أعلام وأفكار

المرأة والحضارة .. نحو تأسيس معرفة نسوية إسلامية

العدد 135

* نشرة متخصصة في دراسات المرأة المسلمة، أصدرتها جمعية دراسات المرأة والحضارة بالقاهرة.

* صدر منها ثلاثة أعداد: الأول في (1420هـ – 2000م)، والثاني في (ربيع الأول 1422هـ – يونيه2001م)،

والثالث في (شعبان 1423- أكتوبر 2002م)، ولم تتابع الصدور منذ ذلك الحين.

* مديرها المسؤول: أ.د منى أبو الفضل، ورئيس تحريرها: د. أماني صالح، يعاونها هيئة تحريرية مكونة من عدد من الباحثات، معظمهن ينتمي إلى حقل العلوم السياسية.

* اشتملت الدورية على ثمانية أبواب في كل عدد، وبعض هذه الأبواب كان ثابتًا مثل: الحلقة النقاشية، المفاهيم، عروض الكتب، تقرير المرأة المسلمة، الخواطر. ومنذ العدد الثاني شرعت الدورية في تدشين ملف العدد، وهو يضم جميع المقالات التي تدور حول موضوع العدد.

ظروف النشأة

بحلول تسعينيات القرن الفائت لوحظ أن هناك تيارًا نسويًا، أخذت ملامحه في التشكل والتبلور، وشرع في الحلول تدريجيًا محل تيار نسوي سابق عبّر عن مرحلة تاريخية انقضت، كانت لها رؤاها وإشكالاتها وأدوات عملها المختلفة. وسرعان ما اكتسب التيار الجديد زخمًا في مرحلة ما بعد “بكين”، وصارت له مؤسساته وتنظيماته ومنابره الخاصة، وعلى رأسها طائفة من الدوريات النسوية(1)، التي تشكل بحق جيلاً جديدًا من الصحافة النسائية، إذْ استهدفت للمرة الأولى معالجة قضايا المرأة من منظورات معرفية؛ فأسهمت بذلك في التأصيل لحقل معرفي جديد على الساحة العربية، هو حقل دراسات المرأة.

في ظل تلك البيئة الجديدة، وفي لحظة تاريخية تُصادف عبورًا من ألفية ميلادية إلى أخرى؛ صدرت (المرأة والحضارة) تعبيرًا عن الحاجة الملحة إلى تأسيس معرفة نسوية تستقي من الرافد الإسلامي، وتعمل على تفكيك عرى التبعية بين حركة النساء في العالم الإسلامي والاتجاهات النسوية الأسبق حركة وتقدمًا في الغرب”(2)، معرفة تؤكد الهوية ولا تنسلخ عنها، وتعيد صياغة الأولويات وبرامج العمل النسوي وفق احتياجات المجتمع الإسلامي، وليس حسب الأجندات العولمية المطروحة.

معالم دورية مغايرة

يقودنا التصفح الأوليّ لبعض الدوريات النسوية من جهة، والمرأة والحضارة من جهة أخرى إلى أننا أمام دورية مغايرة عما عداها، من حيث المنطلقات والمرجعية، والأهداف المرجوة، وطبيعة الموضوعات المطروحة، أو المنظور الذي توظفه.

وتُعبر الدكتورة منى أبو الفضل عن طبيعة الدورية والمرجعية التي تصدر عنها بقولها: إن (المرأة والحضارة) تقع ضمن مدرسة فكرية تسعى للتأصيل لحقل دراسات المرأة من منظور حضاري، وأن مرجعيتها مرجعية توحيدية، لها محدداتها ومعاييرها التي تميزها عن المنظومة المادية المعرفية السائدة. ومن شأن التوحيد – بوصفه مفهومًا يرتبط بالذات الإلهية المفارقة التي خلقت البشر ذكورًا وإناثًا – أن يجعل من المرأة جزءًا أصيلاً من نسيج الأمة، بما يجنبنا مغبة الانجراف بالمرأة في مساقات عزلها، والافتعال لأدوارها على ما هو الحال عليه في الدراسات النسوية(3).

وتحمل الدورية مشروعًا فكريًا له وجهتان: وجهة أولى نحو الماضي، في مسعى لفرز ونقد التراث، ومتابعة كيفية تشكل المفاهيم والأفكار، والأنساق الاجتماعية التي حددت وضعية المرأة على النحو الذي آلت إليه. أما الوجهة الثانية؛ فباتجاه الحاضر الذي تهيمن خلاله مادية وضعية غربية، نافية للقيم والفضاءات الروحية للإنسان.

ألقى كلٌ من المشروع الفكري والمنظور بظلاله على موضوعات الدورية؛ إذ يستلفت النظر تخلي الدورية عن متابعة قضايا تقع في صلب اهتمام الدوريات النسوية المناظرة، مثل: الاهتمام بتاريخ الحركات النسائية، أو متابعة القضايا الحقوقية من منظورات قانونية (قوانين الأحوال الشخصية)، أو رصد قضايا إدماج المرأة في الحياة العامة (التمكين)، أو تقديم ترجمات لنصوص تعبر عن المقولات الرئيسة في الخطاب النسوي الغربي وتمثل تياراته المختلفة، وذلك لصالح الانشغال “بموضوعات حضارية كبرى، هذه الموضوعات – والحديث لأبو الفضل – بالإضافة إلى كونها غير مطروقة عادة (مثل البحث حول الإنسان والطبيعة الإنسانية)، فقد كانت تقع في صلب تطوير المنظور الحضاري، وكان يتم توجيهها بحيث تصب في تحسين الفهم والرؤية لمسائل الأمة والأسرة، والنوع (الجندر) وطبيعة المرأة، وبيان أثر الاختلافات الثقافية على بلورة منظورات مختلفة حول المرأة”(4). هكذا كان انشغال الدورية مُنصبًّا حول القضايا النظرية والكلية، ومنصرفا في الوقت ذاته عن متابعة القضايا الميدانية والتطبيقية الجزئية. ومن خلال متابعة أعداد الدورية الثلاثة؛ يمكننا أن ندرج كافة موضوعاتها في ثلاث قضايا كبرى، هي: نقد المعرفة النسوية والإسهام في صياغة منظور نسوي إسلامي، وتقديم قراءة جديدة لسيرة المرأة المسلمة وتاريخها، وأخيرًا إيضاح معالم الخطاب القرآني المتعلق بالمرأة.

نحو تأسيس منظور إسلامي للمعرفة النسوية

انصب تركيز (المرأة والحضارة) في عددها الأول حول نقد المعرفة النسوية الغربية، والسعي إلى بلورة منظور نسوي إسلامي بديل، وإن كنا نلحظ أن الاهتمام بتأسيس هذا المنظور لم يتواصل في العددين التاليين، فلم تُراكم الدورية على هذا الصعيد المعرفي مثلما راكمت على صعيديْ مراجعة تاريخ المرأة المسلمة، وتقديم قراءة جديدة للخطاب القرآني المتعلق بالمرأة. ورغم ذلك فإنها – من خلال هذه المحاولة الأولية – قد أسهمت في التأسيس النظري لمعرفة نسوية إسلامية، وأتاحت للقارئ التعرف على بعض الاقترابات والمفاهيم المُعينة له على متابعة القراءة في هذا الصعيد، وأفلحت كذلك في تقديم نقد منهجي لأطروحات النظرية النسوية.

أما الإسهام الأبرز في صياغة معرفة نسوية إسلامية؛ فقد أتت به الدكتورة أماني صالح، في دراستها المعنونة: “نحو منظور إسلامي للمعرفة النسوية”، وقد غلب عليها الصفة التنظيرية، وبدا فيها الافتراق الحاسم والواضح للدورية عن كل من المنظورات النسوية ذات التوجه العلماني، وعن المنظورات النسوية الإسلامية التقليدية، التي لم تُعنَ من الأساس بصياغة أطر نظرية معرفية، وأفرغت وسعها في الإسناد الشرعي للمسائل المطروحة المتعلقة بالمرأة.

ناقشت الدكتورة أماني صالح في دراستها دواعي الحاجة إلى توليد معرفة نسوية إسلامية، وأرجعتها إلى سببين، أولهما: ما يرتبط بالمعرفة النسوية الغربية التي تثير الرفض والاغتراب لدى النسويات غير الغربيات، وذلك لمخالفتها رؤاهن الأنطولوجية، ونزوعها نحو تهديم البِنى الاجتماعية والمعرفية القائمة، عوضًا عن محاولة إصلاحها. وثانيهما: ما يتعلق بخصوصية واقع المرأة المسلمة ومشكلاتها، وما تستهدفه المعرفة النسوية من رفع الظلم الذي يُمارس بحق النساء، وهو الأمر الذي يقتضي – بالنسبة إليها – خصوصية المعرفة النسوية الإسلامية، لكونِ هذا الظلم في المجتمعات الإسلامية ينبُع من المنظومة الثقافية الرسمية والشعبية، ومن منظومة العلوم المرتبطة بالدين وتفسيراته، ومن التنظيمات الاجتماعية التي تزعم تمثيل الدين. وخلصت من ذلك إلى “إن حركة إنصاف المرأة لا يمكن أن تتم إلا بتوافر الشق المعرفي، الذي يهدف وبوضوح ودون التباس إلى تفكيك التاريخي البشري عن النصوص المقدسة المجردة، وتطهير الأصول والمصادر الإسلامية من قرآن وسنة مما ألصق بهما من عناصر بشرية تأويلية، وبناءات فكرية مصدرها الحقيقي هو الأعراف والآراء والانحيازات البشرية”(5).

ومن مناقشة دواعي المعرفة النسوية إلى البحث في ملامحها وماهيتها؛ تعرض الدكتورة أماني صالح للخصائص المميزة للمعرفة النسوية الإسلامية، ويأتي في مقدمتها النظر إلى الوحي باعتباره مصدرًا أصليًا للمعرفة إلى جوار المصادر المادية والتاريخية، واعتباره الإطار المرجعي الذي تستند إليه المعرفة، وتحاجج الدكتورة أماني بأن وجود هذا الإطار المرجعي لا يعدٌ نقيصة – حسبما تذهب بعض التيارات النسوية التي ترى في أي مرجعية حاكمة انحيازًا ذكوريا كامنا – وإنما هو يؤدي وظيفة معرفية بالغة الأهمية حين يُحاكم المنتج المعرفي التاريخي، الذي نشأ حول الدين بمقتضى اتساقه مع قيم الدين العليا الحاكمة وأهمها العدل. ومن أهم ما يسِمُ المعرفة النسوية كذلك أنها رغم كونها معرفة نقدية فإنها تهدف إلى الإصلاح وليس الهدم، “إلى إزالة مواطن العلة في الجسد الكُلّي للمجتمع والعلم، وليس إلى قتل ذلك الجسد”. ومن هذا المنظور الإصلاحي؛ فإن المعرفة النسوية ليست نطاقًا مستقلاً انعزاليًا وعنصريًا للمعرفة، بقدر ما هي “اقتراب مستقل للإصلاح الفكري والثقافي والاجتماعي، ولكنه يهدف في النهاية إلى التأكيد على وحدة واندماج المجتمع والثقافة، لا انفصامهما على أسس عنصرية أو نوعية”(6). وبهذا المعنى فهي تقع تحت الضوابط الموضوعية والمنهجية الإسلامية، وهو ما يكفل عدم شططها، واستمرارها في قلب المنظومة الإسلامية بحسبانها جزءًا لا يتجزأ من ثقافة الاجتهاد والتجديد في الفكر والثقافة الإسلامية بفروعها المختلفة.

وانطلاقًا من كون (المرأة والحضارة) مُعبرة عن فكر مدرسة وليست مجرد دورية؛ فقد كان هناك حرص أن يتضمن كل عدد حلقة نقاشية، تُعبر عن التوجه العام له، بغرض إعداد الكوادر البحثية لحقل دراسات المرأة من داخل المجتمع الإسلامي. وتتميز نقاشات (المرأة والحضارة) بطابع يحمل محاولة نقل الخبرات العلمية إلى الباحثات الشابات في الجمعية، وتدريبهن على ممارسة التفكير النقدي، وطرح الرؤى المختلفة حول القضايا النسوية في محاولة لممارسة “الشورى البحثية”، وفق تعبير الدكتورة منى أبو الفضل.

وفي هذا السياق دارت الحلقة النسوية للعدد الأول حول “البحث النسوي: الأدوات والاقترابات ونظرية المعرفة”، وقد تدارس الفريق البحثي خلالها أحد النصوص النسوية المهمة(7). ومع فتح الباب للنقاش انقسمت التوجهات بين فريق يرى إمكانية الاستفادة من الأدوات والاقترابات المنهاجية التي يتيحها النص، وفريق آخر يتبنى نقد النص. وفي هذا السياق قدمت د. أماني والباحثات نقدًا منهجيًا رصينًا للنظرية النسوية. وقد أنضج النقاش عددًا من التساؤلات تتعلق بإمكانيات تأسيس ملامح نظرية للمعرفة الإسلامية، مثل: هل هناك حاجة إلى تأسيس رؤية أو طرح معرفي نسوي؟ وما هي طبيعته؟ وهل يعبر عن حاجة نسوية إسلامية مُلِحّة أم أنه مجرد تقديم البديل للطرح الغربي؟ وما هو مدخل بناء المعرفة النسوية الإسلامية؟ وما هي الغايات التي تطمح إليها؟ وقد اكتفت الباحثات ببث التساؤلات ولم يمضين إلى ما هو أبعد من ذلك في الأعداد التالية، التي اتخذت منحى مغايرا لهذا المنحى حيث التركيز على القضايا ذات الارتباط الأوثق بتفاعلات البيئة الحضارية الإسلامية، وفي هذا السياق يأتي الاهتمام بسيرة المرأة المسلمة وتاريخها.

سيرة المرأة في التاريخ الإسلامي: الرابطة العضوية بين المرأة والأمة

يعد البحث في تاريخ المرأة المسلمة القضية المركزية التي شغلت اهتمام المرأة والحضارة؛ إذ ظل سؤال البحث عن الموقع والدور الذي لعبته المرأة خلال التاريخ الإسلامي قائمًا ومُثارًا في أعداد الدورية الثلاثة، وإن تعددت صيغ الطرح ومستوياته ومداخله. وتعبيرًا عن هذا الاهتمام تم تخصيص العدد الثاني لتقديم قراءة جديدة لسيرة المرأة المسلمة، وبدورها بيّنت افتتاحية العدد دواعي البحث في تاريخ المرأة المسلمة بقولها: “ليس البحث في موقع المرأة في التاريخ الإسلامي بالعمل التحسيني، ولا هو نوع من ممارسة الترف الفكري، بل هو في قلب المشروع الإصلاحي الذي يعمد إلى تفعيل قيم الحق الشاملة وإنصاف المرأة؛ ففي بيئة ترتكز على نسق راسخ من المفاهيم والأفكار الموروثة التي تستتر برداء الدين والدين منها براء، يصبح فهم وتفكيك تلك البنى وإبراز عناصر تكونها التاريخي هو البداية الحقيقية للتجديد والإصلاح والإنصاف”(8).

انطلقت (المرأة والحضارة) – في مقارباتها لسيرة المرأة المسلمة وتاريخها – من جملة من المحددات والمرتكزات تميزها عن غيرها من الأطروحات النسوية ذات التوجه العلماني، التي تشترك معها في الاهتمام بتاريخ المرأة المسلمة، وقد أمكننا استخلاص هذه المرتكزات من خلال تتبع أعدادها، وهي على النحو التالي:

أولاً: وجود وشيجة ورابطة عضوية بين المرأة والأمة، على نحو يجعل حكاية المرأة هي ذاتها حكاية الأمة.. وحكاية الأمة جملة من الحكايات التي للمرأة فيها باع، وذلك وفق التعبير الموفق للدكتورة منى أبو الفضل.

ثانيًا: أنه لا سبيل لإصلاح أوضاع المرأة بمعزل عن تصحيح مسار الأمة، وانطلاقا من هذا لا تصبح قضية مراجعة تاريخ المرأة هدفًا في حد ذاته، وإنما هي مدخل هام من آليات التحفيز والتفعيل الحضاري، الذي يستهدف الإصلاح الشامل.

ثالثًا: لم يستبطن المؤرخ المسلم قط انحيازًا ذكوريًا يدفعه لتهميش دور المرأة في أثناء عملية التدوين التاريخي، وإنما أتى التهميش لدور المرأة العام من جانب السلطات الثلاث (سلطة الدولة، السلطة الشعبية غير الرسمية، السلطة الدينية وفقهائها).

رابعًا: لعبت السلطة السياسية الدور الأكبر في تهميش النساء، وفي هذا السياق لوحظ أنه “كلما كانت السلطات المختلفة أكثر اقترابًا والتصاقًا بالأحكام والمثل الإسلامية؛ كلما سمت مكانة المرأة.. وكلما ازداد تباعد السلطة عن المثل الإسلامية الحقة؛ كلما تدنت مكانة المرأة(9).

خامسًا: رغم التهميش والتحجيم فإن هناك غنىً وتنوعًا في الأدوار التي لعبتها المرأة خلال التاريخ؛ فهناك الفقيهات والمتصوفات، والواقفات والشاعرات، والناشطات السياسيات، بما يعكس فاعلية المرأة في البيئة الحضارية، وحضورها في كافة المواقع الاجتماعية.

استنادًا إلى تلك الأسس والمنطلقات؛ تناولت (المرأة والحضارة) في دراساتها جملة من الموضوعات، تحدثت فيها عن نساء من فئات ومواقع مختلفة؛ ففي العدد الأول، بحثت زينب أبو المجد في دراستها حول أوقاف النساء في حركة الإسهام العمراني للمرأة من خلال مؤسسة الوقف في العصور الإسلامية الوسيطة. وقد تتابع البحث في العدد الثاني حول عدد من الأدوار الأخرى التي لعبتها النساء؛ فبحثت كل من منال يحيى، وأماني صالح في الدور السياسي للمرأة، إذْ تطرقت منال يحيى إلى أثر بيعة النساء للنبي صلى الله عليه وسلم في تأسيس دور سياسي للمرأة. هذا في حين واصلت أماني صالح البحث في الدور السياسي للنساء، وذلك من خلال دراستها للنساء “الخارجات” في نهاية عهد عليّ – رضي الله عنه – وملوك بني أمية، كاشفة عن نمط انتقال السلطة من الخلفاء الراشدين إلى ملوك بني أمية، وأثر ذلك على تدهور المشاركة السياسية للمرأة. أما زينب أبو المجد؛ فقد انتقلت من الدور السياسي إلى الدور العلمي والثقافي، إذْ درست طبقات الفقيهات، وتطرقت لقضايا مهمة مثل: وظائف المرأة الفقيهة والدور السياسي الذي كانت تلعبه، والعلاقة بين المرأة والإفتاء، ولماذا غابت المرأة عن مؤسسة الفتوى. أما عزة جلال؛ فتنقلنا إلى عالم الفضاءات الروحية، عبر دراستها سيَرَ المتصوفات في التاريخ الإسلامي، فقد حاولت من خلالها تفسير ظاهرة غياب مدارس أو طرق أسستها متصوفات نساء، وذلك على الرغم من المكانة العالية التي حازتها بعض النساء، وتطرقت كذلك لجانب مهم، ألا وهو الحياة الخاصة للمتصوفات، وكيف كن يمارسن أدوارهن الزوجية والأمومية رغم تصوفهن. أما أسماء عبد الرازق، فقد تجاوزت نطاق دراسة المرأة من خلال الأدبيات الرسمية، وبحثت في سيرة المرأة من خلال الأساطير والسير الشعبية، باعتبارها مصادر مكملة للمصادر الرسمية، وباجتماعهما معًا يمكن إعطاء صورة متكاملة عن المرأة. هذا في حين اعتمدت هند مصطفى على تحليل الحكايات الواردة في كتاب (الخطط المقريزية)، وذلك في دراستها حول حكايات العرب في مصر عن المرأة، وقد جاء تفسيرها لهذه الحكايات انطلاقا من ثلاثة مفاهيم، هي: الرحم، والشرع، والتاريخ. أما أمينة محمود، فتناولت في دراستها ذِكر الرجل في شعر النساء العربيات. بينما اختتمت طيبة شريف بإلقاء الضوء على السيرة الفردية للمرأة المسلمة، من خلال تركيزها على نموذج سيرة السيدة زينب بنت الزهراء.

وبعد ذلك جاءت الحلقة النقاشية، لتطرح بعض القضايا النظرية والمنهاجية المرتبطة بموضوع السيرة من علم التاريخ، والإضافات التي يمكن أن تضيفها تلك القضايا للتاريخ العام، وكيف يمكن التعامل مع مصادر السيرة، وما الفروق بين السير التاريخية والسير الشعبية. واختُتمت الحلقة بذكر بعض القواعد والخلاصات حول أهداف ومناهج التعامل مع تاريخ المرأة المسلمة.

نحن إذن أمام طائفة من الدراسات والنقاشات متعددة الاتجاهات، اختيرت بعناية بحيث تغطي مناطق ومساحات واسعة من تاريخ المرأة، وتقدم رصدًا لمختلف الأدوار الاجتماعية التي لعبتها. ومع إقرارنا بالجهد الضخم الذي قامت به الباحثات؛ إلا أننا يمكن أن نسجل عليه ثلاث ملاحظات أساسية، الأولى: طغيان الجانب السياسي عما عداه من جوانب التاريخ الحضاري والاجتماعي والثقافي، وقد بدا ذلك واضحا من خلال تخصيص أكثر من دراسة لهذا الجانب، أو استخدام مفاهيم ومنظورات العلوم السياسية، وإسقاطها على الدراسات التي تقع خارج الإطار السياسي بشكل مباشر(*). أما الملاحظة الثانية: فهي عدم التطرق لبعض الأدوار المهمة التي لعبتها المرأة، إذ يسترعي الانتباه أنّ أيًا من أعداد (المرأة والحضارة) لم تخصّ المحدثات المسلمات بدراسة مستقلة، رغم البروز الواضح للمرأة في هذا المجال. أما الملاحظة الثالثة والأخيرة: فهي أن الدراسات لم تتابع عملية السرد التاريخي منذ البداية إلى النهاية، بحيث تكشف عن مناطق التغير والانعطاف في تاريخ المرأة، وأين ومتى حدث التراجع والانحسار لهذا الدور وكما هي مسبباته، فعلى سبيل المثال وليس الحصر؛ لم تبرر دراسة أوقاف النساء انطلاقها من العصر الفاطمي، رغم أن دور المرأة الوقفي بدأ مع السيدة حفصة رضي الله عنها، وكذلك لم تسوغ توقفها عند العصر العثماني وعدم امتدادها إلى العصر الحديث، بحيث تكشف عن تحولات هذا الدور، وأثر الدولة القومية على المشاركة الاجتماعية للمرأة.

لم يقتصر اهتمام (المرأة والحضارة) على دراسة تاريخ المرأة في العصور الإسلامية، وإنما امتد إلى العصر الحديث، إذْ قدمت دراسات حول عصر النهضة، والريادات النسوية المغيبة، والعلاقة بين المرأة والإصلاح. وعلى هذا الصعيد تبرز واحدة من أهم عطاءات منى أبو الفضل الفكرية، حين سعت لدراسة رموز عصر النهضة من النساء انطلاقًا من مفهوم السيرة وتطبيقاته في التاريخ الإسلامي، وهو الاهتمام الذي تطور لديها فيما بعد وأطلقت عليه اسم “السيراتوغرافيا”، والذي وجد مصداقه لديها في دراستها حول الدكتورة بنت الشاطئ، فقد حاولت أن تقدم لها سيرة معاصرة. وما يسترعي الانتباه أن الدكتورة منى أبو الفضل قد اعتمدت منهاجية جديدة في تفعيلها لمفهوم السيرة، حين جعلت وحدة التحليل الأساسية هي (الفعل/الدور) وليس المرأة، ويمثل الفعل لديها لحظة تتحد فيها الشخصية مع الأمة، ويتم خلالها تفعيل الانتماء، وحين يصبح الفعل هو وحدة التحليل؛ فهذا يعني أنها لم تُعنَ بسيرة المرأة انطلاقا من جنسها، وإنما من دورها العمراني، ومدى ارتباطه بالجماعة والأمة.

إعادة قراءة الخطاب القرآني المتعلق بالمرأة

يبدو العدد الثالث من (المرأة والحضارة) وكأنه اتخذ وجهة مغايرة لما سار عليه العددان الأولان؛ ذلك أنه بينما دار البحث فيهما عن إمكانات تأسيس معرفة نسوية إسلامية، وتتبع الممارسة التاريخية للمرأة عبر التركيز على الموقع والدور؛ فإن هذا العدد يعود بنا دورة كاملة إلى مصدر التأسيس والتنظير، ليبحث عن قراءة جديدة في الخطاب القرآني المتعلق بالمرأة، وبالتساوق مع هذا يقدم نقدًا مكثفا للقراءات التاريخية الواقعة خارجه.

وقد حاولت مقدمة الملف أن تفسر دواعي تخصيص عدد للقرآن الكريم، منطلقة من الحاجة المعرفية الملحة إلى إرساء قواعد منهجية مستقاة من مصدر التأسيس الأول، تساعد على إعادة قراءة حقل دراسات المرأة ومراجعة التراث. وتمضي المقدمة لتحدد الفرضيات الأساسية التي تنطلق منها (المرأة والحضارة) في تناولها للخطاب القرآني، وفي مقدمتها أن الوحي مصدر معرفي وليس فقط توجيهًا أخلاقيًا، وأنه ينبغي التمييز في مصادر التنظير الإسلامي بين مصادر أصيلة (القرآن والسنة الصحيحة)، ومصادر مشتقة (علوم التراث والفكر الإسلامي)، وأن هناك فارقًا بين النص وتأويله، وأنه مهما بلغت دقة التأويلات في فهم مراد النص فإن هذا لا يلغي التمايز الأصلي بينها، العائد إلى تباين مصدريْ النصيْن، بما يترتب على ذلك من عدم وجود مجال لتقديس المحاولات الإنسانية لتفسير القرآن الكريم.

طمحت (المرأة والحضارة) إلى تقديم قراءة جديدة للخطاب القرآني المتعلق بالمرأة، قراءة من شأنها أن تحقق الإنصاف، وتنزع الإجحاف الذي يكتنف تأويلات القرآن. وتحقيقًا لتلك الغاية استند الفريق البحثي للدورية إلى ما أسماه “القراءة البريئة للقرآن الكريم”، التي عرّفها بقوله: إنها موقف أو اقتراب بحثي، أتاح للباحثات قراءة النص الأصلي بأقل قدر من التشويه، دون الانغماس والتأثر بمسائل الأولين، على النحو الذي يسمح للباحثات أن يستحضرن أسئلة عصرهن ويطرحنها حول النص، لا أن يستحضرن هواجس واهتمامات العصور الماضية وينظرن من خلالها إلى النص. من جانب آخر جرى التشديد على أن مفهوم القراءة البريئة لا يعني تجرد الباحثات من كل مؤثرات الثقافة المعاصرة، أو التأثر بآراء المفسرين السابقة، وإنما هي قراءة استهدفت تكوين رؤاهن وقراءاتهن الخاصة للعلوم الإسلامية من منظور نقدي(10).

بالنظر إلى الموضوعات التي ضمها ملف المرأة في القرآن، نلمس بوضوح تعددًا وتنوعًا في الموضوعات المطروحة، بما يفيد في استكشاف رؤية القرآن للمرأة من زوايا عديدة. فقد افتتح الملف بدراسة للدكتورة أماني صالح حول قضية النوع في القرآن الكريم، وقد انطلقت فيها من مفهوم (النوع)، واتخذته مدخلاً لبحث قضية المرأة في القرآن، وامتد بها البحث إلى مفهوم إسلامي اعتبرته أوفق وأشمل في وصف علاقات النوع، هو مفهوم (الزوجية). وتتكامل معها في هذا السياق دراسة هند مصطفى حول مفهوم الزوجية في الخطاب القرآني، فقد وقفت فيها على أبعاد الافتراق الواضح للمفهوم بين الخطابيْن الفقهي والقرآني. أما أمينة محمود، فقد واصلت بحث قضايا المفاهيم انطلاقًا من مفاهيم الكيد والرياء والغواية، التي وصمت بها الثقافةُ الشعبوية النساء. أما منال يحيى، فتنقلنا بعيدًا عن المفاهيم وتغوص بنا في قلب القصص القرآني، وذلك بتناولها سيرة ملكة سبأ باعتبارها نموذجًا للمرأة الحاكمة أغفله الفقهاء في تناولهم لقضية الولاية السياسية للمرأة. في حين تدرس عزة جلال دور النساء في توفير الحماية للرسالات السماوية، من خلال شخصية أم موسى عليه السلام. وتتكامل معها على هذا الصعيد دراسة طيبة شريف حول السيدة مريم ابنة عمران، إذْ وقفت على علاقة مريم البتول بمفهوميْ النبوة والولاية. أما دراستا زينب العلواني، وزينب أبو المجد؛ فقد انتقلتا من دراسة الخطاب القرآني إلى دراسة الخطابات حول القرآن؛ وفيها تتناول زينب العلواني قراءات السيدة عائشة حول القرآن، وقد اتخذت من الاستدراكات نموذجًا، واستهدفت من خلال دراستها التأسيس لقواعد منهجية في التعامل مع القرآن والسنة، في حين تناولت زينب أبو المجد أسباب النـزول، وأحكام النساء في الفقه الشافعي، إذْ قدمت قراءة نقدية لمنهجية استخدام أسباب النزول في استنباط الأحكام الفقهية الخاصة بالمرأة، وتوصلت إلى أن خطاب أسباب النزول قد تسبب في حصر وتثبيت معاني الخطاب القرآني في ظروف زمانية ومكانية محددة. وأن أسباب النزول قد استندت في غالبيتها على روايات غير ثابتة الصحة. وينفرد العدد بحوار خاص مع العلامة الدكتور طه جابر العلواني ناقش فيه طبيعة الخطاب القرآني وعلاقته بالكتب السماوية، وكيف تسللت الإسرائيليات – وبخاصة المتعلقة بالمرأة – إلى كتابات المفسرين. واختُتم الملف بالحلقة النقاشية المعتادة التي تم تخصيصها لدراسة منهاجيات تعامل الباحثات مع القرآن في الدراسات التي قمن بها، وخبرة الباحث الاجتماعي في التعامل مع الكتاب الكريم.

يتضح من خلال هذا الاستعراض المكثف لموضوعات ملف المرأة في القرآن: أن هناك عمقًا ونضجًا معرفيًا قد بدأ يتبلور، سواء من جهة الموضوعات المبحوثة أو من جهة منهاجيات التعامل، وهو الأمر الذي يحملنا على الاعتقاد بأنه لو واصلت الدورية صدورها لأحدثت طفرة نوعية حقيقية على صعيد دراسات المرأة المسلمة. وهذا لا يحول بيننا وبين تسجيل ملاحظة يسيرة، وهي أن عددًا من الدراسات كانت بحاجة إلى باحثين متخصصين في العلوم الشرعية، فقد تم خلالها مناقشة قضايا وإشكالات دقيقة وشديدة التخصص، يتعذر على غير المتخصص الوقوف عليها.

لا يسعنا في ختام هذا الاستعراض الموجز لأبرز أطروحات (المرأة والحضارة) إلا أن نشير إلى أنها أفلحت في إنتاج خطاب نسوي جديد، ليس بالخطاب الاعتذاري الذي يبرر ويسوغ للتراجعات التي أصابت واقع المرأة بُعيد انقضاء مرحلة النبوة والخلافة الراشدة، ولا هو بالخطاب الاستلابي الواقع في أسر الخطاب النسوي، الذي يجد ركيزته في خطابيْ الحداثة وما بعد الحداثة الغربييْن. لقد كان خطابًا نسويًا يستوعب التراث، ويجد في مبادئ الدين ركيزة للإصلاح، وفي الوقت ذاته يستوعب المعاصرة ولا يستعديها، من خلال توظيفه للمنهجيات الغربية في تطبيقاته المعرفية.

 

الهوامش

(1) من بين هذه الدوريات انظر على سبيل المثال دورية (رسائل الذاكرة) الصادرة عن ملتقى المرأة والذاكرة، ودورية (طيبة) الصادرة عن جمعية المرأة الجديدة، ودورية (هاجر)، وكتاب (نور) الصادر عن مؤسسة نور.

(2) أماني صالح، نحو منظور إسلامي للمعرفة النسوية (القاهرة، المرأة والحضارة، 2000) ع1، ص 7.

(3) منى أبو الفضل، نحو منظور حضاري لقراءة سيرة وتاريخ المرأة المسلمة (القاهرة، المرأة والحضارة، 2001) ع2، ص 164.

(4) المرجع السابق، ص 164.

(5) أماني صالح، نحو منظور إسلامي للمعرفة النسوية (القاهرة، المرأة والحضارة، 2000) ع1، ص 8.

(6) المرجع السابق، ص 9.

(7) عنوان النص المبحوث: Liz Syanley and Sue Wize ,Method, Methodology ,and Epistemology in feminist research processes, in Liz Stanley (ed.),feminist parix (London:Routledge,1990)

(8) المرأة والحضارة، العدد الثاني، ص 3.

(9) المرجع السابق، ص 8.

* تعد دراسة زينب أبو المجد ” أوقاف النساء: المرأة، المعرفة السلطة” مثالا جيدًا، إذ يؤشر العنوان بوضوح إلى اقترابها من مسألة الوقف من منظور السلطة، وفي المقابل هناك غياب للمفاهيم الإسلامية مثل: الإحسان، البر وغيرها.

(10) انظر مقدمة ملف المرأة في القرآن (القاهرة، المرأة والحضارة، 2002) ع3، ص 13.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر