أبحاث

في التفسير الإسلامي للتاريخ : المسألة الحضارية

العدد 1/2

تزداد “أهمية المسألة الحضارية” في التفسير التاريخي يوما بعد يوم، بحيث أنها تغطي مساحة واسعة في أي مذهب للتفسير مهما

كانت بنيته، وتشكل (القاسم المشترك) بين المذاهب جميعا. وأما في (التفسير الحضاري) لتوينبي فتغدو المسألة سدى مذهبه ولحمته، وتشكل مضامينه وأطره. وما من شك في أن الحصيلة النهائية لدور الجماعة التاريخي تقاس بمدى دورها الحضاري، حماية ونقلا أو ابتكارا وإبداعا. وتختلف -بعد ذلك- المواقف والاتجاهات. فابن خلدون مثلا يرى في التحضر مسألة محتمة تجيء دائما في أعقاب توطن العناصر البدوية في الأمصار، وتجاوزها مرحلة التنقل والرعي.. وهيجل يراها مسألة داينامية شاملة تنبثق عن صراع النقيضين في عالم الأفكار في تسلسل طويل ينتهي إلى مرحلة تجلي المتوحد حين يصل العقل الكلي قمة تعبيره وكامل انطباقه على حضارة العالم ومؤسساته، ومن خلالها، وأما ماركس فإنه يأخذ عن هيجل داينامية الحركة الحضارية المتولدة عن صراع النقائض إلا أنه يقصرها في نطاق المادة ووسائل الإنتاج و(الظروف) التي تعمل فيها ويرى في هذا المثلث القاعدة التحتية التي تنبثق عنها سائر الفعاليات والمنجزات الحضارية الفوقية متأثرة بها، متلونة بلونها، حاملة دماءها، متكونة بخلاياها، حتى لو كانت قيما خلقية وممارسات دينية ومنازع عاطفية وعلاقات جمالية.. أما توينبي المتأثر بسلفه شبنجلر إلى حد كبير، فيراها وليدة مقدرة الجماعة الإنسانية على الاستجابة للتحديات البيئية، الجغرافية والبشرية، المحيطة بها، ويتناسب حجم العطاء الحضاري كما ونوعا تناسبا طرديا مع حجم الاستجابة وأمدائها بمقاييس الكم والنوع كذلك.

ما الذي يقول لنا كتاب الله في هذه المسألة؟ إن كلمة (حضارة) و(تحضر) لم تكن شائعة في استعمالات العربية اللغوية أول مرة، وطيلة القرون التي أعقبت مرحلة الفتوحات الإسلامية، ويكاد ابن خلدون أن يكون أول من نبه إليها واستخدمها في (مقدمته) إلا أن اصطلاحه الأثير الذي كان يستغني به معظم الأحيان عن هذه الكلمة هو (العمران البشري) الذي يقابل (الحضارة البشرية).. ومهما يكن من أمر فإن المصطلح الحضاري، بتصريفاته المختلفة، قد فرض نفسه في القرن الأخير، لا سيما بعد الاحتكاك الثقافي الشامل بين الشرق والغرب وتقدم الأخير في حقول التفسير التاريخي والدراسات الحضارية.. وبدلا من هذا فإننا سنلتقي من خلال القرآن الكريم بصيغ ومفردات عديدة أخرى تعتمد للتعبير عن المسألة الحضارية لأن القرآن ما جاء إلا لكي يخاطب العرب بلغتهم (الراهنة) ومن خلال مفرداتهم الشائعة.

نستطيع أن نلمس البدايات الأولى للمسألة بالرجوع إلى حادثة (خلق آدم) باعتبارها حجز الزاوية في الوجود البشري… ولكن ليس من حقنا أن نتساءل أنه ما دامت الحضارة فعلا وإبداعا ومجابهة لكتلة العالم والطبيعة، واستجابة للتحديات الدائمة وتهيئة وإعمارا وتمهيدا وتطورا. وما دامت الواقعية التاريخية عموما تجيء بأمر الله الذي لا راد لأمره وبإرادته التي تعلو على الإرادات، فهل لنا أن نرجع بالمسألة إلى ما وراء خلق آدم، إلى كل العمليات التي أريد بها تهيئة العالم لاستقبال المخلوقات وإحاطة نشاطاته المختلفة بالضمانات؟ بل إلى ما قبل ذلك، إلى اليوم الذي قال فيه الله للسماوات والأرض “ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين” إن آدم عليه السلام، وذريته من بعده، ما داموا حلقة من حلقات الإبداع الإلهي في الكون فإن لنا أن نصل معطياته الحضارية بما هو أشمل وأرحب، وبما يعطيها مساحتها الحقيقية في حركة الكون

دونما إفراط أو تفريط؟.

إن التاريخ الحضاري -في القرآن إذن- يمتد إلى ما قبل آدم. إنه كل فعل إلهي تمتزج فيه إرادة الله وروحه وكلمته بالمادة. فتصوغها كتلا كونية أو نظما طبيعية أو خلائق تحمل بصمات الحياة الأولى من نبات أو حيوان.. أو تخلقها بشرا سويا: ويجيء الإنسان -من ثم- خليفة لله، كما يؤكد القرآن في أكثر من موضع، لإعمار الأرض التي (أنزل) إليها وهو يحمل العدة الكافية لهذا العمل، ويمتلك الشروط الأساسية لمجابهة العالم وتحويله وتغييره وتطويره، سواء بما ركب الله في ذاته من عقل وروح وإرادة وتكييف جسدي فذ، ليس المشي على قدمين، وتحرر اليدين، ومطاوعة الأصابع بأقلها خطورة.. أو بما هيأه الله في الأرض وما حولها من إمكانيات التعامل الحيوي معها والاستمرار في أطرافها، والتحاور الخلاق بينها وبين الإنسان الذي جعل بهذا التمهيد المزدوج لأداء مهمته الحضارية: سيدا للعالمين، وفضل على كثير من خلق الله تفضيلا؟ وما دامت عملية بناء الكون وتهيئة الأرضية الصالحة للحياة على الأرض، قد سبقت خلق آدم بأزمان لا يعلمها إلا الله، وما دامت المقاييس الآدمية تجيء دائما نسبية قاصرة محدودة إزاء خلق الله، فليس لنا أن نطمح للإحاطة الكاملة والتفسير الشامل لقضية (التكوين) هذه، وليس لنا -كذلك- أن نفترض نظريات لا جدوى من ورائها.. إن هذا فوق طاقتنا، وإن أية محاولة في سبيله لا تعدو أن تكون عبثا (ميتا فيزيقا) يذكرنا بما كان يفعل جل الفلاسفة اليونانيين، والإسلاميين المتأثرين بهم والذين أفنوا أعمارهم في هذه السبيل. وهذا لا يعني أبدا التشكيك بالمحاولات العلمية، التجريبية لدراسة الجانب الطبيعي القائم (فعلا) من الكون والسعي للكشف عن قوانين بنيانه المحكم؛ لأن هذا هو الموقف الذي يدعو له القرآن في عشرات الآيات.. إنما القصد هو الجانب الفلسفي التصوري لبدايات الخلق والبحث عن (العلة) و(المعلول) و(متناهي الأول) إلى آخره.. وكل ما يبينه القرآن عن امتداد عملية الخلق هذه في عصورنا التاريخية الراهنة والمقبلة، أن الكون ماضٍ في حركته الداينامية نحو الاتساع الدائم بإرادة الله “والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون”، وأن هذه الهدفية على المستوى الكوني الكلي، وهذه الحركة صوب الاتساع، لا بد أن تنعكس، في التصور الإسلامي، على حركة التاريخ البشري نفسه، ومصير الإنسان نفسه في العالم، قبل أن يجيء اليوم الذي أعلن عنه القرآن مرارا، حيث تطوى السماوات كطي السجل للكتاب، وتكف الحياة والتاريخ البشري عن (الاستمرار) تمهيدا ليوم الحساب، وتبدأ صفحة جديدة في تاريخ الخلق الإلهي الدائم “كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا…”.

إننا حيثما تنقلنا في أرجاء القرآن الفسيحة لمطالعة الآيات والمقاطع الخاصة بخلق الكون وتهيئة الظروف الصالحة للحياة على الأرض. وتمعنا فيها، وجدناها ترتبط ارتباطا عضويا أصيلا بالدور المنتظر الذي بُعث الإنسان لكي يلعبه، وبالعمل والجدوى والنظام والإعمار والغاية التي بعث من أجلها، وهي كلها قواعد أساسية لأي نشاط حضاري فعّال هادف منظم متطور على الأرض: “وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا”.

“إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرض يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون * إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون * هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون”.

“وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا”.

“هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم”.

“الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى…”.

“وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين * بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون * وله ما في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار ولا يفترون”.

“الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون * يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين”.

“هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير”.

“قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم”.

“والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”.

فنحن من خلال هذه الآيات وغيرها كثير إزاء تجربة اختبار وابتلاء. تتطلب منا أفرادا وجماعات، عملا وإبداعا.. ولكن أي عمل وإبداع يتوجبان على الإنسان في الفرصة التي ستنتهي إلى (أجلها المسمى)؟.. إنه ليس ارتجالا كيفيا، ولا مواقف جزئية مفككة، كما أنه ليس فوضى لا يحدها نظام ولا يسلكها هدف..إنما العمل والإبداع اللذين ينبثقان عن تخطيط مرسوم وينطلقان من مواقف كلية شاملة، ويصدران عن نظام مبرمج يهدف إلى غاية داينامية لا حدود لها أبدا تلك هي (عبادة الله)… إن (عبادة الله) وحده بالمفهوم الإبداعي الشامل الذي سنتحدث عنه عما قليل، هي الهدف الذي يتوجب على الإنسان، فردا وجماعة، أن يصعد إليه كافة أوجه نشاطه الحضارية.. وبينما ترسم المذاهب الوضعية –هي الأخرى- أهدافا لحركتها الحضارية، تتميز حينا بالغموض والمثالية كما هو الحال عند هيجل، وتتميز حينا آخر بالتحديات الصارمة والمادية كما هو الحال عند ماركس وانجلز، وتتميز حينا ثالثا بصبغة مسيحية باهتة، غير مبررة عقليا، كما هو الحال عند توينبي.. الأمر الذي قاد الأول –وهو يتحدث عن تجلي المتوحد من خلال (الدولة)- إن يعطينا كافة المبررات الفلسفية لممارسة سياستها العدوانية التي قد تقود ولا ريب إلى الدمار الحضاري والظلم البشري، وقاد الثاني إلى إعلان دكتاتورية الطبقة العاملة كهدف للحركة التاريخية، وتبرير أي أسلوب تعتمده لتحقيق هدفها ما دامت لا تعدو أن تكون منفذة أمينة لمنطق التبدل في وسائل الإنتاج الأمر الذي قادها –ويقودها- إلى تنفيذ المجازر الجماعية تجاه كافة القوى المعارضة والتي لا تنسجم وبداهات التحضر البشري الحر.. وقاد الثالث وهو بصدد حقن الحضارة الغربية المعاصرة بالأمل، إلى عملية ترقيع غير منطقية بين القيم الروحية المسيحية وبين بعض معطيات الديانات العالمية الكبرى كاليهودية والبوذية والإسلام فيما سماه (الديانة الرباعية).. الأمر الذي يتناقض أساسا مع طبيعة التجربة (الدينية) القائمة على التلقي عن المصدر الواحد والتوجه المتوحد صوب هذا المصدر دون سواه، وفق عقيدة تتميز بالوحدة والترابط. ثم ماذا بعد هذه الأهداف التي تؤكد المذاهب الوضعية أنها آتية لا ريب فيها؟ وهي في تأكيدها هذا تقع في التناقض الصريح مع (الداينامية) التي أقرتها كأساس لحركة التاريخ البشري ونمو الحضارات؟ ماذا بعد دكتاتورية الطبقة العاملة وتجلي المتوحد؟ إن التجربة البشرية أوسع دائما، وأغنى وأشمل، من أن تحصرها حدود طبقية تقوم على فرض التشابه الجماعي بالقسر، ومجابهة كل تفرد أو تميز إنساني ولا يعدو مصيرها في نهاية الأمر أن يكون إنشاء مجتمعات لا تزيد في نشاطاتها ومعطياتها عما نشهده في عوالم النحل والنمل من نظم هندسية صارمة دقيقة، وعمل دائب، وإنتاج متزايد.. أو أن تحصر هذه التجربة البشرية الواسعة الغنية المعقدة المتنوعة، الشاملة، دولة عالمية يتجلى فيها المتوحد الهيجلي، ويسوسها عرق ممتاز، مبررة سلفا كل ممارساته العدوانية ونزعاته الشوفينية.

بينما ترسم المذاهب الوضعية أهدافا كهذه تتميز بالغموض أو الطغيان أو التناقض أو الانغلاق، نجد القرآن الكريم يعلن هدفه الواضح المتوحد المفتوح الذي يستقطب حوله كافة الفعاليات والمعطيات: عبادة الله، والتلقي عنه، والتوجه إليه.. ويطلب من القوى المؤمنة أن تتحرك على مدار التاريخ، وفق كل الأساليب الإنسانية الشريفة الممكنة، لتجميع البشرية حول هذا الهدف الكبير (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله)… ولكي تتوحد في ممارساتها ومعطياتها وعلائقها جميعا مع النواميس الكونية الشاملة والنظام الإلهي الملزم في مداه البعيد، والذي ما منح هذا القدر من الحرية للإنسان إلا لكي يعتمدها باختياره، في التساوق مع هذا النظام والاندماج في المجرى العام لخلائق الله جميعا، تمييزا له، بهذه الحرية التي تنبثق عن دوره كخليفة، ومكانته كسيد للعالمين عن سائر خلق الله.. وفرق شاسع على كل المستويات اللذاتية والاجتماعية والحضارية في النتائج المتمخضة عن نشاط يبذله الإنسان وهو متساوق مع نواميس الكون، متناغم مع مسيره ومصيره أو وهو منشق على هذه النواميس متنافر معها بدءا ومصيرا.

والواقع أن الإنسان فردا وجماعة ينسى في معظم الأحيان أن دائرة حريته محدودة فيما يقدمه من أفعال، وما يتخذه من مواقف ويلتزمه من أهداف، وأنه فيما وراء ذلك، محكوم بسنن ونواميس إلهية تفوق طاقاته وقدراته جميعا، وبدونها لا يمضي حق وعدل، ولا يستقيم نظام كوني ولا جمود بشري، ولا تتحقق حكمة الله سبحانه من تسيير الكون والخلائق جميعا وفق طرائق محددة منضبطة تؤدي بهم جميعا إلى الأهداف التي رسمها في أبعادها المتكاملة ومن زواياها المختلفة (ولله يسجد من في السماوات و الأرض طوعا وكرها).

(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق).

(ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة، والملائكة، وهم لا يستكبرون).

(وله ما في السماوات والأرض، وله الدين واصبا، أفغير الله تتقون؟).

(تسبح له السماوات السبع والأرض، ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا).

(ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب..).

(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار).

(أو لم يتفكروا في أنفسهم، ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون).

(الله خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل، له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون).

(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. وما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون).

(وخلق السماوات والأرض بالحق، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون).

(وله من في السماوات والأرض كل له قانتون).

(بل جاءهم بالحق، وأكثرهم للحق كارهون. ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون).

ولو تمعنا قليلا في موقفا عبر الكون لرأينا أننا مجبرون –بالحق والعدل والنواميس، وباعتبارنا جزء من خليقة الله، شئنا أم أبينا- في مساحات واسعة حاسمة من وجودنا، إننا مجبرون على أن نولد ومجبرون على أن نموت.. إننا مجبرون على أن نبعث وأن نحاسب على أعمالنا، وأن نساق إلى جنة أو إلى نار وفق هذا الحساب العادل المحفز.. إننا مجبرون على أن ننتمي إلى هذا الإقليم أو ذاك، وإلى هذه القبيلة أو الأمة تلك، وإلى هذا الجنس أو ذاك، وإلى هذا اللون أو ذاك.. مجبرون كذلك على أن نخضع لمتطلبات حياتنا البيولوجية والحسية، وعلى أن نتقلب وفق تجاربنا النفسية بين الحزن والفرح والغم والانشراح والخوف والطمأنينة، والتمزق والتوحد… وفوق هذا وذلك فإننا مجبرون على حمل ملامحنا الشخصية المتفردة، وسماتنا الخاصة، وبصمات أصابعنا، وبدون هذه الالتزامات الحتمية تتبدد الحياة وتفقد وحدتها وتماسكها ومعناها.. بدون هذا (الجبر) تضيع البشرية، ويحدث التناقض في النواميس، وتختفي قيم الحق والعدل الأزلية.

والمساحة المتبقية لممارسة حريتنا إنما منحت لنا لتمييزنا عن سائر خلق الله وتفضيلنا على العالمين.. إن هذه المساحة تمتد هي الأخرى إلى أمداء واسعة الموقف الذي نتخذه في العالم.. الأعمال والمعطيات التي تقدمها في الحياة و الأهداف التي نتوجه إليها في ممارستنا ونشاطاتنا جميعا… هذه الحرية التي تقف بالإنسان والأمم والشعوب والحضارات على مفترق طريقين. فإما أن تكون مواقفنا وأعمالنا وأهدافنا منسجمة مع نواميس الكون وسنن الحياة، متوافقة معها، مما يترتب عليها إنجاز حضاري أغنى وتوحد بشري أشمل، وسعادة نفسية أكثر عمقا، ومصير في الأرض والسماء أشد توافقا مع مهمة الوجود البشري في الأرض.. وهذا ما سعت الأديان لتحقيقه في العالم وما يسعى الإسلام وسيظل، من أجل تحويل البشرية كلها إليه (كي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله..).

وإما أن تجيء هذه المواقف والأعمال والأهداف منشقة، بالقدر الذي منحت فيه اختيارها بطبيعة الحال، عن نواميس الكون وسنن الحياة، مرتطمة بها الأمر الذي يترتب عليه إنجاز حضاري متفكك، وتمزق بشري شامل، وشقاء نفسي عميق، ومصير سيء في الدنيا والآخرة، ينم عن طبيعة الدور الذي بعث الإنسان إلى العالم لأدائه، ويجيء مكافئا لعصيانه وتمرده ورفضه أداء المهمة، وهذا ما سعت المذاهب الوضعية، وتسعى لتحقيقه في العالم وتحويل البشرية كلها إليه.

ومن ثم فإن القرآن في تفسيره لأدوار الأمم والشعوب والحضارات، إنما يتخذ هذا المقياس الكوني المصيري الحاسم في تحديد مدى توافق التجربة ا%

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر