أبحاث

نظرة عابرة على حقوق الإنسان الأساسية

العدد الافتتاحي

لا يعد تصور حقوق الانسان الأساسية بالنسبة لنا معشر المسلمين أمراً مستحدثاً. ومن المحتمل أن يكون في نظر غيرنا بداية تاريخ هذه الحقوق منذ أن أقرَّت جمعية الأمم المتحدة بميثاق حقوق الانسان أو تكون بدايته من الوثيقة العظمى ( Magna Carta )  التي أكره النبلاء الانكليز الملك جون على اقرارها في عام 1215 الميلادي. ولكننا نحن المسلمين يرجع تصورنا لحقوق الانسان الأساسية إلى قرون متباعدة. وقبل أن القي الأضواء على هذه الحقوق أرى من الواجب تناول تاريخها متوخياً الإيجاز.

ومن أشد الأمور غرابة أن الانسان هو الكائن الوحيد الذي ظل يطالب بالحصول على حقوقه الأساسية من قِبَل الانسان نفسه. أما غيره من المخلوقات التي تعيش على ظهر الأرض فان الفطرة هي التي وضعت لها الحقوق ومنحتها إياها بصورة تلقائية دون أن تبذل لها الكثير أو القليل من الجهد أو تتفكر فيها. فالانسان هو الكائن الوحيد الذي أثير السؤال عن حقوقه في فترات مختلفة وصارت الحاجة ماسة إلى تحديد حقوق له بين آونة وأخرى.

وأغرب من ذلك أنك لن ترى أي نوع من الأنواع في الكون يتعامل مع أفراده المعاملة التي يتعامل بها الانسان مع أبناء جنسه. بل الذي نشاهده أن أي نوع من البهائم لا يتطاول على نوع آخر من البهائم بمجرد دافع الاستلذاذ أو التفرج أو فرض السلطة عليه.

وإذا كان قانون الفطرة أباح لحيوان أن يتعذى بحيوان آخر فان الأول لا يفترس الأخير إلا في حدود التغذي به. ولا تجد في الدنيا حيواناً من الوحوش الضارية يواصل الاعتداء على الحيوانات الأخرى وافتراسها والفتك بها دون أن تدفعه إلى ذلك غائلة الجوع, أو بعد أن يقضي منه وطره في الغذاء. أي أن النوع الحيواني لا يسلك مع أفراده السلوك الذي يسلكه الانسان مع أبناء جنسه. ولعل هذا السلوك ناشئ مما خص الله سبحانه وتعالى بني آدم به من التكريم والفضل والشرف !؟ وثمرة ما أودعه الله من العقل والذكاء وقوة الاختراع !!

إن الأُسود لم تنظّم حتي اليوم جيشاً من الأُسود, والكلب لم يتخذ الكلاب حتى اليوم عبيداً له, والضفدع لم يعمل على كمّ أفواه الضفادع. ولكن الانسان هو المخلوق الوحيد الذي أفاض ولا يزال على أبناء جنسه بوابل من الظلم والعدوان بعد أن جعل نفسه في غنى عن هداية الله, واستخدم ما أوتي من العلم والقوة. ومن اليوم الذي بدأ الانسان حياته على المعمورة لم تزهق جميع الحيوانات من الارواح الانسانية قدر ما أزهقه الانسان في الحرب الكونية الثانية فقط. ويثبت من ذلك أن الانسان لا يعرف حقوق أخيه الانسان, أو لا يعترف بها. وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أعطى الانسان التوجيه الصحيح في هذا الباب, وعلّم الانسان ما لأخيه الانسان عليه من الحقوق على لسان الانبياء والرسل. ومما لاشك فيه أن خالق البشر هو الذي يقدر أن يعيّن الحقوق والواجبات بالعدل والقسط. والخالق فعلاً بيَّن هذه الحقوق بكل ما يلزم من التفصيل.

ويحلو لي في هذا المقام أن ألقي نظرة اجمالية على تاريخ تطور الشعور الانساني عن حقوق الانسان, قبل أن أتحدث اليكم عن ميثاق الاسلام لحقوق الانسان :

1-    ان الوثيقة التي أقر بها الملك جون في انكلترا عام 1215 الميلادي كان قد أقرّ بها بضغط من الامراء والنبلاء الانكليز. وكانت الوثيقة بمثابة الاتفاق بين الملك والأمراء. ولذلك تضمنت في كثير من النواحي مصالح الأمراء. ولم تتطرق إلى حقوق عامة الناس. والذين جاءوا في العصور اللاحقة قرأوا فيها من المعاني ما إذا تنبه اليه واضعوها تأخذهم الحيرة. إذ أن الحقوقيين في القرن السابع عشر استنبطوا من الوثيقة أنها تمنح مواطني انكلترا طائفة من الحقوق الأساسية كحق اثبات الجريمة أمام مجلس القضاء ( Trial by Jory )  وحق الاستئناف ضد الحبس غير القانوني (Right of Habeas Corpus ) وحق المراقبة على صلاحيات فرض الضرائب.

2-    وكان لكتيّب التوم بين (1737 – 1809 م) المسمى ” بالحقوق الانسانية ” (Rights of Man )  تأثيراً انقلابياً في أذهان أهل الغرب. وان هذا الكتيب هو الذي عمّم في الدول الغربية نظرية حقوق الانسان في 1791 م. والمؤلف لم يكن يؤمن بدين سماوي. كما أن العصر الذي ولد فيه كان عصر التمرد على الدين. ولذلك ظنّ عامة الناس أن الأديان السماوية تخلو من حقوق الانسان.

3-    وكذلك يعتبر ” ميثاق حقوق الانسان ” أهم صفحة من تاريخ الثورة الفرنسية. وظهر هذا الميثاق في عام 1789 م. وكان ثمرة الفلسفة الاجتماعية التي سادت في القرن الثامن عشر ونظرية روسو عن العقد الاجتماعي (Declaration of the Rights of Man)  وقرر فيه حاكمية الشعب, والحرية, والمساواة, وحقوق الملكية الفطرية. كما أنه قرر حق التصويت, وحق التشريع, وحق المراقبة الشعبية على صلاحيات فرض الضرائب, وحق اثبات الجريمة أمام القضاء وما إلى ذلك. وقد وضعت الجمعية التأسيسية لفرنسا هذا الميثاق لحقوق الانسان في أيام الثورة الفرنسية بهدف أن يوضع في مقدمة دستور فرنسا – إذا وضع – ويؤخذ محتواه بعين الاعتبار في الدستور.

4-    التعديلات العشر الامريكية تتضمن معظم الحقوق التي تبنتها فلسفة بريطانيا الديمقراطية.

5-    يعتبر ميثاق حقوق الانسان وواجباتها الذي صادقت عليه الولايات المتحدة الامريكية عام 1948 م في مؤتمر باغوتا كذلك ذا أهمية كبيرة.

6-    ثم أن جمعية الأمم المتحدة واصلت اصدار قرارات تؤكد على حفظ الحقوق وأخيراً ظهر الميثاق العالمي لحقوق الانسان على مسرح العالم.

     وفي شهر ديسمبر عام 1946 م أصدرت الجمعية العمومية للأمم المتحدة قراراً أقرت فيه أن الابادة الجماعية, جريمة تخالف القانون الدولي. ثم في شهر ديسمبر عام 1948 م أصدرت الجمعية العمومية للأمم المتحدة قراراً آخر بمقاومة الابادة الجماعية وانزال العقاب على القائمين بها. وهذا القرار طبق في 12 يناير عام 1951 م. والقرار عرّف الابادة الجماعية بانها ارتكاب الأعمال التالية بهدف افناء جماعة من الجماعات القومية أو الجنسية أو الخلقية بكاملها أو بجزء منها, والأعمال هي :

1-    أن يقتل أفراد تلك الجماعة.

2-    أن يلحق بها الضرر الشديد جسدياً أو ذهنياً.

3-    أن تفرض عليها عمداً الظروف التي تؤدي بها إلى الدمار كلياً أو جزئياً.

4-    أن تتخذ الاجراءات الاجبارية لمنع النسل.

5-    أن تنقل اجبارياً ذرّيتها إلى جماعة أخرى.

      ووثيقة حقوق الانسان العالمية التي أقرت في 10 من ديسمبر عام 1948 م سجّل في مقدمتها أن القصد من وراء هذه الوثيقة هو التأكيد على الالتزام بحقوق الانسان الاساسية, وكرامة الفرد وأهميته, والمساواة بين حقوق الرجل والمرأة. كما جُعل من أهداف جمعية الأمم المتحدة توفير التعاون بين الدول للإبقاء على احترام حقوق الانسان, وتوفير الحريات الاساسية لجميع الناس بقطع النظر عن الجنس والنوع واللغة والدين, وكذلك المادة الخامسة والخمسون من ميثاق الامم المتحدة تعلن : أن جمعية الامم المتحدة تنمّي على الصعيد الدولي الحراسة على حقوق الانسان والحريات الاساسية للجميع.

     ومن الجدير بالذكر أنه لم يخالف أي مندوب من مندوبي الامم المختلفة أي جزء من أجزاء الميثاق العالمي. والسر في ذلك أن هذا الميثاق لم يكن إلا مجرد الاعلان للمبادئ العامة. ولم يتضمن فرض أيَّ التزامٍ على أيَّ طرفٍ. أي انه لم يكن اتفاقاً تلتزم به الاطراف الموقعة عليه وعند مخالفتها إياه توّجه اليها المؤاخذه بموجب القانون الدولي. وقيل فيه بوضوح ان هذا الاعلان انما هو هدف مقصود يبزل الجهد للوصول اليه. ومع ذلك صوتت بعض الدول ضده بينما امتنع البعض الآخر عن التصويت.

     ولكم أن تروا بأم أعينكمكيف يجري في العالم تمزيق حقوق الانسان البدائية في ظل هذا الميثاق. بل يحصل ذلك في تلك الدول المتحضرة الكبيرة التي كانت قد اقرت به.

     ويتضح من هذا الإيجاز أن الغرب لا يرجع تاريخ فكرة الحقوق الانسانية عنده إلا إلى ثلاثة قرون مضت. ثم ان هذه الحقوق اليوم مهما تلهج الالسنة باشادتها لا تستند إلى سلطة أو قوة تنفيذية. بل لا تعدو آمالاً معسولة. بينما ميثاق الاسلام لحقوق الانسان الذي وضعه القرآن الكريم والذي أعلن النبي صلى الله عليه وسلم خلاصته في حجة الوداع هو أقدم المواثيق الحقوقية. كما أنه يوجب التقيد به على الامة المحمدية من الناحية العقيدية والخلقية والدينية. ثم ان النبي صلى الله عليه و سلم وخلفاءه الراشدين تركوا لنا أمثلة منقطعة النظير في مجال تطبيقه.

     واليك بإيجاز الحقوق التي أعطاها الاسلام للبشر :

حق حرمة النفس أو حق الحياة :

      القرآن الكريم يشير إلى أول قتل حدث في التاريخ. وهذا الحادث كان أول كارثة أراق فيها الانسان دم أخيه الانسان, ولاول مرة مست الحاجة إلى تعليم الانسان ضرورة احترام النفس الانسانية واشعاره بأن لكل نفس حقاً بالحياة ويقول القرآن بعد أن يشير إلى هذه القصة : ” من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ” (2) والآية الكريمة تعد قتل فرد من أفراد البشر قتلاً للبشرية كلها كما أنها تعتبر احياء نفس واحدة احياء للبشرية كلها. وبكلمة أخرى أن الذي يسعى للأبقاء على نفس واحدة كأنه عمل على الابقاء على البشرية كلها. واعتبر هذا السعي من أكبر الحسنات حيث اعتبر الاتيان بها يعادل إحياء البشرية كلها. ويستثني من هذا المبدأ الشامل حالتين اثنتين :

      أولاهما : ارتكاب شخص قتل شخص آخر فيقتل قصاصاً به.

      ثانيتهما : إذا أفسد أحد في الأرض فيعاقب بعقوبة القتل أو الاعدام. أما عدا هاتين الحالتين فلا يهدر دم الإنسان أبداً(3).

     فمبدأ حفظ النفس البشرية أوضحه الله تعالى في المرحلة الأولى من تاريخ الانسان. ومن الخطأ الفاحش القول بأن الانسان بدأ حياته في الظلمة والضلال. وما انفك يقتل أبناء جنسه إلى أن راودته الفكرة عن عدم الاستحسان لقتل الانسان هذا قول في منتهى الخطأ والخطل. ومنشؤه اساءة الظن بالله تعالى. والقرآن يخبرنا بأن الله تعالى أعطى الانسان هداه في أول هبوطه إلى الأرض. ومنه أن الله علمه ما للانسان على أخيه الانسان من حقوق.

حفظ الضعفاء والمعتوهين :

      والأمر الثاني الذي نعلمه من القرآن الكريم كما نتبينه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم هو أنه لا يجوز أبداً الاعتداء على المرأة والصغير والشيخ الفاني والجريح والمريض في حال من الأحوال. سواء كانوا ينتمون إلى القوم المسلمين أو إلى قوم العدو. إلا إذا كان هؤلاء الأفراد أنفسهم يحاربون المسلمين. وهذا المبدأ من المبادئ العامة التي قررها الاسلام لحفظ الضعفاء من الناس. وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد توجيهات واضحة وتعاليم شاملة. وكان من عادة الخلفاء الراشدين أنهم كانوا إذا بعثوا الجيوش لمحاربة الأعداء يعطونها توجيهات واضحة بمنع الاعتداء على النساء والأطفال والشيوخ الفانين والمرضى والجرحى عند شن الهجوم على العدو.

حق حفظ أعراض النساء :

     وحق آخر من الحقوق الأساسية ذكره لنا القرآن وتناولته السنة هو : أن عرض المرأة محرم في كل الأحوال لا يجوز المساس به. ومن ذلك إذا واجه الجيش الاسلامي مثلاً جماعات النساء أثناء المعركة فلا يجوز حينئذ لأي جندي مسلم أن يمس أعراضهن. كما أن القرآن يجعل البغاء محرماً بتاتاً مع جميع النساء بغض النظر عن كونهن مسلمات أو غير مسلمات, من قومنا أو من قوم عدونا, من الدولة الصديقة أو الدولة المحاربة.

حق العيش :

     ومن المبادئ الأساسية أن الجائع يستحق أن ينال الخبز بأية حال من الأحوال, والعاري يستحق أن ينال اللباس مهما كان الأمر, والجريح والمريض يستحقان أن يوفر لهما الدواء والعلاج بأية حال, بغض النظر عن كون الجائع والعاري والجريح والمريض صديقاً أو عدواً. وهذا المبدأ يعتبر مبدأ عاماً شاملاً يلتزم به الفرد والحكومة ويعامل العدو كذلك نفس المعاملة اتباعاً لهذا المبدأ. فاذا جاءنا فرد من قوم العدو يكون من الواجب علينا أن لا نتركه جائعاً, أو عارياً أو بدون أن نقدم له العلاج والدواء إذا كان مريضاً.

السلوك العادل :

     ومن المبادئ القرآنية الخالدة أن يُعامل كل شخص بما يقتضيه العدل. ويقول الله تعالى في هذا الشأن : ” ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا, اعدلوا هو أقرب للتقوى “. فذكر الله في هذه الآية مبدأ قائلاً بأنه يجب على المسلمين أن يراعوا جانب العدل والقسط مع الانسان فرداً كان أو جماعة في كل الظروف والأوضاع. والاسلام لا يبيح أبداً أن نكون مع الاصدقاء على العدل ثم ننبذ هذا المبدأ وراء ظهورنا مع الأعداء.

التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان :

     وهناك مبدأ آخر قرره الله تعالى بوضوح وهو : أن نتعاون مع كل أحد على البر وأداء الحقوق إلى أهلها, وأن لا نتعاون مع أحد على الإثم والظلم والعدوان حتى أننا لا نتعاون مع أقرب الأقرباء على ما اقترفه من اثم ومنكر. وأن نتعاون مع اعدى الأعداء إذا قام بمعروف. وفي ذلك يقول الله تعالى : تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان.

     وليس المراد من ” البر ” أمراً معروفاً فقط بل تطلق هذه الكلمة باللغة العربية في عدة معاني منها اداء الحقوق إلى أهلها, والتقوى, والنظافة وما إلى ذلك.

حق المساواة :

     وهناك مبدأ آخر انصبّ عليه القرآن تأكيداً وتوثيقاً هو أن جميع الناس سواسية. ولا فضل لأحد على غيره إلا بالأخلاق الصالحة. ويشير القرآن إلى ذلك قائلاً : ” يا أيهــا الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى, وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم ” . والآية تدل على أمرين :

     أولهما : أن جميع الناس متساوون من جهة الأصل ولا مبرر لتقسيم البشرية إلى أقسام عديدة من ناحية النسل والجنس واللون واللسان.

     وثانيهما : ان الله قد خلق الناس شعوباً وقبائل للتعارف والتآلف والاستئناس لا للتناحر والتباغض. وبكلمة أخرى أنه لا فضل لجماعة أو شعب أو قبيلة على غيرها في أن تجعل لنفسها من الحقوق والامتيازات ما تحرم منه غيرها أصلاً أو في معظم الأمور. ان جميع هذه الفروق التي جعلها بين البشر : في الملامح, أو في الألسنة, أو في الألوان مثلاً انها ليست لأجل التفريق بين البشر ولجعلها مبررات للتفاضل والتفاخر. بل انها ليست إلا للتمييز. ولو كان الناس خلقوا متساوين في الصورة واللون لما أمكن التمييز بينهم. ولذلك كان هذا التقسيم أو التفريق شيئاً طبيعياً. ولكن ليس لسلب الناس حقوقهم وليس لاختصاص البعض بالامتيازات والتسهيلات دون البعض. أما العزّة والكرامة والفضيلة فليست إلا بقدر ما يكون عليه الانسان من الحالة الخلقية أو بقدر ما يرقى اليه من الحالة الخلقية. وهذا هو المعنى الذي أوضحه النبي صلى الله عليه وسلم باسلوب آخر في خطبته يوم فتح مكة. قال صلى الله عليه وسلم : لا فضل لعربي على أعجمي ولا عجمي على عربي ولا أحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ولا فضل للأنساب. أي أن الفضيلة تقوم على الأمانة والتقوى. وليس هناك من الناس من خلق من ذهب ومن خلق من تراب, بل كل الناس خلقوا من تراب ولذلك هم متساوون في كونهم بشراً.

حق اجتناب المعصية :

     ومبدأ اسلامي آخر يؤكد على المسلم أن لا يأمر غيره من المسلمين بالمعصية. كما أم المسلم لا يجب عليه بل لا يجوز له أن يطيع غيره فيما فيه معصية. وبموجب قانون الله أن الآمر إذا أمر من دونه بالأعمال غير الشرعية أو بالاعتداء على أحد من الناس فلا يجوز للمأمور أن يطيع آمره في ذلك. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. أي لا يجوز للآمر أن يأمر بالمعصية ولا يجوز للمأمور أن يأتمر بها.

حق رفض إطاعة الظالم :

     ومن المبادئ الجليلة الشأن للاسلام أن الظالم لا حق له في الطاعة. وقد ورد في القرآن الكريم أن الله تعالى لما جعل سيدنا ابراهيم عليه السلام إماماً وقال له : إني جاعلك للناس إماماً. سأله سيدنا ابراهيم عليه السلام هل هذا العهد ( أي عهد الامامة ) يشمل ذرّيتي أيضاً ( ومن ذريتي؟ ) أجاب الله تعالى : لا ينال عهدي الظالمين. ولفظة ” العهد ” في هذه الآية استعملت في نفس المفهوم الذي تستعمل فيه الكلمة الانكليزية ” Letter of Appointment ”  . وصرح الله تعالى في هذه الآية أنه لا يمنح الظالمين سلطات في أن يطالبوا الناس باطاعتهم وانقيادهم. ونفس المعنى يؤكده قول الله عز وجل : ولا تطيعوا أمر المسرفين. وبناء على هذا يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله : ان الظالم لا يستحق إمامة المسلمين. وإذا فرض مثل هذا الرجل نفسه على إمامة المسلمين فلا طاعة له عليهم. وكل ما في الأمر هو احتماله كامام بقدر الضرورة, والضرورة تقدر بقدرها.

حق المشاركة في الشؤون السياسية :

     ومن حقوق الإنسان الأساسية التي قررها الاسلام هو حق مشاركة جميع الناس في الحكم. أي يجب أن تكون الحكومة بمشورة من جميع المسلمين. وقد ورد في القرآن ” ليستخلفنهم في الأرض ” أي أن الله تعالى يمنح المؤمنين الخلافة ووردت في هذه الآية صيغة الجمع حيث قال الله تعالى ” ليستخلفنهم في الأرض ” . أي لا نستخلف بعض الأفراد بل نستخلف الأمة بكاملها. وتنعقد الخلافة بالشورى بين أفراد الأمة. ولسيدنا عمر رضي الله عنه قول صريح في هذا الباب: ليس لأحد حق في أن يتولى أمر المسلمين دون مشورتهم. ان رضوا به يتولى امرهم وان لم يرضوا به فلا. وفي ضوء هذا المبدأ يقيم الاسلام حكومة ديمقراطية شوروية. وان سادت الأمة الاسلامية نظم ملكية متوارثة في مختلف مراحل التاريخ الاسلامي, وفرضت سيطرتها عليها فهذا شئ آخر. أما الاسلام فانه لم يبح لنا هذا النوع من النظم بل نشأت هذه النظم نتيجة لتغافلنا عن أنفسنا وارتكابنا للأخطاء.

 حق الحرية :

     ومبدأ اسلامي آخر يعلن نفسه صارخاً وهو أنه لا يُسلب المرء حريته إلا بالعدل. ويقول سيدنا عمر رضي الله عنه بصراحة : لا يؤسر رجل في الاسلام إلا بحق. ومن هذا المبدأ انبعثت فكرة يقال عنها في المصطلح الحديث ( Judicial Pracess of Law )  أي قبل أن يسلب أحد حريته يوجّه اليه الاتهام, ثم يحاكم أمام القضاء علناً ويعطي له حق الدفاع عن نفسه.ومن أبسط مقتضيات العقل ( Common Sense ) ان لا يتم العدل مع المتهم بدون إتاحة الفرصة له للدفاع عن نفسه. ولا مجال في الاسلام للقبض على أحد والزج به في السجن بدون أن يدافع عن نفسه ويبرئ نفسه من التهمة. وقد أوجب القرآن الكريم تحقيق مقتضيات العدل والنصفة على الحكومة الاسلامية والقضاء الاسلامي.

حق الملكية :

     ومن المبادئ الأساسية القرآنية حفظ حق الملكية الفردية. ويقول الله عز وجل : ” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ” . وإذا درْستَ القرآن والسنة وكتب الفقه تتجلى لك الطرق والأساليب التي تؤكل بها أموال الناس بالباطل. لأن الاسلام لم يترك هذه الطرق والأساليب غامضة. وبموجب هذا المبدأ لا يجوز لرجل أن يأكل أموال غيره بالحرام كما لا يجوز لفرد أو حكومة أن يعتدي على ملكيات الناس بخرق حدود القانون وبتجاوز المصالح التي رعاها الاسلام في باب الملكية الفردية.

احترام الكرامة الانسانية :

     ومن حقوق الانسان الاساسية أن يحافظ على كرامته. وتجد تفصيل ذلك في سورة الحجرات حيث يقول الله تعالى : (1) ” لايسخر قوم من قوم “. (2) ” ولا تنابذوا بالألقاب ” (3) ” ولا يغتب بعضكم بعضاً ” . أي ان جميع الأشكال التي تؤدي إلى المساس بكرامة الناس هي ممنوعة. وقيل في الآيات المتقدمة أنه لا يجوز أن يُتَّخذ شخص حاضراً كان أم غائباً هدفاً للسخرية والاستهزاء ولا يجوز أن تطلق عليه الألقاب التي تنال من كرامته, ولا يجوز أن يقال عنه شئ يشوّه سمعته ويهدر كرامته حال غيابه وبدون مصلحة من المصالح التي أباح الاسلام لأجلها الغيبة بقدر الضرورة. والقانون الاسلامي يمنح لكل شخص حقه في أن يعيش في مأمن من أن يمسه أحد بسوء أو يعتدي عليه أحد باليد أو باللسان.

حق حفظ السرّية :

     وبموجب حقوق الاسلام الأساسية لكل رجل حقه في حفظ سريته (Privacy)  أي حياته العائلية. وورد في هذا الباب تصريح في سورة النور في آية : ” لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا “. وفي سورة الحجرات في آية : ” ولا تجسسوا “. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم النظر في بيوت الناس بدون الاستئذان. وفي الصحيحين عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو أن امرءاً اطلع عليك بغير اذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما عليك من جناح. إذن فالمرء في الاسلام ينال حقاً دستورياً في أن لا يزعجه أحد وهو في داخل بيته, وأن لا يتطلع اليه وأن لا يتدخل في شؤونه الخاصة في داخل بيته. ويجب أن يحافظ على سريته وحريته البيتيه. زد على ذلك أنه لا يجوز لأحد أن ينظر في كتاب غيره فضلاً عن أن يقرأه. فان الاسلام يعطي الانسان حقه في السرية ويمنع بوضوح النظر إلى بيوت الناس وفك رسائلهم المرسلة بالبريد وقراءتها إلا إذا علم من مصدر موثوق به أن شخصاً من الناس يقوم بأعمال تهدد سلامة البلاد وكيانها وتجلب عليها أخطاراً جسيمة بواسطة الرسائل فيجوز فكها بقدر الضرورة وإلا فلا يجوز التجسس على أحوال المسلمين بموجب الشريعة.

حق الاستنكار والاحتجاج :

     ومن حقوق الاسلام الأساسية حق المرء في ابداء استنكاره والجهر باحتجاجه على العدوان الذي جرى عليه. ويقول الله عز وجل : ” لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم “. أي للمظلوم حق أن يرفع صوته مستنكراً عدوان غيره عليه.

حرية التعبير :

     وهناك جانب آخر هو من الأهمية بمكان ويصطلح عليه في العصر الحاضر (freedom of expression)   أي حرية التعبير عما في الضمير. أما القرآن فالقرآن يقول إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس من حق الانسان فقط بل من أهم الواجبات عليه. فبموجب صريح القرآن وبموجب تعاليم السنة السامية يجب على الانسان أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وإذ رأى منكراً ينال رواجاً أو انتشاراً فلا يكتفي بانكاره باللسان فقط بل يلجأ إلى التدابير الحاسمة لقمعه. وانه إذا لم ينكره ولم يتفكر في قمعه يكون آثماً. وواجب على المسلم أن يعمل على ابقاء المجتمع الاسلامي نظيفاً طاهراً. وإذا جاء أحد بكمّ أفواه المسلمين في هذا الباب فهذا ظلم ما بعده ظلم. لأن الذي يحول دون انتشار المعروف ويمنع الناس من القيام به فهو لم يرتكب معصية سلب حقهم الأساس فحسب, بل ارتكب جريمة الحيلولة دون اداء الواجب أيضاً. ولكي يبقى المجتمع الاسلامي على صحة ونظافة كاملتين يجب أن يكون الانسا حراً دائماً في القيام بهذا الحق ( أي حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ). وعدَّد القرآن أسباب انهيار بني اسرائيل وبيَّن أن من هذه الأسباب أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. إن أية أمة إذا نشأت فيها ظروف وأوضاع تؤدي إلى أن يمتنع الناس عن انكار المنكر فلا غرابة أن المنكر يحيط بالأمة بكاملها تدريجياً ويكون في النهاية مثل هذه الأمة كمثل سلَّة الفواكة النيئة التي لابد من طرحها في القاذورات. ثم لا شئ يستطيع أن ينقذ هذه الأمة من عذاب الله الشديد.

حرية الممارسة الدينية :

      أعطى الاسلام الناس مبدأ بلغ من السمو شأواً بعيداً. وهو : ” لا اكراه في الدين ” وبموجب هذا المبدأ أعطى كل الناس حقهم في أن يختاروا أيهما يشاؤون : إيماناً بالله أو كفراً به. وهنا يجدر بنا الإشارة إلى أن هذه الحرية ينالها المرء قبل دخول الاسلام ولكنه إذا دخل الاسلام وصار عضواً في المجتمع الاسلامي فلا حرية له في ارتداده على عقبيه لأن ذلك ينشئ الفساد الكبير ويؤدي بالمجتمع إلى التفكك والانهيار. ولا يستخدم الاسلام العنف ضده إلا عند الضرورة كأن يحارب مع الأعداء, وذلك لحفظ كيان الدولة الاسلامية واستقلالها ووحدتها. أو أن تتخذ الخطوات اللازمة القضائية أو التنفيذية للحفاظ على الادارة الحكومية, وحفظ الأمن العام, وقمع الجرائم واستئصال شأفة الفتن والقلاقل.

حق عدم المساس بالديانات :

     لا يبيح الاسلام أن تتناول الفئات الدينية المختلفة بعضها بعضاً بأسلوب ملؤه السخافة والبذاءة وفحش القول, وأن تنعت فئة دينية زعماء الفئات الدينية الأخرى بنعوت سخيفة. وقد علّمنا القرآن أن نحترم عقائد كل انسان وقادته الدينيين. يقول القرآن : ” ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله “. أي يدعونا إلى تناول الأديان المختلفة والعقائد المختلفة بالبحث القائم على البراهين والحجج ونقدها باسلوب لبق أو ابداء الاختلاف فيها بطريق معقول, هذا مما يشمل حق الانسان في ابداء الرأي. أما تناولها بهدف الايذاء والاهانة والاستخفاف فأمر غير مباح.

حق تكوين الجماعات :

     ويتفرع حق الانسان في تكوين الجماعة من حقه في ابداء الرأي كنتيجة منطقية. ولما قرر القرآن اختلاف الآراء وتضاربها حقيقة فطرية ثابتة في الحياة البشرية, وأبدأ في بيانها وأعاد. فكيف والأمر كذلك يقدر أحد على منع أناس متوحدي الآراء من التماسك والتلاحم. بل من المحتمل أن تحدث مدارس فكرية متنوعة في أمة تؤمن بمبدأ بعينه وتعتنق فكرة بعينها, ولابد من أن الذين ينتمون إلى مدرسة فكرية بعينها أن يحصل بينهم التكاتف والترابط.

     ويؤكد القرآن على اقامة فئة تكون مهمتها الدعوة إلى الخير في قوله تعالى : ” ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ” . ولا بد من أن يحصل الخلاف في التصورات التفصيلية والمدارج العملية للخير والمعروف والمنكر. وبالتالي لابد من أن تتكون بعد ذلك مدارس فكرية عديدة في الأمة مع بقاء الأمة متضامنة متوحدة على المبادئ والغايات. وهذا أمر طبعي. ويتمخض عن ذلك بروز الفئات المختلفة والجماعات المتنوعة. وقد رأينا في تاريخنا الاسلامي كيف أن الخلاف في الرأي رفع رأسه في مدارس الكلام والمنطق مدارس الفقه والتشريع وفي مدارس الأفكار السياسية, ونشأت كنتيجة لهذا الخلاف فئات وجماعات متنوعة. وهنا نتساءل : هل بموجب ميثاق الاسلام لحقوق الانسان يجوز أن يُعطى للذين يتبنون الآراء المختلفة الحرية في تكوين الجماعات ؟ نفس هذا السؤال واجه أول ما واجه سيدنا علياً كرم الله وجهه عندما ظهرت جماعة الخوارج. فقال سيدنا علي كرم الله وجهة للخوارج : ” لن نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولن نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم مع أيدينا ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا ” ( المبسوط للسرخسي : ج10 ص125 ).

المرء برئ من مسؤولية ما فعله غيره :

     ان المرء في الاسلام لا يسأل إلا عن عمله. ولا يؤخذ بناءاً على ما اقترف غيره من الجرائم. ويقول القرآن مؤكداً هذا المبدأ : ” ولا تزر وازرة أخرى “. ولا يبيح الاسلام أن يُعاقب بكر على ما فعله زيد.

لا يتخذ اجراء على شبهة :

     وينال كل انسان في الاسلام حقه في أن لا يتخذ ضده أي اجراء بدون تحقيق. وفي هذا الباب جاء الاسلام بتوجيهه الواضح الذي يؤكد على أنه إذا جاء الخبر عن أحد أنه فعل كذا وكذا يلزم على الجهات المختصة التثبت في الأمر قبل إصدار الحكم. ويقول القرآن : ” إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ” ويقول : ” اجتنبوا كثيراً من الظن “. أي لا تعاملوا الناس على شبهات وتخمينات.

     وموجز القول ان هذه هي الحقوق الأساسية التي اعطاها الاسلام للانسان. وتصورها في غاية من الوضوح. واوتي الانسان هذه الحقوق حين بدأ حياته على الأرض. وأعظم ما في الأمر أن ميثاق حقوق الانسان ( Beclaration of human rights )  الذي أعلنته الأمم المتحده ليس وراءه قوة تنفذه وترعاه. وإنما سُبِك في صيغ خلابة, وعُرِض في مقياس عال ولكنه لا يُلزِمُ شعباً من الشعوب التقيد به. وليس هنا عقد آخر ذو تأثير وفعالية يرغم الشعوب على الالتزام بميثاق الحقوق. أما فيما يتعلق بالمسلمين فانهم ملزمون باتباع ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله. وقد أوضح الله ورسوله حقوق الانسان. وان أية دولة تحول نفسها إلى دولة إسلامية لا مناص لها من أن تمنح رعاياها هذه الحقوق. وينال المسلمون هذه الحقوق, كما تنالهم الامم الاخرى. وفي هذا الباب لا نحتاج إلى اتفاق جديد يلزمنا أن نعطي هذه الحقوق إلى أمة تعطينا إياها. بل المسلمون مطالبون في كل الأحوال بأن يمنحوا الناس هذه الحقوق اصدقاء كانوا أم اعداء.

الهــــــوامش

(1)محاضرة ألقاها الاستاذ المودودي في لقاء عقدة مجموعة من المحامين والقضاة وأصحاب العلم والرأي في ذكرى حقوق الانسان العالمية. وكان يحكم باكستان آنذاك الحاكم العسكري محمد ايوب خان. وقام بالترجمة خليل أحمد الحامدي.

(2)سورة المائدة.

(3)والفسادة في الأرض كذلك يتضمن حالات عديدة تبيح اعدام الانسان بموجب القانون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر