سمينار

التدرج في تطبيق الشريعة

العدد 143

أ.د.محمد كمال الدين إمام:

بدايةً أشكر مركز الحضارة ومجلة المسلم المعاصر على هذا الموضوع الذي جاء في وقته، وهو موضوع “التدرج في تطبيق الشريعـة الإسلامية”.

وقد كتبت ورقة بها عدة تصورات ، فهناك تفرقة ما بين النظام الإسلامي والأحكام الإسلامية، هذه تفرقة أولى.

الأمر الثاني: هناك ارتباط وثيق مابين فكرة التدرج وبين عموم الشريعة الإسلامية وصلاحيتها في كل زمان ومكان.

هناك أيضاً مراتب لعملية التدرج. فإذا ما درسنا عصر الرسالة وعصر الرسول، نجد أن هناك نـزول للخطاب التشريعي وكان هذا النـزول يتضمن أحكاماً تدرجت طبقًا لظروف الزمان، وطبقًا لعادات العرب التي كانت موجودة، وطبقاً لوجهة نظر الرسول r الذي كان يبادر بإبلاغ حكم الله إلى المسلمين في ذلك الوقت. وبالتالي ظهر مبدأ النسخ الذي وجد بالفعل في تنـزيل الآيات القرآنية.

والتدرج لا يتعلق فقط بالنسخ في الأحكام (فهناك أحكام نـزلت ثم رفعت بعد ذلك وجاءت أحكام أخرى)، وإنما التدرج كان في الخطاب أيضًا، حينما نـزل في مكة نراه متعلقًا بالعقائد ومتعلقًا بتطهير النفوس ومتعلقًا بجذب المخاطبين إلى الشريعة الإسلامية وإلى التوحيد. فإذا انتقلنا من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة في المدينة بدأت التشريعات الاجتماعية تنـزل لأن المجتمع قد أصبح مهيأً لتلقي هذه التشريعات وتطبيقها في دنيا الناس. وقد وُجدت، إلى جوار الوظيفة البلاغية للرسول r الوظيفة السياسية من خلال كونه حاكماً في دولة المدينة التي أُسِست على دستور معين يقبل التنوع وتعددية الآراء وحتى تعددية الأديان في داخل وثيقة المدينة.

وبالتالي كانت الفكرة في عصر الرسول r تتعلق بالتدرج في نـزول الخطاب السماوي، وهذه المرحلة إذا نظرنا إليها من زاوية النسخ فهى مرحلة تنتهي بوفاة الرسول لأن النسخ يأتي من الله ولا يبلغه إلا رسول الله. فلايوجد نسخ بعد عصر الرسالة.

هذا بالنسبة للتدرج المتعلق بالخطاب الشرعي.

هناك تدرج متعلق بتنـزيل الأحكام الشرعية، فالأحكام الشرعية كثيراً ما ننظر إليها باعتبارها حكماً تكليفياً أي أن هذا الفعل الذي جاء نتيجة الأمر والنهي، إما أن يكون واجبًا أو محرماً أو مكروهاً أو مباحاً. وقد أصبحت دائرة الأحكام عليها تركيز شديد من جانب المسلمين خاصة في القرون الأخيرة، مع أن فكرة الحكم التكليفي لا يمكن استيعابها في المنظور التشريعي إلا بربطها بالحكم الوضعي الذي هو الأسباب والشروط والموانع في عملية التنـزيل.

نحن نقدم الخطاب التشريعي النصي، الذي هو خطاب يمضي عبر الزمان والمكان ويتجه إلى العالم كله، في صورة خطاب متزمت في لحظةٍ معينة سواء تعين كتشريع عام في مكان معين في فترة معينة، أو تعين كتطبيق قضائي، فهو ينـزل على حالةٍ محددة وعلى واقعة معينة وعلى شخصٍ معين، وهذا التعين أيضاً يلقي عليه في عملية التطبيق صلة مباشرة بينه وبين حكم التكليف الذي هو في الأساس تعبير على أن الواقع حينما يتفاعل مع النص يفرز إما موانعًا أو أسباباً تقضي التطبيق أو تقضي عدم التطبيق أو يوجد شروطًا تجعل تنـزيل هذا الحكم ممكناً أو غير ممكن.

هذه الصلة أو همزة الوصل الدقيقة -من زاوية أصولية- مابين الحكم التكليفي والحكم الوضعي نحن عزلناها في مسيرة العقل الفكري، وتصورنا أن الحكم التكليفي يسير في وادٍ وكأنه في منطقة في مجال التشريع وأن الحكم القضائي يسير في واد آخر وكأنه أيضاً يستقل بناحية أخرى من نواحي التشريع، مع أنهما يرتبطان ارتباطًا عضوياً، حيث لا يمكن تنـزيل الحكم التكليفي على الواقع الإنساني إلا من خلال النظر للحكم الوضعي باعتباره إما شروطًا تستدعي التطبيق وإما أسبابًا تستدعي التطبيق أو تستدعي التوقف أو الموانع التي لها دورها في هذا المجال.

إن الصياغة الأصولية منذ بكارتها، أي منذ القرنين الهجريين الثاني والثالث، كما اتضحت حينما قرأنا “الرسالة” للإمام الشافعي، وجدنا بها ثلاثة أشياء وهى تتحدث عن الأصول حينما نحتكم إليها في تنـزيل الأحكام على الوقائع. فنجد فكرة السياق والمعنى تعلي من شأن المقاصد، ونجد فكرة الحكم التكليفي تحدد بالضبط المنظور الشرعي لأفعال الإنسان، لأننا في منظور الإسلام إذا كنا نستطيع أن نقول إن الأصل في الأشياء الإباحة فلا نستطيع أن نقول أن الأصل في الأفعال الإباحة، لأن الأصل في الأفعال الإنسانية من وجهة نظر الشريعة الإسلامية أن لها حكم، وهذا الحكم قد يكون في دائرة الحرمة أو باقي الأحكام التكليفية.

لكن يظل هذا الخطاب المتعلق بالحكم التكليفي شديد الصلة بما يتحقق بالواقع الاجتماعي من زاوية نظرية أصولية مرتبطة ارتباطاً دقيقاً بأسبابه وموانعه وشروطه. من هنا جاءت فكرة التدرج على أساس أن تطبيق الشريعة الإسلامية ليس هو المسألة الإيمانية في الموضوع، فنحن نؤمن بالله ورسوله والقرآن وهذا جانب عقائدي لا يستطيع أن يتخلى عنه المسلم.

لو نظرنا في التطبيق العملي وجدنا حد السرقة غير موجود وعدم وجوده لا يعني أنه غير موجود في العقاب التشريعي، ولايعني أنه غير موجود في الخطاب الشرعي، ولكن حينما تأتي عملية التطبيق العملي قد تحدث فجوة مابين الواقع ومابين شروط تطبيق النص. وهذه الفجوة تجعل في لحظةٍ معينة أن من الأنسب للمسلم وهو يستعيد عافيته العقلية والاجتماعية والدينية أن يتدرج في تطبيق الأحكام الشرعية حتى يستطيع أن يصل بها إلى غايتها، لأن هناك ثلاثية تربط عملية التطبيق، فالمقاصد في الشريعة الإسلامية ليست مصدراً للأحكام بقدر ما هي مبدأ أساسي في فهم الأحكام وفي تداولها في الواقع، لأن المقاصد في ذاتها تعني أن التعليل وارد في الأحكام الشرعية وإذا نفينا التعليل فقد نفينا المقاصد.

والمصلحة ركن أساسي في النظر إلى المقصد وهذا مبحث أصولي، ثم ننطلق بعد ذلك إلى عنصر ثالث من المقاصد وهى مآلات الأفعال، فحينما نطبق الحكم الشرعي على واقعةٍ معينةٍ من دنيا الناس لابد أن يتحقق المقصد من وراء هذا الأمر، فإذا ترتب على تطبيق هذا الحكم ما يمكن أن يكون مغايرًا ومخالفًا للمقصد الشرعي ففي هذه الحالة سوف يحتاج هذا الحكم إلى إعادة نظر، أو إلى حكم جديد ليس هو الحكم النازل في النص بقدر ما هو حكم مستنبط للواقع. وهذا أمر طبيعي لأنه حتى في مجال التعاقدات لدينا القاعدة الشرعية التي تتحدث عن أثر المقصود في العقود وهى قاعدة تطبق على معاملات الفقه الإسلامي كله، وهى تتعلق ليس فقط بميدان المعاملات وميدان التشريع ولكنها تتعلق بكل المنظومة التشريعية في الإسلام.

في قلب هذا الموضوع تأتي فكرة التدرج، قد تكون فكرة تدرج زمني وقد تكون فكرة تدرج مكاني. ربما في تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان في عصر النميري وما بعده ظهرت فكرة التدرج المكاني لسبب بسيط جداً هو أن هناك مناطق تحتاج تهيئة، كما أن هناك مناطق بعيدة عن أن تطبق عليها الشريعة الإسلامية، فظهرت فكرة التدرج المكاني وأعطيت سلطة هذا الأمر لقاضي القضاة، على أن لا تطبق هذه المسائل لفترة معينة إلى أن تستكمل الآلية لإيجاد مجتمع قادر على أن تتحقق المقاصد الشرعية فيه من خلال تطبيق الأحكام الشرعية.

فكرة التدرج كما تكون زمانًا ومكاناً تكون أيضًا للأشخاص فالحكم الشرعي عليه أن ينظر نظرةً متكاملةً للشخص محل الحكم من زاوية ظروفه ومن زاوية عقله، فقد يكون هذا الشخص كبيراً وقد يكون صغيراً، قد يكون عاقلاً وقد يكون مجنوناً، نحن لابد أن نصف الواقع، وهذا بعض ما تعلمته من أساتذتي، وفي مقدمتهم المستشار البشري.

هذه عملية دقيقة، قد لا يكون الفقيه هو من يتولاها فقد يكون هو آخر من ينظر في عملية وصف الواقع. فقد يتعلق الواقع بالطب الشرعي، وقد يتعلق الواقع بعلم الاجتماع، وقد يتعلق الواقع بعلم السياسة، فلابد من توصيف الواقعة ثم قيدها تحت المظلة التي يمكن أن تنـزل عليها.

لقد نظرت لفكرة التدرج في هذا الإطار لتكون مقدمة ومدخلاً لتفكير آمن ومطمئن يعتمد على النصوص الإسلامية في قضية قد تبدو عاجلة للوعي المصري المعاصر خاصةً بعد الثورة والانتخابات الأخيرة، مما يدعو إلى التفكير في موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية.

هل تطبيق الشريعة الإسلامية يعني أننا نأتي بنصوص قد تم تطبيقها هنا أو هناك، ونصدر في يوم وليلة أمرًا تشريعيًا من البرلمان أو من الحاكم على تطبيقه، هذا تصور وارد كفكرة، لكن هل الواقع الأصولي والواقع التشريعي يعطي شرعية لعملية الانقلاب التشريعي؟، رجل القانون بطبيعته محافظ والمجتمع بطبيعته أيضاً محافظ.

وبالتالي من الصعب جداً الانتقال مباشرة من مرحلة لمرحلة دون أن تكون عملية التدرج واضحة في الأذهان. توجد معوقات كثيرة في بعض الأحيان قد تكون معوقات سياسية –الحمد لله تزول- وهناك معوقات ذهنية مصدرها الصور النمطية التي تكونت في أذهان الناس عبر ثلاثة أو أربعة قرون من الزمان، كل هذه تمثل معوقات في الذهن والبناء المعرفي، أيضاً هناك معوقات تتعلق بالمجتمع ذاته ومشكلاته التي يعيشها كل فرد على حدة.

إذًا فكرة التدرج تطرح نفسها بوضوح وإلحاح، ولابد أن نفكر فيها من خلال ضوابطنا ومن خلال علاقتها بالثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية، من خلال تفريقها بين التدرج والنسخ، النسخ الذي ينتهي بعصر الرسول r، والتدرج الذي هو سمة من سمات الشريعة الإسلامية ويبقى معها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو جزء من عملية تنـزيل الخطاب التشريعي. إذا كان تنـزيل الخطاب التشريعي متسمًا بالتدرج في عصر الرسالة الذي يقوم على فكرة النسخ، فإن التنـزيل التشريعي بعد عصر الرسالة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها متعلق بالتدرج باعتباره جزءً أساسيًا من عملية تحويل النص إلى واقع إجتماعي بحكم الحياة السياسية والاقتصادية.

هذه مجرد أفكار وأسئلة، فالموضوع في الحقيقة كبير ويحتاج إلى ضبط مصطلحات ويحتاج إلى اجتهاد كل الزملاء كلاً في موقعه، ويحتاج أيضاً إلى التفكير بأمانة المسئولية، ذلك أننا في مرحلة فارقة من تاريخ أمتنا، وهذه المرحلة الفارقة الانتصار فيها سيكون انتصار للفكرة وأيضاً التراجع فيها سيكون تراجعًا عن الفكرة.

أنا لا أخشى على الإسلام، فالإسلام حفظه الله وهو الدين الخاتم الباقي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن في بعض الأحيان الفكرة تتلبسها أحزاب وأنماط ومؤسسات. واعتقد أنه كلما كانت التجربة أكثر إضاءة وقدرة على التحرك إلى الأمام كلما كان هذا إضافة إلى رصيدنا، وكلما كانت الفكرة غير قابلة للتحرك في الدنيا بكل ما يحيط بها من تبعيات دولية وداخلية وخارجية ومطالب ملحة للناس كلما كان ذلك خصماً من رصيدها.

المستشار. طارق البشري (المفكر الإسلامي والنائب الأول السابق لرئيس مجلس الدولة):

أشكر الدكتور محمد كمال الدين إمام على هذا العرض وهذه الفكرة التي اقترحها، وأقدر جداً دوافعه في هذا الشأن فهو يستهدف التغيير من خلال الثبات.

في موضوع طرح الشريعة الإسلامية وتطبيقها كنا دائماً نفكر فيها فيدخل بها العامل السياسي أكثر مما يجوز فحملت أعباءً سياسية. فلو أننا طالبنا الدولة بفرض الحجاب أو تعميمه لكانت هناك معركة سياسية ونوع من أنواع الصراع وحملت أعباءاً سياسية، إنما توجه المرأة للحجاب لكونها تعلم أنه أمر شرعي، أدى إلى أن الثقافة العامة السائدة والإيمان العام السائد أصبح فيهما الحجاب أمرًا واقعًا دون مشكلة.

وأرى أنه بدلاً من أن نتوجه إلى الدول بكل تعقيداتها علينا أن نتوجه إلى الأمة. فلدينا السلطة والأحكام إذا استفيد في هذا الأمر من الثقافة السائدة، والثقافة السائدة لدى الأمة هى الثقافة الإسلامية، والوجدان السائد لديها هو الوجدان الإيماني، والثقافة هي الثقافة الإسلامية. فماذا يمكن أن نصنع في هذا الشأن؟

أنا أتصور أن الأحزاب السياسية قد أدخلت موضوع تطبيق الشريعة في الشأن السياسي بدرجة كبيرة، في حين أن هذا الموضوع يلقى قبولاً حتى داخل جهاز الدولة بشيء من الترحيب والاحترام. والسنهوري كان أول من وضع أحكام الشريعة في القوانين الحديثة. ففي القانون المدني نجد مادة واحد تنص على أن يرجع القاضي فيما ليس فيه نص في القانون إلى العرف ثم الشريعة ثم القانون. ولا يوجد في مصر عرف غير متصل بالشريعة. فلا توجد قاعدة غير مكتوبة يعتقد الناس أنها ملزمة لهم وتكون خارج الشريعة. ثم جاء بالقانون وهو المصدر الوضعي فوضعه بعد الشريعة، وقد وضع هذا النص في ظل حكومة السعديين.

أثناء التوجه إلى الأمة بموضوع الشريعة نجد الأمر يكتسح، بينما عند التوجه إلى الدولة نجد الأمر يتخبط.

أتصور أنه من الممكن التوجه للشريعة من خلال الجانب الثقافي فكيف يكون هذا؟، هيكل التشريع المصري ليس بعيداً عن الشريعة الإسلامية، فالأحوال الشخصية كلها مرتبطة بالشريعة، وبالنسبة للتكوين الثقافي الشعبي فهو كذلك مرتبط بالشريعة، وأحكام ضوابط السلوك والأخلاق كلها مرتبطة بالشريعة الإسلامية على المستوى الشعبي كله.

توجد أحكام في القوانين تستطيع أن تقبلها الشريعة الإسلامية. فيمكن أن نجعل الأحكام لها وضع مصدري في الإسلام ونستخدم المرجعية الإسلامية بالنسبة لها كفقه وكتفسير وكمرجعية.

وهذا شائع بين القوانين بالإسناد الشرعي لما هو موجود في الوقائع من أحكام تقبلها الشريعة الإسلامية وتسمح بها وفقًا لأحكام المذاهب الفقهيه الشرعية المعترف بها. مثلاً القانون المدني الذي أمامي به أحكام كثيرة جداً يمكن أنها تقبل هذا الإسناد.

كيف تتصرف الأمة في هذا الشأن؟، نجد الإسلام عندما دخل بلاد الفرس والروم وجد عادات وأعرافًا موجودة فأخذها وضمها إلى مرجعيته وقبلها وجعلها داخل إطار هذه المرجعية وأصبحت جزءاً من التفسير الفقهي للأحكام الإسلامية وانضمت إليه وتم إبعاد الأحكام غير الشرعية بعيداً.

حينما تغيرت القوانين المصرية عام 82 كان يمكن للطرف الإسلامي أن يضع كل ما يمكن أن يضعه من أحكام حديثة في هذا التغيير. فالتجديد في الفقه الإسلامي كان قائمًا وموجودًا في هذه الفترة. فنجد أن من وضع القوانين لقدري باشا هو الشيخ حسان النواوي شيخ الأزهر في ذلك الوقت.

إن المشكلة أن جيل آبائنا بدلاً من أن يرجع للزمخشري وابن عابدين اتجه للأحكام والقوانين الفرنسية.

فإذا أخذنا هذه الأحكام جميعاً وعرضناها على الفقه فما يقبلها الفقه الإسلامي بمدارسه التي نعرفها وبآراء السلف نؤكد عليه بالشرعية الإسلامية ونستخدمه في إطار المرجعية الاجتماعية مسنوداً إلى المرجعية الإسلامية. فنحن كمحامين، وقضاة، وكتاب، وشراع للقانون نفعل هذا وننفذ الأحكام.

يوجد شيء هام جداً، فبحكم عملي في القضاء ومجلس الدولة حيث العمل في تعديل القوانين، كانت تواجهنا مشاكل بعد تعديل القوانين، ويجب حل هذه المشاكل المترتبة على التعديل. وليس من الصواب أن تقرر الأمة إلغاء القوانين القائمة ووضع قوانين جديدة، لأن ذلك قد يؤدي إلى الانهيار المجتمعي، ولكن علينا أن نعتمد ما هو مقبول شرعاً من أحكام موجودة ونقوم بإسنادها لمرجعيتها الشرعية. وبذلك نكون حافظنا على قدر كبير من الاستقرار وربطنا ما بين الثقافة السائدة وبين الواقع العملي.

هذا هو المدخل الثقافي للعملية التشريعية قبل أن يقوم التشريع بتعديل وتغيير كل شيء.

لقد أثير موضوع تطبيق الشريعة كثيراً، وقيل أن المجتمع سيأتيه وافد شرعي من خارجه وهذا أمر مقلق وغير صحيح، فالأمة مسلمة وثقافتها إسلامية وجزء من قانونها إسلامي، وبعض قوانينها يقبلها الفقه الإسلامي ولكنه خارج عن مرجعيته من الناحية الثقافية، فلنعيدها إلى مرجعيتها من الناحية الثقافية فتكون هذه الأحكام محددة أمامنا وهى فقط التي تحتاج إلى تعديل، ولكن بشرط أن نخضع المقبول منها شرعياً للمرجعية الإسلامية في التعاملات الثقافية، بحيث تسود هذه المرجعية ولا يجب لأحد أن يخالفنا أو يعترض علينا في هذا الشأن.

هناك نقطة أود التحدث عنها ونحن نتعامل مع الواقع السياسي والاجتماعي الموجود، ففي الجانب الثقافي الشريعة سائدة والفكر الإسلامي سائد بدون منازع، وكل الحركات في تاريخنا التي كانت خارجة عن الإطار الإسلامي كانت محدودة. ولكن في نفس الوقت المسألة السياسية لا تحسب فقط بالكثرة العددية وإنما بالمواقع.

الآن نجد الثقافة السائدة في الشعب تحركه، لكن المواقع كالإعلام والاقتصاد مختلفة، فهذه مواقع معروف أنها ضد الإسلام ولها أهميتها، فلا يجب الاعتماد على القوة العددية إنما بالمواقع المختلفة أيضاً.

فلا تعني الكثرة العددية أننا انتصرنا في كل شيء، فمازال أمامنا مرحلة طويلة، وهذا يتطلب منا أن نلجأ إلى الأمة وثقافتها في إشاعة ما نراه من اكتمال الفكرية الإسلامية أكثر مما نلجأ للدولة.

أمثلة للمواقع: نجد أن المفكرين والمثقفين في الجامعة وفي الأدب والفن، كل ثقافتهم من الغرب، فالذي يكتب قصصًا أو مسرحًا أو غيره ثقافته تؤثر في إنتاجه المهني الفني وكلها ثقافة غريبة وموقفهم من الإسلام غريب. فيمكن القول أن المواقع لها تأثير زمني.

د.كمال حبيب (حزب السلامة والتنمية):

طبعاً هذا الموضوع مهم وسأقول بعض الأفكار التي تدور دائماً في ذهني بالنسبة لهذه المسألة. طبعاً نحن لدينا منهجين في هذا الموضوع، المنهج الذي يعلي الشريعة ويريد أن يطبقها من أعلى وأظن غالب الحركة الإسلامية تنتمي إلى هذا المنهج. والمنهج الآخر الذي يتحدث عنه د.البشري وهو المنهج المجتمعي الذي يصطحب لهذه الأمة حالةً من الثقافة الإسلامية مع وجود قانون إسلامي يمكن البناء عليه.

فكيف يمكن التعامل مع هذا الموضوع من خلال تغيير إما منهج الاستصحاب أو تغيير فكر الأمة التدريجي أو منهج فرض هذا الأمر من أعلى بحكم السلطة أو الدولة؟

وبالنسبة لموضوع تطبيق الشريعة أو التدرج في تطبيقها، أين تقع هذه المسألة في فضاء الشريعة نفسه؟ فهل هى في منطقة العقيدة أو في منطقة الاجماع من الفقه أو منطقة الفقه الجزئي؟.

وإذا قلنا أين هى وحددنا مكانها فعلينا النظر إلى المنهج الذي يمكن أن نتعامل به.

فأنا ألاحظ أن مسألة العقيدة، لأنها مركزية في وعي الجماعات الإسلامية ووعي بعض الإسلاميين، فإنها أحياناً تمتد في مناطق ليست من العقيدة، وبالتالي أريد أن أقول أن الشريعة الإسلامية ليست كلها شيئًا واحداً وإنما بداخلها أشياء متعددة، وكل شيء من هذه الأشياء أو علم أو فرع من فروع العلم له منهج متكافئ مع طبيعته. فالعقيدة لها منهج يتكافأ مع طبيعتها لأنها قائمة على فكرة الإيمان بالغيب، والإجماع ومسألة تطبيق الشريعة الإسلامية تقع في منطقة أخرى ربما فيها جزء من الفقه وجزء من المقاصد والسياسة الشرعية، وبالتالي لابد من مراعاة الواقع الذي تطبق فيه هذه الأحكام وأخذه في الاعتبار. وإذا قلنا أنها في منطقة السياسة الشرعية أو المقاصد في المفهوم الواسع فمعنى هذا أن لها منهجًا مختلفًا عن المنهج العقائدي، وأنا لا أقول بالفصل بين العقيدة وأي شيء آخر في الشريعة ولكن أقول بالتمييز. بمعنى أن مناهج التعامل مع العقيدة مختلفة عن التعامل مع السياسة الشرعية ومع أي مجال آخر.

بالتالي نحن نتحدث عن إدارة مجتمع أو الخروج من مجتمع، كان قد تَعَلْمَنَ، إلى حال جديد، كيف يمكن تحقيق ذلك؟

أعتقد أن هذه المسألة تحتاج لتمييز منهاجي أو ذهني أو نظري يبين مسألة التعامل مع المقاصد ومسألة التعامل مع السياسة الشرعية ومسألة التعامل مع الجانب العقائدي.

الأمر الآخر أننا في مسألة موضوع الأحكام الشرعية الجزئية كان لدينا الأشياء المعروفة في الأصول – القرآن والسنة ثم الإجماع والقياس- ثم بعد ذلك ما أطلق عليه الفقهاء المصادر أو الأصول الشرعية المختلف عليها بين الفقهاء.

أريد أن أقول أن في قصة المقاصد وقصة تدرج المجتمعات تصبح المسائل الفردية أساسية بمعنى الأخذ في الاعتبار موضوع العادة وغيرها، كل هذه الأشياء تحدث عنها العلماء والفقهاء القدامى باعتبارها فرعية بالنسبة للتعامل مع قضايا المجتمع، وإدارته تصبح هى رئاسية في التعامل مع كيفية إعادة المجتمع مرة أخرى إلى وضعه الطبيعي.

أعتقد أن مسألة قيام الإسلاميين على تمييز العلاقة بين العقيدة والسياسة مدخل مهم لو استطاعوا الدخول إليه بمعنى الوصول إلى منهج للتعامل أو التمييز بين هاتين القضيتين، أنا اعتقد أنه سيكون فتحًا كبيرًا جداً لحل مشاكل تأخذنا إلى قضايا سياسية نعالجها بمنطق العقيدة.

هذه مسألة مهمة، وبعض الإسلاميين ينـزعجون منها، لكن ما أقوله يوجد في الفقه، فيوجد ما يسمى أصول الدين ولها منهجها، فعندما قرأت موافقات الشاطبي، تساءلت لماذا كتبها وسماها موافقات؟، ورأيت أنه كان هناك سيادة للنص الجزئي على العقل الإسلامي، فالواقع كان يبدو واقعًا معقدًا ويحتاج إلى تغير فكرة المصالح والمقاصد الكلية للإجابة على أسئلة أصبحت النصوص الجزئية لا تجيب عليها.

وأعتقد اليوم أن لدينا مشاكل معقدة تتطلب تفعيل مقاصد الشريعة لأن اللجوء للنص الجزئي وعدم إرجاعه إلى مقصد أو قاعدة كلية يؤدي إلى نوع من الارتباك بالنسبة لهذه المسألة.

طبعاً الموضوع صعب جداً وأنا كتبت عنه أكثر من مرة، فمسألة الانتقال من الجماعة إلى الدولة أي كيف ينتقل الإسلاميون من عالم جماعتهم القائم على فكرة التوحد العقيدي إلى فكرة الدولة التي فيها أنواع شتى من البشر ومن الأفكار؟، فكيف نضبط واقع كل هؤلاء البشر؟، ومن ثم فأنت محتاج إلى أن تدرك أنك الآن تواجه دولة.

وأنا أقول أن الإنسان المعاصر أصبح مختلفًا عن الإنسان القديم في استهلاكه وفى حاجاته وشعوره، فهو لا يريد أن يفرض عليه أحد شيئًا من أعلى، فشباب الثورة يحبون أن يكون الحديث معهم من منطلق أفقي وليس رأسيًا فلا يحبون أن يفرض عليهم شيء من أعلى.

أخيراً اليوم الإسلاميون جاءوا إلى البرلمان من خلال انتخاب الناس لهم، إذًا نحن أمام شرعية جديدة مختلفة، وهي أن الناس صوتوا لك وهذا لم يكن موجودًا في البنية السياسية القديمة. فالنظام السياسي الإسلامي القديم كان قائماً على فكرة سياسية مختلفة، فكرة أهل الحل والعقد، لكن اليوم أفراد الأمة هم الذين قاموا بالتصويت لك وأصبح صندوق الانتخاب هو الذي يعطي لك الشرعية. من ثم أنا في تقديري أن الإسلاميين المتواجدين في البرلمان أصبحوا الآن ممثلين حتى لمن لم يصوت لهم، وهذه هي الإشكالية، كيف تستطيع أن تطور خطاباً ليصبح هذا الخطاب ممثلاً عن الجماعة والقضية المصرية وليس ممثلاً لجماعتك فقط. هذه المسألة قد قرأتها من كتب المستشار البشري في مؤتمر 1911 وما بعده حتى 1919، وفكرة الهوية المصرية باعتبارها مسألة جامعة، وكيف يمكن أن تكون “المصرية” هوية جامعة للجماعة الوطنية، والإسلامية حزء داخلها. فأنا أقصد أن فكرة الجماعة الوطنية المصرية لا ننـزعج منها ويكون العمود القائم فيها هو الثقافة الإسلامية.

هذه مجرد مقترحات أولية يمكن أن تصلح للنقاش ويمكن الاتفاق أو الاختلاف عليها وشكراً.

د.صلاح عبد الكريم (حزب الوسط سابقا):

عندما ننظر الآن في عصر العلم وعصر سقوط الحواجز الجغرافية والاجتماعية والسياسية، وكنا قد عشنا عدة قرون كمناطق نفوذ، ومن كان لديهم نفوذ في بلاد الإسلام بعد سقوط الخلافة وتفكك الدولة كانوا من الذكاء بحيث عملوا بدل الرباط ألف رباط ليتأكدوا من دوام سيطرتهم على هذه البلاد. وما يحدث في المنطقة العربية الإسلامية ليس بالهيِّن ولكنه هدم طال العهد بالتخطيط له.

قال أ. فهمي هويدي أن رئيس المخابرات الإسرائيلي قد قال: لقد قمنا بعمل أشياء في مصر حلها يستغرق وقتاً كبيراً جداً وتكاليف عالية، وما فعلته إسرائيل كثير في مصر. وقد أشار المستشار البشري إلى هذا الموضوع، وهو أن عناصر القوة ليست صندوق فقط بل توجد أشياء أخرى كثيرة.

أنا أتصور أن هدفنا هو أن نعيش في ظل حكم وشرع الله، ونخرج البشرية بدءًا بالأمة المصرية ثم الأمة الإسلامية من جور الأديان إلى عدل الإسلام، إنما الموضوع سيأخذ وقتًا. طبعاً العناصر السياسية والاقتصادية والعسكرية والحكومة العميقة لم يتم تفعيلها بعد، ونحن نحتاج أن نتحرك بكل الأمة ولن نتحرك بكل الأمة إلا إذا تأكدنا أنها قادرة على أن تواجه هذا المكر حين يأتي في وقته، حتى لا نتحول في النهاية إلى حكم لا يختلف عن الطغاة كثيراً لنغصب الأمة أن تظل وراءنا. وأنا أتصور أن ما تم هدمه في عدة قرون سيحتاج لوقت لإعادة بنائه وإعادة الشخصية المسلمة.

بالنسبة للأمم المتحدة فهي منظمة لتقرير نفوذ المؤسسة الغربية في مناطق نفوذها، وما حدث في مصر أمر إلهي، وهذه الثورة ثورة إنسانية لعل الله يريد بها إخراج الإنسانية من جور الأديان لعدل الإسلام. أنا أعتبر نفسي تلميذًا في الحركة الإسلامية وأشعر في كثير من الأحيان كأن كل شيء تم إلا التطبيق القانوني، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث لإتمام بنود القانون.

كل الحركات الإسلامية حينما تقابل ممثلي الغرب بصفة عامة، بصرف النظر عن تخصصاتهم السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، تشعر أنه يوجد جزء من الميزانية النفسية ونحن نحتاج أن نتغلب على هذا الموضوع لأنه في الحقيقة المؤسسة الغربية بصفة عامة هي تعادي هذا المشروع وتخطط لمعاداته منذ قرون وعلينا التحلي بأكبر قدر من الصبر. كما أن أكبر مشكلة مع الغرب أن كلامهم منمق ولكن في الحقيقة هم من وضعوا إسرائيل في قلب العالم العربي الإسلامي. وشكراً.

د.عماد الدين عبد الغفور (رئيس حزب النور):

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد، فقضية التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية هي أمر لابد من دراسته، وأظن أنه يحتاج دراسات وافية، فأنا أتصور أن هذه الجملة تحتاج ورش عمل طويلة.

توجد قضايا كثيرة تكلمنا عنها ومن أوضح هذه القضايا قضية الجهاد في سبيل الله، هل هي فريضة من الفرائض؟ وعندما تناولها الإمام ابن القيم –رحمه الله- نجدها مرت بعدة مراحل نلاحظ فيها التدرج، وكذلك في الفرائض والمحرمات مثل الخمر والآيات التي نـزلت فيه. كلنا نعرف كيف تدرج الإسلام وتدرج التشريع، وقالت أم المؤمنين عائشة أن أول ما نـزل من القرآن كان مفصلاً ثم التشريع في المدينة وآيات الأحكام وقالت لو أن أول ما نـزل هو تحريم الخمر لرفض الناس تركها.

على أي حال موضوع التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية أظن أنه يحتاج إلى كثير من البحوث في كيفية تنـزيلها على الواقع، إن الشريعة كلها مصالح وحق وحكمة ورحمة، إلا أنه إذا طبقت بعض هذه الشرائع في الوقت الحاضر فإنها ستجلب من المفاسد ما يفوق المكاسب فيكون المقصد أو المصلحة أن نتأخر في تطبيقها.

نحن كاتجاهات إسلامية الآيات معروفة لدينا منذ الصغر والتزمنا فترات طويلة. وأريد أن أوضح أن التدرج ليس ميلاً لغير المسلمين أو أن منبعه ضغوط غربية، بل التدرج بغرض الخير للمجتمع. والحقيقة أن الشرق والغرب يكرهون تطبيق الشريعة الإسلامية، إنما هي بإذن الله عز وجل سوف تطبق رغماً عنهم، وبالنسبة لهذه القضية الدافع لدينا سيكون مراعاة مصلحة الأمة ورحمة بالمجتمع.

أيضاً القول بالتدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية يجب أن يكون من خلال مراحل للقضايا المختلفة، مثل قضية الربا، فهي من أخطر القضايا وأكثرها مساساً بالمجتمع، أما القضايا الأخرى كالخمر فهي لن تمس إلا نسبة ضئيلة جداً من المجتمع المصري، ونحن كاتجاهات سياسية سواء في هذه القضية أو غيرها ننظر كيف تتم مرحلتها والتدرج فيها مع البيان للناس أن الأصل في الربا حرمانيته قليلاً وكثيراً.

لا يجوز تطبيق الحكم مباشرة مرة واحدة وأيضاً لا يجوز تركه هكذا، فنحن نرى أن الأمر يكون وسط بين الطرفين خاصةً أن المجتمع اختار التيارات الإسلامية وهو مدرك أنها تيارات إسلامية وبرامجها ستطبق الشريعة الإسلامية، فهو اختارها حباً منه في شرع الله. ونحن نعلم أن الاتجاهات العلمانية ستقاتل وتكافح لمنع هذا الأمر.

أنا مع قضية المرحلية لكن أرى أنها تحتاج أن نضع في الاعتبار كيفية تنفيذها، وما هي الأسس التي ستستخدم لتنفيذها؟، وأشكركم على ذلك.

د.محمد عمارة (المفكر الإسلامي):

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد، سأتكلم في نقاط سريعة عن التدرج، التدرج في الرؤية الإسلامية سنة كونية واجتماعية، فالكون قد خلقه الله في ست أيام من أيام الله أي بالتدرج، وخلق آدم بالتدرج من تراب ثم طين ثم حميم مسنون ثم صلصال ثم نفخ فيه من الروح. في نـزول الشريعة والرسالات السماوية من آدم إلى محمد r تدرج، حتى المعجزات كانت تتدرج وفق مستوى العقل البشري، فكانت معجزات مادية مدهشة تدهش العقول وتدفعها للتفكير، ثم لما بلغ الإنسان سن الرشد جاءت المعجزات لتحتكم للعقل ولا تغيبه. فالشريعة الإسلامية نـزلت بالتدريج، فمثلاً في السنة الثالثة من الدعوة نـزلت المواريث، فالشريعة تنـزل مع تهيؤ المجتمع لتقبُّل الشريعة.

لا يستطيع أحد اليوم القول أننا لدينا تدرج في الشريعة، فالشريعة اكتملت، لكن عندي باب الفقه مفتوح ليعايش الواقع، وبالتالي لدينا تدرج في الفكر. وحتى الشريعة التي اكتملت فهى أسس ومبادئ ونظريات أكثر منها تفاصيل تشريع، وهي تترك كل هذه التفاصيل للفقه لأننا سنحتاج من العقول أن تجتهد للوصول لحل لهذه المستجدات. فالشريعة اكتملت والتدرج لا يعني بأي حال من الأحوال أن الشريعة تحتاج إلى تجديد لكنها تحتاج للتطبيق.

أريد أن نحدد أحاديث الرسول عن المنهج، فيوجد حديث للرسول صلى الله عليه وسلم فيما معناه يقول لا يلبث الجور بعدي إلا قليلاً حتى يطلع، فنجد التصوير في الحديث تصوير فني، فكلما ظهر من الجور شيء توارى من العدل مثله حتى يولد في زمن الجور من لم يعرف العدل، ثم يأذن الله بالعدل فكلما ظهر علينا من العدل شيء توارى من الجور مثله حتى يولد في العدل من لم يعرف الجور.

إذاً العدل والجور بالتدرج، وهذا التراجع الحضاري عندنا مثل ما عند الغرب، فالتقدم ليس خطًا صاعدًا دائماً وأبداً والتخلف نازلاً دائماً وأبداً، إنما هي الدورات.

حديث آخر للرسول صلى الله عليه وسلم فيما معناه أن عروى الإسلام تنقض عروة عروة. إذًا فالتراجع الحضاري تم بالتدرج وأيضاً العودة إلى كامل إسلامية المجتمع المسلم تتم بالتدرج.

سأتحدث عن تجربة عمر بن عبد العزيز، فعندما جاء عمر بن عبد العزيز لم يعد العدل وإقامة شرع الله مرة واحدة، وكان كل يوم يحيي سُنة ويميت بدعة، ونجد ابنه متعجلاً ويقول له: يا أبي لم لا تحمل الناس على الحق دفعة واحدة؟، والله لأخاف أن تعلي بي وبك القدور، فقال عمر له: يابني إني أخشى أن أحمل الناس على الحق دفعة واحدة فيتركونه دفعة واحدة فتكون فتنة. لدرجة أنه قال عبارة معناها أنه يعطي الناس علاوة ليقبلوا على العدل.

في تجربة عمر بن عبد العزيز خلال سنتين بدأ بنفسه وبزوجه وبأمراء بني أميه ثم الأمة.

ولديّ نص للأستاذ المودودي –رحمه الله- يقول أن إنجلترا ظلت 100 عام لتغير الواقع والقانون، فمن يتصور أننا بمجرد وصولنا للحكومة سنطبق الشريعة فهذا تصور خطأ. أولاً لكي أطبق الشريعة يجب أن أكون قد أعددت القاضي الذي سيحكم بالشريعة والمحامي الذي سيترافع بالشريعة وأيضاً المواطن الذي سيقبل الشريعة، والأخطر من ذلك أن المناهج في حركات الإصلاح تعلن برنامجًا جيدًا جداً لكن بينه وبين الواقع فجوة، لأن المواطن غير مهيأ لاستقباله.

لابد أن ننظر للحظة التي نحن فيها في مصر، فنحن لسنا أمام ثورة أو تغيير في إطار مصري جغرافي، أنا أعتبر أن الباب بهذه الثورة قد فتح لتحقيق كل حركات الإصلاح على امتداد قرنين من الزمن منذ عزلت الأمة عن الشريعة بعد غزو نابليون. الآن فتحت أمامنا الأبواب ليعود الشرق مرة أخرى لقيادة الحضارة العالمية. لكن هذا أمامه عقبات ومشكلات وعلينا وعلى غيرنا لتحقيق هذا أن نبذل جهودًا كبيرة. فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، فإذا كانت المهام بهذا العظم لابد أن تكون هناك دراسات متأنية كي تثبت الخطى والأقدام على الطريق الذي تسير عليه.

لابد أن يكون لدينا أولويات وأنا في رأيي أنه بعد استقرار الوضع وانتهاء المرحلة الانتقالية وانتخابات المؤسسات، فإن أهم الأشياء التي تؤلف الصف الإسلامي انشغاله بقضايا الواقع.

كنت كتبت مقالة في الأهرام بعنوان “أيهم أولاً: فقه الواقع أم فقه الأحكام”، بعض الأفراد يعيش في الأحكام وفي النظريات وهؤلاء لابد أن يراجعوا أنفسهم فالواقع هو الذي يحكم على الأحكام. اليوم حينما نفكر في توفير الغذاء، أو نريد تصنيعًا في البلاد هل ذلك سيكون سلفيًا وغير سلفي؟، فأنا أقصد أن الانشغال في الواقع هو الذي يجعلنا نوحد فكرنا وصفنا ويضعنا أمام التحديات الحقيقية.

إن الانشغال كثيراً بالفكر النظري والنظريات، كجمهورية أفلاطون أو مدينة الفارابي، التي لم تطبق في الواقع غير مجدٍ، بينما الانشغال بالواقع هو الأفضل.

وقد أعجبني ابن القيم –رحمه الله- حيث يقول أننا نبحث للواقع عن الحكم في الأحكام ولا نفرض الأحكام على الواقع، فما أريد قوله أن فكرنا الإسلامي به مناهج ومقولات تحتاج أن ننـزلها على الواقع الذي تعيش فيه. فننشغل بقصة الواقع ونبحث لعلامات استفهام الواقع عن إجابات في الأحكام. وكلما انشغلنا بتطبيق الواقع وإصلاح الواقع كلما توحدت جهود تيارات الفكر الإسلامي.

أود في الختام أن نعي معنى قول الله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) ليكن هذا شعار تيارات الفكر الإسلامي في الواقع الذي نعيش فيه.

أ. عصام دربالة (البناء والتنمية):

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشكر مركز الحضارة على طرح هذا الموضوع الهام الذي اعتقد أنه هو واجب الوقت بالنسبة للحركات الإسلامية، واسمحوا لى أن أقترح عنواناً لهذه المسألة قد يعبر عن مفهوم التدرج وأنا أراه مناسباً للحالة التي نحن فيها، وهو: كيفية إدارة تفعيل تطبيق الشريعة الإسلامية في الواقع المصري بما يحقق المواءمة بين الواجب الشرعي والواقع المعاش، وهو ما أشار إليه أ.د. عمارة عندما ذكر كلمة الإمام ابن القيم حيث أشار إلى هذه القضية الهامة: ألا توجد خصومة ما بين الواجب الشرعي ومابين الواقع المعاش، واعتبر ابن القيم أن الفقهاء في عصره وقبل عصره قد جعلوا هذه الخصومة بين الواجب الشرعي وبين الواقع والحكام، فترك الحكام الشريعة وحمل مسئولية ذلك الفقهاء.

ولذلك فقضية كيفية إدارة تطبيق الشريعة الإسلامية بين الواجب والواقع في تقديري هي قضية تندرج فيها قضية التدرج، لأننا الآن نسعى إلى عملية التحول بالمجتمع، فقد كانت الدولة تمنع استمرار تطبيق الشريعة وتحاول أن تأخذ المجتمع إلى هوية أخرى وكان المجتمع يقاوم هذا. على هذا الأساس اعتقد أن قضية إدارة تفعيل تطبيق الشريعة فيها أكثر من جزء، كما أشار المستشار البشري، فهذه القضية ليست في النصوص القانونية، ولكن المسألة تحتاج إلى وسط أعم من ذلك ثقافي ومجتمعي.

لذلك فإن جزئيات هذه المسألة تتعلق أولاً بالإسلاميين أنفسهم فهم معنيون الآن بطرح مفهوم الشريعة، فإما أن يطرحوا مفهوماً يسير قدوة وإما أن يطرحوا مفهومًا يصبح إثماً، فالمسألة فيها خطر كبير وتحتاج إلى جهود كثيرة.

وقد نجد في داخل الإسلاميين –وهم قلة- من ينكرون فكرة التدرج، وذلك عن سوء فهم يتعلق بأن التدرج يعني عودة مرة أخرى للأحكام المنسوخة وهو ما نفاه فضيلة د. محمد كمال الدين إمام. هذا الأمر معناه أننا نحتاج في داخل صفوف الإسلاميين إلى نوع معين من الأفهام حتى نجعل هذا المفهوم مفهومًا مستقرًا.

فالإسلاميون معنيون بهذه المسألة، فمنهم من دخل البرلمان وبالطبع لابد أن يطرحوا رؤى معينة تتعلق بتطبيق الشريعة، وهنا تظهر قضية التشاور فيما بينهم وتظهر قضية التفاعل الصحيح، ويظهر لنا أن القضية أكبر من أفراد تدخل البرلمان، لكنها قضية أمة تحتاج إلى عقول الأمة وإطار مؤسسي واسع لتحقيق هذه المسألة.

الطرف الثاني في قضية تطبيق الشريعة هم الذين يعارضون الشريعة، ونحن في إطار تفعيل تطبيق الشريعة الإسلامية يجب أن نعرف أطروحاتهم، وبعض منهم صرح في الفترة الماضية القريبة أنه لن يترك الإسلاميين ساعةً واحدة في البرلمان يهنؤون بوجودهم فيه، وسيحاصرونهم بالإضرابات والاعتصامات، ويجعلون الهدف في ميدان التحرير، بدلاً من كونهم ضد المجلس العسكري فقط، أن يكونوا أيضاً ضد البرلمان الإسلامي الذي فيه أغلبية إسلامية، وهذا يعني أننا أمام عملية معقدة تحتاج لنظرة معينة للواقع.

الجزء الثالث في عملية إدارة التفعيل هو المجتمع الذي نرى أنه قد إنحاز للإسلاميين بالفعل في الانتخابات، ولكن ليس معنى هذا أن المجتمع بكامل أفراده قد سار على نفس القدر من الوعي والفهم والرغبة الأكيدة في التخلي عن رغباتهم المادية والانتقال إلى الشريعة الإسلامية، مازالت هناك مسافة كبيرة موجودة بين طوائف كثيرة متعددة. وكما ذكر المستشار البشري أن هناك مواقع ممانعة موجودة يجب أن توضع في الاعتبار مثل الإعلام والجامعات والأدب والفن، وهذه المواقع تحتاج إلى إستراتيجية في التعامل معها لكل اتجاه على حدة.

أيضاً الوسط المحلي والإقليمي والدولي وهو وسط ليس كله داعماً لفكرة تطبيق الشريعة، بل هو يريد التحرك في إطار استراتيجية إفشال الإسلاميين وإدخالهم في حالة معينة يُدفعون فيها إلى الفشل في ظل واقع اقتصادي متدهور وقوى اجتماعية متصارعة في داخل مصر بعد الثورة وفي ظل أهداف ومصلحة أمريكية وإسرائيلية تتقاطع مع مصالح الإسلاميين، وفي ظل الخوف من تكوّن جمهوريات إسلامية في شمال أفريقيا يمكن أن يكون خطراً على أوروبا، وبالتالي نحن أمام واقع معقد يحتاج أن نضعه في الاعتبار في هذه المسألة.

ومن ثم أسمح لنفسي أن أتقدم لحضراتكم ببعض المبادئ في قضية إدارة تفعيل تطبيق الشريعة:

المبدأ الأول: التنبه إلى الواقع، وهذه قضية طرحها أ.د محمد عمارة.

ثانيًا: ضبط مفهوم الشريعة المراد تطبيقه، ومفهوم الشريعة لا ينبغي أن يقتصر فقط على الطرف القانوني ويجب أن يتسع ليشمل الطرف الأخلاقي، وبالتالي تتسع معالجتنا لقضية تطبيق الشريعة لما هو أبعد مما يحدث في البرلمان من تقرير أو تحديد بعض القوانين التي يمكن أن نتفق أو نختلف عليها. وطرح مفهوم الشريعة يجب أن يكون باتساع، وأيضاً يجب في تقديري أن نوضح أن الشريعة قد قررت أدوات متنوعة في التعامل مع الواقع، وربما حتى في الحالة الواحدة والواقع الواحد، هذه الأدوات نغفل عنها كإسلاميين نتيجة لعدم الإلمام الكبير أو الواسع بالشريعة والفقه. فالشريعة جعلت في إدارة التعامل مع الواقع بدائل كثيرة منها الصبر ومنها العزلة والهجرة والدعوة والحوار بالتي هى أحسن، ومنها الجهاد في سبيل الله إلى آخر الأمور، وهذا تنوع في الأدوات، وكل منها جائز ومشروع وله سنده.

عندما ننظر إلى هذه الثروة الكبيرة من الصياغات الشرعية التي أتاحتها الشريعة ليتعامل بها أبناء الأمة الإسلامية مع الواقع، فهذا يعطيهم إحساسًا بالحركة في إطار واسع من الفضاء الشرعي وهم غير مخالفين له. فيكون قلبهم مطمئنًا لأنهم لم يخرجوا على إطار شريعتهم التي دافعوا عنها طوال حياتهم.

أيضاً على مستوى الأحكام الجزئية الشرعية فقد أتت بأكثر من خيار في التعامل مع هذه القضية، وإن كان هناك تفصيل معين يجب أن يوضع في الاعتبار في حالات مثل حالة الذمي الذي ينقض العهد هل العقوبة تشمل كل الذميين أم من نقض العهد فقط؟، كما يقول الإمام ابن القيم في هذا الأمر بالتفصيل. فالتركيز على مثل هذه الجوانب داخل الشريعة والاختيار فيما بينها بما هو ملائم للواقع، لأنه كما قال أ.د. محمد عمارة أن الواقع هو الذي يبحث له عن حكم، وهذا ما قاله الإمام ابن تيمية في قاعدته الشهيرة أن تنـزيل الأحكام يتطلب أولاً رؤية للواقع ثم البحث في كتاب الله وسنة رسوله r عن الحكم الذي يلائم هذا الواقع وهذه مهمة المجتهدين.

النقطة الثالثة: بعد التنبه بالواقع وضبط مفهوم الشريعة، هناك النقطة المتعلقة بإعادة الاعتبار لمفهوم الاستطاعة، فمفهوم الاستطاعة هو مفهوم قد غفلت عنه الأمة في تجاربها السابقة، فقد غفل عنه جمال عبد الناصر – وهو خارج الحركة الإسلامية- عندما غفل عن استطاعة مصر على مواجهة الوضع الدولي والإقليمي فدخلت في مغامرات عسكرية، أيضاً غفل عن هذا الأمر صدام حسين، ويغفل عنه الإسلاميون في معاركهم المختلفة مع السلطة هنا وهناك.

النقطة التالية، هو البحث عن المناطق المشتركة التي تطبقها الشريعة بينها وبين الآخرين من التيارات الغير إسلامية، قد نجد أمورًا مشتركة تقررها الشريعة وهم أيضاً وفق مرجعياتهم يقبلونها فإذا ما أخذناها وطرحناها ستجد قبولاً من طرفهم ويكون تطبيقا لأمر هو قائم وموجود لدينا.

أيضاً من الأمور المطلوبة فقه الأولويات حيث نحتاج إلى وضع خريطة أولويات، وهذا معنِيّ به من سيديرون معركة الشريعة وتطبيق الشريعة داخل وخارج البرلمان.

أخيراً العمل المؤسسي والتشاوري في هذه المسألة مهم جداً، وأحسب أن الأمر لا يحتمل التأخير في وجود عمل مؤسسي وتشاوري يمثل خدمةً حقيقية لأولئك الذين يتصدون لهذه المهمة، وقد تشغلهم الأعمال التنفيذية والواقعية عن النظر الدقيق إلى ذلك وشكراً.

أ. د. محمد كمال الدين إمام:

بسم الله الرحمن الرحيم، قد طُرحت موضوعات متعددة حول مفهوم التدرج، وبدايةً أود طرح سؤال مهم هو: أين نُسكِّن موضوع التدرج في خريطة المفاهيم الإسلامية؟، هل هو في العقيدة أم الشريعة؟. طبعاً واضح تماماً أن العقيدة لا تعرف التدرج، فالعقيدة في حد ذاتها لا تتجزأ، لذلك فأمر تدرجها غير مطروح.

وبالتالي نحن نتحدث عن التقسيم الدقيق عند فقهاء الإسلام الذين يفصلون ما بين أصول الدين وبين القرآن، ففروع الدين متعددة فمنها أصول الفقه والنصوص المتعلقة بالتطبيق العملي للأحكام، وأيضا من فروع الدين الأحكام الظنية، فكل هذه المجموعات ليس التعامل معها تعاملاً على مستوى واحد.

فحينما يدور الحوار حول التدرج فهو لا يقصد الحوار حول تدرج في نـزول الأحكام الشرعية، فهذا أمر عقدي قديم وأبلغه رسول الله r واكتمل، والقرآن حينما يفرض على الإنسان إيمانه لا يفرض عليه إيمانه من القرآن الكريم فحسب، إنما يفرض عليه إيمانه بمُسلمة إيمانية وهي أن الله سبحانه وتعالى يأمر بالإيمان به وكتبه ورسله واليوم الآخر، ونحن لا نعلم عدد الرسل ولا عدد الكتب ولا نعلم تفاصيل ما جاء في هذه الكتب. ومع ذلك فهذه مُسلمة إيمانية تدخل في مجال العقيدة ولا تتحرك في مجال الشريعة.

من هذا المنطلق فكرة التدرج ليست متعلقة بالخطاب القرآني، ومن هنا تأتي الإجابة على السؤال الذي طرحه الأخ العزيز، لأن القول بالحِل والحرمة هذا قول متعلق بالقرآن، وبالتالي الحرام سيظل حراماً إلى يوم القيامة والحلال سيظل حلالاً إلى يوم القيامة، ولا تملك سلطة إنسانية أن تتدخل في حكم الله.

فالقضية هنا لا تتعلق بالحلال والحرام، فأنت طوال الوقت في خطابك التعليمي والمدرسي والإعلامي تقول أن الربا والسرقة حرام، لأن هذه معاصي محددة يعلمها الناس تماماً، لأنه كما قال المستشار البشري جزء من ثقافتهم، فهم يعرفون الإسلام باعتباره حلالاً وحرامًا. وهذه الثقافة لم تستطع الحكومات والسلطات المتتابعة أن تفصلها عن الأمة وإن عزلتها عن بعض قواعد شريعتها في مجالات متعددة.

وبالتالي نحن لا نتحدث عن التدرج في نـزول الخطاب القرآني ولا عن التدرج في داخل القرآن ذاته، إنما نتحدث عن أن التدرج هنا، كما أشار أ.د. محمد عمارة، سنة كونية، يجب أن تؤخذ في الاعتبار في تطبيق الشريعة على الواقع، وتطبيق الشريعة ليست مسألة مطلقة بل إن تطبيق الشريعة مسألة زمنية. ومن هنا أصبحت علوم الفقه الإسلامي جزءًا من عملية تطبيق الشريعة، لكن الفقه الإسلامي لم يكن شريعة يوماً ما، لأن الشريعة هى الخطاب الملزم من الله سبحانه وتعالى على مستوى الفرد. أما الفقه الإسلامي فهو يكتسب مشروعيته بقدر قربه من مصادر الإسلام، ولكن فيه الخطأ والصواب كفقه، وأيضاً كله مشروع فنحن نستطيع أن ننتقل من المذهب المالكي إلى المذهب الشافعي، ومن المذهب الحنفي إلى المذهب الحنبلي. والذين صاغوا قوانين مصر الخاصة بالأحوال الشخصية منذ عشرينيات القرن الماضي تنقلوا مابين المذاهب الإسلامية المختلفة لإيجاد الحلول المتعلقة بالواقع المطروح، مثلاً المذهب الحنفي والآراء الراجحة منه قد تضيق على حل مشكلة في الواقع فيلجأوا إلى المذهب المالكي، كما ذهبوا في مسألة المفقود، وقد ابتكروا حتى في الوصية الواجبة ما سموه حلاً جديداً للمشكلة. هذه العملية تتعلق بتطبيق الشريعة وصياغتها. إن كل الفقه الإسلامي بجميع مسائله ليس تشريعاً بل هو جزء من الشريعة وبالتالي ليس ملزماً، فالتشريع هو الذي يكتسب عنصر الإلزام.

لذلك نحن نفرق بين الشريعة وبين الفقه وبين القانون الوضعي، والقانون الوضعي لا أقصد به القانون المستمد من أوربا، إنما القانون الوضعي هو القانون الذي فيه عنصر الإلزام الذي يحتكم إليه الناس أمام القاضي، هذا هو القانون الوضعي بالمعنى الدقيق حتى عند رجال القانون.

فحينما يتحول النص الموجود في الفقه الحنفي أو المالكي ويتم اختياره من جانب السلطة الشرعية ويكتسب بالإصدار والاختيار عنصر الإلزام سيصبح هنا قانون وضعي ويطبق على الناس في هذا الإطار.

هذا القانون الذي سوف يكون مصدره شريعة إسلامية هو الذي يتم التدرج فيه من خلال الواقع المطروح، والواقع المطروح هو أن هناك فجوة ما بين التطبيق القانوني للشريعة وبين واقع المسلمين في مجالات متعددة.

وهذه هي النقطة التي يدور فيها الحوار: هل التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية أمر مطلوب ومرغوب؟، أم التدرج في الشريعة الإسلامية أمر مرفوض؟

وينبغي أن نبدأ بإعلان ضرورة إصدار الأحكام الشرعية وتطبيقها في تفاصيلها وأجزائها. فالذي يقرأ الفقه الإسلامي على امتداد تاريخه كله يرى أنه من كثرة النوازل والأحكام نحن نسميه الرابط العضوي مابين مشاكل الواقع التي يطرحها وبين النصوص القانونية التي يختارها.

ولم يكن انتقال القاضي الحنفي من الراجح إلى المرجوح، وهو يعلم أن الراحج راجحه يقوى بقوة دليله وأن المرجوح ترجحه مصلحة أو واقع، لم يكن هذا الانتقال إلا محاولة للتدرج في تطبيق الحكم على المستوى الفردي والجزئي. وعندما يحيل إلى قاضي آخر من قاضي حنفي إلى قاضي شافعي ليست هذه الحالة إلا آلية يعتمدها الفقه للوصول إلى حل ملائم للقضية المطروحة. الواقع دائماً يصنع نفسه وبالتالي حينما نريد أن ننـزل عليه الأحكام الشرعية لابد أن نعرفه كواقع.

إن قضية التدرج لا صلة لها بالخطاب الشرعي وإنما لها صلة بالواقع التي تنـزل عليه الأحكام الشرعية، والواقع التي تنـزل عليه الأحكام يجب أن يكون موصَّفاً توصيفاً دقيقا.ً

هناك في الفكر القانوني ما يسمى الخطاب التجريدي النظري والخطاب الواقعي الفعلي، ولابد لكي يتم تطبيق الخطاب النظري والخطاب الواقعي أن يحدث تطابق ما بين ما أفرزه الخطاب النصي من شروط وقواعد وضوابط وما هو موجود في الحالة الواقعية سواء على المستوى الفردي أو على مستوى الجماعة.

إذًا حينما يتم هذا التطابق لا يصبح الحكم معزولاً عن الواقع وإنما يكون محل الحكم الواقعي ليس موجوداً في دنيا الناس. وفرق بين أن يغيب المحل وأن يكون النقاش حول النص. لانقاش حول النص في الخطاب الشرعي، إنما النقاش هل محل النص موجود في الواقع أو غير موجود على المستوى الجزئي والكلي، لأن القضية قضية بالغة الدقة فهي أولاً تقوم على اختيار الأحكام الشرعية التي ينبغي تطبيقها، ثم منهجية تنفيذها على واقع الناس.

بالنسبة للثقافة اليومية للناس في المدارس والإعلام هذا أمر مطلوب وينبغي أن نسير فيه فوراً، وليست هناك مشكلة لأن الساحة بها كثير ممن يتكلم عن الإسلام وعن غير الإسلام.

وما أقصده هو أننا حين ننتقل من مرحلة الخطاب النصي إلى مرحلة القانون الوضعي ينبغي أن يتم التقاضي بالتراضي، والتراضي هنا ليس تراضي الأمة فقط وإنما المواءمة بين الواقع وما يراد تطبيقه. هذه مهمة شديدة الصعوبة تقع على عاتق المشرع وبالتالي قد تحتاج إلى النظر في تجارب سابقة وقد تحتاج إلى النظر في تاريخ التشريع وقد تحتاج إلى النظر في مشروعات القوانين التي صدرت لتطبيق الشريعة الإسلامية.

علينا أن نفصل بين ثقافة هذه الأمة التي قد صنعت على عين الإسلام في مراحل كثيرة وبين محاولات الكثيرين أن يفصلوها عن الإسلام، وقد نجحوا في بعض المجالات وفشلوا في مجالات أخرى كثيرة، وللأسف نجحوا مع النخبة وفشلوا مع الأمة لأن إخراج الأمة من عقيدتها مسألة ليست بالهينة.

اللحظة الراهنة هي لحظة فارقة في تاريخ الأمة، والنظر فيها للشريعة الإسلامية على أنها شعار انتخابي وعلى أنها مطالب جماعة أمر بالغ الخطورة، وإنما أتصور أن الشريعة الإسلامية أؤتمن عليها وعلى تطبيقها المجتمع ككل.

وبالتالي ينبغي أن ينظر إلى هذه الغايات الأساسية في تطبيق الشريعة الإسلامية حينما يراد تحريكها في الواقع القانوني. وأرجو أن يظل تحريكها في الواقع القانوني – مهما كانت المطالب الجماهيرية والمطالب المتعلقة بالأحزاب – يجب أن يظل مسألة علمية بحتة، ولا أقصد بذلك ألا يشارك فيها إلا العلماء، على العكس هذه المسألة هي المسألة الوحيدة من مسائل الإسلام التي تستدعي كل عقول الأمة، بمعنى أن يشارك فيها الإعلامي والسياسي والاقتصادي والمرأة والرجل، لأنها قضية تهم الأمة ككل.

وهنا تصبح عملية التدرج ليست فقط نوعاً من الآلية في تطبيق الشريعة، لأن القول بأنها آلية يضعف من أهميتها، وإنما هي منهجية لتطبيق الشريعة الإسلامية بمعنى أنها منهج في كيفية استعادة العافية التشريعية لأمتنا بأن تصبح الأحكام الشرعية ككل هي التي يحكم إليها.

لقد أشار المستشار/ البشري إلى نقطة بالغة الأهمية وربما تكون هي النقطة المفصلية التي ليس أمامنا طريق غيرها، وهى أن نستعيد مرجعية ما وصلت إليه الأمة بالحرص على مصالحها. فالقانون صعب جداً أن تستدعيه من الخارج و أي قانون تأتي به من الخارج لابد أن تقوم بتجنيسه، ولابد أن تقوم بإدخاله في دائرة الأمة لأنه لا يمكن أن يستقر ويستمر إذا كان بعيداً عن هذه الأمة وثقافتها.

وبالتالي نحن ننظر إلى ما حدث في القوانين المصرية على أنه خبرة بشرية، هذه الخبرة البشرية يمكن أن تكون لها مرجعيتها الإسلامية، وهذه المرجعية الإسلامية ليست بالمعنى الذي يقال أنها تأسلمه، بل هي تجعله جزءًا من حقيقتها لأن تحقيق مصالح الناس جزء أساسي من غايات الشريعة وأهدافها. فحينما يصبح هذا النص القادم من الغرب هو الذي يحل مشكلتي فأنا لا أنظر إليه أنه يحل مشكلتي باعتباره مستورداً حيث أنه يوجد فرق بين استيراد الفكرة (الايديولوجية) واستيراد الخبرة البشرية، فالخبرة البشرية عملية مشاعة بين الناس جميعاً لأن العقل أعدل الأشياء قسمة بين البشر كما يقولون.

وبالتالي حينما أقوم بعملية إرجاع هذه القوانين إلى المرجعية الإسلامية، هذا الإرجاع لا يكون فقط بإسنادها إلى المذهب أو إلى اتجاه من الاتجاهات الإسلامية أو الفقهية وإنما يكون أولاً، فيما أشار إليه أيضاً المستشار/ طارق البشري، في إعادة تفسيرها من خلال منطق القواعد الإسلامية، وربما يعيننا على ذلك أننا العائلة القانونية الوحيدة -في عائلات العالم- التي لديها منطق للتفسير. وقد استخدمت كل العائلات القانونية في العالم هذا المنطق من المسلمين، حتى الذين يفسرون الكتب المقدسة يستخدمون علم أصول الفقه وهو علم إسلامي في فهم النصوص وتفسيرها.

هذا العلم باستخدامه وتطوير آلياته والوصول به إلى الربط مابين الحد الجزئي والمصدر الكلي هو الذي في نهاية المطاف يجعل جميع الحلول الإنسانية، التي تؤدي وظائفها في دنيا المسلمين وتحقق مصالحهم، جزءًا من القانون الوضعي الإسلامي، ولا ينبغي أن نطرحه على أنه جزء من الشريعة حتى لا يحدث التداخل، لأن الشريعة خطابها عام يتجاوز حدود الزمان والمكان. القانون الوضعي متزمت بطبيعته فالحلول التي تصلح لجيلنا قد لا تصلح لجيل آخر والحلول التي تصلح لمصر قد لا تصلح لتونس.

إذًا عملية التدرج تطرح باعتبارها منهجية، لا تقبل أن نتخلى عنها أو نتجاوزها ونحن نحاول أن نستعيد عافيتنا التشريعية في مصر أو غيرها من البلاد الإسلامية. وهى تحتاج إلى أن تتكاتف الجهود مابين المجلس التشريعي بتشكيلته الجديدة والنخب القانونية بتصنيفاتها المختلفة وأيضاً المجتمع الذي في نهاية المطاف لابد أن يتقبل هذه الاختيارات.

لو تسألني باعتباري تلميذًا لأساتذة القانون أقول لك أن هذه العملية لا يمكن أن تستغرق دورة تشريعية ولا مجلسًا تشريعيًا، لأن هذه المسألة من الصناعة الثقيلة حيث تريد أن تعيد إلى هذه الأمة عافيتها التشريعية، فنحن بحاجة إلى أن نقطع مجموعة مراحل وهذه فكرة المراحل التي أشرت إليها.

المراحل ليست متعلقة بالتدرج بل تتعلق بأن الجميع يؤمنون بهذا الكتاب ويؤمنون بالتشريعات وكأنه أمر لابد أن يترجمه المسلم في واقع حياته سواء كان فردًا أو مجتمعًا، ولكن كل مرحلة من هذه المراحل تستوعب ظروفًا وآليات وحقائق قد لا تستوعبها المرحلة الأخرى. إن الشريعة الإسلامية قابلة للتطبيق وهذا جزء من عقيدتنا، أما أن نطبقها كلية فهذا جزء من السياسة الشرعية التي أشار إليها د. كمال حبيب، لأن هناك سياسة شرعية في تطبيق الشريعة الإسلامية.

التغاضي عن نسبة تطبيق الشريعة إلى السياسة الشرعية واسنادها إلى أي فرع آخر من فروع الإسلام، لعلم العقيدة مثلاً أو إلى الشريعة بتفاصيلها التي أتفق عليها المختصون، يُصبح أمراً صعبًا، ولابد أن نسندها إلى علم السياسة الشرعية التي تبين أن سلطة ولي الأمر تستطيع أن تتحرك في مجالات متعددة، وأنت فقط عليك أن تتحقق من شروط ولي الأمر. والتحقق من شروط ولى الأمر يتم من خلال من يقومون بقيادة هذا المجتمع سواء كانوا من النخبة الناجحة في الانتخابات أو من سيأتي رئيسًا قادمًا، فهو الذي ينبغي أن يحاسب نفسه: هل توافرت فيه شرائط ولى الأمر الإسلامي، وذلك قبل أن يسأل هل توافرت في هذا المجتمع شرائط المجتمع الإسلامي؟. فالمسألة مسألة أمانة في النهاية، فنحن من سيقوم بوضع دستور وقوانين تحدد مصير أمة، ولا أظن أن هذا الأمر يترك لفرد أو أفراد أو حزب أو أحزاب، لأن هذه مسئولية الأمة ككل، فتنهض الأمة من خلال قادتها الذين يمثلون جميع التيارات، فحينما تكون المسألة بهذه الأهمية في تغيير المجتمعات ينبغي أن تصبح نقطة البداية أن يحاسب كل إنسان نفسه قبل أن يقدم على إصدار فكرة أو تبني مشروع.

أختم بما قلت أن قضية تطبيق الشريعة أهم وأعمق وأخطر من أن تكون شعاراً انتخابياً أو تعبيرًا عن كتلة من الكتل أو تيارًا من التيارات، فهي قضية أمة في نهاية المطاف ولابد أن تصاغ في ضوء أدوات قادرة على صنع نصوص تشريعية تستطيع أن تتحرك في دنيا الناس لتكون إضافة إلى رصيد التطبيق الإسلامي في الحياة وليست خصماً من هذا الرصيد. وشكراً.

أ. هشام جعفر (مؤسسة مدى للخدمات الإعلامية):

ما المقصود أو ما مفهوم الشريعة؟، وهذا سؤالي الأساسي، وهل مسألة معالجة البطالة ومسألة تنمية الصحة والتعليم، هل هذا يدخل ضمن مفاهيم الشريعة أم لا؟.

أحياناً يغلُب ما يطلق عليه المذهب التشريعي في فهم موضوع الشريعة، وهناك ما يمكن أن نطلق عليه غيابًا للتصور الفلسفي العقدي الذي يمثل رؤية للإنسان والكون والحياة، بالإضافة لغياب المدخل الأخلاقي، وهنا تصبح مسألة أخلاق الفرد وأخلاق المجتمع مسألة مهمة. فهذا سؤال متعلق بالمقصود بتطبيق الشريعة أو المقصود بمفهوم الشريعة؟، وهذا كان سؤالي الأول.

السؤال الثاني هل نحن بصدد استكمال عملية تطبيق الشريعة؟، أم بصدد البدء في عملية تطبيق الشريعة؟.

من المهم فهم مسألة: هل نص المادة الثانية من الدستور هو من المبادئ العامة أم ماذا؟، فهذا مستوى يؤكد على ما يمكن أن نطلق عليه مرجعية الشريعة فيما يتعلق بالدولة.

أما النقطة الثانية، وهى ما أشار إليها المستشار طارق البشري حول المدخل الثقافي الاجتماعي لتطبيق الشريعة، فالشريعة موجودة في المجتمع وموجودة عند الفرد حيث يوجد تطبيقات منها بأشكال مختلفة، وأيضاً موجودة في الدولة أو في النظم بمعنى أكثر اتساعاً. فنحن بصدد استكمال وبالتالي نحن إزاء حالة –كما أشار المستشار طارق البشري- ابتلاء دائم ومستمر.

وكما أفهم أنه لا يمكن التطابق بين النص وبين الواقع في أي حال من الأحوال إلا في عصور الأنبياء والخلفاء الراشدين، وهذه العصور انتهت أو عند قيام القيامة. وبالتالي نحن إزاء عملية تطبيق دائم ومستمر.

يجب علينا أن نقرأ تجارب تطبيق الشريعة المعاصرة، وكلما اقتربنا من التطبيق المجتمعي كلما اقتربنا من مدخل الأمة، وهل هذه الأمة مسئولة عن تطبيق الشريعة أم السلطة؟ أم الاثنين مسؤولان؟. فنجد أننا كلما اقتربنا من الأمة كلما زادت عناصر النجاح ويظهر هذا في التجربة المصرية، وكلما تحكمت السلطة في تطبيق الشريعة كالتجربة السودانية كانت عناصر الفشل أكثر.

يوجد مستوى ثانٍ من مستويات الموضوع أو مستويات التطبيق، التي أشار إليها د. عماد عبد الغفور، وهو مستوى متعلق بالمبدأ وهذا سؤال مهم، ما حدود الخروج عن المشروعية الإسلامية؟، أهو مجرد تسليم بالمبدأ مثل المادة الثانية في الدستور وأن يقول أفراد المجتمع نحن نؤمن بالشريعة؟ هذا مستوى.

المستوى الثاني متعلق بالواقع وهنا نحن بإزاء خطابين، خطاب الدعوة الذي يجب أن يؤكد على الحلال والحرام كما أشار أساتذتنا، والخطاب السياسي المتعلق بالواقع. المشكلة أحياناً هى الخلط بين المستويين، فنجد الخلط بين الخطاب السياسي والخطاب الدعوي، فالخطاب الدعوي لابد أن يتحدث عن الحلال والحرام، أما الخطاب السياسي يراعي كل مقتضيات التدرج كما أشار أ. د. كمال.

أيضاً هناك مستوى من مستويات الموضوع وهو: هل هي مسألة الشريعة أم مسألة الخيارات الفقهية أم أيضاً خيارات سياسية؟. الخيارات الفقهية –كما أفهمها- هى خيارات متعددة ارتبطت بعوامل كثيرة، لكن حينما نتحدث في إطار المجال السياسي نحن إزاء خيارات سياسية ويمكن أن تكون لتلك الخيارات السياسية انحيازات، فما هي العلاقة؟، هل الخيارات الفقهية لها تأثير في الخيارات السياسية؟

أريد الإشارة إلى مسألة التمييز بين الشريعة وبين مسألة الخيارات السياسية، لأننا أحياناً نلبس الخيارات السياسية ثوب الشريعة والفقه.

في إطار مستويات الموضوع، هل المستويات متعددة بإزاء فرد ومجتمع ونظم أو دولة أم يوجد تطابق فيما بينها؟ لو أننا نتكلم عن المدخل الثقافي الاجتماعي فنحن إزاء مجتمع بداخله حركية، وإذا تكلمنا على مستوى دولة ونظم فتوجد منهجيات أخرى أشير إليها كما أشار إليها أ.د.كمال إمام والمستشار البشري حول كيف يمكن بمنهجية معينة أن نسحب مرجعية الشريعة على التشريعات القائمة.

في الثلاث مستويات يجب التمييز بينهم في النظر لمسألة تطبيق الشريعة، لأن ما يسعه الفرد قد لا يسعه المجتمع والعكس صحيح.

د.طارق الزمر (البناء والتنمية):

يمكن أن نتناول هذا الموضوع أيضاً من باب أن التجربة المصرية القادمة – والتي يتواجد الإسلاميون فيها بشكل كبير – تتعرض لما يمكن أن يسمى بالمؤامرة. فوصول الإسلاميين إلى هذه المرحلة سينظر له دولياً على أنه فرصة لإجهاض هذا المشروع لأن إجهاضه سيحقق أمرين: الأول هو إجهاض المشروع الإسلامي، والثاني هو أن إجهاض هذا المشروع مدخل لإجهاض الثورة المصرية، وإجهاض الثورة المصرية مدخل لإجهاض الثورات العربية. هذه النظرة ربما تجعل موضوع التدرج في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية له أولوية كبيرة في هذه المرحلة. ومما قيل عن دور الدولة أو الأمة في تطبيق أحكام الشريعة نجد أن الفقه الإسلامي قد يحمّل الدولة تطبيق أحكام لا يقبل بها المجتمع أو لا تحقق مصالح هذا المجتمع.

والقضية المهمة التي قيلت عن الفصل بين الأحكام وبين الفقه يجب أن تكون واضحة بشكل كبير. ومن يراجع الفقه الإسلامي يجد فرقًا بين الحاكم الذي يترك حكمًا من أحكام الإسلام لا يقدر علي تطبيقه وبين من ينكره، إذا أنكره يكون دخل إلى مجال العقيدة، أما لو تركه لأي سبب من الأسباب الأخرى فهنا مجال الفقه يعد مجالاً واسعاً.

الأمر الآخر هناك قيود كثيرة على القضية الإسلامية يجب وضعها في الاعتبار منها قيود وآليات النظام الدولي في محاصرة الدول الإسلامية، ومن ثم يجب الانتباه إلى طرق لتهيئة المجتمع بشكل كلى وتهيئة الدولة وتنمية قدرتها على الصمود لمواجهة آليات النظام الدولي الذي بالتأكيد سيرفض المشروع السياسي الإسلامي ليس باعتباره مجرد حكم بالشريعة ولكن باعتباره مشروعاً كبيراً فيما بعد.

وهناك قيود داخلية من تخويف كثير من الأقباط من هذا المشروع كبعض الأبواق الإعلامية التي تصر أن هذا المشروع مناهض للحضارة وللإنسانية. هذه قوى يجب أن توضع في الاعتبار.

كذلك أشير إلى أن الشعب المصري حينما اختار الإسلاميين كان الاختيار ليس لأنهم سيحكمون بالشريعة، إنما لثقته أنهم لن يسرقوا أموال الشعب كما سرقها النظام السابق.

ولهذا يجب أن تكون هناك أولويات مفروضة عند الإسلاميين في البرلمان أولها: أولويات وحاجات المجتمع وهذه في تقديري تعد واجبات إسلامية، منها ما هو سياسي وما هو اجتماعي.

أولوية ثانية: تهيئة المجتمع للمعنى الواسع لأحكام الشريعة في مجالات كثيرة جداً. وهنا ستجد أن الشريعة بأحكامها التي نفهمها مرتبطة شعبياً بفترة وجيزة، فمدة 5 سنوات فرصة لطرح الشريعة بمفهومها الصحيح وإغلاق المنافذ التي تشوه الشريعة.

أيضاً لا يجب أن يظهر الإسلاميون على أنهم يريدون هدم الدولة، وإنما يجب أن نسعى للإصلاح التدريجي طويل المدى.

أ. د. محمود عبد الرحمن (أستاذ أصول الفقه – كلية الشريعة والقانون- جامعة الأزهر):

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتقدم بالشكر لمركز الحضارة والأساتذة الأفاضل الذين استفدنا منهم كثيراً وللإخوة والأخوات الحضور، في الحقيقة موضوع التدرج شائك وأذكر قولاً للإمام الغزالي “من أشد أبواب العلم غموضاً ترتيب الخيرات”. فقد يقوم الإنسان أو المجتمع أو الأمة بعمل خير هو فى الحقيقة يأثم عليه لأنه ترك ما هو أولى منه، أو أن هذا الخير ينتج عنه شر، لذلك شائكية الموضوع تظهر في صلتها بأمور عملية، وباعتبار تخصصي في أصول الفقه، وكذلك أن لها صلة بمآلات الأفعال ولها صلة بالواجبات الكفائية والواجبات العينية وبالجهل والإكراه ولها صلة بقضية الاستطاعة وبفقه الممكن. وقضية الإكراه كما تقع على الفرد تقع على الأمة.

هناك اتفاقيات طويلة الأمد بالنسبة للأمة فماذا ستفعل معها؟، وما يقدم وما يؤخر في التطبيق؟. ما هو دائم مستمر وما هو قابل للانقطاع وأن يبدل به غيره؟. قد تعلمت مقولة قديمة أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالإنسان قبل القانون ونحن نريد أن نبدأ بالقانون قبل الإنسان، فكيف نطبق القانون على أفراد لا يتحملون ذلك، فربما ظلمناهم وإن كان القانون نفسه عدلاً، ولكن المشكلة في طريقة التطبيق، لذلك نجد أن الأمم هى التى تعاقَب على الجهل والعجز وليس الأفراد فتأتي العقوبات الإلهية والكونية على الأمم بسبب الجهل والعجز.

بعض النقاط ذات الصلة بموضوعنا “التدرج في التطبيق”: حينما نريد أن نطبق الإسلام الآن وكلنا يعتمد قضية التدرج من حيث التأصيل، ونجد التأصيل في النصوص متواجد في الكتاب والسنة والتاريخ والفطرة، كما قال د. عمارة، بل والخلق نفسه. والذي سيصادم هذا سيصطدم بالسنن الكونية وستصدمه السنن الكونية. والإخفاق في التطبيق الآن لن يقال عنه أن المطبقين أخفقوا في التطبيق، وإنما ستقع اللائمة على المطبَّق نفسه ومَنْ يطبق وسيكون الموضوع شديدًا وتداركه سيكون صعبًا.

إن التطبيق ضرورة ولكن من سيتكلم عن هذه الضرورة؟، وأي أدوات وأسس سيبني عليها هذا الأمر؟، فكل مسألة من المسائل ستخضع لفحص خاص في جانب الاقتصاد وجانب الاجتماع، فمن الذين لهم حق أن يقدموا أو يؤخروا في دينٍ اكتمل وشريعة اكتملت؟!، ومن سيفحص الواقع ويقوم بعمل المواءمة؟، فتلك معادلة صعبة لأنه سيكون هناك خطأ كبير حتى وهو يقوم بتطبيق الشريعة إذا أخر ما حقه التقديم فهذا خطأ قد يكون له آثار شديدة على المجتمع.

من يتقدم في التدرج؟، فيمكن لكل منا أن يتخيل ويتصور هل نقدم حقوق الله على العباد أم العكس؟، وهل إذا قدمنا حق الله ثم جاء فى التدرج حق العبد نكون بذلك أضعنا حق العبد؟

ولذلك أريد أن أضع صفات لأهلية من يتصدى لعملية التدرج ويضع ضوابطها وقواعدها شيئًا فشيء.

ولا تكون هناك أحكام مسبقة في قضية التدرج إلا في حال وجود ثوابت، وبعض الثوابت التي قد ينتج عنها مفسدة كبيرة. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قبل من بعض الأعراب إسلامهم على شرط فاسد.

إذًا سيكون التغيير والتقديم والتأخير صعبًا، ويتطلب وجود مجتهدين ليس بالمعنى الأصولي فقط بل في كل المجالات، فالأمر يحتاج كل التخصصات حتى يكون القرار في كل قضية على بينة.

عند الحديث عن التطبيق يتبادر للذهن ماذا سيطبق الحكام على الأفراد، لكن في مفهومي أن بُعد الأمة أكبر في الشريعة من البُعد الفردي. وكان الظن السائد لدى البعض أن تطبيق الشريعة ما هو إلا سيف مسلط على رقاب المحكومين، إلا أني أرى أنه واجب يعلق في رقاب الحاكمين قبل أن يكون سيفًا على المحكومين.

الأمة سُحِبت بعيداً عن الدين من حيث المفاهيم والتصرفات والمطلوب الآن هو إرجاعها شيئًا فشيء، فإذا كان الهدم يتم بالتدريج فيكون البناء من باب أولى بالتدريج أيضاً.

بالنسبة للعلاقة بين الرضا بالأحكام الشرعية وبين الأحكام والمعاني المتوسطة، فالواجبات ليست على درجة واحدة وهناك المندوبات والمباحات ومنها ما يقرب للمكروه وأخرى ترتقي وتعلو إلى درجة المندوب.

وأنا أقول أن هناك صلة كبيرة جداً بين التدرج وأصوليات في علم أصول الفقه، والمقاصد على رأس الأمر في مراعاة موضوع التدرج.

د.عطية فياض: (كلية الشريعة والقانون- جامعة الأزهر):

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت اعتقد أن الموضوع من حيث تأصيله منتهي من حيث حكمه، لكن لعلي أقول إذا كان الحديث الآن في قضية التدرج ينصرف إلى مدى قدرة المجتمع على قبول الشريعة وتطبيقها على هذا المجتمع، فهل الذين يقومون بالتطبيق عندهم القدرة والكفاءة على تطبيق الشريعة؟، أم هم الذين يحتاجون إلى تدرج؟، في تقديري أن القائمين هم في أمس الحاجة ليتدرجوا في قدرتهم على تطبيق الشريعة. الشريعة ليست -كما يعتقد- أمور فقهية فقط، وإنما أيضاً كما أضاف د. هشام ما يتعلق بالبطالة والتعليم والصحة، فهل القائمون بتطبيق الشريعة قد جهزوا أنفسهم وخططهم وامتلكوا الأدوات الكافية واللازمة لهذه الملفات؟.

أنا في تقديري أن التدرج فضلاً عن أنه سنة كونية وفطرية وشرعية نحن في أمس الحاجة لاعتباره ضرورة من ضرورات التطبيق وإلا أسأل الله السلامة. وبالتالي ندعو أنفسنا أولاً والقائمين على أمر التطبيق أن يقدموا مزيد من الأبحاث والدراسات حول هذا الموضوع حتى تكتمل الصورة لدى الجميع والله أعلم.

د.عماد حسين:

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن في حاجة إلى أن نكون على وعي بنقاط الافتراق عن هؤلاء، بمعنى أنهم سيجهزون حقول ألغام، فمسألة التدرج في قضية الشريعة أو الأخذ بإسلامية الدولة لن يكون على هوى هؤلاء بأي شكل من الأشكال، وكما تفضل المستشار البشري وقال، هؤلاء هواهم وتربيتهم وعقليتهم تربت على خلاف الإسلام، وبالتالي لن يهيئوا الأمر على المنهج الذي تربوا على معاداته وسيهيئون حقول ألغام لهذا الأمر.

نحن يجب أن نكون على معرفة بهذه العقول، بمعنى أننا عندنا بالفعل مسائل تحتاج إلى فحص مثل كيف سنحاسب المسئولين ؟، نحن في فكرنا الإسلامي ليس لدينا شريعة تحاكم ولى الأمر، فكيف سنحاكم ولي الأمر؟، كيف نعزله؟، كيف نسمح بمعارضة في إطار إسلامي ومعارضة في إطار غير إسلامي؟، كيف ستتعامل مع الذي يعارضك خارج الإطار الشرعي؟، كل هذه المسائل أعتقد أننا نحتاج أن نجهز لأرضيتها ويجب أن نناقشها بشكل لا يؤدي للفرقة في الرأي، كما يجب أن نناقش نقاط الاتفاق التي يجب أن تكون عليها أجندات تكونت بين الحركات الإسلامية. وقد تعرضت الحركات الإسلامية إلى المزايدة وهذه المزايدة ستدخلنا في دائرة من النقاش الفقهي لا يتحملها الجميع ولا يتحملها إطار الثورة ولا إطار المجلس، يجب أن يكون هناك اتفاق على أجندة وعلى آليات لعلاج الخلاف في وجهات النظر بالشكل الذي لا يسمح لمثل هذه الأمور أن تسحب المنادين بالتدرج في تطبيق الشريعة في هذه المسألة فليس هناك اختلاف في مسألة التدرج ولكن الخلاف في الأولويات.

هناك أمران: الأمر الأول هو البدء من الأمة، وفي رأيي أن هذا هو الأصح، وكان هناك مشروع للمستشار طارق البشري هو التأصيل الشرعي للنصوص القانونية، وكنت أظنه مشروع الساعة ويجب أن يكون له لجنته التي تعمل فيه منذ الساعة.

الأمر الآخر وهو ما صرح به د.عماد عبد الغفور في الصحف عن فقه البدائل، بمعنى أن في تدرج تطبيق الشريعة لا تكون النصوص القانونية تحلل أو تحرم ولكن تطرح المسائل بالشكل الذي يقود الأمة والمجتمع إلى نموذج إسلامي تدريجياً حتى نسحب البساط ثم نحرِّم الشكل الآخر. واعتقد أن هذه فكرة بها قدر من الذكاء من حزب النور، وكان قد طرح قديماً فكرة متقاربة لها قالها الشيخ حسن البنا (لا تتعرضوا لأكواخ الأفكار الأخرى حتى تبنوا قصر الإسلام العظيم فيترك الناس أكواخهم ويأتوا للقصر)، وهذه الفكرة تعني أن عملية التدرج لا تبدأ بالنصوص القانونية ولكن تبدأ بفكر البدائل، فهي تطرح لأفراد المجتمع بدائل سواء على المستوى الاقتصادي أو الثقافي ثم تسحب الأفراد تدريجياً من الساحات غير الإسلامية إلى ساحات إسلامية ثم يصدر التشريع بعد ذلك وفقاً لما ارتضته الأمة وأظن أن هذا أفضل.

المستشار طارق البشري:

أريد التحدث عن تهيئة الواقع وليس معنى هذا إقناع الناس، المقصود هو تهيئة الواقع الاجتماعي والواقع العملي وواقع العلاقات البشرية، بمعنى أن يوجد مجموعة من الأفراد عند توزيع الميراث على الأبناء حيث يكون فى التوزيع فروق بينهم والاختلاف في التوزيع بين الأبناء ناتج عن تشتت الأسرة، فهل يمكن أن يكون هناك واقع يجمع العائلة من جديد؟، فالتضامن في الأسرة أكبر تضامن اجتماعي. فيمكن من خلال الإسكان وتوزيع الأراضي الموجودة في الصحراء أن نراعي هذه الأسر.

النقطة الثانية قبل أن أمنع الربا أشجع المعاملات الإسلامية والمؤسسات التي تعمل في هذا الشأن، و قبل أن أغلق الباب أمام السياحة الغربية أشجع السياحة الشرقية. فأقوم بتهيئة الواقع العملي والعلاقات العملية الدنيوية إلى الحكم الذي نص عليها، وهذا الشكل يبدو معقولاً وجيداً ويتقبله الناس ولا يحدث تعارضًا.

النقطة الثانية قد عشنا فترات في مصر يوجد فيها ما يسمى العلماني الوطني، فكانت الحركات الوطنية ضد الاستعمار، أما اليوم أصبحت الحركات الوطنية ذات مرجعية إسلامية وأصبحت ظاهرة العلماني الوطني الذي يدافع ويناضل ويضحي بحياته من أجل استقلال بلاده أصبحت مجموعات قليلة جداً وليس لها وجود أو تنظيم شعبي. فاليوم التنظيمات الشعبية القوية إسلامية واستعادنا من جديد ما قبل سنة 1919 واستعادنا موقف مصطفى كامل وجمال الدين الأفغاني فاستعادنا الحركة الوطنية ذات المرجعية الإسلامية.

وقد ثبت بعد ثورة 25 يناير أن القوى التي مع الديمقراطية الآن هي الحركات الإسلامية، وأن غير الإسلاميين مثل الليبراليين والأحرار الدستوريين دائماً ينادون بوقف الدستور أو إلغاء الدستور، فأصبحت الحركة الإسلامية الآن هي التي تحافظ على التطبيق الديمقراطي.

النقطة الثالثة أن الأكثر اتصالا بالجماهير الشعبية هي الحركة الإسلامية وهذا يجعلها أكثر الحركات تهيئاً لمراعاة الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.

تلك العناصر الثلاثة تشكل بعض الأنواع التي تصلح للقيادة العامة للأمة، وللقيادة العامة للأمة التزامات مثل أن أراعي الفرد، كما أن مسئولية القائد أكثر بكثير من مسئولية المقود. فإذا نظرنا للعلاقة بين القائد والمقود فالمقود أكثر حرية في تصرفاته. وشكرا

د.محمد عمارة:

لدى نقطتان، في المصطلح حينما نقول التفريق بين الشريعة والفقه أحياناً تفهم بمعنى الفصل، وهذا يحدث خلافات إنما لو استخدمنا مصطلح التمييز بين الشريعة والفقه يكون أدق.

أ. هشام طرح الخيارات السياسية والخيارات الفقهية فأريد أن أقول أن السياسة من الفقهيات ومن الفروع فهي جزء من الفقه.

أ. د. سيف الدين عبد الفتاح:

هذه الجلسة المهمة التي تتعلق بموضوع مهم وهو التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية أود أن أتكلم فيها عن موضوع يتعلق بما يمكن تسميته خريطة الواقع السياسي وإمكانات تطبيق الشرع، وأنا أرى أن الكلام المهم في هذا الإطار هو أن عملية القدرة على نقل هذا المطلب لأرض الواقع مسألة مهمة جداً. وقد كان للعلمانيين في هذه المسائل أدوار مهمة، هذه الأدوار بشكل من الأشكال سببت قدرًا من الفزع، أيضا الخوف من أن تكون هذه المسألة في شكل ما يمكن تسميته بردود الأفعال ويكون هناك نوع يسمى بجر الشكل والاستدراج لمعركة وهمية والتخلي عن المشاكل الحقيقية التي تتعلق بالناس وتحدث مجادلات واختلافات نظرية: هل نطبق أم لا؟، وهذا الاستدراج لابد وأن يحسب أيضا حسابه في العملية التي تتعلق بالأداء البرلماني، فمتى أتقدم؟، ومتى أحجم؟، ومتى أعبر بخطاب مختلف في البرلمان حول هذا الموضوع؟، وكيف أتحدث عنه وبأي مفردات؟، وكل هذه المسائل مهمة جداً، فالأداء الذي يتعلق بهذا الأمر لابد أن يكون محسوباً لأني أخشى أن تمارس القضية التي تتعلق بتطبيق الشريعة كنوع من الهروب بعد ما نرى حقيقة الواقع والمشكلات الحقيقية و ضخامتها على أرض الواقع، لأن هذا هو الاختيار الحقيقي بالنسبة للقوى الإسلامية هو الاشتباك مع قضايا الواقع التي تتعلق بالناس.

فإذا لم يشاركوا في هذه المشاكل وظلوا يتحدثون عن الشريعة أظن أن هذا سيكون أمرًا صعبًا جداً بالنسبة للناس، فلا أريد أن تكون هذه القضية التي تتعلق بتطبيق الشريعة في إطار ما يمكن تسميته بالخريطة السياسية للبرلمان وأن يكون هذا نوع من إغراء السلطة، بمعنى أني وصلت للسلطة فيحق لي فعل ما أريد. والإغراء الثاني إغراء الأتباع فقد ظللتم تقولوا للناس بتطبيق الشريعة وهذه هى هوية الأمة، فيمكن أن يطالب الأتباع بهذه الأمور فتجعلوها أولوية وتنتهي المسألة بمشكلة.

أنا أرفض هذا النوع من الإغراء، ويجب الفطنة إليه، فالحسابات لابد وأن تكون حسابات تتعلق بأرض الواقع الحقيقية.

لدي سؤال: أين الناس من هذه القضية؟، مسألة تطبيق الشريعة كيف تكون؟، إن كل ما تقومون بعمله في البرلمان يكون تطبيقًا للشريعة، لكن يجب أن يترجم إلى لغة وخطاب جيد يستطيع أن يربط كل ذلك بالشريعة، لأن في الشريعة صلاح الناس، وهذه هي المسألة، ولابد أن لا نحصر الشريعة بل نجعلها هي الحياة ونجعل حياة الناس في الشريعة. يجب أن يتجه الخطاب إلى هذا المفصل المهم، فحينما نتكلم في السياسة أو نهاجم الفساد فنحن في نفس الوقت نطبق الشريعة، فكيف يصل ذلك الخطاب للناس ليعرفوا أن في الشريعة صالحهم ومرادهم؟، فيجب أن يتحول هذا الخطاب ليكون حقيقة على الأرض وداخل البرلمان.

مسألة إعطاء الوقت حقه من الواجب يعني التطبيق، وإعطاء الواجب حقه من الواقع يعني التدرج. فواجب الواقع هو التدرج، فالواقع هنا نقطة ولكنها في داخلها عناصر كثيرة جداً، مثلما قال المستشار البشري أبعاد سياسية وثقافية وقانونية ومجتمعية. فنحن لا نقول أن الشريعة قانون فقط، لكن القانون يمكن أن يصنع حياة الناس، فالقانون له دور في تصنيع حياة الناس وتفضيلات السلوك وفي غرس مجموعة من القيم، الوظيفة الاجتماعية للقانون وظيفة أساسية ويجب أن نعلم أنه يجب أن يكون في روح التشريعات وليس في تشريعات مباشرة، فنحن نريد أن نعالج الواقع الموجود لأنه واقع موبوء فنفكر في كيفية إصلاحه وبذلك نكون قد قمنا بتطبيق الشريعة وهذه قضية أساسية.

الأمر الثاني عن المراحل، فالمرحلة الانتقالية يتنازعها سيناريوهان هما، الانتقال الآمن والانتقال الناجز، ويبدو أن الناس قد نظروا للأمرين على أنهما متعارضان، وأنا أقول أنه لا يوجد بينهما تعارض خاصةً لو أخذنا في الاعتبار عملية التدرج، على أن نربط عملية التدريج بالقواعد التي تحدث عنها د. كمال.

ولا يجب أن نتحدث عن الأولويات، إنها أولويات تقرها الشريعة في إطار الأصول المرجعية والفروع، والواقع أيضًا له أولويات. وتوجد أولويات تتعلق فيما يسمى بمقدمات الواجب. والأدوات أحياناً يكون لها أولوية من أجل تحقيق المقصد، ومن ثم أيضاً فقه للأدوات التي تستطيع أن تطبق بها الشريعة مستقبلاً ثم نضع الأدوات القانونية والثقافية، وأيضاً توجد مقدمات تتعلق بأولوية الوقت، والوقت نفسه له مدخل في تحديد ما يسمى بالأولويات. إذًا الشريعة لها مدخل في تحديد الأولويات، و الواقع والأدوات والوقت.

العنصر المهم الآخر هو حساب كل شيء في إطار ومدخل المآلات، فما نطالب به يجب أن يكون له دراسات جدوى في إطار ما هي الآثار المحتملة التي تنتج عنه، حتى يمكن أن نبني السياسات لنقلل فيها الخسائر ونعظم المنافع.

كل ذلك سيكون رصيدا إضافيا للذين يطالبون بالشريعة و تطبيقها.

أ. مدحت ماهر:

نشكر حضراتكم على هذا اللقاء المهم الذي طرح كثيرًا من الأسئلة ويحتاج لقاءًا آخر، ونتمنى أن يكون لقاءً دوريا حتى نصوغ من هذا اللقاء شيئًا واحدًا، فلدينا كثير من الأشياء المتفق عليها الآن مثل مسألة التدرج واضح أنها محسومة، ومسألة سعة مفهوم الشريعة، ومسألة تعدد النظر في مسألة تطبيق الشريعة. كما أننا قد خرجنا بكثير من الأسئلة التي طرحت مثل: من الذي سيقوم بعملية الاجتهاد؟ ومسألة استيعاب الواقع؟ ومن الذي سيصل بين الأمرين؟ فأتمنى من حضراتكم أن توافقوا على أن يكون هناك لقاء آخر لنضع ورقة خلاصية لرؤيتنا لكيفية – وليس لإشكاليات- مسألة التدرج في تطبيق الشريعة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر