أبحاث

موقف إزاء التراث

العدد 9

في تاريخنا المعاصر، ومن خلال اصطراع المذاهب والأفكار والمعتقدات، برز التراث كمصطلح يدور حوله الصراع وتتخذ إزاءه المواقف سلبا وإيجابا.. وما هذه الصفحات سوى محاولة لإلقاء مزيد من الأضواء على الموضوع.

التراث هو جذور الأمة، ومكونات شخصيتها، ومسارها الحيوي عبر الزمان والمكان… وهو القاعدة والمنطلق وحجر الزاوية.. وهو قدر الأمة ونسيج وجودها الذي لا يمكن لإنسان أن ينكره إلا على مستوى الجدل النظري الذي لا رصيد له في عالم التجربة الحية والواقع المعاشي.

إن أي إنسان لا يستطيع أن يتنكر لماضيه، بيئة ووراثة، ولمكوناته الأولى، على هذين المستويين.. إن هذا يعني أن يعود الإنسان (الفرد) إلى نقطة (الصفر)، ويبدأ من جديد متجاوزا وجوده المادي والروحي والفكري على السواء، رافضاً تركيب عينيه وشكل جمجمته ونشاط أعضائه الوظيفي وتشابك أنسجته وإفراز غدده وبصمات أصابعه.. متجاهلاً ماضيه وذكرياته وإيحاءات الزمن وتأثيراته العنيفة في وجوده.. منكراً أباه وأمه وإخوانه، والمحلة التي نشأت فيها والبلد الذي درج في أحضانه والأمة التي عايشها طفلاً وصبياً وشاباً وكهلاً.. وهذا لا يمكن إلا في حالتين شاذتين –في بداهات علم النفس- انفصام الشخصية أو الجنون!!

إن الإنسان المتعب المريض إذا ما أراد أن يتحقق بالصحة والعافية أحال نفسه إلى طبيب أو مجموعة أطباء، وكشف لهم عن كل مميزاته سلباً وإيجابا.. وبدون هذا الارتداد إلى الماضي لتفحص مكوناته الأساسية والعوامل التي أثرت فيها، لن يتمكن طبيب من أداء مهمته والوصول بالشخص إلى حالة التوازن والنشاط.. وهذا شأن الأمم، وليس تراثها سوى مجموعة تجاربها ومعطياتها ومكونات حياتها الشاملة، وعوامل التأثير والصياغة في هذه الحياة.

ومن ثم يغدو الالتزام العلمي الواعي لهذا التراث، وتفحصه ودراسته، خطوة أساسية لفهم حاضرنا وتحديد الخرائط الدقيقة لمستقبلنا في عالم يسوده صراع (حضاري) شامل خابت فيه أمة قطعت صلاتها ووشائجها بماضيها وتراثها، وطغت على السطح كالزبد الذي يذهب جفاء.. إذ لا يبقى –عبر متطلبات الصراع الحضاري- إلا ما يمكث في الأرض.

إن شخصية أية أمة تجيء وليدة حشد كبير متداخل متشعب من النشاطات والفاعليات والمعطيات والأفكار والممارسات.. وهي خلال مسيرتها عبر الزمان، تحمل معها، أكثر فأكثر، كل ما يتمخض عن علائقها المستمرة بالعالم الذي تنشط فيه، ومن ثم تجيء ملامحها وسماتها وطبيعتها (النفسية) –إذا صح التعبير- نتيجة ولا ريب للبصمات التي يتركها التفاعل المحتوم بين مجموع الناس وبين عناصر الزمان والمكان.. وهي بصمات عتيقة موغلة في التكوين النفسي والأخلاقي والفكري والاجتماعي للأمة.. بحيث أن أي تجاوز أو إغفال أو محاولة للقطع والبتر لا تؤدي إلا إلى تشويه شخصية الأمة، إن لم نقل قتلها وتمزيقها.

إن عاداتنا وتقاليدنا وأعرافنا وسلوكنا اليومي، في أصغر جزئياته وأكبرها على السواء، ما هي في نهاية الأمر إلا حصيلة تراث شامل وبعيد في مجرى الزمن، يضم في حناياه كل العوامل والمؤثرات التي صنعت وصاغت هذه العادات والتقاليد والأعراف.. وليس لأشد الناس (رفضاً) للانتماء لهذا التراث إلا أن يخضع –في حياته وسلوكه الواقعي على الأقل- لمنطق هذا التراث ومسيرته الزمنية، ولأحكامه التي لا ترد.. وهل لإنسان –ما- أن يتملص من ملامح أبويه اللذين وهباه الحياة –بإرادة الله- ومن تأثيرات (البيئة) التي غذته ونمته وفجرت فيه الدم ونسجت خلاياه واحدة واحدة؟!

هذا –بإيجاز تام- ما يخص المستوى العام لمسألة (التراث).. فإذا ما انتقلنا إلى تراثنا نحن و (مواقفنا) المعاصرة إزاء هذا التراث، فإننا سنلحظ –أول ما نلحظ- هذا الالتحام الوثيق في تراثنا بين قيم الإسلام والعروبة، التحاماً أبدياً أقامت جسوره تجربتنا التاريخية، وشدت أواصره ممارساتنا الحضارية ابتداء من عنصري الجغرافية والبيئة وانتهاء بالنظرة الشاملة للكون والحياة والإنسان، مروراً باللغة والأخلاق والذوق والعلاقات الدائمة بالعالم سياسية واجتماعية وحضارية.. والله أعلم حيث يجعل رسالته.

ونحن إذا ما تصفحنا كتاب الله فسوف نلتقي بحشد من الآيات هذا بعضها (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين) (وهذا لسان عربي مبين) (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) (وكذلك أنزلناه حكماً عربياً) (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد) (قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون) (كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون) (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً) (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) (وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا).

ومن ثم يبدو أن أية محاولة ترغب في (التراث) مجموع ممارسات (علمانية) لا علاقة لها بالإسلام، أو حشداً من الخبرات والتجارب الإسلامية لا علاقة لها بالعروبة، تسعى للفصل بين الاثنين وإقامة الحواجز في دروبهما، إنما هي محاولة انفعالية غير علمية، جزئية غير كلية، موقوتة غير دائمة، طارئة غير أصيلة.. ولن تكون نتيجتها سوى الفشل المحتوم أمام المواقف المتعلقة التي تنطلق في تعاملها مع تراثنا من مواقع العلم والشمول والديمومة والأصالة.

ثم إن محاولة خاطئة كهذه تبدو مستحيلة لأنها تطلب الحياة والبقاء في تجربة متكاملة بعد أن تعمل فيها بمشرطها تمزيقاً وتجريحاً واستبعاداً لبعض المكونات الأساسية في التجربة، من أجل استبقاء عناصر أخرى تراها –وفق لنظرتها الموقوتة- ملائمة ومقبولة.. إن هذا لا يمكن أن يكون انتقاء وإعادة صياغة، ولكنه قتل وانتحار!.

وثمة من يتجاوز هذا الموقف (النصفي) لكي يقف متطرفاً في أقصى نقطة، داعياً إلى إلغاء التراث إلغاءا، والبدء من نقطة الصفر، لا لشيء إلا لأن مكونات هذا التراث وعناصره الأساسية (تاريخية وحضارية) تصطدم اصطداماً مريعاً مع (النظرية المادية) التي يتشبث بها هؤلاء في دعوتهم لإلغاء التراث.. وهي نظرية جاء تصميمها النهائي في ظروف أخرى غير ظروفنا، وفي مناخ غير مناخنا، وفي بيئة غير بيئتنا، ومن ثم فإن محاولة تنفيذها في ظروفنا ومناخنا وبيئتنا سوف يعرضها لأكثر من هزة، وسوف يصيب أطروحاتها ومعطياتها بكسور ليس إلى جبرها من سبيل.

وخلال هذا الصراع بين النظرية وبين الواقع الذي يأتي عن تحديداتها الخارجية، وأقيستها الصارمة، خلال ذلك يقف (التراث)، حصيلة ضخمة من التجارب والممارسات بمواجهة هذا القسر، ويقدم أطروحات عميقة الجذور في تربتنا، شديدة التلاؤم مع مناخنا، كثيرة الارتباط ببيئتنا، الأمر الذي يزعزع مواقف هؤلاء ويدفعهم أكثر فأكثر إلى الرفض الكلي والبدء من نقطة الصفر. وهي بداية –كما سبق وأن بينا- غير علمية ولا مأمونة العواقب، ولا تعدو أن تكون –هي الأخرى- قتلاً وانتحاراً حضارياً.. ولكنه الانتحار الذي إن جاء –في المحاولة السالفة- تحت ستار من الانتقاء والاستبعاد، فإنه يجيء –وفق هذا الموقف- فاضحاً مكشوفاً ليس إلى نكرانه من سبيل.

لقد أكدت تجاربنا التاريخية المعاصرة أن الاستعمار، بشتى أشكاله القديمة والجديدة، والصهيونية بمختلف نشاطاتها المحلية والعالمية، يسعيان إلى تشكيك أمتنا، وبخاصة شعبيتها الناشئة بتراثها، ويدعوانها بأكثر من أسلوب، مباشر أو غير مباشر، إلى أن تتخلى عنه، وأن تبدأ مسيرتها من جديد، من مواقع مرسومة لها، ليس في أمدائها أي ظل من تجربة ماضية، أو ممارسة تاريخية، أو تراث أصيل.. والنتيجة معروفة بطبيعة الحال، وإلا لما ألمت مؤسسات الاستعمار والصهيونية هذا الألمان الدائم على دفعنا إلى التخلي عن تراثنا.. النتيجة هي أن انقطع الجذور التي تشدنا إلى أعماق أرضنا وتاريخنا وحضارتنا وشخصيتنا، من أجل أن نغدو –وقد قطعنا هذه الجذور- أخف وزناً في ميدان الصراع الحضاري.. ومن ثم تجيء الإرادات الأثقل وزناً فتسوسنا كما تشاء، وترسم خرائطنا كما تريد، وتسوقنا إلى المصائر التي تريدها هي ولا نريدها نحن، والتي لم نكن لنتخيل يوماً أننا سنذهب إليها لكي ننتحر عند أعتابها!!

وفي مقابل ذلك تسعى إسرائيل، بمؤسساتها وسلوكياتها الفردية والجماعية، إلى تعزيز علائقها الفكرية والمذهبية والأخلاقية بتاريخها وتراثها، من أجل أن تكون بمثابة القاعدة التي تنطلق منها في صراعها الدائم معنا، فكرة وحضارة وأرضاً ووجوداً.

يحدثنا (توينبي) في بحثه الضخم (دراسة في التاريخ) كيف أن الحضارات البشرية تنشأ وتتطور في أعقاب استجابتها لسلسلة من التحديات البيئية أو البشرية (المناسبة) وتغلبها عليها، وكيف أنها، وهي تجابه هذه التحديات، تشحذ كل طاقاتها الحضارية ومكوناتها التاريخية، وعناصر القوة في تراثها من أجل أن تصوغ الإبداع الخاص المناسب لمجابهة التحدي الجديد.. ومن ثم فإن أي انفصال يحدث بين واقع حضارة وما بين جذورها التاريخية ووحدتها العضوية، سيؤول بها حتماً إلى الضعف والسكون والعجز عن استجاشة طاقاتها الخلاقة لمجابهة التحديات المتزايدة، وهكذا تجد نفسها –وقد أصابها الشلل- تنساق نحو التدهور والسقوط.

ويستعرض توينبي في بحثه ذاك عدداً من الحضارات التي سقطت وعفى عليها الزمان، وكيف أنه لم يتبق في عصرنا الراهن هذا سوى سبع حضارات فحسب، ستة منها تعاني النزاع الأخير، بما فيها الإسلامية، وتدور –سرعة وإبطاء- في فلك الحضارة الكبرى (الغربية) التي تهدد سائر الحضارات الأخرى بالابتلاع.

ولن يكون أمامنا –إذن- وفق هذا التحليل الحضاري الذي يطرحه توينبي، إلا أن نشحذ كل طاقاتنا الفكرية والعقيدية والتاريخية، ونستجيش كل عناصر القوة والثقل في تراثنا العريق من أجل تعزيز مواقفنا في الصراع الراهن، وحماية قيمنا الحضارية الأصيلة من التفتت والذوبان.. فإذا ما خرجنا منتصرين في معركتنا الدفاعية هذه كان لنا أن نخطو الخطوة الأخرى في مواجهة العالم الراهن، وهي خطوة تقوم على الهجوم والتقدم، وتعتمد هي الأخرى على نقاط أثقل وارتكاز يمكن للتراث أن يمدنا بالكثير الكثير منها.

ولكن.. هل أن التشبث بالتراث للاستهداء بمعطياته وحمايته من التمزيق أو (الرفض) يقودنا إلى الجمود ويقعدنا عن التقدم والحركة، في (عصر) نحن بأمس الحاجة فيه إلى أن نوسع مدى خطواتنا، ونسارع في السير لكي نلحق أولئك الذين سبقونا؟ والجواب العادل هو: نعم ولا!!

نعم.. إذا ما أقمنا لهذا (التشبث) أن ينقلب إلى نوع من (الاندماج) في الماضي والذوبان فيه.. إلى (هروب) من الحاضر المليء بالتحديات، للارتماء بكسل في أمجاد الماضي وأضوائه الرومانتيكية الهادئة.. إلى رفض للانتماء إلى (العصر) والعودة الراجعة إلى الوراء لكي يحتوينا بسلبياته وإيجابياته على السواء.. إلى موقف غير علمي، لا ينقد ولا ينتقي ولا يرفض، بل يستسلم كلية لنداءات الماضي ويغيب عن العيان.. إن التشبث بالتراث إذا ما جاوز حده المنطقي الهادئ، تحول إلى سلاح خطير نشهره ضد أنفسنا في حلبة الصراع الرهيب مع أعدائنا ومهاجمينا.

ولقد انتبه أعداؤنا أنفسهم إلى هذا الجانب المدمر في الموقف من التراث فأرادوا أن يستخدموه على مستوى الفكر لكي يغيبونا عن الحاضر فتخلو لهم الساحات “وهكذا أصبح الفكر الإسلامي –يقول مالك بن نبي- على أثر الصدمة الثقافية التي اجتاحته، وما تسبب عنها من مركب نقص، ينحاز إلى معسكرين: أحدهما يدعو لتمثل الفنون والعلوم والأشياء الغريبة –حتى اللباس- والآخر يحاول التغلب على مركب النقص بتناول حقنة اعتزاز يعلل بها النفس” ويمضي مالك إلى القول “بأن التيار الثاني وجد منحدره الطبيعي في أدب الفخر والتمجيد الذي نشأ منذ القرن التاسع عشر على أثر ما نشره علماء مستشرقون أمثال (دوزيه) عن الحضارة الإسلامية. ولا يمكننا –على أية حال- أن نجعل بين التيارين فاصلاً قاطعاً، لأن الثاني منهما لا يكون مدرسة مستقلة عن الأول، بل نجده يخامر الفكر الإسلامي على العموم، ويتخلل اتجاهه العام كفكر يبحث عن حقنة اعتزاز للتغلب على المهانة التي أصابته من الثقافة الغربية المنتصرة، كما يبحث المدمن عن حقنة المخدر التي يستطيع بها مؤقتاً إشباع حاجاته المرضية. وهذا لا يجعلنا ننفي لهذا التيار، ولنوع الأدب الذي نتج عنه، كل أثر حسن في مصير المجتمع الإسلامي لأنه كان له نصيب لا يزهد فيه في الحفاظ على شخصيته! ثم يضرب الكاتب الجزائري مثلاً على ذلك فيقول “إننا عندما نتحدث إلى فقير لا يجد ما يسد به الرمق اليوم، عن الثروة الطائلة التي كانت لآبائه وأجداده، إنما نأتيه بنصيب من التسلية عن متاعبه بوسيلة مخدر يعزل فكره مؤقتاً وضميره عن الشعور بها، إننا قطعاً لا نشفيها. فكذلك لا نشفي أمراض مجتمع بذكر أمجاد ماضيه. ولا شك في أن أولئك المعاصرين في فن القصص قد قصوا للأجيال المسلمة في عهد ما بعد الموحدين قصة ألف ليلة وليلة، وتركوا بذلك، أثر كل سمر، بنشوة تخامر مستمعين حتى يناموا فتنغلق أجفانهن على صورة ساحرة لماضي مترف. ولكن سوف تستيقظ هذه الجماهير في الغد فتنفتح أبصارهم من جديد على مشهد الواقع القاسي الذي يحيط بها في وضعها الذي لا تغبط عليه اليوم. فالأدب الذي ينشد (عصور الأنوار) للحضارة الإسلامية يؤدي أولاً هذين الدورين: أنه أتاح في مرحلة معينة الجواب اللائق للتحدي الثقافي وحفظ هكذا مع عوامل أخرى على الشخصية الإسلامية، ولكنه من ناحية أخرى، صب في هذه الشخصية الإعجاب بالشيء الغريب ولم يطبعها بما يطابق عصر الفعالين والميكانيك”.

ولكن، ومن أجل ألا يحتوينا هذا الموقف الخاطئ إزاء التعامل مع التراث، علينا أن تتحول إلى موقع أكثر عملية وايجابية وانفتاحاً، موقع تتحمل فيه مسئولية الرؤية الشاملة لمواضع الخطأ والصواب، والنقد البعيد للحدود الدقيقة الفاصلة بين الأسود والأبيض، والانتقاء الواعي لكل ما من شأنه أن يشعل الأضواء في طريقنا صوب المستقبل، يقدح شرارة الإيمان والثقة في نفوسنا من أجل أن تتحول من حالة (السكون) التي نعانيها إلى حالة (حركية) لا تدع الزمن والتراب وسائر المكونات الحضارية تفلت من بين أيدينا.

وليس (التراث)، كما قد يتصور البعض، مسألة (متخفية)، أو مجالاً للبحث الأكاديمي فحسب، يتم التعامل معها وفق نفس الطرائق التي ينقب فيها عن قبر من قبور الأراميين، أو جدث من أجداث الفراعنة، أو زيارة قبة من قباب العصر المملوكي!! حفر ورسم وتنقيب ودراسة وحماية وصيانة، ولا شيء وراء ذلك!! كما أنه –من جهة أخرى- ليست متعة تزجي للناس في أوقات فراغهم بإحياء تراثهم الشعبي (الفولكلور) رقصاً وعزفاً وغناء وأزياء وتمثيلاً ووسائل استعمال يومية… أو حقلاً (إنتاجيا) يستقطب اهتمام السائحين وإعجابهم الرومانتيكي، ويدر على الدولة دخلاً موفوراً.

إن هذا كله لا يعدو أن يكون جزءاً من طرائق تعاملنا مع التراث، ومساحة فحسب من مساحات هذه العلاقة المتبادلة بين الحاضر والماضي، ذلك أن التراث –بما أنه ليس مجرد آثار عمرانية مادية ورقصات وأغان وأزياء وحاجيات يومية- وإنما هو اللغة والأفكار والعادات والتقاليد والأذواق والآداب والعلوم والفنون والعلاقات الاجتماعية والمواقف النفسية والرؤى الذهنية للكون والعالم والحياة.. وهو الآمال والمطامح والمتاعب والآلام.. إلى آخره… بما أنه هذا كله فإنه يند عن نطاق السكون (المستاتيك) والشيئية لكل ما يلبث أن يتحول إلى حركة (دايناميك) وحياة.. وشتان بين التعامل مع الأشياء المحددة الساكنة و التعامل مع (الحياة) المتحركة المتخصصة التي لا تكف عن التدفق والنمو والتجدد والإبداع.

إننا في الحالة الأولى نبحث ونكتشف ونحمي ونصون ونستمتع، وأما في الحالة الثانية فنتحرك ونتفاعل ونبدع، ونتجدد ونستمر ونمضي قدماً في حوار متناغم هادف بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.

إن كل واحد منا، وكل جماعة من جماعاتنا، تحمل في فكرها وروحها ودمها وأعصابها ووجدانها، رصيداً متفاوتاً من تأثيرات هذه المعطيات التي نسميها (تراثاً) على وجودنا.. وهذه التأثيرات تتجاوز المواقف المحددة التي تتمثل بمشاهدة منارة أو مطالعة مخطوط قديم، أو التأمل في شريط من الخطوط الكوفية، أو الاستماع إلى معزوفة موسيقية شرقية أو حضور حفل فولكلوري بهيج.. تتجاوز جميعها –على أهميتها النسبية- إلى مساحة أكبر وأوسع تقوم على علاقة تبادل تأثيري بنائي شامل بين التراث وبين الإنسان.

إن هذا ينقلنا إلى مسألة أخرى غاية في الأهمية، وخطأ فاضح شاع بين الناس، ذلك هو أن (الإسلام) نفسه لا يعدو أن يكون جزءاً من تراث أمتنا، ومساحة من مساحاته الممتدة في الزمان والمكان.. أو هو –على أحسن الأحوال- تراث هذه الأمة الذي يتحتم علينا حمايته وصيانته تماماً كما نحمي ونصوص مكتبة موقوفة، أو مصحفاً خطياً جميلاً، أو منارة مائلة تهددها الأيام بالسقوط!! أو مقاماً عراقياً أصيلاً كاد يأتي عليه نغم الحجاز!!

ومن ثم فإن أقصى ما يطمح إليه إنسان هو ألا يتجاوز تعاملنا المعاصر مع الإسلام حدود العلاقة بين أمة –ما- وبين تراثها (الماضي): بحثاً وتنقيباً ودراسة وحماية وصيانة وإعجابا وتقييماً.. ومن ثم –كذلك- نقع في الشرك الذي نصبه لنا الفكر الاستعماري بجناحيه (الإمبريالي والصهيوني)، والذي يقودنا –عن علم أو بدون علم- إلى الزاوية الضيقة التي نقطع فيها كل علاقاتنا العضوية، الحيوية، مع الإسلام، ونجمد كل اتصالاتنا الحركية بقيمه ومبادئه، ونوقف سائر التزاماتنا بشعائره وأخلاقياته وآدابه، اللهم إلا إذا كان تنفيذ الأخلاقيات والآداب وأداء الشعائر نفسها تراثاً من التراث!!

ومن أجل ألا ننساق وراء هذا الموقف الخاطئ، أو تلك المؤامرة الخطيرة، في تصور أن الإسلام ومبادئه وقيمه مسائل تراثية، وأن علاقتنا به لا تتجاوز حدود العلاقة بين جماعة من الناس وبين تراثهم العريق، علينا أن ندرك حقيقتين أساسيتين في هذا المجال، أولاهما –وأكثرهما أهمية- هي أن تراث أمتنا ليس الإسلام، أو أن الإسلام ليس تراث أمتنا بالشكل الرياضي الصارم كتطابق مثلثين تناظرت زواياهما.. إنما يجيء التراث نتاج تفاعل، بالسلب والإيجاب، مع الإسلام بالدرجة الأولى، ومع عدد آخر من المبادئ والأديان والمذاهب بالدرجة الثانية، فهو إذن –أي التراث- حشد من المعطيات تتمخض عن طبيعة التجربة التي أحدثتها مواقف آبائنا وأجدادنا من الإسلام.. معطيات شتى فيها الخطأ والصواب، والأسود والأبيض، والمنعرج والمستقيم، والظالم والعادل.

وهذا التنوع يجيء لأن الناس في تعاملهم مع الإسلام ليسوا سواء، والقرآن الكريم نفسه عبر عن هذه الحقيقة النفسية الاجتماعية بقوله (قل كل يعمل على شاكلته)، ومن ثم يبدو بيننا هذا الفارق الواضح بين الإسلام كفكرة وعقيدة ومنهاج وممارسات أخلاقية وشعائرية، وبين تراث أمة أثر هذا الإسلام في سلوكها وعطائها بدرجة أو أخرى تأثيراً متغايراً كماً ونوعاً، كما يبدو بيننا خطأ أولئك الذين تصوروا الإسلام تراثاً أو عكسوا المقولة نفسها فتصوروا التراث إسلاماً!!

وثانية تلك الحقائق أن الإسلام عقيدة ومنهاج صاغتهما يد الله الحكيمة القديرة المريدة العالمة، ومنحتهما الصفة الدائمية التي تتجاوز حدود الزمان والمكان وأطروحاتهما الموقوتة الزائلة المتغيرة النسبية، لكي تكون بمثابة استشراق كامل، مرن، يتسع لكل حالة، ويحتوي على تجربة، بغض النظر عن موقعها في الزمان والمكان.

أما التراث فهو عطاء موقوت، وهو رغم تأثيراته الدائمة الممتدة في مضارب الزمان والمكان، إلا أنه لن يصل –بحال- مرحلة الخلود المطلق، وتجاوز نسبيات الزمان والمكان، كما أنه –باعتباره حصيلة لقاء عملي واقعي بين الإنسان وبين العقيدة- يجيء متأرجحاً بين النقص والكمال، بين الفجاجة والصرامة، والتعصب والبدائية، وبين النضج والمرونة، والانفتاح والتوافق.. وما أكثر ما قاد هذا التأرجح في التعبير كثيراً من الناس إلى أن يجانبوا روح الإسلام وبداهاته وهم يحسبون أنهم إنما يعبرون عن ضرورات هذا الدين.

إن الإسلام، بما أنه الدين القيم الذي ارتضاه الله تعالى لأمتنا لكي تتحرك به إلى العالم كله، يبقى دوماً: عقيدة وشريعة ومنهاج حركة للإنسان في كل زمان ومكان.. وما تفجر عن ذلك اللقاء المتغير المتنوع النسبي، بين آباءنا وأجدادنا وبين دينهم القيم من معطيات، كان هو التراث الذي ضم في حناياه تجاربهم المضنية وجهودهم الخلاقة، وإبداعهم الدائب، ونتاجهم الدائم، كان بمثابة المؤشر لما اعتمل في نفوسهم من مشاعر وعواطف وأحاسيس، ولما انتاب أذهانهم من رؤى وأحلام وأفكار وتصورات.. وهي جميعها –من ألفها إلى يائها- مسائل تحتمل الخطأ والصواب، والنور والظلمة، والحق والباطل.

وفرق وأي فرق بين هذا الذي يصنعه الإنسان الذي حدثنا عنه رسولنا صلى الله عليه وسلم بقوله: إن كل بني آدم خطاء وإن خير الخطائين التوابون، وبين تلك العقيدة التي جاءت من (صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه) والذي (لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء).

وتبقى بعد هذا وذاك مسألة غدا الحديث عنها من البداهات، ولكنها بالنسبة لأمة تريد أن تحدد موقفاً ايجابياً من تراثها، تغدو أكثر من ملحة، تلك هي ضرورة وضع الخطط العلمية المحددة، والبرامج العلمية المدروسة، وبعث روح النشاط الصابر الدءوب، للعمل المنسق في ميادين الكشف والبحث والتنقيب، فيما أبقاه لنا الزمن من تراثنا: وثائق ومخطوطات وعمائر وخطوط ونقوش ومسكوكات..

صحيح أن جهوداً ضخمة قد بذلت في هذه الميادين طيلة القرنين الأخيرين، في الغرب والشرق على السواء، إلا أم ما تم إنجازه لا يزال أقل مما لم ينجز بعد، وحتى هذا الذي كشف وحقق ودرس فإنه بحاجة إلى إعادة تدريس وتحقيق على ضوء الحقائق الجديدة المتمخضة دوماً، والمناهج العلمية التي تزداد يوماً بعد يوم دقة وموضوعية.

إن عقدة الذنب، بسبب ضياع معظم تراثنا، والبدء بدرسه وتحقيقه على يد مؤرخين مستشرقين غرباء عنا، يجب أن تدفعنا –في حدودها المعقولة- إلى مضاعفة الجهود وبذل كل ما يمكن بذله للكشف عن الأسس الغائرة في تراثنا، مما يعد ضرورة لازمة لدراسة هذا التراث وتحليله وتخمين أبعاده الحقيقية.

إن اليد التي تتحرك بإخلاص لتحقيق مخطوط وبعثه من الظلمات.. والعين التي تدقق بحرص لقراءة لوحة خطية قبل أن يطمس عليها، والمعاول التي تنزلق برفق في أعماق الأرض للكشف عن أسس عمارة قبل أن تستحيل تراباً من التراب ألهب الأيدي والأعين والمعاول التي ندين لها بالكثير والكثير، ونحن نقرأ هذه الحقائق المحزنة عن تراثنا الذي ضاع “إن تاريخنا –يقول جلال كشك- قد تدمر على يد الغزاة، وبفعل عناصر التخلف والانهيار… إن ذلك التراث الذي ألقاه التتار في نهر دجلة لا شك أن مداده الأسود قد حمل معه إلى الخليج جانباً من المعرفة، وجانباً من تراثنا ضاع وإلى الأبد.. وتلك المكتبات التي أحرقها الغزو الصليبي لمدن الشام في طرابلس والبصرة والقدس وغزة وعسقلان، حتى قدر بعض المؤرخين أن الصليبيين أحرقوا في مدينة طرابلس وحدها ثلاثة ملايين مجلد”… لا شك أن نسبة خطيرة منها تضمنت من حقائق تراثنا ما يمكننا القول بأنه قد ضاع وإلى الأبد.. وفي الأندلس، أحرق في يوم واحد في ميدان غرناطة ما يقدره بعض المؤرخين بمليون كتاب. ولم يقتصر التدمير على الغزو الخارجي، بل إن عوامل الانهيار كما قلنا قد سلطت الأحفاد على تراث الأسلاف العظام.. ففي إحدى الفتن الداخلية نهب الثائرون مكتبة القاهرة، فمزقوا الكتب واستخدموا جلودها نعالاً لهم، وألقوا عدداً منها في النيل، وحمل بعضها إلى شتى الأقطار، وما بقي منها سفت عليه الرياح وتراكمت عليه الرمال، فتحول إلى تلال عرفت –كما يقول د. مصطفى السباعي- باسم تلال الكتب. فنحن لا نذهب بعيداً إن قلنا إنه قد ضاع وسط هذه النكبات والمحن الكثير من حقائق حضارتنا ومنجزاتها.. إنها –كما وصفها فردريك انكلر في كتابه (جدليات الطبيعة)- “مبعثرة وضاع معظمها”.. ويمضي كشك إلى القول “… ثم كانت المرحلة الثانية مرحلة نهب التراث الإسلامي، ونقله إلى مكتبات أوربا. إن النسخة الأصلية للعديد من كتب تراثنا الإسلامية توجد الآن في مكتبات الفاتيكان والأديرة، أو المتاحف والمكتبات العامة في أوربا وأمريكا.. في ليل الانهيار والتخلف انقطعت الصلة بين الأسلاف العظام والحفدة العجزة، فجهل هؤلاء قيمة ما تركه لهم أسلافهم.. ونظروا إلى مخطوطات ابن سيناء وابن رشد ككتب للسحر والهرطقة، أو قل أنهم عجزوا عن الانتفاع بها، فتركت نهباً مشاعاً لرسل الغرب.. ولي إلا أخيراً، وعندما استقر الأمر للحضارة الغربية وتأكد انتصارها على العالم الإسلامي، عندئذ بدأ المستشرقون يعيدون نشر كتب تراثنا ويقومون بتحقيقها، وأصبحنا تتعرف على تاريخ أسلافنا من كتابات هؤلاء المستشرقين، على تعصبهم وعجزهم عن فهم روح حضارتنا….”.

ويحدثنا محمد عبد الله عنه عن بعض ما شهدته الأندلس من تدمير لتراثنا فيقول: “إنه لم تمض سوى أعوام قلائل على سقوط غرناطة (1493م) حتى ارتكبت أسبانيا النصرانية جريمتها الشائنة بتدمير تراث التفكير الإسلامي. ففي سنة 1499 أمر الكردينال جمنيس –مطران طليطلة- بجمع جميع الكتب والآثار العربية من سكان غرناطة وأرباضها، وتنظيمها أكداس في ميدان باب الرملة، أعظم ساحات المدينة، ومنها كثير من المصاحف البديعة الزخرف وآلاف مؤلفة من كتب الآداب والعلوم، واحتفل بإحراقها (بعمل من أعمال الإيمان) ولم يستثن منها سوى ثلثمائة من كتب الطب وهبت لجامعة الكالا (القلعة). وهلك في تلك المحنة معظم تراث الأندلس الفكري. وقد اختلف المؤرخون في تقدير عدد المخطوطات العربية التي ذهبت فريسة هذه الجريمة الشائنة، فقدرها بعضهم بأكثر من مليون، ولكن كوندي قدرها بثمانين ألفاً، وتقديره أرجح وأقرب إلى المعقول، لأن المكتبة الأموية الشهيرة في قرطبة لم تزد –طبقاً لأصح الروايات- على ستمائة ألف مجلد وقد بددت هذه المجموعة الكبيرة أيام ثورات البربر، ولم يجتمع في غرناطة مجموعة بهذه الضخامة.. وهكذا كانت وهي عاصمة الإسلام في الأندلس تحتوي أنفس الآثار العربية الأندلسية”.

ويمضي عنان إلى القول “بأن المجموعة العربية في الإسكوريال –قريباً من مدريد- بلغت في أوائل القرن السابع عشر نحو عشرة آلاف مجلد، ولبثت هذه الآلاف العشرة من المخطوطات الأندلسية والمغربية في الإسكوريال زهاء نصف قرن، وكانت أغنى وأنفس مجموعة من نوعها في أسبانيا. ولكن محنة جديدة أصابت هذه البقية الباقية من تراث الأندلس الفكري. ففي سنة 1671 شبت النار في الإسكوريال والتهمت معظم هذا الكنز الفريد، ولم ينقذ منه أكثر من ألفين هي التي تثوى اليوم في أقبية الإسكوريال”.

التعويض: ذلك هو الشعار الذي يجب أن يتشبث به مثقفونا ومؤسساتنا في ميادين إحياء التراث وحمايته وتحقيقه ونشره.. ولن يكون ذلك بالعمل الفردي وحده، ولكن بتضافر الجهود وتكامل الطاقات والامكانات والخبرات.. إنه عصر التخصص والإحصاء والبرمجة والتخطيط والعقل الالكتروني.. وقد آن لنا أن نفيد من معطياته في نشاطاتنا العلمية ومناهج بحثنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر