Uncategorized

كلمة التحرير : نحو تدريس اللغة العربية في الكليات العملية

أولاً : مفاهيم أساسية :

تكتسب قضية تطوير التعليم أهمية كبرى في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بعد أن بدأ تيار العولمة الغربية يخترق الحدود من خلال الفضائيات التى حولت العالم إلى غرفة كونية صغيرة نتيجة الإنجازات العلمية والتقنية في مجالات المعلوماتية والاتصالات وصناعة المعرفة ، وأصبح أهم ما يميز هذه العولمة هو السعى بطرائق شتى إلى طمس القسمات التى تتشكل منها شخصيات الأمم والشعوب الأخرى ، وخاصة المستضعفة منها ، ويأتي في مقدمة هذه القسمات إتقان اللغة الأم التى هي وسيلة التعبير والتواصل بين أبناء الأمة الواحدة.

لكن لغتنا الجميلة تواجه اليوم صراعًا عنيفًا من أجل البقاء ، حيث يسعى أعداؤها إلى عزلها عن ميدان العلم والتقنية بحجة أنها غير قادرة على مجاراة طوفان المصطلحات العلمية المتجددة التى تفرزها حضارة الغرب يومًا بعد يوم بلغات أوربية . وقد يكون من الطبيعي أن يكيد للعربية أعداء خارج حدودها ، لكن المؤلم حقًّا أن يوجد من بيننا أيضًا من ينصابها العداء … فظلم ذوى القربي أشد مرارة على النفس ، ولاشك أن إفقار اللغة الأم من خلال عزلها عن علوم العصر المتجددة يقتلها ويعلى من شأن غيرها .

وفي هذا الصدد ، تعتبر المؤسسات التعليمية والتربوية بصورة عامة ، والجامعات على وجه الخصوص ، هي الملاذ الذي يعول عليه في إنقاذ اللغة العربية من تدهورها في عقر دارها ، وانعزالها عن التفاعل الميداني مع حضارة العصر العلمية والتقنية .. فتعود رافدًا أساسيًّا من روافد النهضة العلمية والتقنية التى تنشدها أمتنا العربية والإسلامية ، مثلما كانت في عصر الازدهار الأول ، عندما فتحت صدرها لتراث الإنسانية ، وانتشرت مع انتشار الإسلام ، حيث جعل منها أسلافنا لغة عالمية تتسع للتعبير عن دقائق العلوم ، وقدموا لنا تجربة رائدة في ترجمة المصطلحات العلمية وتعريبها ، وكان العلماء من الموالي يفضلون كتابة مؤلفاتهم بها ، حتى أن أبا الريحان البيروني –  الذي أتقن عدة لغات أجنبية غير لغته الفارسية –  صنف جل مؤلفاته التى تربو على المائة باللغة العربية ، ويؤثر عنه قوله: «إن الهجو بالعربية أحب إلى من المدح بالفارسية»، ووصف البعض أسلوبه العلمي بأنه أسلوب سلس خال من الالتواء، يخرج منه القارئ بثروتين : أدبية وعلمية .

كما امتدح البعض أسلوب الخوارزمي في كتابه «الجبر والمقابلة» ووصفوه بأنه أسلوب أخاذ، لا ركاكة فيه ولا تعقيد، ينم عن أدب رفيع وإحاطة بدقائق اللغة.

كذلك أظهرت الدراسات التحليلية التركيبية للغة العلمية أن مسيرة المصطلح العلمي في تاريخ العربية تدين لجهود حنين بن إسحاق وأبي بكر الرازي وأبي عبد الله الخوارزمي والشيخ الرئيس ابن سينا وغيرهم ، وذلك بفضل أعمالهم العلمية التى اقتحموا بصياغتها العربية علوم الحضارة آنذاك ، مع اختلاف ينابيعها من هندية إلى سريانية إلى يونانية إلى فارسية .

وليس هناك من شك في أن هذه التجربة الأولى للعلم العربي الإسلامي تعد نبراسًا لقدرة اللغة العربية على التوسع والاغتناء واستيعاب المصطلحات والتعابير العلمية الجديدة ، فاستحقت أن توصف بأنها لغة العالم المتحضر عدة قرون . أشاد أهل الغرب الذين نقلوا علوم المسلمين بجمالها وثروتها وسهولة دراستها والتكلم بها وقراءة مؤلفات رجالها ، حتى أن «روجير بيكون» –  الذي يعد من أعظم من درسوا علوم المسلمين وحملوها إلى الأجيال الأوربية التالية –  كان يعجب ممن يريد أن يبحث في العلم والفلسفة وهو لا يعرف اللغة العربية ، كما أنه أعترف بأن الكتب العربية كانت مصدر العلوم في عصره ، وأن كتابات أرسطو لم تفهم ولم تلق رواجًا في الغرب إلى أن أوضحتها كتابات الكندي وابن سينا وابن رشد وغيرهم .

ولقد امتد تأثير اللغة العربية في اللغات الحية الأخرى ، حيث يحصى معجم «وبستر» الإنجليزي ، على سبيل المثال ، أكثر من ستمائة ألف كلمة مأخوذة من اللغة العربية ، منها خمسمائة كلمة فقط من الألفاظ المستعملة في الكتابة والأحاديث العادية ، والباقي في الشئون الفنية ..

ومن يتتبع تأثير اللغة العربية في اللغات الأخرى يجد لها آثارًا في الإسبانية والبرتغالية والفرنسية والألمانية، وفي اللغات الجرمانية الأصل كالهولندية والاسكندنافية في شمال أوروبا ، وفي الروسية والبولندية واللغات الصقلية والإيطالية . كما أن عثور الباحثين في جهات البلطيق في شمال أوروبا على سكة اسلامية عربية هي من آثار تجار المسلمين الذين وصلوا إلى تلك الأرجاء يومًا من الأيام .

وجملة القول –  إذا ما أردنا الإفادة من دروس الماضي –  أن اللغة العربية انتشرت مع الإسلام بطريق المدنية والتنوير ، لا بطريق الغزو والاستعمار متعدد الأشكال والأطوار ، وهذا دليل قوتها وأصالتها وقدرتها على استيعاب مصطلحات التقدم المتجدد المتزايد .

والعودة بالعربية الآن لتكون كما كانت لغة عالمية صالحة للعالمين مطلب حضاري لا تعوزه الإمكانات المادية أو البشرية ، ولكن تعوزه الإرادة القوية الموحدة والقرار التنفيذي الحاسم ، وعدم الاكتراث بآراء البعض الذين يعتقدون بأن «رطانتهم» بلغة أجنبية تضعهم في مكانة أرقى .. ويمكن للجامعات المصرية أن تؤدى دورًا حيويًّا في هذا الصدد بتدريس اللغة العربية لطلابها وفق أسس وضمانات منهجية مدروسة ، مع الأخذ في الاعتبار تجارب الماضي ودروسه وظروف الواقع الراهن.

إن من أهم عوامل تردى حالة اللغة العربية في الجامعات العربية التى يزيد عددها عن المائة ، أن معظم هذه الجامعات تقوم بتدريس العلوم الأساسية والتطبيقية باللغة الأجنبية (الإنجليزية أو الفرنسية) بالرغم من أن قوانينها تنص صراحة على أن لغة التدريس هي العربية، وتسمح باللغة الأجنبية كلغة تعليم في ظروف خاصة . وقد انعكس هذا الواقع بشكل ملحوظ على مردود الجامعات وأدى إلى انحدار متتابع في مستوى أجيال الخريجين ترك آثاره السلبية على المسيرة التنموية في مختلف البلدان العربية .

ويزيد من استحكام الأزمة واستفحال المشكلة عجز مراحل التعليم قبل الجامعي عن أن تقدم للجامعة طالبًا مؤهلاً للتعليم باللغة الأجنبية كما يجب، فضلاً عن ضعف إجادته للغة العربية .. وانقطاعه عنها طوال سنوات تعليمه العالي . كذلك يؤدى تعدد المنابع الثقافية لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات ، من ناحية أخرى ، إلى إضعاف اتقانهم اللغة العربية ، وخلق مواقف متباينة، انعكست سلبًا على وضع المناهج وسير الدراسة .

على أن عامل تعدد المنابع الثقافية يمكن أن يتحول إلى مصدر إثراء في عملية الترجمة والتعريب ، بدلاً من أن يكون نقطة ضعف ومصدر تشقق في عملية التدريس ، كما أن توحيد التعليم بالعربية من شأنه أن يسهم في خلق بوتقة جديدة واحدة تنصب فيها المعارف من ثقافات متعددة وتخرج عسلاً مصفى سائغًا للشاربين .

كذلك من أهم عوامل تدهور اللغة العربية في مراحل التعليم المختلفة سيادة العامية على حساب الفصحى . وإذا كانت بعض الدراسات الميدانية في نطاق اللسانيات قد أثبتت أن المتعلمين أقل استخدامًا للمفردات والتراكيب العامية من غير المتعلمين ، وأن العلاقة بين التعليم وازدياده من جهة ، واستخدام العامية من جهة أخرى ، هي علاقة تعاكس ، فإن واقع الحال في الكليات العملية التى يتم التعليم فيها بلغات أجنبية (إنجليزية حاليًا) ، حيث ينعدم استخدام اللغة العلمية العربية السليمة ، يدل على عكس ذلك ، فتكون العلاقة هنا بين التعليم وازدياده من جهة واستخدام العامية من جهة أخرى علاقة طردية ، وكثيرًا ما ينشأ المتعلم في هذه الكليات وقد أصابته العجمة في لسانه .

ثانيًا : أهداف رئيسية :

1-  ينبغي أن تكون الهدف الرئيسي من تدريس اللغة العربية في الجامعات هو تحقيق الإحاطة الواعية بأساسيات هذه اللغة في إدراك تطبيقي يجعل منها أداة سهلة الاستعمال للتعبير والتواصل في مرونة وطواعية .

2-  وينبغي أيضًا أن يهدف تدريس اللغة العربية لطلاب الكليات العلمية إلى:

( أ ) تقويم ألسنتهم وتنمية قدراتهم على التفكير والتعبير بفهم تام ، بعيدًا عن السطحية والضحالة .

(ب) تهيئتهم للتعامل مع قضايا العلم المعرفية والتطبيقية بعمق واستيعاب ، ومن ثم يصبح العلم بالنسبة لهم منهج تفكير وأسلوب حياة .

(ج) تعظيم دورهم في خدمة المجتمع ونشر الثقافة العلمية بلغة بسيطة يسهل فهمها وذيوعها .

3-  كذلك يؤمل أن يسهم تدريس اللغة العربية لطلاب الكليات العلمية في إعداد أجيال قادرة على توسيع دائرة التعليم تدريجيًّا في هذه الكليات باللغة الأم على طريق المشاركة الفعالة في إنتاج المعرفة ودفع حركة التقدم العلمي والتقني بنصيب يتناسب مع تاريخ أمتنا المجيدة ودورها الرائد في مسيرة الحضارة الإنسانية .

وليس هناك من شك في أن تدريس اللغة العربية بصورة عامة يحقق أهدافًا أخرى غالية يأتي في مقدمتها غرس محبة هذه اللغة الجميلة التى كفلها الله تعالى بحفظه حين تكفل بحفظ كتابه العزيز ، ومن ثم تتحقق الإفادة الكاملة من وظائفها المختلفة في توثيق الترابط مع المجتمع فكريًّا ووجدانيًّا .

ثالثًا : خطوات إجرائية :

1-  إذا ما قبلنا التسليم بضرورة تدريس اللغة العربية في كليات الجامعات المصرية فإنه يمكن إيجاز أهم الخطوات الإجرائية بالنســــــــبة للكليات العملية (العلوم –  الهندسة –  الزراعة –  الطب –  الصيدلة ) فيما يلي :

( أ ) تبسيط النحو والصرف دون خرق للقواعد والأطر يخرج اللغة عن سلامتها ويعيقها عن تحقيق غرضها الأساسي في التعبير والتواصل بأسلوب أبسط وأعمق وأغنى .

وبناء على ذلك يسقط الزعم بصعوبة اللغة العربية ، خاصة إذا ما كان تعليم القواعد الأساسية قائمًا على أساس الفهم والإفهام ، وتعميم القياس ، والبعد عن الإسراف في أحكام الإعراب وتخريجه ، وعدم التعمق في فلسفته إلى درجة عالية من التجريد ، والتخلص من تعدد الآراء في المسألة النحوية الواحدة .

وهنا تجدر الإشارة إلى أن المشكلة عادة ليست في قواعد اللغة ذاتها، ولكنها في معلم القواعد وفي أسلوب تعميمها والإقلال من الترادف والشوارد ما أمكن.

(ب) انتقاء المحتوى الثقافي المناسب لمقررات اللغة بحيث يخدم اللغة والعملية التعليمية معًا ، ويبعد عن الأنماط الجامدة ويستشهد بأمثلة محببة من الثقافة العلمية والإسلامية في إطار التجديد والتحديث وترويج المصطلحات الجديدة (المترجم منها والمعرب) بشرط أن تكون وليدة ذوق سليم وتحظى باتفاق عام .

(جـ) التدريب على ضبط الخط والكتابة والنطق وبيان الأخطاء اللغوية والإملائية الشائعة (مثل وضع التاء والهاء في نهاية الكلمة ، والهمزة الواقعة في وسط الكلمة ، والألف التى تكتب ولا تلفظ أو تلفظ ولا تكتب ، وقواعد العدد ومطابقته أو مخالفته للمعدود ، وعدم مراعاة عمود اللغة وبنيتها الداخلية وخصائصها الأسلوبية والتعبيرية … ) .

2-  يعزز الفائدة من تدريس اللغة العربية توسيع دائرة التعليم بالعربية لمقررين أساسيين على الأقل في كل فصل دراسي بصورة مرحلية ، على أن يخصص نسبة 25% من الدرجة النهائية لكل مقرر لاعتبارات اللغة والخط والكتابة السليمة ، ويخصص الباقي للاعتبارات العلمية . ولاشك أن توسيع دائرة التعليم بالعربية يساعد على الارتفاع بأداة التعبير وتحسين اللغة والتخلص من العامية في شكلها الفج على الأقل . وينبغي أن يقوم بتدريس هذه المقررات من يجيد اللغة العربية من أعضاء هيئة التدريس أو أهل الاختصاص.

3-  كذلك يعزر الفائدة من تدريس اللغة العربية في الكليات الاهتمام بنشر الثقافة العلمية بلغة سليمة من خلال محاضرات وندوات ومسابقات ورصد جوائز مناسبة وتنظيم دورات متخصصة في فقه المصطلحات .

4-  ينبغي أن يشمل تدريس اللغة العربية جميع أعضاء هيئة التدريس في دورات تدريبية مكثفة، ويكون اجتياز امتحان في قواعد النحو والصرف شرطًا للتعيين في درجة مدرس ، كما يكون التقرير المرجعي عند التقدم لدرجة أستاذ مساعد وأستاذ باللغة العربية .

كذلك ينبغي اعتماد الكتب العلمية المترجمة كعامل مرجح للترقية .

وأخيرًا ، فإن تدريس اللغة العربية بالجامعات ضرورة معرفية وحضارية لا تحتمل التأجيل أو التأخير .. فاللغة صورة من حياة أصحابها ، ترقى برقيهم، وتتخلف بتخلفهم ، وقدر اللغة العربية أنها وعاء الإسلام الحنيف ، حفظها القرآن الكريم قوية حية في النفوس على الرغم من الوهن الذي أصاب أهلها ، ولن يطرأ عليها ما يخلع عنها ثوب التميز الذي كساها به الإسلام ، فهي لغة صالحة لتكون لغة العالمين ، صلاح الإسلام ليكون دينًا للعالمين .


أهم المراجع :


–  د. أحمد فؤاد باشا ، التراث العلمي للحضارة الإسلامية ومكانته في تاريخ العلم والحضارة ، مطابع دار المعارف ، القاهرة ، (ط2) 1984 م.

–  د. أحمد فؤاد باشا ، الأسس المنهجية لتعريب العلوم الأساسية والتطبيقية في التعليم  العالي ، مجلة الأزهر 1994م .

–  د. عبد الصبور شاهين ، العربية لغة العلوم والتقنية ، دار الاعتصام 1986م .

–  د. مازن المبارك ، اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي ، دار النفائس ، بيروت، 1973 م .

–  د. أحمد مطلوب ، دعوة إلى تعريب العلوم في الجامعات ، دار البحوث العلمية ، الكويت 1975 م .

–  قاسم السارة ، تعريب المصطلح العلمي «إشكالية المنهج» عالم الفكر ، الكويت ، 1998م .

–  مجلة الفكر العربي ، عدد خاص عن اللغة العربية وإشكالات المعاصرة ، بيروت (61) 1990 م .

–  مجلة عالم الفكر ، عدد خاص عن «الترجمة والتعريب» الكويت 1989م .

–  أعمال الندوة الأولى حول «تعريب التعليم الهندسي» ، جامعة الأزهر 1995م.

–  أعمال المؤتمر السنوى الرابع لجمعية لسان العرب بعنوان « اللغة العربية في الألف الميلادية الثالثة » ، جامعة الدول العربية ، القاهرة ، 1997 م .



اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر