أبحاث

مفهوم الأدب الإسلامي عند المستشرق جرونباوم

العدد 91

مصطلح الأدب العربي في كتابات المستشرقين أكثر ترددًا، ولكن هذا لم يمنع بعض المستشرقين من أن يطلق على الأدب العربي مصطلح الأدب الإسلامي العربي، أو الأدب العربي الإسلامي ، وقد تجد في بعض كتابات المستشرقين مصطلح أدب الشرق المسلم، أو الأدب الشرقي ، أو آداب مسلمي الشرق، أو أدب المسلمين، أو شعر عالم الإسلام، أو شعر المشرق الإسلامي، وهذه المصطلحات الأخيرة تتجاوز الأدب العربي، فتشمل فيما تشمل الأدب الفارسي، والأدب التركي أيضًا، وربما اتسعت لغيرهما من آداب المسلمين، في المشرق الإسلامي.

وقد تجد في كتابات المستشرقين مصطلح الأدب الإسلامي  بصيغته العامة، أو مصطلح النثر الفني الإسلامي ، أو الشعر الإسلامي بصيغته الخاصة.

ولكن هذه المصطلحات على تعددها وتنوعها لا تعني إلا الأدب العربي أحيانًا، أو أدب الشعوب الإسلامية في العالم العربي وإيران وتركيا، والتي يطلقون عليها الشرق الأدنى حينًا، والشرق الأوسط حينًا آخر. وإن شئت قلت : إنهم يعنون بكل هذه المصطلحات الأدب الذي أفرزته الحضارة الإسلامية، في هذه البقعة من العالم، يستوي في ذلك أن يجسد هذا الأدب خصوصية الإسلام، أو لا يجسدها، ويستوي أن يكون صادرًا عن مسلم، أو غير مسلم، فكل ذلك يدخل تحت هذه المصطلحات المتعددة.

وقد كان بروكلمان دقيقًا حينما نظر إلى الأدب العربي على أنه مظهر وقالب للثقافة الإسلامية، ولما كان يجدر بنا ألا ننظر إلى الأدب العربي إلا من حيث هو مظهر وقالب للثقافة الإسلامية فسنخرج عن نطاق عملنا كل كتابات النصارى واليهود التي اختصت بأبناء عقيدتهم وحدهم ، فالأدب العربي مهما كان صاحبه ومنشؤه هو في النهاية أدب حضارة لها خصوصيتها وميزتها، وفي إطار هذا المفهوم يتسع المجال لدراسة الحطيئة الهجاء، خبيث اللسان، والفرزدق المتهم بالفسق والفجور، والأخطل النصراني، الذي كان يحمل صليب الذهب، ويحلف بالصليب والقربان، فهؤلاء ومن كان على شاكلتهم يدخلون تحت المصطلحات الماضية.

وإذا نحن رجعنا إلى كتابات طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي وجدناه يقسم طبقات فحول الإسلام إلى عشر طبقات، ويجعل في الطبقة الأولى كبار شعراء النقائض في العصر الأموي، جريرًا والفرزدق والأخطل والراعي، فهؤلاء هم أول طبقات الإسلام، أو الطبقة الأولى من الإسلاميين، كما في بعض نسخ كتاب الطبقات ، وليس في طبقات الإسلاميين أحد من الشعراء المخضرمين، فمنهم من وضعه في طبقات الجاهليين، كالحطيئة، وكعب ولبيد، ومنهم من وضعه في طبقة أصحاب المراثي، كالخنساء ومتمم بن نويرة، ومنهم من وضعه في شعراء القرى، كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة ، فليس المقصود بطبقات الإسلاميين، أو طبقات الإسلام طبقات من التزموا الإسلام، أو جسدوا في شعرهم خصوصيته، وإنما من نبغوا في بيئة الإسلام، أيا كانت اتجاهاتهم ومشاربهم، وأيا كان اعتقادهم وسلوكهم، فالطبقة الأولى هي الأولى في الفن ليس غير، والتقسيم إلى طبقات الجاهلية وطبقات الإسلام تقسيم زماني، وإن كانت هناك طبقات ضمها فن واحد، كأصحاب المراثي، أو مكان واحد، كأصحاب القرى، أو دين واحد، كشعراء يهود، فليس الغرض منها البحث عن الخصوصية أو التميز.

وعلى الرغم من أن مصطلح الأدب الإسلامي بمفهومه الزماني، أو بمفهومه الحضاري لا يجسد خصوصية الأدب الإسلامي الملتزم، فإننا ندعو إلى أن ننظر إلى أدب الحضارة الإسلامية كلها ابتداء من عصر النبوة إلى الآن في إطار هذا المصطلح ؛ لأن الإسلام هو روح الحضارة العربية، ولا يمكن النظر في أي مظهر حضارى في غيبة روح هذه الحضارة .

مفهوم الأدب الإسلامي

عند جرونباوم :

لكن قد يصادفك في كتابات المستشرقين مصطلح الأدب الإسلامي بمعناه الخاص المتميز، وربما كان المستشرق الأمريكي جوستاف فون جرونباوم (1909 _ 1972م) أبرز من حاول البحث عن خصوصية الأدب الإسلامي في الشكل والمضمون معًا.

والمستشرق جرونباوم نمساوي الأصل، ولد في فيينا سنة 1909م، وتخرج في جامعتي فيينا وبرلين، وحصل على دكتوراه الفلسفة في الدراسات العربية والفارسية والتركية من جامعة فيينا سنة 1931م، وعين أستاذًا مساعدًا للدراسات الإسلامية والعربية بمعهد آسيا بنيويورك (1938 _ 1942م)، ومساعدًا لرئيس قسم اللغة العربية بهذا المعهد (1942 _ 1943م)، ثم التحق بجامعة شيكاغو (1943 _ 1949م)، ثـم أصبـح أستــاذًا في هـذه الجـامعــة ((1949 _ 1957م)، ثم أستاذًا لتاريخ الشرق الأدنى في جامعة كاليفورنيا سنة 1957م، ثم رئيسًا لقسم دراسات الشرق الأدنى بنفس الجامعة ، وهو رجل غزير النتاج، كثير العطاء ، وقد عرفه قراء اللغة العربية لكثرة ما ترجم له من أعمال منذ وقت مبكر.

تعدد دلالة المصطلح عنده :

أما مصطلح الأدب الإسلامي، فقد رأيناه يستخدمه بأكثر من دلالة، ففي دراسته الأدب الإسلامي العربي التي شارك بها في المؤتمر الذي أقامته جامعة برنستون الأمريكية، لدراسة الشئون الثقافية والاجتماعية للشرق الأدنى ، في مارس سنة 1947م، بمناسبة مرور مائة عام على قيامها ، في دراسته هذه يستخدم مصطلح الأدب الإسلامي العربي مرادفًا للأدب العربي الذي نشأ في العصور الإسلامية، وأحيانًا يستخدم في هذه الدراسة مصطلح الأدب الإسلامي فقط، وأحيانًا يستخدم مصطلح الأدب العربي فقط، وهو لا يعني بهذه المصطلحات الثلاثة إلا شيئًا واحدًا، وربما أوحى إليه بهذا العنوان المخططون للمؤتمر، بدليل أن هناك بحثًا آخر فيه، ألقاه آرثر ج. أريري بعنوان الأدب الإسلامي الفارسي ، وربما كان أريري أقرب إلى خصوصية الأدب الإسلامي نظريا، فهو يعرف الأدب الفارسي في صدر دراسته، ثم يقول : وبهذا التعريف يمكن القول بأن الأدب الذي نعالجه هنا أدب إسلامي في طبيعته وإيحاءاته، ومن أجل هذا فإننا لم ندخل في حسابنا ما كتب بالفارسية من شعر ونثر، استمد إيحاءاته من أديان أخرى غير الإسلام، كما لم ندخل في حسابنا ما كتبه الفرس أنفسهم بغير الفارسية من اللغات ، والرجل لم يتجاوز التأريخ لنشر الأدب الفارسي في الغرب، فلم يبحث في إسلامية الأدب الفارسي، ولا في خصائصه، ولا في طبيعته وإيحاءاته، كما ذكر في صدر الدراسة، ولهذا لم يحتج أن يردد مصطلح الأدب الإسلامي كثيرًا في دراسته.

وهناك دليل آخر على أن جرونباوم لا يقصد بالأدب الإسلامي العربي ولا بالأدب الإسلامي في هذا البحث إلا الأدب العربي الذي نشأ في العصور الإسلامية ، وهو أن الرجل أخذ القسم الثاني من هذه الدراسة وأدخل عليه قليلاً من التعديل، ونشره في مجلة الأدب المقارن سنة 1952م، وقد ترجمه الدكتور إحسان عباس تحت عنوان : الأسس الجمالية في الأدب العربي ، ولم ير جرونباوم ضرورة لاستخدام مصطلح الأدب الإسلامي في هذه المرة، ولا لاستخدام مصطلح الأدب الإسلامي العربي الذي اتخذه عنوانًا قبل خمس سنوات من هذا التاريخ. فالمادة التي قدمها هناك تحت مصطلح الأدب الإسلامي العربي قدمها هنا تحت مصطلح الأدب العربي، مما يعنى أنهما مصطلحان متماثلان في الدلالة عنده.

لكن الرجل عاد ونشر بحثًا آخر في مجلة الدراسات الإسلامية سنة 1953م، وترجمه الدكتور إحسان عباس تحت عنوان روح الإسلام كما تبدو في الأدب العربي ، وقد حاول في هذا البحث أن يقف على تأثير الإسلام في الأدب العربي، في شكله ومضمونه، وبنيته الداخلية، وموقف الناس منه، كما حاول أن يقدم نموذجًا تطبيقيًّا يجسد من خلاله رؤيته النظرية، وفي هذا البحث كان يستخدم مصطلح الأدب الإسلامي لا بمعنى الأدب العربي، ولكن بمعنى آخر، فيه شئ من الخصوصية والتميز، فالأدب الإسلامي في هذا البحث هو الأكثر تجسيدًا لروح الإسلام، من وجهة نظره.

وهو في بحثه هذا يذكر مصطلحًا آخر هو الشعر الديني، ويفسره بالمدائح النبوية، والتوسل والتمجيد للأولياء ، وربما كان هذا هو مضمون بحثه الذي نشره في صحيفة الجمعية الأمريكية الشرقية سنة 1940م تحت عـنوان تطور الشعر الديني في الإسلام، وهو بحث كان ينبغي أن نراجعه ونحن بصدد هذه الدراسة، ولكننا لم نتمكن من ذلك.

والذي يبدو أن الرجل كان مشغولاً بهذه القضية فترة طويلة من الزمن، ولعل انشغاله به ترك أثرًا في المستشرق الأمريكي فرانز روزنتال الذي كتب فصل الأدب في كتاب تراث الإسلام الذي صنفه شاخت وبوزورث، فروزنتال _ الذي شارك جرونباوم في بعض الأعمال العلمية  _ يستخدم مصطلح الأدب الإسلامي  بصورة واضحة أيضًا.

ملاحظات حول المصادر :

وأول ما يلقاك في دراسة جرونباوم هو فقر مصادره في بحث كهذا، مع أن طبيعة البحث تقتضي التوسع في المصادر، وقد ترك قصور المصادر أثرًا واضحًا في بحثه، أضف إلى هذا القصور في المصادر قصورًا أكبر في نوعية مصادره، فكيف يتسنى لباحث عن روح الإسلام كما تبدو في الأدب أن يصل إلى نتيجة مقبولة وهو لم يحاول أولاً أن يستخلص روح الإسلام من مصادره الأصلية، بل لم يحاول أن يأخذ روح الإسلام عمن أخذها من مصادرها الإسلامية ؟، ولكن هذا هو ما حدث، وقد كان من الطبيعي إن يترك هذا أثره على البحث.

طريقة البحث :

لقد كان جرونباوم دقيقًا حينما افتتح بحثه بقوله : حين نبحث كيف تمثلت روح الإسلام في الأدب لا يكون لبحثنا معنى إلا أن جعلناه تلمسًا لتلك الخصائص المشخصـة التي استنبـطت من _ أو تساوقت مع _ المبادئ والنظريات الإسلامية وعناصرها الأساسية  فهذا يعني أن تكون هذه المبادئ والنظريات الإسلامية وعناصرها الأساسية واضحة أولاً، مستخلصة من مصادرها الأصلية، ثم نبحث في الأدب عما استنبط منها أو تساوق معها.

عقبتان :

ومع وضوح هذا الطريق فإنه استشعر أن هناك عقبتين في طريقه :

الأولى : الحذر من الحلقة المفرغة التي تغري الدارس بأن يعرف طبيعة الإسلام من شواهد أدبية إسلامية، ثم يستغل تلك الشواهد ليبرز أثر الإسلام في النتاج الأدبي، وهذه عقبة مفتعلة ؛ لأن الذي يبحث في الأدب على ما يتساوق مع الإسلام لابد أن يكون الإسلام واضحًا عنده أولاً. إن الذي يقوله ينطبق على مقاييس العلوم التي تستنبط من أدب أمة من الأمم، ثم تطبق هذه المقاييس على هذا الأدب.

فالخليل بن أحمد يستنبط مقاييس العروض وقوانينه من الشعر العربي، ثم يكون العروض علمًا لموسيقى الشعر.

والنحاة يستنبطون مقاييس النحو من النصوص العربية الفصيحة، ثم يكون النحو علمًا يعرف به صواب الكلام وخطؤه، وهكذا.

فهذه العلوم لا مصدر لها إلا هذه النصوص، فهي تستخلص منها، ثم تطبق عليها، وعلى ما يستحدث على شاكلتها بعد ذلك.

أما طبيعة الإسلام فلا تستخلص من الشواهد الأدبية، وإنما تستخلص من القرآن، والسنة القولية، والسنة العملية، وليس لطبيعة الإسلام مصدر إلا هذا، ولست أدري كيف رأى في هذه النقطة عقبة ؟! إلا أن يكون ذلك منهجًا متبعًا عند البعض، فهو لهذا يحذر منه، ومهما يكن من أمر فإن جرونباوم لم يسلك الطريق الصحيح في فهم طبيعة الإسلام، قبل أن يبحث في الأدب على ما يتساوق معه، وقد كانت طبيعة المنهج العلمي تفرض عليه طريقًا آخر، لكنه لم يسلكه.

الثانية : أنه يجب علينا أن نتخذ من البحث في هذه المسألة صنوًا للبحث عن فلسفة إسلامية أو مسيحية، إن تسمية هذا النوع من البحث الفلسفي أو ذاك إسلاميا أو مسيحيا أمر غير وارد أبدًا، مادامت مشكلات البحث الفلسفي وأدواته مؤسسة على أسس فلسفية عامة، ولا وجه لقبول هذه التسمية المحددة إلا إن عنينا بها تفسيرًا وتبريرًا عقليين لمجموعة من الحقائق التي تتصل بهذا الدين أو ذاك بعد أن انتقلت إليه من طريق التفكير العقلي.

وهذا يعني أن البحث الفلسفي هو البحث الفلسفي، مهما لبس من أردية زمانية أو مكانية، أو حتى مليّة ؛ لأنه في الأصل يقوم على أسس إنسانية عامة، وما دام الأمر كذلك فلا وجه لتسمية البحث الفلسفي إسلاميا أو مسيحيا.

وبالقياس عليه فإن مقاييس الأدب هي أيضًا مقاييس إنسانية عامة، وما دام الأمر كذلك فلا وجه لتسمية هذا النوع الأدبي إسلاميا أو مسيحيا.

فإذا ما أردنا أن نطلق علي بحث فلسفي أنه إسلامي أو مسيحي فلا سبيل إلى هذا إلا أن يكون هناك تفسير أو تبرير عقلي لمجموعة من المواد والحقائق الدينية.

فالتفسير العقلي لهذه الحقائق هنا هو الفلسفة الملّية من وجهة نظره، أما طريقة النظر من حيث هي فإنسانية.

وقياسًا عليه إذا أردنا أن نطلق على أي أدب أنه إسلامي أو مسيحي فلا سبيـل إلى هـذا إلا إذا قـدمنـا صيــاغة أو رؤية أدبية إنسانية عامة لمجموعة من الحقائق الدينية، هذا هو ما يقتضيه القياس، وهذا هو ما يتفق مع منهجه الأول القائم على تلمس الخصائص المشخصـــة الــــتي استنبــطت مــــــن _ أو تساوقت مع _ المبادئ والنظريات الإسلامية.

وهذا يقتضي ألا نبحث عن فلسفة ملّية في المنهج، ولا في طريقة النظر، كما يقتضي ألا نبحث عن أدب ملّي في الحقائق الأدبية العامة.

هذا هو ما يمكن أن يفهم من كلامه، وهو بهذا يمكن أن يكون له فهم واضح في قضية الفلسفة الإسلامية أو المسيحية، أو أي فلسفة ملّية، كما يمكن أن يكون له موقف واضح في قضية الأدب الإسلامي أو المسيحي، أو أي أدب ملّي، لكن المشكلة أنه بعد هذا كله يرجع إلى فهمه للأدب الإسلامي، وهو الذي يعني به أدب الشعوب الإسلامية فهل ثمة معنى لقولنا أدب إسلامي أكثر من إطلاق لفظ إسلامي لتشمل الشعوب العديدة التي اعتنقت الإسلام؟ . وهذا يعني أن الخطوة التي خطاها إلى الأمام في فهم الأدب الإسلامي تراجع عنها بأقصى سرعة، والذي يبدو أن تحديد دلالة المصطلح، خصوصًا من غريب عن الإسلام والعربية ليس بالأمر الهين، ويزداد الأمر صعوبة إذا لم يكن هذا المصطلح متداولاً في البيئة الإسلامية. فإذا كان البحث عن روح الإسلام هو البحث عن الخصائص المشخصة التي تساوقت مع النظريات الإسلامية، فليس أدب الشعوب الإسلامية كله مشخصًا لتلك الخصائص، إلا إن أراد أن الأدب الإسلامي منه ما يتضمن تلك الخصائص، ومنه ما لا يتضمنها، وفي هذه الحالة يكون كلامه مستقيمًا، ومن ثم لا يكون هناك جديد في فهمه لهذا المصطلح، وما أظن أن الرجل كان يريد أن يقف عند هذا الفهم الشائع للأدب الإسلامي، فمحاولته في هذا البحث أبعد مدى من هذا.

مفهوم الأدب :

ولكن ما مفهوم الأدب الذي سيخضع للفحص والبحث والتماس السمات المشخصة ؟ إنه عند جرونباوم لا يتجاوز الآثار الأدبية التي أنشأها أصحابها، وهم يهدفون إلى خلق أثر فني، أي لا تشمل إلا الآثار التي تقوم في أساسها على أهداف جمالية، كالشعر، والنثر المنمق، وبعض الكتابات التاريخية، وصفحات من النثر المسجوع ، أما الكتابة اللاهوتية والأخلاقية والسياسية فقد كانت متساوقة والمبادئ الدينية عند منشئيها، وأنها من ثم تمثل روح الإسلام، فلا مشكلة فيها.

أحوال البحث :

وفي سبيل البحث عن روح الإسلام في الأدب، وتلمس الخصائص المشخصة فيه، راح يسلك كل سبيل ممكن، ويقلب الأمر على كافة وجوهه، ويفترض، ويناقش ؛ وذلك ليواجه المسألة للإجابة على أربعة أحوال وهي :

1_ المحتوى.    2_ الشكل الخارجي.

3_ الشكل الداخلي.

4_ موقف الناس من الأدب.

الحالة الأولى : المحتوى :

وكان أيسر الطرق هو البحث في المحتوى والمضمون، فتتبع الموضوعات التي أوجدها الإسلام، ومواجهة الأصداء التي تركتها العقيدة الإسلامية، والأخلاق الإسلامية في الأدب والتعرف على الصور المستمدة من التعبير القرآني، أو من نصوص الأحاديث، أمر يسهل إدراكه، لكنه يقف هنا عند الأب المتصل بالدوافع الدينية _ وليس بالأصداء التي تركها الإسلام في الأدب _ ويسجل سرعة ظهوره، وسعة انتشاره، ويكاد يكون من غير الضروري أن نوجه الانتباه إلى نشأة شعر ديني في أواخر القرون الوسطى يتمثل في المدائح النبوية والتوسل والتمجيد للأولياء، فإذا نظرنا إلى روح الإسلام على هذا النحو وجدناها منبثة في أدب كل صقع إسلامي، ولكننا لا ندري إن كانت مثل هذه النظرة تسهم إسهامًا قيمًا في تجلية فهمنا للعلاقة بين النتاج الأدبي الإسلامي وبين الإسلام دينًا ونظامًا اجتماعيا .والرجل في هذا الطريق لا يسجل شيئا، ولا يقدم نتيجة، ولا يفحص، ولا يحلل، وإنما يشيرو ويتساءل فحسب، وربما كان يخشى من المزلق الذي حذر منه فأثر السلامة.

إن مواجهة الأصداء التي تركتها العقيدة الإسلامية، والأخلاق الإسلامية، والتعرف على الصور المستمدة من التعبير القرآني، ونصوص الحديث، تتطلب فهمًا دقيقًا، وإحاطة واسعة بالعقيدة الإسلامية، والأخلاق الإسلامية، والقرآن والحديث، وهذا ما لا سبيل إليه عند كثير من المستشرقين الذين يقرأون عن الإسلام أكثر مما يقرأون في الإسلام، ويبنون أحكامهم على أسس غير مستمدة من المصادر الأساسية، كما سنبين بعد قليل، فإذا لم يتيسر لأحدهم هذا الفهم الصحيح وهذه الإحاطة، فلا سبيل أمامه إلا أن يتعرف على طبيعة الإسلام من الأدب، ثم يتخذ من هذا وسيلة لبيان أثر الإسلام في الأدب، وهذا ما حذر منه جرونباوم سابقًا.

الحالة الثانية : الشكل الخارجي :

أما الحالة الثانية التي سلكها في البحث عن روح الإسلام في الأدب فهي كما قال : أن ننقل الاهتمام من المحتوى إلى الشكل الخارجي، وهو في هذا الطريق أكثر وثوقًا ؛ فهو يبدي الملاحظات، ويصدر الأحكام في ثقة واطمئنان ؛ ربما لأن قضية الشكل ألصق بالأدب الخالص منها بالإسلام، ولكنه مع هذا كان يصدر من الأحكام ما لا يقوم على أساس ؛ لأنه بناها على فهم ناقص، ومصادر غائبة، ومعلومات شائهة.

إن أول ما يلاحظه في هذا هو : تفضيل الآداب الإسلامية للشعر والنثر المنمق، ولعلنا نذكر أنه كان قد حدد الأدب في هذين، وفي بعض الكتابات التاريخية أيضًا , والذي لاحظه هنا يسقط الكتابة التاريخية مما تفضله الآداب الإسلامية ؛ لأن هذا اللون من الكتابة لا يعتمد على التنميق، وإنما يعتمد على الملكة الصحيحة الفصيحة، والحس اللغوى الأدبي، وتاريخنا الأدبي لا ينظر إلى هذا اللون من الكتابة، والشيخ أبو الحسن الندوي يسمي هذا اللون من الأدب الذي يجيء في الكتابة التاريخية والكتابة العلمية والدينية أيضًا الأدب الطبيعي، ويسمي النوع الذي يعتمد على التنسيق الأدب الصناعي، وقد طغى النوع الثاني على ما تحتويه المكتبة الإسلامية من أدب طبيعي، وكلام مرسل، وتعبير بليغ، يحرك النفوس، ويثير الإعجاب، ويوسع آفاق الفكر، ويغرى بالتقليد، ويبعث في النفس الثقة، ولا عيب فيه إلا أنه صدر عن رجال لم ينقطعوا إلى الأدب والإنشاء، ولم يتخذوه حرفة ومكسبًا، ولم يشتهروا بالصناعة الأدبية، ولم يكن لهذا النتاج الأدبي الجليل الرائع عنوان أدبي، ولم يكن في سياق أدبي، وإنما جاء في بحث ديني، أو كتاب علمي، أو موضوع فلسفي، أو اجتماعي، فبقي مغمورًا مطموسًا في الأدب الديني أو الكتب العلمية .

وإذا رجعنا إلى ما لمحته عين جرونباوم ولاحظه فإننا نعتقد أنها لم تقم على أساس من استيعاب الآثار الأدبية الإسلامية، حتى لو استبعدنا الكتابة التاريخية والعلمية والدينية.

إن البحث في الآثار الأدبية الإسلامية ينبغي أن يبدأ من القرآن الكريم، والسنة النبوية، وما أثر عن تلاميذ مدرسة الإسلام الأولى، ثم يتدرج بعد ذلك إلى العصور التالية، والنثر المنمق لم يبدأ إلا في عصر متأخر نسبيا ، وعلى الرغم من تعدد فنون الآثار النثرية فإن الإسلام وضع الخطابة في مكانة متميزة لم تكن لها في الجاهلية، وسواء أكانت الخطابة ضربًا من ضروب النثر، أو كانت نمطًا فنيا مستقلا، نظيرًا للشعر والكتابة كما يذهب إلى ذلك الدكتور طه حسين ، فإنه لا يستطيع منصف أن يقول : إن فيها أثرًا للتنميق، لا في خطب رسول الله e، ولا في خطب الصحابة من بعده، بل ولا نستطيع أن نقول إن فن الرسائل _ وقد بقي لنا الكثير من رسائل النبوة والخلفاء _ يدخل تحت النثر المنمق، وأما الأدعية _ وهي فن إسلامي _ فهي أبعد ما تكون عن النثر المنمق، وإذا عني المتأخرون بتنميق آثارهم النثرية فليس ذلك راجعًا إلى تأثير النموذج الإسلامي أو ما يفضله الإسلام.

أما المغالطة الأخرى في هذه النقطة فتجيء في قوله : وقد يقول قائل : إن القرآن قد هيأ المثل الأعلى للتوسع في النثر المسجوع، ولكن قد يعسر علينا أن نربط ذلك الميل العام إلى تقليد الشكل بالأنموذج الذي وضعه القرآن.

والمشكلة هنا تكمن في أنه جعل المثل الأعلى في الآداب الإسلامية في النثر المسجوع، والسجع صورة متأخرة من صور التنميق، وليس هو التنميق، ثم أن يكون ذلك تقليدًا للأنموذج الذي وضعه القرآن، ومن ثم فلا يكون ذلك الميل أثرًا من آثار الإسلام ؛ لأنه كان موجودًا في الجاهلية، وفي دوائر غير إسلامية  لسنا في حاجة إلى أن نوضح كيف انجذب الناس إلى الشعر والنثر المسجوع في العصر الجاهلي، وأن هذا الميل قد تقوى في دوائر كتابية، لم تكن تستلهم الاعتبارات الدينية الإسلامية أبدًا، ومعنى هذا :

1_ أن الآداب الإسلامية فضلت النثر المسجوع.

2_ أن القرآن كان هو النموذج في النثر المسجوع.

3_ أن الناس كانت قد انجذبت إلى النثر المسجوع في الجاهلية، ومن ثم نستبعد أن يكون القرآن هو الذي حملهم على التوسع في هذا التيار.

وكل نقطة من هذه النقاط تقوم على فهم قاصر، فليس القرآن هو أنموذج النثر المسجوع، وليس السجع من لوازم القرآن، ولا يصح أن يوضع سجع القرآن _ أو فواصله كما يفضل كثير من العلماء أن يسموا هذا اللون في القرآن _ مع السجع الجاهلي الذي يجسده سجع الكهان، وتكون القضية أيكون المثل الأعلى للكتابة في سجع القرآن أم في سجع الجاهلية ؟ فما أبعد الفرق بين هذا وذاك _ إن صح أن يوضعا معًا في ميزان _ ولن تجد أحدًا من علماء هذه الأمة يفكر في أن يقيم موازنة بين هذا السجع وذاك ؛ لأن هذا لا يستـقيم عند العـقول الصــحيحة، إلا إذا استقام التوازن بين التبر والتراب، والقـضـية من الوضـوح بحـيث لا يصح أن يبسط فيها القول، ولا أن يجادل فيها.

ثم إن النثر الذي التزم السجع لم يعرف إلا في القرن الرابع ، والكتابة الفنية المنمقة عرفت في نهاية القرن الأول، وبداية الثاني، والنثر الفني الفطري الذي يقوم علي السليقة الصحيحة صاحب الإسلام منذ نزول القرآن، فلم دارت القضية حول النثر المسجوع وحده، وما شأن النثر في هذه المرحلة الطويلة التي سبقته ؟!

إن طرح القضية على هذا الوجه المغلوط انتهى به إلى نتيجة مغلوطة أيضًا فالميل إلى الشعر أكثر من النثر يمكن أن يسمى إسلاميا بمقدار ما التقت العروبة والإسلام في الحقيقة التاريخية، وفي المعتقد الذي يدين به المسلم العادي، ووجه المغالطة هنا أن الشعر أقرب إلى أن يسمى إسلاميا من النثر، مع أن للشعر تقاليد وأصولاً جاهلية، يمكن أن يرد إليها بسهولة ويسر، وأما النثر فليست له هذه التقاليد الراسخة في الجاهلية، وهناك من شكك في أن يكون هناك نثر بقي لنا من الجاهلية، يمكن الاعتماد عليه، واستخلاص الخصائص منه ، وإذا كان الأمر كذلك فإن الأقرب إلى أن يسمى إسلاميا هو النثر والخطابة _ إذا سلمنا مع طه حسين أن الخطابة نوع مستقل، والدكتور زكي مبارك يقطع بأن القرآن أساس المنهج الكتابي لذلك العصر ، والدكتور طه حسين يقطع بأن القرآن هو المثل الأعلى في الأدب كله، فنحن نعلم إلى أي حد بعد التأثير الأدبي في نفوس العرب، حتى أصبح المثل الأعلى الذي يحتذى به الكاتب والمحاور والخطيب والشاعر أيضًا ، كما يقطع بأن الخطابة العربية فن إسلامي خالص ، ويقطع أيضًا بأن النثر أثر من آثار الحياة الإسلامية الجديدة، ظهر في الإسلام ولم يكن موجودًا  ؛ لأنه لا يسلم بما بقي من آثار الجاهليين في النثر.

ثم إن الجدل الذي ثار قديمًا حول موقف الإسلام من الأدب، كان يدور حول الشعر وليس النثر، ولم يدر حول النثر إلا في قضية السجع وحدها، وهذا معروف مشهور، فكيف يقال بعد هذا كله : إن الشعر أقرب إلى ما يسمى إسلاميا من الشعر بالشرط الذي وضعه؟!

لكن مع هذا كله تبقى للرجل لمحة جيدة حينما قال : ولعلنا نحسن صنعًا لو سمينا الموروث إسلاميا، لأن الإسلام تبنى الموروث العربي _ اللغوي والأدبي _ وجعله وسيلته إلى معتنقيه، وهذا كلام جيد، ويصحح بعض أخطائه الماضية، لكن غير الجيد أن يعلل ذلك بقوله : فاللغة العربية أصبح لها بعض خصائص اللغة المقدسة ؛ لأن الوحي نزل بها، و اللغة المقدسة واللغة الدينية في كتابات المستشرقين عليها ظلال من لغة الكتاب المقدس عندهم، وهي لغة تراتيل وصلوات، وليست لغة حياة وحضارة وعلوم ومعارف، كما هو الشأن في العربية ، وقد ترتب على مقولة اللغة المقدسة أن ما دخل إليها من خارجها سماه ابتداعًا وبدعة، سواء في ذلك ما كان في نفس اللغة، أو ما كان في فنون التعبير، ثم سوى بين هذه البدعة _ حسب تسميته _ وبين البدعة التي هي خلاف السنة ولقد لحظ المسلمون أنفسهم هذه الاختلافات المحلية في الموروث الإسلامي وسموها بدعًا، تمييزًا لها عن السنة التي ورثوها عن الرسول، وما كانوا ملومين حين فعلوا ذلك ، وهذا كلام غريب عجيب يدل على قصور فهم، وعدم إلمام بالمصطلحات الإسلامية، ولولا الوقوع في خطأ اللغة المقدسة لما وصل إلى مقولة البدعة فيما دخل على اللغة أو فنونها من خارجها.

ولما رأى أن هذه اللغة التي فهم أنها مقدسة _ أو أصبح لها بعض خصائص اللغة المقدسة _ لاتضيق بالإفادة مما في تراث الآخرين، تساءل هل من حقنا أن نبحث عن التوافق بين هذه الأساليب الأدبية في  الأدب الإسلامي وبين الخصائص البنائية الأساسية في الإسلام، من خـــلال النــظر إلى الشكل الخارجي؟ !  .

الحالة الثالثة : الشكل الداخلي :

والشكل الداخلي يعنى به الملامح البنائية الأساسية للأهداف التى يختص بها الموروث الأدبي عند الشعوب الإسلامية، وهو هنا ينظر إلى الأدب العربي من زاويتين :

الأولى : ما لحظه الغربيون من أن الآثار الأدبية العربية متميزة بشىء من عدم التناسق أو الوحدة الذاتية في بنائها، ومظهر ذلك أن العناية القصوى موجهة إلى البيت، أو العبارة، أو الفقرة، على حساب البناء الكلي، فالوحدة في البيت لا القصيدة، والاستطراد في النثر، والخروج على الموضوع منهج مقرر معروف، ويرتب على هذا أن الأدب العربي مبنى على فترات قصيرة من الانتباه، أقصر من تلك التى يفترضها الأدب الغربي  .

ثم حاول أن يجد رابطة بين هذا وبين علم الكلام الإسلامي، فيرى أن الباقلاني الأشعري يرى أن الزمن توال غير مستمر للذرات الزمنية، وأن الله يخلق العالم في كل ذرة زمنية، ويظل يخلقه أبدًا، ثم يرى أن هذه النظرة تعبر عن نفسها في طرق عدة، فنرى حد الإيمان بأنه مجموع الفضائل، وحد الإنسان  أنه مؤلف من جواهر وأعراض  وحد الجسم  أنه مجموعة من أعراض  ثم يقول: من هذا يمكننا أن نقول: إن الميل إلى رؤية الكون غير مستمر، والميل إلى الاهتمام بالجزئيات فيه _ لا بانسجامها واكتمال تأليفها _ إن هذا متصل بلب التجربة الإسلامية، وعلى هذا النحو يستطيع المرء أن يوفق بين الأدب وبين الفلسفة والمبادئ الكلامية الإسلامية، توفيق تقارب لا توفيق توالد أو صدور، وثمة قد يكون للمرء الحق في أن يرى في هذه النظرة إلى الأدب ظاهرة إسلامية على وجه التحديد .

وجرنباوم هنا كما نرى أقرب إلى الجزم منه إلى الشك أو التساؤل.

والذي لم يقله الرجل، ولكنه كامن في كلامه أن القرآن هو أيضًا يتميز بشىء من عدم التناسق، أو الوحدة الذاتية في بنائه، وأنه مبنى على فترات قليلة من الانتباه، وأنه يقفـز من موضوع إلى آخر… الخ، فما دامت هذه الخصائص متصلة بلب التجربة الإسلامية، وما دامت هذه الأمور ظاهرة إسلامية، فلابد أن يكون القرآن هو المجسد لهذه الخصائص أولاً !!

وأنا لا أنازع في أن النقاد العرب عنوا بوحدة البيت، واستقلاله، وأن بعضًا منهم عاب افتقار البيت لما قبله، بحيث لا يفهم إلا به، وأن الكتاب كانوا يجنحون إلى الاستطراد، فهذه أمور لا ننازع فيها، ولكن هناك فرقًا بين الملاحظة وبين التفسير والتوجيه.

إن القول بأن الأدب العربي مبنى على فترات قصيرة من الانتباه بناء على الملاحظات السابقة هو قول لا يصدر إلا عن هوى، أو قصور في الفهم.

والقول بأن الأدب العربي مصاب بشىء من عدم التناسق أو الوحدة الذاتية في بنائها هو قول لا يصدر إلا عمن لم يتصل بالأدب العربي اتصال وعي وفهم وتأمل، أو ممن في قلبه غرض أو مرض.

إنه من البدهيات أن اللغة العربية لغة إيجاز، حتى قال بعضهم : البلاغة الإيجاز، والإيجاز تكثيـف للمــعنى، ولا يستقيم في عقل أن يستقبل أحد هذه اللغة الموجزة المكثفة وهو غافل أو مشغول، إنه لابد أن يكون في غاية اليقظة وفي قمة الانتباه.

والإيجاز في هذه اللغة لا يلتمس في العبارات والتراكيب فقط، وإنما يبدأ من الكلمة، فبناء أغلب الكلام العربي على ثلاثة أحرف هو ضرب من الإيجاز، بل إن من الكلام ما يبنى على حرفين كفم ويد وأخ، وفيه ما يبنى على حرف واحد كفعل الأمر من: وعى ووفى.

والتعبير بالكلمة التى تغنى عن جملة إيجاز، فاللطم والصفع والصك والشج والرشق والشدخ والركل والرفس والطعن والوجء، كلها كلمات تدل على الضرب، ولكن لكل لفظ منها دلالة خاصة، مما يغنى عن الشرح والتفسير، ولو استخدمت اللغة الضرب فقط للدلالة على هذه المعاني لاحتاجت للتعبير عن كل معنى من هذه المعاني إلى جملة من الكلام، فاللطم ضرب على الوجه، والصفع ضرب على القفا، والشج ضرب على الرأس حتى تدمي… وهكذا ، فهل  يصل الإيجاز في لغة العرب إلى اللبنات الأولى إذا لم يكونوا على أعلى درجة من الدقة ؟ وهل يكونون على هذه الدرجة من الدقة إذا كانوا قومًا لاهين أو غافلين ؟ وهل يمكن للاه أو غافل أن يفهم إيجاز الحذف، أو إيجاز القصر ؟

إن تكثيف المعنى في إيجاز القصر على وجه الخصوص يحتاج إلى وعي وفهم وإدراك من درجة خاصة، ولا يمكن أن يكثر هذا الأسلوب في لغة العرب، وفي القرآن الكريم إلا إذا كانت هناك عقول تحسن استقبال هذا اللون من الفن الرفيع.

إن العرب _ الذين استودعوا هذه اللغة عبقريتهم وفطرتهم وسليقتهم _ هم الذين طوروها بيقظتهم وانتباههم وشغفهم بإبداع الشعراء والخطباء، وقدرتهم على التمييز بين جيد الكلام ورديئه بوعى ناقد وبصيرة نافذة، ولو كان العرب قومًا لاهين، يستمعون إلى الشاعر وهم شاردون، ويستقبلون الخطيب وهم غافلون، لما جود أحد في شعر، ولاتفنن في خطابة، ولاتجهت اللغة إلى الحضيض لعدم العناية بها وانشغال العرب عنها.

إنه من المعروف أن معجزة كل نبي تكون من جنس ما نبغ فيه القوم، وبلغوا فيه الغاية، وقد كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، الذي تحداهم أن يأتوا بمثله، ثم بعشر سور ثم بسورة، فهل يتحدى القرآن قومًا يستقبلون البيان الرفيع وهم غافلون ؟!، وأي معنى يكون للتحدى حينذاك ؟.

وهل يمكن لقوم لاهين أن يدركوا ما بين لغة الشعر ولغة القرآن من فروق، فيشهدوا للقرآن بالتفوق، ويصدعون بأنه ما ينبغي أن يقوله بشر، ويسجدون لفصاحته، وهم يستقبلونه على فترات قليلة من الانتباه؟!.

ثم إنه إذا سلكنا الطريق الصحيح ونظرنا إلى القرآن نفسه لنستمد منه المقاييس الإسلامية لوجدناه يستحث الناس على الانتباه واليقظة والإنصات والاستماع والتفقه والتدبر والتفكر.

ففي سورة الأعراف المكية {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} (آية : 204).

وفي نفس السورة : {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} ( آية : 176).

وفي سورة النحل المكية : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} ( آية : 44).

وفي سورة محمد المدنية نقرأ : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (آية : 24 ).

فكيف يستقيم في عقل أن الأدب العربي مبنى على فترات قليلة من الانتباه، وأن هذا متصل بلب التجربة الإسلامية ؟ فهل الآيات التى سقناها تحمل الناس على أن يستقبلوا ما يتلى عليهم على فترات قليلة من الانتباه ؟ !.

ثم إذا نظرنا في قوله تعالى في سورة آل عمران : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} (آية : 7) فهل نجدها تحمل الناس على قلة الانتباه، أو نجدها تحملهم على اليقظة والوعي والفهم والتدبر ؟

إن الآيات المتشابهات والآيات المحكمات يحتاجان معًا إلى العقل والوعي، سواء أقلنا إن الواو في والراسخون في العلم عاطفة، فيدخل هؤلاء في علم التأويل، أو استئنافية، فيدخلون في التفويض، وختام الآية {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَاب} يدلك على ضرورة الوعي والانتباه وليس العكس.

إن الرجل لم ينظر في القرآن حينما سجل هذه الملاحظات، ورتب عليها الحكم الذي لا أساس له، مع أنه يبحث عن روح الإسلام في الأدب، ومع أنه حذر من أن تعرف طبيعة الإسلام من الأدب، ثم تستغل تلك الشواهد لإبراز أثر الإسلام في الأدب.

وحتى لو نظرنا في الأدب وحده، ونظرنا فيما استنبطه النقاد من مقاييس، لما وجدنا أثرًا لهذه المقولة، التى لا أدرى من أين جاء بها.

راجع مثلاً حديث العلماء عن  الإرصاد أو التوشيح أو التسهيم على اختلاف بينهم في الاصطلاح، وهو الذي يصل فيه المستمع إلى قافية الشعر أو نهاية الفقرة إذا عرف الروى قبل أن يصل المتكلم إليها، فهل تجده يقوم على قلة الانتباه ؟ وكيف يسبق إلى القافية أو نهاية الفقرة غافل أو نائم ؟ !

إن هذا الفن يقوم على تداعي المعاني، وترابطها، وبناء بعضها عل بعض، فمن أحسن فهم صدر الكلام توصل إلى آخره بذوقه وإدراكه، وهو بهذا يشعر أنه شريك في بناء النص، وليس مجرد متلق غافل.

والاستعارة التي تعطيك في تعبير واحد الإيجاز والتشبيه والمبالغة ودقة النظم وتداخل أجزاء التشبيه، هل يمكن أن يدركها غافل لاه ؟.

والفصل والوصل الذي لا يقوم إلا على فهم طبيعة العلاقة بين الجمل، فيصل بين ما يستحق الوصل، ويفصل بين ما يستحق الفصل، هل يمكن أن يدرك هذا غافل ؟ أن لا أريد هنا أن أسترسل فيما استنبطه النقاد من مقاييس بلاغية ونقدية من حر كلام العرب، ولكن الوقوف على هذه الثروة _ وأنا أظن أن جرونباوم بمعزل عنها _ يدلك على أن الأدب العربي لا يقوم إلا على الوعي واليقظة والانتباه، وأن الرجل حينما قال ما قال كان بمعزل عن الأدب العربي وعن الإسلام في آن واحد.

أما حكاية عدم التناسق، وعدم الوحدة، وهي المقولة الشائعة في دراسات المستشرقين، وفي كتابات بعض الدارسين العرب فهي عجيبة أخرى، ونسبتها إلى لب التجربة الإسلامية أعجب وأغرب.

إن التجربة الإسلامية التى تنسب إليها هذه التهمة تجسد الوحدة والتوحد والتناسق إلى أبعد الحدود، لقد كان العرب مزقًا شتى فجعلهم الإسلام أمة واحدة، وأي مسلم لم يحفظ، أو على الأقل لم يسمع قوله تعالى في سورة آل عمران : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} ( آية : 103)، إن التأليف هنا لم يكن بين الصفوف فقط، ولكن بين القلوب، والمؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى : {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} (الأنفال : آية 63)، لقد كان العرب يعبدون آلهة شتى فأصبحوا يعبدون إلهًا واحدًا، فتوحدت العقيدة والعبادة والقبلة والوجهة والغاية والغرض، كما توحدت القيادة والشريعة والمنهج، هل تحتاج إلى أن نوضح الواضح ونقيم الدليل على أن الشمس ساطعة في ظهيرة الصيف في جزيرة العرب ؟!.

وليس يصح في الأذهان شىء

إذا احتاج النهار إلى دليل

إن التجربة الإسلامية تجربة وحدة وتناسق، وليس العكس، كما يزعم جرونباوم.

ولكن هل ذاب الفرد في الجماعة وتلاشى فيها ولم يعد له وجود ذاتي؟ إن لب التجربة الإسلامية يجعل للفرد وجودًا متميزًا، وحرية، وكيانًا مستقلاًّ.

والمسئولية الفردية تظل قائمة مهما قوى شأن الوحدة والتوحد والتناسق.

وفي هذا الإطار تتاح الفرصة للجميع للعطاء والتفوق والتميز، ومن هنا يستقيم لديك وأنت تقرأ تاريخ الأمة أن تقف عند علامات بارزة من القادة الأفذاذ، والعلماء الأعلام، والقضاة الأذكيـــاء، والشـــعراء الكبار…إلخ. ومن ثم يصح لك أن تتحدث عن هذا الفرد أو ذاك حديثًا متميزًا، وتعطيه مساحة واسعة، فيخلد هذا ويخمل غيره، وليس لأحد أن يقول إن التجربة الإسلامية تقوم على تميز الفرد أو على الجهود الفردية، ومن ثم تصاب بعدم التناسق أو الوحدة الذاتية، إن الأفراد، الذين تميزوا هم في النهاية جزء من الأمة، هم مستقلون، نعـم، ولكنهم ليسوا أفرادًا مبعثرين، لا يجمعهم جامع ولا تربطهم رابطة.

إن التجربة الإسلامية تجربة وحدة وتوحد، ولكنها في الوقت نفسه تجربة لا يذوب فيها الأفراد، ولايتلاشون.

والتجربة العربية فيها شىء من هذا.

فالفرد فيها كان مستقلاًّ شديد الاستقلال، ولكنه في الوقت نفسه كان جزءًا من القبيلة، والانتماء إلى القبيلة انتماء إلى إلهها وعاداتها وتقاليدها وأعرافها، والذين رفضوا هذه الأعراف والتقاليد لفظتهم قبائلهم، وتبرأت منهم فتكونت منهم جماعات الصعاليك، فاستقلال الفرد كان استقلالاً في إطار عام، ولم يكن استقلالاً خارجًا عن هذا الإطار.

وفي هذه الحدود يمكن أن نفهم معنى وحدة البيت.

إن وحدة البيت كوحدة الفرد، استقلال في إطار البناء الكلي، وليست استقلالاً كاستقلال الصعلوك، يمكن أن ينتمي إلى جماعة من الصعاليك، ويمكن أن يعيش منفردًا.

إن كل بيت من أبيات القصيدة الجيدة السبك لبنة في بناء، لها وجودها وتميزها واستقلالها، ولكنها جزء من هذا البناء، يتماسك ببقائها، ويحدث فيه خلل بذهابها.

أما أن نفهم أن وحدة البيت تعنى أن كل بيت مستقل بذاته، يبقى إذا شاء، ويذهب إذا أراد، وأن القصيدة مجموعة من الأبيات المستقلة المتجاورة وكفى، فهذا فهم شديد القصور، ولو جاء القرآن يتحدى هذا النمط من الكلام لما ثبت له تفوق ولا تميز .

أما حد الإيمان وحد الإنسان وحد الجسم التى أراد بها أن يدعم نظرته هذه فلم يرجع فيها إلى مصادرها الأصلية، وهي حدود لا صلة لها بالتجربة الإسلامية حتى يعتمد عليها، ومن يرجع إلى كبرى موسوعات المصطلحات وهو كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي فسيطلع على حدود مختلفة للإيمان، تلتقي وتتباعد، حسب الفرق المختلفة، وليس من بينها حد واحد يحوز الإجماع، والأمر في حد الإنسان، وحد الجسم، وحد الزمان، لا يختلف كثيرًا عن حد الإيمان  .

وهكذا يتبين لك حجم الخلط والخبط والاضطراب في هذه القضية، التى جنح فيها إلى الجزم في تشخيص التجربة الإسلامية، وبيان بصمتها على الأدب.

أما الزاوية الثانية التى نظر منها إلى الشكل الداخلي للأدب العربي، بحثًا عن الأثر الإسلامي فيه، فهي ملاحظته غياب الرواية والقصة عن الأدب العربي، وليس لجرونباوم في هذه الزاوية من مصادر، لا أصلية ولا فرعية، غير أن ينقل بعض النصوص عن بحوث أخرى له، وهو هنا أيضًا شديد الوثوق بما يقول، كثير الاطمئنان إلى ما يكتب، وهو يذهب في ثقة إلى أن المسلم العربي يحتقر الاختراع الأدبي، وأن فيه نفورًا من الاستسلام لدوافع الخيال، ويرى أن هذا أيضًا يرد إلى الإسلام، والنزعة الدينية فقد اهتم الدين الجديد بأن يؤكد ألا خالق إلا الله، وأنه مطلق القدرة على كل شىء، ولم ينس أن ينكر على الإنسان كل قوة، تثير فيه الغرور بكفاياته ومواهبه، وتزعزع موقفه في علاقته بالله، ويقول أيضًا : ثم إن الدين وقف سدًّا دون الإيمان بقدرة الإنسان على الخلق، ومما أيده في ذلك عجز الناس عن أن يميزوا على اليقين بين الخلق الفنى والخلق من العدم   .

أما غياب القصة والرواية _ والملاحم والمسرح أيضًا _ عن الأدب العربي فهي مقولة كثر الجدل حولها، فهناك من ينفيها وهناك من يثبتها، ولكن إثارة القضية على هذا النحو إنما تنطلق من النظر إلى واقع القصة والرواية الحديثة في أوربا، ونحن لو نظرنا بهذا المقياس نفسه إلى الآداب القديمة في أوربا لوجدناها خالية أيضا من القصة والرواية. ولكن لو تخلينا عن هذا القياس لم نعدم في تاريخ كل أدب _ ومنه الأدب العربي _ نوعًا من القصص.

لكن الذي ينبغي أن نسجله هنا أن غيبة القصة والرواية كانت واضحة عند النقاد والعلماء والبلاغيين، لقد كان الشعر سيد فنون الأدب، وكانت المقاييس النحوية واللغوية والبلاغية والنقدية تستقى منه بالدرجة الأولى، ولم يشغل النقاد أنفسهم بالقصص العربية دراسة وتحليلا واستخلاصًا للمقاييس التى تحكمها، وربما كان ينظر إليها على أنها ضرب من الأدب الشعبي الذي يرضي خيال العامة.

ثم إننا لو نظرنا إلى القرآن الكريم لوجدنا للقصة فيه مكانًا متميزًا وكذلك الحديث الشريف، ولكن طغيان فن العربية الأول وهو الشعر، شغل النقاد عن الاحتفال بهذا النوع الفني.

أما الخيال فمشكلته أيضًا أنهم نظروا إلى العرب من خلال خيال اليونان في آثارهم الأدبية، ولو تجردنا من هذا الخيال اليوناني، ونظرنا إلى الأدب العربي نظرة مجردة، فهل نستطيع أن نجرده من الخيال ؟

الأدب العربي القديم يخلو من القصص والروايات بالمقياس الأوربي المعاصر، نعم، ولكنه لا يخلو من القصص من حيث هي قصص بما كان يتناسب مع تطور هذا الفن الأدبي، ولقد سجل الكثيرون أن القصص العربي القديم ترك بصماته على النهضة الأدبية الأوربية .

والأدب العربي يخلو من الخيال بالصورة التي وجدناها في الأدب اليوناني، نعم، ولكن لا يخلو من الخيال الذي يتفق مع البيئة العربية، والشخصية العربية.

ونحن لن نجهد أنفسنا في البحث عن صور من الخيال العربي في عالم الجن والسحر، لنثبت أن لنا خيالاً مناظرًا للخيال اليوناني، وليس من الضروري أن يكون الخيال في أمة من الأمم هو المثل الأعلى للخيال، إلا إذا كانت هذه الأمة في حالة هيمنة وسيطرة، كما هو الحال في الحضارة الأوربية المعاصرة، التي ورثت تقاليد اليونان والرومان في الأدب والخيال والفكر.

إن العرب احتفلوا بالخيال، وأقاموا عليه أدبهم، ولا يقوم أدب بلا خيال، واحتل الخيال مكانه في الدرس النقدي، وزادت قيمته عند الصوفية، حتى قالوا: الخيال أصل الوجود ، فكيف يقال بعد ذلك: إن الأدب العربي، أو الأدب الإسلامي فيه نفور من دوافع الخيال ؟

لقد كان أفلاطون يرى في الشاعر ترجمانًا عن الوحي الإلهي ، وكانوا يضعون الشاعر في منزلة النبي، فهل يجب علينا أن نحذو حذوهم حتى نحظى بشرف الدخول في جنة الشعر والأدب؟

إن لكل حضارة رؤيتها في الأدب والشعر والخيال، وليس لأحد أن يجعل من أدبه المثل الأعلى للأدب، ومن مقاييسه مقاييس عامة يحكم بها على كل الآداب، في مختلف الأمم والشعوب في كافة العصور.

ثم كيف يبدع العرب في ظل الإسلام هذه الآثار الأدبية الخالدة، ثم يقال: إن الإسلام يحتقر الاختراع الأدبي؟!

إن الرجل خلط بين الخلق بمعنى إيجاد المادة من العدم، وبين الخلق بمعنى الابتكار والإبداع والاختراع، والوصول إلى جديد الصور والمعاني، صحيح أن التراث الإسلامي يتحرج من إطلاق لفظ الخالق على غير الله سبحانه وتعالى، ولكنه في الوقت نفسه يحتفل بمصطلحات البديع والإبداع والاختراع، وينزلها منزلتها في التراث النقدي، وحديث النقاد عن سبق الشعراء إلى معنى بعينه معروف مشهور.

أليس من العبث بالعقول أن يوهمنا جرونباوم أن اهتمام الإسلام بالتأكيد على أن الله خالق كل شىء، وأنه مطلق القدرة، يعني أنه ينكر على الإنسان كل قوة ؟، وهل وقف الرجل على خلاف علماء الكلام حول خلق العبد وأفعاله ؟، لقد وصل الأمر بأحد العلماء المعتزلة وهو الرماني إلى أن يرى في قوله تعالى : {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ضربًا من المبالغة ؛ لأنه وضع الصيغة العامة كل شىء في موضع الصيغة الخاصة، ومعنى هذا عنده أن الله لا يخلق كل شىء، وهو يعني بذلك أنه لا يخلق أفعال العبد، وإنما يخلق العبد أفعاله بنفسه .

لقد سبق لجرونباوم أن ردد هذا الكلام في بحثه الأسس الجمالية في الأدب العربي الذي نشر سنة 1952م، وهو البحث الذي انتزعه من دراسته عن الأدب الإسلامي العربي الذي سلفت الإشارة إليه، وهذا يعني أنه وصل عنده إلى درجة المسلمات، حتى أغناه عن الإحالة إلى مصدر أو مرجع، وهذه آفة الهوى، أو الثقة الزائدة في الفهم والاستنتاج.

لقد سبق للرجل أن تعجب واندهش حينما وجد مصطلح الاختراع عند ابن قيم الجوزية ومما يلفت النظر أن ابن قيم الجوزية المتوفي سنة 1350، جعل الاختراع في المكانة الحادية والثلاثين، بين محسناته المعنوية، الأربعة والثمانين، وهي مكانة كما ترى ليست عظيمة الشأن ، ولست أدري ما الذي لفت نظره، وأثار انتباهه ودهشته، أهو مصطلح الاختراع، أم وضعه في المنزلة الحادية والثلاثين ؟.

واضح أن الرجل لم يطلع إلا على فهرس الموضوعات، وأنه لم يحسن الاطلاع على تراث العرب، فليس كتاب الفوائد لابن قيم الجوزية بالذي يكفي من يرجع إليه في قضايا النقد والبلاغة، ولا يحتل مؤلفه مكانة بارزة في هذا الفن، ولو أحسن الرجل القراءة في مصادر التراث وتجرد من الهوى لما ذهب إلى ما ذهب إليه، ولما أعرض عن شهادات من سبقوه إلى ما يتميز به هذا الأدب من ابتكار وتوليد وخيال .

فإن كانت القضية قضية مصطلح فإن ابن قيم الجوزية _ وهو في البلاغة تابع وليس بمبتدع _ لم يتفرد بهذا المصطلح، فقد ذكره ابن وهب الكاتب، في كتابه البرهان في وجوه البيان، وذكره ابن رشيق في العمدة في الباب الخامس والثلاثين وهو باب المخترع والبديع، والمخترع عنده من الشعر مالم يسبق إليه قائله، ولا عمل أحد من الشعراء قبله نظيره، أو ما يقرب منه، ويقول : وما زالت الشعراء تخترع إلى عصرنا هذا وتولد، غير أن ذلك قليل في الوقت ، بل إن ابن رشيق يستخدم لفظ الخلق أثناء تفريقه بين الاختراع والإبداع، فالاختراع هو خلق المعاني التي لم يسبق إليها، والإتيان بما لم يكن منها قط ، وما أكثر من تحدث عن هذا الباب من المتأخرين بهذا المصطلح أو بمصطلح قريب منه.

وإن كانت القضية قضية تجديد في الشكل، والفنون الأدبية، كما هو واضح في البحوث المتعددة، التي تعرض فيها لهذه القضية، فليس في مصطلح ابن قيم الجوزية ما يتصل بهذا المعنى، فهو يقول : قال علماء البيان : الاختراع أن يذكر المؤلف معنى لم يسبق إليه .

ولو كان الرجل ممن يقرأ النصوص لا العناوين لما ذكر هذا المصطلح في الموضع الذي ذكره فيه، ولما وقف به عند ابن قيم الجوزية إن أراد أن يدرسه.

أثر الدين في الأدب الفارسي :

لم يكد الرجل ينتهي من أحكامه الصارمة على الأدب العربي، ومن بيان أثر الإسلام فيه، على الصورة التي سلفت حتى واجهته صعوبة تحقيق هذه الأحكام على الأدب الفارسي، إذا كان هذا هو أثر الدين في الأدب فما بال الفرس قد ابتعدوا كثيرًا عن الوجهة التي رسمها الموروث العربي الإسلامي؟ وأرجو ألا ننسى أن الإسلام ترك في الأدب العربي مجموعة من الآثار السلبية من وجهة نظره.

فالأدب العربي يخلو من التناسق والوحدة الذاتية.

والأدب العربي يقوم على فترات قصيرة من الانتباه.

والأدب العربي يهتم بالجزئيات أكثر من اهتمامه بالبناء الكلي.

والأدب العربي يحتقر الاختراع والابتكار وينفر من الخيال.

لكن الرجل لم ير هذا الأثر في الأدب الفارسي، فكيف عجز الإسلام عن أن يترك بصماته على الأدب الفارسي كما تركها على الأدب العربي؟

استمع إليه وهو يشخص الأدب الفارسي : ففي الأدب الفارسي المحدث انسجام، وفيه مبنى متكامل متسع، وهو يسمح بوجود أدب خيالي، أو على الأقل بوجود نماذج خيالية يقدم من خلالها الحقائق الأخلاقية والدينية، لقد نجا الأدب الفارسي إذن من كل عيوب الأدب العربي التي هي أثر من آثار الإسلام فيه، وإذن فإن الإسلام لم يؤثر في الأدب الفارسي من ناحيتين : الثانية : (الشكل الخارجي)، والثالثة : (الشكل الداخلي)، وإن لم ينف تأثره بالناحية الأولى، وهو المحتوى، حيث إن الأدب الفارسي استطاع أن يعبر عن الحقائق الأخلاقية والدينية، وهذه هي الأصالة في نظر الرجل، والملاحم الفارسية طويلة حسنة التصميم، وهي في معظمها معالجة جديدة لموضوعات مستمدة من الأدب الفارسي القديم، ولدى الفرس متعة لا يخطئها الناظر، في سرد تلك الأحداث الواقعة بين الأسطورة والتاريخ، وهم يبنون الحكاية البطولية بوضوح وتماسك، وبعض الملاحم بالغة الطول، حتى ليعسر على الشاعر أن يحافظ فيها على منهج واحد صارم، ومع ذلك تجده يسيطر على مادته، دون أن يسمح لنفسه بالانقياد وراء الاستطرادات والتهويمات، التي قد يجد فيها متعة ذاتية، ولا يحجم الشاعر عن أن يخترع حكايات جديدة، أو أن يعيد تكوين الحكايات القديمة من جديد، لتصبح مسألة الأصالة في غاية الدقة. بل إن الملحمة الدينية التي قد يفترض المرء أن الشاعر قد يلتزم فيها الموروث العربي الإسلامي، لتحفل في الحقيقة بأبرع الأصالة ؛ لأنه يقدم فيها أطرًا خيالية، يضمنها تطورات سيكلوجية، كان يعرف فيها صعود النفس للاتحاد مع الله، بل إن أفضل وسائلهم لنقل التقاليد الصوفية، والأهداف الأخلاقية، هي الحكايات التي تتصل بالأسطورة، ولا تنتسب إلى التاريخ إلا لمامًا .

وأنت ترى أنه كلما ابتعد الأدب عن الموروث الإسلامي كان أكثر أصالة، وكلما اقترب منه، خلا من الأصالة، أرأيت فهمًا للأصالة أطرف من هذا الفهم ؟! إن الرجل هنا لا يتحدث عن الأدب الفارسي، وإنما يتغزل فيه، ويدبج فيه آيات المديح والثناء ؛ لأنه خلا من كل العيوب التي أورثها الإسلام الأدب العربي، ومن ثم أصبح أدبًا أصيلاً، أو متصفًا بأبرع الأصالة.

الناحية الرابعة : موقف الناس من الأدب :

وهو يرى في هذا المقام أن الشاعر لم يكن يحكم عليه بقيمته الجمالية فحسب، بل كان يحاسب فيه على الضبط، وصحة الأقوال، وهذا راجع إلى أن عمل الشاعر في الحضارة الإسلاميةلم يكن يستند إلى الموهبة وحدها، وإنما يستند أيضًا إلى انغماس الشاعر في الموروث الشعري، وأن يتعرف إلى ما فيه من أهداف ومنازع، وأن يحكم أساليب فنه حسبما انتقلت من جيل إلى جيل، وهذا الكلام كان قد ردده من قبل في بحثه : الأدب الإسلامي العربي، ثم في الأسس الجمالية في الأدب العربي، وقد يكون الأديب مبدعًا، وقد يكون كذلك من ذوي العمق النفسي، الذي يطبع العمل الفني بطابع منه، ولكن ذلك لا ينهض به إلى درجة الشاعر الذي كان يفترض فيه أن يكون عظيم التمكن من شكليات الصياغة، كثير الدراية بالعلوم المعاصثرة، مما يجعله إلى العالم أقرب منه إلى الشاعر، ولم يكن في معرفته بالقواعد التقليدية، وبالعرف الشعري، وبطرائق الصناعة، ما يكتفي به النقاد، إذا لم يكن قد استظهر ما في بطون الكتب، وذلك لأن الحكم على عمله لم يكن بمقدار ما فيه من إيحاء، بل بمقدار ما تيسر له جمعه من حقائق ومعلومات، وما يبلغ من محافظة على قواعد الصياغة الشكلية .

وهذا الكلام متصل بقضية الابتكار والاختراع والإبداع، التي سلفت الإشارة إليها، وهو يرى هنا أن هذا متصل أيضًا بالنظرة الإسلامية التي ترفع من شأن العالم _ لا الشاعر _ فهذه النظرة إلى صناعة الشعر متساوقة والنظرة الإسلامية إلى العلم، منسجمة مع تلك المكانة الكبرى التي تمنحها المدنية الإسلامية للعلم في ذاته، وهذا الشغف بالمعرفة يتصل بدوره بالمطامح الأساسية في الإسلام .

وليست القضية هنا في أن يكون الشاعر مثقفًا أو لا يكون، فما من شك أن إبداع الشاعر المثقف أكبر قيمة وأعمق أثرًا من إبداع الشاعر غير المثقف، وأن الفطرة والموهبة والطبيعة الشاعرة وحدها لا تكفي في أن يكون الشاعر شاعرًا بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، وربما استطاع الموهوب _ غير المثقف _ أن يخلب لب الناس بطريقة أدائه وطرافة صوره، وبعد خياله، ولكن ذلك سرعان ما ينكشف خواؤه فينصرف عنه النقاد والناس.

لكن من الذي قال إن الناس تطلب في الشعر الحقائق والمعلومات ؟، وأن الشاعر يكون شاعرًا بمقدار ما يسرد من الحقائق والمعلومات ؟ إن الشعر لو كان كذلك لتحول إلى منظومات تعليمية، كالمتون الشعرية الكثيرة في التراث الإسلامي.

ليس الشاعر من يقدم لك الحقيقة العلمية، ولكن من يقدم لك الحقيقة النفسية والشعورية، هو الذي يكشف عن حقائق الطبيعة البشرية، وهذا الصنف من الشعراء هم الذين بقي شعرهم خالدًا على مر الزمان، كزهير والمتنبي وأبي العلاء وكثيرين غيرهم، أما الحقائق العلمية، أو حقائق الدين، فلها مصادرها عند العلماء والفقهاء، والخلط بين الأمرين يدل على سوء الفهم _ وهو عندنا أكبر من ذلك _ أو سوء القصد.

نعم إن تراثنا النقدي يضم بعض المآخذ على الشعراء فيما يسوقونه من معلومات ، ولكن هذه المآخذ لم تكن تسقط الشاعر ولا شعره، ولا تهز من شاعريته ؛ لأنها أمور تقع خارج صنعة الشعر، ولا يصح أن يبني عليها حكم عام، كالذي فعله جرونباوم.

ونحن هنا لا نريد أن نتوقف كثيرًا عند هذه النقطة ؛ لأنها تكاد تكون واضحة قريبة.

* * *

ولكننا نتفق مع جرونباوم حينما انتهى بعد هذه الرحلة النظرية إلى قوله: إن وحدة الآداب التي يمكن أن نسميها إسلامية لأن أربابها اندمجوا معًا في دين واحد ظلت متماسكة الأطراف، لأن أصحابها توحدوا في تجربتهم الوجودية، وتوحدوا في منازعهم الفكرية الأساسية، وتوحدوا بالانضواء تحت سلطان مبادئ تنص على الشكل وطريقة التعبير، وإن ننس فلا ننسى اشتراكهم في نظام سياسي واجتماعي عاشوا في ظله، وحيث لم تتدخل هذه العناصر بطريق مباشر أو غير مباشر انطلقت من عقالها تطورات محلية أو أساليب محلية مبنية على موروثات غير إسلامية .

نعم نتفق معه في هذا القول في إطاره العام، ونتمنى أن يكون هذا منهجًا في دراسة الأدب الإسلامي والتأريخ له، على الرغم من خلافنا العميق مع جرونباوم في تحليلاته واستنتاجاته التي بناها على مصادر غائبة أو ناقصة، والتي انقاد فيها للمسلمات الاستشراقية عن الأدب العربي الإسلامي أكثر ما انقاد فيها إلى الحقائق العلمية، والتي حَكَمَهُ فيها الهوى أكثر مما حكمه سلامة المنهج.

* * *

الجانب التطبيقي :

أما الجانب التطبيقي فقد اختار له المقامة الحادية عشرة من مقامات الحريري، وقد ذكرها ملخصة، ثم راح يطبق عليها نظراته السابقة من نواحيها الأربع، ورأى في هذه المقامة صورة من صور الأدب الإسلامي في المحتوى، والشكل الخارجي، والشكل الداخلي، وموقف الناس منها.

ونحن لن نقف طويلاً عند هذا الجانب التطبيقي، ولكنا نذكر أن جرونباوم كان يرى أن الشعر _ وليس النثر المنمق _ هو الأقرب إلى أن يسمى إسلاميًّا كما سلف القول، فلم ترك الشعر إلى النثر المنمق هنا ؟

ثم إن المقامة شكل أدبي جديد، وبغض النظر عن قيمتها الأدبية، فإننا كنا نود أن يقف عند هذا الشكل الجديد في إطار موقف الإسلام والنقاد والناس من الاختراع والابتكار، إن الاختراع لا يتوقف عند الحادثة والحوار والجدل كما لاحظ، وقال عنه: إنه اختراع محدود صغير، ولكن الاختراع هنا هو اختراع الشكل الأدبي نفسه.

وإذا كانت المقامة عنده شكلاً من أشكال الأدب الهليني ، وأن العرب هضموه وتمثلوه _ وهو قول لا أعرف أحدًا من الدارسين قال به على كثرة من كتبوا عن المقامات _ فلم اختار نموذجه منه، وترك الأشكال الأدبية الإسلامية التي لا تشوبها شائبة النقل والتمثيل والهضم ؟.

إن الرجل يختار صورة من صور الأدب المتكلف الذي يخلو من الروعة والحيوية، ويترك الآثار الأدبية الحية النضرة، ليطبق عليها نظراته المغرضة في بيان أثر الإسلام في الأدب، فماذا ننتظر منه في هذا الاختيار وهذا التطبيق؟!

كنت أرجو أن أناقش الجانب التطبيقي في دراسته، ولكن هذا البحث امتد إلى مدى لم أكن أتوقعه، وحسبي أنني ألقيت الضوء على رؤيته النظرية، التي تكشف عن طريقة المستشرقين في دراسة قضايانا وطرحها، وسرعان ما تصبح مصدرًا معتمدًا يتلقاه باحثونا ودارسونا، كما يتلقون المسلمات والبديهيات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر