أبحاث

حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية

العدد 26

مقدمة:

في معظم المدنيات القديمة، كان الاتصال مع المشرك يمكن أن يتم فقط في أوقات الحرب، بصفته الغازي أو المغزو. وفي كلتا الحالتين
كان يعتبر عدوا. ولقد كانت تلك العداوة هي الوجه الآخر من عداء إله السموات والأرض له. وكان مصيره إما الأسر أو الموت، وفي معظم الحالات كان مصيره الموت حتى بعد الأسر. وفي قليل من الأحيان –مثلما كان الحال في عهد إمبراطورية مصر (الأسرة الحاكمة 18)- كان الاتصال مع المشركين يتم بمقتضى التجارة، وحيئنذ كان يتم تحمل المشرك لغرض محدد في خلال فترة المواجهة التجارية فقط.

وفي مثل تلك الأحوال، كان المشرك يعتبر كأنه شخص همجي أو غير بشري. ولقد كانت تلك العزلة تعد في آن واحد عزلة لغوية، وثقافية كما كانت عزلة عنصرية. وإن وصف المصريين للساميين بأنهم أبناء الشرق، ولليبيين بأنهم أبناء الغرب، والأفريقيين بأنهم أبناء الجنوب، ووصف الميسوبوتاميين للميتانيين أو الفرس بأنهم أبناء الجبال، وللآريين بأنهم أبناء الشمال يصور الموقف بإفاضة.

ويمكن تقسيم الديانات العالمية إلى قسمين رئيسين: الديانات الخلاصية (المسيحية، والبوذية) والديانات الوثنية (الهندوسية، واليهودية).

الديانات الخلاصية:

كل من المسيحية والبوذية يدينان المشرك من الناحية الدينية. فالمسيحية تدينه وتتنبأ له بدوام الخلود في جهنم لأنه لم يؤمن أو يتقبل أيا من أسرارها المقدسة. وتلك الإدانة تأتي من الله وسبببها هو رفض المشرك لكنيسته التي تعد القائم على تنفيذ عدالته في الأرض، ولكن الكنيسة لا تمثل العالم في جميع النواحي. فإن سلطانها يقتصر على دنياها التي فصلتها المسيحية بوضوح عن السلطة المدنية، أي الحياة الدنيوية. وإن تعبير بول “إن أي شيء لا يمثل الإيمان يعد بمثابة إثم” قد تم فهمه على مدى تسعة عشر قرنا بأنه يعني أن كل شيء إثم (رومانز 14: 23).

وتتم إدانة المشرك بمقتضى تمسكه بعدم المشاركة في الأشياء الخاصة بالإيمان، وأما النواحي الأخرى، أي النواحي الخاصة بالحياة الدنيا فإن إدانتها تتم بداهة، ومن ثم فإن ما يقوم بفعله أو عدم فعله في تلك النواحي يعد غير ذي أهمية. وفي القرن السابق ابتدأ علماء اللاهوت المسيحيون في اكتشاف وثاقة صلة الأشياء الدنيوية بصفتها الدنيوية ولكنهم لم ينجحوا بعد في التوفيق بين اكتشافهم وبين العقائد الرئيسية للإيمان.

أما البوذية –فبدون إقحام الله، وبدون تقسيم الحياة إلى الناحية الدينية والناحية الدنيوية- فإنها تدين المشرك بشكل مماثل، باعتباره شخصا يرفض الحقيقة العقدية التي تقوم بتعليمها، وهي أن الحياة بأكملها تعاني من العذاب وأن الإنسان يجب أن يعمل على إيقافها. وتعتقد البوذية أن الوجود كله يعد وحدة واحدة. وهو يعد دنيويا، ويعد جميعه قطعة من العذاب. ومن ثم فإن المشرك يجلب الإدانة على نفسه بمقتضى أفعاله، وافتقاره إلى الحكمة الشخصية. ومثلما في المسيحية، فإن البوذية تعتقد أنه ليس ثمة، بل ليس من الممكن أن يكون ثمة خلاص خارج الدين.

والمسيحية الغنوصية، “وجستين” بصفة عامة، قد اقترح نظرية للخلاص من خارج إطار المسيحية بمقتضى فهم المسيح باعتباره لكلمة الله الكامنة في كل إنسان بدرجات مختلفة. ولقد اعتبر سقراط أسمى المسيحيين، ولكن روح الحرب المذهبية في العصور المبكرة للمسيحية قد أخمدت تلك المحاولة عندما أعلن “سايبريان” لمبدأ أنه ليس ثمة، بل ليس من الممكن أن يكون ثمة خلاص خارج كنيسة روما، ولقد ظل مبدأ “سايبريان” هذا سائدا في المذهب الكاثوليكي مثله مثل المذهب البروتساتنتي حتى يومنا هذا. ولكن الرؤية العالمية الحديثة تضغط على الكنيسة الكاثوليكية لتخف من احتكارها الصريح للنعم الإلهية. واستجابة لذلك، كتب “كارل رانر” مقالة تحت عنوان “المسيحيون المجهولون” وبمقتضاها أراد أن يمد المنة الإلهية للأشخاص خارج إطار الكنيسة الكاثوليكية. ولكن من المؤكد أنه كان يهدف إلى توفيق الآراء العالمية بين المسيحيين، وليس بين الأديان. ولقد ظلت الكنائس الأورثوذكسية والبروتستانتية مخلصة لذلك الموقف الكاثوليكي، في حين أن البوذية لم تواجه مثل تلك الضغوط حتى الآن.

الديانات الوثنية:

إن الديانات الوثنية تعد أكثر شمولا في إدانتها للمشرك، حيث تعد إدانة دينية ودنيوية في نفس الوقت. وباعتبارها وثنية، فهي تفهم نفسها في إطار اللاهوت والتاريخ، والنظرية والممارسة، وعلم الأخلاق الشخصي والاجتماعي.

وفي الهندوسية، تتم إدانة المشرك على مستويين: فهو من الناحية الدينية يعتبر معزولا عن الحقيقة ويعيش في الظلام بعكس النور الذي يعيش فيه الشخص الموالي. وانتماءه لأي ديانة غير الهندوسية يفسر بأنه نتيجة للجهل والضلال. وبمقتضى قانون “الكارما”، فإنه سوف يحصل على العقاب عند ميلاده مرة ثانية. وفوق ذلك، فإنه في هذه الحياة يعتبر بمثابة “مليشا” ويكون ذا مصير أسوأ من مصير “المنبوذ” الذي يمثل أدنى طبقة. وكلاهما يعد شيئا بغيضا، مدنسا، يلوث كل شيء يتصل به. ومع ذلك، فبالرغم من أن المنبوذ يحوز على أدنى مركز في النظام الاجتماعي، فإن المليشا ليس له مركز على الإطلاق ويجب طرده من المجتمع أو قتله.

أما اليهودية فتتماثل مع المسيحية في نظرتها إلى الشرك باعتباره عدوا لله، وتتماثل مع الهندوسية في نظرتها إليه باعتباره منبوذا في المجتمع. وبالاضافة إلى تلك الإدانة المزدوجة فإن المشرك يعد عدوا “للقوم المختارين من الله” أي عدو يجب على المؤمنين مطاردته، ومهاجمته وإخضاعه أو تدميره –حتى في وطنه “إن ذريتك سوف ترث الوثنيين” (صامويل 53 : 4) “….إن الوثنيين سوف يحملون أبناءك بين أذرعهم، وسوف يحملون بناتك على أكتافهم. وسوف يكون الملوك أمهات حاضنات لك: وهم سوف يحنون رءوسهم أمامك ووجوههم تجاه الأرض، ويلعقون تراب أقدامك…” (نفس المرجع 49: 23- 23) “… ولإظهار انتقام الله… فإن الغربان سوف يقفون ويطعمون قطعانك، وسوف يكون أبناء الأجانب بمثابة الفلاحين والكرميين لخدمتك… وسوف تأكل ثروات الوثنيين. وسوف تمتص أيضا لبن الوثنيين فإن الأمة أو المملكة التي لا تقوم بخدمتك سوف تهلك… وسوف أعاملهم في غضبي، وسوف أسحقهم بقدمي في ضراوتي، وسوف تنشر دماءهم على ملابسي… فإن يوم الانتقام في قلبي” (نفس المرجع 61: 2، 5-6 60: 16، 12- 63: 3-4).

موقف الإسلام:

ينظر الإسلام إلى المشرك على ثلاثة مستويات منفصلة: أولها هو الإنسانية، فلقد قدم الإسلام إلينا مفهوم دين الفطرة ليعبر عن حكمه بأن الله يمنح الناس عند ميلادهم دينا صحيحا وصادقا وحقيقيا بالنسبة لجميع العصور.

وبقدر ما يتسمون بالإنسانية، تنطبق عليهم جميعهم أيضا حقيقة أنهم لديهم شعورا عاما يستطيعون بمقتضاه أن يصلو إلى جوهر الحقيقة الدينية. وبدون تلك الهبة الطبيعية، فإن الإنسان لا يكون إنسانا على الإطلاق. وعالمية هذا المفهوم الخاص بالمبدأ الإسلامي ليس لها أي استثناء على الإطلاق. إن جميع البشر يعدون مخلوقين لله، وجميعهم متساوون في تلك الصفة كما أنهم متساوون في مقدرتهم الطبيعية على التعرف على الله وقانونه، وليس من الممكن استثناء أي شخص من عدم معرفة الله، خالقه، لأن كل شخص قد زود في لحظة ميلاده بجميع الوسائل اللازمة لمثل تلك المعرفة.

وبمقتضى هذا المفهوم، يفرق الإسلام بين الدين الطبيعي والديانات التاريخية. فإن الأخيرة إما أنها مشتقات من تلك الهبة الأساسية، وإما أنها تأتي من مصادر أخرى مثل الوحي، أو الانفعال، أو الخداع، أو التحيز الإنساني. وإذا كان مثل ذلك النوع من الدين يقسم البشرية فإن الدين الطبيعي يوحد بينهما جميعا، ويضع جميع الموالين له على مستوى واحد. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” (متفق عليه من حديث أبي هريرة).

وعلى هذا المستوى الطبيعي، ينظر الإسلام إلى المؤمن والمشرك بعتبارهما متساويين في دين الله.

أما المستوى الثاني هو مستوى عقيدة الخلاصيين المنقولة عن طريق الوحي. ويعتقد الإسلام “وإن من أمة إلا خلا فيها نذير” (فاطر/ 24) “ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله” (النحل/ 36).

وكأن ما منحته الطبيعة للإنسان ليس كافيا، أضاف الإسلام إسهام التاريخ، فعلى مدى التاريخ، قد أرسل لكل قوم رسول “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه” (القرآن/ ابراهيم/ 4) “وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله” (القرآن/ النساء/ 63) ولقد نقل كل رسول لقومه رسالة من عند الله وخلاصتها ضرورة الإيمان بالله باعتباره الخالق، المولى، المهيمن، الحكم، وخدمته عن طريق العبادة والطاعة. ولذلك فإن جميع الناس يعتبرون مبلغين ومعلمين للوحي الإلهي، كل بأسلوب يتلاءم مع تاريخه ولغته، ولكن جميعهم يتماثلون في المضمون الديني والأساسي للوحي. إنما المسلمون والذميون يتساوون في أنهم ذات يوم كانوا هدفا للاتصالات السماوية، وذلك المفهوم يضيف قاعدة عالمية أبعد للوحي على مدى التاريخ. ولذلك فإن الاختلافات الدينية بين الناس لا يمكن ارجاعها بطبيعتهم الفطرية أو لله، ومن ثم فإن الإسلام جعل من الممكن اقامة التفرقة بين الخلاصة الموحاة للدين الذي يتماثل فيه مع جميع الديانات الأخرى، وبين شكل، ومفهوم ونظام ذلك الدين في التاريخ. وللمرة الأولى جعل الإسلام من الممكن تطبيق نقد تاريخي بواسطة الضروري، ونقد رؤية كل منهما بواسطة الطبيعي.

وعلى مستوى ثالث، فإن الإسلام يماثل نفسه مع الكثير من الوحي التاريخي الخاص باليهودية والمسيحية. فقد اعترف بأنبياء الديانتين باعتبارهم حقيقيين من عند الله، وقد قبلهم بشكل متماثل مع قبوله لنبي الإسلام. وقد علم الإسلام أتباعه بأن يشرفوا أسماءهم وذكراهم. وهذا –حقيقة- لا يؤثر على علاقة الإسلام مع متبعي الديانات الغير سامية. ولكن بالنسبة لهم –وهم يكونون قسما كبيرا من البشرية- فإن الإسلام قد بنى جسورا أخرى لاقامة العلاقات الودية معهم. وبقبوله للأنبياء اليهود وللمسيح عيسي، فإنه قد حد من كافة الفروق بينه وبين تلك الديانات وجعلها مجرد اختلافات داخلية قد تكون راجعة للفهم الإنساني أكثر من كونها راجعة لله أو دين الله. وبذلك فإنه قد قلل الهوة بين المسلمين واليهود والمسيحيين إلى أقل حد ممكن فقد جعل الفارق بالنسبة للديانات الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام- فارقا داخليا. وطبقا للقرآن، يعلن المسلم: “إن أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين” (القرآن/ آل عمران/ 68). وهو يؤكد أن تفاصيل كل ديانة تعد مظهرا “داخليا” بدلا من كونها مظهرا خارجيا للإيمان، وتلك هي أقرب وجهة نظر لهداية المشرك وتعريفه التام بالإيمان المقصود.

وليس ثمة جدال أنه لا زالت هناك بعض الاختلافات بين المسلمين والذميين، ولكننا يجب أن نضع في أذهاننا أن الإسلام يرجع تلك الاختلافات إلى الفهم الشخصي، وليس إلى الديانات المعنية. ومع ذلك فإن الإسلام قد عني بأن يسمح لجميع المشركين بميزة الشك، وذلك بأن يمتنعوا عن إصدار الحكم حتى تظهر الأدلة المدنية. والمطلوب من المسلم أن يتنبئ بافتراض أن اليهود والمسيحيين يلتزمون بنفس الإيمان الذي يتماثل مع الإسلام على ثلاثة مستويات. وعلى هذا الأساس أمر الله نبيه أن يخاطبهم بالكلمات التالية: “قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله” (القرآن/ آل عمران/ 64) ولقد أعاد الإسلام تأكيده لغيره المسلمين مرارا: “إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (القرآن/ البقرة/ 62).

ومن الواضح أن الإسلام قد اعترف بالذميين من الناحية الدينية وعلى المستوى الديني، فقد منح جميع الذميين في العالم ميزة دينية مزدوجة وكرامة دينية بمقتضى مشاركتهم في الديانات الطبيعية والوحي الإلهي على مدى التاريخ. وإذا كانوا يهودا أو مسيحيين فقد منحوا امتيازا ثالثا وكرامة، أي المشاركة في تقاليد الإسلام ذاته. ولقد مد المسلمون تلك الميزة الثالثة التي منحها الله لليهود والمسيحيين والصابئين في القرآن حتى شملت الزرادشتيين، والهندوسيين، والبوذيين والموالين للديانات الأخرى عندما اتصلوا بهم. ولذلك فإن الإسلام اليوم قد منح جميع تلك الميزات الدينية الثلاثة إلى الملتزمين بجميع الديانات في العالم.

دعوة المشرك للمشاركة في الخير الأسمى

ضرورة دعوة المشرك إلى الإسلام

من الحقائق المقر بها لنظرية القيمة أن تحقيق القيمة يعد قيمة في ذاته، وأنه لمن المناقض لذاته أن نفترض أنه ثمة شيئا صالحا أو ذا قيمة وأنه لا يجب تحقيقه.

إن الوعي والسلوك الإنساني القابل للملاحظة يؤكد تلك البديهية الأولية. فإن البشر يرغبون في المشاركة في الأشياء الصالحة التي يدركونها، وبمقتضى اهتمامهم بالحصول على أعظم تحقيق ممكن لها، فإنهم يرغبون في المشاركة في إدراكهم لها مع الآخرين. وإن ترتيب أهمية القيمة المعنية يقرر درجة الالتزامات أو الرغبة لجعلها معروفة بالنسبة للآخرين.

إن وجود الدين يعني إمكانية الوصول إلى تسلسل هرمي كامل من القيم، وتعد تلك القيمة نهائية، وهي تتعلق بالأبعاد النهائية للوجود والحياة. وليس ثمة شيء أكثر قيمة مما يعلمه لنا الدين، أي الله، وتدبيره لحياة البشر، ومعرفتهم، وعبادتهم وحبهم له، وطاعتهم له، وتحقيقهم لارادته، أي حياة الهداية، والنيابة عن الله، وأجر السعادة الخالدة في الجنة –تلك هي القيم النهائية، وهي التي تضفي القيمة على كل شيء آخر. ومن ثم فهي الأساس لعلم القيم، والمبادئ النهائية أو المبادئ الأولى لجميع الخير. وليس من الممكن أبدا اتباعها باعتبارها وسائل لأشياء طيبة أخرى. بل على العكس، فإن جميع الأشياء الطيبة الأخرى يتم السعي إليها من أجلها هي ذاتها. وهي تعد نهائية، وتعد أسمى الغايات التي تمثل الهدف لأي سعي أخلاقي.

كيف يستطيع أي شخص يعتنق تلك القيم، ويكون مدركا لها ويسعى لتحقيقها بنشاط أن يمنع اعلانها عن أخوانه من البشر؟ إن وعيه وارادته سوف يثوران عليه إذا أضاع فرصة لتقديم قيمة للآخرين ودعوة هؤلاء الأشخاص لتحقيق القيمة كما يفعل. إن هذا المطلب للوعي هو ما نطلق عليه دائما كلمة “الضمير” أو صوت الضمير. وهو “الحقيقة الصعبة” للوعي الأساسي بالقيم الذي يعد تلقائيا، وفريدا وغير قابل للجدل.

إن الدين لا يمنحنا طريقا للوصول إلى القيم السامية، ولكنه يعرفنا أيضا بالحقيقة المطلقة بالنسبة لحياتنا ووجودنا، وعن السموات والأرض. وهو يقنعنا بتلك الحقائق، لأنه يقدمها لنا ليس باعتبارها رأيا منفردا من بين الآراء الأخرى، ولكن باعتبارها الحقيقة. وإن بعض الديانات تؤمن بنظرية نسبية للحقيقة، أي أن الحقيقة التي تؤمن بها تخصها هي وحدها وأنها ليست في حاجة لأن تكون بالضرورة رأي الآخرين. وتتخذ الأديان القبلية أو العرقية مثل ذلك الرأي، الذي لا يكون من الممكن انتقاله خارج حدود القبيلة أو الوحدة الوثنية، وثمة بعض الديانات الأخرى –وهي تكون معظم الديانات- تعد كلية. وهي تعتقد أن فرضيتها ليست فقط صحيحة، بل إن جميع الفرضيات الأخرى خاطئة، ومع ذلك، فإن الكلية الدينية تعد ذات نوعين: العقدي والعقلاني. والنوع الأول الذي يشمل المسيحية والبوذية يقدم لنا تصويرا للحقيقة –أي تصويرها- ويطالبنا بالاذعان لها بدون نقد. وتتمثل فرضيتها أنه في حين أن الحقيقة الدينية تعد مطلقة، وصحيحة بالنسبة لجميع الأزمان والأماكن، فإنها ليس من الممكن مجادلتها، فهي يجب إما أن تقبل أو ترفض، ولا يمكن إخضاعها للتحليل الانتقادي، أو الجدال والأدلة المضادة.

والإسلام يشترك مع كل من المسيحية والبوذية وهو يقدم رسالته باعتبارها الرسالة الوحيدة للحقيقة، ولكنه لا يفعل ذلك بطريقة جازمة. فإن عقيدته تعد خاضعه للنقد، فإنها تعد مطلقة بقدر ما تعد عقلانية أو انتقادية، وخاضعة للأدلة المضادة والمناقشات المضادة. وجميع الادعاءات العقلانية من طبيعتها أن تقدم نفسها بتحد.

ويجعلها النقاش أكثر وضوحا ويقوي أساسها. ومن الواضح أن الادعاء العقلاني يرغب في أن يصبح معروفا، وليس من الممكن تجاهله إلا بالمجازفة بتقديم آخر يعد غير كفؤ أو تافها.

وبمحاولة إقناع المكيين بصحة دعوته الإلهية، فإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال لهم: “يا بني عبد المطلب يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل، تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد”.

(مسند أحمد/ 1/ 307، ورواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي).

ومن الواضح أن تلك الدعوة المنطقية للحقيقة ليس من الممكن أن تمر دون مبالاة إلا من ناحية شخص مجنون. فإن ثمة إلزاما بالنسبة للفرد أن يعلن عنها للآخرين، وثمة إلزاما فطريا من ناحية الآخرين أن ينهضوا لتحديها، فإما أن يقبلوها أو يدحضوها.

حرية الإيمان وعدم الإيمان

حق الذمي في الإقناع

إن المسلم يعد ملزما بمقتضى إيمانه، وبمقتضى طبيعة دعوته المنطقية المتعلقة بالقيم، أن يقدم الإسلام إلى الذمي. ولقد قبل الأخير بالفعل السلم الإسلامي، بالنظام العالمي الجديد الذي بمقتضاه يرفض الناس الحرب ويسوون خلافاتهم بطريقة سلمية، ويتصلون بالآخرين. ومن الناحيتين العقلية والروحية، فإن السلم الإسلامي يحمل ضمان حرية الإقناع والاقتناع بالحقيقة، وهو يتضمن أن المعاهد الغير مسلم عليه أن يقرر بالنسبة لجدارة أو نقيصة ما يقدم إليه، والقرآن يحرم في عبارات جلية أي محاولة للتأثير بالقوة أيا كانت، ولقد حذر الله النبي مرارا بأنه لا يجب أن يكره الناس بقبول الأمر حالما يقوم بتقديمه، ولقد أعفاه من جميع المسئولية بالنسبة للقرار بالقبول أو الرفض، أو عدم التقرير من ناحية مستمعيه. وفوق كل شيء، “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى” (القرآن/ البقرة/ 256).

وقد أمر الله النبي “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” (النحل/ 125).

“إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل” (الزمر/ 41).

وفي غير هذا الموضع نجد نفس المعنى في آيات عديدة: (الأنعام/ 104ن يونس/ 108، سبأ/ 50، النحل/ 92).

ومثل تقديم آية فرضية نظرية، فإن تقديم الإسلام للمشرك يستطيع أن يقدم جميع الأدلة الممكنة، بل إنه يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك. وبالنسبة للشخص البالغ الحماس الذي رفض الناس بطريقة عميقة، أو الذي يواجه الإغراء بأن يذهب إلى مدى أبعد من تقديم الحقيقة، فقد حذر القرآن:

“ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”. “قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها” (القرآن/ يونس: 98، 108).

وموقف الإسلام هذا يعتبر طبيعيا للغاية، والتلاعب بالفكر عن طريق إقحام أي شيء غير جوهري على المناقشة سوف يفسد العملية، ومثل ذلك الإقحام تهديد بالنسبة للكمال والأصالة المتعلقين بالإنسان، وفوق ذلك فإن القرار الذي يتم التوصل إليه عن طريق القسر، والرشوة، أو أي نوع آخر من التدخل لن يكون هو القرار المرغوب فيه، لأنه لن يكون قرارا من أجل ذاته ومن ثم سوف يكون غير أخلاقي، وإن الشخص الذي يكون قد اتخذ هذا القرار والداعي للقرار الذي “عاونه” على ذلك بطريقة غير شرعية سوف يعانيان كلاهما من العقاب في جهنم. ومن وجهة نظر الشريعة، فإن قرار الاهتداء إلى الإسلام هذا يعد لاغيا وباطلا بالنسبة لمن اتخذه، ويعد بمثابة جريمة تستحق العقاب بالنسبة للشخص الذي عاون فيه.

الحق في عدم الاقتناع:

إذا لم يقتنع المشرك بالحقيقة التي قدمها الإسلام، فإنه لديه الحق في درجة غير منتقصة من الاحترام. ويجب أن نتذكر أنه عندما سمع مسيحيو نجران دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ذاته، واهتدى بعضهم ولم يهتد البعض، فإنه استمر في معاملتهم بنفس الأسلوب من كرم الضيافة الذي يستحقونه، وقبل عرضهم لتضمنهم في السلم الإسلامي وأعادهم إلى منزلهم في حراسة وفي صحبة شخص موثوق به ليقدم لهم العون في شئونهم الخاصة. وإن الضمير الحر للإنسان يمنحه كرامة منقطعة النظير وقد عرف جميع أنبياء الله كيفية احترامها، ومن اتخذ القرار منهم بقبول الإسلام فقد فعل ذلك بإرادته الحرة بعد أن اقتنع بصحة الدعوة الإسلامية.

ومثلما لا يستطيع المسلم أن يتلاعب بعملية الإقناع من خلال المواضيع العرضية، فإن الإسلام يأمره بأن لا يستسلم في حالة اصرار المشرك على رفضه. إن الدعوة، أي دعوة الناس إلى الحقيقة، تعد عملية خالدة. وإن إيقافها في أي وقت هو دليل على اليأس. ولكن اليأس من أن أي شخص سوف يرى النور في يوم ما، أو يتعرف على الحقيقة، ليس فقط مجرد اهانة له ولقدرته الطبيعية، ولكنه اتهام للجنس البشري أجمعه. فهو يتضمن إنكارا لدين الفطرة، أي القدرة الطبيعية التي وهبها الله لجميع البشر منذ الميلاد. وبمقتضى تلك الهبة المتمثلة في دين الفطرة، فإن المسلم يجب أن يجدد دعوته ويعد بالباقي إلى الله. وحقيقة، يجب أن يعتبر رفض المشرك بمثابة فرصة جديدة منحها الله له حتى يبحث عن مناقشات أكثر معقولية وأكثر ملائمة ليعيد بواسطتها تقديم دعوته. وإن الأدلة التي يمكن تقديمها تعد لا نهائية ومن ثم ليس ثمة نقطة يتخلى فيها عن الأمل أو المجهود في الإقناع. والشاغل الدائم في البحث عن الحقيقة، وإقامتها وتوضيحها، أي البحث الدائم عن أدلة جديدة يجعل الأمة قاعة ومعملا للحقيقة على نطاق واسع.

وبالنظر إلى أنه يجب اعتناق الحقيقة الإسلامية بواسطة المسلمين وغير المسلمين، وبالنظر إلى لا نهائية الأدلة الوثيقة الصلة، والعمق واللانهائية للفضول العقلي والحساسية المروحية، فإن البحث الجدلي عن الحقيقة هو الذي يكون النظام العالمي للإسلام. وذلك هو السبب الذي بمقتضاه استحسن الإسلام المعرفة والثقافة وأضفى على العلماء والدارسين أسمى تقدير ممكن. وليس ثمة دين أو أيديولوجية أو نظام اجتماعي قدر المعرفة مثلما فعل الإسلام. فإن كل صفحة من القرآن تجعل المعرفة والحكمة بالنسبة لهؤلاء الذين لديهم الحظ الكافي للحصول عليها أو رعايتها.

“قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” هكذا سأل القرآن بأسلوب غاية في البلاغة (الزمر/ 9). وقبل كل شيء، فإن الله هو واضع جميع المعرفة، وهو المعلم “الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم” (القرآن/ العلق/ 4- 5). وهو قد أوصى: “فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا” (القرآن/ النساء/ 135).

الحق في إقناع الآخرين:

يتمتع المشرك بذلك الحق الثالث، أي الحق في إقناع المسلم بآرائه أيا كانت. وثمة سببان يبرران ويقويان هذا الحق الخاص بالمشرك تحت لواء الإسلام. أولا، إن الاقتناع عملية ذات وجهين فهو عملية من المناقشة والمناقشة المضادة. وليس من الممكن أن يتم إلا في وجود المناقشة الحرة بين شخصين أو طرفين لديهما ما يكفي من الوعي. وإن الاقتناع الذي يكون غير ناتج عن تلك العملية الجدلية ليس هو هدف الإسلام. فإن مثل ذلك الاقتناع يفترض أن الشخص يكون مثل اللوح الأملس يحفر عليه المعلم بياناته التي قد تكون خاطئة. إن نوع المعرفة التي نعنيها هنا تكون غير ذات فائدة لو لم تكن قد أثارت بعض رد الفعل، وأحدثت بعض التغيير بالنسبة لتوجيه الشخص هدف التأثير.

ثانيا، من الطبيعي أنه إذا كان لدى المسلم الحق في عرض قضيته، فإن الذمي يخول نفس ذلك الحق. وإن ذلك الحق المتبادل لا يتأثر باساءة استعمال أي طرف له، نظرا لأنه ينتمي لكل منهما بمقتضى إنسانيتهما. وليس من الممكن الجدال بأن الذمي لا يستطيع أن يعرض قضيته على المسلمين. فإنه من المفترض أن المسلمين على معرفة كافية بأثمن حقيقة لديهم. وإذا كانوا غير قادرين على دحض قضية الذميين، فإن واجبهم هو زيادة التعمق في إيمانهم، أو على الأقل نشدان تحقيق ذلك من خلال علمائهم. وإذا كانوا عرضة للخروج على الإسلام من خلال مثل تلك المواجهة، فإن الشيء الوحيد الذي يمكننا أن نلومه هو ضعف معرفتهم وإيمانهم. إن الإسلام لا يطالب المسلمين بحجب الجاهل عن الأنظار، ولكنه يطالبهم بتعلمه وإرشاده وعلى أي حال، فإنه مع التقدم الحديث في تكنولوجيا الاتصال، لن يكون من الممكن الاحتجاب أو العزلة التامة. فالمناقشات المضادة سوف تصلهم بأي وسيلة، وأسلوب الحماية الوحيد ضد أي مناقشة هو تقديم مناقشة أخرى أفضل وأكثر تعقلا وصحة.

إن ما يمكن أن نخشاه من ممارسة هذا الحق بواسطة المشركين هو التحريض على الفتنة أو الخيانة ضد الدولة الإسلامية، أو ضد الأمة ككل. ولكن ذلك سوف يكون غير شرعي طبقا للسلم الإسلامي الذي قبله المشرك، وتستلزم مقاضاته وفقا لقانون الدولة. وإذا لم يكن ثمة تحريض على الفتنة، فليس من الممكن أن تكون ثمة محاكمة أو تقييد بالنسبة لممارسي الحق في إقناع الآخرين، وإذا ما لجأ المشرك إلى ممارسات تتنافى مع الأخلاق مثل الرشوة أو أي وسيلة للإكراه والإغراء تعد دخيلة على الطبيعة العقلية أو الروحية للمناقشة، فإن المسلم يجب أولا أن يرفض ذلك العرض ويدين القائم به، وفوق ذلك، فإن الدولة الإسلامية ليس لديها الحق فحسب –بل لديها الواجب- بالتدخل لإيقاف تلك الاتصالات العامة. وعليها أن تحمي مواطنيها ضد مثل تلك الوسائل. ولكن عرض الحقائق الذي يتسم بالإخلاص لله أيا كانت الناحية التي يأتي منها، يجب السماح به دون توقف أو اعاقة من أي مصدر.

الحرية في الاختلاف:

لقد رأينا أنه بالنسبة للدين، فإن الذمي، أو المشرك في الدولة الإسلامية، أو المعاهد في السلم الإسلامي يتم الاعتراف به من الناحية الدينية في عدم إيمانه ويمنح كل من حق الإقناع والاقتناع بالحقيقة.

ويبقى لنا أن نتساءل بالنسبة للمشرك الذي يصر على عدم إيمانه، إلى أي مدى يتحمل الإسلام تصريحه بعدم الإيمان في حياته الخاصة وحياة زملائه المشركين؟

لقد تم تقديم الإجابة على ذلك في معاملة النبي لمسيحي نجران، ومعاملة عمر بن الخطاب لليهود ومسيحي بيزنطة بعد الغزو. ولقد كتب نص معاهدة استسلام القدس بواسطة معاوية، ووقع عليه الخليفة وسوفرونيوس، بطريارك المدينة نيابة عن المسيحيين.

وقالت المعاهدة: “بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيهما وبريئها وسائر ملتها، إنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دنيهم. ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم على نفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء منهم سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله. وأنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في عهد هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية” وختم عمر الكتاب بتوقيعه ثم شهد عليه خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان الذي كتبه بيده عام 15هـ.

وقد منحت نفس الشروط من المسلمين إلى سكان المدن الأخرى في جميع أنحاء المحافظات التي اجتمعت تحت راية الإسلام، وهي دمشق، والحيرة، وأنات بواسطة خالد بن الوليد، وبعلبك وهمساند وحماة بواسطة أبي عبيدة بن الجراح، والرجاء بواسطة اياد بن غنم طبقا لتقرير البلاذري في فتوح البلدان.

وقد منح أبو عبيدة شروطا مماثلة للسامريين في نابلس. وتلك الشروط تمثل جوهر الذمة التي تحكم العلاقات المقبلة بين المسلمين وغير المسلمين. وبصفة أساسية، فقد ضمنت الأمن للأشخاص والممتلكات، والحق في ممارسة الديانات الغير إسلامية، والحفاظ على المؤسسات العامة التي لديهم أيا كانت، مثل الكنائس، والمدارس التي دائما ما كانت تلحق بالكنائس. وقد كانت تلك المعاهدات تقام بشروط عامة كما كانت تتفق مع التعبيرات والتوقعات المعتادة في عصرهم. ولقد ظلت روحها معيارية بالنسبة لجميع المسلمين على مدى القرن، بالرغم من وجود بعض الاختلاف في التطبيق. ومع ذلك يجب أن نلاحظ أن المسلمين كانوا مخلصين بشكل واضح بالنسبة لتلك المعاهدات التي أقامها أجدادهم مع الذميين. واليوم نستطيع أن نعد ترجمتنا الخاصة لتلك المعاهدات في أسلوبنا الحديث، في حين نظل مخلصين لروحها. ومثل الترجمة سوف تتضمن الحقوق التالية:

الحق في تخليد أنفسهم: ما دام الموقف الإسلامي قد تسامح مع الذمي في عدم إيمانه، فإنه طبقا لذلك يجب أن يتمتع بالحق في تنشئة أبنائه طبقا لعقيدته. وإلى جانب الحق المرتبط بالممارسة الفعلية لطقوس العبادة، فإن ذلك يتضمن أيضا حق التعليم، والتجمع لتنظيم النشاطات. ولكن حق الذمي في تعليم أبنائه يتعلق بالدين فقط، وليس الحياة المدنية أو العامة للدولة الإسلامية ككل، الذي يعد عضوا فيها. ومن ثم فإن الدولة الإسلامية يجب أن تمنح أبناءه الحق في الاستماع إلى درس عن دينهم في المدرسة، وليس الحق في ادارة مدارس خاصة بهم، إلا إذا كانت تلك المدارس تتفق من حيث المنهج والروح العامة مع المدارس العمومية فإن متطلبات التضامن القومي لا تسمح لنظام صغير أن يساهم في تفتيت أو حل وحدة الأمة.

وإذا ما رغب الذمي في منح تعليم ديني أكثر تعمقا لأبنائه، فهو يستطيع ذلك في خلوة منزله بعد ميعاد المدرسة. ولكنه لا يستطيع الاعتراض على حصول أبنائه على درس في الإسلام في المدرسة العمومية، لأنهم في إطار ذلك يلقنون ما يعتبر جزءا من أيديولوجية الدولة التي تعد إسلامية، ومن ثم يوفون بمطلب التضامن السياسي والوطنية. وإن أبناء الأقليات المسلمة في الدولة المدنية يجب بنفس الأسلوب أن يكون لهم الحق في الحصول على تعليم إسلامي في حين يحصل الأطفال الآخرون على تعليم في إطار دينهم. وإذا كانوا خاضعين للتعليم في إطار الأيديولوجية الدنيوية الخاصة بالدولة، فليس لديهم اختيار سوى تقبله. وإذا ما رغبوا في الحصول على تعليم مضاد فإن ذلك يجب أن يتم من خلال التعليم بواسطة الأهل في المنزل. والمبدأ هو أنه مثلما يجب على الذميين أن يخضعوا للدولة الإسلامية ويؤيدوها طالما قبلوا العهد أن يكونوا أعضاء بها، فإن الأقلية المسلمة يجب أن تؤيد وتخضع للدولة الأجنبية التي أقامت بها.

وفي حقوق المجتمع، أو تنظيم نشاطات الجماعة أيضا تم ضمانها بواسطة روح المعاهدات طالما أن ممارسة تلك الحقوق لا تؤثر بشكل مضاد على الأمن والاستقرار، والوحدة أو الرخاء في الدولة الإسلامية. ويستطيع الذميون تنظيم مؤتمر على أساس التفسير التوراتي، أو اللاهوت المنظوم، أو علم الأخلاق المسيحي، أو تاريخ الكنيسة كما يشاءون. ولكنهم لا يستطيعون تنظيم مؤتمر حول وقائع الحرب والسلم مع إسرائيل، أو عن ملائمة اللغة العربية للتطورات الحديثة إلا إذا كان المعنى العام لمثل ذلك المؤتمر يتفق مع موقف الدولة الإسلامية.

الحق في العمل: إن الدولة الإسلامية في تاريخها الطويل لحسن الحظ لم تعرف أبدا أي تفرقة بين مواطنيها، في مجال النشاط الاقتصادي سواء كانوا مسلمين أو ذميين. لقد تمتع الذميون دائما بحرية غير مقيدة لأداء جميع الوظائف. وفي الواقع فإنهم في جميع الحالات قد أصابوا نجاحا يفوق نجاح المسلمين، فإن نصيبهم من إجمالي الناتج القومي كان دائما يفوق نصيب المسلمين، وتلك علامة تشير إلى أن اسهامهم في إجمالي الناتج القومي يعد أكبر نسبيا من اسهام المسلمين، وأن نتيجة مجهودهم الأكبر وجهدهم تعود بالتأكيد إليهم ليتمتعوا بثمارها. وليس من الممكن الحد من كسبهم في أية ناحية، وقد تتمثل مظاهر كسبهم تلك في مساكنهم، ومبانيهم، وملابسهم، وأفراسهم، وعرباتهم، وطائراتهم وأثاثهم أو غير ذلك من مظاهر الحياة. وإذا حدث ذات يوم وتم منعهم من امتلاك أو امتطاء أفراسهم، فإن ذلك يكون على أساس القيمة الحربية للفرس. ويمكن مضاهاة ذلك في الوقت الحاضر مع تحريم ركوب طائرات الفانتوم والميراج.

هل يستطيع الذميون أن يكونوا موظفين حكوميين أو ضباطا في الجيش، وإلى أي مدى يمكنهم التطلع على الارتفاع في السلطة؟ إن الإجابة هي أنهم بالطبع يستطيعون أن يعملوا في أي هيئة حكومية يكون تدريبهم الشخصي قد أهلهم لها، بما في ذلك الدفاع عن الدولة الإسلامية. ولكن من الممكن أن يستبعدوا فقط عن تلك المراكز التي يتطلب اتخاذ القرارات فيها إلى وجود التزام شخصي بالإسلام. وتتمثل تلك الوظائف في السلطة القضائية التي يعهد إليها بادارة الشريعة، أو السلطة التنفيذية التي يعهد إليها بوضع السياسة العامة للدولة الإسلامية. وبالطبع فإنه لا يمكن لرئيس الدولة –الخليفة- أو وزرائه أن يكونوا ذميين بسبب الأهمية الخطيرة للأحكام التي يصدرونها من أجل أمن ورخاء الدولة ككل.

الحق في السعادة والجمال: للذميين الحق في السعادة، وأيضا التعبير عن أنفسهم من خلال الأعمال الفنية. وبصفة عامة فإن الذميين لديهم ذلك الحق، بشرط ألا يصل ذلك إلى افساد الأخلاق العامة أو إضعاف المعنويات العامة. وفي داخل منازلهم، فإن للذميين الحق في إمتاع أنفسهم، والتأمل في مثل تلك الأعمال الفنية كما يشاءون. ولكنه حالما يصبح مثل ذلك التمتع تهديدا للأخلاق العامة، فإن الدولة الإسلامية لديها الحق –بل الواجب- في التدخل لوضع نهاية لذلك النشاط. وثمة مثل لذلك نستطيع أن نجده في اتجاه أزياء النساء في العصر الحديث تجاه قدر أكبر من العري.

إن الأخلاقيات الإسلامية لديها موقف محدد من العري. فإن العري في الأماكن العامة انتهاك للأخلاق يقوض أساسها في عقل وقلب الأمة. وطبقا لذلك، فليس من الممكن أن يمارس الذمي مثل ذلك الحق في التمتع بالجمال إذا كان سينتهك حرمة الشعور الأخلاقي العام. وينطبق ذلك أيضا على حق الذميين في استعمال الكحول ولحم الخنزير، وفي الطعام والشراب خلال شهر رمضان. مثل تلك الأفعال تعد انتهاكات للأخلاق العامة. أما إذا تم فعلها في خلوة، فإنها تقع في إطار الحقوق المقصورة على الذميين التي تمنحها لهم الدولة الإسلامية. وينطبق نفس النص على حق الذميين في لعب وسماع الموسيقى أو امتاع أنفسهم عن طريق الصوت. ومن المقر به بصفة عامة أن تدنيس الجو عن طريق الصوت لا يمكن السماح به وإن الدولة لديها الحق، بل الواجب، في التدخل لإيقافه. ومع ذلك، فإن ذلك حتى الآن قد تم تفسيره في إطار مادي. وبالطبع فإن الدولة الإسلامية عليها أن توقف التدنيس الطبيعي. ولكنها أيضا من واجبها التدخل في الحالات التي يكون فيها التدنيس جماليا، وليس مجرد مادي. إن التدهور يمكن أن يتم في أساليب كثيرة، وبالتأكيد إن أحد تلك الأساليب هو من خلال الصوت. ومرة أخرى فإن الذمي يستطيع أن يفعل ذلك في خلوة منزله، ولكنه لا يمكنه أن ينتهك الشعور الجمالي للعامة بواسطة موسيقاه وغير ذلك من الأصوات الخاصة به.

وفي إطار ذلك، من الممكن أن يطرح السؤال إذا ما كان الذميون يستطيعون أم لا يستطيعون دق أجراس كنائسهم؟ والإجابة هي: بما أن ذلك يعد نشاطا تقليديا يتصل اتصالا وثيقا مع العبادة الدينية، فإنه يجب السماح به. وقد كان ذلك موضوعا تم التصريح به بوضوح في بعض المعاهدات السابق ذكرها. ولكن الأوقات التي من المفترض أن تدق فيها أجراس الكنيسة تعد معروفة تماما. وإن أي زيادة في فعل ذلك يمكن إخضاعها لانعام نظر الدولة حتى تتبين نزاهة الدافع.

وبصفة عامة، فإن الذمي لديه الحق في تحقيق جميع القيم الاجتماعية والثقافية التي ترتبط مع هويته، وهو الحكم الوحيد بالنسبة لظروف تحقيقها، طالما أن مسرح أو مجال مثل ذلك التحقيق هو منزله أو مقره الشخصي، وإن موضع الفعل هو شخصه ذاته أو الأشخاص في منزله. وحالما يتم تخطي تلك الحدود، ويصبح التحقيق شيئا عاما، أو يبتدئ في التاثير على أشخاص آخرين، فإنه يقع في مجال القوة الكابحة للدولة الإسلامية. وإذا كان المسرح أو المجال ذميا بصفة عامة، مثلما في حالة القرية أو الحي الذي يكون كامل سكانه من غير المسلمين فإنه يكون من المشروع بالنسبة للتحقيق أن يتم بأسلوب عام. ولكن مثل ذلك التحقيق يجب أن يكون حذرا حتى لا يحدث في أي وقت أن ينتهك العاطفة العامة للمسلمين.

الاستنتاج: باختصار، من الممكن القول إن “الدين” في الدولة الإسلامية طبقا للمفهوم الغربي المسيحي (أي من ناحية العبادة، والطقوس، والأخلاقيات الشخصية أو المركز الشخصي) يعد حرا، بدون أي نوع من التقييد. وفي الناحية السياسية والاقتصادية، فإن الذمي يعد أيضا حرا مثل المسلم، وإن التقييد الوحيد يتمثل في أمن ورخاء الدولة الإسلامية. وهو يستطيع الحصول على وظائف عامة أو يدخل في المشاريع الاقتصادية طالما أن أمن ورخاء الأمة لا يتوقف على قراراته. وفي الناحية الثقافية، فإن الذمي يعد حرا فقط في خلوة منزله، أو قريته إذا كانت غير مسلمة بصفة تامة. وإذا كانت تصرفاته تتصل بآخرين ليسوا من دينه، فإن حريته يتم تقييدها بواسطة المعايير الثقافية للدولة الإسلامية.

وفي هذا العصر الذي تسوده الفوضى الثقافية وحرية العمل، من الممكن التساؤل لماذا يجب أن يكون للدولة الإسلامية أي موقف ثقافي على الإطلاق؟ ألا تقع الثقافة في إطار الأشياء الشخصية؟

إن إجابة الأسئلة سلبية. فإن الموقف الإسلامي يعد ضروريا بالتحديد بسبب الفوضى النهلستية التي تغمر العالم. إن ارتباط الثقافة مع الأخلاق، ونهائيا مع الأشياء الغيبية والدين، يعد وثيقا بالرغم من أنه قد لا يكون واضح الرؤية من النظرة الأولى. ولا يستطيع أي نظام البقاء إلا إذا نفذ في مستويات الثقافة كما ينفذ في السياسة والاقتصاد. إن الإسلام بالتأكيد لديه ثقافة خاصة به. وإن جميع مواطني الدولة الإسلامية يجب أن يكون لهم دور فيها ويمثلونها، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين. وإلا فإنه لا يكون ثمة أساس للدولة الإسلامية. إن المجتمع التعاوني للمستهلك، أو أي اتحاد من أجل أغراض الدفاع يكون كافيا في نفعه بالنسبة للجماعات المختلفة التي يتكون فيها. وإنه يعتبر دولة إسلامية لأنه، بالاضافة إلى “الخدمات” المرغوب فيها للمجتمع التعاوني واتحاد الدفاع، فإن له رسالة روحية خاصة يعدها للبشرية ودورا خاصا في التاريخ. وإن الموقف الثقافي للدولة الإسلامية هو احتضان رسالتها والقيام بدورها. وذلك يمنحها مهمة إيجابية عد المثل الأعلى السلبي لإيقاف العداء الذي بمقتضاه تم تكوين عصبة الأمم. وحقيقة، فإن منظمة الأمم المتحدة قد تجاوزت بالكاد ذلك المثل الأعلى السلبي، بمقتضى مشروعاتها العديدة تحت راية اليونسكو وغير ذلك من التنظيمات الفرعية.

إن الإسلام لديه ما يفوق ذلك ليقدمه للبشرية، وإن الدولة الإسلامية هي التنظيم الذي يعهد إليه بتنفيذ تلك الحركة الروحية الثقافية على مدى التاريخ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر