Uncategorized

الدين والفن والعولمة

العدد 122

لدينا مشكلة في صياغة العلاقة بين الدين والفن، بل إن بيننا من ذهب إلى حد الدعوة إلى إغلاق الباب في بحث الموضوع بحجة أنه «لا مجال للتوفيق بين الحقيقة التي هي دين الله، وبين الوهم الذي هو الفن»،

وهناك من قال بأن مدلول كلمة «فن» واسع، يشمل أشياء أكثرها مرفوض إسلاميًّا، كالنحت والرقص ورسم ذوات الأرواح والموسيقى، وأن مجال الفن في الإســلام ضيق، وأوسع مجالاته هو فن «القول»، بما فيه من شعر وفنون نثرية مختلفة، وقد يضاف إليها فنون الزخرفة والخط (د. مأمون جرار – مجلة الأمة القطرية – العدد 62 لعام 1985م).

ليس هذا رأيًا خاصًّا أو شاذًّا، لكن أنصاره ليسوا قلة بين الفقهاء والباحثين المسلمين، ولهم في ذلك أسانيد واستدلالات عدة، بعضها مردود عليه، وأغلبها ينطلق من تصور معين للفن يضعه في مصاف مصادر الفساد والانحلال. لذلك فمن المهم للغاية بالنسبة للذين يدافعون عن الفن أن يحرروا المصطلح، وأن يحددوا على وجه الدقة طبيعة لحدود وضوابط الفن الذي يدافعون عنه.

فن للإماتة وآخر للإحياء:

فالفن كما أفهمه فنان، واحد للإماتة والثاني للإحياء، الأول للفتنة وإثارة الشهوة، والثاني لترقيق الحاشية وترطيب الجوانح أو شحذ الهمّة. ذلك أن الله الذي هدى النجدين وألهم النفس فجورها وتقواها قد ركب في الجمال طبيعة مزدوجة، فيمكن بإدراك الجمال وصنعه أن يهتدي الإنسان ويعبد ويزداد هدى وعبادة. ويمكن أن يضل ويُفتن ويسقط في مهاوي اللذات ومدارج التحلل. وليس خافيًا أن الفن الذي نعنيه من الطراز الذي يحيي ويهدي وليس الذي يميت ويهدم.

نحن نتحدث إذن عن فن يخشى الله ويتقه ويتعبد له، بالتالي فكل ما يتعلق بالمجون والتحلل والتفلت ليس واردًا في السياق الذي نحن بصدده، من ثم فإننا نفهم الفن بحسبانه إبحارًا في ملكوت الله، واستجابة للتوجيه القرآني الداعي إلى التفكر في الأنفس والآفاق، وفي كلام آخر فإن الفن عند المسلم هو نوع من تدبر آيات الله في الكون، وهذا التدبر قد يكون بالتعبير وقد يكون بالتشكيل، وفي الحالتين فإن الفنان يغوص في أعماق الواقع فيتحرى فيه مواضع الجمال أو يستنطقه، وقد يتعامل مع الواقع المحسوس لكنه أيضًا قد يتجاوزه وينفذ إلى ما ورائه، محاولاً السباحة في الآفاق اللانهائية، وهو في تجواله ذاك يتقلب في بديع صنع الله، ويتعلق بأهداب عظمة خلقه، حيث تتجلى تلك العظمة في كل ما تقع عليه عيناه أو يمر على خاطره.

إن المتجول في رياض القرآن يرى بوضوح أنه يريد أن يغرس في عقل كل مؤمن وقلبه الشعور بالجمال المبثوث في جنبات الكون، من فوقه ومن تحته ومن حوله، في السماء والبر والبحر، والنبات والحيوان والإنسان.

في جمال السماء يقرأ المسلم قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ (سورة ق: 6)، ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾ (الحجر: 3).

وفي جمال الأرض ونباتها يقرأ: ﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (سورة ق: 7)، ﴿وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ (النمل: 6).

وفي جمال الحيوان يقرأ قوله تعالى عن الأنعام: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ (النمل: 6)، وفي جمال الإنسان يقرأ: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ (التغابن: 3)، ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾ (الانفطار: 7، 8).

هكذا، فإن المؤمن يلاحظ وهو يقرأ كتاب الله أنه يدفع لأن يرى يد الله المبدعة في كل ما يشاهده في الكون، ويبصر جمال الله في جمال ما خلق وصور، يرى فيه ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (النمل: 11)، ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (السجدة: 2)، وبهذا يحب المؤمن الجمال في كل مظاهر الوجود من حوله؛ لأنه أثر جمال الله جل وعلا، وهو يحب الجمال كذلك، لأن «الجميل» اسم من أسمائه تعالى الحسنى، وصفة من صفاته العلا، وهو يحب الجمال أيضًا لأن ربه يحبه، فهو جميل يحب الجمال.

تحريض لاكتشاف مناحي الجمال:

الفقرات السابقة نقلتها نصًّا من كتاب «ملامح المجتمع المسلم» للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي، الذي خصص فيه فصلاً لمعالجة موضوع «اللهو والفنون»، وهو ما اعتبره «أغمض الموضوعات وأعقدها فيما يتعلق بالمجتمع المسلم»، لماذا؟ أجاب الشيخ: لأنها أمر يتصل بالشعور والوجدان، أكثر مما يتصل بالعقل والفكر، وما كان شأنه كذلك فهو أكثر قبولاً للتطرف والإسراف من ناحية، في مقابله التشدد والتزمت من ناحية أخرى.

النقطة المهمة التي حرص عديد من الباحثين على إبرازها في مناقشتهم للعلاقة بين الدين والفن أن القرآن حرص في مواضع عدة على التنبيه إلى عنصر الحسن والجمال الذي أودعه الله في كل ما خلق، إلى جانب عنصر النفع أو الفائدة فيها، وكأنه يريد أن يثير انتباه المؤمنين إلى أن تعاملهم مع ما حولهم لا ينبغي أن يظل محصورًا في نطاق العلاقة الوظيفية الآلية، وإنما عليهم أن يلتفتوا أيضًا إلى البعد الجمالي في تلك العلاقة، ذلك أن الله سبحانه وتعالى شرع للإنسان إلى جانب «المنفعة» الاستمتاع بالجمال، أو «الزينة»، وهو الذي يجسد الجمال في الخطاب القرآني.

في معرض الامتنان بالإنعام يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ (هو الشق المتعلق بالمنفعة والفائدة)، ثم يقول: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ (النحل: 6)، وفي الإشارة الثانية تنبيه إلى الجانب الجمالي في العلاقة.

في نفس السياق يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾. ذلك أن الركوب يحقق المنفعة المادية وتتحقق العلاقة الوظيفية، أما الزينة فهي متعة جمالية تريح النفس وتبهج العين.

في ذات السياق بنفس السورة، تحدث الله تعالى عن تسخير البحر فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ (النحل: 9)، إذ لم يقصر فائدة البحر على العنصر المادي المتمثل في استخراج ما يؤكل منه، بل ضم إليه الحلية التي تلبس للزينة، فتستمتع بها العين والنفس.

هذا التوجيه القرآني تكرر في أكثر من مجال، مجال النبات والزرع والنخيل والأعناب والزيتون والرمان، متشابهًا منه وغير متشابه، ففي سورة الأنعام يذكر البيان الإلهي الزرع وجنات النخيل والعنب فيقول: ﴿انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام: 9).

في هذا التوجيه يقول سبحانه وتعالى: لا تقفوا عند حد الأكل وإشباع البطون، ولكن تفكروا في الأمر وانظروا كيف جاءت الثمرة ثم أينعت، ولا تنسوا أن ذلك من بديع صنع الله، وآياته التي ينبغي أن يعيها المؤمنون.

والقرآن لا يدعو المؤمنين فقط إلى ملاحظة الجمال والزينة في بديع الخلق، ولكنه يدعوهم أيضًا لأن يتجملوا هم أنفسهم، بل وينكر عليهم عدم الاكتراث بأسباب الزينة، مثل ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 31، 32)، فالآية تبدأ بالحث على التزين لحاجة الوجدان، ثم تستنكر بعد ذلك تحريم زينة الله التي أخرج لعباده، وتحريم الطيبات والرزق، وإذا لاحظت أن البيان اإلهي استخدم مصطلح «زينة الله»، فستجد أن ذلك يرفع في مقام الزينة ويشرفها، ومن ثم يحبب فيها ويجعل تحصيلها قريب إلى الله سبحانه وتعالى، إذا ما خلصت النية بطبيعة الحال.

إنها زينة الله يا سادة:

في كل ذلك فإن القرآن يدعو الخلق كافة إلى تذوق ما في الكون من جمال وإبداع، فضلاً عن دعوتهم إلى الاستمتاع بذلك الجمال، وينكر على دعاة الجهامة والقبح أنهم يحجبون عن الناس ذلك الوجه المشرق في الحياة، الذي هو في حقيقة الأمر «زينة الله» التي أهداها إلى عباده.

هذه الثقافة تنمي عند المسلم حاسة تذوق الجمال والسعي إليه، وتوفر للموهوبين من المسلمين أفقًا واسعًا للإبداع إبحارًا في الملكوت الواسع الحافل ببدائع الخالق في مختلف الآفاق.

لا عجب والأمر كذلك أن نقرأ للأستاذ محمد قطب في كتابه «منهج الفن الإسلامي» قوله: إن الدين يلتقي في حقيقة النفس بالفن، فكلاهما انطلق من عالم الضرورة وكلاهما شوق مجنح لعالم الكمال، وكلاهما ثورة على آلية الحياة.

مثل ذلك قال به الأديب الدكتور نجيب الكيلاني في كتابه «الإسلام والمذاهب الأدبية» حين أفرد فصلاً للدين والفن قال فيه: إن الدين والفن يلتقيان لأن مادة كل منهما الحياة والنفس الإنسانية، ومقومات كل منهما الصدق والأصالة.

إن الإسلام حين دعا إلى تذوق جماليات الحياة لم يكن يسعى فحسب إلى تحقيق التوازن في نفس المؤمن بين احتياجاته المادية وأشواقه الوجدانية والروحية، وإنما كان يتجاوب في الوقت ذاته مع فطرة الإنسان وطبيعته، وهي الطبيعة التي ما كان يمكن كبتها أو تجاهلها، وإلا فقد الإسلام أحد أهم مميزاته، من حيث كونه دين الواقعية والفطرة، الذي هذب نوازع الإنسان ولم يقمعها، أهم من هذا وذاك أن تلك الدعوة اعتبرت سبيلاً إلى تثبيت الإيمان وتأكيد الثقة في قدرة الله، خالق الأكوان ومبدعها، الأمر الذي يجعل من الفن الإحيائي الذي ندافع عنه سبيلاً إلى تعزيز الإيمان بالله وبابًا من أبواب التقرب إليه سبحانه، عبر الإعلاء من شأن نعمه التي أسبغها على الكون.

مع وضوح تلك الخلفية في المنظومة الإسلامية، إلا أن الأمر لم يكن سهلاً على الإطلاق، لأن الجدل حول مكانة الفنون والحل فيها والحرمة أثير بين الفقهاء في الماضي والحاضر، فقد حرم بعض الفقهاء مختلف فنون «السماع» – الغناء والموسيقى بوجه أخص – كما حرموا مختلف فنون التشكيل من رسم ونحت وتصوير، وامتدت الحرمة إلى فنون التمثيل مسرحًا كان أو سينما، وكان لهؤلاء أدلتهم الشرعية التي استندوا إليها، من أحاديث نبوية أو تأويلات لبعض النصوص القرآنية، وفي مقابل هؤلاء تصدى نفر آخر لتلك الآراء وفندوها وأباحوا تلك الفنون بشروط، تقف عند حدود الحلال والحرام، وإذا جاز لنا أن نستخدم مصطلحات زماننا فإن الفقهاء الأولين اعتبروا فنون السماع والتشكيل بابًا للفساد ينتمي إلى «محور الشر» بمعايير منظومة القيم الإسلامية، أما الآخرون فقد وجدوا فيها متعة حلالاً وبابًا للخير ينبغي ألا يغلق.

العبرة بالمقاصد والوظائف:

كتاب «الإسلام والفنون الجميلة» للدكتور محمد عمارة، يعد أحدث مرافعة في النشر العربي عالجت الملف بمختلف جوانبه، والتزمت بموقف الدفاع عن الفنون المعروفة، وفي دفاعه عن فنون السماع مثلاً استعان الدكتور عمارة بآراء واجتهادات ابن حزم الظاهري وابن جرير الطبري والإمام أبو حامد الغزالي، وهم الذين فندوا النصوص التي أدانت فنون السماع وحرمتها، وأثبتوا ضعف أو وضع البعض منها، والالتباس في فهم وتأويل البعض الآخر. استعان الباحث أيضًا بوقائع الخبرة الإسلامية في عصر النبوة، وكيف أن النبـي r أقر فنون السماع كما كانت في زمانه، ونهى عن زجر بعض المغنيات حين هم بذلك رفيقه أبو بكر الصديق، بل وحث على أن تقترن مناسبات الاحتفال بالزفاف بشيء من اللهو، يروح عن الجمع الحاضر ويطربهم ويشيع بينهم البهجة المفترضة في المناسبة.

خلص الدكتور عمارة من مناقشة أدلة تحريم الغناء والموسيقى وردود الذين أباحوا الاثنين إلى أن معيار الحل والحرمة في فنون السماع التي هي بعض من ألوان الجمال الذي خلقه الله هو الوظيفة التي توظف فيها، والمقصد الذي يقصده الناس من ورائه. فإن أسهمت في ترقية السلوك الإنساني والارتقاء بعواطف الناس والترويح البريئ عنهم، وأعان ذلك على تذوق نعم الله في كونه، والكشف عن آيات الجمال في إبداعه، كان خيرًا، وإلا فهي منكر بلا خلاف، ويستشهد في ذلك بقول الإمام الغزالي في الإحياء: .. ومن لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج… ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته الجمال والطيور، بل على جميع البهائم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة.

من الملاحظات المهمة التي سجلها الباحث في هذا الصدد قوله أنه مع وضوح النصوص التي تبيح الغناء، فإن اختلاف الفقهاء في حله وحرمته لا يستند إلى اختلاف في فهم الأدلة والنصوص، وإنما هو ناشئ عن اختلاف مفهوم اللهو والغناء في عصور أولئك الفقهاء، فالذين رأوه عفيفًا ومتساميًا بالنفس ومشيعًا للسرور والبهجة أباحوه، والذين رأوه بابًا للفساد والانحلال حرموه، الأمر الذي يعني أن التحريم لا ينصب على مطلق الغناء، وإنما هو يخص لونًا معينًا منه، لا يختلف أحد على إنكاره ورفضه.

المنطلق الذي حكم الإباحة في فنون السماع، هو ذاته الذي حكم الموقف بالنسبة لجماليات الصور، أعني أن التعامل مع الفن بحد ذاته كان محايدًا، والعبرة في تقدير الحل والحرمة فيه كانت مرتبطة بكيفية توظيف ذلك الفت. انطلاقًا من ذلك المفهوم أشار الدكتور عمارة إلى أن القرآن الكريم لم يتخذ من التصوير للأحياء موقفًا معاديًا بإطلاق وتعميم، بل أناط الأمر بالمقاصد والغايات والنتائج والثمرات، فإذا كانت الصور والتماثيل وسائل للشرك بالله، وسبلاً ينحرف البعض بتعظيمها عن عقيدة التوحيد، كان الرفض لها والتحريم لصنعها هو موقف القرآن، أما إذا كانت لمجرد الزينة والتجمل ولإبراز براعة الإنسان وقدرته وجمال الحياة وبهجتها وتنمية حس التذوق لدى الإنسان، وكذلك إذا كانت لتخليد القيم والمعاني والمآثر الطيبة والجميلة… فإنها عندئذ تصبح من الطيبات المباحة، بل والمقصودة المرغوبة، باعتبارها من نعم الله على الإنسان.

بنفس هذا المنهج تعامل الباحث مع الأحاديث النبوية التي حرمت الصور والتماثيل، وجزم بأن ذلك التحريم مرهون ومشروط بكون هذه الصور والتماثيل مظنة العبادة والإشراك بالله، كما أنها تفصح عن أن تلك الأحاديث كانت تعالج شؤون جماعة بشرية هي قريبة العهد بالشرك والوثنية، وحديثة عهد بالتوحيد الإسلامي، فإن توحيدها لله سبحانه قد خرج بها من هذه الحالة خروج الدواء بالمريض في مرحلة العلة إلى بوابات طريق الشفاء. فهي قد خرجت من الوثنية وعبادة الصور والتماثيل لكنها كانت لاتزال في دور النقاهة، الأمر الذي استدعى تركيز الأحاديث النبوية على النهي عن اتخاذ الصور والتماثيل، سدًّا للذرائع وتقديمًا لدفع المضرة على المصلحة، وهي قواعد تشريعية إسلامية، وذلك كيلا تعود هذه الجماعة إلى مرض الوثنية والشرك من جديد.

مقارعة الأقوياء الممكنة:

إن ممارسة الفن بالصورة التي قدمناها تصبح جزءًا من التدين، فضلاً عن استجابته لفطرة الإنسان المحبة للحسن والجمال، إلا أن الفن في عالمنا المعاصر أصبحت له وظيفة أخرى غير كل الذي سبق أن أشرنا إليه، إذ صار لغة حوار وتواصل أيضًا، وما أعنيه بالحوار والتواصل ليس فقط المقصود به ما يحدث بين الأجيال المختلفة، القديمة والجديدة، لأن الفنون كانت ومازالت أهم حافظ للثقافات والحضارات، وهو ما نشهده في مختلف حضارات المنطقة المصرية والفارسية والهندية والصينية وغيرها، وفي العصر الحديث لا أحد يستطيع أن ينسى كيف خلد بيكاسو الحرب الأسبانية في لوحته الشهيرة «الجارنيكا».

الذي أعنيه أيضًا أن الفنون مازالت هي أفضل سبيل للتواصل بين الحضارات بحكم طبيعتها الإنسانية، التي تتجاوز الواقع في كثير من تجلياتها، وفي ظل ثورة الاتصال الراهنة، أو ما يسمى بالعولمة، التي انفتحت فيها المنافذ بين الجميع حتى اخترقت الحدود وحتى البيوت، فقد ثبت أن القوِي هو الأقدر على فرض نموذجه وثقافته على الضعفاء، وهي حقيقة لا مراء فيها، لكن الفن يظل استثناء منها، ذلك أن النماذج الحضارية والثقافية إذا تفاوتت، فإن الوضع بالنسبة للفنون يختلف، لأن الفن ليس فيه قوي وضعيف، ولكن فيه جيد وردئ، وصادق ومكذوب، إنساني وغير إنساني، من هذه الزاوية فإن فنون الضعفاء تظل قادرة على مقارعة فنون الأقوياء، بجودتها وصدقها وإنسانيتها، وما التفوق الذي أحرزته الأفلام السينمائية الإيرانية على أفلام أنتجتها دول أخرى «عظمى» أقوى وأغنى بكثير، إلا دليل يؤيد ما نقول، ولذلك فإن الفن يتيح لدول العالم الثالث فرصة إثبات وجودها على خرائط العصر، بأكثر مما يتيحه نشاط آخر، سياسي أو اقتصادي أو علمي أو غير ذلك.

ولذلك بوسعنا أن نقول: أنه إذا كانت العولمة علينا في مجالي السياسة والاقتصاد ، فهي لنا في مجال الفنون، هذا إذا طعمنا تلك الفنون بالصدق والإنسانية بطبيعة الحال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر