أبحاث

النظام الأخلاقي في السياسة المالية في الدولة الإسلامية

العدد 51- 52

عندما يريد الانسان أن يبحث أو يكتب فى موضوع من المواضيع الإِسلامية ينبغي عليه أن يبدأ من القرآن ومن الأحاديث, ويجمع ما في القرآن الكريم من الآيات ومن الأحاديث المختلفة بالموضوع ثم يتعقب الموضوع.
وهذا هو المنهج الصحيح العلمي فى العلوم الشرعية الإِسلامية الذى طبقه العلماء والأئمة والمجتهدون الأوائل بدقة علمية مطلقة وتركه وأهمله العلماء المتأخرون ابتداء من القرن الرابع الهجري أى العاشر الميلادي وحتى الآن, وإن حاول قليل من المتأخرين أن يسترجع ذلك المنهج ويستعمله ولكن لم يستطع ذلك المنهج ويستعمله ولكن لم يستطع أن يتجاوز الحدود الموضوعية أمام تطبيق المنهج المذكور طوال العصور.

وحين يكتب كاتب أو عالم في موضوع الدين الإِسلامي يقدم مقدمة عامة وشاملة بأن الإِسلام دين عام عالمي شامل لجوانب حياة الإِسلام من شروق الشمس إلى غروبها. وليس هناك ناحية من نواحي الحياة إلا ويتدخل غيها الإِسلام سلبا أو إيجابا. ولا شك أن أمثال هذه الكلمات العامة لا تخرج عن إطار القرآن والأحاديث الصحيحة بالنسبة إلى المبادىء الإِسلامية, لأن الإِسلام جاء كدين ليحل مشكلة الإِنسان الدينية والدنيوية بتوحيدهما وجعلهما امورا دينية ورفع التفرقة بينهما فإن الأمور الدينية والدنيوية تفترق بالنية والارادة وان الانسان مسئول عن نيته وارادته فى كل حركاته, وسكناته وكذلك الانسان مسئول فى هذه الدنيا ليس فى الآخرة, وهو مسئول عن كل أعماله سواء قيل خطأ : إنها أعمال دنيوية أو دينية لأنهما يطبقان على الانسان سواء كان فردا في المجتمع أو رئيسا لدولة أو ربا لعائلة أو آمرا أو مديرا أو موظفا. ومن هذه المشاكل الانسانية بل من أهمها هى حياة الانسان وعيشه وتغذيته ونشأته ونموه واستمرار حياته وبذلك يستطيع الانسان أن يقوم على رجليه ويستطيع المشى والسير إلى انجاز اغراضة وغاياته ويرتكز كيانه المادي والذاتي على ذلك. وذلك لا يتحقق إلا إذا أمكن للانسان أن يملك شيئا يقيم به اوده ويمسك به بدنه حتى تستمر حياته فلا ينهار ويسقط على الأرض ولا يتلاشى بين هوات وفجوات المهالك والمخاطر.

اهتم القرآن الكريم في آياته الأولى بشيئين أساسيين هما :

الأول : ربط الانسان بالرب والخالق مباشرة ورفع الحواجز والوسائط بين الله تعالى وبين الانسان, وإزالة الأوهام والخرافات عن الاذهان والعقول وتوجيههما إلى الاعتقاد الحق وإلى الله تعالى وهو الحاكم المطلق القادر على كل شىء وهو الآمر والناهي, وجعل الانسان مسئولا أمامه فقط, دون سائر البشر مهما كانت مرتبته الاجتماعية, والتربوية.

الثاني : هو حل مشكلة الفقر بإزالة الطبقات الاجتماعية واعلان المساواة بين الناس فى الحقوق الانسانية المفطور عليها وهو يرمي إلى تغيير سلوك الانسان وتوجيهه توجيها صالحا لمصلحة نفسه ولمصلحة الناس الاخرين لتتوازن وتتعادل العلاقة الاجتماعية بين أفراد المجتمع.

ولذلك شرع الإِسلام فى أول الأمر بتثقيف الذهن والعقل وتقويمه ثم اعتنى بتربية السلوك والاخلاق. وبنى سلوك الانسان على الخلق الحسن الكامل. والخلق يشمل كل ما يقوم به الانسان من أفعال وأعمال وحركات, ويدخل فيه إطار الفقة أى القانون.

وتتطلب التربية الاخلاقية التي تستند على مبادىء القرآن والأحاديث أن تلبي حاجات الانسان المادية والروحية المعنوية. والحياة المادية والروحية متداخل ومتزامنة فى نظر مبادىء الإِسلام. وعلى ذلك ينبغي أن تكونا كذلك متعادلة ومتوازنة في حياة الفردية والاجتماعية والسياسية وغيرها.

ومن هنا جاء القرآن الكريم بالنظام الاقتصادي باسمه المعروف اليوم لينظم المعاملات المالية والتجارية. وامتن الله تعالى على الأغنياء بما أنعم عليهم من النعم لتنمية ثرواتهم, ثم طلب منهم أن يعطوا من مال الله عز وجل الذى بأيديهم إلى من يعوزهم. لأن المجتمع يتكون من الافراد الذين قد يكون من بينهم : أعمى, وأصم, وأبكم, وأكثر عقلا وأقل فهما والمرضى, والزمنى والفقراء والمساكن وغيرهم وإذا لم يوجد هؤلاء الناس, لا يكون هناك مجتمع إنساني ولا يكون مفهوم الثروة ولا مفهوم الدينار والدرهم ولا الذهب والفضة إذا لم يكن تبادل الأموال والأشياء القيمية ولا تظاهر ولا تفاخر بالمجوهرات والأحجار الثمينة بين الناس.

وهكذا بدأ القرآن الكريم فى بدايات تشريعه الاعتناء بالتوازن والتعادل بين الدخل والاستهلاك وبين الكسب والصرف وطاب التكافل بين الربح والعمل وبين الفائده ورأس المال فى البيع والشراء. ولحفظ هذه المعادلة فى النظام الاقتصادي وهو التكافل بين أفراد المجتمع فى نفس الوقت, وضع الإِسلام معايير وموازين لكيفية كسب المال الحلال وكيفية صرفه والتعرف فيه ليرفع بذلك مستوى أفراد المجتمع على درجة حيث يرضى كل فرد بما يكسبه ويرضى عنه الناس بما يعاملهم به.

وصرع نظاما واحدا بكل فرد من الشعب والأمة من بدو وحضر وقارىء ومثقف وأمى, ومن رجل في الشارع ورجل في الصحراء أو الغابة, والضيعة أو القصور, فكلهم يتبعون نظاما واحدا, إلا أن كل واحد مسئول حسب قدرته ومقدرته المادية والمعنوية وكذلك هو مسئول حسب وسعة نفوذ دائرته فى الأمور الاجتماعية والتجارية والسياسية. ونظام الشريعة يشملهم جميعا دون التفريق والتمييز بينهم.

وعندما طلب الشرع من الأفراد اتباع الموازين والمعايير فى كسب الحلال, القى التبعة عليهم في تصرفهم فيما يكسبون من المال والثروة والمهارة والصنعة, وكلفهم بطاعة الله والرسول وأولى الأمور السياسية والاجتماعية وغيرها, باطار هذه الموازين ولم يبح لهم اطاعة أولى الأمور فيما جاوز ذلك. وكلفهم بمحاسبة أنفسهم أولا ثم بمحاسبة من يلى أمورهم. وإذا قصروا في واحد منها أو في كليهما يختل نظام المجتمع وسوف يحاسبهم الله تعالى في كلا الحالين إما في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما معا.

وكذلك أوجب على أولى الأمور يعنى الدولة في الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتجارية والمنظمات العامة والخاصة أن يعاملوا الأمة وأفراد المجتمع دون انحياز إلى القرابة والمصاهرة والنسب وإلى مكانة الرجل فى المجتمع بالعدالة المستندة على الحق والكفاءة والتكافل بين عمل وأجر ومايحتاجه من العيش والحياة السويه فى المجتمع, وأوجب الرقابة العادلة على العمل وعلى صاحب العمل وشرع اتخاذ التدابير اللازمة للتفتيش عن المعاملات في الأسواق وعدم ظلم الغنى عند أخذ حق الفقير منه وعدم ترك الفقير على مرحمة الغنى وأن لا يسمح بتعدى الفقير على الغنى كما وضع القرآن الكريم حدا للحيلولة أمام سعى الأغنياء لاكتساب المال حراما كان أو حلالا وكذلك وضع حدا للاقتطاع من مال الأغنياء. وهذه الرقابة فرضت على أفراد المجتمع كأفراد كذلك وهى المعبر عنها في القرآن الكريم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, وفي الفقه الإِسلامي الحسبة أو الاحتساب.

وفلسفة الدولة وحكمة الحكومة تأخذ وتكسب شرعيتها باهتمامها بمصالح الأمة وأفراد الشعب وعليها أن تراقب افراد الشعب فى معاملاتهم وعلاقتهم بعضهم ببعض فى التجارة, وأن تحاسب مواظفيها في معاملتهم مع أفراد الشعب وأن تمنع تغلب الناس على بعض بحيلهم وخدعهم وبقولهم الماكرة. والدولة كذلك ملزمة باتباع المعايير والموازين الاسلامية في معاملتها الناس في أخذ أيدى الناس ومساعدتهم والقبض على ايديهم إذا انحرفوا عن سواء السبيل. وهنا تظهر اخلاقية الدولة وحكمة وجودها. فإنها لا تظلم الناس الكاسبين ولا تأخذ منهم أكثر مما حدده الشرع أو القانون العادل ولا تتركهم يعبثون في المعاملات التجارية كيف يشاؤون ولا تمنع عن العمل والسعى ولا تضع الحواجز في طريقهم لتنمية تجارتهم الملائمة والموافقة للشريعة. والمهم هنا أن لا تجنح الدولة والحكومة في تأويل الأحكام الشرعية لمصلحتها أو لمصلحة بعض الناس لأسباب مختلفة ضد مصلحة الأفراد المستحصلين ولا المستهلكين. هذه الرقابة العادلة للدولة على معاملات الشعب تحقق سعادة الشعب ومحبة بعضهم لبعض وتزيل غضب الفقراء على الاغنياء وعلى الدولة كذلك, وتسبب المودة والمحبة المتقابلة بين أفراد المجتمع الإِسلامي وبين أولى الأمور. وهذه الأمور وأمثالها يطلبها القرآن الكريم من الذين آمنوا به أن ينفذوها وينجزوها لمصلحتهم الدنيوية الزائلة ولحياتهم الأخروية الباقية. وهى غاية قصوى لكل إنسان أن يكون سعيدا فى هذه الدنيا وفي الآخرة وذلك يتحقق إذا لم يكن المجتمع متكونا من طبقات عالية وسافلة ولا ينقسم الناس وأفراد الشعب والأمة إلى سادة وسيدات وإلى عبيد لهم واماء, إلى طبقة غنية مشرية متكبرة مترفعة ومتغطرسة وطبقة منحطة ومنازعة. وكيف يمكن ذلك ؟ وهذا هو محور موضوعنا الذى نعتزم الحديث فيه إن شاء الله تعالى.

التربية المالية في الإِسلام

إن الله عز وجل خلق الإِنسان خليفة له وأعطاه ميزات مختلفة للقيام بواجبه. وبذلك ميزه عن كل المخلوقات. فسواء أدرك وظيفته بالادراك العقلي والايمان بالله أو لم يدرك ذلك بالشعور الذاتى. إلا أنه يتبع ذلك ويطيع قوانين الله الموضوعة في فطرته وماهيته وطبيعته طوعا أو كرها, أحيانا بالرغبة والشوق, وأحيانا بالجبر والكراهة.

والإِنسان له آمال وأمنيات فى حياته. فمن أولى أمنيته أن يعيش عيشة راضية ويلتذ بالحياة ويشعر بالذوق في المأكل و المشرب والسكن في القصور وأناقة الملبس. وكل هذه الأذواق حاجات له في ادامة حياته والحفاظ على موجوديته, كإنسان له خيالات متوجهة إلى المستقبل القريب في الدنيا والبعيد في للآخرة.

ثم أن له آمالا وأمنيات تتعلق بوضعه في المجتمع وترتبط بموقعه الاجتماعي حيث يود أن يرتفع إلى درجات عالية ويصل إلى قمة وذروة في الأمور الادارية والسياسية ليدبر ويدير امور الناس الآخرين ويكون حاكما على مقدراتهم نافذ الرأى والقول.

وهذه الرغبة المتعالية قد غرست في فطرته وجبل عليها. وهو بهذه الرغبة و الغريزة الطبيعية والفطرية يمثل خلافة الله تعالى فى أرضه وهو حكمه واليا على الآخرين, بما أودع الله في كيانه وماهيته من قوة عاقلة وقوه مفكرة في كيفية تدبير الأمور وادارة الشئون. لأنه يستطيع بعقله المفكر الفاعل وارادته النافذة العازمة أن يغير من أوضاعه في المجتمع للرقى والتقدم.

ويظهر من هذه الأمور والحوادث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى تمر فى حياة الانسان وهى ضرورية فطرية له تلازمه ليلا ونهار من الصغر إلى الكبر إلى الموت. ولكنه لايمكن له وحده أن يقوم بأى واحد من هذه الأعمال والرغبات والمطالب سواء كانت ترتبط بفرديته وشخصه منفردا أم بوجود كعضو في المجتمع. فإنه يحتاج إلى الناس الآخرين في أعمالهم المختلفة وصناعاتهم المتنوعة. ولو ترك الانسان في غابة أو جزيرة منذ ولادته لا يتصل بالناس ولا يتصلون به لكان محروما من النعم الاجتماعية والمراتب العالية واشباع غرائز الطبيعية الفطرية.

وتأتى مشكلة الاقتناء والامتلاك لما صنعه وعمله الآخرون ليسد مايحتاج إليه من الحاجات الضرورية والتحسينية والكمالية. ولا يمكن له أن يغتصب أموال الناس وممتلكاتهم بالقهر والغلبة لأن ذلك يسبب الفوضى والفتنة والمقاتلة ولا تبقى سكينة واطمئنان في المجتمع وذلك يجره إلى الضرر والخسران. ولذاك ينبغي عليه أن يقدم شيئا مقابل مايحتاج إليه من الممتلكات والمحصولات والمنتجات الموجودة عند الناس الآخرين. ومن هنا جاءت المبادلة والمعاوضة بين الناس بصورة طبيعية وفطرية.

إن الإِنسان ليس مثل الحيوانات العجماء التي لاحاجة لها بعضها مع بعض للاقتناء أو الامتلاك لما فى أيدى الآخرين لعدم تنوع حاجاتها لادامة حياتها الضرورية. وايس لها غير الشبع والرى إذا جاعت أو عطشت إلى التوالد للمحافظة على جنسها بالغريزة الطبيعية دون ارادة منها ومشيئة لها. فإن كان الانسان البدائي الذى عاش في الغابات قريبا من الحيوان إلا أن حياته تلك كانت على حالة طارئه. ولذلك سرعان ما اجتمع وتحضر ملبيا حاجاته ورغباته الغريزية الفطرية الاجتماعية ووظيفته الالهية وهى خلافته وأعماره الأرض نيابة عن الله تعالى. وبما أنه سوف يقوم بأعمال إعمار الأرض كوظيفة خلقية وفطرية موظفا من قبل لله تعالى فيجب عليه أن تصير أعماله وأفعاله موافقة لارادة الله ولرضاه تعالى. وقد احتاج الانسان لمعرفة نظامه وقوانينه لتنفيذها.

فإن الله تعالى عند ماخلق الانسان خليفة له, جعله حرا في حركاته وسكناته وغرس فيه غرائز وميولا مختلفة, وأعطاه قدرة وقوة ذات وجوه مختلفة الجهات والأعمال. ولو جرى الناس على مقتضيات فطرة وغريزة واحدة لكانوا جميعا على طريق واحد لاينحرفون عنه ولا يتعدون حدوده المرسومة لهم بطبيعة.

والإِنسان بميوله المختلفة وغرائزه المتنوعه ورغباته المتغيرة يتلقى المؤثرات الخارجية في المجتمع الذي يعيش فيه والبيئة المحيطة به فيتأثر بها ويتفاعل معها وينساق لها ويستنتج منها عناصر جديدة تؤثر في تفكيره وتوجيهه. وبذلك يختلف الناس وأفراد البيئة ويتباينون ويفترقون في التفكير والتمسك بأسباب الحياة. ويأخذ كل واحد سبيلا خاصا. ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يترك الانسان يضيع ويضل الطريق السوى في التفكير وينحرف عن السعى الصحيح والعمل الصالح, أعطاه مصدرين أساسيين ليسير على مافيها من قواعد وأحكام ومبادىء ليستعين بما فيها على ما ليس فيهما صراحة أو نصا ليتاح له اجراء ما أوجب الله عليه ليكون خليفة له في شئون الأرض وإصلاحها وإعمارها. وهما : العقل والوحى.

والعقل هو المفطور عليه في الخلقة والجبلة.

وله وظيفتان :

أ ـــ وظيفة الفهم والادراك وهى تتوقف على المشاهد والتجربة وفهم النصوص وتجارب الآخرين والاستفادة من أقوال الناس والعلماء الآخرين.

ب ـــ وظيفة التعقل والمحاكمة واستنتاج الأحكام والوصول إلى المبادىء والانتقال من الأشياء المعلومة إلى الأشياء المجهولة على الميول والغرائز ويصدر حكمه بالعرف أو النكر.

والوحى يأتيه بواسطة الأنبياء والمرسلين لارشاد العقل وما عدته إذا التبس عليه الأمر والحكم وضل الطريق المستقيم تحت تأثيرات مختلفة من غريزة طبيعية وبيئة فاسدة وتربية غير رشيدة كنا وقع الوحى المتلو في التأويل المفسد والتحريف بايضاحات متغيرة ومختلفة تحت أسباب كثيرة قبل الإِسلام وبعده. وهما يعني العقل والوحى معاونان في خدمة الانسان ليقوم بأعماله الجبارة الابداعية وواجباته الإِصلاحية والإِعمارية لإِنفاذ أوامر الله تعالى, وبذلك يرتقى إلى مرتبة خلافة الله في أرضه وينوب عنه في أعماله.

فإن يتبين لنا من النظرة التاريخية الواقعية أن الانسان أسمى وأعلى مخلوق بين المخلوقات الكونية. فبافادة القرآن الكريم أن الوجود والكون كله قد خلق لأجل مصلحته ولخدمته. فالاسلام يعترف للانسان بهذه المكانة ويقدسها له. فالقرآن باعترافه بمرتبة الانسان هذه ودرجته العالية بين المخلوقات وباقراره بأنه صاحب ارادة حرة وباعتباره مخلوقا تتغلب عليه القوى المختلفة والاغراض الفردية والانانية ويتجاوز حده ويتعداه إلى حقوق غيره حيث يجلب عليه عداوة إلى الآخرين التى تهيىء أسباب هلاكه وتجره إلى الخطر والبوار. ولذلك جعل القرآن الكريم بعض الموازين والقسطاس له. ليقيس عليه الأمور والعلاقات بين الناس لتسير الحوادث الاجتماعية على نظام منسق وعلى قانون مرسوم بين الناس وتسود المودة والمحبة بين أفراد المجتمع وليقوموا جميعا بإعمار الأرض نيابة عن الله تعالى.

فالإِنسان له صفات ثلاث : المادة والحياة والروح. يشترك مع المخلوقات الكونية كلها في المادة وتشاركه المخلوقات. وبصفتيه المادية والحياتية تتكون فرديته كموجود مادي حى يأكل ويشرب ويتغذى وينمو ويتكاثر كفرد منفرد. وبصفته الروحية تتكون شخصيته الاجتماعية والانسانية. وبذلك يؤسس العلاقات الاجتماعية وينشىء المناسبات الانسانية بين أشخاص المجتمع. وهو بمادته فرد من أفراد الكون وبروحه شخص اجتماعي وعضو حى فى مجتمع. ولا تتجلى انسانية الانسان إلا في الأمور الاجتماعية وإيجاد العلاقات والمناسبات بين الناس.

وقد أعجبني قول الدكتور محمد فاروق النبهان : إن الإِسلام جاء لينقل الإِنسان من صفة (( الفرد )) إلى صفة (( الانسان ))(1). يعني من الفردية الانانية إلى الانسانية الجماعية. ومعنى ذلك أن الفرد منفرد ومنعزل والانسان اجتماعي, له شخصية اجتماعية يهتم بالمناسبات الاجتماعية. وعلى ذلك فالانسان كفرد يهتم قبل كل شىء برغد عيشه وطيب حياته. وذلك يعتمد على المال الذى يشمل كل شىء مما ينتجه هو نفسه أو يستحصله غيره, ويتناول المنقول وغير المنقول, ويتبادل به مع ماعند الآخرين مما يحتاج إليه. والمال يجلب له كل الخير, كما وصف الله الإِنسان بولعه وحبه الشديد للمال بقوله تعالى :} وإنه لحب الخير لشديد {(2).

فإن المال قوام الحياة للانسان, خلق الله تعالى فيه حب المال وجعل الله تعالى المال زينة الحياة الدنيا, وأمر الناس بالتزين في كل صلاة وندد بمن حرم زينته التى خلقها لعباده.(3). ونرى أنه ظهر فريقان من الناس على طرفى النقيض طوال التاريخ البشري. فريق افرط في التزين والتبجح بالمال وتجاوز الفطرة وارتكب حراما في كسبه وحراما في صرفه وفي كلا الحالي عثا في الأرض مفسدا. وفريق فّرط في تحريم الزينة بتحريمه الثروة والمال وحث على الزهد فيه كرد فعل. وهذا اثبت بالتجربة التاريخية التي ذكر الله تعالى أمثلة منها في القرآن الكريم في القصص والأمثال. جاء القرآن الكريم ليقيم الوزن والكيل للتعادل والتوازن بين هذين القطبين في التعدي والتقصير, ورفض افكار الفريقين وتصرفاتهما. ولم يمنع كسب المال والتزين به وإنما أمر بكسبه من الحلال ونهى عن اكتسابه بالحرام. أما المال نفسه فلا يتصف بالحلال والحرام وإنما تصرف الانسان وأعماله تكون حلالا وحراما كما هو مبين في موضوعه في أصول الفقه.

والقرآن هدى للناس في كل أعمالهم ومنهج لهم في حياتهم وارشاد إلى العدالة الاجتماعية ليحق الحق باعطاء كل ذى حق حقه ويبطل الباطل ويمنع الفساد في الأرض.

فإن كلمة المال أصل واحد يدل على التمول أى اتخاذ المال واكتسابه. يقال : مال يَمال أو يمول, أصبح ذا مال, وصاحب المال وكثر ماله. وتمول الرجل اتخذ مالا(4). ويطلق على الضياع والابل(5). ويقول لبن منظور في لسان العرب : المال معروف ماملكته من جميع الاشياء. وينقل عن ابن الاثير : المال في الاصل مايملك من الذهب والفضة, ثم أطلق على مايقتنى ويملك من الأعيان. وأكثر مايطلق المال عند العرب على الابل لأنها كانت أكثر أموالهم(6).

ويقول عبد الكريم الخطيب في اشتقاق كلمة ((المال)) مايلي : (( وعندى أن الأصل في كلمة مال أنها جملة مكونة من ثلاث مقاطع هى : «ما» الموصولة, و «ل» لام الجر والاسم المجرور الذى يدل على صاحب الملك. فالتركيب هكذا : ما لفلان أى الشىء الذى لفلان أو الذى له أو الذى لى أو لك. ثم كثرة الاستعمال ـــ مع تقدير خاص في الاختزال عند العرب ـــ استعملت ما الموصولة مع لام الجر الدالة على الملكية, فصارت «مال» للدلالة على الشىء المملوك. ومن ثم أصبحت الكلمة جامدة لها دلالة واحدة هى ما يمتلك, ثم جمعت على أموال كما تجمع الاسماء(7).

نقلت هذا الكلام لأنه حاورني رأى أحيانا عندما أردت أن أفهم معنى هذه التعابير : (( مالك أو ماله )) يمكن أن يقرأ بطريقين : مالك أو مالك, ماله أو مالَه, بفتح اللام أو ضمها. إذا كان بفتح اللام كان المعنى على اشتقاق عبد الكريم الخطيب : أى شىء تملك أو الشىء الذى تملكه. ويتاح للانسان هذه الملاحظة في } يحسب أن ماله أخلده{ (8). } ما أغنى عنى ماليه{ (9). وفي التعبير : أنت ومالك لابيك.

ذكر القرآن الكريم المال خمسا وثمانين مرة مفردا وجمعا. وهو يدل على اهتمام القرآن بالمال وبالمسألة المالية بصورة جديه. لأنه كما عرفنا من تعريفه من اللغة واستعمالة بين الناس, فإنه يشمل كل مايملكه الانسان من الأشياء العينية والنفعية. ولا يعيش الانسان ولا يمكن له ادامة حياته دون أكل وشرب وملبس ومسكن. وكل ذلك يدخل في مفهوم المال بالضرورة الأولية.

إن الله تعالى بين تعلق الانسان بالمال وحبه له وتبجحه به وشغفه له واعتماده عليه في عائلته ومجتمعه وتكاثره وتعاليه على الآخرين بكثرة ماله وتملكه له في الآيات المتعددة منها : ( وتحبون المال حبا جمعا) (الفجر 20).

( أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ) (الكهف 34) (10).

وهذه الآيات توضح شغف الانسان بالمال وولعه به واعتباره جزءاً مقوما لموجوديته وحياته الدائمة وعنصرا مهما في سيطرته على الناس الآخرين واتخاذه منصة وتكأه يصعد عليها في إظهار شخصيته وابراز قدرته ونفوذه حتى يحكم على الناس ويتحكم فيهم كيف يشاء. لأن المال له قوة وقدرة مضافة إلى تكوين شخصية الانسان كفرد على حدة واعلائه في مراتب عالية كعضو في المجتمع له تأثير ونفوذ كبيرفتؤثر على قدرة الانسان الفكرية والثقافية في تكون الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية.

ثم ضرب الله عز وجل مثلا وقص قصصا لهلاك الأمم السالفة مع افرادها بولعهم وشدة احتراصهم على جمع المال وتنمية الثروة واستعمالها في إفساد الأمم والشعوب, والعثو في الأرض والخواض في الترف والرغبات الشهوانية باكتساب الأموال والثروات بارباح طائلة دون رعاية لنظام ودون تدبر لعاقبة الأمور والحوادث ودون نظر في الكوارث والمصائب التي أوقعوها في المجتمع الذى كانوا يعيشون فيه كما في الآيات الآتية : ( واعملوا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) (الانفال 28, التغابن 15). ( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) (آل عمران 10, 116). } ويل لكل همزة لمزة الذى جمع مالا وعدده{ (الهمزة 2)(11).

ونتبين من هذه الآيات أن المال والثروة مطلقا واكتسابها دون قيد شرط يجران الانسان إلى ما لا يرضى عقباه من خسران ودمار وفتنة وبوار. لأن الانسان إذا امتلك أموالا كثيرة وثروة طائلة يشعر بنفسه كأنه حاكم الدنيا ورئيس الدولة وزعيم الأمة. ويرى أن المال أقوى مساعد له ومعاون وشريك له في حكمه وفي حياته اليومية أو اشد بأسا في كل ماعداه تفكيرا واعتقادا وظنا منه, ويشاهد كل ذلك فعلا وعملا في قوة المال النافذة على كل الناس وقدرته في المجتمع وشئون الحياة العامة وتكالب الناس على اكتسابه بكل ما لديهم من الرغبة الشديدة والحرص المستميت على جمعه.

ولهذا الميل الشديد إلى المال وحكمه النافذ لم يرد الله تعالى أن يترك الانسان يسير على هواه ويعبث في الأرض لأنه خليفته وممثله فيها. واقتضت حكمته ومشيئته أن يرشده إلى الطريق المستقيم وينذره بعواقب الأمور وينبهه بواجبه الأصلي, وبذلك يمكن تخليصه من أن يستعبده المال وأن يتحكم فيه, وانقاذُه من أن يكون عبدا مملوكا لمن هو دونه ولمن ينبغي أن يكون خادما لخ, لا مخدوما بثلاث طرق :

أولا : تلقين الانسان بالايمان بالله وحده وترسيخ عقد القلب على اخلاص العبادة له والدعوة إلى حبه اشد من سواه. ونسمى هذا بالتربية الإِيمانية. وهى ربط الانسان بالله رب السموات والأرض ورب من فيها ورب العالمين. وخالق الكون كله إيمانا لا يتزعزع واحتسابا, وفكرا وعملا وعقلا وقلبا. وافهامه واشباع فبله شعورا بأن الله تعالى القادر المطلق والمسيطر على الكون كلياته وجزئياته بعلمه الشامل وارادته النافذة المطلقة, لاينفع غيُر ولا يضر مهما عظم وكبر ومهما أصبح ذا مال وبنين إلا باذنه وارادته ومشيئته.

ثانيا : اعلام الانسان وانذاره بعدم قدرة المال وعجزه عن معاونة الانسان ومساعدته له, لأنه شىء جامد لايسمع ولا يبصر, وهو أقل درجة من الانسان نفسه, وامكان استغناء الانسان عنه لأن المال تحت تصرف الله وهو مالكه الحقيقي هو الذى يوزعه بين الناس ويؤتيه لمن يريد بقدر مايشاء.

ثالثا : وضع المال تحت تصرف الانسان وحكمه. لأن المال وحتى الكون خلق لاجله وللخدمة له. والغاية من الخلق هو الانسان وليس والعكس, يعني أن الانسان لم يخلق لاجل المال. فإن الله تعالى جعل المال وخلقه خادما للانسان, بطريقين :

أ ـــ أن الله تعالى وضع قيودا وشروطا لاكتساب المال وتملكه.

ب ــ فإنه تعالى أرشد الانسان إلى كيف يتصرف في المال بعدما يكتسبه ويمتلكه بالسعى المشروع.

وبذلك يتاح للانسان أن يصبح واليا ومتوليا وحاكما على ماله ومتصرفا فيه, ليس المال حاكما ومتسلطا عليه ومدبره وسايسه, مادام الانسان خليفة الله في أرضه ومعمرا اياها, فينبغي أن يكون حرا في إطاعة ربه وخالقه ليستطيع أن يطبق نظامه ويعمل بموجب شريعته.

والدين الإِسلامي رأى أن إصلاح الحالة الاقتصادية والسياسة المالية في الدولة وفي المجتمع لايمكن ولايتم إلا باصلاح الانسان كفرد في تصرفاته وكعضو في معاملاته في المجتمع مع الناس. وبدأ القرآن الكريم مؤيَّدا وموضَّحا بالنسبة النبوية بتقديم التربية الاخلاقية للفرد أول الأمر بالتربية المالية. والتربية المالية للفرد هى أن يعرف كيف يكتسب المال وينميه وكيف يتصرف فيه, وبتعبير آخر, ينبغي على الانسان أن يعرف الاسباب المشروعة لكسب المال وتملكه بالشروط الصحيحة وغاية تموله, وأين يصرف وكيف ينفقه, لأن المجتمع يتكون من الافراد. فإنهم يجتمعون فاجتماعهم يصبح مجتمعا. والفرد هو الموجود الحقيقي والعنصر المكون للمجتمع. فاصلاح المجتمع يتوقف على اصلاح الفرد. والانسان قد طبع على حب الذات والانانية وهى ضرورية له بمقدار لادامة موجوديته ليتخذه حجر الزاوية لبناء كيانه الفردي وتكوين شخصيته الاجتماعية. وإذا زاد على ذلك وافرط في حبه لذاته جر وبالا عظيما على مجتمعه وعلى نفسه فجاء الإِسلام ليصلحه أولا وهو لبنة المجتمع, ويطهره من الادران والأوصاف التي غرزت ووضعت في طبيعته ميالا اليها.

والتربية المالية للفرد هكذا تبدأ بكيفية اكتساب المال بالرعاية على شروطه الموضوعية له. واهتم القرآن الكريم ببيان ذلك من أول نزول الوحى إلى الانسان إلى آخر نزوله وطوال العصور.

ويمكن معرفة ذلك بقصص القرآن عن الأنبياء السابقين وإلى مدين أخاهم شعيبا, قال ياقوم !

1 ـــ اعبدوا الله مالكم من إله غيره.

2 ـــ ولا تنقصوا المكيال والميزان.

1 ـــ اوفوا المكيال والميزان بالقسط

2 ـــ ولا تبخسوا الناس اشياءهم

3 ـــ ولا تعثوا في الأرض مفسدين(12)

} 1 ـــ ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون.

2 ـــ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.

3 ـــ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين(13) فإن فلسفة القرآن الكريم وروح الدين الإِسلامي توجيه ذهن الانسان إلى توحيد الله وتلقينه عبادة الله وحده دون غيره لأنه كلما أراد أن يرشده إلى أعمال الخير والبر في الأمور كلها في شئون الحياة من الاصلاحات الفردية والجماعية في الأمور السياسية والادارية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والعائلية والتربوية والعلمية والفكرية والاعلامية بدأ بتربية الذهن لأنه الذى يُصدر الأوامر إلى الأعضاء للإِنفاذ والإِنجاز. ولذلك فإن تربية الذهن أهم من أى شىء آخر.

فالتفكير الإِسلامي والتوجيه القرآني يبدو جليا في التربية الفكرية الايمانية وهى تتجلى في الاخلاق الاسلامية والسلوك القويم, إذا تربى بها روح المسلم بصورة صحيحة وسالمة حينئذ يُنَفّذ مبادىء الإِسلام بروح ارادية طوعية.

فاهتمام القرآن الكريم بالموضوع يتوقف على التربية الاخلاقية في اكتساب المال وهو عنصر حاكم في توجيه الذهن والتفكير في كيفية تصرف الانسان في حياته اليومية. والتربية الاخلاقية في التربية المالية تتوقف على اكتساب المال في أول أمره ثم في كيفية صرفه نقصد بالتربية المالية, النظام والقواعد التي بها يكتسب المال ويمتلك, والنظام والقواعد التي يحسبها لصرف المال واتباع تلك القواعد والنظام يسمى التربية المالية عندنا. والذى يتبع قواعد الكسب ولا يتبع قواعد الصرف فهو يكون مخلا بالتربية المالية أو تعتبر تربيه ناقصة. والتربية المالية الفردية تستند على مبدئين أساسيين :

المبدأ الأول : الايمان بالله وحده وتوجيه العبادة إليه دون غيره, يعني توحيد العبادة لله عز وجل. وتوحيد الايمان غير توحيد العبادة. لأن الايمان عقد قلبي, وأما العبادة فإنما لاتكون صحيحة إلا بتوجه الانسان إلى الله تعالى بكليته : بروحه ومادته, بعقله وقلبه فعلا.

وعندما نقرأ قصة شعيب عليه السلام في القرآن الكريم نراه يخاطب قومه أولا بالعبادة لله وحده فقط دون غيره في الآيات السابقة. فقصته تتركز على اصلاح المجتمع ببيان كيفية اكتساب المال ولا توجد تلك الأوامر والنهي في قصص الأنبياء الآخرين المذكورين في القرآن الكريم. ثم بعض الآيات الأخرى مطلقة, وهى كلها خطاب للأمة الإِسلامية بالواسطة أو بغير الواسطة.

والمبدأ الثاني : يتكون من أسس وأحكام آتية تتعلق بالعمل والفعل :

أولا : الايفاء بالكيل والميزان وهو الغنصر الاساسي في كسب المال الحلال بالبيع والشراء. وهو يمنع احتراص الانسان وجشعه عن ربح حرام, ويضع حدا فاصلا في أول خطوة في تصرفاته التجارية ويحرم عليه الخدعة والحيلة على ضرر الآخرين. وعندما يأخذ الانسان الكيل والميزان بيده فيجب عليه أن يفكر ويعتقد ويخطر بباله فعلا أنه أمام الله عز وجل الذى توجه إليه بكليته في العبادة وفي الصلاة في المسجد وعندما يخرج إللى السوق, فلا يجوز له أن يترك الله تعالى في المسجد وينساه في السوق ـــ ولاينبغي أن يخونه ويخالف أمره في تعديل الكيل والميزان وإلا يكون عاصيا له ثم من ينجيه وينقذه من عذابه, إذا كان يؤمن به.

ثانيا : عدم تنقيص أموال الناس بالحيلة والخدعة والنهى عن بخسهم أموالهم وكبت واخفاء حقوقهم واغتصاب أموالهم أمامهم سرا وحيلة. ويؤكد بذلك النهى عن النقص والبخس في الكيل والميزان. الأمر بالايفاء في الكيل والميزان والمحافظة على دوام أمر الايفاء ايجابا وسلبا, بالأمر والنهى معا. إذا أراد الانسان أن ينفلت وأن ينحرف من ناحية ايجابية, يجاب من الجهة السلبية بالنهى وينسد أمامه التهرب والانفلات, أو بالعكس كما هو مفصل في أصول الفقه في بحث العلاقة بين الأمر والنهى.

ثالثا : نهى الناس عن افساد المجتمع والعثو في الأرض والعبث في الأموال. وهذا يبين لنا بيانا شافيا على إفساد المجتمع واهلاك الأرض وتبذير المال يكون باكتساب المال من الحرام. لأن كسب المال الحرام ليس منحصرا على نفسه ولا فعلا واحدا, وحركة واحدة, فأن يشمل أمورا مختلفة ويسوق إلى أفعال كثيرة غير مشروعة إلى تصرفات غير شرعية وأعمال تعسفية في اسراف في المأكل والمشرب والملبس, وتقديم رشوة والتبجح والتسلط على حقوق الآخرين واغلاء الاثمان للأشياء الضرورية وتشويق الناس على الأعمال السيئة وإشاعة الفاحشة والمنكر وايجاد بدعة وعادات غير شرعية.

رابعا : إذا كان الانسان مطيعا لهذه الأوامر والنواهي يكون له خيرا ويصبح مرغوبا ومرضيا عند الله تعالى. والمال الذي يكسبه بالحلال الذى يبقى له الربح بعد البيع الحلال والمبادلة الشرعية يصير له بركة وخيرا في الرزق. يحث الله تعالى الناس على اتباع أوامره ونواهيه في رضى منه مسرورين وفرحين. درجة السرور والفرح باتباع شريعة الله واستحصال رضاه أعظم درجة من أى سرور آخر وادوم في الحياة الدنيا وفي الآخرة لأنه سرور ليس بعده مغبة سيئة ولا يعقبه الحزن والكدر.

خامسا : أما إذا خالفو أوامر الله ونواهيه فإنه يهددهم ويتوعدهم ليوم عظيم شديد العقاب, عندما يحشر الناس من مراقدهم يوم القيامة أمام رب العالمين. والانسان العاقل المفكر في مستقبله يحب أن يضمنه كذلك. وذلك لايتاح له إلا إذا اتبع طريقا مستقيما في أعماله وحركاته وسكناته.

وهذا هو أساس النظام الاخلاقي في التربية المالية للافراد والأشخاص الذين يتكون منهم الشعب والمجتمع الإِسلامي.

فإنه يبين كيف ينبغي على المسلم أن يكسب المال ويربحه ليكون تلجرا فاضلا وغنيا شريفا محترما في نظر الإِسلام والمسلمين, ذا ثروة حلال. وهذا لايتأتى للانسان, إلا بكبح جماح النفس الطائشة الاماره بالسوء والرغبة في الاسراف والافراط في التصرف المالي. لأن المؤمن بالله تعالى العابد له وحده دون غيره سرا وعلانية, يخاف أن يكون عاصيا له ومخالفا لأمره ونهيه ويخشى عقابه وأن يخسر رضاه. وبهذه الصورة يصبح الانسان كاسب المال الحلال غير متكبر ولا فخور وغير خائض في المساوىء والسيئات من أنواع المحرمات من مأكل ومشرب وملبس ومسكن, ولا ميسر ولا قمار, فيكون الانسان المسلم رجلا عادلا منصفا معتدلا متوازنا. فإننا نرى في أيامنا أن التفخم المالي لاينتج إلا بالكسب الحرام. وذلك يكون بأسباب نذكر منها سببين مهمين :

الأول : التعاطي بالربا. فإن البلدان التي تستند فيها المعاملة التجارية والاقتصادية على الربا والبنوك الربوية تكون المداولة المالية فيها من غير رصيد حقيقي في كثير من الاحيان. والمعاملة تعتمد على الأوراق غير النقدية الحقيقية التي ليس لها بديل رصدي, وهى تزيد في تضخم المداولة باضعاف لأن الرصيد المخيل يعتبر حقيقيا والمعاملة تعتمد على الأوراق غير النقدية الحقيقية التي ليس لها بديل رصدي, وهى تزيد تضخم المداولة باضعاف مضاعفة. لأن الرصيد المخيل يعتبر حقيقيا وينفذ أثره في الواقع الفعلي. والرجل الذي يستدين من البنك الربوي, ينبغي عليه أن يربح أكثر مما هو مشروع له ومعتاد في السوق حتى يقتسم الربح مع البنك ويبقى ربحه غير منقوص. وهو لايرضي اقتسام ربحه المشروع لأنه يرى أن ربحه ينقص مما إذا كان صاحب رأس المال. وحب المال في الانسان يجعله يكتسب ثروة طائلة بدفعة واحدة تحت ضغط اسباب مختلفة, خاصة لاستغلال الأزمات الاقتصادية, إذا لم يكن عنده وازع معنوي.

والسبب الثاني : له ناحيتان : ناحية تزييد أرباب الأموال والمنتجات أرباح المنتوجات والمحصولات استنادا على أسباب مصطنعة غير مشروعة. والناحية الثانية : عدم اعطاء حق العمل حسب الأرباح المرتفعة. وبذلك يزيد ربح المنتوجات والمحصولات اضعافا مضاعفة. وتزيد اثمان المنتوجات في الأسواق وأثمان الامتعة الضرورية من مأكل وملبس, ويدفع هذا الغنى المترف الذى يكسب ثروته الطائلة دون كدّ وعناء من الحرام إلى أن يشتري مايحتاجه, وما لايحتاجه إلا للترف لارضاء رغباته واشباع شهواته للتكبر والتعالي بثمن اصطناعي زائد على ماهو معروف ومعتاد في السوق ليقال إنه اشترى بكذا في الثمن. واشتراؤه الامتعة من السوق بالغلاء الفاحش, يسبب الغلاء الفاحش بصورتين : بالانتاج وبالاستهلاك أو بالبيع والشراء لأنه يبيع بالغبن الفاحش ويشتري بالغبن الفاحش. ولا يبالي بالشراء بالغلاء الفاحش, لأن الربح الزائد سيرجع إليه في آخر الأمر كارباب لتنمية الأموال وتزاييد المنتوجات. ويزيد ذلك الغنى غناء والفقير فقرا.

وهذا ينتج من عدم اكتراثه وعدم التزامه بالتربية المالية الفردية في الشريعة الإِسلامية للكسب والصرف والانفاق. لأن الأسواق والأموال والأمتعة أصبحت على معيار واحد وعلى مستوى واحد ( ستاندارد Standard). إذا بيع أى واحد منها في السوق بثمن معيارا للافراد الأخرى للجنى من المبيع نفسه, لأن المعاملة تسمع في السوق بسرعة. وأصبحت الاثمان والاسواق مثل الاواني المتصلة ترتفع الاثمان بحيل مختلفة وبسرعة هائلة. وأرباب الثروات واصحاب المعامل والمنتوجات يكسبون المال الحرام مرتين : مرة بالبيع الفاحش ومرة بالشراء بالغبن الفاحش. وهذا هو حال المترفين المفسدين التجارة والعابثين في الأرض.

وأما إذا كان الكسب من الحلال وفيه قيود وشروط مشروعة واخلاقية, فلا يتسنى لرب المال الربح الفائض ولا الغبن الفاحش لا بالبيع ولا بالشراء. وهذا لا يسبب التضخم المالي ولا يسبب زيادة الاثمان بتنمية الأموال بصورة غالبة ولا يربح اضعافا مضاعفة, ولا يصرف ماله الذى اكتسبه من الحلال بجهد وتعب وعرق الجبين, بصورة عشوائية ولا يبذره تبذيرا غير شرعي. وحسب قاعدة العرض والطلب يبقى المال في السوق ينتظر الزبائن للبيع وبذلك يحصل المطلوب وهو عدم ارتفاع الاسعار الذى يعوق التضخم المالي.

فإنه لايمكن كبح جماح التضخم المالي وإصلاح الأزمات الاقتصادية إلا بتربية الافراد تربية مالية تيتند على القيم المعنوية والاخلاقية وهى مرتبطة بالتوازن والتكافل الاجتماعي لبن أفراد الجماعة وهى بدورها النظام السياسي والاداري. وهى كلها مثل الأوني المتصلة والمتحدة, وكل مافي الآخر من نقص أو كمال يسري ويجري إلى الأواني الأخرى ويستوى فيها النقص والكمال في كل مؤسسة اجتماعية وادارية وسياسية. ولكن الأهم والأساس الذى ينبغي أن يبدأ باصلاحه هو المال وكسبه بالحلال كما سبق أن بينا من نفوذ على العلاقات الانسانية والاجتماعية. وهو اس الأسس وعمدة العمد في قبول العبادات كلها, الصلاة والصوم والحج في جملتها.

وقبل أن انتقل إلى الدولة في التربية المالية والسياسية المالية, أحب أن اقتبس بعض الكلمات الموافقة والمؤيدة لرأينا ولأقوالنا من الشيخ محمد باقر الصدر حيث يُربط الاقتصاد في الإِسلام إلى الاخلاق وإلى العقيدة. ولاشك أن الأمر متفق عليه بين المثقفين المسلمين ولايظن أنه يختلف فيه أحد منهم.

(( فالاقتصاد الإِسلامي اقتصاد واقعي واخلاقي معا. لأنه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات التي تنسجم مع واقع الانسانية بطبيعتها ونوازعها وخصائصها العامة. ويحاول أن لايرهق الانسانية في حسابه التشريعي ولا يحلق بها في أجواء خيالية عالية فوق طاقاتها وامكاناتها ))(14).

(( وأما الصفة الاخلاقية فإن الإِسلام لايستمد غاياته التى يسعى إلى تحقيقها في حياة المجتمع الاقتصادية في ظروف مادية وشروط طبيعية مستقلة عن الانسان نفسه .. إن الإِسلام يهتم بالعمل النفسي, خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق أهدافه وغاياته. ولا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب, وإنما يعني بوحه خاص بمزج العامل النفسي والذاتي. فقد يؤخذ من الغنى مال لاشباع الفقير ويتأتى بذلك للفقير أن يشبع حاجاته. وتوجد بذلك الغاية الموضوعية التي يتوخاها الاقتصاد الإِسلامي من وراء مبدأ التكافل. ولكن هذا ليس هو كل المسألة في حساب الإِسلام.  لأن هذه الطريقة قد تعني مجرد استعمال القوة في انتزاع ضريبة من الأغنياء لكفالة الفقراء. وإن كفى هذا في تحقيق الجانب الموضوعي من المسألة إلى إشباع الفقير ولكن الإِسلام لايقر ذلك مادامت طريقة تحقيق التكافل مجردة عن الدافع الخلقي, والعامل الخير في نفس الغنى. ولأجل ذلك تدخل الإِسلام وجعل من الفرائض المالية عبادات شرعية يجب أن تنبع عن دافع نفسي نَيّر بدفع الانسان إلى المساهمة في تحقيق غايات الاقتصاد الإِسلامي بشكل واع مقصود طالبا بذلك رضا الله تعالى والقرب منه)) (15).

التربية المالية للدولة

وأما التربية المالية للدولة فإنها مهمة كذلك. لأن الدوله حاكمة ومسيطرة اداريا وسياسيا, تشريعيا وتنفيذيا واجرائيا على تربية الأفراد وتدبير شئون المجتمع. والإِسلام أعطى عناية كبيرة بالسياسة المالية للفرد بارشاده إلى كيفية الكسب الحلال والربح المشروع ثم إلى كيفية التصرف فيه. لأن المال ينبغي أن يكون من الكسب الحلال وأن يصرف كذلك في الحلال والأمور المشروعة, يعني ذلك أن الكسب الحلال ليس كافيا, وإنما الصرف أيضا يجب أن يكون في الأمور المشروعة.

وكذلك الدولة فعليها إلى تكسب المال وأن تجمعه من الناس بصورة مشروعة وأن تصرفها في الشئون المشروعة. وإن كانت الدولة غاشمة وظالمة في تصرفاتها في معاملة الناس, نظرت إلى الناس كخدم عادي لها لاشباع شهواتها كغاية قصوى, وجعلت الملكية نفسها فقط دون افراد الشعب بادعاء الملكية مشاعة بين الناس وترى نفسها ممثلة لعامة الشعب, فتصير الدولة هى الغاية في كل شىء ولا تتخذ اسعاد افراد الشعب غاية لها ولا تسعى لذلك أيضا. ولا شك أن ذلك يخالفا الطبيعة الانسانية. لأن الانسان يريد الذاتية لنفسه, والدولة أن تكون محافظة على شخصيته وهويته الفطرية. أو الدولة تعطي حق الملكية لجميع افراد الشعب قانونا ولكن بالاتفاق مع الأثرياء في ادارة الدولة والمجتمع وفقا لمصالحهما يضيق على الافراد العاديين استعمال حرياتهم في الكسب والتصرف. الدولة هنا تشبع حاجاتها مع جماعة وطائفة من الناس ويبقى الفرد العادي عاجزا عن رفع مستواه المعيشي والاجتماعي.

وفي الحقيقة أن الدولة تنظيم اجتماعي يهدف إلى تحديد العلاقة بين الفئات أو الطبقات الاجتماعية الحاكمة, والطبقات والفئات الاجتماعية المحكومة. هذا التنظيم يظهر مع بداية التناقض بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة(16).

وأنه من الضروري الواجب على الدولة إزالة هذا التناقض والتوفيق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة. وهذا التوازن والتعادل ينبغي أن يكون مثل العادل بين اعدال الحمولة على الدابة. إذا رجح أحد الطرفين على الآخر لا تستطيع الدابة السير وكذلك الحمولة على الزورق إذا وضعت الحمولة على إحدى الجانبين فقط يغرق الزورق. وعلى الدولة المحافظة على الدولة ولكن المصلحة الخاصة تتخذ اساسا وتبدأ منه وتبني عليه المصلحة العامة, والمصلحة الخاصة هى الحجر الاساسي والمصلحة العامة بناء عليه, ومن دون أن يكون أساس لايصير هناك بناء.

نود أن نشير هنا إلى ثلاث كلمات مصطلحة عليها بين الماليين في تسمية أنواع الدول في العصور الأخيرة.

أ ـــ الدولة الحارسة : انحصر دور الدولة في الحياة الاقتصادية واقتصر على تهيئة الاطار العام الذى يمكّن الافراد من ممارسة نشاطهم الخاص بحرية تكاد تكون تامة ويمتنع على الدولة التدخل في الحياة الاقتصادية والاجتماعية تاركة الأفراد احرارا في معاملاتهم الاقتصادية والاجتماعية. ذلك بأعتبارات كل فرد في سعيه لتحقيق صالحه الخاص يسعى في نفس الوقت لتحقيق الصالح العام(17). ففي الدولة الحارسة الحفاظ على الأوضاع الاجتماعية القائمة وضمان سيادة طبقة الرأسماليين الافراد يمثلان هدفا اجتماعيا رئيسيا يساهم النظام الماليين الافراد يمثلان هدفا اجتماعيا رئيسيا يساهم النظام المالي في تحقيقهما, يعني أن لا يكون لها اغراض فير مالية(18). وهذا النوع من الدولة يمثلها كثير من البلدان المتقدمة والنامية. وتحاول الدولة أن تجعل الرأسماليين ينمون ثرواتهم ليساعدوا على تقدم البلاد ورقيها بإنشاء المنشآت والمصانع. وتترك الطبقة الوسطى والسفلى تدبران شئونها خلال الحقوق المتاحة لهم في القوانين.

ب ــ الدولة المتدخلة : تتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية بقصد التخفيف من حدة الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد(19). أهم الأهداف الاجتماعية للدولة المتدخلة هو ضمان التوازن الاجتماعي. وذلك إلى جانب ضمان التوازن الاقتصادي. وضمان التوازن الاجتماعي يتمثل في التأثير على كيفية توزيع الدخل القومي بين الطبقات المختلفة بما يضمن ارتفاع مستوى معيشة الطبقات ذات الدخول المحدودة(20).

فإنه من الممكن أن يلاحظ أن الدولة الإِسلامية تتمثل بهذ الدولة المتدخلة حيث تعترف بالملكية الفردية وفي نفس الوقت تتدخل الدولة في الأمور الاقتصادية والاجتماعية للتكافل والتوازن لتحقيق العدالة الاجتماعية بين افراد المجتمع.

والدولة الإِسلامية لها وظيفتان ماليتان : المراقبة على تطبيق الأحكام الشرعية المتعلقة بالأمور المالية من التجارة والاقتصاد وتنظيم علاقات المسلمين بعضهم مع بعض حسب الأحكام الشرعية المتعلقة بالملكية الفردية وقواعد النظام الاخلاقي الإِسلامي. وهذا بالنسبة إلى ملكية الافراد ومراقبة تصرفاتهم المالية والتجارية حتى لاتترك الفقراء والمعوزين تحت مرحمة الاغنياء.

وأما وظيفتها الثانية فهى تتعلق بملكية الدولة نيابة عن الجماعة أو عن الله تعالى. فهى ملكية عامة تحيط بملكية الأفراد العقارية وبما تحكم بها الدولة داخل حدودها الجغرافية وخارج حدودها. لأنها هى الحاكمة وهى مسئولة عن العدالة في المجتمع ونظام الناس وحضورهم وسكينتهم. وعلى ذلك ينبغي أن تكون لها مصادرها المالية حاضرة ومتهيئة تحت يدها في كل وقت لتتصرف فيها وقت الحاجة ويمكن ارجاعها إلى مصدرين اصليين : الأول : ماتجبيه الدولة من أموال الأفراد كضريبة أو زكاة.

الثاني : استثمار الدولة الأملاك العامة مباشرة وغير مباشرة. وبذلك يكون تدخل الدولة في الأمور الاقتصادية بشكلين : حق مراقبة الاملاك الفردية والاشراف عليها لعدم تفادي بعضها على بعض. وحق الامتلاك في المرافق العامة للدولة وتنمية املاك الدولة مباشرة كما وقع في تنمية ابل الزكاة, وغير مباشرة كأرض الرافدين.

والتفصيل في هذا الموضوع خارج عن موضوع بحثنا. لأننا نبحث عن النظام الاخلاقي وهو يعتبر نظاما عاما وشاملا. وإنما نعطي بعض الأمثلة من المسائل الجزئية للتنبيه اليها والاستفادة منها في الايضاح لا للبحث فيها. والنظام الاخلاقي له مبادىء وأحكام عامة وشاملة وهى تهدف إلى التعميم. ولا يستقصى المسائل الجزئية والفردية, ينطبق عليها مرة ولا ينطبق على بعض الجزئيات في المستقبل. والشرط فيه أنه ينطبق على من يتصف بها ولا ينطبق على من لايتصف بها. وهذا لايضر مبادىء النظام الاخلاقي بأنها عامة وشاملة.

ج ـــ الدولة المنتجة في النظام الاشتراكي : فعاليتها تتلخص في الملكية الجماعية لوسائل الانتاج بدلا عن الملكية الخاصة. وأن سير الاقتصاد فيها يتم وفقا لنظام التخطيط الشامل. وأن القرارات مركزية من السلطات المشرفة على وضع الخطة. ولكى تتمكن الدولة من اتخاذ مثل هذه القرارات يتعين أن يكون لها السيطرة الفعلية على موارد الجماعة البشرية والانتاجية. وهذه السيطرة تتوفر لها عن طريق الملكية الجماعية مسئولة عن النشاط الاقتصادي في مجموعة(21). وفي الدولة الاشتراكية يتمثل الغرض الاجتماعي الرئيسي للدولة في القضاء على الملكية الفردية لوسائل الانتاج(22).

وهذه هى الدولة المنتجة التي تشرف على جميع الموارد والمنتجات الشعبية والقومية وهى تتصرف فيها كيف تشاء. ولا حق للافراد في الانتاج الحر. وأنها أى هذه الدولة المنتجة تدعى بأنها تجعل الناس سعداء والشعب سعيدا بتصرفات الدولة في كل شئون المجتمع وتدخلها فى كل إرادة الناس وحرياتهم وحركاتهم وسكناتهم, وافساد اخلاق الناس باغراء بعضهم على بعض ووضع الناس في ريبة وقلق نفسي وفكري على مستقبلهم وحياتهم.

فإن الدولة أى دولة كانت, عبارة عن قلة قليلة من الناس والأشخاص الذين توظفوا في الشئون الادارية الرسمية والأمور السياسية بأسباب وغايات مختلفة. فإنهم جزء ضئيل بالنسبة إلى الشعب وإلى أفراد الناس. ولكن كل الأمور ومقاليد الحكومة والدولة وشئون الحياة كلها بأيديهم. إذا صلحوا صلح الشعب كله وإذا فسدوا فسد الشعب وشقى. وإذا اعتبر القائمون بالأمور الادارية الدولة كجمعية تعاونية أو شركة تجارية وهى توزع الثروات على الناس وتسيطر على مقدرات الشعب وتتصرف في أموال الناس وممتلكاتهم وأعمالهم من المأكل والمشرب والملبس كما يرغبون ويشاءون بادعائها المحافظة على المساواة بين الناس وأفراد الأمة دون تمييز بين قدرات الأشخاص ومهاراتهم ومجالاتهم الفكرية والعملية وميولهم ورغباتهم, فلا يشك أحد أن مثل هذا التصرف في أفراد الأمة لايجعلها إلا تعسة وقلقة.

وأما بالنسبة لبعض الدول فإننا نرى أن هناك طائفتين من الناس في الأمة الواحدة. طائفة أخرى من الشعب وهم أغنياء يملكون ثروات عظيمة, وأمور الدولة والشعب بأيديهم من التجارة والشئون الاقتصادية والمالية, وتتفق مع الدولة وتشاركها وتعاهد معها للأمور التجارية والصناعية والاقتصادية والمالية وهما تتصرفان في أمور الشعب كيف تشاءان وترغبان. وإن كان يظن أن للشعب حرية في أعماله وتصرفاته, إلا أنه لا يملك سلطة ولاثروة إلا قوت يومه, وذلك بصعوبة جدا. وكأن هذه الدولة والحكومة شرطى الحفظ أموال الأغنياء والأثرياء ولحفظ ثرواتهم. ومقابل ذلك تشبع هذه الطائقة من الأغنياء رغبات رجال الدولة. وهكذا تتبادلان العلاقات الودية وتتعاوضان الأعمال والمنافع. وهذان التصويران لفلسفة بعض الدول المتقدمة والنامية والمتطورة بصورة موجزة جدا, لما يعيشه الناس ونشاهده نحن في زماننا بين القطبين المتطرفين في تصرف الدولة ومعاملة الحكومة.

والدولة تكون فاضلة باسعادها الرعية. وسعادة الرعية تتوقف على معاملتهم بالعدل والانصاف وتلبية رغباتهم الطبيعية المشروعة بصورة مشروعة, ونشر الثقة والمحبة واحترام الحقوق الانسانية بين افراد البيئة الاجتماعية. وبذلك تتحقق السعادة الاجتماعية والفردية. وذلك يمكن بالتوزن الاجتماعي. فإن قضية التوازن الاجتماعي تتعلق بمفاهيم العدالة الاجتماعية, وتقليل الفوارق بين الطبقات وإزالتها, كما أن بعض الماليين يقولون إن الموازنة تسهم في العدالة الاجتماعية. باقتطاعخا جزءاً من مداخيل الأغنياء فتنفقه على غير الميسورين عن طرق مختلفة(23). وكذلك يعتبر العلماء المال الحديثون أن القضايا المالية جزء لا يتجزأ من الحياة الاقتصادية والاجتماعية. فإن التوازن المالي لايمكن فصله عن التوازن الاقتصادي(24). وهما معا يؤسسان العدالة الاجتماعية التي تشرف عليها الدولة الفاضلة وتتصرف فيهما لسعادة الرعية والأمة للمحافظة على التعادل والتوازن بين متطلبات الأفراد الطبيعية الحقة لهم وبين متلبيات المصالح العامة للدولة والمجتمع. وهذه الدولة دولة مثالية إسلامية أو ينبغي أن تكون هى الدولة الإِسلامية.

وعلى ذلك جاء أمر الله تعالى لأولى الأمر ورجال الدولة من الناحية المالية وهى التي تسميها التربية المالية الاخلاقية التي تتبعها الدولة الفاضلة في إيجاد التوازن والتكافل والتعادل بين أفراد الأمة باتباع أوامر الله رب العالمين, وانفاذ أحكامه الملبية لمتطلبات حياة الانسان فردا وحيدا, وعضوا في جماعة البيئة لأن الله هو الذى خلقه وهو يعلم من خلق وهو أرحم الراحمين له, من غيرة. فإن أحكامه الآلهيه موافقة وملائمة لطبيعة الانسان وفطرته ولا يعلمه ولا يخذله بتركه إلى مرحمة الدولة ولا إلى مرحمة الأغنياء وأصحاب الثروات. وإنما هو وضع نظاما لأموره وتدبير شئونه الحياتية والمعيشية من مالية واقتصادية واجتماعية وسياسية وادارية وغيرها.

قال الله تعالى في الأمور المالية :

( قل اللهم مالكَ الملك تُؤتي الملكَ مَن تشاءُ وتنزعُ الملك ممن تشاء, وتُعز من تشاء وتذل من تشاء بيَدكَ الخير إنّك على كل شىء قدير)(25).

( واللهُ فضل بعضَكم على بعضٍ في الرّزق. فما الذين فُضَّلوا بِرَادِّى رزقهِم على ماملكتْ أيمانُهُم فَهُم فيه سَواء) (26).

فإن هذه الآيات المذكورة اعلاه وامثالها توضح لنا على أن الملك ملك الله وهو صاحب المال الحقيقي ومالكه, وأن الرزق بيده يؤتيه من يشاء من عباده, وهو يوزع الرزق ويفرق الأموال والثروات على الناس ويفضل بعضهم على بعض في الأرزاق والأموال لحكمة آلهية وفلسفة اجتماعية ليتعاون الناس وليعين بعضهم بعضا من مال الله, ويحتسب ذلك العمل لحساب نفسه لتصرفه فيه بارادته الحرة واختياره, ويكتب الثواب والأجر لحسابه لاطاعته الله في سلوكه وانفاقه. لأن مايعطيه للمساعدة والعون يرجع عليه بأكثر وبمزيد لايتصور ولايرى بالعين مباشرة. والله تعالى خالق الخلق والناس أجمعين. وهو رمز زتعبير عن الناس وهم عياله كما قال العلماء حق الله هو حق الخلق كلهم, وحقوق الله عبارة عن الحقوق العامة. والدولة تحافظ على الحقوق العامة وهى مسئولة عنها. إذا لم يكن الخلق موجودا وكان الانسان فردا واحدا لايتحقق المجتمع ولا تكون هناك البيئة الاجتماعية ولا يتشكل معنى الثروة ولا تتكون مفاهيم النقد والفلوس ولا مدرك للمال. وإذا كان مفهوم المال ينشأ من وجود المجتمع, فحينئذ للمجتمع حق لتكوّن مفهوم المال وهو سبب له ولتموله وتملكه حيث يكون للمال قيمة اجتماعية.

ومن دون ذلك المجتمع لايكون الانسان صاحب مال ولا مالك نقود من ذهب وفضة. وأفضل مثال لذلك قصة ربنسون كروزو في جزيرة منعزلة عن الناس. كان يعيش فيها وحده وما كان يحتاج إلى المال وما كان عنده مفهوم المال أيضا. ولم يكن عنده معنى للغنى والفقر. والغنى محتاج إلى المجتمع ليصبح غنيا ويعد من أصحاب الأموال. وعلى ذلك, فكل فرد من أفراد البيئة الاجتماعية من زمن ومريض, وطفل وطفلة وشيخ كبير وعجوز وشاب وكهل وفتى وفتاة له دخل في كسب الغنى المال واكتسابه لأن هؤلاء يكوّنون المجتمع, وهم يستعملون البضائع والمنتجات والمحصولات التي ينتجها أصحاب المعامل ويستحصلها أرباب المصانع. وهم يبيعون وأولئك افراد الناس والشعب يشترون ويستهلكون الأموال ويصرفونها ويتبادلون بها إلا فلا مجتمع ولا معنى للذهب والفضة والزينة. وإذا كان الانسان غارقا في معادن الذهب والفضة ولا يوجد بجنبه أى واحد من الناس فما الفرق عنده بين التراب والذهب ؟ فحينئذ الذهب له قيمة اجتماعية. وهذا يظهر جليا اثناء الحروب, إذا نقصت المأكولات من السوق ولاينفع الذهب ولايؤكل لأنه للتبادل والمقايضة والتعويض, وإذا لايجد الانسان مايتبادل به سواء وجد الذهب أم لم يوجد فلا فرق بين وجوده وعدمه.

ولذلك أضاف الله تعالى المال إلى نفسه وهو صاحبه ومالكه الحقيقب لأنه هو خالقه وخالق الناس. فإن المال وكاسبه مخلوقان له ولذلك له الأمر والنهى في كيفية التصرف والناس كلهم عياله وجعل بعض الناس أغنياء والبعض الآخر فقراء ليكون التبادل والتعارف والتحابب والتجارب والافادة والاستفادة. ويكون في المجتمع حركة مستمرة ودائمة لأن الحركة حياة والحياة حركة. ومن دون الحركة لاتظهر علامة الحياة بأى نوع كان نباتيا أو حيوانيا, أو انسانيا. والجمود موت, والموت جمود. وإذا كان الناس أغنياء أو فقراء تقف الحياة والحركة وتقوم القيامة لعدم الحياة الحركية والاجتماعية. وهذه الحركه من أسباب رقى الأمم وتقدمهم ثم بوقوفها انهيارهم وانخطاطهم.

وعلى اقتضاء حكمة الله خلق الناس فقراء وأغنياء. فإنه تعالى لم تَرْضَ مشيئته أن يكون هناك فقر مدقع لايجد الانسان مايسد به رمقه وتقع معيشته تحت مستوى المعيشة الانسانية وأن يكون غنى شحيح مثل قارون لايبالي بالمجتمع وهو أحوج إليه مما يحتاج المجتمع إليه. واقتضت حكمة الله تعالى كذلك أن يحافظ على التعادل بين حقوق الناس والتوازن بين افراد الشعب بأن بين أن للفقراء حقا معلوما في أموال الأغنياء وثرواتهم ولم يترك الفقراء على مرحمة الاثرياء وعلى شفقة اصحاب الأموال لأن الناس على طينة واحدة كما أوضحه تعالى في أثناء خلقه بحيث وضع في خلقة الانسان الهلع والميل الشديد للمال ولا يشبع بحال, إذا لم يرب تربية إسلامية سليمة. وجعل الله عز وجل هذا الحق عقيدة وأرسخها في ذهن المؤمن به وأنبته في قلبه واعتبر ايفاءه تزكية النفس الجائشة الطائشة وتنقيتها عن الطموحات والاحتراصات القاتلة وعن الجشع السام لحيوية الانسان كى يكون عاقلا مفكرا ذا حكمة مدبرة وصالحا لخلافته لحماية نظامه تعالى آمراً نبيه عليه السلام وهو ممثل لرئيس الدولة ورمز لها فكرا واعتقادا ونظريا ولرئيس الحكومة كذلك. في الاعصار القادمة الإِسلامية والبشرية جميعا.

قال الله تعالى :

( خُذْ مِن أموالهِمِ صدقةً تُظهرهم وتزكِيهم بها وَصَل عليهِم إن صلاتك سكنُ لهم )(27).

(كَما أرْسلنا فِيكم رسولاً منْكُم يتلُو عليكُم آياتِنا ويزَكِيُكم )(28).

( والذين في أموالهم حقُّ معلُوم للسَائل والمحروم )(29).

هذه الآيات تدل على أن الصدقة لها علاقة بالعقيدة والايمان بالتصدق القبلي والاطمئنان به وكذلك الايمان بأت اعطاء الصدقة يطهر الانسان من الاخلاق السيئة ومن سوء الشائعة ويخلصه من أن يقع في الحرام والمنكر, ويزكيه عن الشح والبخل والجشع والحرص الشديد على ازدياد ماله وتنميته دون حساب بلا قيد ولاشرط.

وهذه الآيات تخاطب الرسول ــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ كرئيس للجماعة والدولة لأن يتدخل في أموال الناس لتزكية أموالهم وتنقيتها عن اختلاطها بحق الآخرين والفقراء. هذا من الناحية المادية. وكذلك تزكيها من أعين الفقراء ونظرتهم إليها بعين السوء والغضب. وقلب غيظ الفقراء إلى المودة والأخوة والمحبة الصادقة.

وأرى أنه من المناسب أن اذكر هنا علاقة الايمان بالاعمال. فإن في الدين الإِسلامي مبادىء وأحكاما تتعلق بالعقيدة والايمان وأخرى تتعلق بالأعمال البدنية. والأولى ليس لها ناحية عملية وإنما لها ناحية اعتقادية وإيمانية. والثاني, الاحكام اعلمية, فيظن أنها عملية فقط, إذا قام بها الانسان فنعم. وأما إذا اقتصر في ادائها فإنه يكون آثما وعاصيا في الأحكام العلمية. وفي الحقيقة فإن الأحكام العلمية لها ناحيتان : ناحية تتعلق بالعقيدو والايمان بها على أنها أحكام آلهية شرعية ومطلوب ايفاؤها في المكلفين, وناحية تتعلق بالقيام بها والعمل بما ينبغي. والناحية العقدية فيها لحث الانسان وتشويقه على العمل. ولذلك كل حكم عملي في الإِسلام له علاقة بالايمان وفي نفس الوقت بالاخلاق الاسلامية ولا فاصله بين الاحكام العملية والاخلاقية من جهة ربطها بالعقيدة.

وأما العمل بها فهو ينقسم إلى أصناف من الأحكام مثل الفرض والواجب والسنة على الفرد والشخص, وعلى أولى الأمر والدولة في الأمور الاجتماعية إقامة الأحكام العملية في البيئة الاجتماعية وهى داخلة في العقيدة كذلك.

وإذا أدى الانسان مايجب عليه دينا ورضا منه يكون محبوبا عند الله لاتباع أوامره ومحبوبا عند الناس لتقديمة المساعدة المالية إليهم عن عقيدة سليمة يُرضىِ الله ويرضى الناس , ويرضى عنه الله والناس, وتسود المحبة والآخاء والسرور في أفراد الأمة. وذلك يحقق السعادة الاجتماعية العامة اللأمة جميعا. لأن الدولة لها الحكم والسيطرة على البيئة الاجتماعية وشئونها المشتركة ولها الحق التدخل في أمور الناس التي تتعلق بالأمور الاجتماعية على حدود الشريعة الإِسلامية في أموال الأغنياء وثرواتهم للمحافظة على التوازن والرقابة على مستوى معيشة الناس بصورة مناسبة لائقة للحقوق الانسانية لاقامة أوامر الله واجراء أحكامه التى يجب على كل مكلف أن يقوم بها حسب قدرته المكافئة المقدرة له. وتساعد الدولة على ذلك بانفاذ الأوامر الآلهية المتعلقة بالمال وهى تربية الدولة المالية.

وأما استعمال الله تعالى كلمة الحق معلنا ومقررا أن في أموال الاغنياء حقا معلوما للسائلين والمحرومين والمعوزين, فإن كلمة الحق مهمة جدا فإنه طيب وأطيب طيبات, لأنه حق. والحق واجب الاتباع وواجب اداؤه على الاغنياء .. احب على أولى الأمر أخذه منهم وتسليم إلى صاحبه وهو أمر يتعلق بالمجتمع. ولكن الفقراء لاحق لهم بمس يدهم حقهم ولمسهم أياة قبل أن يسلم اليهم. ولم يعط الحق والصلاحية في أخذ حقهم بأنفسهم من الأغنياء وهو أمر للدولة أو لأمر أصحاب المال. واعطاء الحق لصاحبه ليس احسانا من الأغنياء ولا تفضلا يتعالون به على الناس الفقراء. وإذا أعطوه عن رضا واخلاص فيثابون من الله تعالى. وبما أنه حق للفقير فهو حلال له كأنه من كسب يده ولا يعتبر أخذه وتسلمه تنقيصا في شرفه ولا نقصا في حقوقه الانسانية لاحقارة هناك ولا تحقير. والغنى وصاحب المال الكثير الذى يترتب عليه ايتاء الصدقة والزكاة والحق, إذا لم يؤد واجبه ولم يعط حق الآخرين فإنه يصبح من الذين يخلطون أموالهم الآخرين دون رضاهم وهو حرام عليه أكله والتصرف لحساب نفسه. وتزكية أموال المؤسرين بأخذ الصدقة ومايجب عليهم اعطاؤه : هى إخراج قسم المال الحرام عن تصرفهم وهو حق الآخرين. لأن المال بنفسه حق طيب وحلال, ولكن إذا تعلق به حق الآخرين أصبح حراما. والخرام هنا بالنسبة والتعلق وليس حراما ذاتيا ومطلقا. والمال حق لواحد وحرام على الآخر.

وإذا عرّف الانسان بأنه حيوان اخلاقي والأوصاف الاخلاقية كلها ارادية فيكون كل افعال الانسان وحركاته وسكناته الارادية تابعة للاخلاق. والاخلاق تشمل كا ذلك سواء كانت الأفعال والأعمال سياسية, أو ارادية, أو علمية, أو اجتماعية, أو اقتصادية أو مالية أو تربوية. وإذا ربى الانسان تربية اخلاقية, فإن يصبح قدوة طيبة حسنة ذا قدرة وسيطرة على طموحاته وميوله وغرائزه ولايضر باتلآخرين ولا يتضرر بهم ويكون سعيدا والمجتمع الذى يتكون من أمثاله يكون مجتمعا سعيدا.

والاخلاق المذمومة عند كل واحد من المفكرين. والاخلاق الحسنة حسنة عند كل واحد منهم. ولا يمكن للانسان أن يرى مفكرا يذم الاخلاق الحسنة. وهذا متفق عليه بين العقلاء. وهو لايناقض اختلافهم في تعريف الاخلاق المذمومة والاخلاق الحسنة. ولا يناقض كذلك أن يرى الانسان من المفكرين من يخالف قواعد الاخلاق الحسنة المشتركة العامة بين العقلاء باصطناع سبب أو احتيال منه. وهذا الطور والفعل لايجيز له التغيير في قواعد الاخلاق الحسنة ولا يقبله العقلاء ولا يعتبرون اصطناعه أخلاقيا.

والرجل ذو الخلق الممدوح يكون في كل وقت مطمئن القلب ومستيح البال. وهذا يكفيه سعادة. وهو لايكذب ولا ينافق ولايخون. كما أن من أهم قواعد الاخلاق الحسنة تطابق القول مع العمل أو الفعل. وإذا لم يكن بينهما تطابق يصبح الانسان إما كاذبا أو منافقا أو خائنا. فعدم التطابق يخل بالاخلاق الحسنة. وكما قال الشاعر في نسبته إلى العار والفعل والمشين :

لاتنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

ويكون غضبا عند الله تعالى كما في قوله جل شأنه :( كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون )(30). ولذلك يجب علينا أن نهتم بالاخلاق في الأمور المالية والاقتصادية فردا وجماعة ودولة. ولا يستند عليها ولا يبنى الشئون المالية والاقتصادية على أسس اخلاقية فلا يكون سعيدا بمشاهدتنا الشعوب الحاضرة وشعبونا الإِسلامية لأن الشعب يبنى من ناحية ويخرب من ناحية.

وعندما ننظر إلى القرآن الكريم وهو يصف النبى ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ ( وإنك لعلى خلق عظيم) (31). لانجد هذا الوصف وصف به الانبياء السابقون غي القرآن اكريم ولهم صفات ممدوحة أخرى إلا أن الخلق يشمل كل تلك الصفات والنبى أصبح موصوفا بها باتصافه بالخلق العظيم؟ ولذلك قال النبى ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ (( إنما بعثت لأتمم صالحى الاخلاق ))(32).

ولقد ادرك هذه الحقيقة اكثم بن صيفى أحد حكماء العرب الذى قال عندما دعا قومه إلى الإِسلام : إن الذى يدعو اليه محمد, لو لم يكن دينا لكان في اخلاق الناس حسنا(33). ألم يقل الرسول : خيركم إسلاما احسنكم اخلاقا إذا فقهوا(34) وكان الرسول يقول : خياركم, أحسنكم اخلاقا(35).

والباحث الاخلاقي الدكتور مقداد يالجن يقول : إن هذه التربية الاخلاقية خير وسيلة لبناء خير فرد وخير مجتمع وخير حضارة انسانية. وهذا أمر لابد منه لسلامة الحياة الاجتماعية واستقرارها أولا ثم لسعادتها ثانيا(36).

إن التربية الاخلاقية ضرورية لبناء دولة قوية منظمة يعمل موظفوها بأمانة ونزاهة فيؤدون واجباتهم كاملة لكل مواطن على السواء دون محاباه أو رشوة أو أية تفرقة أخرى.

وأن أية دولة لاتسود التربية الاخلاقية افرادها محكوم عليها بالانهيار والسقوط. وذلك نتيجة لما تصاب به الدوائر بالشلل الوظيفي لعدم اداء الموظفين وظائفهم. ولانتشار الظلم بسبب انتشار الرشوة والمحاباة والتجسس ضد مصلحة الدولة والوطن بسبب تكم الرغبات الانانية في تصرفات الموظفين. ثم إنهيار من الناحية الاقتصادية أيضا نتيجة لما يحدث فيها من الاختلاسات الظاهرة والباطنة من الأموال أو صرفها في غير وجهها أو وضعها في غير موضعها.

فإن التربية الاخلاقية ضرورية كوسيلة من الوسائل لتحقيق السعادة في الحياة الاجتماعية. وإذا زالت جميع الشرور والرذائل من النفوس وغرست بعد ذلك الروح الانسانية الخيرة يؤدي الأمر إلى انتشار الأمن والثقة والمحبة والمودة واحترام الحقوق والمشاعر الأدبية والانسانية لكل فرد في الحياة الاجتماعية ثم تسود روح الأخوة وروح التعاون في سبيل الخير والمصلحة العامة(37).

ونأتي إلى الخلاصة والنتيجة مما سبق أن قد تعرضنا لها.

والدولة بما أنها حاكمة ومسيطرة على الشعب والمجتمع لها قدرة التشريع وقوة الانفاذ واجراء ماتقرر, مسئولة تجاه ثلاثة أصناف من الناس.

أولا : الدولة مسئولة عن الموظفين في الدولة صغيرا أو كبيرا في مرتبة عالية أو مرتبة دانية. والدولة تكفل لكل موظفيها معيشتهم على المستوى يليق بأن يعتبروا موظفين ومأمورين فيها. ويجب عليها أن تحافظ على التوازن والتعادل بين الموظفين. ونشاهد الدول تعتني برجال الدولة الكبار في المراتب العالية ولا تعير بالا بالموظفين الصغار في المراتب الدانية. وكلاهما من موظفيها ومأموريها وهى تعتمد عليهم في كل أمور الدولة. تعطي الدولة سيارة خاصة وشرطيا حارسا لكبار رجال الدولة مع رواتب عالية وتخصيصات زائدة وتعطي راتبا قليلا لايسمن ولايغني من جو ولا تكفل الدولة للموظفين الصغار أجرة المواصلات للذهاب إلى الوظيفة والاياب منها مع قلقة رواتبهم لأن الرسول ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ لم يميز بين الموظفين في الدولة من صغير وكبير. ولا غرو, فلتكن الرواتب على مراتب عالية حسب أهمية الوظيفة بشرط أن تكفل لصغار المراتب من الموظفين مايكفيهم دون عناء ودون حاجة إلى الناس الاخرين. والرسول قال :

أ ـــ (( لا من ولى لنا شيئا فلم تكن له امرأة فليتزوج امرأة )).

ب ـــ (( ومن لم يكن له سكن فليتخذ سكنا )).

جـ ـــ (( ومن لم يكن له مركب فليتخذ مركبا )).

د ـــ (( ومن لم يكن له خادم فليتخذ خادما )).

ه ـــ (( فمن اتخذ سوى ذلك : كنز أو ابلا. جاء الله به يوم القيامة غالاّ أو سارقا(38).

فإنه لا حاجة في إطالة الشرح لهذا الحديث فإنه واضح, إلا أننا نشاهد الناس لاتعرف هذا الحديث أو يخالفه بعد معرفة مخالفة صريحة. كما أننا بينا آنفا أن الدولة من واجبها المحافظة على التوازن الاجتماعي والوظيفي باعطاء الرواتب المناسبة لموظفيها ومستخدميها حسب درجاتهم بشرط المحافظة على مستوى المعيشة لادنى صاحب راتب.

فالشئون الدولية والبيئية والتجارية والاقتصادية وغيرها معقدة كثيرة التنوع. والمجتمعات الانسانية تتقاسمها في الادارة والسياسة المالية الدولة والأغنياء. والدولة مسؤولة أمام الشعب عن كل شيء بصورة رسمية وقانونية. والاغنياء يضغطون على الدولة حتى في إصدار بعض القوانين لمصالحهم الخاصة. والدولة لاتقاومهم لأنها محتاجة إليهم وإلى منتوجاتهم, وهى ضغيفة. وهم غير مسؤولين عن الأزمات المالية رسميا ولا قانونيا, إلا بالضمير حسب شعورهم الديني والإِخلاقي. ولذلك السياسة المالية من الضروري أن تعتمد على النظام الاخلاقي. وينبغي أن تكون الدولة قوية على مقاومة المنافع الفردية والمصالح الدولة, وهى تشمل الأغنياء والفقراء حيث جميعا يكونون المجتمع ومعا يقيمون الدولة. وذلك لا يتحقق للدولة إلا بالموظفين المخلصين للدولة ولأعمالهم فيها, وذلك إذا كانوا راضين عن رواتبهم ومرتاحين بما تؤدي إليهم الدولة وتبادلهم الحشمة والوقار والاحترام.

وينبغي على الدولة أن تفهم هذا الحديث وأمثاله في رعايتها الشروط والظروف الموجودة الراهنة, في تطبيق الحديث بحيث تحافظ على غايته ومعناه دون انحراف في مغزاه. وهذا يكون فلسفة القرآن والدين الإِسلامي في جعل النبى ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ وتطبيقاته اسوة حسنة ليتخذ نموذجا ومثالا للتوجيه والتقويم.

فإن الدولة إذا أصدرت قانونا وشرعت تشريعا في ترتيب الموظفين وتنظيم رواتبهم فيصبح هو القانون الذي يلزم على الدولة انفاذ حرفيا. وهذا صحيح ومشروع بشرط أن يكون هذا القانون مستندا على الأسس الاخلاقية والتربية المالية للدولة للتوازن والتعادل بين الموظفين حسب درجاتهم ومقدراتهم العلمية والعملية. لأن الدولة لاتسمح لموظفيها أن ينتصفوا اليوم, حيث يشتغلون نصف يوم في شئون الدولة ونصف اليوم في اشغال أخرى للكسب والتعايش.

هنا جاء الفرق بين التشريع والنظام الاخلاقي ولكن ينبغي أن يكونا متلازمين متعادلين وملتقيين. وعلى الدولة أن تلتزم النظام الاخلاقي في عدم جعل موظفيها محتاجين في الأمور المعايشة ـــ وألا تكون أمور الدولة بيد الرعية ويلعبون في شئونها كيف يشاؤون ويفسدون الحرث والنسل معا ويسببون ضعف الدولة وانهيارها. وهذا هو ترك الأمر والادارة لأهل الترف وهم مفسدون :  ( أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) (الاسراء 16).

ب ـــ الصنف الثاني الذين تكون الدولة مسئولة عن تدبيرهم وادارة أمورهم. هم الفقراء في البيئة الاجتماعية.

وهم يعوزون إلى المساعدة المالية من قبل الادارة السياسية والحكومية. وكان من حكمة حكومة النبى ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ والخليفة من بعده أن يجبوا الصدقات والزكاة من الناس ويوزعوها على المعوزين والفقراء والمساكين وغيرهم. وبذلك التصرف الحكيم قد قطع دابر ظلم الاغنياء وتعسفهم وتكبرهم وتفاخرهم على الفقراء. لأنهم إذا كانوا يؤتون الصدقات للفقراء بأيديهم يتعالون عليهم ويتظاهرون بالسيادة والسيطرة عليهم كما نرى في أيامنا, ويجعلون الفقراء كأنهم خدم لهم.

وإن كانت ماهية الانسان وظيفته ومفسيته واحدة في الخلقة وفي الفطرة الا أن مزاياه مختلفة وميوله واغراضه متنوعة ومتنازعة ومتضاربة. واختلاف افراد الناس في هذه المزايا والخصوصيات يظهر بصورة واضحة في انقسامهم إلى صنفين وقطبين بارزين من جهة المال والثورة إلى فقير وغنى. وكأن الفقر والغنى شيئان ضروريان يقتسمهما افراد المجتمع أى مجتمع كان. لأن الناس في تكونهم الطبيعى وفي موجوديتهم الفطرية يختلفون في الخصائص والصفات النفسية والفكرية والبدنية. وفي الذكاء والفهم والحفظ, والصبر والتهور والشجاعة والعجلة وفي قوة الشكيمة والعزيمة وبعد الأمل والغاية, والخمول, والقدرة على العمل الشاق والابداع وغيرهما من الصفات والمميزات. ويقال في مثل التركي : إن الأخوة الاشقاء لايكونون متساوين, فكيف بالناس الآخرين من آباء مختلفين وأمهات مختلفات. وهذا الاختلاف ليس ناتجا عن أوضاع البيئة الاجتماعية فقط, وإن كانت هى تؤثر في ازدياد شقة الاختلافات بين الأفراد من دراسه وثقافة وتربية وتجربة ووراثة إلى غير ذلك من الأسباب المختلفة.

وبناء على هذه الاختلافات الموجودة بين أفراد الناس, فلاشك أن يكون هناك من يصير غنيا ومن يصبح فقيرا بتلك الأسباب المختلفة المكتسبة والمفطورة عليها والمبنية على مواهبهم الفطرية وامكاناتهم الخاصة, إذا وضعنا نصب أعيننا الحكم الالهى بأنه تعالى يفضل بعض الناس على بعض في الرزق, وإن كنا نراهم في بعض المزايا متساوين. ولا يمنع هذا أن يكونوا أغنياء وفقراء. ومع كل هذا ليس الفقر والغنى شيئا مطلقا لايتغير ولا يتبدل. فهما شيئان نسبيان واضافيان بالنسبة للمجتمعات واضافه أحدهما إلى الآخر في مجتمع واحد. وهناك درجات في الغنى والفقر. ولكن المهم في المجتمع أن يكون بين الفقر والغنى تناسب متلائم وتقارب وتوازم حتى لايكون بين الفقراء والأغنياء العداوة الشديدة تفسد الحياة عليهما والمجتمع معا. وأن الله تعالى خلق الانسان على حب في المال والثروة وجعل الانسان لايعيش دون ذلك, وهو جزء منه مقوم وضروري لحياته, ويحاول أن يتكلك وأن يكثر ماله ويفتخر به على الناس ويتعالى عليهم حتى يضمن حياته. وإذا تخلف عن الركب في الامتلاك واقتناء الأموال يقدح في نفسه شرارات الحسد والبغض وازاء ذلك إذا لقى جلفة أو استكبارا وغلظة عن الموسر والغنى يشتد غيظه ويجره إلى المقابلة بالمثل بالجلفة والفظة والجدال والعداوة الصريحة, ولايبقى في المجتمع استقرار ولا طمأنينة ولا سكينة.

فيجب على الدولة تدارك الأمر, وهو سبب حكمة وجودها, أن تمسك على يد الفقير والغنى معا, تأخذ من الغنى وتقطع من ماله جزءاً وهو حق الفقير بالتعبير الإِسلامي, وتعطيه للفقر للمحافظة على التوازن الاجتماعي والعدالة الاجتماعية. وبذلك يتحقق اسعاد الرعية, ويكون الغنى سعيدا مرتاحا وعلى سكينة البال والفقير كذلك يصير سعيدا باكتسابه معيشة رغدا. وهذا التدخل من الدولة على أمور الناس له أحكام ومبادىء وقواعد إسلامية مفصلة في كتب الأحاديث النبوية والفقهاء. إلا أننا نرى لزاما على العلماء المسلمين المحدثين أن لايكتفوا بأقوال الفقهاء المتقدمين وأن لايقفوا في حدودها بل إن يذهبوا إلى الأحاديث مباشرة والقرآن الكريم لتدارك المشاكل المعاصرة وحلها على أسس إسلامية. لأنهم سيجدون أحاديث صحيحة غير مستعملة وغير مدخَلة في التشريع من قبل الفقهاء السابقين, وأنها تركت للاخلاقيين. وكذلك هناك آيات مثل ذلك متروكة للاخلاق. ولذلك ينبغي على العلماء والباحثين في زماننا أن يخرجوا عن مجال الكتب الفقهية, ويتوسعوا في موضوعهم عن الثقافة الإِسلامية وأن يراجعوا مصادرها. وإن كانت أقوال الفقهاء لا تلزم العلماء للاتباع لأنهم اجتهدوا في زمانهم وظروفهم حسب مافهموا حاجات عصرهم وماعرفوا من الثقافة في وقتهم. وللفقهاء اليوم أن يستنبطوا الأحكام في الأمور السياسية والاقتصادية والادارية والعلمية والمالية والتربوية للشئون والحوادث الراهنة والمستحدثة من القرآن والسنة النبوية.

واعانة الدولة للفقراء ومساندتها في أمر معاشهم ورفع مستواهم الاجتماعي من ناحية استفادتهم من مرافق الحياة وامكانات الدولة والحقوق الاجتماعية الانسانية المتاحة لهم, تجعلهم يشعرون بأنهم أناس محترمون ولهم شخصية مشرفة بين الناس ولهم صاحب يأخذ بأيديهم. غير أن الناس يختلفون في ميولهم وطموحاتهم ويرغبون في أن يربحوا الثورة دون تعب وعناء وإذا رأوا أن الفقر يضمن لهم العيش رغدا يكسلون ولا يتبعون انفسهم للكسب والسعى للعمل والربح والتجارة. وأن الفقر يضمن لهم العيش رغدا يكسلون ولا يتعبون انفسهم للكسب والسعى للعمل والربح والتجارة. وأن الفقر له أسباب عديدة ومتنوعة من اليتم والصغر والكبر والمرض وغيرها. وأما الرجال الأصحاء وسالموا البنية والروح فيصبحون فقراء أيضا بأسباب مختلفة اجتماعية وغير اجتماعية وفقرهم يكون طارئا وينبغي على الدولة أن تحثهم على السعى وتحضهم على العمل وتقدم لهم امكانات الشغل لئلا يصبحوا كسالى وعالة على الدولة والناس كل وقت.

وعلى الدولة أن تربي الرعية فقيرا كان أو غنيا على التربية الاخلاقية الإِسلامية. وهى من أهم وظائف الدولة. وبنسبة ما تنجح الدولة في ايفاد هذه التربية تقل اعباؤها الادارية والاجتماعية والمالية ويصبح المجتمع مجتمعا متجانسا وسعيدا. وينبغي على المسلم المؤمن بالله تعالى أن يعرف أن المسلم لايكون فقيرا, لأن الفقر قريب من الكفر كما استعاذ منه الرسول ــ صّلى الله عليــه وسلم. بقوله : (( اللهم إنى أعزذ بك من الكفر والفقر ))(39) ولا يليق بالمسلم أن يكون معوزا ومحتاجا إلى الناس ولا إلى الدولة وهو يؤمن إيمانا صادقا بأنه محتاج إلى الله وحده دون غيره في كل شئون حياته ويستعينه وحده في كل أعماله. ومهما يكن مستغنيا عن الناس تصبح شخصيته الذاتية الإِسلامية اقوى. والمؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف. وإذا أكل الانسان من كسب يده فهو أحب إلى الله, فعبادته مقبولة عنده, ولا يسمح الدين الإِسلامي للمسلم أن يترك مايقدر عليه من الأعمال للكسب والسعى إلى الرزق الحلال.

فإن المسلمين في العصور المتأخرة تمسكوا ببعض مظاهر الاسلام وتركوا الباقي منها والروح الاسلامية ولا يزالون كذلك. وبذلك فقدوا أشياء كثيرة في الحياة وخسروا الدنيا والآخرة. وتكالب عليهم الأمم بعلومهم وصناعاتهم واسلحتهم وثقافاتهم واخلاقهم. وذلك سبب أزمة سياسية واقتصادية وفوضى اجتماعية لانحرافهم عن دينهم. وتخلفوا في علومهم الاسلامية والعلوم العصرية وفي الصناعة. واصبح هناك فتنة وفساد كبير في البلاد الاسلامية.

وادعى بعض دعاة الإِسلام وعلمائه أن الناس تركوا الدين. ولذلك اصابتهم هذه المصائب والفتن. ورأوا أن إصلاح الناس لايتم إلا بأجبارهم إلى إقامة الصلاة في المساجد وساقوهم إليها بالجبر والجلدة. وأحيانا بالوعظ الشديد اللهجة. واعادوا هذا مرارا في التاريخ. وظنوا أن الناس إذا صلوا وصاموا تصلح تلك الأمور التي اشتكوا منها. لأنهم لم ينتبهوا إلى أن الأوامر الالهية والنواهي الدينية ليست عبارة عن الصلاة والصوم.

وهناك أحكام شرعية تتعلق بالشئون الاقتصادية والتجارية والسياسية وغيرها. ولم يدرسوها ولم يفكروا فيها. ومن هنا جاء الفهم الخاطىء للإِسلام. وغفلوا عن أن له نظاما تجاريا واقتصاديا ونظاما اخلاقيا ونظاما سياسيا يكمل بعضها بعضا. وكلها يشكل نظاما كبيرا عالميا يشمل كل حياة الانسان من المهد إلى اللحد والمجتمعات البشرية.

والنظام الاخلاقي الصحيح يبنى على الأسس السليمة ويستند على الحرية والتصرف بحرية كاملة. وإن كان الانسان فقيرا وجائعا يكون عاجزا ولا يستطيع أن يقوم بعمل بحرية كاملة ولا بالعبادات المرسومة الفردية كما ينبغي. فإن اخلاقه تكون سلبية. لأنه عاجز أن يأخذ حقه من الآخرين أو يدفع عنه ويخاف سلطتهم وبسطهم إذ خالف النظام الراهن. واخلاقة تلك تعتبر اضطرارية وجبرية لأن تمسكه بالنظام الاخلاقي السائد ليس عن رضى منه. واخلاقه في الظاهر والشكل فقط. اليست الدول الضعيفة كذلك.

وأما الإِسلام فقد أتى بشىء جديد للمجتمعات البشرية خدمة للدول والأغنياء والفقراء جميعا, وهو الصبر. وبه يصبح الفقير ذا خلق حسن لأن البصر هو الرضى عما أصابه من المصائب والصبر هو المقاومة والتحمل وهو يعطى للفقير شخصية ذاتية. والغنى بالصبر يقتطع شيئا من ماله للفقير. ولكن الفقر ليس محبوبا في الإِسلام ولا شعارا له ولا يحث إليه أصلا. وأما الغناء من الكسب الحلال فهو المطلوب. والقرآن يحض على الانفاق من البر إذا كان مما يحبه الانسان. ومن يشتكى من هذا الوضع من علماء عصرنا : (( ولقد يفهم « وفهم بالفعل» بعض الناس من هذا التحذير المتكرر الذى جاء به القرآن الكريم والسنة المطهرة من غواية المال وفتنته من أن هذا المال شر في ذاته وإلا لما كان هذا التحذير الشديد من المال. فلقد ناقش القرآن فتنة المال وعرضها أكثر من صورة ـــ قد يفهم « وقد فهم بالفعل» بعض الناس من هذا أن المال خطر يجب اجتنابه إن أراد المرء أن يسلم له دينه, بل لقد فهم بعض الناس هذا فعلا فوقفوا من المال موقف العدو, ورأوا السلامة في الابتعاد عنه بخيرة وشره وكان من هذا تلك الحركة الانسحابية التي اجتاحت العالم الإِسلامي فترة من الزمن « لاتزال موجودة» والتي نادت في الناس بالانخلاع عن الدنيا واطراح لذاتها وطيباتها, وظهر في المجتمع الإِسلامي دعاة يبشرون بهذا ويستكثرون من الشواهد القولية والفعلية وينسبونها إلى الرسول وإلى صحابته في التخويف من الدنيا وفي الحث على الفرار منها. وبقد تولى كثير من العلماء قيادة هذه الحركة وتأليف الكتب والرسائل وكان لهذا أثره في وجدان الناس وفي تفكيرهم فشاعت فيهم روح الخمول والبلادة. فخلت أيديهم من الدنيا ولم تخل قلوبهم من حبها والحسرة على مافاتهم منها))(40).

وعلى أمثال هذه الدعاية المتقبلة من العلماء بفرح وسرور ومن المسلمين خاصتهم وعامتهم, وقعت البلاد الاسلامية والدول الاسلامية دولة وشعبا, فردا وجماعة في فقر يدفع حتى في الحاجيات الضرورية للحياة الشريفة من المأكل والمشرب والملبس, ومن أبرة وخيط وحذاء وأوان مطبخية وغيرها أكثر مما يحصى. فسروا الآية : ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهــم عن الآخرة هم غافلون)(41). بأن غير المسلمين يعلمون أمور هذه الدنيا والمسلمين يعلمون أمور الآخرة ولا يعلمون أمور الدنيا ولا علاقة لهم بها. وبهذا التأويل الفاسد اعطوا الدنيا لحصة غير المسلمين المتقين الصالحين الذين يحبون الآخرة فقط, وبذلك التفسير لم يبق للمسلمين حاجة إلى الدنيا. وكان ينبغي عليهم ويجب أن يقولوا إن الكفار وغير المسلمين يعلمون أمور الدنيا وظاهرها فقها وأما المسلمون فيعلمون الدنيا والآخرة معا, ولا يتركون الدنيا لغيرهم. والدين الإِسلامي جاء لاصلاح الأمور الدنيوية وباصلاحها تصلح الآخرة. والصلاة من الأمور الدنيوية لا الاخروية. لأنه لا صلاة تقام في الآخرة. وهذا كمثال واحد وجواب واحد. ولكن الأمر والدعاية ضد الاسلام مستمر ودؤوب. وينبغي على المسلمين الخاصة منهم والعامة أن يدركوا الأمر وأن يفهموه ويشغلوا لدحضه. كل حسب قدرته المالية والعلميه والفكرية وسلتطه الادارية ونفوذه الاجتماعي.

وتحت تأثير امثال هذه الدعايات تخلفت الدول والشعوب الإِسلامية, حتى في العلوم الإِسلامية التى ابتدعها آباؤهم واجدادهم وطوروها, وكذلك في العلوم المعاصرة وأصبحت الدول الإِسلامية عاجزة في تجهيز الجيوش لمقابلة الاعداء من الناحية المالية ومن الناحية التدريبية وأصبحت تئن تحت وطئة الاعداء والمستعمرين من قوة عسكرية وثقافية ومالية واقتصادية وعلمية وتقنية. فإن المسلمين إذا احسوا بالمشكلة وعرفوا ثقلها حق المعرفة آنذاك يقومونه باليقظة الاسلامية والنهضة الفكرية الاسلامية. وليس كل شىء يطلب أن تقوم به الدولة. والدولة كذلك ينبغي عليها أن تدبر شئونها كيف ينبغي وكما يجب.

جـ ـــ الدولة لها التدخل على أموال الأغنياء للمحافظة على التوازن الاجتماعي لا على إزالة الملكية الفردية عنهم. والملكية الفردية شىء أساسي في التفكير الإِسلامي. كل فرد من أفراد المسلمين يجب أن يصير غنيا ومعطيا الزكاة والصدقات, والانفاق من غناه على الناس الآخرين وعلى المشاريع العامة لأنه يعرّف الغنى باعطائه الصدقة تظهر صداقته لعقيدته وهو أكبر عبادة في الدين الإِسلام لأنه عندما يصلي يقوم بعمل بعمل واحد في العبادة ولكن عندما ينفق أمواله في سبيل الله يثاب عليه اضعافا مضاعفة من الثواب والأجر لا يعلم حسابه إلا الله تعالى. لأن الذى استفاد من انفاقه, قد شاركه في عبادته وعمله الخير دون نقص في الثواب العامل الأصلي. وأن الله وعد بالحسنى مرة عشرة اضعاف ومرة مائة ضعف ومرة اجرا غير ممنون.

أود أن اتطرق إلى قاعدة اخلاقية تتحكم على الانسان والمجتمع. والإِسلام اهتم بهذه القاعدة جدا وهى تستنبط من القاعدة : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أيضا وهى نسميها قاعدة الرقابة والتنفيذ. لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قاعدة أساسية في الدين الإِسلامي وهى جعل الناس يراقب بعضهم بعضا على الأقل في الأمور الظاهرة والشئون العلنية. ولم يترك الإِسلام الناس على أنفسهم بعد بيان الصراط المستقيم والارشاد إلى سواء السبيل. ولكن ربط بعض الأمور بالبعض. ولذلك أمرهم بإيتاء الزكاه ثم أمر نبيه بأخذ الزكاة عنهم. وههنا أمران مكتملان يتمم أحدهما الآخر بايجاب المكلف وبانفاذ الرئيس. وإن كان الرجل مأموراً بالإِيتاء ولكن إذا لم يؤتى ماذا يُعمل به ؟ ومن يعمل ؟. والرجل نفسه يعرف أنه مأمور بالإِيتاء ومسئول عنه أمام الله. وهذا الأمر والمعرفة به لايكفي لكثير من الناس القيام بالواجب كما ينبغي.

ولذلك أمر الله تعالى نبيه بقوله 🙁 خذ من أموالهم صدقة )(42) دون استثناء من يخلص في الإِيتاء ومن يتوانى أو يهمل. لأن الناس ليسوا على معيار واحد وعلى مستوى واحد في الالتزام بالأوامر والنواهى, ولم يخلقوا لذلك أيضا ولايعرف اخلاص المخلصين.

وعلى ذلك نأتى لوضع القاعدة : أن الانسان يطبق الأمر على الآخرين بصورة جدية ومطابقة للحق, ولكن لايطبق الأمر على نفسه بالصورة نفسها. فإنه يضل وينحرف, إذا لاحظ أى مصلحة له في العاجل والآجل. ولذلك أمر الله تعالى رسوله بتطبيق الأوامر كسلطة ادارية منفذة في المجتمع. ووظف الرسول وهو رئيس الدولة عاملا على جباية الصدقات. والعامل بأخذ الصدقة وهو موظف الدولة ورجل اجنبى عن الآخر يأخذ الصدقة منه بدقة لازمة. وهى الرقابة العامة للدولة وهناك رقابة كل واحد من الناس على الآخر وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. والرجل بما لايؤتي الزكاة من نفسه بنفس الدقة والجدية. ويظهر أن هناك ولاية عامة تجمع الصدقات وتوزعها. ومن هنا جاء نهى النبى ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ العامل على الزكاه عن أخذ هدية. لاحتمال أن تكون الهدية رشوة رُشى بها العامل ليأخذ الصدقة أقل مما ينبغي, كما هى الحال بين الموظفين في الدولة يأخذون الؤشوة باسم الهدية ليضعوا الضريبة أو الجزاء أقل من اللازم أو الإِعفاء تماما.

فإن الإِسلام خوّل التوازن الاجتماعي بما فيه العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والادارية والمالية والتربية الاخلاقية إلى الدولة التي تدير كل شئون المجتمع والعلاقات الاجتماعية بين الشعب وأفراد الناس. وأعطى لها الإِسلام صلاحية لاقتطاع جزء من أموال الأغنياء لإِعطائه إلى الفقراء ولم يترك الأمر بيد الفقراء ليأخذوا الحكمة الإِلهية حيث خلق الله تعالى الناس محبين للمال بالفطرة. وإذا كان بيد الفقراء صلاحية أخذ حقهم من الأثرياء كانوا يسرفون في الطلب ويفرطون في أخذ الزيادة, ولا كانوا يرضون بحقهم من ناحية حبهم للثروة ومن ناحية ارتيابهم في تقدير أموال الأغنياء وتعيين ماهو واجب عليهم اعطاؤه وكان سببا للشقاق والجدال والاحتكاك. وهذا من ناحية الفقراء. وأما جهة الموسرين كما ذكرنا لا يعطون أصلا إذا ترك الاختيار بأيديهم أو لايؤدون ما يجب عليهم من الصدقات تماما, أو يعطون من أدنى أموالهم. وهناك أمور أخرى يظهر من بيانها أن في أخذ الدولة الزكاة وجباية الصدقات حكمة بالغنى ينبغي أن ترجع إليها الحكومات اتباعا للرسول ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ.

ولاشك أن هناك أحاديث وأعمال النبى ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ وأفعال الصحابة في جباية الأموال والضرائب ووضعها كذلك لاتباع العدالة في تعديل الأموال عند الناس بحيث لا يأخذون الأدنى ولا الأعلى وإنما يأخذون المتوسط. وبهذه الصورة يجب على الدولة أن تحسن إلى الأغنياء في المعاملة وأن لاتقتل الغريزة الطبيعية المالية إلى اكتساب الأموال وتنميتها ولا أن تميت عندهم حب المال والثروة, بوضع الضرائب فوق طاقتهم لا يتحملونها لأن الدولة مجبورة لحماية الرغبة الفردية في الملكية وهى حياة الناس ومعيشتهم. والدولة لأجل مصالحهم ومنافعهم, وليسوا هم لأجل لبدولة. والغاية من وجود الدولة وفلسفة الدولة أن تحافظ على التوازن الاجتماعي بين أفراد البيئة الاجتماعية اشباعا لرغبة كل فرد حسب متطلبات حاجاتهم والصيانة لأموالهمِ وأملاكهم متناسبة مع قدراتهم ومواهبهم العقلية والروحية والجسدية, وقدراتهم على الأعمال وقابلياتهم للاختراع والابداع. والدولة مسئولة عن تطبيق أحكام الإِسلام بالنسبة للدولة الإِسلامية.

وذلك الضمان الاجتماعي الذى تمارسه الدولة على أساس هذا المبدأ, يعبر في الحقيقة عن دور الدولة في الزام الرعايا بامتثال مايكفلون به شرعا. ورعاية الدولة لتطبيق أحكام المسلمين على انفسهم فهى بوصفها الأمينة على تطبيق أحكام الإِسلام والقادرة على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, مسئولة عن أمانتها. وقد ربط الإِسلام بين الضمان الاجتماعي وبين مبدأ الأخوة العامة بين المسلمين ليبين أن التكافل تعبير عن الأخوة العامة. وهذه طريقة الإِسلام في إعطاء الأحكام إطارا خلقيا مع مفاهيمه وقيمه(43).

ونود أن ننهى كلمتنا هذه بأن المسلمين الأولين نظروا إلى الإِسلام ككل دون تمييز بين حكم تشريعي وأخلاقي واعتقادي ودون تفريق بين أمر ديني وأمر دنيوي. وكان كل أمر ونهى في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة شيئا واحدا في الفهم والتطبيق والتمسك بهما. وحاول كل مؤمن أن ينفذهما كلما أمكن له واستطاع دون إهمال أو تهرب أو كسل. واعتبروا كل أمر ونهى فيهما تشريعا وأخلاقا واعتقادا وعملا في نفس الوقت. وكما قلنا سابقا إن الأعمال والأفعال لها جهة الاعتقاد على أنها دين وجهة العمل على أنها ينبغي على المكلف تنفيذها.

وأعتقد أن هذا هو سر نجاح المسلمين الأولين وتوفيقهم. لاعتبارهم واعتقادهم اعتقاد جازما على أن القرآن كله, بلا نسبة بعض الآيات القصصية إلى أصحابها لعدم تبنى أحكامها, يخاطبهم دون استثناء في ذلك. ولكن عندما توزعت آيات الأوامر وتفرقت آيات النواهي بين أصناف العلوم من فقه واعتقاد واخلاق وتصوف وديني ودينوي تفرقت أحكام الإِسلام وهكذا تجزأ الإِسلام بين المسلمين بعضهم مسلم عند الفقهاء أو عند المتصوفة أو عند المتكلمين. وكذلك اقتسمت المذاهب الفقهية خاصة الأحاديث النبوية فيما بينهما باتخاذ مذهب ما حديثا صحيحا لأنه يوافق أصله الذى وضعه ومذهب آخر طعن في هذا الحديث لأنه يخالف أصله واتخذ حديثا آخر مكانه. وإذا بُحث الأمر بحثا محايدا دون تأثر بمذهب, يظهران الحديثين معا صحيحان. وكل حديث له موضع ومكان خاص وله حكم في حالة من الحالات. وبهذه الصورة يمكن حل المشاكل المعاصرة بسهولة ويسر.

والآن يجب على علماء المسلمين أن يجمعوا المسلمين على الإِسلام التام ككل دون تفريق بين حكم وحكم, وعلى الإشسلام غير المتجزىء. وأن لايضللوا كثيرا من الناس وألا يفرطوا في التضليل بأشياء مندوبة أو مستحبة أو مباحة فيها اخذ ورد بين العلماء. وهذا لايمنع ولا ينبغي أن يمنع التخصص في أى علم من العلوم. وهناك علوم اخترعها المسلمون مثل أصول الفقه وعلم الكلام وعلم الحديث, عدا ذلك لايجوز تقسيم العلوم إلى إسلامية وغير إسلامية. لأن كل علم إسلامي, إذا علمه مسلم واختص به وعمل به. والعلوم الحديثة الطبيعية منها والاجتماعية داخلة في العلوم الاسلامية على ذلك المعنى.

النتيجة

1 ـــ التربية المالية هى عبارة عن الأسس والأحكام والقواعد التي يتبعها الانسان, كيف يكتسب المال ويربح, وينمي ماله ثم كيف يصرف وأين ينفقه.

2 ـــ الإِسلام قد وضع أسسا ومبادىء وأحكاما كدين يدين به الانسان في كل مجالات الحياة ونواحيها. والبعض منها يتعلق بكيفية البيع والشراء لاكتساب المال وانفاقه. وإذا اتبع الانسان ماوضعه الإِسلام من الأحكام والموازين للتجارة والربح ولصرف ما تملكه واكتسبه. يعتبر أن له تربية مالية إسلامية.

3 ـــ وكل ما يامر به الله تعالى فهو لصالح الانسان ونفعه. وكل ماينهي الله عنه فهو لضرر الانسان وخسرانه. وعلى ذلك فكل شىء صالح ونافع للانسان فهو يعتبر مأمورا به دينا وشرعا, سواء وجد فيه نص أو لم يوجد. وكذلك كل شىء ضار ومضر للانسان فهو يعتبر منهيا عنه دينا وشرعا, سواء وجد فيه نص أو لم يوجد.

4 ـــ فإن الأحكام الدينية الاسلامية واجب اتباعها دينا وشرعا. والدين عبارة عن كل أوامر الله تعالى ونواهيه, نصا أو اجتهادا. وهو يشمل أفعال الانسان وحركاته وسكناته ليلا ونهارا. ومن جملتها الأمور والقواعد الاخلاقية بجانب الأحكام التشريعية وهما متلازمان ولا ينفصلان يعنى الشريعة والاخلاق.

5 ـــ وفى الاوامر الشرعية والنواهى الدينية ثلاثة أقسام فى المراتب التكليقية, حسب شخص الانسان وموجوديته الذاتية وحسب شخصيته المعتبرة فى المجتمع :

أ ـــ قسم فى الأوامر والنواهى يخاطب الانسان الفرد كشخص له فرديته وموجوديته الكونية منفردا بذاته. مثل : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة (44) فمن شهد منكم الشهر فليصمه (45) وأوفوا بالعهد (46) ولا تقربو الزنى (47) ولا تقتلوا أولادكم(48) ولا تقف ماليس لك به علم (49) وهنا الانسان مأمور ومنهى فردا كوحدة ذاتية له وجود وذات ويدخل فيها الفرائض العينية وهو الفرض الذاتي, كل واحد وفرد يجب عليه أن يقوم به وحده ولا نيابة فيه.

ب ـــ قسم من الأوامر والنواهي يخاطب الجماعة أو بتعبير آخر يخاطب الفرد كعضو مجهول من الأفراد في الهيئة الاجتماعية وهى الفرائض والواجبات الكفائية أى الجماعية وهى فرض على الجماعة والمجتمع ويجب على الجماعة القيام بها كجماعة وفيها نيابة. لأن من يقوم بها من الجماعة يكون نائبا عن الآخرين وهو يكفيهم. لأن المهم هنا الأمر نفسه. إذا قام به أحد فقد نفذ الأمر. الغرض الكفائي فرض عين على كل مكلف قبل العمل, وإذا نفذه البعض يسقط عن الباقين. مثلا : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر(50) انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله(51).

جـ ـــ قسم في الأوامر والنواهي يخاطب رئيس الدولة ورئيس الحكومة. يصعب على الانسان أن يميز بين الجماعة والدولة, إلا أنه إذا حقق أمر لرئيس الدولة. مثل : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها(52). يعتذرون اليكم إذا رجعتم إليهم(53). ياأيها النبى حرض المؤمنين على القتال(54).

والمسلم يكون مأمورا به كرئيس الدولة وهو موقعه الاجتماعي والسياسي بجتنب كونه مأمورا به كفرد بذاته. وهو مأمور مرتين أو ثلاث مرات. مرة مفرد مستقل بذاته ومرة كعضو في المجتمع ومرة كرئيس للدولة والحكومة. الفرض الذاتي كفرد يجب عليه أن يقوم به بنفسه أو كعضو في المجتمع وقيام الآخرين به يكفيه, أو كرئيس للدولة يجب عليه أن يقوم به وهو فرض عين له, مباشرة أو غير مباشرة, فيما إذا كانت الحاجة إلى استخدام الموظفين نيابة عنه. «النيابة عنا لاتخرج الفرض عن الفرض العيني».

6 ـــ فإن كل قسم أو صنف من الثلاثة المذكورة, إذا اتبع الأوامر والنواهي فإنه يعتبر من الذين قد تربوا تربية إسلامية وتربية اخلاقية وتربية مالية في نفس الوقت.

7 ـــ (أ) عناية الدولة بموظفيها حسب الأحكام الشرعية واتخاذ الأحاديث الصحيحة بنظر الاعتبار بالنسبة إلى الظروف والشروط المتغيرة, والاخلاق الإِسلامية حسب مراتبهم في الدولة والبيئة الاجتماعية, إلا أنها لاتضع الموظفين الصغار تحت مستوى المعيشة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية الملائمة لمناصبهم.

(ب) اهتمام الدولة بالفقراء والمعوزين ومد يد العون لهم لسد حاجاتهم الاجتماعية وتمكينهم من الاستفادة من مرافق الدولة وإتاحتها لهم الإِمكانات على السواء دون محاباة للتملك والتمول والتمهر بالصناعات حتى يخلصوا من الفقر وعدم احتياجهم إلى الغير من الدولة ومن افراد الناس كل مرة وفي المستقبل.

(جـ) والدولة تتدخل على تكسب أصحاب الأموال والتدخل على تصرف أرباب الممتلكات لتمسك على أيديهم لئلا يعلو علوا في الأرض مستكبرين ولئلا يفسدوا الأرض بعد اصلاحها ولئلا يصبحوا من المسرفين. وينبغي على الدولة الرقابة على انفاذ الأحكام الشرعية المتعلقة بأحكام البيع والشراء والتجارة من الموزين والأكيال على القسطاس المستقيم. وكل ذلك ينبغي أن يكون تابعا للأسس الإِسلامية الاخلاقية والتربية المالية الإِسلامية. والله ولى التوفيق.

الهوامش

(1) الدكتور محمد فاروق النبهان, الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الاسلامي, 262, الطبعة الأولى 1970 دار الفكر.

(2)  سورة العاديات 8.

(3)  الاعراف 21, 22.

(4)  ابن فارس, معجم مقاييس اللغة 5/  285, ابن فارس, مجمل اللغة 3 / 819, الزحسرى أساس البلاغة, 608.

(5)  أساس البلاغة نفس المكان.

(6)  ابن منظور ( 711 هـ ـــ 1311م ) لسان العرب 3 / 550 نشر نديم المرعشلي في ثلاثة مجلدات.

(7)  عبد الكريم الخطيب, السياسة المالية في الإِسلام, 23, دار المعرفة, بيروت 1975.

(8)  الهمزة 3.

(9)  الحاقة 28.

(10)                    القرة 274, الكهف 46, مريم 77, الحديد 20, التوبة 69, 55, 85, الهمزة 3.

(11)                    آيات أخرى في الموضوع : نوح 21, الليل 11, المسد 2, النساء 10, يونس 68, الاسراء 16, المؤمنون 64.

(12)                    هود 84 ـــ 86, الاعراف 85.

(13)                    المطففين : 1 ـــ 6, الشعراء 177 ـــ 182, الانعام 153, الاسراء 35.

(14)                    محمد باقر الصدر ـــ اقتصادنا, 266.

(15)                    نفس المصدر 267 ـــ 268.

(16)                    دكتور السيد عبد المولى, المالية العامة, 18, القاهرة 1975.

(17)                    نفس المصدر 23.

(18)                    نفس المصدر 43.

(19)                    نفس المصدر 28.

(20)                    نفس المصدر 44.

(21)                    د. السيد عبد المولى, المالية العامة 28.

(22)                    نفس المصدر 44.

(23)                    الدكتور حسن عواضة, المالية العامة, 326, 1983 مركز الكتب الثقافية بيروت.

(24)                    نفس المصدر 322.

(25)                    آل عمران 26.

(26)                    النحل 71.

(27)                    التوبة 103.

(28)                    البقره 151.

(29)                    المعارج 23.

(30)                    الصف 3.

(31)                    القلم 4.

(32)                    البخاري, الأدب المفرد واللفظ له. 1 / 264, حمص 1969, أحمد بن حنبل, المسند 2 / 381.

(33)                    د. مقداد بالجن, جوانب التربية الاسلامية الاساسية 290, بيروت 1986.

(34)                    البخاري الأدب المفرد 1 / 377, حمص 1969.

(35)                    نفس المصدر 304.

(36)                    د. مقداد بالجن نفس المصدر 282.

(37)                    نفس المصدر 283.

(38)                    أبو عبيد القاسم بم سلام ( 223 هـ ـــ 838م ) كتاب الأموال 338, القاهرة 1975. د. عبد الملك بكر عبد الله قاضي, موسوعة الحديث النبوي ( أحاديث الزكاة ) 92 ــ ربيع الأول 1406 هـ ( نقلا عن ابى داود 3 / 134, المتوفى 275 هـ ـــ 888م ).

(39)                    النسائي 8 / 262 ( استعاذة من الفقر ), مسند أحمد بن حنبل 5 / 36, 39, 44 : مسلم بن أبى بكرة عن أبيه النبى ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ كتن يقول في دبر كل الصلاة : اللهم انى اعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر.

(40)                    عبد الكريم الخطيب, السياسة المالية في الإِسلام 41, 42.

(41)                    الروم 7.

(42)                    التوبة 103.

(43)                    محمد باقر الصدر, اقتصادنا 630, 632.

(44)                    البقرة 110.

(45)                    البقرة 185.

(46)                    الاسراء 34.

(47)                    الاسراء 32.

(48)                    الاسراء 31.

(49)                    الاسراء 39.

(50)                    التوبة 71.

(51)                    التوبة 41.

(52)                    التوبة 103.

(53)                    التوبة 93.

(54)                    الانفال 65.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر