدراك صميـم الحقيقــة فيـه مـن مقــاديـر الحـركـات وتخليـد مــا يلـوح لـه فيــه تـذكــرة لمـن تــأخـر عنــه بالـزمـان وأتـى بعـده, وقــرنت بكــل عمـل في كـل باب مـن عللـه, وذكــر مـا تـوليت مـن عملــه, مــا يبعـد بــه المتـأمــل عن تقليـدي فيـه, ويفتــح لــه بـاب الاســتصـواب لمـا أصبت فيـه, أو الإصـلاح لمـا زللت عنـه أو سهــوت في حسـابـه»(13).

ثانيــا : النقــد العلمــي :

مـن الـواضـج أن البيـرونـي قـد درس أعمــال مـن سبقــوه مـن العلمـاء وحتـى المعـاصـريـن لـه كــابـن ســينـا الــذي كـانت بينهمــا مـراســلات عـديـدة. كمـا أنـه قـد آثـر أن يتـعلـم لغــات كثــيرة حتى يتمكــن مـن الاطــلاع على حضــارات ومعـارف الأمـم بلغـاتهـا الأصليـة. فقـد نقــل عنـد سفـره إلى الهنـد أثنــاء غــزوات الســلطـان مســعـود الغـزنـوي اثنــين وعشــريـن كتـابًـا من اللغــة السـنسكـريتيـة إلى العـربيـة(14).

ولا شــك أن مثــل هــذه الـدراســة هـي بعينهــا مــا مجـده الآن في الأطـروحــات العلميـة, إذ أن دراســة الأعمــال الســابقـة Previous Workمــن الفصـــول التمهيـديــة والـرئيسـية التي لا غنـى عنهـا في أي أطـروحـة علميـة, إذ أن البـاحث يبـدأ مـن حيث انتهـى مـن سـبقـوه مـن العلمـاء منـاقشًــا لأفكــارهــم وآرائهــم, وبذلـك تتحقق الإضـافــة والابتكـار وبالتـالي يـزداد وصيــد الكــم المعـرفي في هـذا العـلم أو ذاك.

ولـم يكــن البيـرونـي مجــرد مــؤلف قـد حصــر في كتبـه آراء مـن سبقــوه ســردًا دون نقـد أو تمـحيـص بل كــان نـاقـاًا وباحثًـا مـدققــا عــارفًــا بـأوجــه الخطـأ والصـواب جـاعـلاً نصـب عينيــه التقييـم والتقـويــم. وعلى سبيــل المثـال يقــول في تقـديــم إحـدى النظـريـات الهنـدســية التي وردت في كتـابـه «اسـتخــراج الأوتـار في الـدائـرة» : «إن «مـانـالاوس» رام مـن كتـابـه في الأصــول الهنـدســية أن يبيـن كيف يعطـف في نصف دائــرة خطًــا منعطفًــا مســـاويًـا لخـط مفـروض, فســلك إليـه سلكًـا طـويلاً جـدًّا, ثــم عملــه «ثـابت بــن قــرة» حيـن ذلـك بعمــل في طــول عمــل «مـانـالاوس» وإن «إبــا الجــود» أفــرد لهــذا المعنـى مقــالــة واستخـرجـه, فلمــا وقف عليهــا «أبـو سعيـد الســجـزي» اســتخـرجـه بطــريقـة هـي في نهـايـة السهــولـة»(15).

ولعــل المثــال الحـي لهـذا المنهــج مــا فعلـه البيـرونـي في تعييـن الجهـات الأصليــة. فقـد أفـرد البيـرونـي بابًا خـاصًّـا من المقـالـة الـرابعــة مـن«القــانــون المســعـودي» لتعـيين خـط نصف النهـــار (اتجــاه الشمـــال والجنــوب)؛ وذلـك لأن الأرصــاد الفلكيــة ومـا يتصــل بهــا مـن تحـديـد الأوقــات وتعـييـن اتجـاهـات أمـاكـن العبــادة تعتمـد على معـرفـة الجهـات الأصليــة, وقـد ذكــر البيـرونـي سـبع طـرق مختلفـــة لكيفيــة تعـيين اتجـاه الشـمـال والجنـوب, مبينًــا مـزايــا ومســاوئ كـا منهــا, فنــاقشـهـا ثــم أضــاف إليهــا بعـض التحســينـات, وأخـيراً شــرح مـع البـرهـان طـريقــة هنـدسـية لــه تـوفــر الوقت الذي يقضيــه الفلكـي في انتظــار اللحظـات المنـاسبـة للأرصـاد.

وسـنورد الطــرق بــاختصــار لكــي نـرى طـريقــة عــرض ذلـك العــالـم لتلـك الحقــائق الفلكيـة, وكيفيـة اعتــراضــه عليهــا ومنـاقشتـه لهــا, ممـا يـدل على عمقــه في البحث وأصـالتـه في التفكـير .. وأهــيرًا نـرى طـريقتــه العمليــة المبســطـة النـاجحــة التي تنـم على عقليــة ممتـازة وذكــاء حــاد.

الطــريقـة الأولـى : مـراقبــة ظـل عصــا رأســيـة حتى يكـون أقصـر مــا يمكـن حينئـذ تكـون الشـمس في نصف النهـار, ويكـون اتجـاه الظـل هو الشمـال والجنـوب.

اعتــراض البيـرونـي :

1 ــ الشمــس قبيـل نصف النهـار وبعـده بقليــل لا يحـدث تغـير يذكـر في ارتفـاعهــا.

2 ــ ومعنـى ذلـك أن اتجـاه الظـل يتغير خـلال زاويــة كـبيرة بينمــا لا يحـدث تغـير محسوس لطـول الظـل.

الطــريقــة الثـانيــة : اســتخـدم حسـاب المثلثــات المعـرفــة طــول الظـل عنـد الظهـر تمـامًــا .. تـم تـرســم الـدائـرة حـول العصــا نصف قطـرهــا مســاو لهـذا الطـول .. ثـم يـراقب الظـل إلى اللحظــة التي يمس فيهــا طـرفــه محيـط الـدائـرة فتكــون هـي لحظـة الظهـر, ويكـون اتجـاه الظـل هـو الاتجـاه المطـلوب.

اعتـراض البيرونـي :

أولاً : التغــير البطــيء في طــول الظـل حـوالي الظهـر.

ثـانيًـا : صعـوبـة تحـديـد التمــاس بين الظـل والـدائـرة, وكــلاهمـــا ذو سمــك يجعــل التمـاس منظقــة لهـا مسـاحـة وليست نقطــة محـددة.

الطـريقــة الثـالثــة : نفس الطـريقــة السـابقـة مـع حســاب طـول الظــل حيـن تكـون الشمس على خط الشـرق والغـرب بـدلاً مـن الشمـال والجنـوب.

اعتــراض البيـرونـي:

الشمـي لا تكـون في هـذا الاتجـاه إلا في فتـرة معينـة خـلال العـام.

الطـريقــة الـرابعــة : رســم اتجـاه الظــل وقت الشــروق أو الغــروب, وحســاب الـزاويــة بينــه وبيـن خـط الشـرق والغـرب يمكـن معـرفـة هـذا الأخيـر.

اعتــراض البيـرونـي :

هـذه الطـريقـة تحتــاج لخـلاء منبســط لا عــوائـق فيـه تمنـع رؤيــة الشــمس وهـي على الأفـق.

وعلـى هـذا النهــج يمضـى البيـرونـي في سـرد الطــرق المختلفــة في تعيـين الجهـات الأصليــة, طـريقـة تلـو أخـرى مبينًـا عيـوبهــا أو الصعـوبـات التي تحــول دون دقتهـا حتـى يصـل في النهـايـة إلى عــرض طـريقتـه هـو, وهـي طـريقـة تحتـاج لـرصـدة واحـدة في أي وقت نشــاء, ومنهــا ينتج الاتجـاه المطـلوب بعـد سـلسـلـة مـن الـرســومـات الهنـدسيـة(16).

ولعـلنــا لا نجــاوز الصــواب إن قلنــا : إن اعتــراضــات البــيرونـي إنمــا تمثــل في واقــع الأمـر, الـوضــع الـريـادي في النقـد العلمـي, لـذا يحـق لنـا أن نقــول دون مبـالغــة : إن البيـرونـي هــو أول مـن وضــع أسـس النقـد العلمـي في تــاريخ العلــم الإنســاني على أســاس مـن المـوضـوعيـة المجـردة, كمـا نـراه الآن في منـاقشــات الأبحـاث العلميـة.

ثـالثــا : التجـرد والمـوضـوعيــة العلميـة :

يتمــيز منهــج البيـرونـي أيضًـا, بـدراســة مــا يبحـث فيــه مـن قضـايـا, درايــة مـوضـوعيــة لا شبهـة فيهــا للتعصب أو الميـل والهـوى, فعنـدمــا ألـف كتـابـه الشــهير «تحقـيق مــا للهنـد مـن مقـولـــة» تعــرض لعقـــائـد الهنـدوكـيين دون أن يـوجــه أي طعـن لعقـائـد هـؤلاء القـوم, على الـرغــم مـن أنهــم يخـالفـون شــريعـة الإســلام التي يـديـن بهــا البيـرونـي, ليـس هـذا فحسب بل تجلت مـوضـوعيتـــه إلى أبعـد حـد وهـو يـروي كـلامهــم غــير واجـد حـرجـًـا باعتبــاره مســلمًـا, مـه أن مـا نقلـه عنهـم ينـم عـن الوثنيــة, وفي لـك يقــول : «ففعلتــه غير بــاهت على الخصــم ولا متحــرج مـن حكـايـة كـلامـه, وإن بـايـن الحق واستفظــع سمـاعـه عنــد أهلـه, فهــو اعتقــاده وهـو أبصــر بــه وليس الكتــاب ــ يقصــد كتـابـه هـو ــ كتــاب حجــاج وجـدل, وإنمـا هـو كتـاب حكــايــة, فــأورد كـلام الهنـد على وجهـه, وأضيف إليــه مــا لليـونــانييـن مـن مثلــه لتعـريف المقـاربـة بينهــم .. الخ»(17).

وعلى هـذا النسـق يـورد البيـرونـي قـدرًا كبيـرًا مـن خــرافــات الهنـود القــدامـى دون أن يعتـريــه أدنـى حـرج ممــا أورده مـن أقــوالهـم, ولكـن كـان جـل همـه أن يتعـرف على طبــائـع وعقــائـد أهـل هـذه البـلاد, ولـو كــان البيـرونـي قـد تحــرج أو أحجــم عـن إيـراد مثــل هـذه العقــائـد لفقـد تــاريـخ البشــريـة الشــيء الكثيـر عـن تـاريخ الهنـد القـديــم.

ومـن أمثـلــة مـوضـوعيــته وعـدم تحـرجــه مـن النقـد, بـل ودعــوتـه الغـير إلى نقـده وتصحيـح أخطـائـه, مــا جـاء في قـولـه عـن الــرازي وهــو المشـهـور بالطلب والعـلاج بالعقـاقــير, في كتـابـه «الصيـدنــة» : «فقـد كنت طـالعت لأبى بكــر الـرازي كتـابيـه في الصيـدنــة والإبــدال لـم أفـز منهمـا بالكفـايـة, فــأضيف بعـض مــا فيهــا إلى مــا اجتمــع عنـدي تـذكــرة لنفســي وهـي أقـرب قـريب, ثــم لمـن جـالسنـي بحـب الفضيلــة واقتفــائهـا بشــرط المكـافــآت في تصحيـح مــا أمكــن تصحيحـه مـن زلـة وسهـو أو غفلـة»(18).

رابعًـا : المقـدمــات التمهيـديــة :

تشغــل مقـدمــات المـؤلفـات العلميــة ــ في الـدراســات الحـديثــة ــ جـانًبـا هــامًّــا مـن المـؤلف نفســه, قـد تقصــر أحيـانًـا وقـد تطـول أحيـانًـا أخـرى, لـذا يحـرص المـؤلفـون عـادة على كتـابـة فصــول إضــافيـة كمقــدمـات لمـا يؤلفـونـه في أســلوب تمهيـدي يتـدرج مـن المعـلوم إلى المجهـول, ولعـل البيـرونـي هـو مـن أكثــر العلمــاء العـرب احتفــاء بمقـدمـات كتبــه, وأكثـرهـم عنـايـة بهــا حيث يـرتـاد آفــاق اللغــة تـارة والتـاريخ تـارة أخـرى, ذاكـرًا بعـض النـوادر, ولا ينســى في غمــار ذلـك ألا يثقــل على القــارئ بمـادتـه العلميــة فيـورد بعــض الأبيــات الشــعـريـة في معــرض الاستشــهـاد, وعلى ســبيـل المثـال فـإنـه يستهـل كتـابـه «الصيـدنــة» بعــد مقـدمــة قصـيرة, بخمسـة فصــول قصــار؛ خص الفصـل الأول بــالتعـريف اللغـوى لكلمــة «صيـدنـة» و «صيـدنـاني», ويذكـر أن هـذه الكلمـة عــربت مـن لفظــة «جنــدل» الهنـديــة, ويقـول أن ولـوع الهنـد بالصنـدل يفــوق ولـوعهــم بســائـر أهضــام العطـر وأفـواه الطيب, ويسمــونـه «جنــدل» الهنـديــة, ويقـول أن ولـوع الهنـد بالصنـدل يفــوق ولـوعهــم بســائـر أهضــام العطـر وأفـواه الطيب, ويســـمـونـه «جنــدن» و «جنــدل», وقــد اعتــاد العــرب قلب حـرف (ج) الأعجميــة إلى حــرف الصـاد, وهكـذا أصبحت لفظـة «الجنـدلـة» صيـدنـة. ويطــلق على مـن يمتهـن هــذه المهنــة «صيـدنــانـي», ولـو أن البيـرونـي نفســه يفضــل كلمــة «الصيـدلانــي» على «الصيـدنــانـي» حيث يقــول : «الصيـدنــة أعــرف مـن الصيـدلـة, والصيـدلانـي أعـرف مـن الصيـدنــاني, وهـو المحـترف بجمــع الأدويــة على أحــد صـورهــا واختيــار الأجــود مـن أنـواعهـا مفـردة ومـركبــة على أفضــل التـراكيب الـتي خلدهـا مــبرزو أهــل الطب, وهـذه أولـى مـراتب صنـاعـة الطب إذا كــان الــترقي فيهــا مـن ســفـلاهــا إلى الهليــا .. الخ(19). ولعـل هـذا الفصــل هـو مـن الضــرورة بمكـان, إذ أن الأصــول الأولـى للمصطلحـات العلميـة مـن أخص واجبـات العـالـم المـدقق في العلـم الــذي يـؤلف لــه. ومـن الجـديـر بـــالذكــر أن البـاحثين في اللغـات يولـون هـذا الأمـر عنــايـة خـاصـة ويـؤلفـون مـن أجلــه القــواميس الخـاصـة بمعـرفـة الأصــول الأولى للألفــاظ, لاسيمــا المصطلحــات العلميــة, ومـن أهـم تلك القــواميس, قــامـوس WEBSTERالشهيـر.

وتضمــن الفصــل الثـاني؛ الأدويــة والعقــاقيـر, ويكــر أن كلمــة العقــاقيـر قـد جــاءت مـن اللغـة الســريـانيــة حيث أن الجـرثـومـة والأرومـة تسمـى في السـريـانيــة عقــارًا, وصنف البيــرونـي العقــاقير إلى ثـلاثـة أنـواع, الأدويــة والأغـذيــة والسمــوم, منهــا مــا هـو مفــرد وآخـر مـركب, فقـد يكـون العقـار دواء غـذائيًّــا, أو دواءً سميًّـا, ولا يحسـن تـركيبهـا إلا الطبيب البــارع المجـرب الذي يستطيـع تخفيف وطـأة السـم على الجســم, بمـزجًــا صحيحًـا مـع الــدواء ليحصــل الجســم على الفـائـدة المطلـوبـة(20).

وإذا كــان مـن المعــروف أن التصـنيف Classificationيعــد مـن المقـدمـات الضـروريــة في المـؤلفــات العلميـة التي تختص بالأعيــان كالنبــات والحيـوان والعقـاقيـر, حيث يسـتنـد التصنيف على أســاس مـن الأسـس العلميـة, لـذا فقـد رأى البيـرونـي بثــاقب فكــره أن يصنـف العقـاقيـر في تصنيفيـن, الأول؛ تصنيـف يسـتنـد على طبيعــة العقـار كــالـدواء والغـذاء والسمـوم, والثـانـي؛ تصنيف يستنـد على الكيفيـة؛ كــالعقــار المفـرد أو المـركـب. إذن فالبيــرونـي يســير على منهــج علمـي ســليـم لا يبعـد عمــا هـو مـوجـود الآن في المـراجــع العلميـة الحـديثــة مـن حيث الاستنــاد على الأسـس العلميــة في التصنيف.

ويتطـرق البــيرونـي في الفـصـل الثــالث إلى تعـريف الصيـدنــع فيقــول : «هـي معـرفــة العقــاقــير المفـردة بـأجنـاســهـا وأنـواعهــا وصــورهــا المختـارة لهـا وخلـط المـركبـات مـن الأدويـة بكنـه نســخهـا المـدونــة أو بحسـب مـا يـريـد المـؤمـن المصـلح, فـإن الذي يعلــوهــا في الـرتبــة هـو معـرفـة الأدويـة المفـردة وخـواصهــا, ولـو كـان لمـا حصـل منــه بطـول التجـربــة وتســليط القيــاس عليـه «ثــم يشــير علـى الصيـدلانـي بالتعــرف على مـا كتبــه «ديــوســقـوريـدس» ومـا أضــاف وجـدد «جــالينـوس» ويحث الصيـدلانـي علـى الاطـلاع علـى مـا جمعـه كـل مـن الأطبــاء المحـدثيـن ــ على حـد قـولــه ــ أمثــال يحيـى بن مـاســويـه, ومـاسـرجـويـه, ومحمـد بن زكــريـا ويقصـد بـه الـرازي.

ويشـــترت البــيرونـي في الصيـدلانـي النـاجح أن يجيـد أمـريـن : أحـدهمــا الحـذف, والآخـر التبـديـل, وقـد أوضــح الحـذف بـأنـه نقصــان عقــار واحـد مـن الـدواء المـركب, وهــو يـوصـي الطبيب أن يصف الـدواء الذي ينقصــه عقــار واحـد إذا لـم يتـوفـر لـديـه ذلـك العقــار ويعتمـد في ذلـك على فعــل العقــاقــير الأخــرى الـتي تحتـوى الـدواء, فيقــول : إن عــوز الطبيب إلى عقــار واحـد في دواء مجــرب يجيب أن لا يحــول دون إعطــائـه للمـريض ويحـرمـه الانتفــاع منـه(21).

ويــوضــح البـــيرونـي في هــذا الفصــل؛ التعـريف الـدقيـق للعلــم مـوضـوع الكتـاب, بالإضــافـة إلى الشــروط الـواجب تـوافـرهــا في القــائـم بمهنـة الصيـدلــة, وهـي المهنــة التي ألف مـن أجلهــا الكتـاب, وهـي فصــول تشـكـل جميعهــا مـا يعـرف في أدبيـات العـلم الحـديث بــ «أسس الســلامـة المهنية» التي لا غنـى عنهــا في أي مهنـة مـن المهـن.

وفي الفصـل الـرابـع ذكــر البيـرونـي مـآثـر اللغـة العــربيــة وجمـالهـا وســعتهـا كمـا أســلفت, ويـذم الفـارســـيـة ويعتبـرهــا غيــر صـالحـة لكتــابـة العـلـوم فيقــول : «وســيعـرف مصــداق قـولي مـن التـأمـل كتـاب علـم قـد نقــل إلى الفـارســي كيف ذهـب رونقـه وكســف بالــه واســود وجهـه وزال الانتفـاع بــه, إذ لا تصــلح هـذه اللغـة إلا للأخبــار الكســرويـة والأسمــار الليليـة»(22).

وأغـلب الظـن أن البيـرونـي أراد بكتـابـة هـذا الفصــل أن يقــول لنــا : إنــه وضـع يـده على اللغـة التي تـؤدي المعـاني العلميـة في يســر وسـلاســة, وهـي اللغــة العـربيـة بـرغــم إتقــانــه لغــات عـديــدة, وبـرغـم أصلــه الفـارسـي. إذن فالبيــرونـي قـد اختــار عـن وعــي وإدراك تــأميـن اللغــة الـتي تـؤدي المعــاني العلميــة, فاللغــة العـربيـة كـانت في ذلـك الـوقت لغــة عـالميـة وعلميـة, وهـو عيـن مـا يفعـلـه الآن كثيـر مـن العلمـاء الذيـن لا تتحـدث بـلدانهـم اللغـة الإنجليـزيـة.

وتكــلم في الفصــل الخــامس عن ولعــه بـالعـلوم والمعـرفــة وطـرائق الحصــول عليهــا مـن منـابعهــا الـرئيســية والتثبت منهــا, وامتـدح مـن يجيـد لغـات عـديـدة, ويقــول عـن نفســه أنـه يعــرف العقـاقيـر والأدويـة في أكثــر اللغـات المعـروفــة, فهـو يجيـد العـربيـة والفـارسيـة والسـريانيــة واليـونـانيــة والتـركيـة وعـدد مـن اللغـات الهنـديـة .. ويـورد كـيف قـام بتـأليف كتـابـه الصيـدنـة معتمـدًا في ذلـك على مصـادر عـديـدة, ويخـص منهـا كتـابي الـرازي في الصيـدنـة, إضـافـة إلى مــا اجتمـع لـديـه مـن معـرفـة عـن مشــاهـدة ودراســة, وينهـي الفصـل بشــرح طـريقــة تـرتيب الأدويــة والعقـاقيـر فيقــول : «وقـد نحـوت في الـــترتيب حـروف المعجــم دون حــروف الجمـل لأنهــا بين الجمهــور أشهــر»(23).

وفي هــذا الفصــل يبيــن البـــيرونـي الشــروط الـتي يجب أن تتـوافـر في العـالـم؛ مـن حيث إجــادتــه للغــات عــدة تنـوع مصــادر كتـابـه, القـديمـة منهــا والحـديثـة, ومـا أضـافـه هـو مـن خـلال درسـه وبحثـه.

أمــا في كتـابــه «الجمـاهــر في معـرفـة الجـواهـر» فقــد خصــه البــيرونـي بمقـدمــات أسمـاهــا «تـرويحـات» ولعـله يقصــد بكــل «تـرويجــة» تــرويح القــارئ لفصــول كتـابـه الـزاخــر بالمعطيــات العلميـة, ففـي التـرويحـة الأولـى يذكــر حـواس الإنســان ووقـع كـل حـاســة وكيفيـة عملهــا, وفي التـرويحـة الثـانيـة يشــير إلى تفــوق الإنســان على ســائـر المخـلوقـات, وفي التـرويجــة الثـالثـة يتطـرق إلى بعـض مفـاهيــم على الاجتمـاع المعـززة بمفــاهيـم علــم النفـس, فيـذكــر التجـانس وحسـن المعـاشــرة والألفـة بين مـن تشــابهت أمـزجتهـم, وكمــا تمـاثلت أهـواؤهــم وتقــاربت أنســابهـم .. الخ. وهكــذا يمضـى البيـرونـي في ذكــر هــذه التـرويحــات التي اختتمهـا بمـا يشبـه المقـدمـة الثـانيـة كنــوع من التمهيـد المنطقـي لمـا سـيعتـرض لـه في متن الكتـاب مـن ذكـر الذهب والفضــة وســائـر الجـواهـر ذاكـرًا في كــل تـرويجـاتـه عـددًا مـن الأقــاصـيص والنــوادر مستشــهـداً بآيــات القــرآن الكــريـم تــارة والحـديث الشــريف تـارة أخـرى وأبيـات الشعـر تـارة ثالثــة. وقــد يبـدو أن هــذه التـرويجـات مـا هـي إلا تهـويمــات رجـل بلغ مـن العمـلا عتيًّـا, غيـر أن الحقيقــة أنـه أراد أن يســجـل شــهـادتــه على العصــر كنـاصح للمـلوك, باعتبـاره كـان قـريبًـا مـن بـلاطهـم, منـوهًــا متى يكـون الذهـب نعمــة لقضــاء الحـوائـج ومتى يكـون ابتـلاء لمـن يقتنيـه.

وعنـدمـا استشـعـر البيـرونـي أنـه قـد أطـال في ذكــر هـذه التـرويحـات خـلص إلى القــول : «نـريـد أن نخــوض في تعـديــد الجـواهـر والأعـلاق النفسيـة المـذخــورة في الخـزائـن ونفـرد لهـا مقـالـة تتلـوهـا ثانيـة في أثمـان المثمنــات ومــا يجـانسهــا مـن الفــلزات فكـلاهمــا رضيعـا لبـان في بطـن الأم وفـرســا رهـان في الـزينـة والنفــع»(24).

خـامســاً : المنهـج التجـريبي :

يضــع المـؤرخــون الغـربيــون اســم فـرنسيس بيكـون F.Bacon(1626م) في أبـرز مكــان مـن تــاريخ العــلم؛ لأنـه ــ كمـا يقــول أحـد المـؤرخيـن ـ : «استطــاع تغيير وجــه وأســـلوب العلـم والثقـافـة الأوروبيــة طـوال القــرون التي أعقبتــه, وذلــك حـين ربـط العلـم بالفلسفــة, واعتبـرهمـا يمثــلان خطًّــا واحـدًا, وأحكــم الصـلة بين الفلسفــة والعلـم التجـريبي, فقـد كـان يـري أن مــادة العلـم تـأتي مـن المعـرفـة التجـريبيـة, وتـأتي وسـائل الثقـافـة مـن العـلوم التطبيقيـة»(25).

وكــدأب المـؤرخيـن الغـربييـن دائمًـا على إعــلاء شــأن علمــائهــم وفـلاســفتهـم حتـى وإن كـان هنــاك مـن يفـوقهـم علمًـا ومـوهبــة مـن غيـر بنـي جنسهــم ــ فـوصفـوا بيكــون بسبب اكتشــافـه المنهـج التجريبــي ــ وهـو منهـج العلــم الحـديث ــ بـأنـه فيلســوف العلــم(26), على الـرغــم مـن أن فـريقًــا منهـم قـد أثبت أن العلمـاء العـرب هـم أول مـن تـوصــل إلى اكتشــاف المنهـج التجـريبــي وليس بيكـون؛ منهــم على ســبيل المثــال, وول  ديــورانــــت  W. Durant(27), وســيـديـو Sediolet(28)وجـوستــاف لبـون G. Le Bon(29).. الخ.

وتــرجـع شــهـرة بيكـون إلى كتـابـه «الأورجــانـون الجـديـد» الذي قصــد منــه الثـورة على منطق أرســطـو الذي كـان يسمـى منطقـة «أورجـانون» فبعـد أن نقـد بيكـون منطـق أرســطـو لا يتضمـن نتــائج مقـدمـاتـه شـــيئًا جــديــدًا, أورد أهــم مــا في «الأورجــانـون الجـديـد» وهـو مـا أسمـاه يــ «الأصنــام الأربعــة» أو «الأوهــام الأربعــة».

ويقصــد بيكـون بتلــك الأصنــام أو الأوهـام؛ أنــواع الأخطـاء التي يتعـرض لهــا الإنسـان في فكــره وســلـوكـه, ويـرى أن هـذه الأخطـاء مـوجـودة فينــا بطبيعتنــا(30).

يقــول بيكـون عمــا أسمــاه بـــ «أصنــام القبيلـة أو الكهـف» : «إن الفهــم الإنســاني يستســلم بسهــولـة لمـا يشهــده أو يقـال لـه, والخـرافـات متشــابهـة ومـا يتحـقق منهـا بالصـدفــة قليـل, ومـا لا يتحـقق, ولكـن آثــار مـا يتحـقق. والإنســان يصـدق دائمــاً مـا يفضلـه ويـرفض الصعـاب لانعــدام صــبره على البحث والتثبـت ويـرفض تعمـق الطبيعـة لإيمـانـه بالخـرافـة … الخ»(31).

ومعنــى هــذا أن بيكــون ينعـي على الإنســان إيثــاره السهــولـة وتصـديقــه الخـرافـات وعـدم صبـره على البحث, ومثـل هـذا المعنـى قـد طـرقـه علمـاء كثيـرون, منهـم ــ بالطبــع ــ البيــرونـي الذي فــاق بيكـون بـأشــواط بعيـدة في نبـذه للخـرافـات وإيمـانـه بالعلــم التجـريبــي. ويمكـن الـدلالــة على ســبق البيـرونـي في هـذا المجـال مـن خـلال الشــواهـد التـاليـة, حيث يغنـى الشــاهـد الـواحـد عـن شــواهـد كثيـرة :

1 ــ مـن الخـرافـات التي سـرت مســرى الحقــائق, خـرافــة تقــول أن الأفـاعـي تصـاب بالعمــى إذا أبصــرت الـزمــرد, يقــول البيـرونـي عـن هـذه الخــرافـة «ومنهــا مـا أطبـق ــ أي أجمـع ــ الحــاكـون عليــه مـن سـيلان عيـون الأفــاعي إذا وقــع بصـرهـا على الزمــرد, حتى دون ذلـك كتب الخــواص وانتشــر على الألسـن وجـاء في الشعـر, ومـع إطباقهــم على هـذا فلـم تستقـر التجـربـة على تصـديق ذلـك, فقـد بالغت في امتحـانــه بمـا لا يمكـن أبـلغ مـن تطــويق الأفــاعي بقــلادة زمـرد وتحـريـك خيـط رفيــع أمـامهـم منظـوم منـه مقــدار تسعـة أشهــر في زمــاني الحـر والبـرد, ولـم يبق إلا تكحيلـه بـه فمــا أثـر في عينيـه شيئًا أصـلاً إن لـم يكـن زاده حـدة بصـر»(32).

والتفســير الـوحيـد لهـذه الفقـرة أن البيـرونـي قـد أجـرى تجـربـة فـريــدة في بابهــا شــذت عـن مـألوف التجــارب في عصــره, بـدليــل أنهـا اســتغـرقت تسعـة أشهـر كـاملـة, ولعلنــا لا نجــاوز الصــواب إن قلنـا أنهــا أطـول تجـربـة في تـاريـخ العلـم ختى القـرن التـاسـع عشــر. فقـد حـرص البيـرونـي على مـلاحظـة مـا يطـرأ على تلك التجـربـة مغيـرًا العــوامــل التي قـد تـؤثـر على سـير التجـربـة, ولا سيمــا تـأثــير درجــة الحـرارة في صـورة مطـابقــة إلى حـد بعيـد لمــا يحـدث الآن في التجــارب العلميــة الحـديثــة مـن تغـيير العــوامــل المـؤثـرة على التجــربـة. ومـن الطـريف أن البيـرونـي بعـد أن تحقق مـن عـدم صحـة هـذه الخـرافــة في شخــريـة مـريــرة قـائـلا : «فمــا أثـر في عينيــه شــيئًـا إن لـم يكـن زاده حـدة بصـر».

2 ــ وإذا كــان بيكــون قـد وضــح لــه ــ ضمـن مـا عـرضـه في أوهـامـه الأربعــة ــ أن الأخطــاء التي نقــع فيهــا هـي نتيجــة لتصـديقنـا للنظـريـات الفيـزيقيــة والميتـافيـزيقيـة الإغــريقيـة(33), فــإن البيــرونـي قـد وضـح لـه هـذا الأمـر قبـل بيكـون بعـد قـرون.

يقـول البيـرونـي في سـياق الحـديث عـن المـاس : «زعمــوا أن المـوجـود منــه ــ أي المـاس ــ هـو الذي أخـرجـه ذو القـرنيـن مـن واديـه, وفيـه حيـات يمـوت مـن ينظـر إليهـا, وأنــه قــدم ـــ أي ذو القـرنيـن ــ مـرآة قـد اســتتر حـاملـوهـا خلفهــا, فلمــا رأت الحيـات أنفسهــا مـاتت على المكـان.

ولقــد كــان يـرى بعضهــا بعضًــا فلـم تمـت, والبـدن أولى بالإمـاتـة مـن شبحتـه ــ أي رؤيتــه ــ في المــرآة. وإن كـان نختصًّــا بالإنســان, فلمـاذ مـاتت بـرؤيـة أنفسهــا في المـرآة, وإن كـان النـاس قـد علمـوا مـا عمـلـه ذو القــرنــين فمـا المـانع مـن إعـادة عملــه بعـد, وذكــر جــالينـوس حيـة سمـاهـا ملكـة الحيـات إن مـن رآهـا أو سمــع صفيـرهـا يمـوت مكـانـه, فليت شـعـري مـن أخبر بمكـانهـا أو أخــبر أمـرهــا إذا كـان المطـلع عليهـا ميتًـا»(34).

3 ــ ولأن البيــرونـي لا يـؤمـن إلا بالتجـربـة باعتبـارهــا شــاهـداً عـدلاً لا تـرد لهـا شهــادة في أمـور العـلم الصحيح, فـإنــه يـتردد في تصـديق مـا يقـال, مـا لـم تـؤيـده التجـارب التي يجريهـا بنفســه, وإلا فـلا مجـال لإثباتهـا كحـقيقـة مـن حقـائق العلـم.

وعلى ســبيل المثــال فـإنـه يشـك فيمـا قيــل لــه عن بعـض خـواص «حجـر القمـر» كمـا جـاء في قـولـه : «وقـال قـوم في حجـر القمـر, أنـه الجـزع (مـن أنـواع العقيق) وأن مـا فيــه مـن البيـاض يـزداد في زيـادة القمـر, ولذلـك نسب إليـه, والأمـر فيــه وفي مثلـه مـوكـول إلى التجـربـة»(35).

4 ــ مـن الـواضــح أن البيـرونـي قـد أجهـد نفسـه في تعقب الخـرافـات التي سـرت بين العـامـة وتســربت إلى أفهــام الخـاصـة, فانتقـدهــا وتهكـم على قـائليهــا في لهجـة لا تخـلو مـن السخـريـة.

والحقيقــة أنـه لـو لـك يكـن في «الجمـاهـر» مـن مـزيــة مـن المـزايـا ســوى تعقب الخـرافـات والتعقيب عليهـا بالنقـد والتفنيـد لكفـاه مـن مـزيـة, تبـرىء العقــل العـربي مـن إيثـاره الخـرافـة على العلـم, وتنـزه العـلم العـربي عمـا وصفـه بعــض المسـتشــرقيـن بالبـربـريــة والجهــالـة(36), وفي ذلــك يقــول البيــرونـي «.. وهـذا مـن أشبــاه الخـرافـات الـتي سـأحكـي بعضهـا عـن الفـــرس»(37)وفـي مـوضــع آخــر يقــول : «وليــس لمـن مــال إلى ذلـك شــاهـد غــير العــادة وتخــريــج بعيــد وخيـــالات مـن الأقــاويـل مثــل مــا في كتـاب أويبـاسـيوس إن المســلك ينفــع مـن الهــم والفــزع والحـزن .. الخ(38). وفي مــوضــوع ثــالث يقــول : «وانتقــاد مثــل هــذه البســايس مضيعــة للـزمـان»(39), وفي مــوضــع رابــع يقــول : «وأمــا الخـرافـات المضحكــة التـي ربمــا يتلهـى باسـتمـاعهـا فكثـيرة عنـدهــم جـدًّا … الخ»(40).

ســادسًــا : تحــول التجــارب إلى أرقـام :

مـن الـواضــح ممـا سبق أن البيـرونـي كـان يعتمـد في عملـه على التجــارب, ولأن مـن أخــص ممــيزات العــالـم التجـريبي, أن المعـلومـات والبيـانـات المســتقـاة مـن تلـك التجـارب, لابـد وأن تتحــول إلى صــورة رقميــة بـدلالـة التجــارب الوصفيــة.

ومـن أهــم التجــارب التـي أجـراهــا البيـرونـي, تلك التجــارب التي حـددت بـدقــة متنـاهيــة الأوزان النــوعيــة لعـدد مـن الفــلـزات والأحجــار الكـريمـة التي كـانت سـائـدة في عصـره, والتي مـن أجلهـا أيضًـا اختــراع جهــازاً خـاصًّـا للتمـييز بين المعـادن مـن خـلال قيــاس أوزانهــا النـوعيــة, وقـد أثــارت دقــة البيــرونـي في إيجـاد الأوزان النـوعيــة لتلــك المـواد, انتبـاه جمهــرة مـن المسـتشــرقيـن وخـاصـة المستشـرق ا«لألمـاني فيدمـان E. Wiedemannالذي أظهـر مــدى التطــابق بيـن أوزان البـــيرونـي والأوزان الحـديثــة(41).

أمــا المستشــرق الإيطــالي ألـدومييلــي Aldo Mieliفيقــول في هـذا الشــأن : «وينبغــي أن نقف هنــا قليـلاً عنـد تقـديــرات الثقــل النـوعــي التي عملهــا البيـروي, لأنهــا تكــون إحــدى النتــائج الطيبـــة التي وصــل إليهــا العـرب مـن الطبيعيـات التجـريبيـة, ونســتطيـع أن نقـدر هـذه الـدقـة في طـريقــة البيـرونـي ومهــارتـه في إجــراء التجــارب إذا لاحظنـا أنــه أعتــرف بــأن النســبة بين المـاء الحـار والبــارد هـي 041677˒ ولــم يكـن ممكنًـا قيــاس درجـة الحـرارة بـدقـة حيـنذاك(42).

خـاتمـة :

تلـك كــانت أهــم أسـس التـأليف لـدى البيــرونـي, وهـي أسـس لا تختـلف كثـيراً عمـا هـو مـوجـود الآن في مـراجــع العلـوم الحـديثــة. والـذب نــود أن نقــولــه؛ إن أبــا الـريحــان البيـرونـي هـو واحـد من النخبــة اللامعــة الـتي ازدان بهــا تــاريـخ العلـم الإنســاني العـام, وللأســف الشـديـد أن قـدرًا غيـر قليــل مـن مـؤلفــاتـه البـاقيــة والتي سلمـت مـن الضيــاع, لــم تنــل مــا تســـتحقـه مـن التحقيق العلمـي بــأيـدي بـاحثيـن عـرب, ونعــني هنــا بالتحــقيق العلمـي؛ تحقيق المـؤلف على ضـوء معطيـات وأسس العلــم الحـديث(43), حتــى يمكـن الكشــف عـن مبــلغ ريــادة هــذا العـالـم الفـذ, على الـرغـم مـن مئــات المقـالات والأبحــاث التي تتنـاول جـانبًــا مـن جـوانب علمــه الغـزير, وعلى الـرغــم أيضًـا مـن وجـود عـدد محـدود للغـايــة مـن مـؤلفـات البيرونـي قــام بتحقيقهــا على أســاس علمـي ســليـم نفــر مـن أفضــل البـاحثيـن العـرب نـذكــر منهـم على ســبيل المثــال أحمـد ســعيـد الـدمـرداش والـدكتـور إمـام إبـراهيــم أحمـد.

وربمــا كـانت البـدايــة الـرائـدة في هـذا المجـال تـرجـع للـدكتــور محمـد يحيى الهـاشمــي الـذي يعـد مـن الثقـافـات في علـم المعـادن عنـد البيــرونـي, إذ نـال أظـروحــة الـدكتـوراه مـن جــامعـة بـون بـألمـانيــا سنــة 1935م والتي كـان مـوضـوعهـا «منــابـع كتــاب الأحجــار للبيـرونـي»(44), وللأســف الشـديـد أن هـذه الأطـروحـة لـم تتـرجـم مـن اللغـة الألمـانيـة إلى العـربيـة بعــد.

ولعــل الطـريق الأمثــل لبيـان مـا أســداه البيـرونـي للحضــارة الإنســانيـة؛ هـو العمـل على تحقيق مـؤلفـاتــه التـي ظـلت دون تحقيق, وتـرجمـة الـدراســات التي قـام بهــا المستشــرقـون, لاسـيمـا المستشــرق الألمـاني سخـاو, وكـذلـك جمـع الأبحـاث التي تتنـاول أعمــال البيــرونـي وإصــدارهــا في مجـلـد خـاص.

إنهــا دعــوة للبـاحثيـن الأفــاضــل مـن بنـي العــرب لإدراك قيمـــة وحقيقــة العلــم العـربي, ممثـلاً في شخــص البيـرونـي, فلعلهــا تلقى مجيبًـا. والله مـن وراء القصـد.

***

الهــوامـــش

(1)معجــم الأدبــاء, يـاقـوت الحمـوي,تحقيـق د. مـرجليــوث, ج6 ص 308.

(2)دائــرة المعـارف الإســلاميــة, لفيف مـن المسـتشـرقيـن, تـرجمـة إبـراهيــم زكـي خــورشيـد وآخــريـن, ج9 ص3.

(3)القـانـون المسعـودي للبيـرونـي, د. إمــام إبـراهيــم أحمـد, ص5.

(4)البيـرونـي, د. أحمـد سعيـد الـدمـرداش, ص28.

(5)المصـدر الســابق.

(6)تــاريـخ الآدب العـربي, كـارل بـروكلمـن, تـرجمـة د. رمضـان عبـد التـواب وآخـريـن, ج6 ص197.

(7)علـم الفلـك .. تـاريخـه عنـد العـرب, كـارلـونيلينـو, ص38.

(8)العلـم عنـد العـرب وأثـره في تطـور العلـم العـالمـي, ألـدومييـلي, تـرجمـة  د. عبــد الحليـم النجــار ود. محمـد يـوسـف مـوسـى, ص189.

(9)دائـرة المعــارف الإســلاميــة, مصـدر ســابق, ج9, ص3.

(10)   أبـو الـريحـان البيـرونـي, على احمـد الشحـات, ص99.

(11)   عيــون الأنبــاء في طبقــات الأطبــاء, ابـن أبى أصيبعـة, تحقيق د. نـزار رضــا, ص459.

(12)   تـاريخ الأدب العـربي, مصـدر سـابق, ج9, ص204.

(13)   أبـو الـريحــان البيـرونـي, مصـدر ســابق, ص78.

(14)   البيـرونـي, مصـدر سـابق, ص41.

(15)   اسـتخــراج الأوتـار في الـدائــرة للبيـرونـي, تحقيق د. أحمـد سعيـد الـدمـرداش, ص9.

(16)   أبـو الـريحـان البيـرونـي, مصـدر ســابق, ص109.

(17)   تحقيق مـا للهنـد مـن مقــولـة البيـروني, تحقيق على صفـا, ص15.

(18)   البيـرونـي, مصـدر سـابق ص63.

(19)   المصـدر الســابق, ص63.

(20)   المصـدر السـابق.

(21)   المصـدر السـابق.

(22)   المصـدر السـابق.

(23)   المصـدر السـابق.

(24)   الجمـاهـر في معـرفـة الجـواهـر للبيـرونـي, تحقيق ســالـم الكـرنكــوي, ص31.

(25)   نظـريـة العلـم عنـد فـرنسـيس بيكــون, د. قيس هـادى أحمـد, ص228.

(26)   المصـدر الســابق, ص208.

(27)   قصــة الحضـارة ول ديـورانت, تـرجمـة محمـد بـدران, ج13 ص196.

(28)   تـاريخ العـرب العـام, ل. سيـديـو, ترجمـة عـادل زعيتـر, ص339.

(29)   حضــارة العـرب, جـوستــاف لـوبون, تـرجمـة عـادل زعيـتر, ص534.

(30)   أعــلام الفكــر الإنســاني, نخبــة مـن الأسـاتـذة, ص1181.

(31)   القــرآن والمنهـج العلمـي المعـاصـر, عبـد الحليـم الجنـدى, ص209.

(32)   الجمـاهـر للبـرونـي, مصـدر سـابق, ص167.

(33)   أعـلام الفكـر الإنســاني, مصـدر سـابق, ص1181.

(34)   الجمـاهـر للبيـرونـي, مصـدر سـابق, ص99.

(35)   المصـدر السـابق, ص182.

(36)   تـاريـخ العلـم ودور العلمـاء العـرب في تقـدمـه, د. عبـد الحليـم منتصــر, ص128.

(37)   الجمـاهر للبيـرونـي, مصـدر سـابق, ص44.

(38)   المصـدر الســابق, ص137.

(39)   المصـدر السـابق, ص137.

(40)   المصـدر الســابق ص137.

(41)   العلـم عنـد العـرب وأثـره في تطـور العلـم العـالمـي, مصـدر ســابق, ص194.

(42)   المصـدر الســابق, ص194.

(43)   لمـزيـد مـن التفصيــل حــول كيفيـة تحقيق التـراث العلمـي راجـع؛ الأحمـديـة, العـدد 12, نـوفمـبر 2002م, التعليق على النص في التـراث العلمـي .. الكيفيـة والضـرورة, مصطفـى يعقــوب عبـد النبي, ص 265 ــ 298.

(44)   المـؤتمـر العلمـي العـربي الأول, جـامعــة الــدول العـربيـة, الإسكنـدريـة 1953م, تـراثنــا في المستعـدنات, د. محمـد يحيى الهـاشمـي, ص158.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر