Uncategorized

رؤى : أزمة الفكر الإسلامي محاولة لدفع الأمة لتغيير واقعها وتحقيق أهدافها ومقاصدها

(1)

من الممكن أن ننظر للواقع الإسلامي والمشكلات التي يعاني منها على الأصعدة المختلفة على أنه انعكاس لأزمة الفكر الإسلامي المعاصر، الذي يعاني قبل كل شيء من عدم الاعتراف به وبدوره، كما يعاني من أزمة في تعريف دوره وحدود حركته وحريته وواجباته.

وحتى أكون أكثر تحديدا فسأحصر ما أقصده بـ (مشكلات الواقع الإسلامي) في مشكلة مشكلات هذا الواقع وهي مشكلة غياب الهوية، أو غياب فهم الذات والقدرة على تحديد العناصر (الأساسية..الأبدية) المكونة لتلك (الذات) وتمييزها عن نظيرتها الفرعية أو (التحسينية) و(الظرفية.. التاريخية).

وقد أدى هذا الخلط أو الاختلاط إلى غياب القدرة على التعامل مع الآخر حتى أصبحنا حسب تعبير المستشار طارق البشري (نقف على أرض الوافد أو أرض خليط ونتحدث عن التراث بضمير الغائب، ونتحاور فيما نستحضره منه بعد أن كنا في الماضي نقف على أرض الموروث، ونتحاور فيما يصلح لها من حضارة الغرب وأدواته لندخله عندنا. ونحن نتساءل الآن عما نستدعي من التراث بعد أن كان آباؤنا يتساءلون عما يأخذون من الوافد). بل والأدهى من ذلك أن موقفنا هذا (الذي نظنه وسطًا، وهو من الظن الآثم؛ لأن وسط الشيء أعلاه، الوسط هو الموقف الدارس لكل الأطراف والذي يأخذ موقعه بوعي حتى يستفيد من مميزات كل طرف ويطرح عيوبه، وليس موقف اللا موقف) لم يشفع لنا في تقدم ولم يجرنا من جبروت الأمم ولم يمأسس لهوية جديدة ننطلق منها، بل صرنا أمساخًا ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء﴾ (النساء: 143)، ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ﴾ (الأنعام: 71)، وكان من نتيجة ذلك أن ضللنا الطريق؛ فلم نعد نستطيع السير ولم نعد نعرف أهدافنا وواجباتنا ودورنا في هذه الحياة واستحال مع ذلك وجود أي أمل في التقدم والنهوض.

وذلك مرده في رأيي إلى أزمة فكرية طاحنة تعاني منها (الحالة الإسلامية المعاصرة)، سواء المتمثلة في قواها الحركية السياسية الإصلاحية أو الجهادية، أو قواها الفقهية والثقافية. وتلك الأزمة هي باختصار العجز عن التفرقة والتمييز بين مستويات النظر المختلفة في أي أمر من الأمور؛ العجز عن التفرقة بين المستوى (الأخلاقي .. الفلسفي .. المعرفي الكامل)، ومستوى (الإجرائيات .. الآليات)، ومستوى (الظواهر..النتائج.. التجليات) وما يترتب على ذلك من حكم على الأشياء بصورة قاصرة وخاطئة وتكوين أحكام وصور عقلية غير سوية. ويتعلق بذلك – وربما يسببه – غياب منهج واضح للتعامل من الواقع وتحليله والقيام بعمليات (الفك والتركيب) اللازمة لذلك،  سواء أكان ذلك بغرض التعامل معه وتكييف الأوضاع بما يتناسب معه، أو بغرض تغييره ودراسة الوسائل المؤدية لذلك من سنن كونية واجتماعية. وهذا النوع من الفهم للواقع ودراسة أساليب التعامل معه وتغييره هو ما يسمى إسلاميًّا بـ (فقه الواقع). ولعل اللافت للنظر أن هذا النوع من الفقه لم ينل حظًا من المأسسة والاهتمام والشهرة كتلك التي نالتها مجالات أخرى كفقه المقاصد والمصالح والأولويات والمآلات.

(2)

أما عن سبب تميز الحالة الإسلامية المعاصرة عن غيرها في التأثر بفهم الواقع هو لأن الأمة تملك نصًا مقدسًا جاء من (خارج التاريخ) يمثل وضعًا مثاليًا وطريق الوصول للمثالية في آن واحد. وهذا النص في تقديمه للمثالية لم يقدمها في صورة استاتيكية جامدة لا تتغير بتغير العصور، وإنما وضع لها ثوابت وضوابط؛ ثوابت تتناسب مع انعدام صفة التاريخية عن النص، وضوابط تتعامل مع التطورات الإنسانية والمجتمعية وتضعها داخل إطار ديناميكي دون أن تجعل ذلك مدعاة لتعارضها مع الثوابت؛ وبذلك يكون الوضع المثالي إسلاميًّا هو معتمد جزئيًّا على فهم الواقع ومنجزات الحضارة الإنسانية العامة دون أن يكون هذا الواقع وتلك المنجزات مسيّرة له أو متحكمة فيه، بل يبقى هو المتحكم والضابط والميزان الذي تٌقاس وتُقيَّم به هذه المنجزات.

أما عن طريق الوصول لتلك المثالية والتي قدم لها الإسلام فتتمثل في أن الإسلام نزل على أناس انشغلوا من أول الأمر بتطبيقه فأصبحت حياتهم موجهة للوصول لهذه المثاليات وكانت كل لحظة وكل خطوة يخطونها في هذا الاتجاه تمثل في ذاتها حكمًا إسلاميًّا وليس طريقًا للوصول للحكم الإسلامي فحسب. فنزلت الأحكام الإسلامية متدرجة مراعية للواقع الذي بدأ فيه الإسلام ضعيفًا فقيل للمؤمنين ﴿كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾ (النساء: 77)، ثم وصل المؤمنون للقوة التي تمكنهم من بناء الدولة فبنوها ثم واجههم العرب وهددوا دولتهم فشُرع القتال ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج: 39)، وكانت الخمر في أول الأمر مباحة فذمها الله أولاً من دون تحريمها ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ (البقرة: 219)، وظلت في حكم المباح ثم حرمت في أوقات الصلاة ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى﴾ (النساء: 43)، وظلت فيما دون ذلك مباحة لا يلوم الشرع شاربها، وشربها صحابة الرسول r وهم أحرص الناس على اتقاء الشبهات حتى نزل قول الحق تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (المائدة: 90)، فسمع الصحابة وأطاعوا وغرقت شوارع المدينة بالخمر بعد أن طرحها أهلها من منازلهم. تدرج الإسلام كذلك في أحكامه مراعاة للواقع فجعل الدعوة مقدمة على الدولة، وعلّم الناس أمر ربهم لما جهلوا به ثم علّمهم الحلال والحرام حتى قال بعض الصحابة أن الأمر لو كان خلاف ذلك لما استطاعوا تنفيذ ما أمر الله به. بل إن فقه الواقع وفهم أبعاده – كما يقول الدكتور أحمد بوعود – كان جزءًا هامًا من رسالة الأنبياء الذين بعثوا لتغيير هذا الواقع وإصلاح ما فيه من فساد، سواء أكان ذلك الفساد هو ظلم اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي، ومراجعة سورة هود تغني عن التفصيل في هذا المقام.

كل هذا جعل رؤية الفقيه للواقع وتوصيفه له أمرًا بالغ الأثر على ما يصدره من اجتهادات وأحكام فقهية، ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى رؤية الإمام أبي حنيفة للواقع وكيف أنها كانت ذات أثر كبير على ما أصدره من أحكام فقهية. فالإمام – رضي الله عنه – رأى العالم مقسمًا إلى قسمين؛ دار الإسلام ودار الحرب، فجعل لكل منهما أحكامًا مختلفة عن الأخرى بما يحقق مقاصد الشريعة ومصالح العباد. وذلك التصنيف لأبي حنيفة ليس شرعيًّا، بمعنى أنه لم يتم استخلاصه من نصوص الشرع، وإنما هو تصنيف مبني على رؤية الإمام لأحوال زمنه وطبيعة الأمور فيه.

(3)

من هنا نتعلم كيف أن للواقع أثرًا عظيمًا في الحكم الفقهي، بل يمكننا القول أن الفقه – من حيث هو تنـزيل أحكام الشرع على الواقع بالأسلوب الذي يظهر جليًا في غير الأمور التعبدية المحضة التوقيفية الطبيعة – هو منتج عملية اجتهاد تتعامل في اتجاهين مختلفين (كما هو مبين في الرسم التوضيحي 1) أولهما هو الاجتهاد في فهم (النص) سواء أكان هذا النص قرآنًا أم سنة، ويجب أن تتوافر في القائم على هذا الأمر مجموعة من الشروط منها العلم باللغة العربية، والناسخ والمنسوخ من الآيات والأحاديث

وترتيب وأسباب نزولها، والإلمام بكافة النصوص المتعلقة بالموضوع حتى يكون اجتهاده مبنيًا على علم، وتلك – فيما أرى – هي الشروط التي يمكن معها القول بأن العالم (استفرغ الوسع) في محاولة الوصول للحكم الشرعي في المسألة، بحيث يصبح له – إن صدقت نيته – نصيب من الأجر وله العذر إن أخطأ في حكمه. بهذا الطريق نصل إلى الحكم الشرعي؛ ثم نصل بالطريق الآخر إلى تنـزيل هذا الحكم على الواقع.  هذا الطريق الآخر يعتمد على رؤية المفتي للواقع وتحليله له وتقييمه له في ضوء المقاصد العامة للشريعة؛ ذلك لأن الإسلام – وإن اعترف بفساد الواقع إن كان فاسدًا كما أسلفنا – فإنه لا يقبل الاستسلام لهذا الواقع بل يسعى لتغييره. ولكي يكون هذا التغيير إسلاميًا فيجب أن يكون مرتبطًا بالمقاصد العامة للشريعة.

إذن الاجتهاد يصل الشريعة بالحياة عن طريق إعمال العقل البشري مرتين مع شيئين مستَمَدَين من الشريعة؛ إعمال العقل في فهم نصوص الشريعة، وإعمال العقل في ربط الواقع بمقاصد الشريعة وتحريكه نحوها.

(4)

والحقيقة أنه في القرون الأولى من التاريخ الإسلامي كان الفقيه يقوم بكلتا المهمتين؛ فهم النصوص وتحليل الواقع، وكان ذلك ممكنًا وقتئذ لعدم تعقد المسائل المطلوب استنباطها من النصوص من ناحية ولعدم تعقد الواقع من ناحية أخرى. ففي ذلك الوقت ظهر الأعلام – من أمثال الأئمة الأربعة – ممن استفرغوا الوسع في فهم النصوص والواقع على حد سواء فبرعوا، وكان أهم أسباب نجاحهم أنهم نجحوا في إنزال الشرع على واقعهم بعبقرية حتى أنهم أوجدوا بالشرع حلولاً لما جدّ على مجتمعهم من مشكلات وأصّلوا لما جدّ من علوم حتى صار هناك تناغم بين (الدين) و(الحياة … الدنيا) وأصبح كلاهما موجهًا في الاتجاه ذاته. والملاحظ أنهم حرّموا بعض الأشياء من باب (سد الذرائع) مراعاة لواقعهم وطبيعة مآلات الأمور فيه، والتي قد تختلف من زمن لآخر ومن مجتمع لغيره.

أما الآن، وقد تعقدت المسائل التي تتطلب حكمًا وتعقد الواقع، فقد أصبح من المستحيل أن يلم الشخص الواحد بتفصيلات الواقع ونصوص الشرع وتأويلاتها إلمامًا يستطيع معه القيام بمهمة تنـزيل الشرع على الواقع. من أجل ذلك وجدنا علماء أفاضل وروادًا للتجديد من أمثال القرضاوي يطالبون بـ (الفتوى المتخصصة) بحيث يختص كل عالم بالإفتاء في مجال من المجالات، كالطب أو التجارة أو النكاح أو الصناعة أو الحروب…إلخ. كما اتجه المثقفون من الإسلاميين إلى تقسيم الأدوار بينهم بحيث نظر بعضهم إلى الواقع (مثل المستشار طارق البشري والدكتور محمد عمارة والأستاذ فهمي هويدي وغيرهم) محاولاً تحليله وبيان مشكلاته وأبعادها المختلفة وكيفية علاجها، فيما اتجه البعض الآخر –من أهل الفتوى- إلى التعمق في النصوص مع الاعتماد على فهم هؤلاء (المفكرين) للواقع. لذلك رأينا العلماء من أمثال القرضاوي والغزالي كثيرًا ما يشيرون في كتاباتهم إلى (الواقع) كما يوصّفه المفكرون.

(5)

بيد أن دور هؤلاء المفكرين لا يقتصر على توصيف واقع الأمة، وإنما يمتد – كما أسلفنا – ليشمل مهمة ربط هذا الواقع بالمقاصد ورؤيته في إطارها وتحديد الأهداف الأساسية والاستراتيجية للأمة من خلالها. أقصد بذلك أن دور المفكر هو أن يقدم للأمة (خطة عمل) في المجالات المختلفة تبدأ بالأمة من حيث هي موجودة وتصل بها إلى تحقيق المقاصد التي ارتضاها لها ربها. ولا أعني بذلك أن يتدخل المفكر في مجال الفتيا؛ فذلك مجال له أهله ممن تعلموا علمه وتخصصوا فيه، بل إن من المفكرين من يدين هذا الأمر بشدة؛ فالمستشار البشري على سبيل المثال يلوم على هؤلاء ويقول: “ولكن (المفكرين) – سامحهم الله، وهم أهل علم بالأوضاع الاجتماعية والسياسية – لا يستخدمون معارفهم في رؤية هذه الظواهر وفي تشخيصها وفهمها بأساليب البحث العلمي التي يتنادون بها، وإنما يلجأون إلى ما لا يتقنون ولا يعرفون من مناقشة هذه الأمور من النواحي الفقهية فيضلون ويخطئون ويضرون”. وهو بتلك الكلمات يضع يده على الداء ويضع أقدامنا على أول طريق الدواء. فدور المفكر هو تقديم النموذج السياسي-الاقتصادي – الاجتماعي الأقرب إلى المقاصد من خلال تقييمه للواقع وفهمه للمقاصد.

وربط الفكر بالمقاصد يتطلب فهما عميقا للمقاصد التي قام عليها الشرع، وعلى مدار تاريخ الأمة الطويل؛ تحدث في أمر المقاصد كبار العلماء والمفكرين، بيد أن الفضل في تأسيس هذا العلم يرجع –بعد الله- لجهود العالمين الكبيرين أبي حامد الغزالي والشاطبي. وقد جعل هؤلاء المقاصد على درجات ثلاث (ضروريات، حاجيات، تحسينيات) وحصروا الأساسية منها في خمسة هي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وأضاف عليها القرافي بعد ذلك حفظ العرض. وللدكتور القرضاوي ملحوظة عبقرية أوردها في كتابه القيم (مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية) حينما أشار إلى العلاقة بين المقاصد والحدود والعقوبات في فكر المقاصديين القدماء، فالمقاصد الستة المذكورة عند القرافي والخمسة عند الغزالي والشاطبي تقابلها في الشريعة عقوبات وحدود، هي قتل المرتد والقصاص من القاتل وجلد الزاني وقطع يد السارق وجلد شارب الخمر وجلد قاذف المحصنات.

وهذه النظرة للمقاصد – وإن كانت تكفي في تحديد الإطار العام لتحرك الأمة وتنفع الفقهاء في استخلاص واستنباط الأحكام الفقهية- فإنها ولا شك لا تكفي المفكرين للبناء عليها وتحديد وتوزيع الأدوار في ضوئها؛ وذلك لعموميتها. وكان من فضل الله على أمته أن البحث في مقاصد الشريعة لم يتوقف على جهود هؤلاء الأعلام؛ بل امتد عبر العصور وشهد إسهامات متميزة كان آخرها من المعاصرين الأساتذة يوسف القرضاوي وأحمد الريسوني وجمال الدين عطية. وقد نظر هؤلاء إلى المقاصد من جهة أخرى جعلت البناء عليها أسهل لتقسيم الأدوار على الأمة، وذلك بأن أصبحت المقاصد لا تنتهي عند (حفظ) أمور معينة بل تمتد لتشمل (تحقيق) و(توجيه) و(تقرير) و(بناء) أمور مختلفة، ومن ثم أصبح تقسيم الأدوار في ضوئها واعتمادها مرجعية للمفكرين أقرب للنفع والفائدة للأمة.

(6)

وأظن أن أنفع رؤية للمقاصد هي تلك التي أوردها الدكتور القرضاوي في كتابه (كيف نتعامل مع القرآن العظيم) تحت عنوان (مقاصد القرآن العظيم). ففي ذلك الكتاب القيم حدد القرضاوي سبعة مقاصد هي تصحيح العقائد والتصورات، وتقرير كرامة الإنسان وحقوقه وخصوصًا الضعفاء، وتوجيه البشر إلى حسن عبادة الله وتقواه، والدعوة إلى تزكية النفس البشرية، وتكوين الأسرة الصالحة وإنصاف المرأة، وبناء الأمة الشهيدة على البشرية، والدعوة إلى عالم إنساني متعاون. تلك المقاصد السبعة تشكل – بعد تعريفها بدقة وتوسع – أهدافًا عامة يجب على المفكرين الإسلاميين – وهم أهل علم بمناهج التغيير وأساليب تحويل الأحوال وتحليل الظواهر الاجتماعية- رسم طريق الأمة إلى تحقيقها.

بيد أن رسم الأهداف والمقاصد بهذه الصورة تظل به فجوة تعطل (تفعيل) هذا السعي لتحقيقها، وهو غياب التحديد الدقيق للـ (مُكَلَف). فهذه الرؤية للمقاصد ترسم بوضوح الأهداف المبتغى تحقيقها دون أن تحدد من هو المطالب بتحقيقها، ومعلوم أن التكليف ليس سواء على الجميع، فليس المطلوب من السياسي أو الحاكم الذي يستطيع استصدار القوانين كالمطلوب من المدرس أو الأستاذ الجامعي أو المربي بشكل عام، ولا هو المطلوب من رجل الشرطة…إلخ. هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى فهناك واجبات للأفراد وأخرى للأمم، أي أن هناك واجبات يقوم بها الفرد بصفته فردًا مسلمًا وهو مسؤول عنها وحده أمام الله؛ سواء أكانت تلك الواجبات دينية (تعبدية محضة) أو كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية..إلخ، وهناك واجبات أخرى لا يمكن للفرد أن يقوم بها؛ بل يجب عليه أن يشارك في القيام بها بوصفه فردًا من الأمة، والأمة بكاملها تحاسب كأمة أمام ربها على أدائها لهذه الواجبات.

وقد تنبه علماؤنا في القديم والحديث لهذه النقطة، فكما يقول المستشار البشري إن شمولية الإسلام لا تعني غياب التخصص. بل إن سعي الفرد للقيام بدور غيره ليس محمودًا، إذ يجب أن يشغل نفسه بالقيام بدوره، فكما يقول صاحب الحكم العطائية (إرادتك التجريد من إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية).

إذن تختلف أدوار الأفراد باختلاف مواقعهم في الأمة، وهذا الاختلاف يقابله اختلاف في المهمات والمقاصد التي ينبغي على الشخص العمل لتحقيقها، وهو ما يدفعنا للسعي للتوفيق بين ما ذكره الشيخ القرضاوي في شأن المقاصد، وما قاله في شأنها الدكتور جمال الدين عطية في كتابه القيم (نحو تفعيل مقاصد الشريعة) حين حاول الانتقال بالشريعة من المقاصد الخمسة إلى (المجالات الأربعة) بأن جعل هناك مقاصد في حق الفرد وأخرى في حق الأسرة وثالثة في حق المجتمع ورابعة في حق الإنسانية.

هذا الجمع بين ما ذكره العالمان الجليلان يتم بخطوتين؛ أولاهما إدخال بعض التعديلات على كلام الدكتور عطية بحيث يصبح أكثر تماشيًا مع السياق العام، ثم يتم بعد ذلك الدمج بين البحثين. أما الخطوة الأولى فأظن أن التعديل الأساسي المطلوب هو أن نغيّر مفهوم المجالات بحيث تكون متعلقة لا بدائرة التأثير ولكن بالشخص المطلوب منه إحداث التأثير. بذلك تصبح لدينا مقاصد يقوم على تحقيقها الفرد كشخص، ومقاصد تتعاون الأسرة على تحقيقها، ومقاصد يقوم المجتمع بالعمل على تحقيقها، وأخرى لا تتحقق إلا بدولة وتشريع وقانون، وبهذا يعرف كل إنسان ما يتعين عليه القيام به والعمل على تحقيقه من المقاصد من مكانه الذي اختاره الله له.

أما الخطوة الثانية على طريق الجمع بين البحثين فتتمثل في تطبيق ما قررناه على المقاصد السبعة التي قررها الشيخ القرضاوي بدلاً من تطبيقه على المقاصد الخمسة، فيتم تناول كل من هذه المقاصد وبحثه وتعريفه ثم تحديد دور كل محور من المحاور في تطبيقه. على سبيل المثال مقصد كتقرير كرامة الإنسان وحقوقه وخصوصًا الضعفاء، تخرج منه أهداف متعددة منها ما ينبغي على الفرد القيام به من الدفاع عن حقوقه وعدم تمكين الآخرين من الاعتداء عليها، ومنها ما يتعلق بالأسرة التي يجب أن يكون التعامل بين أفرادها مراعيًا لتلك الكرامة بحيث لا يهين رب الإسرة أحد أفرادها ولا تهان المرأة ولا الأطفال، وهناك ما يجب على المجتمع القيام به من رفض الظلم والدفاع عن حقوق الفقراء والضعفاء وتشكيل الجمعيات الأهلية لمساعدتهم وحفظ حقوقهم، وهناك ما يجب على الدولة القيام به من خلال سن القوانين التي تضمن المساواة بين الجميع فتمنع الجور على الضعفاء وتمنع التعدي على كرامة المواطنين جميعًا حتى المشتبه فيهم والمجرمين، وغيرها من الأهداف المتعددة التي تنبثق جميعها من مقصد واحد من المقاصد السبعة بعد تنـزيله على المحاور الخمسة.

هذه الأهداف المناط بتكليفها الفرد والأسرة والمجتمع والأمة والدولة والمنبثقة من المقاصد المختلفة ينتمي كل منها –ولا شك- إلى أحد مجالات الحياة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو أي مجال آخر من مجالات الحياة، وبإدراك ذلك يمكن بيسر وسهولة تسكين هذه الأهداف في تلك المجالات بحيث يصبح واضحًا الدور الذي يجب أن يقوم به كل فرد في كل مجال من المجالات المختلفة حتى تتحقق مقاصد الشريعة، كما هو موضح في الرسم التوضيحي رقم 2. وبذلك تصبح الخطوة التالية هي تجميع كل الأهداف الخاصة بالمجال الواحد والمحور الواحد مع بعضها البعض.

مع تجميع تلك الأهداف تكون هناك مجموعة من الأهداف الواضحة في كل مجال من المجالات المختلفة يجب على الفرد القيام بها، وأخرى للأسرة وغيرها للمجتمع ورابعة للأمة وخامسة للدولة. وسنجد –ولا شك- أن هناك في كل من المحاور المختلفة؛ مجموعة من الأهداف التي لا يمكن ادراجها في أحد المجالات الحياتية دون عن الأخرى بحال من الأحوال، وذاك أمر طبيعي لأن هناك واجبات على الجميع القيام بها (سواء أكان هذا الجميع “أفرادًا” كما هو الحال في محور الفرد، أو كان “أسرًا” كما هو الحال في محور الأسرة، أو “مجتمعات” كما هو الحال في محور المجتمع..إلخ) بقطع النظر عن موقعه في الحياة، تلك هي الفروض العينية التي يجب على الجميع القيام بها، وأما ما دون ذلك فهي الفروض الكفائية التي تنقسم على المجتمع بحسب أدوار الأفراد المختلفين فيه. فالمقاصد الاقتصادية المتعلقة بالمجتمع على سبيل المثال يقوم بها أهل الاقتصاد من أبناء المجتمع، والتربوية يقوم بها أهل التربية..إلخ. وبذلك يكون لدى كل فرد من المجتمع تصور للأهداف التي يجب عليه بحكم إسلامه السعي لتحقيقها فتضمحل أزمة الهوية بإدراك المجتمع والأمة ككل والأسر والأفراد كخلايا مكونة لها بأهداف وغايات وجودها وواجباتها وحقوقها.

(7)

ومع كل ذلك، تبقى هناك مشكلة واحدة في طريق (إحياء) هذه المقاصد وتفعيلها في المجتمع، تلك هي رسم الطريق لتحقيق تلك الأهداف الخاصة بكل فرد وكل فئة من أبناء أمة الإسلام. ذلك لأن بقاء الأهداف مجردة من الوسائل يبقي الحجة للراغبين في الخنوع، ويضل بعض المتحمسين. وتلك الخطوة – فيما أظن- هي السيبل لنقل الأمة إلى مرحلة العمل والنهضة بعد أن أمضت أزمنة مديدة في مناقشات نظرية لا طائل من ورائها لعدم تأثيرها في واقع المسلمين وعدم قدرتها على تغييره.

وتلك المشكلة سهلة العلاج بتوفيق الله إن توفرت لها الجهود اللازمة والبحوث المطلوبة، وعلاجها يتكون من خطوات معدودة أولها تحديد المجال ثم دراسته بعمق من قبل الفقهاء والعلماء من أهل العلم بنصوص الشريعة لتحديد ثوابت هذا المجال، تلك الخطوة التي قام بها الدكتور محمد سليم العوّا في المجال السياسي في مناقشته الشيقة مع برهان غليون في الكتاب القيم (النظام السياسي في الإسلام) وأسماها “القيم الملزمة” للنظام السياسي الإسلامي. وأظن أن سحب هذا المفهوم على المجالات الحياتية المختلفة (كالاقتصاد والاجتماع وغيرها) يعود بالنفع الكبير على الأمة؛ فلكل من هذه المجالات (قيم ملزمة) لابد من توافرها حتى يُعتَرف للنظام بإسلاميته. وبناء على تلك القيم الملزمة والأهداف المقاصدية يمكن للمفكرين – في ضوء فهمهم للواقع من ناحية ومنهجيات التغيير من ناحية أخرى – أن يضعوا (خطة عمل) تحمل الأمة إلى مقاصدها حملاً؛ ثم تُسَوق هذه الخطط الحركية العملية إلى الجماهير من خلال الحركات الإسلامية والدعاة المتحركين بين صفوف الجماهير.

(8)

هذه فيما أرى هي مهمة المفكرين من أبناء أمة الأسلام؛ أن يحللوا الواقع أولاً من خلال عمليات الفك والتركيب اللازمة، ثم أن يقوموا بعد ذلك بوضع خطة لإصلاح وتغيير هذا الواقع في ضوء مقاصد الشريعة مع مراعاة اختلاف الأهداف باختلاف الأدوار، كل ذلك من خلال العمل جنبًا إلى جنب مع العلماء والفقهاء من ناحية – لما لهم من أهمية في تحديد بعض الأمور كما سبق، ولأهمية وجودهم حتى لا تطغى الأهداف العامة على الأحكام الفقهية الجزئية فتضل الأمة – والعمل إلى جانب (النشطاء الإسلاميين) سواء الدعاة أو الحركات الإسلامية حتى لا تظل تلك المجهودات الفكرية أسيرة الكتب، بل تبقى الكتب أوعية لحفظها من التحريف ويبقى مكانها الحقيقي (الشارع) والجماهير.

تلك المهمة ليست باليسيرة، وهي ليست مهمة يقوم بها رجل أو رجلان، بل هي مهمة أمة المفكرين؛ هي مهمة جماعية تحتاج إلى المأسسة من خلال المراكز البحثية وورش العمل والندوات والكتابات والمحاضرات وغيرها من عمليات التواصل المستمر مع الجماهير ومع الفقهاء حتى تتطور الأفكار بشكل مستمر، ويتم رفع الواقع وتحليله بأدق صورة ممكنة. ومن حسن الحظ أن هناك نماذج غير إسلامية يمكن الاستفادة منها بشدة وتطويرها في هذا الإطار، فنموذج مجلس الدولة في القانون الوضعي يقوم بجزء ليس باليسير مما أحاول التنويه عنه؛ فهو يقوم برفع الواقع بشكل أكثر من جيد – على الأقل من الناحية النظرية – ثم يقوم القانونيون بمحاولة إيجاد حلول لمشكلات الواقع من خلال القانون، أو ربما بتعديل بعض مواد القانون أو إضافة مواد جديدة بما يتناسق مع الدستور ويحافظ على روحه ويجعله أكثر عملية وتطبيقية. والدستور في الإسلام الشريعة؛ والمجال المطلوب إصلاحه ليس القوانين فحسب؛ ففي ذلك تعطيل شديد للمقاصد، ولكن المطلوب إصلاحه هو كافة مناحي الحياة؛ التربوي منها والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي وغيرها من مجالات الحياة المختلفة. فتلك تجربة فيما أرى جديرة بالدراسة والبحث والبناء عليها حتى نصل للأنموذج الإسلامي الأمثل.

أظن أن هذا هو سبيل نجاة الأمة وتخليصهـا من مشكلاتهـا الفكرية وبالتالي من سائر المشكلات، وأظن أن تعطيل العمل في علاج القصور في هذا الجانب ذنب كبير، سيسأل عنه من أمة الإسلام مفكروها. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.

المراجع

(1) د. أحمد بوعود؛ فقه الواقع: أصول وضوابط.

(2) د. برهان غليون- د. محمد سليم العوا؛ النظام السياسي الإسلامي.

(3) د. جمال الدين عطية؛ نحو تفعيل مقاصد الشريعة.

(4) المستشار طارق البشري؛ الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر.

(5) المستشار طارق البشري؛ ماهية المعاصرة.

(6) د. يوسف القرضاوي؛ كيف نتعامل مع القرآن العظيم.

(6) د. يوسف القرضاوي؛ مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر